10. : معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير
البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
وَقَوْلُهُ:
"فَاتَّقَوْنِ" أَيْ فخافون.
{ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)}
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ
الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) }
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
أَيِ: ارْتَفَعَ عَمَّا يُشْرِكُونَ. { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا
هُوَ خَصِيمٌ } جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ، { مُبِينٌ }
نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ جَاءَ
بِعَظْمٍ رَمِيمٍ فَقَالَ: أَتَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يحيي هذا بعدما قَدْ
رَمَّ؟ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ
خَلْقَهُ" (يَس-77) ، نَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا (1) .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَفِيهَا بَيَانُ الْقُدْرَةِ وَكَشْفُ
قَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ، مِنْ جَحْدِ نِعَمِ اللَّهِ مَعَ ظُهُورِهَا عَلَيْهِمْ
(2) . قَوْلُهُ تَعَالَى { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا } يَعْنِي الْإِبِلَ
وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يَعْنِي: مِنْ أَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا مَلَابِسَ وَلُحُفًا تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا، {
وَمَنَافِعُ } بِالنَّسْلِ وَالدَّرِّ وَالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَغَيْرِهَا، {
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } يَعْنِي لُحُومَهَا. { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ }
زِينَةٌ، { حِينَ تُرِيحُونَ } أَيْ: حِينَ تَرُدُّونَهَا بِالْعَشِيِّ مِنْ
مَرَاعِيهَا إِلَى مَبَارِكِهَا الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا، { وَحِينَ تَسْرَحُونَ
} أَيْ: تُخْرِجُونَهَا بِالْغَدَاةِ مِنْ مَرَاحِهَا إِلَى مَسَارِحِهَا،
وَقَدَّمَ الرَّوَاحَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُؤْخَذُ مِنْهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ،
وَمَالِكُهَا يَكُونُ أَعْجَبَ بِهَا إِذَا رَاحَتْ. { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ }
أَحْمَالَكُمْ، { إِلَى بَلَدٍ } آخَرَ غَيْرِ بَلَدِكُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ:
الْبَلَدُ مَكَّةُ، { لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ }
أَيْ: بِالْمَشَقَّةِ وَالْجُهْدِ. وَالشِّقُّ: النِّصْفُ أَيْضًا أَيْ: لَمْ
تَكُونُوا بَالِغَيْهِ
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص (322)، القرطبي: 10 / 67، زاد المسير: 4 / 428.
(2) وهذا ما رجحه الطبري حيث قال: " عنى بالإنسان: جميع الناس، أخرج بلفظ
الواحد، وهو في معنى الجميع"، وإليه مال ابن عطية في تفسيره. ويدخل سبب
النزول المذكور في معنى الآية وتبقى هي أعم. انظر: الطبري: 14 / 78، المحرر
الوجيز: 8 / 370.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
إِلَّا
بِنُقْصَانِ قُوَّةِ النَّفْسِ وَذَهَابِ نِصْفِهَا.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ { بِشَقِّ } بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ،
مِثْلُ: رَطْلٍ وَرِطْلٍ.
{ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } بِخَلْقِهِ حَيْثُ جَعَلَ لَهُمْ هَذِهِ
الْمَنَافِعَ.
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (8) }
{ وَالْخَيْلَ } يَعْنِي: وَخَلَقَ الْخَيْلَ، وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ
لَهُ مِنْ لَفْظِهِ كَالْإِبِلِ وَالنِّسَاءِ، { وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } يَعْنِي وَجَعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ مَعَ الْمَنَافِعِ
الَّتِي فِيهَا.
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ حَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَلًّا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذِهِ لِلرُّكُوبِ
[وَإِلَيْهِ ذَهَبَ] (1) الْحَكَمُ، وَمَالُكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ،
وَشُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ،
وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ (2) .
وَمَنْ أَبَاحَهَا قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانَ التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ تَعْرِيفُ اللَّهِ عِبَادَهُ نِعَمَهُ
وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو -هُوَ ابْنُ دِينَارٍ-عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ
الْخَيْلِ". (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُمْ
كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
__________
(1) في "ب": وهو قول.
(2) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص: 5 / 2-4، أحكام القرآن لابن العربي: 3 /
1144-1147، أحكام القرآن للهراس الطبري: 4/170، تفسير القرطبي: 10 / 76-79.
(3) أخرجه البخاري في الصيد والذبائح، باب لحوم الخيل: 9 / 648، ومسلم في الصيد
والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (1941): 3 / 1541. وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 11 / 254.
(4) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل: 5 / 308، والترمذي في
الأطعمة، باب ما جاء في لحوم الخيل: 5 / 505، والنسائي في الصيد والذبائح، باب
الإذن في أكل لحوم الخيل: 7 / 202، وابن ماجه في الذبائح، باب لحوم البغال، برقم
(3191): 2 / 1064، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 2 / 322، والحاكم في المستدرك: 4
/ 235، والإمام أحمد في المسند: 3 / 356، والمصنف في شرح السنة: 11 / 256. وأصل
الحديث في الصحيحين، وانظر: نصب الراية: 4 / 197، تلخيص الحبير: 4 / 150.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
وَنَهَى
عَنْ لُحُومِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ؛ رُوِيَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي
كَرِبَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ
وَالْحَمِيرِ (1) وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
{ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } قِيلَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي
الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا، وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا، مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ
وَلَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنٌ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي: السُّوسَ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودَ فِي الْفَوَاكِهِ.
{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ
شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يَعْنِي: بَيَانُ
طَرِيقِ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ. وَقِيلَ: بَيَانُ الْحَقِّ بالآيات والبراهين
199/أ وَالْقَصْدُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.
{ وَمِنْهَا جَائِرٌ } يَعْنِي: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ
مُعْوَجٌّ، فَالْقَصْدُ مِنَ السَّبِيلِ: دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْجَائِرُ
مِنْهَا: الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَسَائِرُ مِلَلِ الْكُفْرِ.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "قَصْدُ السَّبِيلِ": بَيَانُ
الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
"قَصْدُ السَّبِيلِ" السُّنَّةُ، "وَمِنْهَا جَائِرٌ"
الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ"
(الْأَنْعَامِ-153) .
{ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا"( السَّجْدَةِ-13 ) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ
مِنْهُ شَرَابٌ } تَشْرَبُونَهُ، { وَمِنْهُ شَجَرٌ } أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ
شُرْبُ أَشْجَارِكُمْ، وَحَيَاةُ نَبَاتِكُمْ، { فِيهِ } يَعْنِي: فِي الشَّجَرِ،
{ تُسِيمُونَ } تَرْعَوْنَ مَوَاشِيَكُمْ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل: 5 / 308، وقال: "وهذا
منسوخ، وقد أكل الخيل جماعة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ابن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة،
رضي الله عنهم، وكانت قريش في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تذبحها". قال المنذري: والحديث ضعيف، وانظر أيضا: 5 / 316-317، كما ضعفه
المصنف كما تراه. وأخرجه أيضا: النسائي في الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم
الخيل: 7 / 202، وابن ماجه في الموضع السابق: 2 / 1066، والدارقطني في الصيد
والذبائح: 4 / 287، والإمام أحمد في المسند. ونقل السندي في تعليقه على النسائي
اتفاق العلماء على تضعيف الحديث، وقال بعضهم إنه منسوخ. وانظر: تلخيص الحبير: 4 /
150-151، نصب الراية: 4 / 196.
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) }
{ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ } أَيْ: يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ، يَعْنِي بِالْمَاءِ
الَّذِي أَنْزَلَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " نُنْبِتُ "
بِالنُّونِ. { الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } { وَسَخَّرَ
لَكُمُ } [ذَلَّلَ لَكُمْ] (1) { اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ } مُذَلَّلَاتٌ، { بِأَمْرِهِ } أَيْ: بِإِذْنِهِ،
وَقَرَأَ حَفْصٌ (2) { وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ } بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { وَمَا ذَرَأَ } خَلَقَ، {
لَكُمْ } لِأَجْلِكُمْ، أَيْ: وَسَخَّرَ مَا خَلَقَ لِأَجْلِكُمْ، { فِي الْأَرْضِ
} مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا، { مُخْتَلِفًا }
نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، { أَلْوَانُهُ }
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يَعْتَبِرُونَ. { وَهُوَ
الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } يَعْنِي:
السَّمَكَ، { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } يَعْنِي:
اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ، { وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } جَوَارِيَ.
قَالَ قَتَادَةُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً، وَهُوَ أَنَّكَ تَرَى سَفِينَتَيْنِ
إِحْدَاهُمَا تُقْبِلُ وَالْأُخْرَى تُدَبِرُ، تَجْرِيَانِ بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَوَاخِرَ" أَيْ: مَمْلُوءَةً.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": جعفر.
وَقَالَ
الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: شَوَاقُّ تَشُقُّ الْمَاءَ بِجَنَاحَيْهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تَمْخُرُ السُّفُنَ الرِّيَاحُ.
وَأَصْلُ الْمَخْرِ: الرَّفْعُ وَالشَّقُّ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَرَادَ
أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ فَلْيَسْتَمْخِرِ الرِّيحَ" (1) أَيْ لِيَنْظُرْ مِنْ
أَيْنَ مَجْرَاهَا وَهُبُوبُهَا، فَلْيَسْتَدْبِرْهَا حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ
الْبَوْلُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَوَائِخُ، وَالْمَخْرُ: صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ
عِنْدَ شِدَّتِهَا.
{ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } يَعْنِي: التِّجَارَةَ، { وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ } إِذَا رَأَيْتُمْ صُنْعَ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ.
__________
(1) أخرجه ابن حبان في المجروحين: (3 / 108) بلفظ: "إذا أراد أحدكم الخلاء
فلا يستدبر الريح" وذكره الزمخشري في الفائق: (3 / 350) عن سراقة بن مالك قال
لقومه: إذا أتى أحدكم الغائط فليكرم قبلة الله.. واستمخروا الريح"، وذكره ابن
الأثير في النهاية: (4 / 305) بنحوه، وأشار الزيلعي إليه في نصب الراية: (2 / 103)
وعزاه للطبري في "تهذيب الآثار"، وروى الدارقطني في السنن: 1 / 57 بلفظ
".. ولا يستقبل الريح" وقال: لم يروه غير مبشر بن عبيد، وهو متروك
الحديث. قال ابن الأثير: والمخر في الأصل: الشق، يقال: مخرت السفينة الماء: إذا
شقته بصدرها وجرت. واستمخروا الريح أي: اجعلوا ظهوركم إلى الريح عند البول؛ لأنه
إذا ولاها ظهره أخذت عن يمينه ويساره، فكأنه قد شقها.
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) }
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } أَيْ: [لِئَلَّا
تَمِيدَ بِكُمْ] (1) أَيْ تَتَحَرَّكَ وَتَمِيلَ.
وَالْمَيْدُ: هُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّكَفُّؤُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّوَّارِ
الَّذِي يَعْتَرِي رَاكِبَ الْبَحْرِ: مَيَدٌ.
قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُقِرَّةٍ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِهَا
فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ فَلَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ
خُلِقَتِ الْجِبَالُ.
{ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا } أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا وَطُرُقًا
مُخْتَلِفَةً، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إِلَى مَا تُرِيدُونَ فَلَا
تَضِلُّونَ. { وَعَلَامَاتٍ } يَعْنِي: مَعَالِمَ الطُّرُقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ابْتَدَأَ، { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِالْعَلَامَاتِ
الْجِبَالَ، فَالْجِبَالُ تَكُونُ عَلَامَاتِ النَّهَارِ، وَالنُّجُومُ عَلَامَاتُ
اللَّيْلِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْكُلِّ النُّجُومَ، مِنْهَا مَا يَكُونُ
عَلَامَاتٍ وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ بِالنَّجْمِ، الثُّرَيَّا، وَبَنَاتِ نَعْشٍ،
وَالْفَرْقَدَيْنِ، وَالْجَدْيَ، يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الطُّرُقِ وَالْقِبْلَةِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
وَقَالَ
قَتَادَةُ: إِنَّمَا خَلْقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لِتَكُونَ
زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَمَعَالِمَ لِلطُّرُقِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ
قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ (1)
{ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ
غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (22) }
{ أَفَمَنْ يَخْلُقُ } يَعْنِي: اللَّهَ تَعَالَى، { كَمَنْ لَا يَخْلُقُ }
يَعْنِي الْأَصْنَامَ، { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ } لِتَقْصِيرِكُمْ فِي شُكْرِ
نِعَمِهِ، { رَحِيمٌ } بِكُمْ حَيْثُ وَسَّعَ عَلَيْكُمُ النِّعَمَ، وَلَمْ
يَقْطَعْهَا عَنْكُمْ بِالتَّقْصِيرِ وَالْمَعَاصِي. { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ } يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ "
يَدْعُونَ " بِالْيَاءِ. { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } {
أَمْوَاتٌ } أَيِ: الْأَصْنَامُ { غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ } يَعْنِي:
الْأَصْنَامَ { أَيَّانَ } مَتَى (2) { يُبْعَثُونَ } وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْأَصْنَامَ تُبْعَثُ وَتُجْعَلُ فِيهَا الْحَيَاةُ فَتَتَبَرَّأُ مِنْ
عَابِدِيهَا.
وَقِيلَ: مَا يَدْرِي الْكُفَّارُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ مَتَى يُبْعَثُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ } جَاحِدَةٌ، { وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ }
مُتَعَظِّمُونَ.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقا في بدء الخلق، باب في النجوم: 6 / 295، ووصله الطبري في
التفسير: 14 / 91-92، وأخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعبد بن
حميد، وزاد في آخره: "وإن ناسا جهلة بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم
كهانة: من غرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النجوم
نجم إلا ويولد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والدميم. وما علم هذه
النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر شيء من الغيب". انظر: فتح الباري: 6 / 295،
تفسير ابن كثير: 4 / 397. وراجع حكم التنجيم وتفصيل القول فيه: تفسير القرطبي: 11
/ 1، 19 / 28-29، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 365-370، عالم الغيب والشهادة
تأليف عثمان جمعة ضميريه ص (128-131).
(2) ساقط من "ب".
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ
قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا
سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) }
{ لَا جَرَمَ } حَقًّا { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِيٍّ
الْبَسْطَامِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنُ سَخْتَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ سُفْيَانُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي عِيسَى
الْهِلَالِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا؟ قَالَ:
"إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ
وَغَمْطُ النَّاسِ" (1) . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ الَّذِينَ
اقْتَسَمُوا عِقَابَهَا (2) إذا سأل منهم الْحَاجُّ: { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ
قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمْ . {
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ } ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، { كَامِلَةً } وَإِنَّمَا
ذَكَرَ الْكَمَالَ لِأَنَّ الْبَلَايَا الَّتِي تَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا
يَفْعَلُونَ مِنَ الْحَسَنَاتِ لَا تُكَفِّرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، { يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }
بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، { أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
} يَحْمِلُونَ .
أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ
أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ
دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ
لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم (91): 1 / 93، والمصنف
في شرح السنة: 13 / 165.
(2) جمع عقبة، وانظر فيما سبق، سورة الحجر، الآية (9): ص 369.
(3) أخرجه مسلم في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، برقم (2674): 4 / 2060،
والمصنف في شرح السنة: 1 / 232.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) }
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وَهُوَ نَمْرُودُ
بْنُ كَنْعَانَ، بَنَى الصَّرْحَ بِبَابِلَ لِيَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: كَانَ طُولُ الصَّرْحِ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةَ آلَافِ
ذِرَاعٍ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُهُ فَرْسَخَيْنِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ (1)
وَأَلْقَتْ رَأْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَخَرَّ عَلَيْهِمُ الْبَاقِي وَهُمْ
تَحْتَهُ، وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْحُ تَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ مِنَ
الْفَزَعِ يَوْمَئِذٍ فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَلِذَلِكَ
سُمِّيَتْ بَابِلَ، وَكَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ
(2) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
الْقَوَاعِدِ } أَيْ: قَصَدَ تخريب بنيانهم 199/ب مِنْ أُصُولِهَا { فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ } يَعْنِي أَعْلَى الْبُيُوتِ { مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ
الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } مِنْ مَأْمَنِهِمْ. { ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ } يُهِينُهُمْ بِالْعَذَابِ، { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تُخَالِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ،
مَا لَهُمْ لَا يَحْضُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ؟
وَكَسَرَ نَافِعٌ النُّونَ مِنْ "تُشَاقُّونَ" عَلَى الْإِضَافَةِ،
وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا.
{ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ] (3) { إِنَّ
الْخِزْيَ } الْهَوَانَ، { الْيَوْمَ وَالسُّوءَ } أَيِ: الْعَذَابَ، { عَلَى
الْكَافِرِينَ } { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ } يَقْبِضُ
أَرْوَاحَهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ، قَرَأَ حَمْزَةُ "
يَتَوَفَّاهُمْ " بِالْيَاءِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
} بِالْكُفْرِ، وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، {
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ }
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ليس في هذه التفصيلات عن الصرح وطوله... وتبلبل الألسنة... إلخ نص ثابت عن
المعصوم، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصار إليه، وهذا وأمثاله متلقى من
الإسرائليات، والله أعلم.
(3) ساقط من "أ".
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
أَيِ:
اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا وَقَالُوا: { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ }
شِرْكٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: { بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قَالَ عِكْرِمَةُ: عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْكُفَّارِ بِبَدْرٍ.
{ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
(29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ
يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (32) }
{ فَادْخُلُوا } أَيْ: قَالَ لَهُمُ ادْخُلُوا { أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } عَنِ الْإِيمَانِ.
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } وَذَلِكَ أَنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانُوا
يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا جَاءَ سَأَلَ الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى
الطُّرُقِ عَنْهُ، فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ، كَاهِنٌ، شَاعِرٌ، كَذَّابٌ، مَجْنُونٌ،
وَلَوْ لَمْ تَلْقَهُ خَيْرٌ لَكَ، فَيَقُولُ السَّائِلُ: أَنَا شَرُّ وَافِدٍ
إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي دُونَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَلْقَاهُ، فَيَدْخُلُ
مَكَّةَ فَيَرَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا }
يَعْنِي: أَنْزَلَ خَيْرًا (1) .
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ
} كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ إِلَى الْعَشْرِ.
وَقَالَ الضَّحَاكُ: هِيَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ.
{ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ } أَيْ وَلَدَارُ الْحَالِ الْآخِرَةِ، { خَيْرٌ
وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ
أَهْلَ التَّقْوَى يَتَزَوَّدُونَ فِيهَا لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: { جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ
كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
طَيِّبِينَ } مُؤْمِنِينَ طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: زَاكِيَةً أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ.
__________
(1) انظر: زاد المسير: 4 / 442-443.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: إِنَّ وَفَاتَهُمْ تَقَعُ طَيِّبَةً سَهْلَةً. { يَقُولُونَ } يَعْنِي:
الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ، { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } وَقِيلَ: يُبَلِّغُونَهُمْ سَلَامَ
اللَّهِ، { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) }
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
{
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ
الْمَلَائِكَةُ } لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ }
يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ. { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ } أَيْ: كَفَرُوا، { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } بِتَعْذِيبِهِ
إِيَّاهُمْ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } { فَأَصَابَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمِ الْخَبِيثَةِ، {
وَحَاقَ بِهِمْ } [نَزَلَ بِهِمْ] (1) { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } {
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ }
يَعْنِي: الْبَحِيرَةَ، وَالسَّائِبَةَ، وَالْوَصِيلَةَ، وَالْحَامِ، فَلَوْلَا
أَنَّ اللَّهَ رَضِيَهَا لَغَيَّرَ ذَلِكَ وَهَدَانَا إِلَى غَيْرِهَا، { كَذَلِكَ
فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ } أَيْ: لَيْسَ إِلَيْهِمُ الْهِدَايَةُ إِنَّمَا إِلَيْهِمُ
التَّبْلِيغُ. { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا } أَيْ: كَمَا
بَعَثْنَا فِيكُمْ، { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَهُوَ
كُلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، { فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ } أَيْ:
هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى دِينِهِ، { وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ
}
__________
(1) ساقط من "ب".
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
أَيْ:
وَجَبَتْ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ حَتَّى مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، { فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أَيْ: مَآلُ
أَمْرِهِمْ، وَهُوَ خَرَابُ مَنَازِلِهِمْ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ.
{ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا
يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) }
{ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ } يَا مُحَمَّدُ، { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
مَنْ يُضِلُّ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ " يَهْدِي " بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ مَنْ أَضَلَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
لَا يَهْتَدِي مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ يَعْنِي مَنْ أَضَلَّهُ
اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ كَمَا قَالَ: "ومن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا
هَادِيَ لَهُ" (الْأَعْرَافِ-186) .
{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أَيْ: مَانِعِينَ مِنَ الْعَذَابِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ
مَنْ يَمُوتُ } وَهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا
عَلَيْهِمْ: { بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ } { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أَيْ:
لِيُظْهِرَ لَهُمُ الْحَقَّ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا
أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ الْمَوْتَى فَلَا تَعَبَ عَلَيْنَا فِي إِحْيَائِهِمْ،
وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْدُثُ، إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ.
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّشٍ الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ
السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي
عَبْدِي، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، وَشَتَمَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
لَهُ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ، أَنْ يَقُولَ: لَنْ يُعِيدَنَا كَمَا
بَدَأَنَا، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، أَنْ يَقُولَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا،
وَأَنَا الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، سورة البقرة، باب "وقالوا: اتخذ الله ولدا
سبحانه" 8 / 168، .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) }
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
} عُذِّبُوا وَأُوذُوا فِي اللَّهِ.
نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَخَبَّابٍ، وَعَمَّارٍ، وَعَابِسٍ، وَجَبْرٍ،
وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، أَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ
فَعَذَّبُوهُمْ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ حَتَّى لَحِقَ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ هِجْرَةٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (2) .
{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } وَهُوَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُمُ
الْمَدِينَةَ.
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ [مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ] (3) عَطَاءً يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا
مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ
أَفْضَلُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (4) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ.
{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ:
"لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"، يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ. { الَّذِينَ صَبَرُوا } فِي اللَّهِ عَلَى
مَا نَابَهُمْ (5) { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ } نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ
حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا
بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا (6) ؟
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (322)، زاد المسير: 4 / 448 وفيه
"عايش" بدلا من "عابس"، ولم أجد لـ "عايش" ترجمة.
وقارن بالمحرر الوجيز: 8 / 421.
(2) انظر: الدر المنثور: 5 / 131، الطبري: 14 / 107.
(3) ساقط من "ب".
(4) انظر: البحر المحيط: 5 / 493، المحرر الوجيز: 8 / 422.
(5) في "ب": فاتهم.
(6) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (323)، الطبري: 14 / 109، الدر المنثور: 5 /
132-133.
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، { إِنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ
يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي
تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) }
{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَالِبِ لِلْبَاءِ فِي
قَوْلِهِ { بِالْبَيِّنَاتِ } قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: { وَمَا
أَرْسَلْنَا } وإلا بِمَعْنَى غَيْرُ، مَجَازُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قبلك
بالبينات 200/أ وَالزُّبُرِ غَيْرَ رِجَالٍ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ نَبْعَثْ
مَلَائِكَةً.
وَقِيلَ: تَأْوِيلُهُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى
إِلَيْهِمْ [أَرْسَلْنَاهُمْ] (1) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ. { وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أَرَادَ
بِالذِّكْرِ الْوَحْيَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ، وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ، {
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا } عَمِلُوا {
السَّيِّئَاتِ } مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي: نَمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ وَغَيْرَهُ مِنَ
الْكُفَّارِ، { أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } { أَوْ يَأْخُذَهُمْ } بِالْعَذَابِ، {
فِي تَقَلُّبِهِمْ } تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي
اخْتِلَافِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي إِقْبَالِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ، {
فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } بِسَابِقِينَ اللَّهَ. { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى
تَخَوُّفٍ } وَالتَّخَوُّفُ: التَّنَقُّصُ، أَيْ: يُنْقِصُ مِنْ أَطْرَافِهِمْ وَنَوَاحِيهِمُ
الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ حَتَّى يَهْلَكَ جَمِيعُهُمْ، يُقَالُ: تَخَوَّفَهُ
الدَّهْرُ وَتَخَوَّنَهُ: إِذَا نَقَصَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَحَشَمَهُ.
وَيُقَالُ: هَذَا لُغَةُ بَنِي هَزِيلٍ.
وَقَالَ الضَّحَاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مِنَ الْخَوْفِ، أَيْ: يُعَذِّبُ طَائِفَةً
فَيَتَخَوَّفُ الْآخَرُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
{ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } حِينَ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
{
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ
عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ
وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
} -قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ-إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِسْمٍ
قَائِمٍ، لَهُ ظِلٌّ، { يَتَفَيَّأُ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ
بِالتَّاءِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. { ظِلَالُهُ } أَيْ: تَمِيلُ وَتَدُورُ مِنْ
جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، فَهِيَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ، ثُمَّ
تَتَقَلَّصُ، ثُمَّ تَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ إِلَى حَالٍ أُخْرَى سُجَّدًا
لِلَّهِ، فَمَيَلَانُهَا وَدَوَرَانُهَا: سُجُودُهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَيُقَالُ لِلظِّلِّ بِالْعَشِيِّ: فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَاءَ، أَيْ: رَجَعَ مِنَ
الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَالْفَيْءُ الرُّجُوعُ. وَالسُّجُودُ الْمَيْلُ.
