6. معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الْإِحْرَامِ حَلَالٌ، مَا لَمْ تصيدوه
أو يُصاد لَكُمْ" (1) قَالَ أَبُو عِيسَى: الْمُطَّلِبُ لَا نَعْرِفُ لَهُ
سَمَاعًا مِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ
النَّعَمِ مِثْلُ بَيْضٍ أَوْ طَائِرٍ دُونَ الْحَمَامِ فَفِيهِ قِيمَةٌ
يَصْرِفُهَا إِلَى الطَّعَامِ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ
يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَرَادِ فَرَخَّصَ فِيهِ قَوْمٌ لِلْمُحْرِمِ
وَقَالُوا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَعَلَيْهِ
صَدَقَةٌ، قَالَ عُمَرُ: فِي الْجَرَادِ تَمْرَةٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ جَمِيعُ الْمِيَاهِ، قَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا
رُمِيَ بِهِ" (2) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ: طَعَامُهُ مَا قَذَفَهُ الْمَاءُ إِلَى السَّاحِلِ مَيْتًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْمَالِحُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَيْدُهُ: طَرِيُّهُ، وَطَعَامُهُ: مَالِحُهُ، مَتَاعًا لَكُمْ
أَيْ: مَنْفَعَةً لَكُمْ، وَلِلسَّيَّارَةِ يَعْنِي: الْمَارَّةَ.
وَجُمْلَةُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سَمَكٌ وَغَيْرُهُ، أَمَّا
السَّمَكُ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ
[وَدَمَانِ: الْمَيْتَتَانِ] الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: [الْكَبِدُ
وَالطِّحَالُ] (3) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ أَوْ بِغَيْرِ
سَبَبٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ مِنْ
وُقُوعٍ عَلَى حَجَرٍ أَوِ انْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في المناسك، باب لحم الصيد للمحرم: 2 / 362، بلفظ "صيد
البر لكم حلال.."، والترمذي في الحج، باب ما جاء في أكل لحم الصيد للمحرم: 3
/ 584، والنسائي في الحج، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله حلال: 5 / 187،
وصححه ابن حبان، ص(243) من الموارد، والحاكم: 1 / 452، والشافعي: 1 / 322-323 (ترتيب
المسند)، والمصنف في شرح السنة: 7 / 263-264. والمطلب بن حنظب المخزومي: صدوق كثير
التدليس والإرسال. وعمرو بن أبي عمرو: مختلف فيه وإن كان من رجال الصحيحين. انظر:
تلخيص الحبير: 2 / 26.
(2) انظر: تفسير الطبري: 8 / 63 (طبع الحلبي).
(3) ما بين القوسين من "شرح السنة" ومن نسخة "ب"، والحديث
أخرجه الشافعي في ترتيب المسند: 2 / 173، وابن ماجه في الأطعمة، باب الكبد
والطحال، برقم(3314): 2 / 1102، والدارقطني في الصيد والذبائح: 4 / 271-272،
والإمام أحمد: 2 / 97 عن ابن عمر مرفوعا. ورواه البيهقي موقوفا وقال: هذا إسناد صحيح،
وهو في معنى المسند، السنن: 1 / 254. وعزاه الزيلعي أيضا لعبد بن حميد وابن حبان
في الضعفاء، وأعله بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: كان يقلب الأخبار وهو لا
يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المراسيل، فاستحق الترك.
انظر: نصب الراية: 4 / 201-202. وعزاه أيضا ابن حجر لابن مردويه في التفسير عن أبي
سعيد مرفوعا، وقال: ذكره الدارقطني في العلل... والرواية الموقوفة التي صححها أبو
حاتم وغيره هي في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي: أحل لنا، وحرم علينا كذا، مثل
قوله: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، فيحصل الاستدلال بهذه الرواية، لأنها في معنى
المرفوع". تلخيص الحبير: 1 / 26. وأخرجه أيضا: المصنف في شرح السنة: 11 /
244.
أَمَّا
غَيْرُ السَّمَكِ فَقِسْمَانِ: قِسْمٌ يَعِيشُ في البر كالضغدع وَالسَّرَطَانِ،
فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَقِسْمٌ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَلَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ
إِلَّا عَيْشَ الْمَذْبُوحِ، فَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى
أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا السَّمَكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ [مَيِّتَ
الْمَاءِ كُلَّهَا حَلَالٌ] (1) لِأَنَّ كُلَّهَا سَمَكٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ
صُوَرُهَا، [كَالْجَرِيثِ] (2) يُقَالُ لَهُ حَيَّةُ الْمَاءِ، وَهُوَ عَلَى
شَكْلِ الْحَيَّةِ وَأَكْلُهُ مُبَاحٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَرِّ يُؤْكَلُ،
فَمَيْتَتُهُ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ حَلَالٌ، مِثْلُ بَقَرِ الْمَاءِ
وَنَحْوِهِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ لَا يَحِلُّ مَيْتَتُهُ
مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، مِثْلُ كَلْبِ الْمَاءِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحِمَارِ
وَنَحْوِهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُلُّ شَيْءٍ عَيْشُهُ فِي الْمَاءِ فَهُوَ حَلَالٌ،
قِيلَ: فَالتِّمْسَاحُ؟ قَالَ نَعَمْ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ
لَأَطْعَمْتُهُمْ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ
بِالسَّرَطَانِ بَأْسًا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَبَاحَ جَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ،
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ
بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ [سَلْمَانَ] (3) عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ آلِ
بَنِي الْأَزْرَقِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي
عَبْدِ الدَّارِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ وَنَحْمِلُ مَعَنَا
الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا به عطشنا، أفتوضأ بِمَاءِ
الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (4) .
__________
(1) هذه العبارة جاءت في "أ" هكذا: (رميت الكل حلال).
(2) في "ب": (كالحربة).
(3) في "ب" (سليم).
(4) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر: 1 / 81، والترمذي في
الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور: 1 / 225 وقال: هذا حديث حسن صحيح،
والنسائي في الطهارة، باب ماء البحر: 1 / 50، وابن ماجه في الطهارة، باب الوضوء
بماء البحر: 1 / 50، ومالك في الموطأ: 1 / 22، وصححه الحاكم: 1 / 140-141، وابن
حبان برقم(119)، وأخرجه الشافعي: 1 / 23 (ترتيب المسند) والدارقطني: 1 / 34-35،
والمصنف في شرح السنة: 2 / 55. وانظر تلخيص الحبير: 1 / 9-12.
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ أَنَّهُ
سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: غَزَوْتُ جَيْشَ الْخَبَطِ
وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا فَأَلْقَى الْبَحْرُ
حُوتًا مَيْتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ، يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ
نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، فَمَرَّ
الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا
يَقُولُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ
ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
"كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ
مَعَكُمْ" فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَأَكَلُوهُ (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } 112/ب صَيْدُ الْبَحْرِ
حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ، كَمَا هُوَ حَلَالٌ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، أَمَّا صَيْدُ
الْبَرِّ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ، وَالصَّيْدُ هُوَ
الْحَيَوَانُ الْوَحْشِيُّ الَّذِي يَحِلُّ أَكْلُهُ، أَمَّا مَا لَا يَحِلُّ
أَكْلُهُ فَلَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلِلْمُحْرِمِ أَخْذُهُ
وَقَتْلُهُ، وَلَا جَزَاءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ إِلَّا الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ مَا
لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا يُؤْكَلُ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ
وَالظَّبْيِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ عَلَى
الْمُحْرِمِ، لِأَنَّ فِيهِ جَزَاءٌ مِنَ الصَّيْدِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة سيف البحر: 8 / 78 واللفظ له، ومسلم في
الصيد والذبائح، باب إباحة ميتات البحر، برقم(1935): 3 / 1535 والمصنف في شرح
السنة: 11 / 246. وقد يعجب بعض الناس من ضخامة هذه الدابة: وقد يظن بعضهم أن في
هذا مبالغة، وقد يدفعه ذلك إلى تكذيب الرواية. ونحن هنا أمام نص صحيح ووثيقة
صادقة، فالحديث صحيح سندا، إذ اتفق على تخريجه البخاري ومسلم، وهما في أعلى درجات
الصحة، والحديث صحيح متنا، وإليك مثلا قريبا من عجائب مخلوقات الله تعالى يدل على
ذلك، ذكره المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي في صحيح مسلم، في الجزء الذي خصصه
للفهارس: 5 / 586: (1) نشرت جريدة الأهرام القاهرية، في العدد (24419)، بتاريخ: 27
/ 9 / 1953 الصفحة الثانية، عمود 7، تحت عنوان: "حوت يونس": اجتازت
شوارع باريس أمس سيارة نقل طولها (30) مترا، يقال إنها أطول سيارة نقل في العالم،
وكانت تقل "يونس"، وهو حوت ضخم عمره (18) شهرا، وطوله (20) مترا، ووزنه
(8000) كيلو جرام. وقد حنطه أصحابه وقاموا بعرضه على النظارة في النرويج والسويد
والدنمارك والنمسا وألمانيا. وسيعرض في باريس هذا الأسبوع لقاء أجر معلوم. وقد
أضيء باطنه بالمصابيح الكهربائية ليتسنى للنظارة رؤية جوفه. (2) نشرت جريدة
"الأخبار الجديدة" في العدد (396) بتاريخ 27 / 9 / 1953، الصفحة
الثانية، عمود 1و2، تحت عنوان: "حوت طوله 20 مترا ووزنه 8 أطنان الناس يدخلون
بطنه، (10) كل دفعة: باريس: دخل صباح اليوم "أونا" باريس دخول الفاتحين،
يحرسه عشرات من رجال البوليس الراكب والراجل. أما "أونا" هذا: فهو حوت
نرويجي ضخم.. ثم تابعت وصف الحوت فقالت: ويسمح للناس بدخول كرشه المضاء بالكهرباء.
ويستطيع عشرة أشخاص أن يدخلوا بطنه مرة واحدة.. إلخ.
عَنْ
نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ
عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ
وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَقْتُلُ
الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِي" (2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ
فِي الْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ
الْعَقُورُ" (3) .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ كُلُّ سَبُعٍ يَعْقِرُ،
وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ
فِي قَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، مِنَ الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالْخِنْزِيرِ
وَنَحْوِهَا إِلَّا الْأَعْيَانَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْخَبَرِ، وَقَاسُوا
عَلَيْهَا الذِّئْبَ فَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَقَاسَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ
يَشْتَمِلُ عَلَى أَعْيَانٍ بَعْضُهَا سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ وَبَعْضُهَا هَوَامٌ
قَاتِلَةٌ وَبَعْضُهَا طَيْرٌ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى السِّبَاعِ وَلَا هِيَ
مِنْ جُمْلَةِ [الْهَوَامِ] (4) وَإِنَّمَا هِيَ حَيَوَانٌ مُسْتَخْبَثُ
اللَّحْمِ، وَتَحْرِيمُ الْأَكْلِ يَجْمَعُ الْكُلَّ فَاعْتَبَرَهُ وَرَتَّبَ
الْحُكْمَ عَلَيْهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 4 / 34، وفي بدء
الخلق، ومسلم في الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم،
برقم(1199): 2 / 857. والمصنف في شرح السنة: 7 / 266.
(2) أخرجه أبو داود في المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 2 / 360 مطولا،
والترمذي في الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 3 / 577، وقال: هذا حديث حسن،
وابن ماجه في المناسك، باب ما يقتل المحرم: 2 / 1032، والإمام أحمد في المسند: 3 /
3، والمصنف في شرح السنة: 7 / 267. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: 2 / 274
"وفي إسناده زيد بن أبي زياد، وهو ضعيف".
(3) أخرجه أبو داود في الموضع السابق نفسه، والترمذي في الموضع السابق عن عائشة،
وقال: حديث حسن صحيح وفي إسناد أبي داود: ابن عجلان. ويتقوى بالحديث السابق وغيره.
(4) في "ب": (السباع).
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ }
قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِتَرْبِيعِهَا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ
بَيْتٍ مُرَبَّعٍ كَعْبَةً، قَالَ مُقَاتِلٌ: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِانْفِرَادِهَا
مِنَ الْبِنَاءِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِارْتِفَاعِهَا مِنَ الْأَرْضِ،
وَأَصْلُهَا مِنَ الْخُرُوجِ وَالِارْتِفَاعِ، وسمي الكعب عكبا لِنُتُوئِهِ،
وَخُرُوجِهِ مِنْ جانبي
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
القدم،
ومن قِيلَ لِلْجَارِيَةِ إِذَا قَارَبَتِ الْبُلُوغَ وَخَرَجَ ثَدْيُهَا:
تَكَعَّبَتْ. وَسُمِّيَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ
وَعَظَّمَ حُرْمَتَهُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ" (1) { قِيَامًا لِلنَّاسِ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ(قِيَمًا)
بِلَا أَلْفٍ وَالْآخَرُونَ: "قِيَامًا" بِالْأَلْفِ، أَيْ: قَوَامًا لَهُمْ
فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، أَمَّا الدِّينُ لِأَنَّ بِهِ يَقُومُ
الْحَجُّ وَالْمَنَاسِكُ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فِيمَا يُجْبَى إِلَيْهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ، وَكَانُوا يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَ النَّهَارِ وَالْغَارَةِ فَلَا
يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ فِي الْحَرَمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
}(الْعَنْكَبُوتِ-67) { وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } أَرَادَ بِهِ الْأَشْهُرَ
الْحُرُمَ وهي ذو العقده وذو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، أَرَادَ أَنَّهُ
جَعَلَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يَأْمَنُونَ فِيهَا الْقِتَالَ،
{ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ } أَرَادَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ
بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، فَذَلِكَ الْقَوَامُ فِيهِ.
{ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ
اتِّصَالٍ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ؟ قِيلَ: أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ صَلَاحَ
الْعِبَادِ كَمَا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: قَدْ سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ
وَالْكَشْفُ عَنِ الْأَسْرَارِ، مِثْلُ قَوْلِهِ(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ)، وَمِثْلُ إِخْبَارِهِ بِتَحْرِيفِهِمُ الْكُتُبَ
وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ { ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } رَاجِعٌ إِلَيْهِ.
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) }
{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ } [التَّبْلِيغُ] (2) { وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }
{ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } أَيِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، {
وَلَوْ أَعْجَبَكَ } سَرَّكَ { كَثْرَةُ الْخَبِيثِ }
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب رقم(35): 8 / 26، ومسلم بنحوه في الحج، باب
تحريم مكة وصيدها، برقم(1353): 2 / 986، والمصنف في شرح السنة: 7 / 294.
(2) ساقط من "ب".
نَزَلَتْ
فِي شُرَيْحِ بْنِ [ضُبَيْعَةَ] (1) الْبَكْرِيِّ، وَحَجَّاجِ بْنِ بَكْرِ بْنِ
وَائِلٍ (2) { فَاتَّقُوا اللَّهَ } وَلَا تَتَعَرَّضُوا لِلْحُجَّاجِ وَإِنْ
كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَقَدْ مَضَتِ الْقِصَّةُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، { يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الْآيَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا حَفْصُ
بْنُ عُمَرَ أَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ
بِالْمَسْأَلَةِ، فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلُونِي
الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ"، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ
يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كَانَ رَجُلٌ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي،
فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالُ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ "حُذَافَةُ": ثُمَّ أَنْشَأَ
عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا،
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الْفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا
رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنِّي صُوِّرَتْ لِيَ
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ"، وَكَانَ
قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }
(3) .
قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حُذَافَةَ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ، أَأَمِنْتَ أَنْ
تَكُونَ أمك قد فارقت بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا
عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَاللَّهِ لَوْ
أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ (4) . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ فَاعْفُ عَنَّا يَعْفُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْكَ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ أَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ أَنَا
أَبُو خَيْثَمَةَ أَنَا أَبُو جُوَيْرِيَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ
__________
(1) في "أ": (ضبعة) وهو خطأ.
(2) انظر فيما سلف، سبب نزول الآية الثانية من السورة، ص (7-8).
(3) أخرجه البخاري في الفتن، باب التعوذ من الفتن: 13 / 43، ومسلم في الفضائل، باب
توقيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه،
برقم (2359): 4 / 1833-1834. ومعنى أَحْفَوه: أي أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه.
يقال: أحفى وألحف وألحَّ، بمعنى. و"لاحى": من الملاحاة وهي المماراة والمجادلة.
و"أنشأ": أي ابتدأ.
(4) انظر: صحيح مسلم في الموضع السابق.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
قَوْمٌ
يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً،
فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ
نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حَتَّى
فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا (1) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى عَادَ
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَقُولَ نَعَمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ قَلْتُ
نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَاتْرُكُونِي مَا
تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ
وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ
فَاجْتَنِبُوهُ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } (2) أَيْ:
إِنْ تَظْهَرْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، أَيْ: إِنْ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا
فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ فِي كُلِّ
عَامٍ فَيَسُوءُهُ، وَمَنْ سَأَلَ عَنْ نَسَبِهِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ أَنْ
يُلْحِقَهُ بِغَيْرِهِ فَيُفْتَضَحُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ (3) نَزَلَتْ حِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ،
أَلَا تَرَاهُ ذَكَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ
يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } 113\أ مَعْنَاهُ صَبَرْتُمْ حَتَّى يَنْزِلَ
الْقُرْآنُ بِحُكْمٍ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ حُكْمٍ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ
شَرْحُ مَا بِكُمْ إِلَيْهِ حاجة ومست جاحتكم إِلَيْهِ، فَإِذَا سَأَلْتُمْ عنها
حينئذ تبد لَكُمْ، { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
}
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } كَمَا سَأَلَتْ ثَمُودُ صَالِحًا
النَّاقَةَ وَسَأَلَ قَوْمُ عِيسَى الْمَائِدَةَ، { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا
كَافِرِينَ } فَأُهْلِكُوا، قَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ: "إِنَّ
اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَنَهَى
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة المائدة، باب "لا تسألوا عن أشياء إن تبد
لكم تسؤكم": 8 / 280.
(2) أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه في تفسير سورة المائدة: 8 / 420 وقال هذا
حديث حسن غريب من حديث علي. وابن ماجه في المناسك، برقم (2884): 2 / 963، قال في
تحفة الأحوذي: "وهو منقطع". وأصل الحديث في صحيح مسلم من رواية أبي
هريرة رضي الله عنه، في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم(1337): 2 /
975، وعند المصنف في شرح السنة: 7 / 3، وانظر: الدر المنثور: 3 / 206.
(3) قارن بالدر المنثور للسيوطي: 3 / 208 فقد ذكر عن مجاهد أنها نزلت في السؤال عن
الحج، كما سبق، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
عَنْ
أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا
عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا (1) .
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ (103))
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } أَيْ: مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ، { وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا
حَامٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ هَذِهِ [الْأَوْضَاعِ] (2) الْبَحِيرَةُ
هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ بَحَرُوا
أُذُنَهَا، أَيْ: شَقُّوهَا وَتَرَكُوا الْحَمْلَ عَلَيْهَا وَرُكُوبَهَا، وَلَمْ
يَجُزُّوا وَبَرَهَا وَلَمْ يَمْنَعُوهَا الْمَاءَ وَالْكَلَأَ ثم نظروا إلا
خَامِسِ وَلَدِهَا فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا نَحَرُوهُ وَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ،
وَإِنْ كَانَ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا، أَيْ: شَقُّوهَا وَتَرَكُوهَا وَحُرِّمَ
عَلَى النِّسَاءِ لَبَنُهَا وَمَنَافِعُهَا، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا خَاصَّةً
لِلرِّجَالِ، فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَقِيلَ: كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا تَابَعَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِنَاثًا
سُيِّبَتْ فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا وَلَمْ يَشْرَبْ
لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّ
أُذُنُهَا ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا فِي الْإِبِلِ، فَلَمْ تُرْكَبْ
وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرُهَا وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ
بِأُمِّهَا، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: السَّائِبَةُ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسَيَّبُ، وَذَلِكَ
أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا مَرِضَ وَغَابَ لَهُ
قَرِيبٌ نَذَرَ فَقَالَ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ تَعَالَى أَوْ شُفِيَ مَرِيضِي أَوْ
عَادَ غَائِبِي، فَنَاقَتِي هَذِهِ سَائِبَةٌ، ثُمَّ يُسَيِّبُهَا فَلَا تُحْبَسُ
عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ وَلَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ
الْبَحِيرَةِ.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الْعَبْدُ يُسَيَّبُ عَلَى أَنْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ
وَلَا عَقْلَ وَلَا مِيرَاثَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (3) .
وَالسَّائِبَةُ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولَةِ، وَهِيَ الْمُسَيَّبَةُ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { مَاءٍ دَافِقٍ } أَيْ: مَدْفُوقٍ وَ{ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }
__________
(1) أخرجه الدارقطني مرفوعا عن أبي ثعلبة، وفي السنن: كتاب الرضاع: 4 / 184، وحسنه
النووي في الأربعين، وأخرجه أيضا عن أبي سعيد الخدري: 4 / 298 وفيه قصة في سندها:
نهشل الخراساني، قال إسحاق بن راهويه: كان كذابا. وقال أبو حاتم: متروك. قال
الحافظ ابن رجب: هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة. وله علتان: إحداهما: أن
مكحولا لم يصح له سماع من أبي ثعلبة. والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي
ثعلبة. وقد روي معنى الحديث مرفوعا من وجوه أخر. خرجه البزار في مسنده، والحاكم من
حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير عن أبي
الدرداء، والبزار، وقال: إسناده حسن ورجاله موثقون. وعزا حديث أبي ثعلبة للطبراني
في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح، انظر: جامع العلوم والحكم ص (260-261)، مجمع
الزوائد: 1 / 171.
(2) في "ب": (الأوضاح).
(3) أخرجه البخاري في الفرائض، باب الولاء لمن أعتق: 12 / 39، وفي العتق، ومسلم في
العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، برقم (1504): 2 / 1141، والمصنف في شرح السنة: 8
/ 348.
وَأَمَّا
الْوَصِيلَةُ: فَمِنَ الْغَنَمِ كَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةَ
أَبْطُنٍ فَإِذَا كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا فِي الْغَنَمِ وَإِنْ كَانَ
ذَكَرًا وَأُنْثَى اسْتَحْيَوُا الذَّكَرَ مِنْ أَجْلِ الْأُنْثَى، وَقَالُوا:
وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يَذْبَحُوهُ، وَكَانَ لَبَنُ الْأُنْثَى حَرَامًا عَلَى
النِّسَاءِ، فَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ
جَمِيعًا.
وَأَمَّا الْحَامُ: فَهُوَ الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ، وَيُقَالُ:
إِذَا نَتَجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَةُ أَبْطُنٍ، قَالُوا: حُمِيَ ظَهْرُهُ فَلَا
يُرْكَبُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَأٍ وَلَا مَاءٍ،
فَإِذَا مَاتَ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي
يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ،
وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا
شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ
فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" (1) .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ] (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَكْثَمَ بْنِ جَوْنٍ الْخُزَاعِيِّ:
"يَا أَكْثَمُ رَأَيْتَ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ [بْنِ خَنْدَقٍ]
(3) يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ فما رأيت رجل أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ
وَلَا بِهِ مِنْكَ" وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ
إِسْمَاعِيلَ وَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ
السَّائِبَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِ، "فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ
فِي النَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِ قُصْبِهِ"، فَقَالَ أَكْثَمُ:
أَيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ
وَهُوَ كَافِرٌ" (4) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ } فِي قَوْلِهِمُ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا { وَأَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ }
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا
وصيلة ولا حام": 8 / 283، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها
الجبارون، برقم(2856): 4 / 2191.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الطبري في التفسير: 11 / 118، وابن إسحاق في السيرة: 1 / 76، ونسبه ابن
حجر أيضا لابن أبي عروبة وابن منده من طريق ابن إسحاق، ثم قال: والحديث مخرج عند
مسلم من طريق سهيل بن صالح عن أبيه أخصر منه، دون قصة أكثم (وهو يشير إلى الحديث
السابق). انظر: الإصابة: 1 / 107، أسد الغابة: 1 / 133، تفسير ابن كثير: 2 / 108،
البداية والنهاية: 2 / 187-189.
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
} فِي تَحْلِيلِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ،
{ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } مِنَ الدِّينِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا
يَهْتَدُونَ }
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا
يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }
وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَلَا تَدْرُونَ مَا هِيَ، وَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ
النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى بِعِقَابِهِ" (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ
الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليكم شراركم
فليسومونكم سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَيَدْعُوَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
خِيَارَكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ [لَكُمْ] (2) " (3) .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: خَافَ الصِّدِّيقُ أَنْ يَتَأَوَّلَ النَّاسُ الْآيَةَ
عَلَى غَيْرِ مُتَأَوَّلِهَا فَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
[وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ] (4) فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ
وَأَنَّ الَّذِي أُذِنَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَغْيِيرِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ، هُوَ
الشِّرْكُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الْمُعَاهَدُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ
يَتَدَيَّنُونَ بِهِ، وَقَدْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الملاحم، باب الأمر والنهي: 6 / 187، وعزاه المنذري
للنسائي، وأخرجه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر:
6 / 388، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضا في التفسير، وابن ماجه في الفتن، باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر: (4005): 2 / 1327، وصححه ابن حبان برقم(1837) ص(455)،
والإمام أحمد في المسند: 1 / 5،7، وأبو بكر المروزي في مسند الصديق ص(128-131)، والمصنف
في شرح السنة: 14 / 344.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: 13 / 92، ورواه الطبراني في الأوسط والبزار في
مسنده. قال الهيثمي: وفيه حبان بن علي، وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية
وضعفه في غيرها. وقال العراقي: كلا طريقيه ضعيف. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 266، فيض
القدير: 5 / 261.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
الْفُسُوقُ
وَالْعِصْيَانُ وَالرَّيْبُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، يَعْنِي: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ فَخُذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَاتْرُكُوهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ
فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مِنْهُ
آيٌ: قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ، وَمِنْهُ آيٌ: قَدْ
وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِيَسِيرٍ،
وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ آيٌ: يَقَعُ
تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ
تَلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَأْمُرُوا
وَانْهَوْا، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ
شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْزِيُّ
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ نَصْرٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا
عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ حدثني عمرو 113/ب بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ أَنَا
أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ
فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ:
أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ
لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى
مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ،
وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِ،
فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ
عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا
يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ" قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُهُ
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "أَجْرُ
خَمْسِينَ مِنْكُمْ" (2) .
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ:
دَخَلَ عَلَى صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَذَكَرَ
شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَاصَّةِ اللَّهِ
الَّتِي خَصَّ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }
__________
(1) الطبري: 11 / 143-144.
(2) أخرجه أبو داود في الملاحم، باب الأمر والنهي: 6 / 188،189، والترمذي في تفسير
سورة المائدة: 8 / 423-426 وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه في الفتن، باب قوله
تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" برقم(4014): 2 / 1330-1331،
وابن حبان برقم(1850) ص(457) وصححه الحاكم: 4 / 322 ووافقه الذهبي. وله شواهد
يتقوى بها، وأخرجه أيضا المصنف في شرح السنة: 14 / 347.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قوله
عز وجل: { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } الضال والمهتدي، {
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ
الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ
ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ
شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ
الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ
لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا
لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }
قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } سبب نزول
هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن [بدّاء] (1) قد خرجا من المدينة
للتجارة إلى أرض الشام، وهما نصرانيان، ومعهما بُدَيْل مولى عمرو بن العاص، وكان
مسلما فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى
أهله، ومات بديل ففتشا متاعه وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة
مثقال فضة فغيباه، ثم قضيا حاجتهما، فانصرفا إلى المدينة، فدفعا المتاع إلى أهل
البيت، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميما وعديا فقالوا:
هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؛ قالا لا قالوا: فهل اتجر تجارة؟ قالا لا قالوا: هل
طال مرضه فأنفق على نفسه قالا لا فقالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما
كان معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة، قالا
ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء،
فاختصموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصرا على الإنكار، وحلفا
فأنزل الله عز وجل هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ
بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } (2)
أي: ليشهد اثنان، لفضه خبر ومعناه أمر.
وقيل: معناه: أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان، واختلفوا في هذين
الاثنينُ
__________
(1) في المخطوطتين (زيد) وهو خطأ. والتصويب من الترمذي وغيره.
(2) انظر: الترمذي، تفسير سورة المائدة: 8 / 426-431، فقد ساق الرواية وقال: هذا
حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وأبو النَّضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث
هو عندي: محمد بن السائب الكلبي، وقد تركه أهل العلم بالحديث.. وقد روي عن ابن
عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه. وانظر: الطبري: 11 / 185، أسباب
النزول للواحدي ص(245)، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 713-717. وعزاه السيوطي أيضا
لابن أبي حاتم والنحاس في الناسخ والمنسوخ وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في
المعرفة. انظر: الدر المنثور: 3 / 220-221.
فَقَالَ
قَوْمٌ: هُمَا الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمَا
وَلِأَنَّهُ قَالَ: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ }
وَلَا يلزم الشاهد يمين، وَجُعِلَ الْوَصِيُّ اثْنَيْنِ تَأْكِيدًا، فَعَلَى هَذَا
تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، كَقَوْلِكَ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ
فُلَانٍ، بِمَعْنَى حَضَرْتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(النُّورِ -2) يُرِيدُ الْحُضُورَ { ذَوَا عَدْلٍ }
أَيْ: أَمَانَةٍ وَعَقْلٍ { مِنْكُمْ } أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ يَا مَعْشَرَ
الْمُؤْمِنِينَ { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أَيْ: مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ
وَمِلَّتِكُمْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعُبَيْدَةَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ (1) فَقَالَ النَّخَعِيُّ
وَجَمَاعَةٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَكَانَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةً
فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَتْ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا ثَابِتَةٌ، وَقَالُوا: إِذَا لَمْ نَجِدْ
مُسْلِمَيْنِ فَنُشْهِدُ كَافِرَيْنِ.
وَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ كَانَ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا
يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ كَافِرَيْنِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كَانَا
مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، فَشَهَادَتُهُمْ
جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ إِلَّا عَلَى
وَصِيَّةٍ فِي سَفَرٍ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
بِدَقُوقَا وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ
رَجُلَيْنِ مَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ بِتَرِكَتِهِ وَأَتَيَا
الْأَشْعَرِيَّ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي
كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَحْلَفَهُمَا، وَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أَيْ: مِنْ حَيِّ الْمُوصِي
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِ حَيِّكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَالزُّهْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ، وَقَالُوا: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي
شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ } أَيْ سِرْتُمْ
وَسَافَرْتُمْ، { فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ }
فَأَوْصَيْتُمْ إِلَيْهِمَا وَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمَا مَالَكُمْ فَاتَّهَمَهُمَا
بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ {
تَحْبِسُونَهُمَا } أَيْ: تَسْتَوْقِفُونَهُمَا، { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } أَيْ:
بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَ{ مِنْ } صِلَةٌ يُرِيدُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، هَذَا
__________
(1) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص: 4 / 163 وما بعدها، أحكام القرآن للطبري
الهراس 3 / 310-314، أحكام القرآن للشافعي، جمع البيهقي: 2 / 147-155.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
قَوْلُ
الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَعَامَّةِ
الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ
الْوَقْتَ، وَيَجْتَنِبُونَ فِيهِ الْحَلِفَ الْكَاذِبَ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَرَادَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ
أَهْلِ دِينِهِمَا وَمِلَّتِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ بِصَلَاةِ
الْعَصْرِ، { فَيُقْسِمَانِ } يَحْلِفَانِ، { بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } أَيْ:
شَكَكْتُمْ وَوَقَعَتْ لَكُمُ الرِّيبَةُ فِي قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ
وَصِدْقِهِمَا، أَيْ: فِي قَوْلِ اللَّذَيْنِ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ،
فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا، { لَا نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَنًا } أَيْ: لَا نَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ عَلَى عِوَضٍ نَأْخُذُهُ أَوْ
مَالٍ نَذْهَبُ بِهِ أَوْ حَقٍّ نَجْحَدُهُ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } وَلَوْ
كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرَابَةٍ مِنَّا، { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ
اللَّهِ } أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا
وَنَهَى عَنْ كِتْمَانِهَا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ " شَهَادَةً "
بِتَنْوِينٍ، " اللَّهِ " مَمْدُودٍ، وَجَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ عِوَضًا
عَنْ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ " شَهَادَةً "
بِتَنْوِينٍ، " اللَّهِ " بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ
غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ عَلَى ابْتِدَاءِ الْيَمِينِ، أَيْ: وَاللَّهِ: { إِنَّا
إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ } أَيْ إِنْ كَتَمْنَاهَا كُنَّا مِنَ الْآثِمِينَ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَدَعَا تَمِيمًا وَعَدِيًّا
فَاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
أَنَّهُمَا لَمْ يَخْتَانَا شَيْئًا مِمَّا دُفِعَ إِلَيْهِمَا فَحَلَفَا عَلَى
ذَلِكَ، وَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَبِيلَهُمَا.
ثُمَّ ظَهَرَ الْإِنَاءُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ظُهُورِهِ (1) فَرَوَى
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ
وُجِدَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ،
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَظْهَرُوهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ بَنِي
سَهْمٍ فَأَتَوْهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَا إِنَّا كُنَّا قَدِ اشْتَرَيْنَاهُ
مِنْهُ فَقَالُوا لَهُمَا: أَلَمْ تَزْعُمَا أَنَّ صَاحِبَنَا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا
مِنْ مَتَاعِهِ؟ قَالَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بينة وكرهنأ 114\أ أَنَّ نُقِرَّ
لَكُمْ بِهِ فَكَتَمْنَاهُ لِذَلِكَ، فَرَفَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنْ عُثِرَ }
{ فَإِنْ عُثِرَ } أَيِ: اطُّلِعَ عَلَى خِيَانَتِهِمَا، وَأَصْلُ الْعُثُورِ:
الْوُقُوعُ عَلَى الشَّيْءِ، { عَلَى أَنَّهُمَا } يَعْنِي: الْوَصِيَّيْنِ {
اسْتَحَقَّا } اسْتَوْجَبَا، { إِثْمًا } بِخِيَانَتِهِمَا وَبِأَيْمَانِهِمَا
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 3 / 222.
الْكَاذِبَةِ،
{ فَآخَرَانِ } مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ، { يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا }
يَعْنِي: مَقَامَ الْوَصِيَّيْنِ، { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ } بِضَمِّ التَّاءِ
على المجهول، هذا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، يَعْنِي: الَّذِينَ اسْتَحَقَّ، {
عَلَيْهِمُ } أَيْ فِيهِمْ وَلِأَجْلِهِمُ الْإِثْمَ وَهُمْ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ
اسْتَحَقَّ الْحَالِفَانِ بِسَبَبِهِمُ الْإِثْمَ وَ(عَلَى) بِمَعْنَى فِي، كَمَا
قَالَ اللَّهُ(عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)(الْبَقَرَةِ، 102) أَيْ: فِي مُلْكِ
سُلَيْمَانَ، وَقَرَأَ حَفْصٌ(اسْتَحَقَّ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، أَيْ: حَقٌّ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ،
يُقَالُ: حَقَّ وَاسْتَحَقَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، { الْأَوْلَيَانِ } نَعْتٌ
لَلْآخَرَانِ، أَيْ: فَآخَرَانِ الْأَوْلَيَانِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ وَ{
الْأَوْلَيَانِ } مَعْرِفَةٌ وَالْآخَرَانِ نَكِرَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ
الْـ"آخَرَانِ"، فَقَالَ { مِنَ الَّذِينَ } صَارَ كَالْمَعْرِفَةِ وَ{
الْأَوْلَيَانِ } تَثْنِيَةُ الْأَوْلَى، وَالْأَوْلَى هُوَ الْأَقْرَبُ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ " الْأَوْلَيِنَ "
بِالْجَمْعِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ أَيْضًا
أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْحَالِفِينَ يَقُومُ اثْنَانِ
آخَرَانِ مِنْ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا
أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } يَعْنِي: يَمِينَنَا أَحَقُّ مِنْ يَمِينِهِمَا،
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي اللِّعَانِ:(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ)(النُّورِ -6). وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَيْمَانُ، فَهُوَ
كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَيْ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، { وَمَا
اعْتَدَيْنَا } فِي أَيْمَانِنَا، وَقَوْلِنَا أَنَّ شَهَادَتَنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا،
{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمَطَّلِبُ
بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيَّانِ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ
فَدَفَعَا الْإِنَاءَ إِلَيْهِمَا وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ، وَكَانَ
تَمِيمٌ الدَّارِيُّ بَعْدَمَا أَسْلَمَ يَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَا
أَخَذْتُ الْإِنَاءَ، فَأَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَإِنَّمَا
انْتَقَلَ الْيَمِينُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ ادَّعَيَا
أَنَّهُمَا ابْتَاعَاهُ.