وَيُقَالُ: سَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ }
قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ: أَمَّا الْيَمِينُ: فَأَوَّلُ النَّهَارِ،
وَالشِّمَالُ: آخِرُ النَّهَارِ، تَسْجُدُ الظِّلَالُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الظِّلُّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ
شِمَالِكَ وَقُدَّامَكَ وَخَلْفَكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَتْ، فَإِذَا طَلَعَتْ
كَانَ مِنْ قُدَّامِكَ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ بَعْدَهُ
كَانَ خَلْفَكَ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ كَانَ عَنْ
يَسَارِكَ، فَهَذَا تَفَيُّؤُهُ، وَتَقَلُّبُهُ، وَهُوَ سُجُودُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الظِّلَالِ: سُجُودُ الْأَشْخَاصِ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ؟
قِيلَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي اجْتِمَاعِ الْعَلَامَتَيْنِ الِاكْتِفَاءُ
بِوَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعَلَى سَمْعِهِمْ" (الْبَقَرَةِ-7) ، وَقَوْلِهِ: "يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (الْبَقَرَةِ-257) .
وَقِيلَ: الْيَمِينُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ".
وَلَفْظُ "مَا" وَاحِدٌ، وَالشَّمَائِلُ: يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى.
{ وَهُمْ دَاخِرُونَ } صَاغِرُونَ. { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ } إنما أخبر بما لِغَلَبَةِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ
يَعْقِلُ فِي الْعَدَدِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ كَتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى
الْمُؤَنَّثِ، { مِنْ دَابَّةٍ } أَرَادَ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ.
وَيُقَالُ: السُّجُودُ: الطَّاعَةُ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُطِيعَةٌ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فُصِّلَتْ-11) .
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
وَقِيلَ:
سُجُودُ الْأَشْيَاءِ تَذَلُّلُهَا وَتَسَخُّرُهَا لِمَا أُرِيدَتْ لَهُ
وَسُخِّرَتْ لَهُ.
وَقِيلَ: سُجُودُ الْجَمَادَاتِ وَمَا لَا يَعْقِلُ: ظُهُورُ أَثَرِ الصُّنْعِ
فِيهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَدْعُو الْغَافِلِينَ إِلَى السُّجُودِ عِنْدَ
التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ" (فُصِّلَتْ-53) .
{ وَالْمَلَائِكَةُ } خَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ
جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تَشْرِيفًا وَرَفْعًا لِشَأْنِهِمْ.
وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِالدَّبِيبِ إِذْ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ
يَطِيرُونَ بِهَا.
وَقِيلَ؛ أَرَادَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَتَسْجُدُ الْمَلَائِكَةُ. { وَهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ }
{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) }
{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } كَقَوْلِهِ: "وَهُوَ الْقَاهِرُ
فَوْقَ عِبَادِهِ" (الْأَنْعَامِ-18) .
{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الشَّعَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي
أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ
وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ
أَرْبَعَ أَصَابِعَ إِلَّا وَفِيهَا مَلَكٌ يُمَجِّدُ اللَّهَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ
مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ
بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَصَعِدْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ
تَجْأَرُونَ"، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: "يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً
تُعَضَّدُ". رَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنْ أَبِي
أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: "إِلَّا وَمَلَكٌ
وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ
إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ } الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ {
وَاصِبًا } دَائِمًا ثَابِتًا.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله: 6 / 601،
وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وابن ماجه في الزهد، باب الحزن والبكاء: 2 /
1402، وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 510، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 173.
وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 369-370.
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
مَعْنَاهُ:
لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ
بِزَوَالٍ أَوْ هَلَاكٍ، غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ
تَدُومُ لَهُ وَلَا تَنْقَطِعُ.
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } أَيْ: تَخَافُونَ، اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ
الْإِنْكَارِ.
{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ
فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ
مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) }
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهَ
لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أَيْ: وَمَا
يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ }
الْقَحْطُ وَالْمَرَضُ، { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } تَضِجُّونَ وَتَصِيحُونَ
بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ.
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ } . { لِيَكْفُرُوا } لِيَجْحَدُوا، [وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى
لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: حَاصِلُ أَمْرِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ] (1) { بِمَا
آتَيْنَاهُمْ } أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ النَّعْمَاءِ وَكَشْفِ الضَّرَّاءِ
وَالْبَلَاءِ، { فَتَمَتَّعُوا } أَيْ: عِيشُوا فِي الدُّنْيَا الْمُدَّةَ الَّتِي
ضَرَبْتُهَا لَكُمْ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ. هَذَا
وَعِيدٌ لَهُمْ. { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ } لَهُ حَقًّا، أَيِ:
الْأَصْنَامِ، { نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ مَا
جَعَلُوا لِلْأَوْثَانِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، فَقَالُوا: هَذَا
لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا.
ثُمَّ رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ فَقَالَ: { تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ
} يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } فِي الدُّنْيَا. {
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ } وَهُمْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ، قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ
بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى: { سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } أَيْ:
وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ الَّذِينَ يَشْتَهُونَهُمْ، فَتَكُونُ
"مَا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى
الِابْتِدَاءِ فَتَكُونُ "مَا" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ. { وَإِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } مُتَغَيِّرًا مِنَ
الْغَمِّ وَالْكَرَاهِيَةِ، { وَهُوَ كَظِيمٌ } وَهُوَ مُمْتَلِئٌ حُزْنًا
وَغَيْظًا فَهُوَ يَكْظِمُهُ أَيْ: يُمْسِكُهُ وَلَا يُظْهِرُهُ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ
أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) }
{ يَتَوَارَى } أَيْ: يَخْتَفِي، { مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ }
مِنَ الْحُزْنِ وَالْعَارِ، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ: { أَيُمْسِكُهُ } ذَكَرَ
الْكِنَايَةَ رَدًّا عَلَى "مَا" { عَلَى هُونٍ } أَيْ: هَوَانٌ، { أَمْ
يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } 200/ب أَيْ: يُخْفِيهِ مِنْهُ ، فَيَئِدُهُ.
وَذَلِكَ: أَنْ مُضَرَ وَخُزَاعَةَ وَتَمِيمًا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ
أَحْيَاءً، خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ عَلَيْهِمْ، وَطَمَعِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ
فِيهِنَّ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ وَأَرَادَ
أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا: أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ، وَتَرَكَهَا
تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَقْتُلَهَا: تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً، قَالَ لِأُمِّهَا:
زَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ لَهَا
بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ بِهَا الْبِئْرَ قَالَ لَهَا: انْظُرِي
إِلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، فَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ
يُهِيلُ عَلَى رَأْسِهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرَابِ }
وَكَانَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يُحْيِيهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ بِهِ (1) . وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ...
فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ
{ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } بِئْسَ مَا يَقْضُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، نَظِيرُهُ: "أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" (النَّجْمِ-22) ، وَقِيلَ: بِئْسَ
حُكْمُهُمْ وَأْدُ الْبَنَاتِ. { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ }
يَعْنِي لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ
الْبَنِينَ { مَثَلُ السَّوْءِ } صِفَةُ السُّوءِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى
الْوَلَدِ، وَكَرَاهِيَةِ الْإِنَاثِ، وَقَتْلِهِنَّ خَوْفَ الْفَقْرِ، {
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ
وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَقِيلَ: جَمِيعُ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، مِنَ الْعِلْمِ،
وَالْقُدْرَةِ، وَالْبَقَاءِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَثَلُ السَّوْءِ": النَّارُ، وَ"الْمَثَلُ
الْأَعْلَى": شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 10 / 117.
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ
مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا
جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ (62) }
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } فَيُعَاجِلُهُمْ
بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، { مَا تَرَكَ عَلَيْهَا } أَيْ:
عَلَى الْأَرْضِ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، { مِنْ دَابَّةٍ }
قَالَ قَتَادَةُ فِي الْآيَةِ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ نُوحٍ،
فَأَهْلَكَ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ (1)
رُوِيَ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا
يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّ الْحُبَارَى تَمُوتُ
فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ (2) .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْجُعَلَ لَتُعَذَّبُ فِي جُحْرِهَا بِذَنْبِ
ابْنِ آدَمَ (3) .
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ آبَاءَ الظَّالِمِينَ
بِظُلْمِهِمُ انْقَطَعَ النَّسْلُ، وَلَمْ تُوجَدِ الْأَبْنَاءُ فَلَمْ يَبْقَ فِي
الْأَرْضِ أَحَدٌ.
{ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ } يُمْهِلُهُمْ بِحِلْمِهِ إِلَى أَجَلٍ، {
مُسَمًّى } إِلَى مُنْتَهَى آجَالِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَعْمَارِهِمْ. { فَإِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } لِأَنْفُسِهِمْ يَعْنِي
الْبَنَاتِ، { وَتَصِفُ } أَيْ: تَقُولُ، { أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنَى } يَعْنِي الْبَنِينَ، مَحَلُّ "أَنَّ" نَصْبٌ بَدَلٌ عَنِ
الْكَذِبِ.
قَالَ يَمَانِ: يَعْنِي بِـ "الْحُسْنَى": الْجَنَّةَ فِي الْمَعَادِ،
إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي الْبَعْثِ.
{ لَا جَرَمَ } حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، { أَنَّ لَهُمُ النَّارَ }
فِي الْآخِرَةِ، { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ
أَيْ: مُسْرِفُونَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ: مُضَيِّعُونَ
أَمْرَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: مَنْسِيُّونَ فِي
النَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (الدر المنثور: 5 /
140).
(2) أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، والبيهقي في
"الشعب" (الدر المنثور: 5 / 140).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".
انظر: الدر المنثور: 5 / 140.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُبْعَدُونَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَتْرُوكُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: مُعَجَّلُونَ إِلَى النَّارِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" (1)
أَيْ: مُتَقَدِّمُكُمْ.
{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) }
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الرقاق، باب الحوض وقول الله: "إنا
أعطيناك الكوثر": 11 / 463، ومسلم في الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة
والتحجيل في الوضوء، برقم (249): 1 / 218.
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) }
{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } كَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمُ }
الْخَبِيثَةَ، { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ } نَاصِرُهُمْ، { الْيَوْمَ } وَقَرِينُهُمْ،
سَمَّاهُ وَلِيًّا لَهُمْ، لِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
فِي الْآخِرَةِ. { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ
لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ } مِنَ الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ، { وَهُدًى
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أَيْ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
إِلَّا بَيَانًا وَهُدًى وَرَحْمَةً، فَالْهُدَى وَالرَّحْمَةُ عَطْفٌ عَلَى
قَوْلِهِ "لِتُبَيِّنَ". { وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }
يَعْنِي: الْمَطَرَ: { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ } بِالنَّبَاتِ ، { بَعْدَ
مَوْتِهَا } يُبُوسَتِهَا، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }
سَمْعَ الْقُلُوبِ لَا سَمْعَ الْآذَانِ. { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ
لَعِبْرَةً } لَعِظَةً، { نَسْقِيكُمْ } بِفَتْحِ النُّونِ هَاهُنَا وَفِي
الْمُؤْمِنِينَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. { مِمَّا فِي بُطُونِهِ } قَالَ
الْفَرَّاءُ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ وَالْأَنْعَامُ
وَاحِدٌ.
وَلَفْظُ النَّعَمِ مُذَكَّرٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ: النَّعَمُ
يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَمَنْ أَنَّثَ فَلِمَعْنَى الْجَمْعِ،
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وَمَنْ
ذَكَّرَ فَلِحُكْمِ اللَّفْظِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: رَدَّهُ إِلَى مَا يَعْنِي فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْكِنَايَةُ مَرْدُودَةٌ إِلَى الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ،
كَأَنَّهُ قَالَ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ، إِذْ لَيْسَ
لِكُلِّهَا لَبَنٌ، وَاللَّبَنُ فِيهِ مُضْمَرٌ.
{ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ } وَهُوَ مَا فِي الْكَرِشِ مِنَ الثِّقْلِ، فَإِذَا خَرَجَ
مِنْهُ لَا يُسَمَّى فَرْثًا، { وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا } مِنَ الدَّمِ
وَالْفَرْثِ لَيْسَ عَلَيْهِ لَوْنُ دَمٍ وَلَا رَائِحَةُ فَرْثٍ.
{ سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } هَنِيئًا يَجْرِي عَلَى السُّهُولَةِ فِي الْحَلْقِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُغَصَّ أَحَدٌ بِاللَّبَنِ قَطُّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَكَلَتِ الدَّابَّةُ الْعَلَفَ وَاسْتَقَرَّ فِي
كَرِشِهَا وَطَحَنَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا، وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنَ،
وَأَعْلَاهُ الدَّمَ، وَالْكَبِدُ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهَا، تُقَسِّمُهَا
بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ، وَاللَّبَنُ فِي
الضَّرْعِ، وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ (1) .
{ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا
وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) }
{ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ } يَعْنِي: وَلَكُمْ أَيْضًا
عِبْرَةٌ فِيمَا نُسْقِيكُمْ وَنَرْزُقُكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنَابِ، { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ } وَالْكِنَايَةُ فِي { مِنْهُ } عَائِدَةٌ
إِلَى "مَا" مَحْذُوفَةٌ أَيْ: مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ، { سَكَرًا
وَرِزْقًا حَسَنًا }
قَالَ قَوْمٌ: "السَّكَرُ": الْخَمْرُ، وَ"الرِّزْقُ
الْحَسَنُ": الْخَلُّ، وَالزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ وَالرُّبُ، قَالُوا:
وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ،
وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "السَّكَرُ": مَا شَرِبْتَ وَ"الرِّزْقُ
الْحَسَنُ": مَا أَكَلْتَ (2) .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ "السَّكَرَ" هُوَ
الْخَلُّ، بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ (3) .
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: "السَّكَرُ" النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ
نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّ، وَالْمَطْبُوخُ مِنَ الْعَصِيرِ،
وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَاكِ وَالنَّخَعِيِّ (4) .
وَمَنْ يُبِيحُ شُرْبَ النَّبِيذِ وَمَنْ حَرَّمَهُ يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ
الْآيَةِ: الْإِخْبَارُ لَا الْإِحْلَالُ.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 10 / 124-125، زاد المسير: 4 / 464.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 10 / 128، زاد المسير: 4 / 464، الدر المنثور: 5 / 142،
أحكام القرآن للجصاص: 5 / 4.
(3) انظر: القرطبي: 10 / 128، أحكام القرآن للجصاص: 5 / 4.
(4) انظر: القرطبي: 10 / 128، أحكام القرآن للجصاص: 5 / 4.
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
وَأَوْلَى
الْأَقَاوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } مَنْسُوخٌ، رُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "السَّكَرُ" [مَا حَرَّمَ] (1) مِنْ
ثَمَرِهَا، وَ"الرِّزْقُ الْحَسَنُ": مَا أَحَلَّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "السَّكَرُ": الطُّعْمُ، يُقَالُ هَذَا
سَكَرٌ لَكَ أَيْ: طُعْمٌ (2) .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (69) }
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } أَيْ: أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي
أَنْفُسِهَا، فَفَهِمَتْهُ، وَالنَّحْلُ: زَنَابِيرُ الْعَسَلِ، وَاحِدَتُهَا
نَحْلَةٌ.
{ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
} يَبْنُونَ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ أَهْلَهَا يَبْنُونَ لَهَا
الْأَمَاكِنَ، فَهِيَ تَأْوِي إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْكُرُومُ. {
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } 201/أ لَيْسَ مَعْنَى الْكُلِّ الْعُمُومَ،
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"
(النَّمْلِ-23) .
{ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } قِيلَ: هِيَ نَعْتُ الطُّرُقِ، يَقُولُ:
هِيَ مُذَلَّلَةٌ لِلنَّحْلِ سَهْلَةُ الْمَسَالِكِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الذُّلُلُ نَعْتُ النِّحَلِ، أَيْ: مُطِيعَةٌ مُنْقَادَةٌ
بِالتَّسْخِيرِ. يُقَالُ: إِنَّ أَرْبَابَهَا يَنْقُلُونَهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى
مَكَانٍ وَلَهَا يَعْسُوبٌ إِذَا وَقَفَ وَقَفَتْ وَإِذَا سَارَ سَارَتْ.
{ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ } يَعْنِي: الْعَسَلَ { مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ } أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ وَأَصْفَرُ. { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } أَيْ:
فِي الْعَسَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ فِي الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ أُولَى.
أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ،حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: زاد المسير: 4 / 264.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
فَقَالَ:
إِنْ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إِنِّي
سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ
فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا قَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا
اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ"، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ (1) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ،
وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ (2) .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْقُرْآنِ
وَالْعَسَلِ (3) .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فَيَعْتَبِرُونَ.
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) }
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } صِبْيَانًا أَوْ شُبَّانًا أَوْ
كُهُولًا { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } أَرْدَئِهِ، قَالَ
مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْهَرَمَ.
قَالَ قَتَادَةُ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً.
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً.
{ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } لِكَيْلَا يَعْقِلَ بَعْدَ
عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا محمد بن
يوسف، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، [حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ]
(4) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: "أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الْبُخْلِ، وَالْكَسَلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ
الدَّجَّالِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب، باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: "فيه شفاء
للناس": 10 / 139، ومسلم في السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم (2217): 4
/ 1736-1737، واللفظ له، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 12 / 147.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير. انظر: الدر المنثور: 5 / 144.
(3) أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني،
وابن مردويه، موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه وأخرجه ابن ماجه، وابن مردويه،
والحاكم -وصححه- والبيهقي ي "شعب الإيمان" مرفوعا من رواية ابن مسعود:
انظر: الدر المنثور: 5 / 144.
(4) ساقط من "ب".
(5) أخرجه البخاري في تفسير سورة النحل، باب "ومنكم من يرد إلى أرزل
العمر": 8 / 387-388، ومسلم في الذكر والدعاء، باب التعوذ من العجز والكسل
وغيره، برقم (2706): 4 / 2080.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ
سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ
اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) }
{ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ } بَسَطَ عَنْ
وَاحِدٍ، وَضَيَّقَ عَلَى الْآخَرِ، وَقَلَّلَ وَكَثَّرَ.
{ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ } مِنَ الْعَبِيدِ، { فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أَيْ: حَتَّى
يَسْتَوُوا هُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِي ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا
يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ وَمَمَالِيكُهُمْ فِيمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ
سَوَاءً، وَقَدْ جَعَلُوا عَبِيدِي شُرَكَائِي فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. يُلْزِمُ
بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَلْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ يَشْرِكُهُ مَمْلُوكُهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِرَاشِهِ وَمَالِهِ؟
أَفَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ؟؟
{ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } بِالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَقَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
فِي الرِّزْقِ"، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: "فَهُمْ فِيهِ
سَوَاءٌ". قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا } يَعْنِي: النِّسَاءَ، خَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ.
وَقِيلَ: "مِنْ أَنْفُسِكُمْ" أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ أَزْوَاجًا.
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ: الْحَفَدَةُ أَخْتَانُ الرَّجُلِ عَلَى بَنَاتِهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أَنَّهُمُ الْأَصْهَارُ، فَيَكُونُ مَعْنَى
الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ، تُزَوِّجُونَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِمُ الْأَخْتَانُ
وَالْأَصْهَارُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَاكُ: هُمُ الْخَدَمُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَعْوَانُ، مَنْ أَعَانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمْ وَلَدُ وَلَدِ الرَّجُلِ، الَّذِينَ يُعِينُونَهُ
وَيَخْدُمُونَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَهِنَةٌ يَمْتَهِنُونَكُمْ وَيَخْدُمُونَكُمْ مِنْ
أَوْلَادِكُمْ (1) .
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: "الْبَنِينَ": الصِّغَارُ،
وَ"الْحَفَدَةُ": كِبَارُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى
عَمَلِهِ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ
وَلَدُ الْوَلَدِ.
__________
(1) في "ب": الأولاد.
وَرَوَى
الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: أَنَّهُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ (1) .
{ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } مِنَ النِّعَمِ وَالْحَلَالِ، {
أَفَبِالْبَاطِلِ } يَعْنِي الْأَصْنَامَ، { يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ
هُمْ يَكْفُرُونَ } ؟ يَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ.
وَقِيلَ: "الْبَاطِلُ": الشَّيْطَانُ، أَمَرَهُمْ بِتَحْرِيمِ
الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَ"بِنِعْمَةِ اللَّهِ" أَيْ: بِمَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ "يَكْفُرُونَ": يَجْحَدُونَ تَحْلِيلَهُ.
__________
(1) بعد أن ساق الطبري -رحمه الله- الروايات في تفسير الآية قال: (14 / 146-147):
"والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر عباده معرفهم
نعمه عليهم، فيما جعل لهم من الأزواج والبنين، فقال تعالى: "والله جعل لكم من
أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة"، فأعلمهم أنه جعل لهم من
أزواجهم بنين وحفدة. والحفدة في كلام العرب: جمع حافد.. والحافد في كلامهم: هو
المتخفف في الخدمة والعمل. والحفد: خفة العمل. وإذا كان معنى الحفدة ما ذكرنا من
أنهم المسرعون في خدمة الرجل، المتخففون فيها، وكان الله -تعالى ذكره- أخبرنا أن
مما أنعم به علينا أن جعل لنا حفدة تحفد لنا، وكان أولادنا وأزواجنا الذين يصلحون
للخدمة منا ومن غيرنا، وأختاننا الذين هم أزواج بناتنا، من أزواجنا وخدمنا من
مماليكنا، إذا كانوا يحفدوننا، فيستحقون اسم حفدة. ولم يكن الله تعالى دل بظاهر
تنزيله، ولا على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بحجة عقل، على
أنه عنى بذلك نوعا من الحفدة، دون نوع منهم، وكان قد أنعم بكل ذلك علينا = لم يكن
لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير
داخل فيهم. وإذا كان ذلك كذلك؛ فلكل الأقوال -التي ذكرنا عمن ذكرنا- وجه في الصحة،
ومخرج في التأويل. وإن كان أولى بالصواب من القول ما اخترنا، لما بينا من
الدليل".
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) }
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
السَّمَاوَاتِ } يَعْنِي الْمَطَرَ، { وَالْأَرْضِ } يَعْنِي النَّبَاتَ، {
شَيْئًا } قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ
لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْرِ الرِّزْقِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ "شَيْئًا" بِوُقُوعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ،
أَيْ: لَا يَرْزُقُ شَيْئًا، { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ } وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى
شَيْءٍ، يَذْكُرُ عَجْزَ الْأَصْنَامِ عَنْ إِيصَالِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ. {
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } يَعْنِي الْأَشْبَاهَ. فَتُشَبِّهُونَهُ
بِخَلْقِهِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا، فَإِنَّهُ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ، {
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ
الْأَمْثَالِ.
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ
رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ
يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ
يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(76) }
ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا [لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ] (1) فَقَالَ جَلَّ
ذِكْرُهُ:
__________
(1) في "ب": للمؤمن والكافر.
{
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } هَذَا
مَثَلُ الْكَافِرِ، رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُقَدِّمْ فِيهِ خَيْرًا، {
وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا
وَجَهْرًا } هَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَعَمِلَ فِيهِ
بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي رِضَاءِ اللَّهِ، سِرًّا وَجَهْرًا،
فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (1) . { هَلْ يَسْتَوُونَ } وَلَمْ
يَقُلْ يَسْتَوِيَانِ لِمَكَانِ "مِنْ" وَهُوَ اسْمٌ يَصْلُحُ
لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "لَا
يَسْتَطِيعُونَ" بِالْجَمْعِ لِأَجْلِ مَا.
مَعْنَاهُ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْفَقِيرُ الْبَخِيلُ وَالْغَنِيُّ السَّخِيُّ؟
كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ الْعَاصِي وَالْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ. وَرَوَى
ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { عَبْدًا مَمْلُوكًا } أَيْ:
أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ { وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا } أَبُو
بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) . ثُمَّ قَالَ:
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } يَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ
كَمَا تَقُولُونَ، مَا لِلْأَوْثَانِ عِنْدَهُمْ مِنْ يَدٍ وَلَا مَعْرُوفٍ
فَتُحْمَدُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ وَالْخَالِقُ وَالرَّازِقُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ
لَا يَعْلَمُونَ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ فَقَالَ: { وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ
عَلَى مَوْلَاهُ } كَلٌّ: ثِقَلٌ وَوَبَالٌ "عَلَى مَوْلَاهُ" ابْنِ
عَمِّهِ، وَأَهْلِ وِلَايَتِهِ، { أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ } يُرْسِلْهُ، { لَا
يَأْتِ بِخَيْرٍ } لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَلَا يُفْهَمُ
عَنْهُ، هَذَا مَثَلُ الْأَصْنَامِ، لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْطِقُ، وَلَا
تَعْقِلُ، { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ } عَابِدِهِ، يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ
يَحْمِلَهُ وَيَضَعَهُ وَيَخْدِمَهُ.
{ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } يَعْنِي: اللَّهُ تَعَالَى
قَادِرٌ، مُتَكَلِّمٌ، يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } [قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَدُلُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ.
__________
(1) وهذا التأويل رجحه الطبري: 14 / 148-149.
(2) انظر: زاد المسير: 4 / 472.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
وَقِيلَ:
هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1) .
وَقِيلَ: كِلَا الْمِثْلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، يَرْوِيهِ عَطِيَّةُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ:
حَمْزَةُ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعُثْمَانُ بن مظعون 201/ب
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي هَاشِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
رَبِيعَةَ الْقُرَشِيِّ، وَكَانَ قَلِيلَ الْخَيْرِ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَمَوْلَاهُ، كَانَ عُثْمَانُ
يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَوْلَاهُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ (2) .