وَالْوَصِيُّ إِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَقَالَ: إِنَّهُ
أَوْصَى لِي بِهِ حَلَفَ الْوَارِثُ، إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوِ
ادَّعَى رَجُلٌ سِلْعَةً فِي يَدِ رَجُلٍ فَاعْتَرَفَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ
اشْتَرَاهَا مِنَ الْمُدَّعِي، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهَا مِنْهُ.
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ تَمِيمٍ
الدَّارِيِّ قَالَ: كُنَّا بِعْنَا الْإِنَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَسَّمْتُهَا
أَنَا وَعَدِيٌّ، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ تَأَثَّمْتُ فَأَتَيْتُ مَوَالِيَ
الْمَيِّتِ فَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مَثَلَهَا فَأَتَوْا بِهِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَلَفَ عَمْرٌو
وَالْمُطَّلِبُ فَنَزَعْتُ الْخَمْسَمِائَةٍ مِنْ عَدِيٍّ، وَرَدَدْتُ أَنَا الْخَمْسَمِائَةَ.
__________
(1) في رواية الترمذي السابقة في السنن: 8 / 426-431.
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى
وَجْهِهَا }
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أَيْ: ذَلِكَ
الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ أَجْدَرُ وَأَحْرَى أَنْ يَأْتِيَ
الْوَصِيَّانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَسَائِرُ النَّاسِ أَمْثَالُهُمْ،
أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مَا كَانَتْ، { أَوْ
يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى
أَنْ يخافوا رد اليمن بَعْدَ يَمِينِهِمْ عَلَى [الْمُدَّعِي] (1) فَيَحْلِفُوا
عَلَى خِيَانَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فَيُفْتَضَحُوا وَيَغْرَمُوا فَلَا يَحْلِفُونَ
كَاذِبِينَ إِذَا خَافُوا هَذَا الْحُكْمَ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أَنْ
تَحْلِفُوا أَيْمَانًا كَاذِبَةً أَوْ تَخُونُوا أَمَانَةً، { وَاسْمَعُوا }
الْمَوْعِظَةَ، { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
__________
(1) في "ب": (المدعين).
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا
عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ
عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا
فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا
بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } وَهُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ، { فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } أَيْ: مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ
أُمَّتُكُمْ؟ وَمَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكُمْ قَوْمُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُوهُمْ
إِلَى تَوْحِيدِي وَطَاعَتِي؟ { قَالُوا } أَيْ: فَيَقُولُونَ { لَا عِلْمَ لَنَا
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا الْعِلْمَ الَّذِي
أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، وَقِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ
عَنْ سُؤَالِكَ إِيَّانَا عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: لَا عِلْمَ لَنَا بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَبِمَا أَحْدَثُوا مِنْ
بَعْدُ، دَلِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ: { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أَيْ: أَنْتَ
الَّذِي تَعْلَمُ مَا غَابَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا نُشَاهِدُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَا وُهَيْبٌ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا
عَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
لَا
تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّ
لِلْقِيَامَةِ أَهْوَالًا وَزَلَازِلَ تَزُولُ فِيهَا الْقُلُوبُ عَنْ
مَوَاضِعِهَا، فَيَفْزَعُونَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُذْهَلُونَ عَنِ
الْجَوَابِ، ثُمَّ بَعْدَمَا ثَابَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى
أُمَمِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ
نِعْمَتِي عَلَيْكَ } قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا، وَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ { نِعْمَتِي } أَيْ: نِعَمِي، [قَالَ الْحَسَنُ] (2) لَفْظُهُ وَاحِدٌ
وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا
تُحْصُوهَا)، { وَعَلَى وَالِدَتِكَ } مَرْيَمَ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعَمَ فَقَالَ: {
إِذْ أَيَّدْتُكَ } قَوَّيْتُكَ، { بِرُوحِ الْقُدُسِ } يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، { تُكَلِّمُ النَّاسَ } يَعْنِي: وَتُكَلِّمُ النَّاسَ، { فِي
الْمَهْدِ } صَبِيًّا، { وَكَهْلًا } نَبِيًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْسَلَهُ
وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ فِي رِسَالَتِهِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا
ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ } يَعْنِي
الْخَطَّ، { وَالْحِكْمَةَ } يَعْنِي الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ، { وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ } تَجْعَلُ وَتُصَوِّرُ، { مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } كَصُورَةِ الطَّيْرِ، { بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا
فَتَكُونُ طَيْرًا } حَيًّا يَطِيرُ، { بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ } وَتُصَحِّحُ، {
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى } مِنْ
قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً، { بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ } مَنَعْتُ وَصَرَفْتُ، {
بَنِي إِسْرَائِيلَ } يَعْنِي الْيَهُودَ، { عَنْكَ } حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ، {
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } يَعْنِي: الدِّلَالَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ،
وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا.
{ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }
يَعْنِي: مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
" سَاحِرٌ مُبِينٌ " هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ وَالصَّفِّ،
فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هُودٍ يَكُونُ
رَاجِعًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ } أَلْهَمْتُهُمْ وَقَذَفْتُ فِي
قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَعْنِي أَمَرْتُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقائق، باب في الحوض... 11 / 464، ومسلم في الفضائل، باب
إثبات حوض نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، برقم(2304): 4 / 1800.
(2) زيادة من "ب".
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
وَ{
إِلَى } صِلَةٌ، وَالْحَوَارِيُّونَ خَوَاصُّ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } [عِيسَى] (1) { قَالُوا } حين
وافقتهم { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا
اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا
مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا
أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا
وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ
فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ }
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ
(115)
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "هَلْ تَسْتَطِيعُ" بِالتَّاءِ
"رَبَّكَ" بِنَصْبِ الْبَاءِ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، أَيْ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ وَتَسْأَلَ
رَبَّكَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "هَلْ يَسْتَطِيعُ" بِالْيَاءِ
وَ"رَبُّكَ" بِرَفْعِ الْبَاءِ، وَلَمْ يَقُولُوهُ شَاكِّينَ فِي
قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: هَلْ يُنَزِّلُ رَبُّكَ أَمْ
لَا؟ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ مَعِي
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
أَمْ لَا وَقِيلَ: يَسْتَطِيعُ بِمَعْنَى يُطِيعُ، يُقَالُ: أَطَاعَ وَاسْتَطَاعَ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ، مَعْنَاهُ: هَلْ
يُطِيعُكَ رَبُّكَ بِإِجَابَةِ سُؤَالِكَ؟ وَفِي الْآثَارِ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ
أَطَاعَهُ اللَّهُ، وَأَجْرَى بَعْضُهُمْ على الظاهر 114/ب فَقَالُوا: غَلَطَ
الْقَوْمُ، وَقَالُوهُ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ وَكَانُوا بَشَرًا،
فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْغَلَطِ، اسْتِعْظَامًا
لِقَوْلِهِمْ { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ: لَا تَشُكُّوا
فِي قُدْرَتِهِ.
{ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } الْمَائِدَةُ الْخِوَانُ
الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ: مَادَهُ يُمِيدُهُ إِذَا
أَعْطَاهُ وَأَطْعَمَهُ، كَقَوْلِهِ مَارَهُ يُمِيرُهُ، وَامْتَادَ: افْتَعَلَ
مِنْهُ، وَالْمَائِدَةُ هِيَ الْمُطْعِمَةُ لِلْآكِلِينَ الطَّعَامَ، وَسُمِّيَ
الطَّعَامُ أَيْضًا مَائِدَةً عَلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى
الْمَائِدَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: سُمِّيَتْ مَائِدَةً لِأَنَّهَا تَمِيدُ
بِالْآكِلِينَ، أَيْ: تَمِيلُ. وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى
الْمَفْعُولِ، أَيْ تَمِيدُ بِالْآكِلِينَ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى(عِيشَةٍ
رَاضِيَةٍ) أَيْ: مَرْضِيَّةٍ، { قَالَ } عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجِيبًا
لَهُمْ: { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَلَا تَشُكُّوا فِي
قُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَسْأَلُوهُ شَيْئًا لَمْ يَسْأَلْهُ
الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، فَنَهَاهُمْ عَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{ قَالُوا نُرِيدُ } أَيْ: إِنَّمَا سَأَلْنَا لِأَنَّا نُرِيدُ، { أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } أَكْلَ تَبَرُّكٍ لَا أَكْلَ حَاجَةٍ فَنَسْتَيْقِنَ
قُدْرَتَهُ،
{ وَتَطْمَئِنَّ } وَتَسْكُنَ، { قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا }
بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، أَيْ: نَزْدَادُ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَقِيلَ: إِنَّ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِذَا
أَفْطَرُوا لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُمْ، فَفَعَلُوا
وَسَأَلُوا الْمَائِدَةَ، وَقَالُوا: "وَنَعْلَمُ أَنْ قَدْ
صَدَقْتَنَا" فِي قَوْلِكَ، إِنَّا إِذَا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَانَا، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ
الشَّاهِدِينَ } لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَكَ بِالنُّبُوَّةِ
وَالرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: وَنَكُونُ مِنَ الشَّاهِدَيْنَ لَكَ عِنْدَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ.
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } عِنْدَ ذَلِكَ، { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ
عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } وَقِيلَ: إِنَّهُ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ
الْمُسُحَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَغَضَّ بَصَرَهُ وَبَكَى،
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ،
{ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } أَيْ: عَائِدَةً مِنَ اللَّهِ
عَلَيْنَا حُجَّةً وَبُرْهَانًا، وَالْعِيدُ: يَوْمُ السُّرُورِ، سُمِّيَ بِهِ
لِلْعَوْدِ مِنَ التَّرَحِ إِلَى الْفَرَحِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا اعْتَدْتَهُ
وَيَعُودُ إِلَيْكَ، وَسُمِّيَ يَوْمُ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى عِيدًا لِأَنَّهُمَا
يَعُودَانِ كُلَّ سَنَةٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ نَتَّخِذُ الْيَوْمَ
الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا، أَيْ: نُعَظِّمُهُ
نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا، وَقَالَ سُفْيَانُ: نُصَلِّي فِيهِ، قَوْلُهُ {
لِأَوَّلِنَا } أَيْ: لِأَهْلِ زَمَانِنَا { وَآخِرِنَا } أَيْ: لِمَنْ يَجِيءُ
بَعْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْكُلُ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ
أَوَّلُهُمْ، { وَآيَةً مِنْكَ } دَلَالَةً وَحُجَّةً، { وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
{ قَالَ اللَّهُ } تَعَالَى مُجِيبًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، { إِنِّي
مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } يَعْنِي: الْمَائِدَةَ وقرأ أهل المدنة وَابْنُ عَامِرٍ
وَعَاصِمٌ "مُنَزِّلُهَا" بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّاتٍ،
وَالتَّفْعِيلُ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّخْفِيفِ لِقَوْلِهِ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا، { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدٌ
مِنْكُمْ } أَيْ: بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا }
أَيْ جِنْسَ عَذَابٍ، { لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يَعْنِي:
عَالَمِي زَمَانِهِ، فَجَحَدَ الْقَوْمُ وَكَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةَ
فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ كَفَرَ
مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلِ فِرْعَوْنَ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا؟ فَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: لَمْ تَنْزِلْ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا
أَوْعَدَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ خَافُوا أَنْ يَكْفُرَ
بَعْضُهُمْ فَاسْتَعْفُوا، وَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا، فَلَمْ تَنْزِلْ،
وَقَوْلُهُ: "إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ"، يَعْنِي: إِنْ
سَأَلْتُمْ (2) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري موقوفا على عبد الله بن عمرو: 11 / 233، وصححه الشيخ
أحمد شاكر في عمدة التفسير. وعزاه السيوطي أيضا لعبد بن حميد وأبي الشيخ موقوفا
كذلك. الدر المنثور: 3 / 237.
(2) ما ذهب إليه مجاهد والحسن رحمهما الله - رأي مرجوح، لم يستندا فيه إلى خبر
صحيح. وهو مخالف لنص الآية "إني منزلها عليكم". ولذلك رجح البغوي وغيره
رأي الجمهور، وهو الصحيح.
وَالصَّحِيحُ
الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
"إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ"، وَلَا خُلْفَ فِي خَبَرِهِ،
لِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهَا فَرَوَى خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا
نَزَلَتْ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهَا مُقِيمَةٌ لَكُمْ مَا لَمْ
تَخُونُوا [وَتُخَبِّؤُوا] (1) فَمَا مَضَى يَوْمُهُمْ حَتَّى خَانُوا وَخَبَّؤُوا
فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ مَا
شِئْتُمْ يُعْطِكُمُوهُ، فَصَامُوا فَلَمَّا فَرَغُوا قَالُوا: يَا عِيسَى إِنَّا
لَوْ عَمِلْنَا لِأَحَدٍ فَقَضَيْنَا عَمَلَهُ لَأَطْعَمَنَا، وَسَأَلُوا اللَّهَ
الْمَائِدَةَ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بمائدة يحملونها، علها سَبْعَةُ
أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ
مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ (3) .
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: نَزَلَتْ [مَائِدَةٌ] مَنْكُوسَةٌ تَطِيرُ بِهَا
الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، عَلَيْهَا كُلُّ الطَّعَامِ إِلَّا
اللَّحْمَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ عَلَى الْمَائِدَةِ
كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، قَالَ قَتَادَةُ كَانَ عَلَيْهَا
ثَمَرٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ سَمَكَةٌ فِيهَا طَعْمُ
كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَرُزٌّ وَبَقْلٌ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ أَقْرِصَةً مِنْ شَعِيرٍ
وَحِيتَانًا وَكَانَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ وَيَجِيءُ آخَرُونَ
فَيَأْكُلُونَ حَتَّى أَكَلُوا جَمِيعُهُمْ وَفَضَلَ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري في التفسير عن عمار بن ياسر مرفوعا وموقوفا: 11 / 228،229،
والترمذي في تفسير سورة المائدة: 8 / 433، وقال: "هذا حديث غريب، ورواه أبو
عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار موقوفا، ولا نعرفه
مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة... ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا".
(3) ينبغي أن نذكر هنا بأن أصل القصة ثابت بالقرآن الكريم، ولا يتوقف فهم هذا على
شيء من الروايات الكثيرة التي ساقها المفسرون لبيان صفة هذه المائدة وكيفية نزولها
ووقت النزول... إلخ هذه الروايات المنقولة عن وهب بن منبه، وكعب الأحبار، وسلمان،
وابن عباس، ومقاتل والكلبي وعطاء، وغيرهم. فإنها غير ثابتة الإسناد، وما قد يكون
صحيح النسبة إلى قائله منها، لا يعني أنه صحيح في ذاته، فقد ينقل الخبر عن وهب
مثلا بسند ثابت، ولكنه متلقى من أهل الكتاب، فينبغي تنزيه كتب التفسير عن أمثال
هذه الروايات، ومنها ما ساقه البغوي هنا في تفسيره. هذا، وقد أشار ابن كثير
والقرطبي وابن عطية وغيرهم إلى ضعف هذه الروايات الإسرائيلية. والله أعلم. انظر
أيضا: الإسرائيليات والموضوعات د. محمد أبو شهبة ص(266-277).
وَعَنِ
الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ خُبْزًا وَسَمَكًا وَخَمْسَةَ
أَرْغِفَةٍ، فَأَكَلُوا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالنَّاسُ أَلْفٌ وَنَيِّفٌ
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى قُرَاهُمْ، وَنَشَرُوا الْحَدِيثَ ضَحِكَ مِنْهُمْ مَنْ
لَمْ يَشْهَدْ، وَقَالُوا: وَيْحَكَمُ إِنَّمَا سَحَرَ أَعْيُنَكُمْ، فَمَنْ
أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ثَبَّتَهُ عَلَى بَصِيرَتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ
فِتْنَتَهُ رَجَعَ إِلَى كُفْرِهِ، وَمُسِخُوا خَنَازِيرَ لَيْسَ فِيهِمْ صَبِيٌّ
وَلَا امْرَأَةٌ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا، وَلَمْ
يَتَوَالَدُوا وَلَمْ يَأْكُلُوا وَلَمْ يَشْرَبُوا، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَمْسُوخٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا حَيْثُ
كَانُوا كَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ
أَبِي رَبَاحٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ لما سأل الحوارين الْمَائِدَةَ لَبِسَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صُوفًا وَبَكَى، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْزِلْ
عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ" الْآيَةَ فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ
حَمْرَاءُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ مِنْ فَوْقِهَا وَغَمَامَةٍ مِنْ
تَحْتِهَا، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَهِيَ تَهْوِي مُنْقَضَّةً حَتَّى
سَقَطَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَبَكَى عِيسَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ
الشَّاكِرِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عُقُوبَةً،
وَالْيَهُودُ يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ وَلَمْ
يَجِدُوا رِيحًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِهِ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
لِيَقُمْ أَحْسَنُكُمْ عَمَلًا فَيَكْشِفُ عَنْهَا وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ
تَعَالَى، فَقَالَ شَمْعُونُ الصَّفَّارُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ: أَنْتَ أَوْلَى
بِذَلِكَ مِنَّا [فَقَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى
صَلَاةً طَوِيلَةً وَبَكَى كَثِيرًا، ثُمَّ كَشَفَ الْمِنْدِيلَ عَنْهَا، وَقَالَ:
بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ فَإِذَا هُوَ سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ
عَلَيْهَا فُلُوسُهَا وَلَا شَوْكَ عَلَيْهَا تَسِيلُ مِنَ الدَّسَمِ وَعِنْدَ
رَأْسِهَا مِلْحٌ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَلٌّ، وَحَوْلَهَا مِنْ أَلْوَانِ
الْبُقُولِ مَا خَلَا الْكُرَّاثَ، وَإِذَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ عَلَى وَاحِدٍ
زَيْتُونٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ سَمْنٌ، وَعَلَى
الرَّابِعِ جُبْنٌ، وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ، فَقَالَ شَمْعُونُ: يَا رُوحَ
اللَّهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا هَذَا أم من 115\أ طَعَامِ الْآخِرَةِ؟
فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا تَرَوْنَ مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ
طَعَامِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْقُدْرَةِ الْغَالِبَةِ، كُلُوا مِمَّا سَأَلْتُمْ يَمْدُدْكُمْ وَيَزِدْكُمْ
مِنْ فَضْلِهِ، قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ كُنْ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا،
فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ آكُلَ مِنْهَا
وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا مَنْ سَأَلَهَا فَخَافُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا،
فَدَعَا لَهَا أَهْلَ الْفَاقَةِ وَالْمَرْضَى وَأَهْلَ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ
وَالْمُقْعَدِينَ وَالْمُبْتَلِينَ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَكُمُ
الْمَهْنَأُ وَلِغَيْرِكُمُ الْبَلَاءُ، فَأَكَلُوا وَصَدَرَ عَنْهَا أَلْفٌ
وَثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ فَقِيرٍ وَمَرِيضٍ وَزَمِنٍ وَمُبْتَلًى
كُلُّهُمْ شَبْعَانُ، وَإِذَا السَّمَكَةُ بِهَيْئَتِهَا حِينَ نَزَلَتْ، ثُمَّ
طَارَتْ سُفْرَةُ الْمَائِدَةِ صُعُدًا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا حَتَّى
تَوَارَتْ، فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا زَمِنٌ وَلَا مَرِيضٌ وَلَا مُبْتَلًى إِلَّا
عُوفِيَ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا اسْتَغْنَى، وَنَدِمَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا
فَلَبِثَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَنْزِلُ ضُحًى، فَإِذَا نَزَلَتِ اجْتَمَعَتِ
الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ، وَلَا تَزَالُ مَنْصُوبَةً يُؤَكَلُ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
مِنْهَا
حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ طَارَتْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي ظِلِّهَا حَتَّى
تَوَارَتْ عَنْهُمْ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ غِبًّا تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ
يَوْمًا كَنَاقَةِ ثَمُودَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى [إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ] (1) اجْعَلْ مَائِدَتِي وَرِزْقِي لِلْفُقَرَاءِ دُونَ
الْأَغْنِيَاءِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ حَتَّى شَكُّوا وَشَكَّكُوا
النَّاسَ فِيهَا، وَقَالُوا: أَتَرَوْنَ الْمَائِدَةَ حَقًّا تَنْزِلُ مِنَ
السَّمَاءِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي
شَرَطْتُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا
أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ:(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَمُسِخَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ
وَثَلَاثُونَ رَجُلًا بَاتُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى فَرْشِهِمْ مَعَ نِسَائِهِمْ
فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ يَسْعَوْنَ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْكُنَاسَاتِ،
وَيَأْكُلُونَ الْعُذْرَةَ فِي الْحُشُوشِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ
فَزِعُوا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَكَوْا فَلَمَّا أَبْصَرَتِ
الْخَنَازِيرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَكَتْ وَجَعَلَتْ تُطِيفُ بِعِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ عِيسَى يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيُشِيرُونَ
بِرُءُوسِهِمْ وَيَبْكُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ، فَعَاشُوا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا.
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ
عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ
أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا
دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
} وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَتَى يَكُونُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ
رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ حَرْفَ "إِذْ" يَكُونُ لِلْمَاضِي،
وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ [مِنْ قَبْلُ] (2) (يَوْمَ يَجْمَعُ
اللَّهُ الرُّسُلَ)(الْمَائِدَةِ، 109). وَقَالَ مِنْ بَعْدِهَا(هَذَا يَوْمُ
يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)(الْمَائِدَةَ، 119)، وَأَرَادَ بِهِمَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَقَدْ تَجِيءُ "إِذْ" بِمَعْنَى "إِذَا"
كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:(وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) أَيْ: إِذَا فَزِعُوا
[يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (3) وَالْقِيَامَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ وَلَكِنَّهَا
كَالْكَائِنَةِ لِأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ.
قَوْلُهُ: { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ
دُونِ اللَّهِ } ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ مَعَ عِلْمِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْهُ؟
قِيلَ هَذَا السُّؤَالُ عَنْهُ لِتَوْبِيخِ قَوْمِهِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِ هَذِهِ
الْمَقَالَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: أَفَعَلْتَ كَذَا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
وَكَذَا؟
فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، إِعْلَامًا وَاسْتِعْظَامًا لَا
اسْتِخْبَارًا وَاسْتِفْهَامًا.
وَأَيْضًا: أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُقِرَّ [عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَنْ] (1) نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَيَسْمَعُ قَوْمُهُ،
وَيَظْهَرُ كَذِبُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو رَوْقٍ:
وَإِذَا سَمِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْخِطَابَ أَرْعَدَتْ
مَفَاصِلُهُ وَانْفَجَرَتْ مِنْ أَصْلِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ عَيْنٌ مِنْ
دَمٍ، ثُمَّ يَقُولُ مُجِيبًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { قَالَ سُبْحَانَكَ }
تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا لَكَ { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي
وَلَا أَعْلَمَ مَا فِي غَيْبِكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَعْلَمُ سِرِّي وَلَا
أَعْلَمُ سِرَّكَ، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي دَارِ
الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: النَّفْسُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ،
يَقُولُ: تَعْلَمُ جَمِيعَ مَا أَعْلَمُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِي وَلَا أَعْلَمُ
حَقِيقَةَ أَمْرِكَ، { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } مَا كَانَ وَمَا
يَكُونُ.
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (117) }
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ } [وَحِّدُوهُ] (2) وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، { وَكُنْتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ } أَقَمْتُ، { فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي }
قَبَضْتَنِي وَرَفَعْتَنِي إِلَيْكَ، { كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }
وَالْحَفِيظَ عَلَيْهِمْ، تَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ، { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ طَلَبَ
الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِسُؤَالِ
الْمَغْفِرَةِ، قِيلَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَعْنَاهُ إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ
بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ
وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَبْلَ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: هَذَا فِي فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ، مَعْنَاهُ: إِنْ تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ
مِنْهُمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ
لَقَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى تَسْلِيمِ
الْأَمْرِ وَتَفْوِيضِهِ إِلَى مُرَادِهِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "ب".
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
وَأَمَّا
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أنت الغفور لالرحيم ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
مُصْحَفِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ
وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ فِي الْمُلْكِ الْحَكِيمُ فِي الْقَضَاءِ لَا
يَنْقُصُ مِنْ عِزِّكَ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ مَنْ حُكْمِكَ شَيْءٌ، وَيُدْخِلُ
فِي حِكْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ الْكُفَّارَ،
لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
عُمَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي
إِبْرَاهِيمَ: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي"، الْآيَةَ. وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ:
اللَّهُمَّ أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ
اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ؟ فَأَتَاهُ
جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَا قال الله، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى
مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ" (1) .
{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) }
{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } 115/ب قَرَأَ
نَافِعٌ(يَوْمَ) بِنَصْبِ الْمِيمِ، يَعْنِي: تَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي
يَوْمٍ، فَحَذَفَ فِي فَانْتَصَبَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى
أَنَّهُ خَبَرُ(هَذَا) أَيْ: يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا صِدْقُهُمْ
فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَذَبُوا خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَنَطَقَتْ
بِهِ جَوَارِحُهُمْ فَافْتُضِحُوا، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالصَّادِقِينَ
النَّبِيِّينَ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأمته، وبكائه شفقة عليهم، برقم(202)،: 1 / 191، والمصنف في شرح السنة: 15 /
165-166.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانُهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ:
مُتَكَلِّمَانِ لَا يُخْطِئَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهُوَ مَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ"، الْآيَةَ،
فَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ كَاذِبًا فَلَمْ
يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ، وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ صَادِقًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، فَنَفَعَهُ صِدْقُهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارَ عَمَلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ ثَوَابَهَمْ فَقَالَ: {
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ثُمَّ
عَظَّمَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
سُورَةُ
الْأَنْعَامِ
مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ آيَةً، نَزَلَتْ بِمَكَّةَ
[جُمْلَةً] (1) لَيْلًا مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ قَدْ سَدُّوا مَا بَيْنَ
الْخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَخَرَّ سَاجِدًا" (2) .
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْأَنْعَامِ يُصَلِّي عَلَيْهِ
أُولَئِكَ السَّبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ" (3) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ، إِلَّا قَوْلَهُ:
"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ"، إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ،
وَقَوْلَهُ تَعَالَى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ"، إِلَى قَوْلِهِ:
"لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، فَهَذِهِ السِّتُّ آيَاتٍ مَدَنِيَّاتٌ (4) .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) }
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } قَالَ كَعْبُ
الْأَحْبَارِ: هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ فِي التَّوْرَاةِ، وَآخِرُ آيَةٍ فِي
التَّوْرَاةِ، قَوْلُهُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا" الْآيَةَ(الْإِسْرَاءِ-111).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: افْتَتَحَ اللَّهُ الْخَلْقَ
بِالْحَمْدِ، فَقَالَ:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ)،
وَخَتَمَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ:(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)، أَيْ: بَيْنَ
الْخَلَائِقِ،(وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزُّمَرِ-75].
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: الدر المنثور: 3 / 243-244.
(3) أخرجه الثعلبي من حديث أبي بن كعب. وفيه: أبو عصمة، وهو متهم بالكذب. وأوله
عند الطبراني في الصغير.. وفيه: يوسف بن عطية وهو ضعيف، وعنه أخرجه ابن مردويه في
التفسير، وأبو نعيم في الحلية. انظر: الكافي الشاف لابن حجر ص(63)، الدر المنثور:
3 / 246.
(4) أخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس. الدر المنثور: 3 / 244.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
قَوْلُهُ:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ" حَمَدَ اللَّهُ نَفْسَهُ تَعْلِيمًا لِعِبَادِهِ،
أَيِ: احْمِدُوا اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، خَصَّهُمَا
بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ فِيمَا يَرَى الْعِبَادُ،
وَفِيهِمَا الْعِبَرُ وَالْمَنَافِعُ لِلْعِبَادِ، { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ } وَالْجَعْلُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَالَ الْوَاقِدَيُّ: كُلُّ مَا
فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَهُوَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ،
إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهِمَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ يَعْنِي الْكُفْرَ
وَالْإِيمَانَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ الْجَهْلَ وَبِالنُّورِ
الْعِلْمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَقَدْ جَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، لِأَنَّهُ خَلَقَ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ قَبْلَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
قَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَالظُّلْمَةَ
قَبْلَ النُّورِ، وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فَى ظُلْمَةٍ، ثُمَّ
أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى
وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ" (1) .
{ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ: ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أَيْ: يُشْرِكُونَ،
وَأَصْلُهُ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ الْعَدْلُ، أَيْ:
يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ: عَدَلْتُ هَذَا بِهَذَا
إِذَا سَاوَيْتُهُ، وَبِهِ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، الْبَاءُ بِمَعْنَى
عَنْ، أَيْ: عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أَيْ يَمِيلُونَ وَيَنْحَرِفُونَ مِنَ
الْعُدُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)
أَيْ: مِنْهَا.
وَقِيلَ: تَحْتَ قَوْلِهِ "ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ" مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ بِكَذَا وَتَفَضَّلْتُ عَلَيْكُمْ بِكَذَا، ثُمَّ تَكْفُرُونَ
بِنِعْمَتِي.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } يَعْنِي آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَاطَبَهُمْ بِهِ إِذْ كَانُوا مِنْ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الإيمان، باب افتراق هذه الأمة: 7 / 401، وقال: هذا حديث
حسن. وصححه ابن حبان ص(449) والحاكم: 1 / 30 ،31. وأخرجه الإمام أحمد: 2 / 176،
197. قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين، والبزار والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد
ثقات. مجمع الزوائد: 7 / 194. وذكره الخطيب في مشكاة المصابيح: 1 / 37 وصححه
الألباني.
وَلَدِهِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطَائِفَةٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الْأَرْضُ إِنِّي أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تُنْقِصَ مِنِّي، فَرَجَعَ جِبْرِيلُ وَلَمْ يَأْخُذْ
وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ، فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ، فَاسْتَعَاذَتْ
فَرَجَعَ، فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ بِاللَّهِ، فَقَالَ:
وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ
الْأَرْضِ فَخَلَطَ الْحَمْرَاءَ وَالسَّوْدَاءَ وَالْبَيْضَاءَ، فَلِذَلِكَ
اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ عَجَنَهَا بِالْمَاءِ الْعَذْبِ
وَالْمِلْحِ وَالْمُرِّ، فَلِذَا اخْتَلَفَتْ أَخْلَاقُهُمْ فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى لِمَلَكِ الْمَوْتِ: رَحِمَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ الْأَرْضَ وَلَمْ
تَرْحَمْهَا، لَا جَرَمَ أَجْعَلُ أَرْوَاحَ مَنْ أَخْلُقُ مِنْ هَذَا الطِّينِ
بِيَدِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تُرَابٍ وَجَعَلَهُ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى
كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا ثُمَّ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ
صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ رُوحَهُ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ }
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْأَجَلُ الْأَوَّلُ مِنَ
الْوِلَادَةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْأَجَلُ الثَّانِي مِنَ الْمَوْتِ إِلَى
الْبَعْثِ، وَهُوَ الْبَرْزَخُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ:
لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلَانِ أَجْلٌ إِلَى الْمَوْتِ وَأَجَلٌ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى
الْبَعْثِ، فَإِنْ كَانَ بَرًّا تَقِيًّا وَصُولًا لِلرَّحِمِ زِيدَ لَهُ مِنْ
أَجَلِ الْبَعْثِ فِي أَجَلِ الْعُمْرِ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا قَاطِعًا
لِلرَّحِمِ نَقُصَ مِنْ أَجَلِ الْعُمْرِ وَزِيدَ فِي أَجَلِ الْبَعْثِ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَجَلُ الْأَوَّلُ أَجَلُ الدُّنْيَا،
وَالْأَجَلُ الثَّانِي أَجَلُ الْآخِرَةِ، وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { ثُمَّ قَضَى أَجَلًا } يَعْنِي: النَّوْمَ تُقْبَضُ
فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ تَرْجِعُ عِنْدَ الْيَقَظَةِ، { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ
} يَعْنِي: أَجْلَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ مَعْنَاهُ: [ثُمَّ قَضَى
أَجَلًا] (2) يَعْنِي: جُعِلَ لِأَعْمَارِكُمْ مُدَّةً تَنْتَهُونَ إِلَيْهَا،
"وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" يَعْنِي: وَهُوَ أَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ، لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، { ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } تَشُكُّونَ
فِي الْبَعْثِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ }
يَعْنِي: وَهُوَ إِلَهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ:(وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، وَقِيلَ: هُوَ الْمَعْبُودُ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ هُوَ فِي
السَّمَوَاتِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ، [وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ اللَّهُ، {
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ] (3) {
وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } تَعْمَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
__________
(1) رواه أبو يعلى، وفيه إسماعيل بن رافع، قال البخاري: ثقة مقارب الحديث، وضعفه
الجمهور، وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد: 8 / 197.
(2) زيادة من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا
مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ
يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا
الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ } يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ
رَبِّهِمْ } مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ
مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } لَهَا تَارِكِينَ
بِهَا مُكَذِّبِينَ.
{ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ } بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أَيْ: أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ
وَجَزَاؤُهُ، أَيْ: سيعلمون عاقبة 116\أ اسْتِهْزَائِهِمْ إِذَا عُذِّبُوا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ } يَعْنِي: الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ، وَالْقَرْنُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ
النَّاسِ، وَجَمْعُهُ قُرُونٌ، وَقِيلَ: الْقَرْنُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ،
يُقَالُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَيُقَالُ: مِائَةُ سَنَةٍ، لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ: "إِنَّكَ تَعِيشُ قَرْنًا"، فَعَاشَ مِائَةَ
سَنَةٍ (1)
فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مِنْ أَهْلِ قَرْنٍ، {
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } أَيْ: أَعْطَيْنَاهُمْ
مَا لَمْ نُعْطِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمْهَلْنَاهُمْ فِي الْعُمْرِ
مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، يُقَالُ: مَكَّنْتُهُ وَمَكَّنْتُ لَهُ، {
وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا } يَعْنِي: الْمَطَرَ، مِفْعَالٌ،
مِنَ الدَّرِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِدْرَارًا أَيْ: مُتَتَابِعًا فِي
أَوْقَاتِ الْحَاجَاتِ، وَقَوْلُهُ: "مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ" مِنْ
خِطَابِ التَّلْوِينِ، رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ: "أَلَمْ
يَرَوْا" إِلَى خِطَابٍ، كَقَوْلِهِ:(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يُونُسَ، 22].
وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةَ: أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ "أَلَمْ
يَرَوْا" وَفِيهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ مَعَهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدِ
اللَّهِ مَا أَكْرَمَهُ، وَقُلْتُ: لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَكَ، {
وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا } خَلَقْنَا وَابْتَدَأْنَا، { مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْنًا آخَرِينَ }
__________
(1) أخرجه البخاري في التاريخ الصغير، ص(93)، وانظر: الإصابة: 4 / 23، أسد الغابة:
3 / 125.