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا
كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (78) }
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ } فِي
قُرْبِ كَوْنِهَا، { إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ } إِذَا قَالَ لَهُ:
"كُنْ" فَيَكُونُ، { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } بَلْ هُوَ أَقْرَبُ، { إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ
يَسْتَعْجِلُونَ الْقِيَامَةَ اسْتِهْزَاءً. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "بُطُونِ
إِمَّهَاتِكُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ
وَالْهَمْزَةِ، الباقون بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، { لَا تَعْلَمُونَ
شَيْئًا } تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهُمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ،
وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ الْعِلْمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
نِعْمَةَ اللَّهِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري: 14 / 150-151، الدر المنثور: 5 / 151-152،
زاد المسير: 4 / 473، البحر المحيط: 5 / 519-520، أسباب النزول للواحدي ص (323).
قال الطبري-رحمه الله-: "وهذا مثل ضربه الله تعالى لنقسه والآلهة التي تعبد
من دونه، فقال تعالى ذكره: "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على
شيء" يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت، وإما
نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه، ولا دفع ضر عنه، "وهو كل على
مولاه"، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كل على
من يعبده، يحتاج أن يحمله، ويضعه ويخدمه كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء
فهو كل على بني أعمامه.. هل يستوي هذا الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير
حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحق، ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي
يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو -تعالى ذكره- والصنم الذي صفته
ما وصف . وقوله : "وهو على صراط مستقيم" يقول: لا على طريق من الحق في
دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يعوج عن الحق ولا يزول عنه". انظر:
تفسير الطبري: 14 / 150.
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) }
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا
وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) }
{ أَلَمْ يَرَوْا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ: بِالتَّاءِ،
وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: "وَيَعْبُدُونَ" (1) . { إِلَى
الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ } مُذَلَّلَاتٍ، { فِي جَوِّ السَّمَاءِ } وَهُوَ الْهَوَاءُ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ
تَرْتَفِعُ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا وَلَا يَرْتَفِعُ فَوْقَ هَذَا، وَفَوْقَ
الْجَوِّ السُّكَاكُ، وَفَوْقَ السُّكَاكِ السَّمَاءُ { مَا يُمْسِكُهُنَّ } فِي
الْهَوَاءِ { إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } {
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ } [الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ
وَالْمَدَرِ] (2) { سَكَنًا } أَيْ: مَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ، { وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا } يَعْنِي الْخِيَامَ، وَالْقِبَابَ،
وَالْأَخْبِيَةَ، وَالْفَسَاطِيطَ مِنَ الْأَنْطَاعِ وَالْأُدُمَ (3) {
تَسْتَخِفُّونَهَا } أَيْ: يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا، { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ }
رِحْلَتِكُمْ فِي سَفَرِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ،
سَاكِنَةَ الْعَيْنِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ أَجْزَلُ اللُّغَتَيْنِ،
{ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } فِي بَلَدِكُمْ لَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي
الْحَالَيْنِ.
{ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } يَعْنِي: أَصْوَافَ
الضَّأْنِ، وَأَوْبَارَ الْإِبِلِ، وَأَشْعَارَ الْمَعِزِ، وَالْكِنَايَاتُ
رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَنْعَامِ، { أَثَاثًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالًا. قَالَ
مُجَاهِدٌ: مَتَاعًا.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: "الْأَثَاثُ": الْمَالُ أَجْمَعُ، مِنَ الْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ، وَالْمَتَاعِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنَ الْفَرْشِ وَالْأَكْسِيَةِ.
{ وَمَتَاعًا } بَلَاغًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، { إِلَى حِينٍ } يَعْنِي الْمَوْتَ.
وَقِيلَ: إِلَى حِينِ تَبْلَى. { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا
} تَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَهِيَ ظِلَالُ الْأَبْنِيَةِ
وَالْأَشْجَارِ،
__________
(1) في الآية الثانية والسبعين من السورة: "ويعبدون من دون الله ما لا يملك
لهم رزقا..." الآية.
(2) ساقط من "ب".
(3) في هامش "أ": فائدة: لو قال: من الجلود، كان أحسن من قوله من
الأنطاع والأدم.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } يَعْنِي: الْأَسْرَابَ،
وَالْغِيرَانَ، وَاحِدُهَا كُنٌّ { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } قُمُصًا مِنَ
الْكَتَّانِ وَالْقَزِّ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، { تَقِيكُمُ } تَمَنَعُكُمْ، {
الْحَرَّ } قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَاكْتَفَى
بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ
بَأْسَكُمْ } يَعْنِي: الدُّرُوعَ، وَالْبَأْسُ: الْحَرْبُ، يَعْنِي: تَقِيكُمْ
فِي بَأْسِكُمُ السِّلَاحَ أَنْ يُصِيبَكُمْ.
{ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } تُخْلِصُونَ
لَهُ الطَّاعَةَ.
قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَدْرِ
مَعْرِفَتِهِمْ، فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا، وَمَا
جَعَلَ [لَهُمْ] (1) مِنَ السُّهُولِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا
أَصْحَابَ جِبَالٍ كَمَا قَالَ: "وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا" لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ وَبَرٍ، وَشَعْرٍ، وَكَمَا
قَالَ: "وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ"
(النُّورِ-43) وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا
يَعْرِفُونَ الثَّلْجَ. وَقَالَ: "تَقِيكُمُ الْحَرَّ" وَمَا تَقِي مِنَ
الْبَرْدِ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ
نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) }
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } فَإِنْ أَعْرَضُوا فَلَا يَلْحَقُكَ فِي ذَلِكَ عَتَبٌ
وَلَا سِمَةُ تَقْصِيرٍ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } {
يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ } قَالَ السُّدِّيُّ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } يُكَذِّبُونَ بِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الْإِسْلَامُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ فِي
هَذِهِ السُّورَةِ، يُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا قِيلَ لَهُمْ:
تَصَدَّقُوا وَامْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، يُنْكِرُونَهَا فَيَقُولُونَ:
وَرِثْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ
قَالُوا: نَعَمْ، هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهَا بِشَفَاعَةِ
آلِهَتِنَا.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا فُلَانٌ
لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ لَمَا كَانَ كَذَا (2) . { وَأَكْثَرُهُمُ
الْكَافِرُونَ } الْجَاحِدُونَ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) قال الطبري: (14 / 158): "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بتأويل
الآية، قول من قال: عنى بالنعمة التي ذكرها في قوله "يعرفون نعمة الله"
النعمة عليهم بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم داعيا إلى ما
بعثه بدعائهم إليه، وذلك أن هذه الآية بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعما بعث به، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله
وما بعده، إذ لم يكن معنى يدل على انصرافه عما قبله وعما بعده...".
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) }
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ
الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا }
يَعْنِي رَسُولًا { ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } فِي الِاعْتِذَارِ،
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ أَصْلًا { وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يُسْتَرْضَوْنَ،
يَعْنِي: لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ
بِدَارِ تَكْلِيفٍ، وَلَا يُرْجَعُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ. وَحَقِيقَةُ
الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْتَابِ: أَنَّهُ التَّعَرُّضُ لِطَلَبِ الرِّضَا، وَهَذَا
الْبَابُ مُنْسَدٌّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفَّارِ. { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا } كَفَرُوا، { الْعَذَابَ } يَعْنِي جَهَنَّمَ، { فَلَا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا } يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، { شُرَكَاءَهُمْ } أَوْثَانَهُمْ، { قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ
شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ } أَرْبَابًا
وَنَعْبُدُهُمْ، { فَأَلْقَوْا } يَعْنِي الْأَوْثَانَ، { إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ }
أَيْ: قَالُوا لَهُمْ، { إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } فِي تَسْمِيَتِنَا آلِهَةً مَا
دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا. { وَأَلْقَوْا } يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {
إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ
فِيهِمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ شَيْئًا، { وَضَلَّ } وَزَالَ، {
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ. { الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } مَنَعُوا النَّاسَ عَنْ طَرِيقِ
الْحَقِّ { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابٌ أَمْثَالُ النَّخْلِ الطِّوَالِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْبُخْتِ (1) وَعَقَارِبُ
أَمْثَالُ الْبِغَالِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ يَجِدُ صَاحِبُهَا
حُمَّتَهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي خَمْسَةَ أَنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ
مُذَابٍ كَالنَّارِ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، يُعَذَّبُونَ بِهَا ثَلَاثَةٌ
عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ وَاثْنَانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ.
__________
(1) البخت: هي الإبل الخراسانية، وهي جمال طوال الأعناق، واحدها: بختي.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِلَى بَرْدِ الزَّمْهَرِيرِ، فَيُبَادِرُونَ
مِنْ شِدَّةِ الزَّمْهَرِيرِ إِلَى النَّارِ مُسْتَغِيثِينَ بِهَا.
وَقِيلَ: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ (1) . { بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } فِي
الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ.
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(90) }
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
يَعْنِي نَبِيُّهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُبْعَثُ
إِلَى الْأُمَمِ مِنْهَا.
{ وَجِئْنَا بِكَ } يَا مُحَمَّدُ، { شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ } الَّذِينَ
بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ.
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا } بَيَانًا، { لِكُلِّ شَيْءٍ }
يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ،
وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، { وَهُدًى } مِنَ الضَّلَالَةِ، { وَرَحْمَةً
وَبُشْرَى } بِشَارَةً { لِلْمُسْلِمِينَ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } بِالْإِنْصَافِ، { وَالْإِحْسَانِ } إِلَى
النَّاسِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْعَدْلُ": التَّوْحِيدُ،
وَ"الْإِحْسَانُ": أَدَاءُ الْفَرَائِضِ.
وَعَنْهُ: "الْإِحْسَانُ": الْإِخْلَاصُ فِي التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ
مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ
أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" (2) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْعَدْلُ": التَّوْحِيدُ،
وَ"الْإِحْسَانُ": الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ.
{ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } صِلَةُ الرَّحِمِ.
{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ } 202/أ مَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّنَا، { وَالْمُنْكَرِ } مَا لَا يُعْرَفُ فِي
شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ، { وَالْبَغْيِ } الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ.
__________
(1) انظر هذه الأقوال في : الدر المنثور: 5 / 157-158، زاد المسير: 4 / 482. وقد
اعتمد الطبري: (14 / 160-161) القول الأول. وانظر: تفسير ابن كثير: 2 / 582.
(2) قطعة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام -عن
الإسلام والإيمان، والإحسان، أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن
الإيمان والإسلام والإحسان: 1 / 114، ومسلم في الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام
والإحسان، برقم (8): 1 / 36-37، والمصنف في شرح السنة: 1 / 8-9.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وَقَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْعَدْلُ اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ،
وَ"الْإِحْسَانُ" أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ
عَلَانِيَتِهِ، وَ"الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ" أَنْ تَكُونَ
عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ.
{ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تَتَّعِظُونَ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْوَلِيدِ: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } إِلَى
آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أخي أعد فعاد عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ
لَهُ وَاللَّهِ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّ أَعْلَاهُ
لَمُثْمِرٌ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ الْبَشَرِ (2) .
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ
تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ
وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(92) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ }
وَالْعَهْدُ هَاهُنَا هُوَ: الْيَمِينُ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْعَهْدُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، {
وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } تَشْدِيدِهَا ، فَتَحْنَثُوا
فِيهَا، { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } شَهِيدًا
بِالْوَفَاءِ.
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا؟.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا (3) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي حِلْفِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ (4).
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ فَقَالَ: { وَلَا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ } أَيْ: مِنْ بَعْدِ غَزْلِهِ
وَإِحْكَامِهِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: هِيَ امْرَأَةٌ خَرْقَاءُ حَمْقَاءُ مِنْ
قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهَا "رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 5 / 160، ففيه جملة آثار في ذلك.
(2) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 270.
(3) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر. انظر: الدر المنثور: 5 /
161، زاد المسير: 4 / 484.
(5) المرجع السابق
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
بْنِ
كَعْبِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ" وَتُلَقَّبُ بِجِعْرِ، وَكَانَتْ
بِهَا وَسُوسَةٌ، وَكَانَتِ اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا بِقَدْرِ ذِرَاعٍ وَصِنَّارَةً
مِثْلَ الْأُصْبُعِ، وَفَلْكَةً عَظِيمَةً، عَلَى قَدْرِهَا، وكانت تغزل الغز مِنَ
الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَتَأْمُرُ جَوَارِيَهَا بِذَلِكَ، فَكُنَّ
يَغْزِلْنَ مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَإِذَا انْتَصَفَ
النَّهَارُ أَمَرَتْهُنَّ بِنَقْضِ جَمِيعِ مَا غَزَلْنَ فَهَذَا كَانَ دَأْبَهَا
(1) .
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَمْ تَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَا حِينَ عَمِلَتْ كَفَّتْ
عَنِ النَّقْضِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ إِذَا نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ، لَا كَفَفْتُمْ
عَنِ الْعَهْدِ، وَلَا حِينَ عَاهَدْتُمْ وَفَيْتُمْ بِهِ.
{ أَنْكَاثًا } يَعْنِي أَنْقَاضًا وَاحِدَتُهَا "نَكْثٌ" وَهُوَ مَا
نُقِضَ بَعْدَ الْفَتْلِ، غَزْلًا كَانَ أَوْ حَبْلًا.
{ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ } أَيْ: دَخَلًا وَخِيَانَةً
وَخَدِيعَةً، وَ"الدَّخَلُ" مَا يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ لِلْفَسَادِ.
وَقِيلَ: "الدَّخَلُ" وَ"الدَّغَلُ": أَنْ يُظْهِرَ
الْوَفَاءَ وَيُبْطِنَ النَّقْضَ.
{ أَنْ تَكُونَ } أَيْ: لِأَنْ تَكُونَ، { أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى } أَيْ: أَكْثَرُ
وَأَعْلَى، { مِنْ أُمَّةٍ } قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ
نَقَضُوا حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَحَالَفُوا الْأَكْثَرَ، فَمَعْنَاهُ: طَلَبْتُمُ
الْعِزَّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، بِأَنْ كَانَتْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ أُمَّةٍ.
فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } يَخْتَبِرُكُمُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِيَّاكُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فِي الدُّنْيَا.
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
}
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 5 / 531. وقال قتادة ومجاهد: ذلك ضرب مثل لمن نقض عهده
بعد توكيده، لا على امرأة معينة وهذا أرجح وأظهر، سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها
أم لا. انظر تفسير ابن كثير: 2 / 585، المحرر الوجيز: 8 / 500.
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ
ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) }
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } عَلَى مِلَّةٍ
وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، { وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } بِخِذْلَانِهِ
إِيَّاهُمْ، عَدْلًا مِنْهُ، { وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } بِتَوْفِيقِهِ
إِيَّاهُمْ، فَضْلًا مِنْهُ، { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا } خَدِيعَةً
وَفَسَادًا، { بَيْنَكُمْ } فَتَغُرُّونَ بِهَا النَّاسَ، فَيَسْكُنُونَ إِلَى
أَيْمَانِكُمْ، وَيَأْمَنُونَ، ثُمَّ تَنْقُضُونَهَا، { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ
ثُبُوتِهَا } فَتَهْلَكُوا بَعْدَمَا كُنْتُمْ آمِنِينَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
لِكُلِّ
مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ، أَوْ سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ بَعْدَ سَلَامَةٍ: زَلَّتْ
قَدَمُهُ، { وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } قِيلَ:
مَعْنَاهُ: سَهَّلْتُمْ طَرِيقَ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى النَّاسِ بِنَقْضِكُمُ
الْعَهْدَ، { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
{ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }
{ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } يَعْنِي لَا تَنْقُضُوا
عُهُودَكُمْ، تَطْلُبُونَ بِنَقْضِهَا عَرَضًا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ
أَوْفَوْا بِهَا. { إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ } مِنَ الثَّوَابِ لَكُمْ عَلَى
الْوَفَاءِ، { خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [فَضْلُ مَا بَيْنَ
الْعِوَضَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ] (1) . فَقَالَ: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ }
أَيِ: الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْنَى، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ }
{ وَلَنَجْزِيَنَّ } [قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ بِالنُّونِ
وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ] (2) { الَّذِينَ صَبَرُوا } عَلَى الْوَفَاءِ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ
أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ
بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى" (3) . قَوْلُهُ
تَعَالَى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ:
هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَّالُ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 4 / 308، وصححه على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي بأن
فيه انقطاعا. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 175 ،412، والبيهقي في السنن: 3 /
370، وعزاه صاحب المشكاة له في "شعب الإيمان". قال الهيثمي: "رواه
أحمد والبزار والطبراني، ورجالهم ثقات". انظر: مجمع الزوائد: 10 / 249، مشكاة
المصابيح رقم (5179)، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني: 1 / 491. وأخرجه المصنف
في شرح السنة: 14 / 239.
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
قَالَ
الْحَسَنُ: هِيَ الْقَنَاعَةُ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي الْعَيْشَ فِي الطَّاعَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَرَوَاهُ عَوْفٌ عَنِ
الْحُسْنِ. وَقَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ (1) .
{ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ (98) }
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } أَيْ: أَرَدْتَ
قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا"(الْمَائِدَةِ-6) .
وَالِاسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (2) .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ (3) .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَعْدَهَا (4) .
__________
(1) بعد أن ساق الطبري الروايات في تفسير الآية قال: "وأولى الأقوال بالصواب
قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أن من قنعه الله بما
قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نصبه، ولم يتكدر فيها عيشه
باتباعه بقية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها. وأما القول الذي روي
عن ابن عباس: أنه الرزق الحلال، فهو محتمل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك من أنه
تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال ، وإن قلَّ، فلا تدعوه نفسه إلى
الكثير منه من غير حله، لا أنه يرزقه الكثير من الحلال. وذلك أن أكثر العاملين لله
تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رزقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا،
ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة". انظر: تفسير الطبري: 14 / 172.
(2) قال الطبري: (14 / 173): "وليس قوله "فاستعذ بالله من الشيطان
الرجيم" بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن
من قرأ القرآن، ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم، قبل قراءته أو بعدها، أنه لم
يضيع قرضا واجبا". وقال ابن الجوزي في زاد المسير: (4 / 490): والاستعاذة عند
القراءة سنة في الصلاة وغيرها. قال ابن عطية: (8 / 507): وحكى النقاش عن عطاء: أن
التعوذ واجب. وانظر: تفسير ابن كثير: 1 / 15 ، 2 / 587، المجموع للنووي: 3 / 284،
والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص (64-65).
(3) انظر: تفسير الطبري: 14 / 173، القرطبي: 10 / 174-175، المحرر الوجيز: 8 /
507، أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1175.
(4) نقل النووي في المجموع: (3 / 284) ذلك عن أبي هريرة، وابن سيرين، والنخعي، وأن
أبا هريرة كان يتعوذ بعد فراغ الفاتحة، لظاهر الآية. والصحيح هو القول الأول -قبل
القراءة- للأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة. وانظر: تفسير ابن كثير: 1 /
13-15، 2 / 587، أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1175.
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
وَلَفْظُهُ:
أَنْ يَقُولَ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، سَمِعْتُ عَاصِمًا عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي،
قَالَ: فَكَبَّرَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
[وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ] (1) اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ.
قَالَ عَمْرٌو: وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَهَمْزُهُ:
الْمَوْتَةُ، وَالْمَوْتَةُ الْجُنُونُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ هِيَ
الِاعْتِصَامُ بِهِ (2) .
{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) }
{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } حُجَّةٌ وَوِلَايَةٌ، { عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } قَالَ سُفْيَانُ: لَيْسَ لَهُ
سُلْطَانٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ. { إِنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } يُطِيعُونَهُ وَيَدْخُلُونَ فِي
وِلَايَتِهِ، { وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } أَيْ: بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ.
وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَمَجَازُهُ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ. { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ }
يَعْنِي وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا آخَرَ، {
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } أَعْلَمُ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لِخَلِقِهِ
فِيمَا يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ مِنْ أَحْكَامِهِ، { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ } يَا
مُحَمَّدُ، { مُفْتَرٍ } مُخْتَلِقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا:
إِنَّ مُحَمَّدًا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، يَأْمُرُهُمُ الْيَوْمَ بِأَمْرٍ،
وَيَنْهَاهُمْ عنه غدا، 202/ب مَا هُوَ إِلَّا مُفْتَرٍ، يَتَقَوَّلُهُ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِهِ (3) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } حَقِيقَةَ
الْقُرْآنِ، وَبَيَانَ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب ما يستفتح به في الصلاة من الدعاء: 1 / 372،
وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب لااستعاذة في الصلاة: 1 / 265، وصححه ابن حبان ص
(123) من موارد الظمآن، والحاكم: 1 / 235، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 80،
والمصنف في شرح السنة: 3 / 43.
(3) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (325).
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) }
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
(103) }
{ قُلْ نَزَّلَهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { رُوحُ الْقُدُسِ } جِبْرِيلُ، { مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ } بِالصِّدْقِ، { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } أَيْ: لِيُثَبِّتَ
قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا وَيَقِينًا، { وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ } آدَمِيٌّ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا
الْبَشَرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، اسْمُهُ "بَلْعَامُ"، وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا، أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ،
فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ "بَلْعَامُ" (1) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِئُ
غُلَامًا لِبَنِي الْمُغِيرَةِ يُقَالُ لَهُ "يَعِيشُ" (2) وَكَانَ
يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
"يَعِيشُ" (3) .
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِنْ عَايَشَ
مَمْلُوكٍ كَانَ لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ
وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ أَعْجَمَ اللِّسَانِ (4) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى
غُلَامٍ رُومِيٍّ نَصْرَانِيٍّ، عَبْدٍ لِبَعْضِ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، يُقَالُ
لَهُ "جَبْرٌ"، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ (5) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيُّ كَانَ لَنَا عَبْدَانِ مِنْ
أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَسَارٌ، وَيُكَنَّى "أَبَا
فَكِيهَةَ"، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ "جَبْرٌ" وَكَانَا يَصْنَعَانِ
السُّيُوفَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ،
فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا
يَقْرَآنِ، فَيَقِفُ وَيَسْتَمِعُ.
قَالَ الضَّحَاكُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
آذَاهُ الْكَفَّارُ يَقْعُدُ إِلَيْهِمَا وَيَسْتَرْوِحُ بِكَلَامِهِمَا، فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مُحَمَّدٌ مِنْهُمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ (6) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير: 14 / 177، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم وابن مردويه بسند
ضعيف. الدر المنثور: 5 / 167، زاد المسير: 4 / 492.
(2) في الدر المنثور: "مقيس" ولعله تصحيف.
(3) أخرجه ابن جرير عن عكرمة: 14 / 178، وانظر: زاد المسير: 4 / 492.
(4) وقاله أيضا الزجاج، انظر: زاد المسير: 4 / 492.
(5) أخرجه الطبري: 14 / 178.
(6) أخرجه الطبري: 14 / 178، والواحدي في أسباب النزول ص (326)، وانظر: زاد
المسير: 4 / 493.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ: { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ }
أَيْ يَمِيلُونَ وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ، { أَعْجَمِيٌّ }
"الْأَعْجَمِيُّ" الَّذِي لَا يُفْصِحُ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ
بِالْبَادِيَةِ، وَالْعَجَمِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ
فَصِيحًا، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى
الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصِيحًا، { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }
فَصِيحٌ وَأَرَادَ بِاللِّسَانِ الْقُرْآنَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اللُّغَةُ
لِسَانٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانُوا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ أَسْلَمَ
وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ
بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ }
لَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. فَقَالَ: { إِنَّمَا يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَاذِبُونَ } لَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ"، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "وَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَاذِبُونَ"؟ قِيلَ: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ": إِخْبَارٌ
عَنْ فِعْلِهِمْ، "وهم الْكَاذِبُونَ" نَعْتٌ لَازِمٌ لَهُمْ، كَقَوْلِ
الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: كَذَبْتَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ، أَيْ: كَذَبْتَ فِي هَذَا
الْقَوْلِ، وَمِنْ عَادَتِكَ الْكَذِبُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْجَوْهَرِيُّ،
أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الْأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ الْأَشْدَقِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ
يَزْنِي؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ قُلْتُ: الْمُؤْمِنُ يَسْرِقُ؟ قَالَ:
قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قُلْتُ الْمُؤْمِنُ يَكْذِبُ؟ قَالَ: لَا". قَالَ
اللَّهُ: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ" (1) . { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَمَّارٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ
أَخَذُوهُ، وَأَبَاهُ يَاسِرًا، وَأُمَّهُ سُمَيَّةَ، وَصُهَيْبًا، وَبِلَالًا
وَخَبَّابًا، وَسَالِمًا، فَعَذَّبُوهُمْ، فَأَمَّا سُمَيَّةُ: فَإِنَّهَا
رُبِطَتْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَوُجِئَ قُبُلُهَا
__________
(1) أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص 69 بتحقيق أبو النصر شلبي، وعزاه السيوطي
في الدر المنثور: 5 / 168 لابن عساكر في تاريخه. وفيه يعلى بن الأشدق العقيلي؛ قال
أبو حاتم: ليس بشيء، ضعيف الحديث، وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه بحال، ولا
الاحتجاج به. انظر الجرح والتعديل: 9 / 303 ، المجروحين لابن حبان: 3 / 142.
بِحَرْبَةٍ
فَقُتِلَتْ، وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا فِي
الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَمَّارٌ: فَإِنَّهُ أَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا
بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: أَخْذَ بَنُو الْمُغِيرَةِ عَمَّارًا وَغَطَّوْهُ فِي بِئْرِ
مَيْمُونٍ، وَقَالُوا لَهُ: اكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ، فَتَابَعَهُمْ (2) عَلَى ذَلِكَ،
وَقَلْبُهُ كَارِهٌ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَنَّ عَمَّارًا كَفَرَ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّ عَمَّارًا مُلِئَ
إِيمَانًا مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ الْإِيمَانُ (3) بِلَحْمِهِ
وَدَمِهِ، فَأَتَى عَمَّارٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا
وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ
آلِهَتَهُمْ (4) قَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ، قَالَ مُطْمَئِنًّا
بِالْإِيمَانِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ
عَيْنَيْهِ وَقَالَ: إِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ (5) .
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، آمَنُوا فَكَتَبَ
إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْ هَاجِرُوا، فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا،
فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الطَّرِيقِ
فَكَفَرُوا كَارِهِينَ (6) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي جَبْرٍ، مَوْلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ،
أَكْرَهَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْكُفْرِ فَكَفَرَ مُكْرَهًا (7) . { وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } ثُمَّ أَسْلَمَ مَوْلَى جَبْرٍ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ
وَهَاجَرَ جَبْرٌ مَعَ سَيِّدِهِ، { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا }
أَيْ: فَتَحَ صَدْرَهُ لِلْكُفْرِ بِالْقَبُولِ وَاخْتَارَهُ، { فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى: أَنْ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ،
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ، وَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ
مُعْتَقِدٍ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ
أَفْضَلَ (8) .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ. فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ
إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ (9) .
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (326)، تفسير الطبري: 14 / 181، المستدرك: 2 /
357، الدر المنثور: 5 / 169-170.
(2) في "ب": فبايعهم.
(3) ساقط من "ب".
(4) ساقط من "ب".
(5) أخرجه الطبري: 14 / 181 ، وعبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم. انظر: الدر
المنثور: 5 / 172، القرطبي: 10 / 181، المستدرك: 2 / 357.
(6) أخرجه ابن جرير، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر. الدر
المنثور: 5 / 171.
(7) انظر: زاد المسير: 4 / 495-496.
(8) انظر: تفسير الطبري: 14 / 182، القرطبي: 10 / 181،188-190، أحكام القرآن
للجصاص: 4 / 13-14، أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1177-1179، زاد المسير: 4 /
496، تفسير ابن كثير: 2 / 589.
(9) قال الشافعي، ومالك ، وأحمد: لا يقع طلاق المكره، وهو مروي عن عمر، وعلي، وابن
عباس. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير، وابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس،
والحسن، وشريح، والقاسم، وسالم، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور. وأجازه أبو حنيفة،
فقال: طلاق المكره يلزم، لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في
الطلاق. وهذا مروي عن الشعبي، والنخعي، وأبي قلابة، والزهري، وقتادة.انظر بالتفصيل
: تفسير القرطبي: 10 / 184 ، زاد المسير: 4 / 497، أحكام القرآن للجصاص: 5 / 14 -
15 أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1181.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) }
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } لَا يُرْشِدُهُمْ. { أُولَئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ. { لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أَيِ الْمَغْبُونُونَ. { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا } عُذِّبُوا وَمُنِعُوا مِنَ
الْإِسْلَامِ، فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، { ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا } عَلَى
الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا } مِنْ
بَعْدِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالْغَفْلَةِ { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَخِي أَبِي جَهْلٍ مِنَ
الرَّضَاعَةِ، وَفِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْوَلِيدِ
بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُسَيْدٍ الثَّقَفِيِّ، فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَوْهُمْ بَعْضَ مَا
أَرَادُوا لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ
وَجَاهَدُوا (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكَفَّارِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَهُ
لَهُ عُثْمَانُ، وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَجَارَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ
وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
__________
(1) انظر: تفسير الخازن: 4 / 97. وهناك أقوال أخرى تجمع على عياش بن ربيعة بين من
نزلت الآية فيهم، وذكر بعضهم عمارا رضي الله عنه، ورده ابن عطية. وانظر: الطبري:
14 / 184، الدر المنثور: 5 / 172-173، المحرر الوجيز: 8 / 524-525، زاد المسير: 4
/ 497-498، أسباب النزول ص (237)، روح المعاني للآلوسي: 14 / 240، البحر المحيط: 5
/ 540.
(2) أخرجه الطبري عنهما: 14 / 184-185، وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن
عباس مثله. الدر المنثور: 5 / 172. وانظر: البحر المحيط: 5 / 541، زاد المسير: 4 /
498.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " فَتَنُوا " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً
كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) }
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُ نَفْسٍ تُجَادِلُ } تُخَاصِمُ وَتَحْتَجُّ، { عَنْ
نَفْسِهَا } بِمَا أَسْلَفَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، مُشْتَغِلًا بِهَا لَا
تَتَفَرَّغُ إِلَى غَيْرِهَا، { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ }
رُوِيَ أَنْ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال 203/أ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: خَوِّفْنَا،
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ وَافَيْتَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَأَتَتْ عَلَيْكَ
سَاعَاتٌ وَأَنْتَ لَا تُهِمُّكَ إِلَّا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً
لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مُنْتَخَبٌ، إِلَّا وَقَعَ
جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ:
يَا رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: الَّذِي
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ
نَفْسِهَا" (1) .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَا تَزَالُ
الْخُصُومَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُخَاصِمَ الرُّوحُ
الْجَسَدَ، فَتَقُولُ الرُّوحُ: يَا رَبِّ، لَمْ يَكُنْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا،
وَلَا رِجْلٌ أَمْشِي بِهَا، وَلَا عَيْنٌ أُبْصِرُ بِهَا. وَيَقُولُ الْجَسَدُ:
خَلَقْتَنِي كَالْخَشَبِ لَيْسَتْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا، وَلَا رِجْلٌ أَمْشِي
بِهَا، وَلَا عَيْنٌ أُبْصِرُ بِهَا، فَجَاءَ هَذَا كَشُعَاعِ النُّورِ، فَبِهِ
نَطَقَ لِسَانِي، وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي، وَمَشَتْ رِجْلِي. فَيَضْرِبُ اللَّهُ
لَهُمَا مَثَلًا أَعْمَى وَمُقْعَدٌ، دَخَلَا حَائِطًا فِيهِ ثِمَارٌ،
فَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ الثَّمَرَ، وَالْمُقْعَدُ لَا يَنَالُهُ، فَحَمْلَ
الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ فَأَصَابَا مِنَ الثَّمَرِ فَعَلَيْهِمَا الْعَذَابُ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً }
يَعْنِي: مَكَّةَ، كَانَتْ آمِنَةً، لَا يُهَاجُ أَهْلُهَا وَلَا يُغَارُ
عَلَيْهَا، { مُطْمَئِنَّةً } قَارَّةً بِأَهْلِهَا، لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى
الِانْتِقَالِ لِلِانْتِجَاعِ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَائِرُ الْعَرَبِ، {
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } يُحْمَلُ إِلَيْهَا مِنَ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نَظِيرُهُ: "يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ
شَيْءٍ" (الْقَصَصِ-57) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: (5 / 173) لابن المبارك، وابن أبي شيبة، وأحمد
في "الزهد" وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن كعب الأحبار.
وانظر: زاد المسير: 4 / 499، روح المعاني: 14 / 240-241.
(2) قال الآلوسي: (14 / 241): "والظاهر هو عدم صحة هذا الخبر عن الحبر -ابن
عباس- وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر. والحق أنه ليس فيه إلا
الدلالة على عدم الاهتمام. وقال ابن عطية: (8 / 525)، وظاهر الآية: أن كل نفس
تجادل، مؤمنة كانت أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم الكفر شهدت عليهم
الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون "ولا يؤذن لهم
فيعتذرون" (المرسلات-36) فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن. وقالت فرقة:
قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي، نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج، وإنما هو
مجرد رغبة".
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } جَمْعُ النِّعْمَةِ، وَقِيلَ: جَمْعُ نَعْمَاءَ
مِثْلِ بَأْسَاءَ وَأَبْؤُسٍ، { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ }
ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ، وَقَطَعَتِ الْعَرَبُ عَنْهُمُ
الْمِيرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
جَهِدُوا فَأَكَلُوا الْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ، وَالْجِيَفَ، وَالْكِلَابَ
الْمَيِّتَةَ، وَالْعِهْنَ، وَهُوَ الْوَبَرُ يُعَالَجُ بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ
أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى شِبْهَ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ،
ثُمَّ إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالُوا: هَذَا عَادَيْتَ الرِّجَالَ، فَمَا بَالُ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ؟ فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلنَّاسِ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بَعْدُ مُشْرِكُونَ. وَذَكَرَ
اللِّبَاسَ لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهُزَالِ وَالشُّحُوبِ وَتَغَيُّرِ
ظَاهِرِهِمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ كَاللِّبَاسِ لَهُمْ {
وَالْخَوْفِ } يَعْنِي: بُعُوثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ. { بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }
{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ
وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا
وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ
هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) }
{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ } مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } {
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } (1) . { إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } (2) . قَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ } أَيْ: لَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمْ، أَوْ
__________
(1) +انظر فيما سبق، تفسير الآية (172) من سورة البقرة: 1 / 182-183.
(2) انظر فيما سبق، تفسير الآية (173) من سورة البقرة: 1 / 183-184.
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
لِأَجْلِ
وَصْفِكُمُ الْكَذِبَ، أَيْ: أَنَّكُمْ تُحِلُّونَ وَتُحَرِّمُونَ لِأَجْلِ
الْكَذِبِ لَا لِغَيْرِهِ، { هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } يَعْنِي
الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ، { لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ }
فَتَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا، { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) }
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (120) }
{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ } يَعْنِي: الَّذِي هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَوْ لَهُمْ
مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فِي الْآخِرَةِ. {
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ }
يَعْنِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ"
(الْأَنْعَامِ-146) الْآيَةَ (1) .
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، { وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ. { ثُمَّ إِنَّ
رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } مَعْنَى الْإِصْلَاحِ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ،
{ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا } أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْجَهَالَةِ، { لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ } قَوْلُهُ تَعَالَى" { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأُمَّةُ، مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، أَيْ: كَانَ مُعْلِّمًا
لِلْخَيْرِ، يَأْتَمُّ بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ
الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ مَا يَجْتَمِعُ فِي أُمَّةٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مُؤْمِنًا (2) وَحْدَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَتَوَلَّوْنَهُ
وَيَرْضَوْنَهُ.
{ قَانِتًا لِلَّهِ } مُطِيعًا لَهُ، وَقِيلَ: قَائِمًا بِأَوَامِرِ اللَّهِ
تَعَالَى، { حَنِيفًا } مُسْلِمًا مُسْتَقِيمًا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَقِيلَ: مُخْلِصًا. { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
__________
(1) انظر تفسير الآية (146) من سورة الأنعام: 3 / 199.
(2) في "ب": أمة.
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) }
{ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ } اخْتَارَهُ، { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } أَيْ: إِلَى دِينِ الْحَقِّ. { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً } يَعْنِي الرِّسَالَةَ وَالْخُلَّةَ وَقِيلَ: لِسَانَ الصِّدْقِ
وَالثَّنَاءَ والحسن.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي الصَّلَوَاتِ فِي قَوْلِ هَذِهِ
الْأُمَّةِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا
صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَقِيلَ: أَوْلَادًا أَبْرَارًا عَلَى الْكِبَرِ.
وَقِيلَ: الْقَبُولُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ.
{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } مَعَ آبَائِهِ الصَّالِحِينَ
فِي الْجَنَّةِ. وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهُ: وَآتَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. { ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يَا مُحَمَّدُ، { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا } حَاجًّا مُسْلِمًا، (1) { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وَقَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأمور
بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَا نُسِخَ فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَا لَمْ يُنْسَخْ
صَارَ شَرْعًا لَهُ (2) . قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ } قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ
لَعْنَةً عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: خَالَفُوا فِيهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعْظِيمَ السَّبْتِ وَتَحْرِيمَهُ إِلَّا
عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: خَالَفُوا فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ
أَعْظَمُ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ سَبَتَ يَوْمَ السَّبْتِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَاخْتَارُوا تَعْظِيمَ غَيْرِ مَا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ.
__________
(1) وقال الطبري: مسلما على الدين الذي كان عليه إبراهيم، بريئا من الأوثان
والأنداد التي يعبدها قومك، كما كان إبراهيم تبرأ منها. تفسير الطبري: 14 / 193.
(2) انظر بالتفصيل: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 5 / 722 وما بعدها، تفسير القرطبي:
10 / 198.
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
قَالَ
الْكَلْبِيُّ: أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْجُمُعَةِ، فَقَالَ:
تَفَرَّغُوا لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا فَاعْبُدُوهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، وَلَا تَعْمَلُوا فِيهِ لِصَنْعَتِكُمْ، وَسِتَّةَ أَيَّامٍ
لِصِنَاعَتِكُمْ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي
فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَ السَّبْتِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ
عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ثُمَّ جَاءَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالُوا لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ
بَعْدَ عِيدِنَا -يَعْنُونَ الْيَهُودَ-فَاتَّخَذُوا الْأَحَدَ فَأَعْطَى اللَّهُ
الْجُمُعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَقَبِلُوهَا وَبُورِكَ لَهُمْ فِيهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّشٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 203/ب قَالَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ
السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ
عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ
تَبَعٌ، فَالْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا
فِيهِ } [قَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ هُمُ] (2) الْيَهُودُ،
اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) }
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ } بِالْقُرْآنِ، { وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ } يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ
وَالتَّرْهِيبِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ اللَّيِّنُ الرَّقِيقُ مِنْ غَيْرِ غِلْظَةٍ وَلَا
تَعْنِيفٍ.
{ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَخَاصِمْهُمْ وَنَاظِرْهُمْ
بِالْخُصُومَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيْ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ، وَلَا
تُقَصِّرْ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ، نَسَخَتْهَا
آيَةُ الْقِتَالِ (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة، باب فرض الجمعة: 2 / 354، ومسلم في باب هداية هذه
الأمة ليوم الجمعة، برقم (855): 2 / 586. والمصنف في شرح السنة: 4 / 200.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) هذه الآية الكريمة نزلت بمكة المكرمة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، وأمر
الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو إلى دين الله وشرعه
بتلطف ولين، دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة.
فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل:
إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة، والله
أعلم. تفسير القرطبي: 10 / 200، وأصل الكلام لابن عطية في المحرر الوجيز: 8 / 546،
وانظر فيما سبق تفسير الآية (3) من سورة الحجر: 4 / 368 تعليق (6) و3 / 373 تعليق
(2).
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ }
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ
صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) }
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } هَذِهِ
الْآيَاتُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ (1) وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلَاهُمْ يَوْمَ
أُحُدٍ، مِنْ تَبْقِيرِ الْبُطُونِ، وَالْمُثْلَةِ السَّيِّئَةِ -حَتَّى لَمَّ
يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مُثِّلَ بِهِ غَيْرَ حَنْظَلَةَ
بْنِ الرَّاهِبِ فَإِنَّ أَبَاهُ أَبَا عَامِرٍ الرَّاهِبَ كَانَ مَعَ أَبِي
سُفْيَانَ، فَتَرَكُوا حَنْظَلَةَ لِذَلِكَ-فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ رَأَوْا
ذَلِكَ: لَئِنْ أَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَنَزِيدَنَّ عَلَى صَنِيعِهِمْ،
وَلَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ
بِأَحَدٍ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ جَدَعُوا أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ،
وَقَطَعُوا مَذَاكِيرَهُ وَبَقَرُوا بَطْنَهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
قِطْعَةً مِنْ كَبِدِهِ فَمَضَغَتْهَا، ثُمَّ اسْتَرْطَبَتْهَا لِتَأْكُلَهَا
فَلَمْ تَلْبَثْ فِي بَطْنِهَا حَتَّى رَمَتْ بِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا لَوْ أَكَلَتْهُ لَمْ
تَدْخُلِ النَّارَ أَبَدًا، حَمْزَةُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ
يُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ النَّارَ فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِ حَمْزَةَ، وَنَظَرَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ
يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ قَطُّ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ
فَإِنَّكَ مَا عَلِمْتُ مَا كُنْتَ إِلَّا فَاعِلًا لِلْخَيْرَاتِ، وَصُولًا
لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنٌ مِنْ بَعْدِكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَكَ
حَتَّى تُحْشَرَ مِنْ أَفْوَاجٍ شَتَّى، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنِي
اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ"، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا } الْآيَةَ. { وَلَئِنْ
صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } أَيْ: وَلَئِنْ عَفَوْتُمْ لَهُوَ
خَيْرٌ لِلْعَافِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ
نَصْبِرُ، وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ (2) .
__________
(1) قال ابن عطية: (4 / 546): أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن
التمثيل بحمزة، رضي الله عنه، في يوم أحد. ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتب
السير، وذهب النحاس إلى أنها مكية. وانظر: تفسير القرطبي: 10 / 201.
(2) هذه الرواية ساقها الواحدي في أسباب النزول ص (329-330) عن المفسرين ولم يذكر
لها إسنادا، وكذلك فعل الخازن في تفسيره: (4 / 131)، وفي هذا السياق ما هو صحيح
ومنه ما هو ضعيف؛ وإليك بعض الروايات في ذلك: عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد
أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا بهم،
فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم. قال: فلما كان يوم فتح
مكة فأنزل الله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو
خير للصابرين"، فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفوا عن القوم إلا أربعة". أخرجه الترمذي في التفسير: 8
/ 559-560 وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه ابن حبان، كما في موارد الظمآن ص
(411)، وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 359 و446، ووافقه الذهبي، والطبراني في
الكبير: 3 / 157، وعبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند: 5 / 135، وعزاه
السيوطي للنسائي، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وأشار الحافظ
ابن حجر إلى هذه الرواية وقال في الفتح (7 / 372): "وهذه طرق يقوي بعضها
بعضا". وروى البزار والطبراني بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى حمزة قد مثل به قال: رحمة الله عليك.. -كما
جاء في سياق المصنف- انظر: فتح الباري: 7 / 371، وراجع: طبقات ابن سعد: 3 / 12-13،
سيرة ابن هشام: 2 / 91، 95-96، إمتاع الأسماع للمقريزي ص (153)، أسباب النزول للواحدي
ص (329-331) وفيه سياق الروايات كلها، وكذلك الدر المنثور: 5 / 178-179، تفسير ابن
كثير: 2 / 592.
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَاكُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ حِينَ أُمِرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ وَمُنِعَ
مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ
وَأَهْلَهُ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَأُمِرُوا بِالْجِهَادِ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
(1) .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ: الْآيَةُ
مُحْكَمَةٌ نَزَلَتْ فِي مَنْ ظُلِمَ بِظُلَامَةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ الظَّالِمُ مِنْهُ، أُمِرَ
بِالْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ، وَمُنِعَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ (2) . ثُمَّ قَالَ
لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا
تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) }
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } أَيْ: بِمَعُونَةِ اللَّهِ
وَتَوْفِيقِهِ، { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، { وَلَا
تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } أَيْ: فِيمَا فَعَلُوا مِنَ الْأَفَاعِيلِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَاهُنَا وَفِي النَّمْلِ { ضِيقٍ } بِكَسْرِ الضَّادِ
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الضَّادِ، قَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُمَا
لُغَتَانِ مِثْلُ رِطْلٍ وَرَطْلٍ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: "الضَّيْقُ" بِالْفَتْحِ: الْغَمُّ،
وَبِالْكَسْرِ: الشِّدَّةُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الضِّيقُ" بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ
الْمَعَاشِ وَفِي الْمَسَاكِنِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ وَالصَّدْرِ
فَإِنَّهُ بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الضَّيْقُ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ،
وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، فَعَلَى هَذَا هُوَ صِفَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكُنْ
فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ. { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا }
الْمَنَاهِيَ، { وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ.
__________
(1) أخرجه الطبري عن ابن عباس: 14 / 196، وانظر: الدر المنثور: 5 / 180، زاد
المسير: 4 / 508.
(2) الطبري: 14 / 197، القرطبي: 10 / 201، المحرر الوجيز: 8 / 548، زاد المسير: 4
/ 508. قال الطبري -رحمه الله- والصواب من القول في ذلك: إن الله تعالى ذكره أمر
من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به، إن اختار
عقوبته، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصبر، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل،
والتأويلات- التي ذكرناها عمن ذكروها عنه -محتملتها الآية كلها، فإذا كان ذلك
كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أي ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا
الحكم بها.. وأن يقال: هي آية محكمة أمر الله -تعالى ذكره- عباده أن لا يتجاوزوا
فيما وجب لهم قبل غيرهم من حق مال أو نفس، الحق الذي جعله الله لهم إلى غيره،
وأنها غير منسوخة، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأن للقول بأنها محكمة وجها صحيحا
مفهوما".
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً (1) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ
آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } سُبْحَانَ اللَّهِ: تَنْزِيهُ
اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَوَصْفُهُ بِالْبَرَاءَةِ مَنْ كُلِّ نَقْصٍ
عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَيَكُونُ "سُبْحَانَ" بِمَعْنَى
التَّعَجُّبِ، "أَسْرَى بِعَبْدِهِ" أَيْ: سَيَّرَهُ، وَكَذَلِكَ سَرَى
بِهِ، وَالْعَبْدُ هُوَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ مَسْجِدِ
مَكَّةَ، رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ
أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ" (2) فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: عُرِجَ بِهِ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ (3)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
__________
(1) هي مكية في قول الجماعة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، فيما أخرجه عنه:
النحاس، وابن مردويه، قال: "نزلت سورة بني إسرائيل بمكة". وقال بعضهم:
فيها مدني، وهو مروي أيضا عن ابن عباس، حيث قال: هي مكية إلا ثمان آيات. انظر:
الدر المنثور: 5 / 181، زاد المسير: 5 / 3.
(2) وهو مروي في الصحيحين وغيرهما، وسيأتي تخريجه قريبا.
(3) أخرجه ابن إسحاق في السيرة قال: حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح
باذان، عن أم هانئ بنت أبي طالب. انظر سيرة ابن هشام: 1 / 402-403، والطبري في
التفسير: 15 / 2. قال الحافظ ابن كثير: (3 / 23): الكلبي متروك بمرة ساقط. وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد: (1 / 76): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد
الأعلى بن أبي المساور، متروك كذاب".
أَيْ:
مِنَ الْحَرَمِ (1) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ،
وَيُقَالُ: كَانَ فِي رَجَبٍ. وَقِيلَ: كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .
{ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ أَقْصَى
لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ. وَقِيلَ: لِبُعْدِهِ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
{ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بِالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهُ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ
وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ، وَمِنْهُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ.
{ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِنَا، وَقَدْ رَأَى هُنَاكَ
الْأَنْبِيَاءَ وَالْآيَاتِ الْكُبْرَى.
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ذَكَرَ "السَّمِيعَ"
لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْمُجِيبُ لِدُعَائِهِ، وَذَكَرَ
"الْبَصِيرَ" لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْحَافِظُ لَهُ فِي ظُلْمَةِ
اللَّيْلِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا
فُقِدَ جَسَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
أَسْرَى بِرُوحِهِ (3) .
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ،
وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ (4) .
__________
(1) انظر زاد المسير: 5 / 4-5، تفسير الطبري: 15 / 2.
(2) انظر الروايات في زمن الإسراء، في: الدر المنثور: 5 / 209-211، إمتاع الأسماع
للمقريزي: 1 / 29، فتح الباري: 7 / 203، تفسير القرطبي: 10 / 210.
(3) أخرجه ابن إسحاق في السيرة: 1 / 399-400، والطبري: 15 / 16 عن عائشة ومعاوية.
وانظر: إمتاع الأسماع 1 / 30، الروض الأنف للسهيلي: 1 / 243-244، تفسير ابن كثير:
3 / 24، الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 1 / 245-246. وقد تعقب الطبري رحمه الله هذا
الرأي ورده ردا شديدا فقال: (15 / 16-17): "والصواب من القول في ذلك عندنا أن
يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الله حمله على البراق حين أتاه به،
وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات. ولا معنى لقول
من قال: أسري بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون
ذلك دليلا على نبوته، ولا حجة على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل
الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي
الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف
ما هو على مسيرة شهر أو أقل! وبعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده،
ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى
غيره...". وانظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض: 1 / 252-256.
(4) وجمع الحافظ ابن كثير رحمه الله روايات أحاديث الإسراء في أول تفسير السورة: 3
/ 3-24 وقال: "وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث، صحيحها وحسنها
وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة وإن اختلفت عبارات الرواة في
أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه؛ فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم
السلام، ومن جعل من الناس -كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات
متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل عل مطلب. وقد صرح بعضهم من
المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة
إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك وأنه قد
ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو
تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به أمته، ولنقله
الناس على التعدد والتكرر".
أَخْبَرَنَا
أَبُو عُمَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ (حَ) (1) قَالَ الْبُخَارِيُّ:
وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ الْعُصْفُرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَهِشَامٌ. قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ (حَ) عَنْ مَالِكِ
بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، (حَ) قَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (حَ) ، وَأَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
عَبْدُ الْغَافِرِ بن محمد 204/أ [الْفَارِسِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدِ] (2) بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -[دَخْلَ حَدِيثُ
بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ (3) -قَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] (4) فُرِّجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا
بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَّرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ
زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا،
فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ".