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ } الْآيَةَ،
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ (1) نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَنَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، قَالُوا: يَا
مُحَمَّدُ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَمَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّكَ رَسُولُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ } مَكْتُوبًا مِنْ عِنْدِي، {
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أَيْ: عَايَنُوهُ وَمَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَذَكَرَ
اللَّمْسَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُعَايَنَةَ لِأَنَّ اللَّمْسَ أَبْلَغُ فِي
إِيقَاعِ الْعِلْمِ مَنْ [الرُّؤْيَةِ] (2) فَإِنَّ السِّحْرَ يَجْرِي عَلَى
الْمَرْئِيِّ وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمَلْمُوسِ، { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } مَعْنَاهُ: لَا يَنْفَعُ مَعَهُمْ شَيْءٌ
لِمَا سَبَقَ فِيهِمْ مِنْ عِلْمِي.
{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا
لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) }
__________
(1) انظر: أسباب النزول ص(246): تفسير القرطبي: 6 / 393.
(2) في "ب" (المعاينة).
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
{
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) }
{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ } عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، { مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ } أَيْ:
لَوَجَبَ الْعَذَابُ، وَفُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ، وَهَذَا سُنَّةُ اللَّهِ فِي
الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَتَى اقْتَرَحُوا آيَةً فَأُنْزِلَتْ ثُمَّ لَمْ
يُؤْمِنُوا اسْتُؤْصِلُوا بِالْعَذَابِ، { ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ } أَيْ: لَا
يُؤَجَّلُونَ وَلَا يُمْهَلُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا
ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعُجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابُ وَلَمْ يُؤَخَّرُوا طَرْفَةَ
عَيْنٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ،
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ فَى صُورَتِهِ لَمَاتُوا.
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا } [يَعْنِي: لَوْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا]
(1) { لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا } يَعْنِي فِي صُورَةِ [رَجُلٍ] (2) آدَمِيٍّ،
لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَجَاءَ الْمَلَكَانِ إِلَى دَاوُدَ
فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أَيْ:
خَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ وَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا يَدْرُونَ
أَمَلَكٌ هُوَ أَمْ آدَمِيٌّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ شَبَّهُوا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ
فَشُبِّهَ عَلَيْهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
عَنْهُمَا
قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ، فَلَبَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا لَبَّسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ { وَلَلَبَّسْنَا } بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْرِيرِ
وَالتَّأْكِيدِ.
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ } كَمَا اسْتُهْزِئَ بِكَ يَا
مُحَمَّدُ يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَحَاقَ }
قَالَ الرَّبِيعُ [بْنُ أَنَسٍ] (1) فَنَزَلَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: حَلَّ، وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: أَحَاطَ، { بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ } أَيْ: جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ.
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، {
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } مُعْتَبِرِينَ، يُحْتَمَلُ هَذَا: السَّيْرُ بِالْعُقُولِ
وَالْفِكْرِ، وَيُحْتَمَلُ السَّيْرُ بِالْأَقْدَامِ، { ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أَيْ: آخِرُ أَمْرِهِمْ وَكَيْفَ أُورِثُهُمُ
الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ الْهَلَاكَ، فَحَذَّرَ كُفَّارَ مَكَّةَ عَذَابَ
الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ.
{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ
فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا
سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَـ { قُلْ } أَنْتَ، { لِلَّهِ } أَمْرَهُ
بِالْجَوَابِ عَقِيبَ السُّؤَالِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّأْثِيرِ وَآكَدَ فِي
الْحُجَّةِ، { كَتَبَ } أَيْ: قَضَى، { عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } هَذَا
اسْتِعْطَافٌ منه تعالى للمؤمنين عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ
وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْعِبَادِ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ،
وَيَقْبَلُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
طَاهِرٍ الزِّيَادَيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْقَطَّانُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ
الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي" (2) .
وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إِنَّ
رَحْمَتِي [سَبَقَتْ] (3) غَضَبِي (4) .
__________
(1) زيادة من (ب).
(2) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قوله تعالى "ويحذركم الله نفسه": 13
/ 384 وفي مواضع أخرى، ومسلم في التوبة باب في سعة رحمة الله، رقم(2751): 4 /
2107، والمصنف في شرح السنة: 14 / 376.
(3) في "ب": (وسعت).
(4) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: "ولقد سبقت كلمتنا
لعبادنا المرسلين": 3 / 440.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
أَخْبَرَنَا
الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْكُرْكَانِيُّ أَنَا
أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادَيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
أَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ،
وَبِهَا تَتَعَاطَفُ الْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا
وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَدِمَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ
مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا، تَسْعَى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي
السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً
وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ فَقُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا
تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا"
(2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْقَسَمِ
وَالنُّونُ نُونُ التَّأْكِيدِ مَجَازُهُ: وَاللَّهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، { إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي قُبُورِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، { لَا رَيْبَ فِيهِ
الَّذِينَ خَسِرُوا } غَبِنُوا، { أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أَيِ: اسْتَقَرَّ، قِيلَ:
أَرَادَ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ، كَقَوْلِهِ:(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)
أَيِ: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ السُّكُونَ بِالذِّكْرِ
لِأَنَّ النِّعْمَةَ فِيهِ أَكْثَرُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: كُلُّ مَا
طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ فَهُوَ مِنْ سَاكِنِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ:
مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، { وَهُوَ السَّمِيعُ }
لِأَصْوَاتِهِمْ، { الْعَلِيمُ } بِأَسْرَارِهِمْ.
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } ؟ وَهَذَا حِينَ
دعا إلى 116/ب دِينِ آبَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء: 10 / 431، ومسلم في
التوبة، في الموضع السابق (2752): 21084، والمصنف في شرح السنة: 14 / 377.
(2) أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته: 10 / 426-427،
ومسلم في التوبة في الموضع نفسه برقم(2754): 4 / 2109، والمصنف: 14 / 379.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
مُحَمَّدُ
أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا، [رَبًّا وَمَعْبُودًا وَنَاصِرًا
وَمُعِينًا] (1) ؟ { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أَيْ: خَالِقِهِمَا
وَمُبْدِعِهِمَا وَمُبْتَدِيهِمَا، { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } أَيْ:
وَهُوَ يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ كَمَا قَالَ:(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ
وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
مَنْ أَسْلَمَ } يَعْنِي: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْإِسْلَامُ بِمَعْنَى
الْاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَسْلَمَ أَخْلَصَ، { وَلَا
تَكُونَنَّ } يَعْنِي: وَقِيلَ لِي وَلَا تَكُونَنَّ، { مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ
يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ
بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } [فَعَبَدْتُ غَيْرَهُ] (2) {
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يَعْنِي: عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ } يَعْنِي: مَنْ يُصْرَفِ الْعَذَابُ عَنْهُ، قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ "
يَصْرِفُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: مَنْ يَصْرِفُ
اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ، لِقَوْلِهِ: "فَقَدْ رَحِمَهُ" وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، { يَوْمَئِذٍ } يَعْنِي: يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، { فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أَيِ:
النَّجَاةُ الْبَيِّنَةُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } بِشِدَّةٍ
وَبَلِيَّةٍ، { فَلَا كَاشِفَ لَهُ } لَا رَافِعَ، { إِلَّا هُوَ وَإِنْ
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } عَافِيَةٍ وَنِعْمَةٍ، { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
} مِنَ الْخَيْرِ وَالضُّرِّ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
السُّلَمِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ
الرَّمْلِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ أَنَا شِهَابُ بْنُ
خِرَاشٍ، [هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ] (3) عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ، أَهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ،
ثُمَّ أَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، ثُمَّ سَارَ بِي مَلِيًّا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ
فَقَالَ: يَا غُلَامُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
"احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ
إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلَتْ
فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَدْ مَضَى
الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ جَهِدَ الْخَلَائِقُ أَنْ يَنْفَعُوكَ بِمَا
لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(3) زيادة من "ب".
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
تَعَالَى
لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ جَهِدُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِمَا لَمْ
يَكْتُبِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ، مَا قَدِرُوا عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ
أَنْ تَعْمَلَ بِالصَّبْرِ مَعَ الْيَقِينِ، فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَاصْبِرْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَاعْلَمْ
أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ مَعَ الْكَرْبِ الْفَرَجَ، وَأَنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا" (1) .
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) }
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند من رواية حنش الصنعاني عن ابن عباس: 1 / 307،
والترمذي مختصرا في القيامة، باب حدثنا بشر بن هلال: 7 / 219-220، وقال: هذا حديث
حسن صحيح. ومثله في المسند: 1 / 293-303. وعبد بن حميد في المنتخب ص(214) وذكره
ابن الأثير في جامع الأصول كما في سياق المصنف وقال: هذا الحديث ذكره رزين، ولم
أجده في واحد من الأصول الستة، إلا ما أخرجه الترمذي، وهذا لفظه، ثم ساق رواية
الترمذي. انظر: جامع الأصول: 11 / 686. ورواه أيضا عبد بن حميد في مسنده بإسناد
ضعيف، وعزاه ابن الصلاح في الأحاديث الكلية إلى عبد بن حميد وغيره، وقد روي هذا
الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة. انظر:
جامع العلوم والحكم لابن رجب ص(174).
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ
قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) }
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } الْقَاهِرُ الْغَالِبُ، وَفِي الْقَهْرِ
زِيَادَةُ مَعْنًى عَلَى الْقُدْرَةِ، وَهِيَ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْ بُلُوغِ
الْمُرَادِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّدْبِيرِ الَّذِي يُجْبِرُ
الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، فَوْقَ عِبَادِهِ هُوَ صِفَةُ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي
تَفَرَّدَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. { وَهُوَ الْحَكِيمُ } فِي أَمْرِهِ، {
الْخَبِيرُ } بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } ؟ الْآيَةَ،
قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَتَى أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ
فَإِنَّا لَا نَرَى أَحَدًا يُصَدِّقُكَ، وَلَقَدْ سَأَلَنَا عَنْكَ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ } أَعْظَمُ، { شَهَادَةً } ؟
فَإِنْ أَجَابُوكَ، وَإِلَّا { قُلِ اللَّهُ } هُوَ { شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ } عَلَى مَا أَقُولُ، وَيَشْهَدُ لِي بِالْحَقِّ وَعَلَيْكُمْ
بِالْبَاطِلِ، { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ }
لِأُخَوِّفَكُمْ بِهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ، { وَمَنْ بَلَغَ } يَعْنِي: وَمَنْ
بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيِّ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بِشْرٍ النَّقَّاشُ أَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ
أَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْبَابِلِيُّ أَنَا
الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ
[السَّلُولِيِّ] (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً،
وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمدا
فليتبوأ معقده مِنَ النَّارِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا
وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا. فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ
فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ
مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ،
وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ"
(3) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ
نَذِيرٌ لَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: مَنْ بَلَغَهُ
الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَمِعَ مِنْهُ، أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونِ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى ؟
وَلَمْ يَقُلْ أُخَرَ لِأَنَّ الْجَمْعَ يَلْحَقُهُ التَّأْنِيثُ، كَقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ:(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا)(الْأَعْرَافِ، 180)، وَقَالَ:(فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى).(طه، 51)
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْتُمْ، فَـ { لَا أَشْهَدُ } ، أَنَا
أَنَّ مَعَهُ إِلَهًا، { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } ، يَعْنِي:
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، { يَعْرِفُونَهُ } ، يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، { كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ } ، مِنْ بَيْنِ الصِّبْيَانِ. { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ }
، غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
جَعَلَ لِكُلِّ آدَمِيٍّ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ،
وَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ
أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ، وَلِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فِي النَّارِ، وَذَلِكَ الْخُسْرَانُ.
__________
(1) في "ب": (السلوي).
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل: 6 / 496، والمصنف في
شرح السنة: 1 / 243.
(3) أخرجه الترمذي في العلم، باب الحث على تبليغ السماع، بنحوه، 7 / 417-418 وقال:
هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلّغ علما، برقم (236): 1 / 86،
والدارمي في المقدمة، باب كراهية أخذ الرأي: 1 / 75، والشافعي في كتاب العلم: 1 /
16، والإمام أحمد في المسند: 3 / 225 عن أنس، والمصنف في شرح السنة: 1 / 236،
وللشيخ عبد المحسن العباد دراسة حديثية وفقهية لحديث "نضر الله امرأ..."
طبع عام 1401هـ بمطابع الرشيد بالمدينة المنورة.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ أَظْلَمُ } ، أَكْفُرُ، { مِمَّنِ افْتَرَى } ،
اخْتَلَقَ، { عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ، فَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ، { أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ } ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ، { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } ،
الْكَافِرُونَ.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ
شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (24) }
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } ، أَيِ: الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ،
يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَرَأَ يَعْقُوبُ " يَحْشُرُهُمْ "
هَاهُنَا، وَفِي سَبَأٍ بِالْيَاءِ، وَوَافَقَ حَفْصٌ فِي سَبَأٍ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ
شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } ، أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ.
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَيَعْقُوبُ "يَكُنْ" بِالْيَاءِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِمَعْنَى
الِافْتِتَانِ، فَجَازَ تَذْكِيرُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ
الْفِتْنَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ
"فِتْنَتُهُمْ" بِالرَّفْعِ جَعَلُوهُ اسْمَ كَانَ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، فَجَعَلُوا الِاسْمَ قَوْلَهُ "أَنْ قَالُوا"
وَفِتْنَتُهُمُ الْخَبَرُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ "فِتْنَتُهُمْ" أَيْ:
قَوْلُهُمْ وَجَوَابُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَعْذِرَتُهُمْ
وَالْفِتْنَةُ التَّجْرِبَةُ، فَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ تَجْرِبَةً لِإِظْهَارِ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ قِيلَ فِتْنَةٌ.
قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } مَعْنًى
لَطِيفٌ وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ يَفْتَتِنُ بِمَحْبُوبٍ ثُمَّ يُصِيبُهُ فِيهِ
[مِحْنَةٌ] (1) فَيَتَبَرَّأُ مِنْ مَحْبُوبِهِ، فَيُقَالُ: لَمْ تَكُنْ فُتِنْتَ
إِلَّا هَذَا، كَذَلِكَ الْكُفَّارُ فُتِنُوا بِمَحَبَّةِ الْأَصْنَامِ وَلَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ تَبَرَّأُوا مِنْهَا، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ثُمَّ
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } فِي مَحَبَّتِهِمُ الْأَصْنَامَ، { إِلَّا أَنْ
قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ " رَبَّنَا " بِالنَّصْبِ عَلَى نِدَاءِ الْمُضَافِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ عَلَى نَعْتِ والله، وقيل: 117\أ إِنَّهُمْ
إِذَا رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَاوُزَهُ
عَنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نَكْتُمُ
الشِّرْكَ لَعَلَّنَا نَنْجُوا مَعَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ
رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِالْكُفْرِ.
فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } ،
بِاعْتِذَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَتَبَرِّيهِمْ عَنِ الشِّرْكِ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ
} زَالَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ { مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } مِنَ الْأَصْنَامِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ شَفَاعَتَهَا وَنُصْرَتَهَا، فَبَطُلَ
كُلُّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
__________
(1) في "ب": (فتنة).
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا
بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
(26) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } الْآيَةَ، قَالَ
الْكَلْبِيُّ: اجْتَمَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعُتْبَةُ
وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ وَأُبَيُّ ابْنَا خَلَفٍ وَالْحَارِثُ
بْنُ عَامِرٍ، يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَقَالُوا لِلنَّضْرِ: يَا أَبَا
قَتِيلَةَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَرَاهُ
يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَيَقُولُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، مِثْلَ مَا كُنْتُ
أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ النَّضْرُ كَثِيرَ
الْحَدِيثِ عَنِ الْقُرُونِ وَأَخْبَارِهَا (1) . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي
أَرَى بَعْضَ مَا يَقُولُ حَقًّا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَلَّا لَا نُقِرُّ
بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ: لَلْمَوْتُ أَهْوَنُ عَلَيْنَا مِنْ هَذَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ
إِلَيْكَ" وَإِلَى كَلَامِكَ، { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } ،
أَغْطِيَةً، جَمْعُ كِنَانٍ، كَالْأَعِنَّةِ جَمْعُ عَنَانٍ، { أَنْ يَفْقَهُوهُ }
، أَنْ يَعْلَمُوهُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَفْقَهُوهُ، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ
أَنْ يَفْقَهُوهُ، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } ، صَمَمًا وَثِقَلًا هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ فَيَشْرَحُ بَعْضَهَا
لِلْهُدَى، وَيَجْعَلُ بَعْضَهَا فِي أَكِنَّةٍ فَلَا تَفْقَهُ كَلَامَ اللَّهِ
وَلَا تُؤْمِنُ، { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ } ، مِنَ الْمُعْجِزَاتِ
وَالدِّلَالَاتِ، { لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } ،
يَعْنِي: أَحَادِيثَهُمْ وَأَقَاصِيصَهُمْ، وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ: أُسْطُورَةٍ،
وَإِسْطَارَةٍ، وَقِيلَ: هِيَ التُّرَّهَاتُ وَالْأَبَاطِيلُ، وَأَصْلُهَا مِنْ
سَطَرْتُ، أَيْ: كَتَبْتُ.
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أَيْ: يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } ، أَيْ:
يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ، نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ، قَالَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
يَنْهَوْنَ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ (2) نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى
النَّاسَ عَنْ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْنَعُهُمْ
وَيَنْأَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، أَيْ: يَبْعُدُ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ
اجْتَمَعَ إِلَيْهِ رُءُوسُ الْمُشْرِكِينَ وَقَالُوا: خُذْ شَابًّا مِنْ
أَصْبَحِنَا وَجْهًا، وَادْفَعْ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا
أَنْصَفْتُمُونِي أَدْفَعُ إِلَيْكُمْ وَلَدِي لِتَقْتُلُوهُ وَأُرَبِّي
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص(247).