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ صَعْصَعَةَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا
فِي الْحَطِيمِ،
__________
(1) إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، فإن المحدثين يكتبون عند الانتقال من إسناد
إلى إسناد آخر ما صورته (ح)، وهي حاء مفردة مهملة، إشارة إلى التحويل من سند إلى
سند آخر... وبعضهم يقول إذا وصل إليها (الحديث)... ومنهم من يقول إذا انتهى إليها
في القراءة: (حا) ويمر. وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: إنها حاء من حائل، أي:
تحول بين الإسنادين، قال: ولا يلفظ بشيء عند الانتهاء إليها في القراءة، وأنكر
كونها من "الحديث"، وغير ذلك. واختار ابن الصلاح أن يقول القارئ عند
الانتهاء إليها: (حا) ويمر، فإنه أحوط الوجوه وأعدلها. انظر: علوم الحديث لابن
الصلاح ص (203-204) بتحقيق الشيخ الدكتور نور الدين عتر.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) إذا روى الراوي الحديث عن شيخين فأكثر، وبين ألفاظهم تباين، فإن ركب السياق من
الجميع -كما فعل المصنف هنا- وساق الحديث بتمامه فإن هذا سائغ، فإن الأئمة تلقوه
بالقبول. وقد بين المصنف ما في كل رواية من زيادة أو نقص. انظر: الباعث الحثيث
لابن كثير: ص (123-124)، فتح الباري لابن حجر: 8 / 456-457.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَرُبَّمَا
قَالَ فِي الْحِجْرِ (1) بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ"، وَذَكَرَ بين
رجلين (2) "فأتيت بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ
مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ (3) وَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ
ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ" (4) .
وَقَالَ سَعِيدٌ وَهِشَامٌ: ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ
إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أُوتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ
طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى
طَرَفِهِ، فَرَكِبْتُهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا
الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ
وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ
الْفِطْرَةَ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا
فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ:
مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا
بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا
آدَمُ، فَقَالَ لِي: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ
وَالِابْنِ الصَّالِحِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ
قَاعِدٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ
قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ:
مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ
وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ،
وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ
يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى.
ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ
هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ
أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ
جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا
__________
(1) هو شك من قتادة. والمراد بالحطيم هنا: الحجر. انظر: فتح الباري: 7 / 204.
(2) قال ابن حجر في الموضع السابق: ووقع في بدء الخلق من صحيح البخاري بلفظ
"وذكر بين الرجلين" وهو مختصر، وقد أوضحته رواية مسلم من طريق سعيد عن
قتادة بلفظ: "إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين فأتيت، فانطلق
بي".. والمراد بالرجلين حمزة وجعفر، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نائما بينهما.
(3) "مراق البطن": بفتح الميم وتخفيف الراء وتشديد القاف، هو: ما أسفل
من البطن ورق من جلده، وأصله مراقق، وسميت بذلك لأنها موضع رقة الجلد. انظر: فتح
الباري: 6 / 308.
(4) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (7 / 304-305): "وقد استنكر بعضهم وقوع شق
الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد. ولا إنكار في ذلك،
فقد تواردت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في
"الدلائل"، ولكل منهما حكمة؛ فالأول وقع فيه من الزيادة -كما عند مسلم
من حديث أنس- "فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك"، وكان هذا في زمن
الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. ثم وقع شق الصدر عند البعث
زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحي إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير ثم وقع
شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة. ويحتمل أن تكون الحكمة في
هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قارن بـ: الشفا للقاضي عياض: 1 / 254-255.
بِيَحْيَى
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى
وَعِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا مَرْحَبًا
بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ
هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ
أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ
جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ
شَطْرَ الْحُسْنِ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ
فَرَدَّ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ:
وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ
الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، قَالَ هَذَا
إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ:
مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ:
وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ
الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ
فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا
بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ:
وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ
جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ
عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ: مَا
يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي (1) .
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ:
وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ
الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ
إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ،
ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، فَرُفِعَ
لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلَتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ
الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا
خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ.
__________
(1) قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم
منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من
الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية
لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان
من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. انظر: فتح الباري: 7 / 211 شرح
السنة: 13 / 342.
وَقَالَ
ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى
الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ
مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ
الْفِيَلَةِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشَّى
تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ
حُسْنِهَا، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ،
وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: أَمَّا
الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ
وَالْفُرَاتُ.
وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى
أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ
التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ
خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ:
حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنْ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.
قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا
مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ
عَشْرٌ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَمَنْ
هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا
كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ
تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ. فَقُلْتُ: سَأَلْتُ
رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلَمَّا
جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي،
ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ (1) وإذا
ترابها 204/ب الْمِسْكُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ (2) أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ، كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى فِيهِ
صَرِيفُ الْأَقْلَامِ (3) .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً (4) .
__________
(1) قباب اللؤلؤ. والجنابذ جمع جنبذة، وهي القبة. (شرح السنة: 13 / 347).
(2) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وروايته عن أبي حبة الأنصاري منقطعة، لأنه
استشهد بأحد قبل مولد أبي بكر بدهر. فتح الباري: 1 / 462.
(3) أي: ما يكتبه الملائكة من أقضية الله عز وجل، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ.
شرح السنة: 13 / 348.
(4) هذا الحديث برواياته وطرقه التي ساقها المصنف، أخرجه البخاري في الصلاة باب
كيف فرضت الصلاة في الإسراء: 1 / 458-459، وفي بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: 6 /
302-303، وفي مناقب الأنصار، باب المعراج: 7 / 201-202 وفي مواضع أخرى. وأخرجه
مسلم في الإيمان، باب الإسراء برقم (162-164): 1 / 145-151، والمصنف في شرح السنة:
13 / 336-341، 343-344، 345-347.
وَرَوَى
مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَبِمُحْمِدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ
أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَارْفَضَّ عَرَقًا (1) .
وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ
جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ فَخَرَقَ بِهَا الْحَجَرَ وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ (2) .
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى، قَالَ: فَنَعَتَهُ
فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ -حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ-رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ
مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ". قَالَ: ولقيت عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ
مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي: الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ
وَلَدِهِ به، قال: وأتيت بِإِنَاءَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ
خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ،
فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ [أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ] (3) أَمَا إِنَّكَ
لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ" (4) .
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ"، قَالَ: هِيَ رُؤْيَا
عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ
بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي
الْقُرْآنِ قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (5) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي
سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الإسراء: 8 / 564، وقال: "هذا حديث حسن غريب
لا نعرفه إلا من حديث عبد الرزاق، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 3 / 164،
والطبري: 15 / 15، وزاد السيوطي نسبته لابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي. انظر:
الدر المنثور: 5 / 210.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير: 8 / 565، وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه ابن حبان ص
(39) من موارد الظمآن. وأخرجه البزار في مسنده وقال: "لا نعلم رواه عن الزبير
بن جنادة إلا أبو نميلة، ولا نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة". انظر: تفسير ابن
كثير: 4 / 11.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب
مريم..) 6 / 476، وفي مواضع أخرى. ومسلم في الإيمان، باب الإسراء برقم (168): 1 /
154، والمصنف في شرح السنة: 13 / 352.
(5) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب المعراج: 7 / 203، وفي التفسير، وفي
القدر، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 348.
أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ
قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ
أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ
آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَلَمْ يَرَهُمْ
حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ
وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا
تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ
بِئْرِ زَمْزَمَ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَتِّهِ حَتَّى
فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ.
وَسَاقَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ بِقِصَّتِهِ. فَقَالَ: فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ
الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ
عُنْصُرُهُمَا وَاحِدٌ، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا
هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرْبَ يَدَهُ
فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا
الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: ثُمَّ
عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ: قَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ
أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا
يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا
الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ
أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَقَالَ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى
صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي
عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ
قُلُوبًا وَأَجْسَادًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ
عَنْكَ رَبُّكَ، كُلُّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ،
فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتَيْ ضُعَفَاءُ
أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا
فَقَالَ الْجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:
إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ فَقَالَ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ
إِلَيْهِ"، قَالَ: فَاهْبِطْ بِسْمِ اللَّهِ، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ
الْإِيلِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ (1) .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْحَدِيثِ مَا وَجَدْنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلِمُسْلِمٍ فِي
كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا هَذَا، وَأَحَالَ
الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ
فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ
عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِنَحْوٍ مِنَ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما جاء في قوله عز وجل: (وكلم الله موسى
تكليما): 13 / 477-479، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء، برقم (162): 1 / 148.
وَفِيهِ
أَيْضًا: "أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى". وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ
أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي
لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ، أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ: قَالَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ
قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ
رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ
الْهِجْرَةِ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ (2) "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ"
(الْفَتْحِ-27) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنَّ
قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي، قَالَ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّدِيقُ
(3) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي
فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ
مُكَذِّبِيَّ فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ
مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ
كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ
بِيَ اللَّيْلَةَ قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ:
ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا قَالَ: نَعَمْ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ
أَنَّهُ يُنْكِرُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ قَالَ: أَتُحَدِّثُ قَوْمَكَ
مَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ
بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا، قَالَ: فَانْفَضَّتْ إليه المجالس فجاؤوا حَتَّى جَلَسُوا
إِلَيْهِمَا، قَالَ: فَحَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي قَالَ: نَعَمْ إِنِّي
أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ
قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ
مُتَعَجِّبًا، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَسَعَى
رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ
يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ:
أَوَقَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قال: نعم، 205/أ قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ
صَدَقَ قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي
لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا
هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ
رَوْحَةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق: 6 / 313، ومسلم في الإيمان، باب معنى قول الله عز
وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى): 1 / 160-161.
(2) انظر ما قيل في ذلك كله بالتفصيل: أعلام الحديث للخطابي: 4 / 1254-1257، فتح
الباري: 13 / 479-487.
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى": 1 / 215، والطبراني في
"الأوسط" وسعيد بن منصور، وابن مردويه، عن أبي هريرة. انظر: الدر
المنثور: 5 / 221-222.
قَالَ:
وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، فَقَالُوا: هَلْ
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَذَهَبْتُ
أَنْعَتُ وَأَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ [بَعْضُ
النَّعْتِ] قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ
دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّ الْمَسْجِدَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ
الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ ثُمَّ قَالُوا: يَا
مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا هِيَ أَهَمُّ إِلَيْنَا فَهَلْ لَقِيتَ
مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَهِيَ
بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ وَفِي
رِحَالِهِمْ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ فَعَطِشْتُ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُهُ ثُمَّ
وَضَعْتُهُ كَمَا كَانَ فَسَلُوهُمْ هَلْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْقَدَحِ حِينَ
رَجَعُوا إِلَيْهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ آيَةٌ قَالَ: وَمَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي
فُلَانٍ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ رَاكِبَانِ قَعُودًا لَهُمَا بِذِي طَوَى فَنَفَرَ
بَعِيرُهُمَا مِنِّي فَرَمَى بِفُلَانٍ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فَسَلُوهُمَا عَنْ
ذَلِكَ قَالُوا: وَهَذِهِ آيَةٌ قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا نَحْنُ؟
قَالَ: مَرَرْتُ بِهَا بِالتَّنْعِيمِ قَالُوا: فَمَا عِدَّتُهَا وَأَحْمَالُهَا
وَهَيْئَتُهَا وَمَنْ فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ هَيْئَتُهَا كَذَا وَكَذَا وَفِيهَا
فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ
مَخِيطَتَانِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالُوا: وَهَذِهِ
آيَةٌ ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ وَهُمْ يَقُولُونَ
وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَّ مُحَمَّدٌ شَيْئًا وَبَيَّنَهُ حَتَّى أَتَوْا كَدَى
فَجَلَسُوا عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ
فَيُكَذِّبُونَهُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ
طَلَعَتْ وَقَالَ آخَرُ: وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْإِبِلُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا
بَعِيرٌ أَوْرَقُ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَمَا قَالَ لَهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا
"وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ" (1) .
أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَجَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنْبَأَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ
مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا
فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي
أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ
وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ
يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا
عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ
الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ
صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ-فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا
فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ
النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي
بِالسَّلَامِ" (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 1 / 309، والنسائي في تفسيره: 1 / 646، والبزار،
والطبراني، وابن أبي شيبة، وابن مردويه، وأبو نعيم في "الدلائل" والضياء
في "المختارة"، وابن عساكر، بسند صحيح. انظر: مجمع الزوائد: 1 / 64-65،
الدر المنثور: 5 / 222، وتفسير ابن كثير: 3 / 16-17.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال برقم (172): 1
/ 156-157. وانظر: شرح السنة: 13 / 353.
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا
تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ
إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
كَبِيرًا (4) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا } بِأَنْ لَا { تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا }
رَبًّا وَكَفِيلًا.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "لَا يَتَّخِذُوا" بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ
عَنْهُمْ وَالْآخَرُونَ: بِالتَّاءِ يَعْنِي: قُلْنَا لَهُمْ لَا تَتَّخِذُوا. {
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا نِدَاءٌ يَعْنِي: يَا
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا، { مَعَ نُوحٍ } فِي السَّفِينَةِ فَأَنْجَيْنَاهُمْ
مِنَ الطُّوفَانِ، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } كَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا أَوْ شَرِبَ شَرَابًا أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا
قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا (1) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ }
الْآيَاتِ.
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ
عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا
وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسٍ
__________
(1) أخرجه ابن جرير: 15 / 19 عن سلمان، ومجاهد، وقتادة وغيرهما، وصححه الحاكم على
شرط الشيخين: 2 / 360 وذكر السيوطي جملة أخبار في ذلك، انظر: الدر المنثور: 5 /
236-237، وأخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله ليرضى عن العبد أن
يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها". وفي البخاري عن أبي هريرة عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في حديث الشفاعة- قال: "أنا سيد
ولد آدم يوم القيامة... -وفيه-: فيأنون نوحا فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل
إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، فاشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث
بكماله.
(2) أخرجه الطبري، انظر: التفسير: 15 / 22-43، تاريخ الطبري: 1 / 532-557، الدر
المنثور: 5 / 243-244. وهذه الروايات الكثيرة التي ساقها المصنف رحمه الله في
هؤلاء المسلطين على بني إسرائيل، من الإسرائيليات والموضوعات، وفيها من العجائب
والغرائب والمبالغات ما لا يصدق، وفيها ما يحتمل الصدق أيضا، وقد نقل ابن جرير
كثيرا منها عن ابن إسحاق، وواضح أن ابن إسحاق يذكر صراحة اسم أهل الكتاب، وأنهم
يقولون كذا... أو عندهم كذا...، ونحن في غنية عن هذه الروايات جميعها. ونضع هنا
كلمة قيمة للحافظ ابن كثير-رحمه الله- تعقيبا على هذه الروايات، قال: "وقد
اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم: من هم؟ فعن ابن عباس
وقتادة،: أنه "جالوت" وجنوده.. وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل
"سنجاريب" وجنوده. وعنه أيضا: أنه "بختنصر" ملك بابل. وقد ذكر
ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أن ملك
البلاد...". ثم قال ابن كثير: "وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثا
أسنده عن حذيفة مرفوعا مطولا -وهو الحديث الذي ساقه البغوي هنا- وهو حديث موضوع لا
محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث. والعجب كل العجب، كيف راج
عليه مع جلالة قدره وإمامته! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي -رحمه
الله- بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب". ثم قال مشيرا إلى سائر
الروايات الأخرى: "وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، ولم أر تطويل
الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع، من وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن
يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية
عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله
عنهم: أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم، وسلك خلال
بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا
وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير بسنده عن سعيد بن المسيب
يقول: ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دما
يغلي على كبا، فسألهم ما هذا الدم.. فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين
وغيرهم فسكن، وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم
وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه منهم أسرى من أبناء الأنبياء
وغيرهم. وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز
كتابته وروايته، والله أعلم". وانظر أيضا: الإسرائيليات والموضوعات للشيخ
محمد أبو شهبة ص (327-334).
"بُخْتُنَصَّرَ"،
وَكَانَ اللَّهُ مَلَّكَهُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا وَفَتَحَهَا وَقَتَلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعِينَ أَلْفًا ثُمَّ سَبَى أَهْلَهَا
[وَالْأَبْنَاءَ] (1) وَسَلْبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا
سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِائَةَ أَلْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِيٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَظِيمًا؟ قَالَ: أَجَلْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ
بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَاقُوتَ وَزَبَرْجَدَ، وَكَانَ عُمُدُهُ
ذَهَبًا، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَسَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ يَأْتُونَهُ
بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَسَارَ بِهَا بُخْتُنَصَّرُ حَتَّى
نَزَلَ بَابِلَ فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي يَدِهِ مِائَةَ سَنَةٍ
يَسْتَعْبِدُهُمُ الْمَجُوسُ وَأَبْنَاءُ الْمَجُوسِ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ
إِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ فَأَوْحَى إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسٍ يُقَالُ
لَهُ "كُورَشَ" وَكَانَ مُؤْمِنًا أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ
لِيَسْتَنْقِذَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَارَ كُورَشُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَخَذَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهَا إِلَيْهِ فَأَقَامَ بَنُو
إِسْرَائِيلَ بِهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ إِنَّهُمْ
عَادُوا فِي الْمَعَاصِي فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا يُقَالُ لَهُ
"أَنْطَانِيُوسُ" فَغَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَاهُمْ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فَسَبَى أَهْلَهَا وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَالَ لَهُمْ يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ عُدْتُمْ فِي الْمَعَاصِي عُدْنَا عَلَيْكُمْ ثَانِيًا
[بِالسَّبْيِ] (2) فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ رُومِيَّةَ
يُقَالُ لَهُ "فَاقِسُ بْنُ أَسْتَيَانُوسَ"، فَغَزَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ فَسَبَاهُمْ وَسَبَى حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَحْرَقَ بَيْتَ
الْمُقَدَّسِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا
مِنْ صِفَةِ حُلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَرُدُّهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَهُوَ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةُ سَفِينَةٍ يَرْمِي بِهَا عَلَى يَافَا
حَتَّى تُنْقَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِهَا يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخَرِينَ".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ
وَالذُّنُوبُ وَكَانَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مُتَجَاوِزًا عَنْهُمْ مُحْسِنًا
إِلَيْهِمْ وَكَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِهِمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ كَمَا
أَخْبَرَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ مَلِكًا مِنْهُمْ كَانَ
يُدْعَى "صَدِيقَةُ" (3) وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا مَلَّكَ
الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعَثَ مَعَهُ نَبِيًّا يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ لَا
يُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ إِنَّمَا يُؤَمَرُونَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ
وَالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا.
فَلَمَّا مَلَكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بَعَثَ اللَّهُ مَعَهُ "شِعْيَاءَ بْنَ
أَصْفِيَا" وَذَلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَ"شَعْيَاءُ" هُوَ الَّذِي بَشَّرَ بِعِيسَى
وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَقَالَ: أَبْشِرِي أُورْشَلِيمُ، الْآنَ
يَأْتِيكِ رَاكِبُ الْحِمَارِ وَمِنْ بَعْدِهِ صَاحِبُ الْبَعِيرِ فَمَلِكَ ذَلِكَ
الْمَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ زَمَانًا فَلَمَّا انْقَضَى
مُلْكُهُ عَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَشَعْيَاءُ مَعَهُ بَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ "سِنْجَارِيبَ" (4) مَلِكَ بَابِلَ مَعَهُ سِتُّمِائَةُ
أَلْفِ رَايَةٍ فَأَقْبَلَ سَائِرًا حَتَّى نَزَلَ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَالْمَلِكُ مَرِيضٌ فِي سَاقِهِ قُرْحَةٌ فَجَاءَ النَّبِيُّ شَعْيَاءُ وَقَالَ
لَهُ: يَا مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ سَنْجَارِيبَ مَلِكَ بَابِلَ قَدْ
نَزَلَ بِكَ هُوَ وَجُنُودُهُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ وَقَدْ هَابَهُمُ
النَّاسُ وَفَرَقُوا فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ
هَلْ أَتَاكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فِيمَا حَدَثَ فَتُخْبِرُنَا بِهِ كَيْفَ
يَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وِبِسِنْجَارِيبَ وَجُنُودِهِ؟
فَقَالَ: لَمْ يَأْتِنِي وَحْيٌ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ
إِلَى شِعْيَاءَ النَّبِيِّ أَنِ ائْتِ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمُرْهُ أَنْ
يُوصِيَ وَصِيَّتَهُ وَيَسْتَخْلِفَ -عَلَى مُلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ-فَأَتَى شِعْيَاءُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ "صَدِيقَةَ"
فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُوصِيَ
وَصِيَّتَكَ وَتَسْتَخْلِفَ مَنْ شِئْتَ عَلَى مُلْكِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ
فَإِنَّكَ مَيِّتٌ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ شِعْيَاءُ لِصَدِيقَةَ أَقْبَلَ عَلَى
الْقِبْلَةِ فَصَلَّى وَدَعَا وَبَكَى فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَتَضَرَّعَ إِلَى
اللَّهِ بِقَلْبٍ مُخْلِصٍ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ وَإِلَهَ الْآلِهَةِ
يَا قُدُّوسَ الْمُتَقَدِّسِ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ يَا رَءُوفُ الَّذِي لَا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ اذْكُرْنِي بِعَمَلِي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ
مِنِّي سِرِّي وَعَلَانِيَتِي لَكَ وَأَنْتَ الرَّحْمَنُ فَاسْتَجَابَ لَهُ
وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَاءَ أَنْ
يُخْبِرَ صِدِّيقَةَ أَنَّ رَبَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَهُ وَرَحِمَهُ وَأَخَّرَ
لَهُ أَجْلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ سَنْجَارِيبَ
فَأَتَاهُ شِعْيَاءُ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ
عَنْهُ الْوَجَعُ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الْحُزْنُ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: يَا
إِلَهِي وَإِلَهَ آبَائِي لَكَ سَجَدْتُ وَسَبَّحْتُ وَكَبَّرْتُ وَعَظَّمْتُ
أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ لِمَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَأَنْتَ
تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ وَأَنْتَ الَّذِي أَجَبْتَ
دَعْوَتِي وَرَحِمْتَ تَضَرُّعِي.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) زيادة في "ب".
(3) في الأصل بالهاء وفي الطبري بالتاء المربوطة.
(4) في تاريخ الطبري "سنحاريب" بالحاء المهملة.
فَلَمَّا
رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ أَنْ قُلْ للملك صديقه 205/ب
فَيَأْمُرُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَيَأْتِيهِ بِمَاءِ التِّينِ فَيَجْعَلُهُ
عَلَى قُرْحَتِهِ فَيُشْفَى يُصْبِحُ وَقَدْ بَرِأَ فَفَعَلَ وَشُفِيَ.
وَقَالَ الْمَلِكُ لِشِعْيَاءَ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا عِلْمًا بِمَا
هُوَ صَانِعٌ بِعَدُوِّنَا هَذَا.
قَالَ اللَّهُ لِشِعْيَاءَ: قُلْ لَهُ: إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ عَدْوَّكَ
وَأَنْجَيْتُكَ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ سَيُصْبِحُونَ مَوْتَى كُلُّهُمْ إِلَّا
سَنْجَارِيبَ وَخَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ كُتَّابِهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَ صَارِخٌ فَصَرَخَ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ يَا مَلِكَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاكَ عَدُوَّكَ فَاخْرُجْ فَإِنَّ
سَنْجَارِيبَ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ هَلَكُوا فَلَمَّا خَرَجَ الْمَلِكُ الْتَمَسَ
سَنْجَارِيبَ فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَوْتَى فَبَعَثَ الْمَلِكُ فِي طَلَبِهِ
فَأَدْرَكَهُ الطَّلَبُ فِي مَغَارَةٍ وَخَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ كُتَّابِهِ
أَحَدُهُمْ بُخْتُنَصَّرُ فَجَعَلُوهُمْ فِي الْجَوَامِعِ ثُمَّ أَتَوْا بِهِمْ
إِلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا رَآهُمْ خَرَّ سَاجِدًا مِنْ حِينِ
طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى الْعَصْرِ ثُمَّ قَالَ لِسَنْجَارِيبَ: كَيْفَ تَرَى
فِعْلَ رَبِّنَا بِكُمْ؟ أَلَمْ يَقْتُلْكُمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَنَحْنُ
وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ؟ فَقَالَ سَنْجَارِيبُ لَهُ: قَدْ أَتَانِي خَبَرُ
رَبِّكُمْ وَنَصْرِهِ إِيَّاكُمْ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي يَرْحَمُكُمْ بِهَا قَبْلَ
أَنْ أَخْرُجَ مِنْ بِلَادِي فَلَمْ أُطِعْ مُرْشِدًا وَلَمْ يُلْقِنِي فِي
الشِّقْوَةِ إِلَّا [ذِلَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ] فَلَوْ
سَمِعْتُ أَوْ عَقِلْتُ مَا غَزَوْتُكُمْ.
فَقَالَ صَدِيقَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي كَفَانَاكُمْ
بِمَا شَاءَ وَإِنَّ رَبَّنَا لَمْ يُبْقِكَ وَمَنْ مَعَكَ لِكَرَامَتِكَ عَلَى
رَبِّكَ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أَبْقَاكَ وَمَنْ مَعَكَ لِتَزْدَادُوا شِقْوَةً فِي
الدُّنْيَا وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ وَلِتُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَكُمْ بِمَا
رَأَيْتُمْ مِنْ فِعْلِ رَبِّنَا بِكُمْ فَتُنْذِرُوا مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَوْلَا
ذَلِكَ لَقَتَلَكُمْ وَلَدَمُكَ وَلَدَمُ مَنْ مَعَكَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ
دَمِ قُرَادٍ لَوْ قُتِلْتَ.