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص(247-248)، تفسير القرطبي: 6 / 406.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
وَلَدَكُمْ؟
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إِلَى
الْإِيمَانِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرُنِي قُرَيْشٌ لَأَقْرَرْتُ بِهَا
عَيْنَكَ، وَلَكِنْ أَذُبُّ عَنْكَ مَا حَيِيتُ. وَقَالَ فِيهِ أَبْيَاتًا:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ
دَفِينًا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وَابْشِرْ بِذَاكَ وَقِرَّ بِذَاكَ
مِنْكَ عُيُونًا
وَدَعَوْتَنِي وَعَرَفْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ
أَمِينًا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ
دِينًا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارُ سُبَّةً لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ
مُبِينًا
{ وَإِنْ يُهْلِكُونَ } ، أَيْ: مَا يُهْلِكُونَ، { إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } أَيْ:
لَا يَرْجِعُ وَبَالُ فِعْلِهِمْ إِلَّا إِلَيْهِمْ، وَأَوْزَارُ الَّذِينَ
يَصُدُّونَهُمْ عَلَيْهِمْ، { وَمَا يَشْعُرُونَ } . .
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) }
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا
لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى
وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } يَعْنِي:
فِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أَيْ: فِي مُلْكِ
سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: عُرِضُوا عَلَى النَّارِ، وَجَوَابُ "لَوْ"
مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ: لَوْ تَرَاهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَرَأَيْتَ عَجَبًا، {
فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ } يَعْنِي: إِلَى الدُّنْيَا، { وَلَا نُكَذِّبَ
بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ
كُلُّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نَرُدُّ وَنَحْنُ لَا
نَكُذِّبُ، وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ
وَيَعْقُوبُ "وَلَا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ" بِنَصْبِ الْبَاءِ وَالنُّونِ
عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، أَيْ: لَيْتَ رَدَّنَا وَقَعَ، وَأَنْ لَا نُكَذِّبَ
وَنَكُونَ، وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ جَوَابَ التَّمَنِّي بِالْوَاوِ كَمَا تَنْصِبُّ
بِالْفَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "نُكَذِّبُ" بِالرَّفْعِ
وَ"نَكُونَ" بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا.
{ بَلْ بَدَا لَهُمْ } قَوْلُهُ: "بَلْ" تَحْتَهُ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ،
أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَآمَنُوا، بَلْ
بَدَا لَهُمْ، ظَهَرَ لَهُمْ، { مَا كَانُوا يُخْفُونَ } يُسِرُّونَ، { مِنْ
قَبْلُ } فِي الدُّنْيَا مِنْ كُفْرِهِمْ
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
وَمَعَاصِيهِمْ،
وَقِيلَ: مَا كَانُوا يُخْفُونَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ "وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ"(الْأَنْعَامِ، 23)، فَأَخْفَوْا شِرْكَهُمْ وَكَتَمُوا
حَتَّى شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا كَتَمُوا وَسَتَرُوا، لِأَنَّهُمْ
كَانُوا لَا يُخْفُونَ كُفْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تُجْعَلَ الْآيَةَ
فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: بَلْ بَدَا لَهُمْ جَزَاءُ مَا
كَانُوا يُخْفُونَ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: بَلْ بَدَا عَنْهُمْ.
ثُمَّ قَالَ { وَلَوْ رُدُّوا } إِلَى الدُّنْيَا { لَعَادُوا لِمَا } يَعْنِي
إِلَى مَا { نُهُوا عَنْهُ } مِنَ الْكُفْرِ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فِي
قَوْلِهِمْ، لَوْ رُدِدْنَا إِلَى الدُّنْيَا لَمْ نُكَذِّبْ بِآيَاتِ رَبِّنَا
وَكُنَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
} هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ رُدُّوا لَقَالُوهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } أَيْ:
عَلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، وَقِيلَ: عُرِضُوا عَلَى رَبِّهِمْ، {
قَالَ } لَهُمْ وَقِيلَ: تَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ، { أَلَيْسَ
هَذَا بِالْحَقِّ } ؟ يَعْنِي: أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْثُ وَالْعَذَابُ بِالْحَقِّ؟
{ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } إِنَّهُ حَقٌّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي
مَوْقِفٍ، وَقَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي مَوْقِفٍ
آخَرَ، وَفِي الْقِيَامَةِ مَوَاقِفُ، فَفِي مَوْقِفٍ يُقِرُّونَ، وَفِي مَوْقِفٍ
يُنْكِرُونَ. { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ
يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) }
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } أَيْ: خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمُ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ
الْمَوْتِ، { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ } أَيِ: الْقِيَامَةُ {
بَغْتَةً } أَيْ: فَجْأَةً، { قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا } نَدَامَتَنَا، [ذُكِرَ]
(1) عَلَى وَجْهِ النِّدَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: كَأَنَّهُ
يَقُولُ: أَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا أَوَانُكِ، { عَلَى مَا فَرَّطْنَا } أَيْ:
قَصَّرْنَا { فِيهَا } أَيْ: فِي الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: تَرَكْنَا فِي الدُّنْيَا
مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من"أ" واستدركناه في "ب".
قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: (1) الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ خُسْرَانُ صَفْقَتِهِمْ بِبَيْعِهِمُ الْآخِرَةَ
بِالدُّنْيَا قَالُوا: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا، أَيْ: فِي
الصَّفْقَةِ [فَتُرِكَ ذِكْرُ الصفقة] (2) اكتفاء بذكر بِقَوْلِهِ { قَدْ خَسِرَ }
لِأَنَّ الْخُسْرَانَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي صَفْقَةِ بَيْعٍ، وَالْحَسْرَةُ
شِدَّةُ النَّدَمِ، حَتَّى يَتَحَسَّرَ النَّادِمُ، كَمَا يَتَحَسَّرُ الَّذِي
تَقُومُ بِهِ دَابَّتُهُ فِي السَّفَرِ الْبَعِيدِ، { وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزَارَهُمْ } أَثْقَالَهُمْ وَآثَامَهُمْ، { عَلَى ظُهُورِهِمْ } قَالَ
السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ +إِذْ أُخْرِجَ مِنْ قَبْرِهِ
اسْتَقْبَلَهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ صُورَةً وَأَطْيَبُهُ رِيحًا فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ
تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَارْكَبْنِي،
فَقَدْ طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)(مَرْيَمَ، 85)
أَيْ: رُكْبَانًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَسْتَقْبِلُهُ أَقْبَحُ شَيْءٍ صُورَةً
وَأَنْتَنُهُ رِيحًا، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ:
أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ طَالَمَا رَكِبْتَنِي في الدنيأ 117/ب فَأَنَا
الْيَوْمَ أَرْكَبُكَ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } { أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } يَحْمِلُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ الْحِمْلُ حَمَلُوا.
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } بَاطِلٌ وَغُرُورٌ لَا
بَقَاءَ لَهَا { وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ { وَلَدَارُ
الْآخِرَةِ } مُضَافًا أَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَيُضَافُ الشَّيْءُ
إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَقَوْلِهِ:(وَحَبَّ
الْحَصِيدِ)، وَقَوْلِهِمْ: رَبِيعُ الْأَوَّلِ وَمَسْجِدُ الْجَامِعِ، سُمِّيَتِ
الدُّنْيَا لِدُنُوِّهَا، وَقِيلَ: لِدَنَاءَتِهَا، وَسُمِّيَتِ الْآخِرَةُ
لِأَنَّهَا بَعْدَ الدُّنْيَا، { خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الشِّرْكَ، {
أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أَنَّ الْآخِرَةَ أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا، قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) بِالتَّاءِ
هَاهُنَا وَفِي الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ يُوسُفَ ويس، وَوَافَقَ أَبُو بَكْرٍ فِي
سُورَةِ يُوسُفَ، وَوَافَقَ حَفْصٌ إِلَّا فِي سُورَةِ يس، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ فِيهِنَّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
} قَالَ السُّدِّيُّ: الْتَقَى الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ
هِشَامٍ، فَقَالَ الْأَخْنَسُ لِأَبِي جَهْلٍ يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي
عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ
يَسْمَعُ كَلَامَكَ غَيْرِي، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا
لَصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ
بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنَّدْوَةِ وَالنُّبُوَّةِ
فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ
الْآيَةَ (3) .
وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَتَّهِمُكَ وَلَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنَّا نُكَذِّبُ
الَّذِي جِئْتَ
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 11 / 325، وفيه قوله: "والهاء والألف في قوله:
"فيها" من ذكر "الصفقة"، ولكن اكتفى بدلالة قوله: "قد
خسر الذين كذبوا بلقاء الله" عليها من ذكرها، إذ كان معلوما أن
"الخسران" لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت".
(2) انظر: تفسير الطبري: 11 / 325، وفيه قوله: "والهاء والألف في قوله:
"فيها" من ذكر "الصفقة"، ولكن اكتفى بدلالة قوله: "قد
خسر الذين كذبوا بلقاء الله" عليها من ذكرها، إذ كان معلوما أن
"الخسران" لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت".
(3) أسباب النزول، ص(249)، تفسير الطبري: 11 / 333.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
بِهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي
يَقُولُونَ } (1) .
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } بِأَنَّكَ كَاذِبٌ، {
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ } قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ أَنْ
تَنْسُبَهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَتَقُولَ لَهُ: كَذَبْتَ، وَالْإِكْذَابُ هُوَ أَنْ
تَجِدَهُ كَاذِبًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَجْدَبْتُ الْأَرْضَ وَأَخْصَبْتُهَا
إِذَا وَجَدْتُهَا جَدْبَةً وَمُخَصَّبَةً، { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ } يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي السِّرِّ
لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا صِدْقَكَ فِيمَا مَضَى، وَإِنَّمَا يُكْذِّبُونَ وَحْيِي
وَيَجْحَدُونَ آيَاتِي، كَمَا قَالَ: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ"(النَّمْلِ، 94).
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا
فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) }
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ كَمَا
كَذَّبَتْكَ قُرَيْشٌ، { فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى
أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } بِتَعْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُمْ، { وَلَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } لَا نَاقِضَ لِمَا حَكَمَ بِهِ، وَقَدْ حَكَمَ فِي
كِتَابِهِ بِنَصْرِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ:(وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(الصَّافَّاتِ، 171-172)،
وَقَالَ:(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)(غَافِرٍ، 51) وَقَالَ:(كَتَبَ اللَّهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(الْمُجَادَلَةِ، 21)، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
الْفَضْلِ: لَا خُلْفَ [لِعِدَاتِهِ] (2) { وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ
الْمُرْسَلِينَ } وَ{ مِنْ } صِلَةٌ كَمَا تَقُولُ: أَصَابَنَا مِنْ مَطَرٍ.
{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أَيْ: عَظُمَ عَلَيْكَ وَشَقَّ
أَنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ أَشَدَّ الْحِرْصِ،
وَكَانُوا إِذْ سَأَلُوا آيَةً أَحَبَّ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ
طَمَعًا فِي إِيمَانِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ
أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا } تَطْلُبَ وَتَتَّخِدَ نَفَقًا سَرَبًا
__________
(1) أخرجه الترمذي من طريق أبي كريب عن علي، في التفسير، سورة الأنعام: 8 / 437،
ثم من طريق إسحاق بن منصور عن سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية: أن أبا جهل... وذكر
نحوه، ولم يذكر فيه عن علي، وقال: هذا أصح. وحديث علي أخرجه الحاكم في المستدرك: 2
/ 315 وقال: صحيح على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي قائلا: "ما خرّجا لناجية
شيئا". وانظر: أسباب النزول، ص(249)، الطبري: 11 / 334، القرطبي: 6 / 416.
(2) في "ب" "لعدته".
{ وَفِي الْأَرْضِ } وَمِنْهُ نَافَقَاءُ الْيَرْبُوعِ، وَهُوَ أَحَدُ جُحْرَيْهِ فَيَذْهَبُ فِيهِ، { أَوْ سُلَّمًا } أَيْ: دَرَجًا وَمِصْعَدًا، { فِي السَّمَاءِ } فَتَصْعَدَ فِيهِ، { فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } فَافْعَلْ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } فَآمَنُوا كُلُّهُمْ، { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أَيْ: بِهَذَا الْحَرْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } وَأَنَّ مَنْ يَكْفُرْ لِسَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِ.
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ
رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) }
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ فَيَتَّبِعُونَهُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ دُونَ
مَنْ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى سَمْعِهِ، { وَالْمَوْتَى } يَعْنِي الْكُفَّارَ، {
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فَيَجْزِيهِمْ
بِأَعْمَالِهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالُوا } يَعْنِي: رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ، { لَوْلَا }
هَلَّا { نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } مَا عَلَيْهِمْ
فِي إِنْزَالِهَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } قَيَّدَ الطَّيَرَانَ بِالْجَنَاحِ تَأْكِيدًا كَمَا
يُقَالُ نَظَرْتُ بِعَيْنِي وَأَخَذْتُ بِيَدِي، { إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ }
قَالَ مُجَاهِدٌ: أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا يُرِيدُ أَنَّ
كُلَّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ أُمَّةٌ، فَالطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالدَّوَابُّ أُمَّةٌ،
وَالسِّبَاعُ أُمَّةٌ، تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا مِثْلُ بَنِي آدَمَ، يُعَرَفُونَ
بِأَسْمَائِهِمْ، يُقَالُ: الْإِنْسُ وَالنَّاسُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْجَعْدِ أَنَا الْمُبَارَكُ هُوَ ابْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:(لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا
كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ) (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الضحايا، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره: 4 / 132-133،
والترمذي في الصيد، باب ما جاء في قتل الكلاب: 5 / 63، وقال: حديث حسن صحيح،
والنسائي في الصيد والذبائح، باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها: 7 / 185، وابن ماجه
في الصيد، باب قتل الكلاب إلا كلب صيد أو زرع، برقم(3205): 2 / 1069، والدارمي في
الصيد، باب في قتل الكلاب: 2 / 90، والإمام أحمد في المسند: 5 / 54، 56، والمصنف
في شرح السنة: 11 / 211.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
وَقِيلَ:
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ يَفْقَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: أَمَّمَ
أَمْثَالُكُمْ فِي الْخَلْقِ وَالْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ فِي الْغِذَاءِ وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ وَتَوَقِّي الْمَهَالِكِ.
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ } أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، { مِنْ
شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ:
حَشْرُهَا مَوْتُهَا، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ
كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ، وَكُلَّ
شَيْءٍ فَيَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي
تُرَابًا فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ وَيَقُولُ:(يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُرَابًا).
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ أَنَا
أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ
حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَتُرَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى
يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ" (1) .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ
اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا
تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ }
لَا يَسْمَعُونَ الْخَيْرَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، { فِي الظُّلُمَاتِ } فِي
ضَلَالَاتِ الْكُفْرِ، { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ } هَلْ رَأَيْتُمْ؟ وَالْكَافُ فِيهِ
لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ أَرَأَيْتَكَ، وَهُمْ
يُرِيدُونَ أَخْبِرْنَا، كَمَا يَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ إِنْ فَعَلَتُ كَذَا مَاذَا
تَفْعَلُ؟ أَيْ: أَخْبِرْنِي، وَقَرَأَ أَهْلُ
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2582): 4 / 1997.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
الْمَدِينَةِ
"أَرَايْتَكُمْ، وَأَرَايْتُمْ، وَأَرَايْتَ" بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ
الثَّانِيَةِ، وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْ يَا
مُحَمَّدٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَرَأَيْتَكُمْ، { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ
اللَّهِ } قَبْلَ الْمَوْتِ، { أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ } يَعْنِي:
الْقِيَامَةَ، { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } فِي صَرْفِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ، {
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَأَرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَدْعُونَ اللَّهَ فِي
أَحْوَالِ الِاضْطِرَارِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ:(وَإِذَا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(لُقْمَانَ، 32).
ثُمَّ قَالَ: { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } أَيْ: تَدْعُونَ اللَّهَ وَلَا
تَدْعُونَ غَيْرَهُ، { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } قَيَّدَ
الْإِجَابَةَ بِالْمَشِيئَةِ [وَالْأُمُورُ كُلُّهَا بِمَشِيئَتِهِ] (1) {
وَتَنْسَوْنَ } وَتَتْرُكُونَ، { مَا تُشْرِكُونَ }
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْبَأْسَاءِ } بِالشِّدَّةِ وَالْجُوعِ، { وَالضَّرَّاءِ } الْمَرَضِ
وَالزَّمَانَةِ، { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أَيْ يَتُوبُونَ وَيَخْضَعُونَ،
وَالتَّضَرُّعُ السُّؤَالُ بِالتَّذَلُّلِ.
{ فَلَوْلَا } فَهَلَّا { إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا } عَذَابُنَا، { تَضَرَّعُوا }
فَآمَنُوا فكشف عنهم، 118\أ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ
إِلَى قَوْمٍ بَلَغُوا مِنَ الْقَسْوَةِ إِلَى أَنَّهُمْ أُخِذُوا بِالشِّدَّةِ
فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَخْضَعُوا وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ
مُبْلِسُونَ (44) }
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ
وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
}
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } تَرَكُوا مَا وُعِظُوا وَأُمِرُوا بِهِ، {
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، "فَتَّحْنَا"
بِالتَّشْدِيدِ، فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كَذَلِكَ إِذَا
كَانَ عُقَيْبَهُ جَمْعٌ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهَذَا فَتْحُ
اسْتِدْرَاجٍ وَمَكْرٍ، أَيْ: بَدَّلْنَا مَكَانَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ
الرَّخَاءَ وَالصِّحَّةَ، { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } وَهَذَا فَرَحُ
بَطَرٍ مِثْلُ فَرَحِ قَارُونَ بِمَا أَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا، { أَخَذْنَاهُمْ
بَغْتَةً } فَجْأَةً آمَنَ مَا كَانُوا، وَأَعْجَبَ مَا كَانَتِ الدُّنْيَا
إِلَيْهِمْ، { فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
الْمُبْلِسُ
النَّادِمُ الْحَزِينُ، وَأَصْلُ الْإِبْلَاسِ: الْإِطْرَاقُ مِنَ الْحُزْنِ
وَالنَّدَمِ، وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ
وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ)، ثُمَّ تَلَا
"فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ" الْآيَةَ (1) .
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أَيْ: آخِرُهُمْ [الَّذِينَ
بِدُبُرِهِمْ، يُقَالُ: دَبَرَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دَبْرًا وَدُبُورًا
إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ] (2) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اسْتُؤْصِلُوا بِالْعَذَابِ
فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ، { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
حَمِدَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ قَطَعَ دَابِرَهُمْ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ عَلَى
الرُّسُلِ، فَذَكَرَ الْحَمْدَ لِلَّهِ تَعْلِيمًا لَهُمْ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِمْ،
أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى كِفَايَتِهِ شَرَّ الظَّالِمِينَ، وَلِيَحْمَدَ مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَبَّهُمْ إِذَا أَهْلَكَ
الْمُكَذِّبِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، { إِنْ أَخَذَ
اللَّهُ سَمْعَكُمْ } حَتَّى لَا تَسْمَعُوا شَيْئًا أَصْلًا { وَأَبْصَارَكُمْ }
حَتَّى لَا تُبْصِرُوا شَيْئًا، { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } حَتَّى لَا
تَفْقَهُوا شَيْئًا وَلَا تَعْرِفُوا مِمَّا تَعْرِفُونَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا،
{ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } وَلَمْ يَقُلْ بِهَا مَعَ
أَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاءَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ يَأْتِيكُمْ بِمَا أُخِذَ مِنْكُمْ،
وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى السَّمْعِ الَّذِي ذُكِرَ أَوَّلًا
وَيَنْدَرِجُ غَيْرُهُ تَحْتَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(التَّوْبَةِ، 62). فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ،
وَرِضَى رَسُولِهِ يَنْدَرِجُ فِي رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، { انْظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } أَيْ: نُبَيِّنُ لَهُمُ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى
التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } يُعْرِضُونَ عَنْهَا
مُكَذِّبِينَ.
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً
هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ
عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) }
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً } فَجْأَةً، {
أَوْ جَهْرَةً } مُعَايَنَةً تَرَوْنَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ، قَالَ
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 145، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وقال
الهيثمي في المجمع: 10 / 245 "رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه الوليد بن
العباس المصري وهو ضعيف" وعزاه في موضع آخر: 7 / 20 لأحمد والطبراني.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، { هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ } الْمُشْرِكُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } الْعَمَلَ، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }
حِينَ يَخَافُ أَهْلُ النَّارِ، { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } إِذَا حَزِنُوا.
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ } يُصِيبُهُمْ { الْعَذَابُ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يَكْفُرُونَ.
{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } نَزَلَ حِينَ اقْتَرَحُوا
الْآيَاتِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: { لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزَائِنُ اللَّهِ } أَيْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فَأُعْطِيكُمْ مَا تُرِيدُونَ، {
وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا غَابَ مِمَّا مَضَى وَمِمَّا
سَيَكُونُ، { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْمَلَكَ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآدَمِيُّ وَيُشَاهِدُ مَا
لَا يُشَاهِدُهُ الْآدَمِيُّ، يُرِيدُ لَا أَقُولُ لَكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَتُنْكِرُونَ قَوْلِي وَتَجْحَدُونَ أَمْرِي، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ } أَيْ: مَا آتِيكُمْ بِهِ فَمِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ
غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِي الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَجِ
الْبَالِغَةِ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ؟ قَالَ
قَتَادَةُ: الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّالُّ
وَالْمُهْتَدِي، وَقِيلَ: الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ، { أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }
أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ.
{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَنْذِرْ بِهِ } خَوِّفْ بِهِ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، {
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا } يُجْمَعُوا وَيُبْعَثُوا إِلَى رَبِّهِمْ،
وَقِيلَ: يَخَافُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ، لِأَنَّ خَوْفَهُمْ إِنَّمَا كَانَ مِنْ
عِلْمِهِمْ، { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ } مِنْ دُونِ اللَّهِ، { وَلِيٌّ }
قَرِيبٌ يَنْفَعُهُمْ، { وَلَا شَفِيعٌ } يَشْفَعُ لَهُمْ، { لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ } فَيَنْتَهُونَ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَفَى الشَّفَاعَةَ
لِغَيْرِهِ -مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ يَشْفَعُونَ -لِأَنَّهُمْ
لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ "بِالْغُدْوَةِ" بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ
وَوَاوٍ بَعْدَهَا، هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:
بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا.
قَالَ
سَلْمَانُ وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، جَاءَ
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ
وَذَوُوهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَوَجَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا مَعَ بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ
فِي نَاسٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ
حَقَّرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ جَلَسْتَ فِي
صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَنَفَيْتَ عَنَّا هَؤُلَاءِ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ، وَكَانَ
عَلَيْهِمْ جِبَابٌ صُوفٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا، لَجَالَسْنَاكَ
وَأَخَذْنَا عَنْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَهُمْ: "مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ" قَالُوا فَإِنَّا نُحِبُّ
أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ
وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَؤُلَاءِ
الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا فَرَغْنَا
فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: اكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ
بِذَلِكَ كِتَابًا، قَالَ: فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ،
قَالُوا وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ إِذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِقَوْلِهِ: {
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } إِلَى قَوْلِهِ: { بِالشَّاكِرِينَ } فَأَلْقَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيفَةَ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ
دَعَانَا فَأَثْبَتُّهُ، وَهُوَ يَقُولُ:(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَهُ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَقُومَ قَامَ وَتَرَكَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:(واصبر نفسك ممع
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ)(الْكَهْفِ، 28)، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْعُدُ مَعَنَا بَعْدُ وَنَدْنُو مِنْهُ حَتَّى كَادَتْ رُكَبُنَا
تَمَسُّ رُكْبَتَهُ، فَإِذَا بَلَغَ السَّاعَةَ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا قُمْنَا
وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ، وَقَالَ لَنَا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَ قَوْمٍ مِنْ
أُمَّتِي، مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ الْمَمَاتُ" (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالُوا لَهُ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا وَلَهُمْ يَوْمًا،
فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، قَالُوا: فَاجْعَلِ الْمَجْلِسَ وَاحِدًا فَأَقْبِلْ
إِلَيْنَا وَوَلِّ ظَهْرَكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ }
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْلَا بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ
لَبَايَعْنَا مُحَمَّدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: { وَلَا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } (2) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يَعْنِي:
صَلَاةَ الصُّبْحِ وَصَلَاةَ الْعَصْرِ، وَيُرْوَى عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ
مِنْهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَذَلِكَ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْفُقَرَاءِ
كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَشْرَافِ:
إِذَا صَلَّيْنَا فَأَخِّرْ هَؤُلَاءِ فَلْيُصَلُّوا خَلْفَنَا، فَنَزَلَتِ
الْآيَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَلَّيْتُ الصُّبْحَ مَعَ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ ابْتَدَرَ
__________
(1) أخرجه الطبري: 11 / 376-377، وابن ماجه في الزهد، برقم (4127): 2 / 382-383
قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وقد روى مسلم والنسائي بعضه من حديث
سعد، وانظر: صحيح مسلم، فضائل الصحابة، رقم (2413): 4 / 1887. وساقه ابن كثير في
التفسير: 2 / 136 وقال: هذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية والأقرع بن حابس وعيينة
إنما أسلما بعد الهجرة بدهر". ولا وجه لهذه الغرابة، فعندما قالا ذلك لم
يكونا من المسلمين.
(2) عزاه السيوطي في الدر: 3 / 274 لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم.
النَّاسُ الْقَاصَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى هَذَا الْمَجْلِسِ! قَالَ مُجَاهِدٌ: فَقُلْتُ يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قَالَ: أَفِي هَذَا هو، إنمأ 118/ب ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي انْصَرَفْنَا عَنْهَا الْآنَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَعْنِي يَذْكُرُونَ رَبَّهُمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ: حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ، { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أَيْ: يُرِيدُونَ اللَّهَ بِطَاعَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَطْلُبُونَ ثَوَابَ اللَّهِ فَقَالَ: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أَيْ: لَا تُكَلَّفُ أَمْرَهُمْ وَلَا يَتَكَلَّفُونَ أَمْرَكَ، وَقِيلَ: لَيْسَ رِزْقُهُمْ عَلَيْكَ فَتَمَلَّهُمْ، { فَتَطْرُدَهُمْ } وَلَا رِزْقُكَ عَلَيْهِمْ، قَوْلُهُ { فَتَطْرُدَهُمْ } جَوَابٌ لِقَوْلِهِ { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ: { فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } جَوَابٌ لِقَوْلِهِ { وَلَا تَطْرُدِ } أَحَدُهُمَا جَوَابُ النَّفْيِ وَالْآخَرُ جَوَابُ النَّهْيِ.
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا } أَيِ: ابْتَلَيْنَا، {
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أَرَادَ ابْتِلَاءَ الْغَنِيِّ بِالْفَقِيرِ وَالشَّرِيفِ
بِالْوَضِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيفَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْوَضِيعِ قَدْ
سَبَقَهُ بِالْإِيمَانِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ فَكَانَ فِتْنَةً
لَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِنَا } فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ } فَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ { أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، أَيِ:
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ شَكَرَ الْإِسْلَامَ إِذْ هَدَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الطَّيْسَفُونِيُّ
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التُّرَابِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ بِسْطَامٍ ثَنَا أَبُو الْحَسَنِ
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ الْقُرَشِيُّ أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا جَعْفَرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ بَشِيرٍ
الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
قَالَ: جَلَسْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ
لِيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْيِ، وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا إِذْ جَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا
قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ الْقَارِئَ،
فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "مَا
كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ قَارِئٌ يَقْرَأُ
عَلَيْنَا فَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
الَّذِي
جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَهُمْ"
قَالَ: ثُمَّ جلس وسطنا ليدل نَفْسَهُ فِينَا ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا
فَتَحَلَّقُوا، وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ، قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرُوا يَا
مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ
مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا
فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ نَهَى
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ (2) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَبِلَالٍ
وَسَالِمٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَحَمْزَةَ وَجَعْفَرٍ
وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي
الْأَرْقَمِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أَيْ: قَضَى عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ، { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قَالَ
مُجَاهِدٌ: لَا يَعْلَمُ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ فَمِنْ جَهَالَتِهِ رَكِبَ
الذَّنْبَ، وَقِيلَ: جَاهِلٌ بِمَا يُورِثُهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ، وَقِيلَ:
جَهَالَتُهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ آثَرَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ
وَالْعَاجِلَ الْقَلِيلَ عَلَى الْآجِلِ الْكَثِيرِ، { ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
} رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ، { وَأَصْلَحَ } عَمَلَهُ، قِيلَ: أَخْلَصَ تَوْبَتَهُ، {
فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ "
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ " " فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "
بِفَتْحِ الْأَلِفِ فِيهِمَا بَدَلًا مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ: كَتَبَ عَلَى
نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَمَلِ مِنْكُمْ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّانِيَةَ بَدَلًا عَنِ
الْأُولَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ
وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ"،(الْمُؤْمِنُونَ،
35)، وَفَتَحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا وَكَسَرُوا الثَّانِيَةَ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَكَسَرَهُمَا الْآخَرُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ
لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
(56) }
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أَيْ: وَهَكَذَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَكَمَا
فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلَائِلَنَا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب في القصص: 5 / 255، قال المنذري: "وفي
إسناده زياد بن المعلى بن زياد، أبو الحسن، وفيه مقال، وأخرجه أحمد: 3 / 63، 96 عن
أبي سعيد الخدري. والمصنف في شرح السنة: 14 / 191. وله شاهد عند الترمذي في الزهد
وابن ماجه وابن حبان، فيتقوى به.
(2) انظر: الطبري: 11 / 380، أسباب النزول ص(252).
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
وَإِعْلَامَنَا
عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ نَفْصِلُ الْآيَاتِ، أَيْ: نُمَيِّزُ وَنُبَيِّنُ
لَكَ حُجَّتَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ، { وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } أَيْ: طَرِيقُ الْمُجْرِمِينَ، وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ "وَلِتَسْتَبِينَ" بِالتَّاءِ، "سَبِيلَ" نُصِبَ
عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَلِتَعْرِفَ
يَا مُحَمَّدُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ، يُقَالُ: اسْتَبَنْتُ الشَّيْءَ
وَتَبَيَّنْتُهُ إِذَا عَرَفْتُهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو
بَكْرٍ "وَلِيَسْتَبِينَ" بِالْيَاءِ "سَبِيلُ" بِالرَّفْعِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { وَلِتَسْتَبِينَ } بِالتَّاءِ "سَبِيلُ" رفع،
أَيْ: لِيَظْهَرَ وَيَتَّضِحَ السَّبِيلُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَدَلِيلُ التَّذْكِيرِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلًا"(الأعراف، 146)، ودليل الثأنيت قَوْلُهُ تَعَالَى: "لِمَ
تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ من آمن به تَبْغُونَهَا عِوَجًا"(آلِ
عُمْرَانَ، 99).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ } فِي عِبَادَةِ
الْأَوْثَانِ وَطَرْدِ الْفُقَرَاءِ، { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ } يَعْنِي: إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكْتُ سَبِيلَ الْحَقِّ
وَسَلَكْتُ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى.
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ
لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
}
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ } أَيْ: عَلَى بَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ وَبُرْهَانٍ، {
مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } أَيْ: مَا جِئْتُ بِهِ، { مَا عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } قِيلَ: أَرَادَ بِهِ اسْتِعْجَالَهُمُ الْعَذَابَ، كَانُوا
يَقُولُونَ: "إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً"(الْأَنْفَالِ، 32) الْآيَةَ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ
الْقِيَامَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا"(الشُّورَى، 18)، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ بِضَمِّ الْقَافِ
وَالصَّادِ مُشَدِّدًا أَيْ يَقُولُ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ
بِغَيْرِ يَاءٍ، وَلِأَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ وَلَمْ يَقُلْ بِالْحَقِّ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ(يَقْضِي) بِسُكُونِ الْقَافِ وَالضَّادُ مَكْسُورَةٌ، مِنْ قَضَيْتُ،
أَيْ: يَحْكُمُ بِالْحَقِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: { وَهُوَ خَيْرُ
الْفَاصِلِينَ } وَالْفَصْلُ يَكُونُ فِي الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْيَاءَ
لِاسْتِثْقَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(صَالِ الْجَحِيمِ)
وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِالْحَقِّ لِأَنَّ الْحَقَّ صِفَةُ الْمَصْدَرِ،
كَأَنَّهُ قَالَ: يَقْضِي الْقَضَاءَ الْحَقَّ.
{ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي } وَبِيَدِي، { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } مِنَ
الْعَذَابِ { لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
أَيْ:
فَرَغَ مِنَ الْعَذَابِ [وَأَهْلَكْتُمْ] (1) أَيْ: لَعَجَّلْتُهُ حَتَّى
أَتَخَلَّصَ مِنْكُمْ، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ (59) }
__________
(1) في "ب": (وهلكتم).
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا
هُوَ } مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَزَائِنُهُ، جَمْعُ مِفْتَحٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَفَاتِحِ الْغَيْبِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ: "مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا
اللَّهُ، لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى،
[وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي الْغَدِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ] (1) وَلَا
يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدُ إِلَّا اللَّهَ، ولا تدري 119\أ نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ أَحَدٌ إِلَّا
اللَّهَ" (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَزَائِنُ الْأَرْضِ،
وَعِلْمُ نُزُولِ الْعَذَابِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا غَابَ عَنْكُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَقِيلَ: انْقِضَاءُ الْآجَالِ، وَقِيلَ: أَحْوَالُ الْعِبَادِ مِنَ السَّعَادَةِ
وَالشَّقَاوَةِ وَخَوَاتِيمِ أَعْمَالِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ
أَنَّهُ يَكُونُ أَمْ لَا يَكُونُ، وَمَا يَكُونُ كَيْفَ يَكُونُ، وَمَا لَا
يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ؟ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "أُوتِيَ
نَبِيُّكُمْ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عِلْمَ مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ" (3) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله: 2 / 524،
وفي التوحيد وفي التفسير. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 4 / 422.
(3) أخرجه أحمد وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد: 8 / 263. وانظر:
فتح الباري: 1 / 124 و8 / 291، عالم الغيب والشهادة تأليف عثمان جمعة ضميرية ص
(80-81).
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
{
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرُّ:
الْمَفَاوِزُ وَالْقِفَارُ، وَالْبَحْرُ: الْقُرَى وَالْأَمْصَارُ، لَا يَحْدُثُ
فِيهِمَا شَيْءٌ إِلَّا يَعْلَمُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْبَرُّ وَالْبَحْرُ
الْمَعْرُوفُ، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا } يُرِيدُ
سَاقِطَةً وَثَابِتَةً، يَعْنِي: يَعْلَمُ عَدَدَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ
الشَّجَرِ وَمَا يَبْقَى عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَعْلَمُ كَمِ انْقَلَبَتْ (1)
ظَهْرًا لِبَطْنٍ إِلَى أَنْ سَقَطَتْ (2) عَلَى الْأَرْضِ، { وَلَا حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ } قِيلَ: هُوَ الْحَبُّ الْمَعْرُوفُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ،
وَقِيلَ: هُوَ تَحْتَ الصَّخْرَةِ فِي أَسْفَلِ الْأَرْضِينَ، { وَلَا رَطْبٍ
وَلَا يَابِسٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الرَّطْبُ
الْمَاءُ، وَالْيَابِسُ الْبَادِيَةُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ مَا يَنْبُتُ
وَمَا لَا يَنْبُتُ، وَقِيلَ: وَلَا حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍّ، وَقِيلَ: هُوَ
عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، { إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } يَعْنِي أَنَّ
الْكُلَّ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } أَيْ: يَقْبِضُ
أَرْوَاحَكُمْ إِذَا نِمْتُمْ بِاللَّيْلِ، { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ }
كَسَبْتُمْ، { بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أَيْ: يُوقِظُكُمْ فِي
النَّهَارِ، { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى } يَعْنِي: أَجَلَ الْحَيَاةِ إِلَى
الْمَمَاتِ، يُرِيدُ اسْتِيفَاءَ الْعُمْرِ عَلَى التَّمَامِ، { ثُمَّ إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ } فِي الْآخِرَةِ، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ } يُخْبِرُكُمْ، { بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ
(61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ
وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ
هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ
بَنِي آدَمَ، وَهُوَ جَمْعُ حَافِظٍ، نَظِيرُهُ "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ"(الِانْفِطَارِ، 11)، { حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ } قَرَأَ حَمْزَةُ(تُوَفِّيهِ) وَ(اسْتَهْوِيهُ)
بِالْيَاءِ وَأَمَالَهُمَا، { رُسُلُنَا } يَعْنِي:
__________
(1) في "أ": (انقلب).