ثُمَّ إِنْ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَ أَمِيرَ حَرَسِهِ فَقَذَفَ فِي
رِقَابِهِمُ الْجَوَامِعَ فَطَافَ بِهِمْ سَبْعِينَ يَوْمًا حَوْلَ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَإِيلْيَا وَكَانَ يَرْزُقُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ خُبْزَتَيْنِ مِنْ
شَعِيرٍ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَالَ سَنْجَارِيبُ لِمَلِكِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ: الْقَتْلُ خَيْرٌ مِمَّا تَفْعَلُ بِنَا فَأَمَرَ بِهِمُ الْمَلِكُ
إِلَى سِجْنِ الْقَتْلِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
أَنْ قُلْ لِمَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرْسِلُ سَنْجَارِيبَ وَمَنْ مَعَهُ
لِيُنْذِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ وَلْيُكْرِمْهُمْ وَلْيَحْمِلْهُمْ حَتَّى
يَبْلُغُوا بِلَادَهُمْ فَبَلَّغَ شِعْيَاءُ الْمَلِكَ ذَلِكَ فَفَعَلَ [الْمَلِكُ
صَدِيقَةُ] مَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ سَنْجَارِيبُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى قَدِمُوا
بَابِلَ فَلَمَّا قَدِمُوا جَمْعَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ كَيْفَ فَعَلَ اللَّهُ بِجُنُودِهِ
فَقَالَ لَهُ كُهَّانُهُ وَسَحَرَتُهُ يَا مَلِكَ بَابِلَ قَدْ كُنَّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ خَبَرَ رَبِّهِمْ وَخَبَرَ نَبِيِّهِمْ وَوَحْيَ اللَّهِ إِلَى
نَبِيِّهِمْ فَلَمْ تُطِعْنَا وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مَعَ
رَبِّهِمْ وَكَانَ أَمْرُ سَنْجَارِيبَ تَخْوِيفًا لَهُمْ ثُمَّ كَفَاهُمُ اللَّهُ
تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً.
ثُمَّ لَبِثَ سَنْجَارِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ
وَاسْتُخْلِفَ بُخْتُنَصَّرُ ابْنُ ابْنِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَدُّهُ
يَعْمَلُ عَمَلَهُ فَلَبِثَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ قَبَضَ اللَّهُ مَلِكَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ صَدِيقَةَ فَمَرَجَ أَمْرُ
بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَنَبِيُّهُمْ شِعْيَاءُ مَعَهُمْ وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا
ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ لِشِعْيَاءَ قُمْ فِي قَوْمِكَ أُوحِي عَلَى لِسَانِكَ
فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ شِعْيَاءُ أَنْطَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بِالْوَحْيِ
فَقَالَ: يَا سَمَاءُ اسْمَعِي وَيَا أَرْضُ أَنْصِتِي فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ
أَنْ يَقُصَّ شَأْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ بِنِعْمَتِهِ
وَاصْطَنَعَهُمْ لِنَفْسِهِ وَخَصَّهُمْ بِكَرَامَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى
عِبَادِهِ وَهُمْ كَالْغَنَمِ الضَّائِعَةِ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا فَآوَى
شَارِدَتَهَا وَجَمَعَ ضَالَّتَهَا وَجَبَرَ كَسْرَهَا وَدَاوَى مَرِيضَهَا وَأَسْمَنَ
مَهْزُولَهَا وَحَفِظَ سَمِينَهَا فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بَطَرَتْ فَتَنَاطَحَتْ
كِبَاشُهَا فَقَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا عَظْمٌ صَحِيحٌ
يُجْبَرُ إِلَيْهِ آخَرُ كَسِيرٌ فَوَيْلٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ
الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ أَنَّى جَاءَهُمُ الْخَيْرُ أَنَّ الْبَعِيرَ مِمَّا
يَذْكُرُ وَطَنَهُ فَيَنْتَابُهُ وَأَنَّ الْحِمَارَ مِمَّا يَذْكُرُ الْأَرْيَ
الَّذِي شَبِعَ عَلَيْهِ فَيُرَاجِعُهُ وَأَنَّ الثَّوْرَ مِمَّا يَذْكُرُ
الْمَرْجَ الَّذِي سَمِنَ فِيهِ فَيَنْتَابُهُ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا
يَذْكُرُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
وَالْعُقُولِ لَيْسُوا بِبَقَرٍ وَلَا حَمِيرٍ وَإِنِّي ضَارِبٌ لَهُمْ مَثَلًا
فَلْيَسْمَعُوهُ قُلْ لَهُمْ كَيْفَ تَرَوْنَ فِي أَرْضٍ كَانَتْ خَوَاءً زَمَانًا
خَرَابًا مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا وَكَانَ لَهَا رَبٌّ حَكِيمٌ قَوِيٌّ
فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا بِالْعِمَارَةِ وَكَرِهَ أَنْ تُخَرَّبَ أَرْضُهُ وَهُوَ
قَوِيٌّ أَوْ أَنْ يُقَالَ ضَيَّعَ وَهُوَ حَكِيمٌ فَأَحَاطَ عَلَيْهَا جِدَارًا
وَشَيَّدَ فِيهَا قُصُورًا وَأَنْبَطَ نَهْرًا وَصَنَّفَ فِيهَا غِرَاسًا مِنَ
الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَأَلْوَانِ الثِّمَارِ
كُلِّهَا وَوَلَّى ذَلِكَ وَاسْتَحْفَظَهُ ذَا رَأْيٍ وَهِمَّةٍ حَفِيظًا قَوِيًّا
أَمِينًا فَلَمَّا أَطْلَعَتْ جَاءَ طَلْعُهَا خُرُوبًا؟
قَالُوا بِئْسَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ فَنَرَى أَنْ يُهْدَمَ جِدَارُهَا وَقَصْرُهَا
وَيُدْفَنَ نَهْرُهَا وَيُقْبَضَ قِيِّمُهَا وَيُحْرَقَ غَرْسُهَا حَتَّى تَصِيرَ
كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ خَرَابًا مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا قال الله:
قَالَ لَهُمْ: فَإِنَّ الْجِدَارَ دِينِي وَإِنَّ الْقَصْرَ شَرِيعَتِي وَإِنَّ
النَّهْرَ كِتَابِي وَإِنَّ الْقَيِّمَ نَبِيِّي وَإِنَّ الْغِرَاسَ هُمْ وَإِنَّ
الْخُرُوبَ الَّذِي أَطْلَعَ الْغِرَاسَ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ وَإِنِّي قَدْ
قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبْتُهُ
لَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيَّ بِذَبْحِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَلَيْسَ
يَنَالُنِي اللَّحْمُ وَلَا آكُلُهُ وَيَدَعُونَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيَّ
بِالتَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنْ ذَبْحِ الْأَنْفُسِ الَّتِي حَرَّمْتُهَا
فَأَيْدِيهِمْ مَخْضُوبَةٌ مِنْهَا وَثِيَابُهُمْ مُتَزَمِّلَةٌ بِدِمَائِهَا
يُشَيِّدُونَ لِي الْبُيُوتَ مَسَاجِدَ وَيُطَهِّرُونَ أَجْوَافَهَا
وَيُنَجِّسُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ وَيُدَنِّسُونَهَا وَيُزَوِّقُونَ
إِلَيَّ الْمَسَاجِدَ وَيُزَيِّنُونَهَا وَيُخَرِّبُونَ عُقُولَهُمْ
وَأَحْلَامَهُمْ وَيُفْسِدُونَهَا فَأَيُّ حَاجَةٍ لِي إِلَى تَشْيِيدِ الْبُيُوتِ
وَلَسْتُ أَسْكُنُهَا؟ وَأَيُّ حَاجَةٍ لِي إِلَى تَزْوِيقِ الْمَسَاجِدِ وَلَسْتُ
أَدْخُلُهَا؟ إِنَّمَا أَمَرْتُ بِرَفْعِهَا لِأُذْكَرَ وَأُسَبَّحَ فِيهَا.
يَقُولُونَ: صُمْنَا فَلَمْ يُرْفَعْ صِيَامُنَا [وَصَلَّيْنَا فَلَمْ تُنَوَّرْ
صَلَاتُنَا] (1) وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ يُزَكِّ صَدَقَتَنَا وَدَعَوْنَا بِمِثْلِ
حَنِينِ الْحَمَامِ وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ عُوَاءِ الذِّئَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَا
يُسْتَجَابُ لَنَا.
قَالَ اللَّهُ: فَاسْأَلْهُمْ مَا الَّذِي يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْتَجِيبَ لَهُمْ؟
أَلَسْتُ أَسْمَعَ السَّامِعِينَ وَأَبْصَرَ النَّاظِرِينَ وَأَقْرَبَ
__________
(1) ساقط من "ب".
الْمُجِيبِينَ
وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟ فَكَيْفَ أَرْفَعُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يُلْبِسُونَهُ
بِقَوْلِ الزُّورِ وَيَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِطُعْمَةِ الْحَرَامِ؟ أَمْ كَيْفَ
أُنَوِّرُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ صَاغِيَةٌ إِلَى مَنْ يُحَارِبُنِي
وَيُحَادُّنِي وَيَنْتَهِكُ مَحَارِمِي؟ أَمْ كَيْفَ تَزَكَّى عِنْدِي
صَدَقَاتُهُمْ وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ بِأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ؟ إِنَّمَا آجُرُ
عَلَيْهَا أَهْلَهَا الْمَغْصُوبِينَ؟ أَمْ كَيْفَ أَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ
وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْفِعْلُ مِنْ ذَلِكَ بَعِيدٌ
إِنَّمَا أَسْتَجِيبُ لِلدَّاعِي اللَّيِّنِ وَإِنَّمَا أَسْمَعُ قَوْلَ
الْمُسْتَعْفِفِ الْمِسْكِينِ وَإِنَّ مِنْ عَلَامَةِ رِضَايَ رِضَا
الْمَسَاكِينِ.
يَقُولُونَ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامِي وَبَلَغَتْهُمْ رِسَالَتِي: إِنَّهَا
أَقَاوِيلُ مَنْقُولَةٌ وَأَحَادِيثُ مُتَوَارَثَةٌ وَتَأْلِيفٌ مِمَّا يُؤَلِّفُ
السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا أَنْ يَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مثله فعلوا ولوا شَاءُوا أن يطلعوا 206/أ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ بِمَا
يُوحِي إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ اطَّلَعُوا وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ
خَلَقْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ قَضَاءً أَثْبَتُّهُ وَحَتَّمْتُهُ عَلَى نَفْسِي
وَجَعَلْتُ دُونَهُ أَجَلًا مُؤَجَّلًا لَا بُدَّ أَنَّهُ وَاقِعٌ فَإِنْ صَدَقُوا
فِيمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فَلْيُخْبِرُوكَ مَتَى أُنَفِّذُهُ؟
أَوْ فِي أَيِّ زَمَانٍ يَكُونُ؟ وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يأتوا بما
يشاؤون فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا أَمْضَيْتُ
فَإِنِّي مُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وَإِنْ
كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يقولوا ما يشاؤون فَلْيَقُولُوا مِثْلَ
الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا أُدَبِّرُ أَمْرَ ذَلِكَ الْقَضَاءِ إِنْ كَانُوا
صَادِقِينَ وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ أَنْ
أَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِي الْأُجَرَاءِ وَأَنْ أَجْعَلَ الْمُلْكَ فِي الرِّعَاءِ
وَالْعِزَّ فِي الْأَذِلَّاءِ وَالْقُوَّةَ فِي الضُّعَفَاءِ وَالْغِنَى فِي
الْفُقَرَاءِ وَالْعِلْمَ فِي الْجَهَالَةِ وَالْحِكْمَةَ فِي الْأُمِّيِّينَ
فَسَلْهُمْ مَتَى هَذَا وَمَنِ الْقَائِمُ بِهِ وَمَنْ أَعْوَانُ هَذَا الْأَمْرِ
وَأَنْصَارُهُ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فَإِنِّي بَاعِثٌ لِذَلِكَ نَبِيًّا
أُمِّيًّا أَمِينًا لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ
وَلَا مُتَزَيِّنٌ بِالْفُحْشِ وَلَا قَوَّالٌ لِلْخَنَا أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ
جَمِيلٍ وَأَهَبُّ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ
وَالْبِرَّ شِعَارَهُ وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ
وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ
وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ [وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ] (1) وَالْهُدَى [وَالْقُرْآنَ]
إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ وَأَحْمَدَ اسْمَهُ أَهْدِي بِهِ بَعْدَ
الضَّلَالَةِ وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ
الْخَمَالَةِ وَأُشْهِرُ بِهِ بَعْدَ النَّكِرَةِ وَأُكْثِرُ بِهِ بَعْدَ
الْقِلَّةِ وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ
وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ قُلُوبٍ مختلفة وأهواء متشتة وَأُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ
وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَوْحِيدًا لِي وَإِيمَانًا
وَإِخْلَاصًا لِي يُصَلُّونَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَرُكَّعًا وَسُجُودًا
وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا وَيَخْرُجُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِي أُلْهِمُهُمُ التَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ
وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالْمِدْحَةَ وَالتَّمْجِيدَ فِي مَسِيرِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ
وَمَضَاجِعِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ
وَيُقَدِّسُونَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْرَافِ وَيُطَهِّرُونَ لِي الْوُجُوهَ
وَالْأَطْرَافَ يَعْقِدُونَ لِي الثِّيَابَ عَلَى الْأَنْصَافِ قُرْبَانُهُمْ
دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ لُيُوثٌ
بِالنَّهَارِ ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
فَلَمَّا
فَرَغَ شِعْيَاءُ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ
مِنْهُمْ فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا فَأَدْرَكَهُ
الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بِهُدْبَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا فَوَضَعُوا
الْمِنْشَارَ فِي وَسَطِهَا فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهَا وَقَطَعُوهُ فِي
وَسَطِهَا وَاسْتَخْلَفَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا
مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ نَاشِيَةُ بْنُ أَمُوصَ وَبَعَثَ لَهُمْ أَرْمِيَاءَ بْنَ
حَلْقِيَا نَبِيًّا وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ الْخَضِرُ وَاسْمُهُ أَرْمِيَاءُ سُمِّيَ
الْخَضِرَ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَقَامَ عَنْهَا وَهِيَ
تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ.
فَبَعَثَ اللَّهُ أَرْمِيَاءَ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ لِيُسَدِّدَهُ وَيُرْشِدَهُ
ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ وَاسْتَحَلُّوا
الْمَحَارِمَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَاءَ أَنِ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي
وَعَرِّفْهُمْ بِأَحْدَاثِهِمْ فَقَالَ أَرْمِيَاءُ: يَا رَبِّ إِنِّي ضَعِيفٌ
إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ
تَنْصُرْنِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا
تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي وَأَنَّ الْقُلُوبَ وَالْأَلْسِنَةَ بِيَدِي
أُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ إِنِّي مَعَكَ وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي
فَقَامَ أَرْمِيَاءُ فِيهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَقْتِ خُطْبَةً بَلِيغَةً بَيَّنَ فِيهَا ثَوَابَ
الطَّاعَةِ وَعِقَابَ الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ فِي آخِرِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى:
وَإِنِّي حَلَفْتُ بِعِزَّتِي لِأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا
الْحَلِيمُ وَلَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا أُلْبِسُهُ
الْهَيْبَةَ وَأَنْزَعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّحْمَةَ يَتْبَعُهُ عَدَدٌ مِثْلُ
سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَاءَ: إِنِّي
مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ وَيَافِثُ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ -عَلَى مَا
ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ-فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ
فَخَرَجَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةً وَدَخْلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
بِجُنُودِهِ وَوَطِئَ الشَّامَ وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ
وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا ثُمَّ يَقْذِفُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفَعَلُوا
ذَلِكَ حَتَّى مَلَأُوهُ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ فِي بُلْدَانِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مَنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ فَلَمَّا
خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِيهِمْ قَالَتْ لَهُ
الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَكَ غَنَائِمُنَا
كُلُّهَا وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا
مَعَهُ فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ غِلْمَانَ وَفَرَّقَ مَنْ
بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ فِرَقٍ فَثُلُثًا أَقَرَّ بِالشَّامِ
وَثُلُثًا سَبَى وَثُلُثَا قَتَلَ وَذَهَبَ بِنَاشِئَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَبِالصِّبْيَانِ السَّبْعِينَ الْأَلْفَ حَتَّى أَقْدَمَهُمْ بَابِلَ فَكَانَتْ
هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْأُولَى الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ
بِظُلْمِهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" يَعْنِي:
بُخْتُنَصَّرَ وَأَصْحَابَهُ.
ثُمَّ
إِنَّ بُخْتُنَصَّرَ أَقَامَ فِي سُلْطَانِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَأَى
رُؤْيَا أَعْجَبَتْهُ إِذْ رَأَى شَيْئًا أَصَابَهُ فَأَنْسَاهُ اللَّهُ الَّذِي
رَأَى فَدَعَا دَانْيَالَ وَحَنَانْيَا وَعَزَازْيَا وَمِيشَائِيلَ وَكَانُوا مِنْ
ذَرَارِي الْأَنْبِيَاءِ وَسَأَلَهُمْ عَنْهَا قَالُوا أَخْبِرْنَا بِهَا
نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا قَالَ: مَا أَذْكُرُهَا وَلَئِنْ لَمْ تُخْبِرُونِي
بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا لَأَنْزِعَنَّ أَكْتَافَكُمْ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ
فَدَعَوُا اللَّهَ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُمْ بِالَّذِي سألهم عنه،
فجاؤوه وَقَالُوا: رَأَيْتَ تِمْثَالًا قَدَمَاهُ وَسَاقَاهُ مِنْ فَخَّارٍ
وَرُكْبَتَاهُ وَفَخِذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ وَبَطْنَهُ مِنْ فِضَّةٍ وَصَدْرَهُ مِنْ
ذَهَبٍ وَرَأَسَهُ وَعُنُقَهُ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ: صَدَقْتُمْ قَالُوا:
فَبَيْنَمَا أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَقَدْ أَعْجَبَكَ أَرْسَلَ اللَّهُ
تَعَالَى صَخْرَةً مِنَ السَّمَاءِ فَدَقَّتْهُ فَهِيَ الَّتِي أَنْسَتْكَهَا
قَالَ: صَدَقْتُمْ قَالَ: فَمَا تَأْوِيلُهَا؟ قَالُوا: تَأْوِيلُهَا أَنَّكَ رَأَيْتَ
مُلْكَ الْمُلُوكِ فَبَعْضُهُمْ كَانَ أَلْيَنَ مُلْكًا وَبَعْضُهُمْ كَانَ
أَحْسَنَ مُلْكًا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَشَدَّ مُلْكًا الْفَخَّارُ أَضْعَفُهُ
ثُمَّ فَوْقَهُ النُّحَاسُ أَشَدُّ مِنْهُ ثُمَّ فَوْقَ النُّحَاسِ الْفِضَّةُ
أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَفْضَلُ وَالذَّهَبُ أَحْسَنُ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَفْضَلُ
ثُمَّ الْحَدِيدُ مُلْكُكَ فَهُوَ أَشَدُّ وَأَعَزُّ مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ
وَالصَّخْرَةُ الَّتِي رَأَيْتَ أَرْسَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ فَدَقَّتْهُ
نَبِيٌّ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَدُقُّ ذَلِكَ أَجْمَعَ وَيَصِيرُ
الْأَمْرُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بابل قالوا 206/ب لَبُخْتُنَصَّرَ: أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ
الْغِلْمَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كُنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ
تُعْطِينَاهُمْ فَفَعَلْتَ فَإِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا نِسَاءَنَا مُنْذُ كَانُوا
مَعَنَا لَقَدْ رَأَيْنَا نِسَاءَنَا انْصَرَفَتْ عَنَّا وُجُوهُهُنَّ إِلَيْهِمْ
فَأَخْرِجْهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا أَوِ اقْتُلْهُمْ قَالَ شَأْنَكُمْ بِهِمْ
فَمَنْ أَحَبِّ مِنْكُمْ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ فَلْيَفْعَلْ.
فَلَمَّا قَرَّبُوهُمْ لِلْقَتْلِ بَكَوْا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا: يَا
رَبُّ أَصَابَنَا الْبَلَاءُ بِذُنُوبِ غَيْرِنَا فَوَعَدَ اللَّهُ أَنْ
يُجِيبَهُمْ، فَقُتِلُوا إِلَّا مَنِ اسْتَبْقَى بُخْتُنَصَّرُ مِنْهُمْ
دَانْيَالُ وَحَنَانْيَا وَعَزَازْيَا وَمِيشَائِيلُ.
ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَ بُخْتُنَصَّرَ انْبَعَثَ فَقَالَ لِمَنْ فِي
يَدِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَرَأَيْتُمْ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي
خَرَّبْتُهُ وَالنَّاسَ الَّذِينَ قَتَلْتُ مِنْهُمْ؟ وَمَا هَذَا الْبَيْتُ؟
قَالُوا: هَذَا بَيْتُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُهُ كَانُوا مِنْ ذَرَارِي
الْأَنْبِيَاءِ فَظَلَمُوا وَتَعَدُّوا فَسُلِّطْتَ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَكَانَ رَبُّهُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ
يُكْرِمُهُمْ وَيُعِزُّهُمْ فَلَمَّا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ
وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ فَاسْتَكْبَرَ وَظَنَّ أَنَّهُ بِجَبَرُوتِهِ
فَعَلَ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: فَأَخْبِرُونِي كَيْفَ لِي أَنْ
أَطَّلِعَ إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا فَأَقْتُلَ مَنْ فِيهَا وَأَتَّخِذَهَا
مُلْكًا لِي فَإِنِّي قَدْ فَرَغْتُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالُوا: مَا يَقْدِرُ
عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ قَالَ: لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكُمْ
عَنْ آخِرِكُمْ، فَبَكَوْا وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ مَنْخَرَهُ حَتَّى عَضَّتْ بِأُمِّ
دِمَاغِهِ فَمَا كَانَ يَقَرُّ وَلَا يَسْكُنُ حَتَّى يُوجَأَ لَهُ رَأْسُهُ عَلَى
أُمِّ دِمَاغِهِ فَلَمَّا مَاتَ شَقُّوا رَأْسَهُ فَوَجَدُوا الْبَعُوضَةَ
عَاضَّةً عَلَى أُمِّ دِمَاغِهِ لِيُرِيَ اللَّهُ الْعِبَادَ قُدْرَتَهُ وَنَجَّى
اللَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي يَدَيْهِ فَرَدُّوهُمْ إِلَى
الشَّامِ فَبَنَوْا فِيهِ وَكَثُرُوا حَتَّى كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا
عَلَيْهِ.
وَيَزْعُمُونَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فَلَحِقُوا بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الشَّامَ دَخَلُوهَا وَلَيْسَ مَعَهُمْ عَهْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قَدِ احْتَرَقَتْ وَكَانَ عُزَيْرٌ مِنَ السَّبَايَا الَّذِينَ كَانُوا بِبَابِلَ فَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ يَبْكِي عَلَيْهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَقَدْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا عُزَيْرُ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ أَبْكِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا الَّذِي لَا يُصْلِحُ دُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا غَيْرُهُ قَالَ: أَفَتُحِبُّ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْكَ؟ ارْجِعْ فَصُمْ وَتَطَهَّرْ وَطَّهِرْ ثِيَابَكَ ثُمَّ مَوْعِدُكَ هَذَا الْمَكَانُ غَدًا فَرَجَعَ عُزَيْرٌ فَصَامَ وَتَطَهَّرَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَعَدَهُ فَجَلَسَ فِيهِ فَأَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَكَانَ مَلَكًا بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَسَقَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ فَمَثَلَتِ التَّوْرَاةُ فِي صَدْرِهِ فَرَجَعَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَوَضَعَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ فَأَحَبُّوهُ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ وَجَعَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُونَ الْأَحْدَاثَ وَيَعُودُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَبْعَثُ فِيهِمُ الرُّسُلَ فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَكَانُوا مِنْ بَيْتِ آلِ دَاوُدَ فَمَاتَ زَكَرِيَّا وَقِيلَ قُتِلَ زَكَرِيَّا فَلَمَّا رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى بَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ خَرْدُوشُ فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِأَهْلِ بَابِلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشَّامَ فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَمَرَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِ جنوده يدعى بيورزاذان صَاحِبَ الْقَتْلِ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَلَفْتُ بِإِلَهِي لَئِنْ أَنَا ظَفِرْتُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَأَقْتُلَنَّهُمْ حتى تسيل دماءهم فِي وَسَطِ عَسْكَرِي إِلَّا أَنِّي لَا أَجِدُ أَحَدًا أَقْتُلُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِيُورْزَاذَانَ وَدَخْلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَامَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا يُقَرِّبُونَ فِيهَا قُرْبَانَهُمْ فَوَجَدَ فِيهَا دَمًا يَغْلِي فَسَأَلَهُمْ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا شَأْنُ هَذَا الدَّمِ يَغْلِي؟ أَخْبِرُونِي خَبَرَهُ قَالُوا: هَذَا دَمُ قُرْبَانٍ لَنَا قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنَّا فَلِذَلِكَ يَغْلِي وَلَقَدْ قَرَّبْنَا مُنْذُ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ الْقُرْبَانَ فَيُقْبَلُ مِنَّا إِلَّا هَذَا فَقَالَ: مَا صَدَقْتُمُونِي فَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَأَوَّلِ زَمَانِنَا لَتُقُبِّلَ مِنَّا وَلَكِنْ قَدِ انْقَطَعَ مِنَّا الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْوَحْيُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنَّا فَذَبَحَ مِنْهُمْ بِيُورْزَاذَانُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعَمِائَةٍ وَسَبْعِينَ زَوْجًا مِنْ رُءُوسِهِمْ فَلَمْ يَهْدَأْ فَأَمَرَ فَأُتِيَ بِسَبْعِمِائَةِ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِمْ فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَهْدَأْ فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ شِيبِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَبْرُدْ فَلَمَّا رَأَى بِيُورْزَاذَانُ الدَّمَ لَا يَهْدَأُ قَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيْلَكُمُ اصْدُقُونِي وَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّكُمْ فَقَدْ طَالَ مَا مَلَكْتُمْ فِي الْأَرْضِ تَفْعَلُونَ فِيهَا مَا شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ لَا أَتْرُكَ مِنْكُمْ نَافِخُ نَارٍ أُنْثَى وَلَا ذَكَرَ إِلَّا قَتَلْتُهُ فَلَمَّا رَأَوُا الْجَهْدَ وَشِدَّةَ الْقَتْلِ صَدَقُوا الْخَبَرَ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الدَّمَ دَمُ نَبِيٍّ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّا أَطَعْنَاهُ فِيهَا لَكَانَ أَرْشَدَ لَنَا وَكَانَ يُخْبِرُنَا بِأَمْرِكُمْ فَلَمْ نُصَدِّقْهُ فَقَتَلْنَاهُ فَهَذَا دَمُهُ فَقَالَ لَهُمْ بِيُورْزَاذَانُ: مَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالُوا: يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ الْآنَ صَدَقْتُمُونِي لِمِثْلِ هَذَا انْتَقَمَ رَبُّكُمْ مِنْكُمْ فَلَمَّا رَأَى بِيُورْزَاذَانُ أَنَّهُمْ صَدَقُوهُ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ وَأَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ جَيْشِ خَرْدُوشَ وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ: يَا يَحْيَى بْنَ
زَكَرِيَّا
قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ وَمَا
قُتِلَ مِنْهُمْ فَاهْدَأْ بِإِذْنِ رَبِّكَ قَبْلَ أَنْ لَا أُبْقِيَ مِنْ
قَوْمِكَ أَحَدًا فَهَدَأَ الدَّمُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَفَعَ بِيُورْزَاذَانُ
عَنْهُمُ الْقَتْلَ وَقَالَ آمَنْتُ بِمَا آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ خَرْدُوشَ
أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مِنْكُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُكُمْ وَسَطَ عَسْكَرِهِ
وَإِنِّي لَسْتُ أَسْتَطِيعُ [أَنْ أَعْصِيَهُ] (1) قَالُوا لَهُ: افْعَلْ مَا
أُمِرْتَ بِهِ فَأَمَرَهُمْ فَحَفَرُوا خَنْدَقًا وَأَمَرَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنَ
الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
فَذَبَحَهَا حَتَّى سَالَ الدَّمُ فِي الْعَسْكَرِ وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى
الَّذِينَ قُتِلُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَطُرِحُوا عَلَى مَا قَتَلَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ
فَلَمْ يَظُنَّ خُرْدَوْشُ إِلَّا أَنَّ مَا فِي الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا بَلَغَ الدَّمُ عَسْكَرَهُ أَرْسَلَ إِلَى بِيُورْزَاذَانَ
أَنِ ارْفَعْ عَنْهُمُ الْقَتْلَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَابِلَ وَقَدْ أَفْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ كَادَ
[أَنْ يُفْنِيَهُمْ] (2) وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي أَنْزَلَ
اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: { لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ } فَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْأَوْلَى بُخْتُنَصَّرَ وَجُنُودَهُ
[وَالْأُخْرَى خُرْدَوْشَ وَجُنُودَهُ] وَكَانَتْ أَعْظَمَ الْوَقْعَتَيْنِ فَلَمْ
تَقُمْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَايَةٌ وَانْتَقَلَ الْمُلْكُ بِالشَّامِ
وَنَوَاحِيَهَا إِلَى الرُّومِ اليونانية إلا 207/أ أَنَّ بَقَايَا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَثُرُوا وَكَانَتْ لَهُمُ الرِّيَاسَةُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَنَوَاحِيَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُلْكِ وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ إِلَى أَنْ
بَدَّلُوا وَأَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَطْيُوسَ بْنَ
إِسْبَيَانُوسَ الرُّومِيَّ فَأَخْرَبَ بِلَادَهُمْ وَطَرَدَهُمْ عَنْهَا وَنَزَعَ
اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُلْكَ وَالرِّيَاسَةَ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
فَلَيْسُوا فِي أُمَّةٍ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ الصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ وَبَقِيَ
بَيْتُ الْمَقْدِسِ خَرَابًا إِلَى أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَمَّرَهُ
الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ فِي الْأُولَى فَسَبَى
وَقَتَلَ وَخَرَّبَ { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } يَعْنِي فِي
زَمَانِ دَاوُدَ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
بُخْتُنَصَّرَ فَسَبَى وَخَرَّبَ، ثُمَّ قَالَ: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ
} فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ ثُمَّ عَادَ الْقَوْمُ بِشَرِّ مَا
بِحَضْرَتِهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ مِنْ نِقْمَتِهِ
وَعُقُوبَتِهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ كَمَا قَالَ: { وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } فَهُمْ فِي الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَأَى
فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ
ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ يُدْعَى بُخْتُنَصَّرَ وَكَانُوا
يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقُ رُؤْيَاهُمْ فَأَقْبَلَ لِيَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ
عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ فَجَاءَ وَعَلَى رَأْسِهِ حُزْمَةُ حَطَبٍ فَأَلْقَاهَا
ثُمَّ قَعَدَ فَكَلَّمَهُ ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ: اشْتَرِ
بِهَذَا طَعَامًا وَشَرَابًا فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا
وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَفَعَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي
كَذَلِكَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "ب".
أَنْ
تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أَنْتَ مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ [فَقَالَ:
تَسْخَرُ مِنِّي؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْخَرُ مِنْكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ
أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي يَدًا فَكَتَبَ لَهُ أَمَانَا وَقَالَ: أَرَأَيْتَ]
(1) إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، قَالَ:
تَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ فَأَعْرِفُكَ فَكَتَبَ لَهُ وَأَعْطَاهُ
ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا
وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ وَأَنَّهُ هَوِيَ ابْنَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: ابْنَةَ أُخْتِهِ فَسَأَلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَنْ تَزْوِيجِهَا
فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا وَعَمَدَتْ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكُ عَلَى شَرَابِهِ
فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا وَطَيَّبَتْهَا وَأَلْبَسَتْهَا
الْحُلِيَّ وَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِكِ وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ،
فَإِنْ أَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا
سَأَلَتْهُ فَإِذَا أَعْطَاهَا سَأَلَتْ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَنْ
يُؤْتَى بِهِ فِي طَسْتٍ فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا أَرَادَهَا قَالَتْ لَا أَفْعَلُ
حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ قَالَ: مَا تَسْأَلِينِي؟ قَالَتْ: رَأَسَ
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ سَلِينِي غَيْرَ
هَذَا، فَقَالَتْ: مَا أُرِيدُ إِلَّا هَذَا فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ بَعَثَ
فَأُتِيَ بِرَأْسِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ:
لَا تَحِلُّ لَكَ فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي فَأَمَرَ بِتُرَابٍ
فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ فَرَقَى الدَّمُ يَعْنِي صَعِدَ الدَّمُ يَغْلِي وَيُلْقِي
عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ
يَغْلِي، فَبَعَثَ صَخَابِينُ مَلِكُ بَابِلَ جَيْشًا إِلَيْهِمْ وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فَسَارَ بُخْتُنَصَّرَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى بَلَغُوا
ذَلِكَ الْمَكَانَ تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ فَلَمَّا اشْتَدَّ
عَلَيْهِمُ الْمَقَامُ أَرَادَ الرُّجُوعَ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ عَجُوزٌ مِنْ
عَجَائِزَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ قَبْلَ
الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ طَالَ مَقَامِي وَجَاعَ أَصْحَابِي قَالَتْ:
أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحْتُ لَكَ الْمَدِينَةَ تُعْطِينِي مَا أَسْأَلُكَ فَتَقْتُلُ
مَنْ أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَا أَصْبَحْتَ تُقَسِّمُ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ ثُمَّ
أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا ثُمَّ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى
السَّمَاءِ فَنَادُوا: إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا أَللَّهُ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا فَإِنَّهَا سَوْفَ تَتَسَاقَطُ فَفَعَلُوا فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ
وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ: كُفَّ يَدَكَ وَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى
دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَقَالَتِ: اقْتُلْ عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى
يَسْكُنَ فَقَتَلَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفًا حَتَّى سَكَنَ، فَلَمَّا سَكَنَ
قَالَتْ: كُفَّ يَدَكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ حَتَّى
يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِهِ وَأَتَاهُ صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ
بِصَحِيفَتِهِ فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَخَرَّبَ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ وَطَرَحَ فِيهِ الْجِيَفَ وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ
أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَذَهَبَ
مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَقَوْمٍ مِنْ
أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَذَهَبَ مَعَهُ بِرَأْسِ جَالُوتَ فَلَمَّا قَدِمَ
بَابِلَ وَجَدَ صَخَابِينَ قَدْ مَاتَ فَمَلَكَ مَكَانَهُ وَكَانَ أَكْرَمَ
النَّاسِ عِنْدَهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ وَوَشَوْا بِهِمْ
إِلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ
وَلَا يَأْكُلُونَ ذَبِيحَتَكَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا
نَعْبُدُهُ وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِخَدٍّ
فَخُدَّ لَهُمْ فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ وَأَلْقَى مَعَهُمْ بِسَبْعٍ
ضَارٍ لِيَأْكُلَهُمْ فَذَهَبُوا ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا
وَالسَّبْعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ مَعَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا
وَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا سَابِعًا فَقَالَ: مَا هَذَا السَّابِعُ إِنَّمَا
كَانُوا سِتَّةً فَخَرَجَ السَّابِعُ وَكَانَ مَلَكًا فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَصَارَ
فِي الْوُحُوشِ وَمَسَخَهُ اللَّهُ سَبْعَ سِنِينَ.
وَذَكَرَ وَهْبٌ: أَنَّ اللَّهَ مَسَخَ بُخْتُنَصَّرَ نِسْرًا فِي الطَّيْرِ ثُمَّ
مَسَخَهُ ثَوْرًا فِي الدَّوَابِّ ثُمَّ مَسَخَهُ أَسَدًا فِي الْوُحُوشِ فَكَانَ
مَسْخُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَقَلْبُهُ فِي ذَلِكَ قَلْبُ إِنْسَانٍ ثُمَّ رَدَّ
اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ فَآمَنَ فَسُئِلَ وَهْبٌ أَكَانَ مُؤْمِنًا؟ فَقَالَ
وَجَدْتُ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مُؤْمِنًا
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَكُتُبَهُ وَقَتَلَ
الْأَنْبِيَاءَ فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثُمَّ إِنَّ بُخْتُنَصَّرَ لَمَّا رَجَعَ إِلَى صُورَتِهِ
بَعْدَ الْمَسْخِ وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ كَانَ دَانْيَالُ
وَأَصْحَابُهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ وَقَالُوا
لِبُخْتُنَصَّرَ: إِنَّ دَانْيَالَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ
أَنْ يَبُولَ وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَارًا فَجَعَلَ لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا
فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَقَالَ لِلْبَوَّابِ: انْظُرْ أَوَّلَ مَنْ يَخْرُجُ
لِيَبُولَ فَاضْرِبْهُ بِالطَّبْرَزِينَ فَإِنْ قَالَ أَنَا بُخْتُنَصَّرُ فَقُلْ
كَذَبْتَ بُخْتُنَصَّرُ أَمَرَنِي فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ لِلْبَوْلِ بُخْتُنَصَّرُ
فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ شَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَيْحَكَ أَنَا بُخْتُنَصَّرُ
فَقَالَ: كَذَبْتَ بُخْتُنَصَّرُ أَمَرَنِي فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ هَذَا مَا
ذَكَرَهُ فِي الْمُبْتَدَأِ إِلَّا أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ
بُخْتُنَصَّرَ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا غَلَطٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ بَلْ هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ
بُخْتُنَصَّرَ إِنَّمَا غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ شِعْيَاءَ فِي
عَهْدِ أَرْمِيَاءَ وَمِنْ وَقْتِ أَرْمِيَاءَ وَتَخْرِيبِ بُخْتُنَصَّرَ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَرْبَعُمِائَةٍ وَإِحْدَى
وستون سنة، 207/ب وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعِدُّونَ مِنْ لَدُنْ تَخْرِيبِ
بُخْتُنَصَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى حِينِ عِمَارَتِهِ فِي عَهْدِ كِيرَشَ
بْنِ أَخْشُورَشَ بْنِ أَصَيْهِيدَ بِبَابِلَ مِنْ قِبَلِ بَهْمَنَ بْنِ
إِسْفَنْدِيَارَ [سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عِمَارَتِهِ إِلَى ظُهُورِ
الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً ثُمَّ مِنْ
بَعْدِ مَمْلَكَتِهِ] (2) إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بن زكريا ثلثمائة وَسِتُّونَ
سَنَةً.
وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ }
أَيْ: أَعْلَمْنَاهُمْ وَأَخْبَرْنَاهُمْ فِيمَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ الْكُتُبِ
أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ.
وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ: يَكُونُ أَمْرًا، كَقَوْلِهِ: "وَقَضَى
رَبُّكَ" (الْإِسْرَاءِ-23) .
وَيَكُونُ حُكْمًا، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ"
(يُونُسَ-93، وَالنَّحْلِ-78) .
وَيَكُونُ خَلْقًا كَقَوْلِهِ: "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ"
(فُصِّلَتْ-2) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي وَقَضَيْنَا عَلَيْهِمْ، وَ"إِلَى"
بِمَعْنَى "عَلَى"، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
{ لَتُفْسِدُنَّ } لَامُ الْقَسَمِ مَجَازُهُ: وَاللَّهِ لَتُفْسِدُنَّ، { فِي
الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } بِالْمَعَاصِي وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ الشَّامِ
وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، { وَلَتَعْلُنَّ } وَلَتَسْتَكْبِرُنَّ وَلَتَظْلِمُنَّ
النَّاسَ { عُلُوًّا كَبِيرًا }
{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }
{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا } يَعْنِي: أُولَى الْمَرَّتَيْنِ.
قَالَ قَتَادَةُ: إِفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَا خَالَفُوا مِنْ
أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَرَكِبُوا الْمَحَارِمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَتْلُ
شِعْيَاءَ بَيْنَ الشَّجَرَةِ وَارْتِكَابُهُمُ الْمَعَاصِيَ.
{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } قَالَ قَتَادَةُ: يعني جالوت الخزري
وَجُنُودَهُ وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ دَاوُدُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي سَنْجَارِيبَ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بُخْتُنَصَّرُ الْبَابِلِيُّ وَأَصْحَابُهُ. وَهُوَ
الْأَظْهَرُ.
{ أُولِي بَأْسٍ } ذَوِي بَطْشٍ، { شَدِيدٍ } فِي الْحَرْبِ، { فَجَاسُوا } أَيْ
فَطَافُوا وَدَارُوا { خِلَالَ الدِّيَارِ } وَسَطَهَا يَطْلُبُونَكُمْ
وَيَقْتُلُونَكُمْ وَالْجَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالِاسْتِقْصَاءِ. قَالَ
الْفَرَّاءُ: جَاسُوا قَتَلُوكُمْ بَيْنَ بُيُوتِكُمْ.
{ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } قَضَاءً كَائِنًا لَا خُلْفَ فِيهِ. { ثُمَّ
رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ } يَعْنِي: الرَّجْعَةَ وَالدَّوْلَةَ، { عَلَيْهِمْ
وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا }
عَدَدًا، أَيْ: مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُمْ وَعَادَ الْبَلَدُ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ.
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } أَيْ: لَهَا ثَوَابُهَا، {
وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أَيْ: فَعَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"فَسَلَامٌ لَكَ" (الْوَاقِعَةِ-91) أَيْ: عَلَيْكَ وَقِيلَ: فَلَهَا
الْجَزَاءُ وَالْعِقَابُ.
{
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ } أَيِ: الْمَرَّةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ
إِفْسَادِكُمْ، وَذَلِكَ قَصْدُهُمْ قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ
رُفِعَ، وَقَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَسَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْفُرْسَ وَالرُّومَ خَرْدُوشَ وَطِيطُوسَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ
وَسَبَوْهُمْ وَنَفَوْهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } أَيْ: تَحْزَنُ وُجُوهُكُمْ وَسُوءُ الْوَجْهِ
بِإِدْخَالِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ.
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ [وَيَعْقُوبُ] (1) . " لِنَسُوءَ " بِالنُّونِ
وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: "وَقَضَيْنَا"
وَ"بَعَثْنَا" وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ
بِالْيَاءِ [وَفَتْحِ] (2) الْهَمْزَةِ [عَلَى التَّوْحِيدِ] (3) أَيْ: لِيَسُوءَ
اللَّهُ وُجُوهَكُمْ وَقِيلَ: لِيَسُوءَ الْوَعْدُ وُجُوهَكُمْ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْجَمْعِ أَيْ
لِيَسُوءَ الْعِبَادُ أُولُوا الْبَأْسِ الشَّدِيدِ وُجُوهَكُمْ. { وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ } يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيَهُ { كَمَا دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا } وَلِيُهْلِكُوا { مَا عَلَوْا } أَيْ: مَا
غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ { تَتْبِيرًا }
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "أ" وضم.
(3) ساقط من "أ".
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) }
{ عَسَى رَبُّكُمْ } يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ { أَنْ يَرْحَمَكُمْ } بَعْدَ
انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ فَيَرُدَّ الدَّوْلَةَ إِلَيْكُمْ { وَإِنْ عُدْتُمْ
عُدْنَا } أَيْ: إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ عُدْنَا إِلَى الْعُقُوبَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ.
{ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } سِجْنًا وَمَحْبِسًا مِنَ
الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ.
قَالَ الْحَسَنُ: حَصِيرًا أَيْ: فِرَاشًا. وَذَهَبَ إِلَى الْحَصِيرِ الَّذِي
يُبْسَطُ وَيُفْرَشُ. { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }
أَيْ: إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَصْوَبُ. وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ الَّتِي
هِيَ أَعْدَلُ وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، { وَيُبَشِّرُ }
يَعْنِي: الْقُرْآنُ { الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ } بِأَنَّ لَهُمْ { أَجْرًا كَبِيرًا } وَهُوَ الْجَنَّةُ. { وَأَنَّ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
وَهُوَ النَّارُ.
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ
عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ
اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ } حُذِفَ الْوَاوُ لَفْظًا
لِاسْتِقْبَالِ اللَّامِ السَّاكِنَةِ كَقَوْلِهِ: "سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ"( الْعَلَقِ-18 ) ، وَحُذِفَ فِي الْخَطِّ أَيْضًا وَهِيَ
غَيْرُ مَحْذُوفَةٍ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَاهُ: وَيَدْعُو الْإِنْسَانُ عَلَى
مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، { بِالشَّرِّ } فَيَقُولُ عِنْدَ الْغَضَبِ:
اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَأَهْلِكْهُ وَنَحْوَهُمَا، { دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ }
أَيْ: كَدُعَائِهِ رَبَّهُ [بِالْخَيْرِ] (1) أَنْ يَهَبَ لَهُ النِّعْمَةَ
وَالْعَافِيَةَ وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهَلَكَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ بِفَضْلِهِ { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا }
بِالدُّعَاءِ عَلَى مَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
آيَتَيْنِ } أَيْ: عَلَامَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى وُجُودِنَا
وَوَحْدَانِيِّتِنَا وَقُدْرَتِنَا { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا وَنُورَ الْقَمَرِ
كَذَلِكَ فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ تِسْعَةً وَسِتِّينَ جُزْءًا فَجَعَلَهَا
مَعَ نُورِ الشَّمْسِ (2) .
وَحَكَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى
وَجْهِ الْقَمَرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَطُمِسَ عَنْهُ الضَّوْءُ وَبَقِيَ فِيهِ
النُّورُ.
وَسَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟
قَالَ: هُوَ أَثَرُ الْمَحْوِ (3) .
{ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } مُنِيرَةً مُضِيئَةً يَعْنِي
يُبْصَرُ بِهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَبْصَرَ النَّهَارُ
إِذَا أَضَاءَ بِحَيْثُ يُبْصَرُ بِهَا { لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } أَيْ: لَوْ تَرَكَ اللَّهُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَمَا خَلَقَهُمَا لَمْ يُعْرَفِ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ
وَلَمْ يَدْرِ الصَّائِمُ مَتَى يُفْطِرُ وَلَمْ يُدْرَ وَقْتُ الْحَجِّ وَلَا
وَقْتُ حُلُولِ الْآجَالِ وَلَا وَقْتُ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ. { وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا }
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) عزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر. انظر: الدر المنثور: 5 / 248.
(3) قال ابن كثير: (3 / 28): رواه ابن جرير من طرق متعددة جيدة.
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمَلُهُ وَمَا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُلَازِمُهُ
أَيْنَمَا كَانَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مَعَهُ لَا يُفَارِقُهُ
حَتَّى يُحَاسِبَهُ بِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يُمْنُهُ وَشُؤْمُهُ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا فِي عُنُقِهِ وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ
فِيهَا شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.
وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ بِالطَّائِرِ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ عَامِلُهُ وَمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شقاوة سمي
208/أ "طَائِرًا" عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِيمَا كَانَتْ تَتَفَاءَلُ
وَتَتَشَاءَمُ بِهِ مِنْ سَوَانِحِ الطَّيْرِ وَبَوَارِحِهَا. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبِيُّ: أَرَادَ بِالطَّائِرِ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَ سَهْمُ فُلَانٍ بِكَذَا وَخُصَّ الْعُنُقُ مِنْ
بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلَائِدِ وَالْأَطْوَاقِ
وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَزِينُ أَوْ يَشِينُ فَجَرَى كَلَامُ الْعَرَبِ بِتَشْبِيهِ
الْأَشْيَاءِ اللَّازِمَةِ إِلَى الْأَعْنَاقِ.
{ وَنُخْرِجُ لَهُ } يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُخْرِجُ { يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا } وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ: "
وَيَخْرُجُ لَهُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مَعْنَاهُ: وَيَخْرُجُ
لَهُ الطَّائِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "
يُخْرَجُ " بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الرَّاءِ.
{ يَلْقَاهُ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ " يُلَقَّاهُ "
بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ يَعْنِي: يَلْقَى
الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْكِتَابَ أَيْ: يُؤْتَاهُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ
الْيَاءِ خَفِيفَةً أَيْ يَرَاهُ { مَنْشُورًا } وَفِي الْآثَارِ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَأْمُرُ الْمَلَكَ بِطَيِّ الصَّحِيفَةِ إِذَا تَمَّ عُمْرُ الْعَبْدِ
فَلَا تُنْشَرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. { اقْرَأْ كِتَابَكَ } أَيْ: يُقَالُ
لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيبًا } مُحَاسِبًا. قَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ عَدَلَ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ
حَسِيبَ نَفْسِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ
قَارِئًا فِي الدُّنْيَا. { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ }
لَهَا ثَوَابُهُ { وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } لِأَنَّ عَلَيْهَا
عِقَابَهُ.
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أَيْ: لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ
أُخْرَى مِنَ الْآثَامِ أَيْ: لَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ. { وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَقَطْعًا
لِلْعُذْرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ وَجَبَ بِالسَّمْعِ لَا
بِالْعَقْلِ.
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) }
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } قَرَأَ
مُجَاهِدٌ: " أَمَّرْنَا " بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: سَلَّطْنَا شِرَارَهَا
فَعَصَوْا وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ " آمَرْنَا "
بِالْمَدِّ أَيْ: أَكْثَرْنَا.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَقْصُورًا مُخَفَّفًا أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ
فَعَصَوْا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا يُقَالُ: أَمَّرَهُمُ اللَّهُ
أَيْ كَثَّرَهُمُ اللَّهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: "خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ
مَأْمُورَةٌ" (1) أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ (2) . وَيُقَالُ: مِنْهُ أَمَرَ
الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا إِذَا كَثُرُوا وَلَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى
الْفِعْلِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ وَقَالَ: لِأَنَّ الْمَعَانِيَ
الثَّلَاثَةَ تَجْتَمِعُ فِيهَا يَعْنِي الْأَمْرَ وَالْإِمَارَةَ وَالْكَثْرَةَ.
{ مُتْرَفِيهَا } مُنَعَّمِيهَا وَأَغْنِيَاءَهَا { فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ } وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
} أَيْ: خَرَّبْنَاهَا وَأَهْلَكْنَا مَنْ فِيهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ
عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ
أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ
زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا وَهُوَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ
لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي
تَلِيهَا" قَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ
وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" (3) .
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات: 7 / 56 (طبعة التحرير بمصر) والإمام أحمد في
المسند: 3 / 468، والبيهقي في السنن: 10 / 64، والمصنف في شرح السنة: 10 / 387.
قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (98): "رواه عبد بن حميد، وإسحاق، وابن أبي
شيبة والحارث والطبراني وأبو عبيد، من رواية مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد
بن هبيرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وقال الهيثمي: (5 /
258): "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات".
(2) قاله أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- في كتابه "الغريب". انظر:
ابن كثير 3 / 34 ، البيهقي: 10 / 64.
(3) أخرجه البخاري في الفتن باب يأجوج ومأجوج: 13 / 106، ومسلم في الفتن وأشراط
الساعة باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج برقم (2880): 4 / 2207، والمصنف في
شرح السنة: 14 / 397.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) }
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ
عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) }
قَوْلُهُ: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ } أَيِ: الْمُكَذِّبَةِ { مِنْ
بَعْدِ نُوحٍ } يُخَوِّفُ كُفَّارَ مَكَّةَ { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ
عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى:
الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ قَرْنٍ وَكَانَ فِي آخِرِهِ يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ.
وَقِيلَ: مِائَةُ سَنَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: "سَيَعِيشُ هَذَا
الْغُلَامُ قَرْنًا" (1) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ فَمَا زِلْنَا
نَعُدُّ لَهُ حَتَّى تَمَّ لَهُ مِائَةُ سَنَةٍ ثُمَّ مَاتَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. { مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ } يَعْنِي الدُّنْيَا أَيِ: الدَّارَ الْعَاجِلَةَ، {
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ } مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّقْتِيرِ { لِمَنْ
نُرِيدُ } أَنْ نَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ أَوْ إِهْلَاكَهُ { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ }
فِي الْآخِرَةِ { جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا } يَدْخُلُ نَارَهَا { مَذْمُومًا
مَدْحُورًا } مَطْرُودًا مُبْعَدًا. { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا
سَعْيَهَا } عَمِلَ عَمَلَهَا، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُورًا } مَقْبُولًا. { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ } أَيْ: نُمِدُّ
كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، { مِنْ
عَطَاءِ رَبِّكَ } أَيْ: يَرْزُقُهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ يَخْتَلِفُ بِهِمَا
الْحَالُ فِي الْمَآلِ { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ } رِزْقُ رَبِّكَ {
مَحْظُورًا } مَمْنُوعًا عَنْ عِبَادِهِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْعَطَاءِ: الْعَطَاءُ
فِي الدُّنْيَا وَإِلَّا فَلَا حَظَّ لِلْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1) أخرجه ابن جرير: 15 / 58 ، وذكره البخاري في التاريخ الصغير ص(39) وأخرجه أبو
نعيم في معرفة الصحابة كما في التهذيب: 5 / 139.
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ
دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) }
{ انْظُرْ } يَا مُحَمَّدُ { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فِي
الرِّزْقِ وَالْعَمَلِ [الصَّالِحِ] (1) يَعْنِي: طَالِبَ الْعَاجِلَةِ وَطَالِبَ
الْآخِرَةِ، { وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } { لَا
تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَجْعَلْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ [مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ] (2) { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } مَذْمُومًا مِنْ غَيْرِ حَمْدٍ
مَخْذُولًا مِنْ غَيْرِ نَصْرٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَقَضَى رَبُّكَ }
وَأَمَرَ رَبُّكَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَأَوْجَبَ رَبُّكَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَوْصَى رَبُّكَ.
وَحُكِيَ عَنِ الضَّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَوَصَّى رَبُّكَ.
وَقَالَ: إِنَّهُمْ أَلْصَقُوا الْوَاوَ بِالصَّادِّ فَصَارَتْ قَافًا (3) .
{ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أَيْ:
وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا.
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ } قَرَأَ حَمْزَةُ والكسائي بِالْأَلِفِ
عَلَى التَّثْنِيَةِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: { أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا }
كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ" (الْمَائِدَةِ-71) وَقَوْلِهِ: "وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا" (الْأَنْبِيَاءِ-3) وَقَوْلُهُ: "الَّذِينَ
ظَلَمُوا" ابْتِدَاءٌ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " يَبْلُغَنَّ " عَلَى
التَّوْحِيدِ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) قال ابن الجوزي في "زاد المسير" (5 / 22): وهذا خلاف ما انعقد عليه
الإجماع، فلا يلتفت إليه والخبر رواه أحمد بن منيع عن ابن عباس بسند ضعيف لضعف
فرات بن السائب ورواه الطبري في التفسير: (15 / 63) عن الضحاك وفي سنده أبو إسحاق
الكوفي وهو عبد الله بن ميسرة الحارثي ضعفه ابن معين وأحمد بن حنبل والنسائي
والدارقطني.. وهشام الراوي عن أبي إسحاق هذا -وإن كان ثقة- موصوف بالتدليس وقد
عنعن في هذا الخبر. انظر: المطالب العالية 3 / 348، زاد المسير، الموضع السابق،
تعليق(1).
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ
عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ
وَحَفْصٌ بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْفَاءِ غَيْرَ
مُنَوَّنٍ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَهِيَ كَلِمَةُ كَرَاهِيَةٍ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ الْتُّفِّ وَالْأُفِّ الْوَسَخُ عَلَى
الْأَصَابِعِ إِذَا فَتَلْتَهَا.
وَقِيلَ: "الْأُفُّ": مَا يَكُونُ فِي الْمَغَابِنِ مِنَ الْوَسَخِ
وَ"الْتُّفُّ": مَا يَكُونُ فِي الْأَصَابِعِ.
وَقِيلَ: "الْأُفُّ": وَسَخُ الْأُذُنِ وَ"الْتُّفُّ" وَسَخُ
الْأَظَافِرِ.
وَقِيلَ: "الْأُفُّ": وَسَخُ الظُّفْرِ وَ"الْتُّفُّ": مَا
رَفَعْتَهُ بِيَدِكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ.
{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } وَلَا تَزْجُرْهُمَا.
{ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } حَسَنًا جَمِيلًا لَيِّنًا قَالَ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ: كَقَوْلِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُسَمِّيهِمَا وَلَا تُكَنِّهِمَا وَقُلْ: يَا أَبَتَاهُ
[يَا أُمَّاهُ] (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا: إِذَا بَلَغَا عِنْدَكَ مِنَ
الْكِبَرِ مَا يَبُولَانِ فَلَا تَتَقَذَّرْهُمَا وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ
حِينَ تُمِيطُ عَنْهُمَا الْخَلَاءَ وَالْبَوْلَ كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْكَ
صَغِيرًا.
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا
كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) }
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } أَيْ: أَلِنْ جَانِبَكَ لَهُمَا
وَاخْضَعْ. قال عروة 208/ب بْنُ الزُّبَيْرِ: لِنْ لَهُمَا حَتَّى لَا تَمْتَنِعَ
عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ { مِنَ الرَّحْمَةِ } مِنَ الشفقة { وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } أَرَادَ: إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ" (التَّوْبَةِ-13)
.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجُوَيْهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي
السُّلَمِيَّ-عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ
فَحَافِظْ إِنْ شِئْتَ أَوْ ضَيِّعْ" (2) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه الترمذي في البر والصلة باب الفضل في رضا الوالدين: 6 / 24-25 وقال هذا
حديث صحيح وابن ماجه في الأدب باب بر الوالدين: 2 / 1208 وصححه ابن حبان برقم
(2023) ص (496) من موارد الظمآن والحاكم في المستدرك: 2 / 197 وقال: هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8 / 540) والطحاوي في مشكل
الآثار: (2 / 158) والإمام أحمد في المسند: 5 / 196، 6 / 445، 448، والمصنف في شرح
السنة: 13 / 10. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (914): 2 /
618-619.
أَخْبَرَنَا
أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّرَّادُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَالِينِيُّ أَخْبَرَنَا حَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُدَيٍّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رِضَا
اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصِّفَارُ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ غَالِبِ بْنِ تِمْتَامٍ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
بَامَوَيْهِ الْأَصْفَهَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ
الْبَصْرِيُّ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ حَدَّثَنَا
رِبْعِيُّ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَغِمَ
أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ
أَتَى عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ
أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ الْكِبَرُ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ" (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر باب الفضل في رضا الوالدين: 6 / 25 مرفوعا وموقوفا
وقال: وهذا -الموقوف- أصح وأخرجه ابن حبان برقم (2026) ص (496) من موارد الظمآن
وصححه الحاكم 4 / 152 والمصنف في شرح السنة: 13 / 12. وانظر: سلسلة الأحاديث
الصحيحة برقم (516): 2 / 29-31، ومجمع الزوائد: 8 / 136، الكافي الشاف ص (98) كشف
الحفاء: 1 / 520.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 3 / 28،44 عن أبي سعيد الخدري، والمصنف في شرح
السنة: 13 / 17، وفيه: يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وللحديث شواهد كثيرة عن عبد
الله بن عمرو وأبي هريرة وأنس. انظر: سنن النسائي، كتاب الأشربة باب الرواية في
المدمنين في الخمر: 8 / 318، وسنن الدارمي في الأشربة باب مدمن الخمر: 2 / 112،
وابن حبان ص (498) من موارد الظمآن، والمصنف لابن أبي شيبة: 8 / 544، والمسند
للإمام أحمد: 3 / 226، ومشكل الآثار للطحاوي 1 / 395، وصححه الألباني في سلسلة
الأحاديث الصحيحة: 2 / 285-291، وانظر: الدر المنثور: 5 / 266.
(3) أخرجه الترمذي في الدعوات باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
رغم أنف رجل: 9 / 530-531، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
والمصنف في شرح السنة: 3 / 198. وأخرج الحاكم القطعة الأولى منه في المستدرك: 1 /
549، وأخرج مسلم الثانية منه في البر والصلة، برقم (2551): 4 / 1978، وله شاهد عن
كعب بن عجرة، أخرجه الحاكم في المستدرك: 4 / 153، وقال: "صحيح الإسناد"
ووافقه الذهبي. وانظر: إرواء الغليل: 1 / 36، مشكاة المصابيح: 1 / 292، الترغيب
والترهيب: 2 / 506-508، الكافي الشاف ص (137)، فتح الباري: 11 / 168، جلاء الأفهام
في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم ص (34-35).
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ
كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) }
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَعُقُوقِهِمَا { إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ } أَبْرَارًا مُطِيعِينَ بَعْدَ
تَقْصِيرٍ كَانَ مِنْكُمْ فِي الْقِيَامِ بِمَا لَزِمَكُمْ مِنْ حَقِّ
الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ { فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ } بَعْدَ
الْمَعْصِيَةِ { غَفُورًا }
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ مِنْهُ
الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ فَإِنَّهُ
لَا يُؤَاخَذُ بِهِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: "الْأَوَّابُ": الَّذِي يُذْنِبُ
ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّجَّاعُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الرَّجَّاعُ إِلَى اللَّهِ فِيمَا يَحْزُبُهُ
وَيَنُوبُهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمُ الْمُسَبِّحُونَ،
دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: "يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ" (سَبَأٍ-10) .
قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمُصَلُّونَ.
قَالَ عَوْفٌ (1) الْعَقِيلِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّوْقِيُّ (2)
الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا
أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ
هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى فَقَالَ:
"صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إِذَا رَمَضَتِ الْفِصَالُ مِنَ الضُّحَى" (3)
.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: "الْأَوَّابُ": الَّذِي يُصَلِّي
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَحُفُّ
بِالَّذِينِ يُصَلُّونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وهي صلاة الأولين (4) .
__________
(1) في "ب" عون.
(2) في "ب": الدورقي. والصواب ما أثبتناه.
(3) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، برقم
(748): 1 / 516، والمصنف في شرح السنة: 4 / 145، وابن أبي شيبة في المصنف: 2 /
264.
(4) راجع هذه الأقوال وغيرها في الطبري: 15 / 68-71، زاد المسير: 5 / 26-27. ورجح
الطبري قول من قال: "الأواب": هو التائب من الذنب، الراجع من معصية الله
إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه؛ لأن الأواب إنما هو "فعال" من قول
القائل: آب فلان من كذا، إما من سفره إلى نزله أو من حال إلى حال كما قال عبيد بن
الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب ... بنات وغائب الموت لا يؤوب
فهو يؤوب وهو رجل آئب من سفره وأواب من ذنوبه.
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) }
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا
فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } يَعْنِي صِلَةَ الرَّحِمِ
وَأَرَادَ بِهِ: قَرَابَةَ الْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَرَادَ بِهِ قَرَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
{ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } أَيْ: لَا
تُنْفِقْ مَالَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الْحَقِّ مَا
كَانَ تَبْذِيرًا وَلَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا.
وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ التَّبْذِيرِ فَقَالَ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي
غَيْرِ حَقِّهِ.
قَالَ شُعْبَةُ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ فِي طَرِيقِ الْكُوفَةِ
فَأَتَى عَلَى بَابِ دَارٍ بُنِيَ بِجِصٍّ وَآجُرٍّ فَقَالَ: هَذَا التَّبْذِيرُ.
وَفِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ (2) . {
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } أَيْ: أَوْلِيَاؤُهُمْ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مُلَازِمِ سُنَّةَ قَوْمٍ هُوَ أَخُوهُمْ { وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } جَحُودًا لِنِعَمِهِ. { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ } نَزَلَتْ فِي مَهْجَعٍ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَالِمٍ وَخَبَّابٍ
كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَايِينِ
مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَجِدُ فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ حَيَاءً مِنْهُمْ
وَيُمْسِكُ عَنِ الْقَوْلِ فَنَزَلَ { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } (3) وَإِنْ
تُعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تُؤْتِيَهُمْ { ابْتِغَاءَ
رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا } انْتِظَارَ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ تَرْجُوهُ
أَنْ يَأْتِيَكَ { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا } لَيِّنًا وَهِيَ الْعِدَةُ
أَيْ: عِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا وَقِيلَ: الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ أَنْ تَقُولَ:
يَرْزُقُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ.
__________
(1) وأولى التأويلين بالصواب تأويل من تأول ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة
قرابات أنفسهم وأرحامهم من قبل آبائهم وأمهاتهم وذلك أن الله عز وجل عقب ذلك عقيب
حضه عباده على بر الآباء والأمهات فالواجب أن يكون ذلك حضا على صلة أنسابهم دون
أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكرا. انظر: تفسير الطبري: 15 / 72.
(2) انظر: تفسير الطبري: 15 / 72-74، الدر المنثور: 5 / 274-275، زاد المسير: 5 /
27-28.
(3) زاد المسير: 5 / 29، البحر المحيط: 6 / 30، وفي نزولها أقوال أخرى في المصدرين
نفسيهما.
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) }
{ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } قال جابر: إني صَبِيٌّ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ دِرْعًا وَلَمْ يَكُنْ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَمِيصُهُ فَقَالَ
لِلصَّبِيِّ: مِنْ سَاعَةٍ إِلَى سَاعَةٍ يَظْهَرُ فَعُدْ وَقْتًا آخَرَ فَعَادَ
إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: قُلْ لَهُ إِنْ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الَّذِي
عَلَيْكَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَهُ
فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَعَدَ عُرْيَانًا فَأَذَّنَ بِلَالٌ
بِالصَّلَاةِ فَانْتَظَرُوهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَشَغَلَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَرَآهُ عُرْيَانًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ" (1) يَعْنِي: وَلَا
تُمْسِكْ يَدَكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْحَقِّ كَالْمَغْلُولَةِ يَدُهُ لَا
يَقْدِرُ عَلَى مَدِّهَا. { وَلَا تَبْسُطْهَا } بِالْعَطَاءِ { كُلَّ الْبَسْطِ }
فَتُعْطِيَ جَمِيعَ مَا عِنْدَكَ { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } يَلُومُكَ [سَائِلُوكَ]
(2) بِالْإِمْسَاكِ إِذَا لَمْ تُعْطِهِمْ وَ"الْمَلُومُ": الَّذِي
أَتَى بِمَا يَلُومُ نَفْسَهُ أَوْ يَلُومُهُ غَيْرُهُ { مَحْسُورًا } مُنْقَطِعًا
بِكَ لَا شَيْءَ عِنْدَكَ تُنْفِقُهُ يُقَالُ: حَسَرْتُهُ بِالْمَسْأَلَةِ إِذَا
أَلْحَفْتُ عَلَيْهِ وَدَابَّةٌ حَسِيرَةٌ إِذَا كَانَتْ كَالَّةً رَازِحَةً.
قَالَ قَتَادَةُ: "مَحْسُورًا" نَادِمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْكَ. {
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ } يُوسِعُ { الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أَيْ:
يُقَتِّرُ وَيُضَيِّقُ { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ } فَقْرٍ { نَحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا
يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ فَنُهُوا عَنْهُ وَأُخْبِرُوا أَنَّ
رِزْقَهُمْ وَرِزْقَ أَوْلَادِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى { إِنَّ قَتْلَهُمْ
كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ "خَطَأً"
بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَقْصُورًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ
الْخَاءِ مَمْدُودًا وقرأ الآخرون 209/أ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَجَزْمِ الطَّاءِ
وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ أَيْ: إِثْمًا كَبِيرًا.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص (332-333)، وقال ابن حجر في "الكافي
الشاف" ص (99): "لم أجده". وإذا صدرت هذه العبارة من أحد الحفاظ
كابن حجر وغيره كانت كافية في الحكم على الحديث بالوضع. انظر: تنزيه الشريعة لابن
عراق: 1 / 7-8، وبتفصيل أوسع في مقدمة التحقيق لكتاب "المصنوع في معرفة
الحديث الموضوع" لملا على القاري ص (25-27).
(2) ساقط من "أ".
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) }
{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } { وَلَا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } وَحَقُّهَا مَا
رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ
إِيمَانِهِ أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
فَيُقْتَلُ بِهَا" (1) .
{ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } أَيْ:
قُوَّةً وَوِلَايَةً عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَالَ
الضَّحَاكُ: سُلْطَانُهُ هُوَ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَقَادَ مِنْهُ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا.
{ فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " فَلَا
تُسْرِفْ " بِالتَّاءِ يُخَاطِبُ وَلِيَ الْقَتِيلِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:
بِالْيَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَيْ: لَا يُسْرِفُ الْوَلِيُّ فِي الْقَتْلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِسْرَافِ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ لَا يَقْتُلُ غَيْرَ الْقَاتِلِ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ قَتِيلٌ
لَا يَرْضَوْنَ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ حَتَّى يَقْتُلُوا أَشْرَفَ مِنْهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا فَلَا يَقْتُلْ
جَمَاعَةً بَدَلَ وَاحِدٍ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ
الْمَقْتُولُ شَرِيفًا لَا يَرْضَوْنَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ [وَحْدَهُ] (2) حَتَّى
يَقْتُلُوا مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَقْرِبَائِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ (3) .
{ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَقْتُولِ فِي
قَوْلِهِ: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا } يَعْنِي: إِنَّ الْمَقْتُولَ مَنْصُورٌ
فِي الدُّنْيَا بِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ وَفِي الْآخِرَةِ
بِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَإِيجَابِ النَّارِ لِقَاتِلِهِ هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مَعْنَاهُ:
أَنَّهُ مَنْصُورٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَصَاصِ مِنْهُ أَوِ
الدِّيَةِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الديات باب الإمام يأمر بالعفو في الدم: 6 / 301، عن أبي
أمامة والترمذي في الفتن باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: 3 / 373،
وقال: حديث حسن وابن ماجه في الحدود باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث برقم
(2533): 2 / 847، والمصنف في شرح السنة: 10 / 148. وأخرج الشيخان عن ابن مسعود
نحوه.
(2) زيادة من "ب".
(3) وهذه الأوجه في تأويل الآية غير خارجة عن الصواب وكلها تندرج في معنى الآية
وفي النهي عن الإسراف في القتل. والله أعلم.
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
وَقِيلَ
فِي قَوْلِهِ: { فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَاتِلَ
الْمُعْتَدِيَ يَقُولُ: لَا يَتَعَدَّى بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ
إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ مَنْصُورٌ مِنْ قِبَلِي عَلَيْهِ
بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ.
{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْئُولًا (36) }
{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } بِالْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَهْدِ
مَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ.
{ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَطْلُوبًا
وَقِيلَ: الْعَهْدُ يُسْأَلُ عَنْ صَاحِبِ الْعَهْدِ فَيُقَالُ: فِيمَا نُقِضْتَ
كَالْمَؤُودَةِ تُسْأَلُ فِيمَ قُتِلَتْ؟ { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ "
بِالْقِسْطَاسِ " بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهِ وَهُمَا
لُغَتَانِ وَهُوَ الْمِيزَانُ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ أَيْ: بِمِيزَانِ الْعَدْلِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقَبَّانُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ رُومِيٌّ وَقَالَ
غَيْرُهُ: هُوَ عَرَبِيٌّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ أَيْ: زِنُوا
بِالْعَدْلِ { الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } أَيْ: عَاقِبَةً.
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ:
رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَهُ وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْهُ وَعَلِمْتُ وَلَمْ
تَعْلَمْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: لَا تُتْبِعْهُ بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ. وَهُوَ فِي
اللُّغَةِ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ يُقَالُ: قَفَوْتُ فُلَانًا أَقْفُوهُ وَقَفَيْتُهُ
وَأَقْفَيْتُهُ إِذَا اتَّبَعْتُ أَثَرَهُ وَبِهِ سُمِّيَتِ الْقَافِيَةُ
لِتَتَبُّعِهِمُ الْآثَارَ.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَفَا كَأَنَّهُ يَقْفُو الْأُمُورَ
أَيْ: يَكُونُ فِي إِقْفَائِهَا يَتْبَعُهَا وَيَتَعَرَّفُهَا (1) .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: لَا تَتَكَلَّمْ [أَيُّهَا الْإِنْسَانُ] (2) بِالْحَدْسِ
وَالظَّنِّ.
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْئُولًا } قِيلَ: مَعْنَاهُ يُسْأَلُ الْمَرْءُ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ
وَفُؤَادِهِ.
__________
(1) انظر: القرطين لابن مطرف الكناني فقد تصرف المصنف بعبارة ابن قتيبة: 1 / 256.
(2) ساقط من "أ".
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
وَقِيلَ:
يُسْأَلُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْفُؤَادُ عَمَّا فَعَلَهُ الْمَرْءُ.
وَقَوْلُهُ: { كُلُّ أُولَئِكَ } أَيْ: كُلُّ هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ "أُولَئِكَ" [إِلَى] (1)
أَرْبَابِهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَامِدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الرَّفَّاءُ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ الْعَبْسِيُّ
حَدَّثَنِي بِلَالُ بْنُ يَحْيَى الْعَبْسِيُّ أَنَّ شُتَيْرَ بْنَ شَكَلٍ
أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعْوِيذًا
أَتَعَوَّذُ بِهِ فَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قلبي
وشر مَنِيَّ" قَالَ: فَحَفِظْتُهَا قَالَ سَعْدٌ الْمَنِيُّ مَاؤُهُ (2) .
{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ
تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) }
{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } أَيْ بَطَرًا وَكِبْرًا وَخُيَلَاءَ
وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَشْيِ فَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، { إِنَّكَ
لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ } أَيْ لَنْ تَقْطَعَهَا بِكِبْرِكَ حَتَّى تَبْلُغَ
آخِرَهَا { وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا } أَيْ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُطَاوِلَ
الْجِبَالَ وَتُسَاوِيَهَا بِكِبْرِكَ. مَعْنَاهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنَالُ
بِكِبْرِهِ وَبَطَرِهِ شَيْئًا كَمَنْ يُرِيدُ خَرْقَ الْأَرْضِ وَمُطَاوَلَةَ
الْجِبَالِ لَا يَحْصُلُ عَلَى شَيْءٍ.
وَقِيلَ: ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ مَشَى مُخْتَالًا يَمْشِي مَرَّةً عَلَى
عَقِبَيْهِ وَمَرَّةً عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَنْ
تَنْقُبَ الْأَرْضَ إِنْ مَشَيْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ
طُولًا إِنْ مَشَيْتَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْكَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ
الْجُوزَجَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ
الْخُزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ
الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ نَافِعِ بْنِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا مَشَى يَتَكَفَّأُ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا
يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ" (3) .
__________
(1) في "أ": على.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب في الاستعاذة: 2 / 160 والترمذي في الدعوات: 9 /
464-465، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وأخرجه
النسائي في الاستعاذة باب الاستعاذة من شر البصر: 8 / 260، وصححه الحاكم: 1 / 533،
ووافقه الذهبي. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 5 / 168-169.
(3) أخرجه الترمذي في المناقب باب من صفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الجسمية: 1 / 116-117، وفي كتابه "الشمائل المحمدية" ص (85،86) بهامش
شرح الباجوري، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 1 / 96، والمصنف في شرح السنة: 12 /
319. وهو حديث صحيح.
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيُّ
أَخْبَرَنَا الهيثم بن كليم حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ شَيْئًا
أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ
الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ
تُطْوَى لَهُ إِنَّا لِنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ"
(1) .
{ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب باب في صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: 10 / 131-132، وقال: "هذا حديث غريب" وأخرجه في الشمائل ص
(85) وصححه ابن حبان ص (521-522) من موارد الظمآن، وأخرجه ابن سعد في
"الطبقات": 1 / 380. وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) }
{ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ
وَمَعْنَاهُ: كُلُّ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } { كَانَ سَيِّئُهُ } أَيْ: سَيِّئُ مَا عَدَدْنَا
عَلَيْكَ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَدَّ أُمُورًا حَسَنَةً
كَقَوْلِهِ: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذُّلِّ } وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: " سَيِّئَةً " مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً يَعْنِي:
كُلُّ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } إلى
هذا 209/ب الْمَوْضِعِ سَيِّئَةٌ لَا حَسَنَةَ فِيهِ إِذِ الْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ مَكْرُوهَةً لِأَنَّ فِيهِ
تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا سَيِّئَةً.
[وَقَوْلُهُ { مَكْرُوهًا } عَلَى التَّكْرِيرِ لَا عَلَى الصِّفَةِ مَجَازُهُ:
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً وَكَانَ مَكْرُوهًا] (1) أَوْ رَجَعَ إِلَى
الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ الذَّنْبُ وَهُوَ مُذَكَّرٌ. {
ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْنَا { مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ }
وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ فَهُوَ حِكْمَةٌ.
{ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } خَاطَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأُمَّةُ {
فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } مَطْرُودًا مُبْعَدًا مِنْ كُلِّ
خَيْرٍ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