(2) في "ب": (سقط).
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
أَعْوَانَ
مَلَكِ الْمَوْتِ يَقْبِضُونَهُ فَيَدْفَعُونَهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ
فَيَقْبِضُ رُوحَهُ، كَمَا قَالَ:(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)، وَقِيلَ
الْأَعْوَانُ يَتَوَفَّوْنَهُ بِأَمْرِ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَكَأَنَّ مَلَكَ
الْمَوْتِ تَوَفَّاهُ لِأَنَّهُمْ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ
بِالرُّسُلِ مَلَكَ الْمَوْتِ وَحْدَهُ، فَذَكَّرَ الْوَاحِدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ،
وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدُّنْيَا بَيْنَ
يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ كَالْمَائِدَةِ الصَّغِيرَةِ فَيَقْبِضُ مِنْ هَاهُنَا
وَمِنْ هَاهُنَا فَإِذَا كَثُرَتِ الْأَرْوَاحُ يَدْعُو الْأَرْوَاحَ فَتُجِيبُ
لَهُ، { وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } لَا يُقَصِّرُونَ.
{ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ،
وَقِيلَ: يَعْنِي الْعِبَادَ يُرَدُّونَ بِالْمَوْتِ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ
الْحَقِّ، فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ جَمِيعًا
وَقَدْ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: "وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى
لَهُمْ"(مُحَمَّدٍ، 11)، فَكَيْفَ وُجِّهَ الْجَمْعُ؟ فَقِيلَ: الْمَوْلَى
فِي تِلْكَ الْآيَةِ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَلَا نَاصِرَ لِلْكُفَّارِ،
وَالْمَوْلَى هَاهُنَا بِمَعْنَى الْمَلِكِ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ،
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالِكُ الْكُلِّ وَمُتَوَلِّي الْأُمُورِ، وَقِيلَ:
أَرَادَ هُنَا الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً يُرَدُّونَ إِلَى مَوْلَاهُمْ،
وَالْكُفَّارُ فِيهِ تَبَعٌ، { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } أَيِ: الْقَضَاءُ دُونَ
خَلْقِهِ، { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } أَيْ: إِذَا حَاسَبَ فَحِسَابُهُ
سَرِيعٌ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلى فكرة ورؤية وَعَقْدِ يَدٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ } قَرَأَ يَعْقُوبُ
بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالتَّشْدِيدِ، { مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ } أَيْ: مِنْ شَدَائِدِهِمَا وَأَهْوَالِهِمَا، كَانُوا إِذَا
سَافَرُوا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَضَلُّوا الطَّرِيقَ وَخَافُوا الْهَلَاكَ،
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَيُنْجِيهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } أَيْ: عَلَانِيَةً وَسِرًّا،
قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " وَخِفْيَةً " بِكَسْرِ الْخَاءِ هَاهُنَا
وَفِي الْأَعْرَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، { لَئِنْ
أَنْجَانَا } أَيْ: يَقُولُونَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ:
لَئِنْ أَنْجَانَا اللَّهُ، { مِنْ هَذِهِ } يَعْنِي: مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ، {
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } وَالشُّكْرُ: هُوَ مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ مَعَ
الْقِيَامِ بِحَقِّهَا.
{ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا
مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) }
{ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ
" يُنَجِّيكُمْ " بِالتَّشْدِيدِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
"قُلْ
مَنْ يُنَجِّيكُمْ" وَقَرَأَ الْآخَرُونَ هَذَا بِالتَّخْفِيفِ، { وَمِنْ
كُلِّ كَرْبٍ } وَالْكَرْبُ غَايَةُ الْغَمِّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ، {
ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } يُرِيدُ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الَّذِي
يَدْعُونَهُ عِنْدَ الشِّدَّةِ هُوَ الَّذِي يُنَجِّيهِمْ ثُمَّ تُشْرِكُونَ
مَعَهُ الْأَصْنَامَ الَّتِي قَدْ عَلِمُوا أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ
عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي
أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ قَوْمٌ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ.
قَوْلُهُ { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } يَعْنِي: الصَّيْحَةَ وَالْحِجَارَةَ
وَالرِّيحَ وَالطُّوفَانَ، كَمَا فَعَلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ
وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ نُوحٍ، { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يَعْنِي:
الرَّجْفَةَ وَالْخَسْفَ كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ شُعَيْبٍ وَقَارُونَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } السَّلَاطِينَ
الظَّلَمَةَ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمُ الْعَبِيدُ السُّوءُ، وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: { مِنْ فَوْقِكُمْ } مِنْ قِبَلِ كِبَارِكُمْ { أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ } أَيْ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } أَيْ:
يَخْلِطَكُمْ فِرَقًا وَيَبُثَّ فِيكُمُ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، {
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } يَعْنِي: السُّيُوفَ الْمُخْتَلِفَةَ،
يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو النُّعْمَانَ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { قُلْ هُوَ
الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَعُوذُ
بِوَجْهِكَ"، قَالَ: { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ: "أَعُوذُ
بِوَجْهِكَ"، قَالَ: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ
بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
دُحَيْمٌ الشَّيْبَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ
أَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ أَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ
عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي
مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَنَاجَى رَبَّهُ
طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا: سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ
أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي
بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ
بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، سورة الأنعام، باب "قل هو القادر على أن يبعث
عليكم..." 8 / 291، وفي الاعتصام، وفي التوحيد. وأخرجه المصنف في شرح السنة:
14 / 217.
(2) أخرجه مسلم عن عثمان بن حكيم، في الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض،
برقم(2890): 4 / 2216. والمصنف في شرح السنة: 14 / 214-215.
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
أَخْبَرَنَا
الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا السَّيِّدُ
أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ الْعَلَوِيُّ أَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَلُّوَيْهِ الدَّقَّاقُ ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَاءَهُمْ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فِي مَسْجِدٍ فَسَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا
فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَهُ وَاحِدَةً، سَأَلَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى
أُمَّتِهِ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ،
وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ فأعطاه ذلك 119/ب وَسَأَلَهُ أَنْ
لَا يَجْعَلَ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَفْقَهُونَ }
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) }
__________
(1) أخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 214، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا
الوجه. وروي عن خباب بن الأرت كذلك. قلت: أما حديث خباب فقد أخرجه الترمذي في
الفتن، باب سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا في أمته: 6 /
397-398، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) }
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ، { وَهُوَ
الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بِرَقِيبٍ، وَقِيلَ: بِمُسَلَّطٍ
أُلْزِمُكُمُ الْإِسْلَامَ شِئْتُمْ أَوْ أَبَيْتُمْ، إِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ.
{ لِكُلِّ نَبَأٍ } خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ، { مُسْتَقَرٌّ } حَقِيقَةٌ
وَمُنْتَهًى يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَيُتَبَيَّنُ صِدْقُهُ مَنْ كَذِبِهِ وَحَقُّهُ
مِنْ بَاطِلِهِ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، { وَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ } وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُهُ اللَّهُ وَقْتٌ
[وَقَّتَهُ] (1) وَمَكَانٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرٍ خُلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ،
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: [لِكُلِّ] (2) قَوْلٍ وَفِعْلٍ حَقِيقَةٌ، إِمَّا فِي
الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ فِي
الدُّنْيَا فَسَتَعْرِفُونَهُ وَمَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَسَوْفَ يَبْدُو
لَكُمْ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "أ".
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا } يَعْنِي:
فِي الْقُرْآنِ بِالِاسْتِهْزَاءِ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } فَاتْرُكْهُمْ [وَلَا
تُجَالِسْهُمْ] (1) { حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، { الشَّيْطَانُ }
نَهْيَنَا، { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
يَعْنِي: إِذَا جَلَسَتْ معهم ناسيا فقهم مِنْ عِنْدِهِمْ بَعْدَمَا تَذَكَّرْتَ.
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } قَالَ
الْمُسْلِمُونَ: كَيْفَ نَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَنَطُوفُ
بِالْبَيْتِ وَهُمْ يَخُوضُونَ أَبَدًا؟ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ الْمُسْلِمُونَ:
فَإِنَّا نَخَافُ الْإِثْمَ حِينَ نَتْرُكُهُمْ وَلَا نَنْهَاهُمْ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ } الْخَوْضَ، { مِنْ
حِسَابِهِمْ } أَيْ: مِنْ آثَامِ الْخَائِضِينَ { مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى }
أَيْ: ذَكِّرُوهُمْ وَعِظُوهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَالذِّكْرُ وَالذِّكْرَى وَاحِدٌ،
يُرِيدُ ذَكِّرُوهُمْ ذِكْرِي، فَتَكُونُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، { لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ } الْخَوْضَ إِذَا وَعَظْتُمُوهُمْ فَرَخَّصَ فِي مُجَالَسَتِهِمْ
عَلَى الْوَعْظِ لَعَلَّهُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْضِ، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ
يَسْتَحْيُونَ.
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ
لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا
يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى
أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ
فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِ الْعَالَمِينَ
(71) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا
وَلَهْوًا } يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ اللَّهِ
اسْتَهْزَءُوا بِهَا وَتَلَاعَبُوا عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا فَاتَّخَذَ كُلُّ قَوْمٍ دِينَهُمْ -أَيْ: عِيدَهُمْ
-لَعِبًا وَلَهْوًا، وَعِيدُ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةُ وَالتَّكْبِيرُ وَفِعْلُ
الْخَيْرِ مِثْلُ الْجُمُعَةِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، { وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ } أَيْ: وَعِظْ بِالْقُرْآنِ، { أَنْ
تُبْسَلَ } أَيْ: لِأَنْ لَا تُبْسَلَ، أَيْ: لَا
__________
(1) في "أ": (ولا تجادلهم).
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
تُسَلَّمَ،
{ نَفْسٌ } لِلْهَلَاكِ، { بِمَا كَسَبَتْ } قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ
وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَهْلَكُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَنْ
تُحْبَسَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تُحْرَقُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تُؤْخَذُ،
وَمَعْنَاهُ: ذَكِّرْهُمْ لِيُؤْمِنُوا، كَيْلَا تَهْلِكَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ،
قَالَ الْأَخْفَشُ: تُبْسَلُ تُجَازَى، وَقِيلَ: تُفْضَحُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
تُرْتَهَنُ، وَأَصْلُ الْإِبْسَالِ التَّحْرِيمُ، وَالْبَسْلُ الْحَرَامُ، ثُمَّ
جُعِلَ نَعْتًا لِكُلِّ شِدَّةٍ تُتَّقَى وَتُتْرَكُ، { لَيْسَ لَهَا } أَيْ
لِتِلْكَ النَّفْسِ، { مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ } قَرِيبٌ، { وَلَا شَفِيعٌ }
يَشْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } أَيْ: تَفْدِ كُلَّ
فِدَاءٍ، { لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أُسْلِمُوا
لِلْهَلَاكِ، { بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا } إِنْ عَبَدْنَاهُ، {
وَلَا يَضُرُّنَا } إِنْ تَرَكْنَاهُ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ لَيْسَ إِلَيْهَا
نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، { وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } إِلَى الشِّرْكِ
[مُرْتَدِّينَ] (1) { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ
الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ } ، أَيْ: يَكُونُ مَثَلُنَا كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ، أَيْ: أَضَلَّتْهُ، { حَيْرَانَ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْغِيلَانُ فِي +الْمَهَامَةِ فَأَضَلُّوهُ
فَهُوَ حَائِرٌ بَائِرٌ، وَالْحَيْرَانُ: الْمُتَرَدِّدُ فِي الْأَمْرِ، لَا
يَهْتَدِي إِلَى مَخْرَجٍ مِنْهُ، { لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى
ائْتِنَا } هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَدْعُو إِلَى
الْآلِهَةِ وَلِمَنْ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي
رُفْقَةٍ ضَلَّ بِهِ الْغُولُ عَنِ الطَّرِيقِ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ
الرُّفْقَةِ هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ، وَيَدْعُوهُ الْغُولُ [هَلُمَّ] (2)
فَيَبْقَى حَيْرَانَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَإِنْ أَجَابَ الْغُولَ
انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَإِنْ أَجَابَ مَنْ
يَدْعُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ اهْتَدَى (3) .
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } يَزْجُرُ عَنْ عِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ، لَا هُدَى غَيْرَهُ، { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } أَيْ: أَنْ نُسَلِّمَ، {
لِرَبِ الْعَالَمِينَ } وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ وَأَنْ
تَفْعَلَ وَبِأَنْ تَفْعَلَ.
{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ
يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }
{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ } أَيْ: وَأُمِرْنَا بِإِقَامَةِ
الصَّلَاةِ وَالتَّقْوَى، { وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
__________
(1) في "ب": (متردين).
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر: تفسير الطبري: 11 / 452.
أَيْ:
تُجْمَعُونَ فِي الْمَوْقِفِ لِلْحِسَابِ.
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } قِيلَ: الْبَاءُ
بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: إِظْهَارًا لِلْحَقِّ لِأَنَّهُ جَعَلَ صُنْعَهُ
دَلِيلًا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } قِيلَ:
هُوَ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْخَلْقُ، بِمَعْنَى: الْقَضَاءِ
وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ قَالَ لَهُ: كُنْ،
فَيَكُونُ.
وَقِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَامَةِ، يَدُلُّ عَلَى سُرْعَةِ أَمْرِ الْبَعْثِ
وَالسَّاعَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْمَ يَقُولُ للخلق: موتوا فيمومون، وَقُومُوا
فَيَقُومُونَ، { قَوْلُهُ الْحَقُّ } أَيِ: الصِّدْقُ الْوَاقِعُ لَا مَحَالَةَ،
يُرِيدُ أَنَّ مَا وَعَدَهُ حَقٌّ كَائِنٌ، { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ } يَعْنِي: مُلْكُ الْمُلُوكِ يَوْمَئِذٍ زَائِلٌ، كَقَوْلِهِ:
"مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، وَكَمَا قَالَ: "وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ"، وَالْأَمْرُ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَكِنْ لَا
أَمْرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَحَدٍ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ، وَالصُّورُ: قَرْنٌ
يُنْفَخُ فِيهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَهَيْئَةِ الْبُوقِ، وَقِيلَ: هُوَ بِلُغَةِ أَهْلِ
الْيَمَنِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصُّورُ هُوَ الصُّوَرُ وَهُوَ جَمْعُ
الصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ أَبِي
تَوْبَةَ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُحَارِبِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
الْكِسَائِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ] (1) بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَسْلَمَ عَنْ بِشْرِ بْنِ شِغَافٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا الصُّورُ؟ قَالَ: "قَرْنٌ
يُنْفَخُ فِيهِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى
الْبِرْتِيُّ أَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ أَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ
عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَيْفَ أَنْعَمُ
وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ، وَأَصْغَى سَمْعَهُ وَحَنَى جَبْهَتَهُ
يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ"؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"
(3) .
وَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ عَنْ عَطِيَّةَ: مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه الترمذي في القيامة، باب ما جاء في الصور: 7 / 117، وقال: هذا حديث حسن
صحيح، وقد رواه غير واحد عن سليمان التيمي، ولا نعرفه إلا من حديثه، وأخرجه أيضا
في التفسير: 9 / 116. وأخرجه الدارمي في الرقاق، باب في نفخ الصور: 2 / 325، وصححه
الحاكم: 2 / 506، و4 / 560 ووافقه الذهبي. وابن حبان ص (637) من موارد الظمآن،
والإمام أحمد في المسند: 2 / 162، 196.
(3) حديث صحيح أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب ما جاء في الصور: 7 / 117-118
وقال هذا حديث حسن، وقد روي من غير هذا الوجه عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه، وأخرجه في تفسير سورة الزمر: 9 / 116، وصححه
الحاكم من حديث ابن عباس: 4 / 559، وابن حبان ص(637)، وأخرجه الإمام أحمد في
المسند: 4 / 374 من حديث زيد بن أرقم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وأخرجه
الطبراني من حديث زيد بن أرقم، وابن مردويه من حديث أبي هريرة، وأحمد والبيهقي من
حديث ابن عباس... وفي أسانيد كل منها مقال". وأخرجه المصنف في شرح
السنة:" 15 / 103 وقال: هذا حديث حسن.
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } يَعْلَمُ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ، لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي
أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ } قَرَأَ
يَعْقُوبُ " آزَرُ " بِالرَّفْعِ، يَعْنِي: " آزَرُ "
وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا
يَنْصَرِفُ فَيَنْتَصِبُ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: آزَرُ اسْمُ أَبِي
إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ تَارِخُ أَيْضًا مِثْلُ إِسْرَائِيلَ وَيَعْقُوبَ وَكَانَ
مِنْ كَوْثَى (1) قَرْيَةٍ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ
حَيَّانَ وَغَيْرُهُ: آزَرُ لَقَبٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ، واسمه تارخ 120\أ
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: هُوَ سَبٌّ وَعَيْبٌ، وَمَعْنَاهُ فِي
كَلَامِهِمُ الْمُعْوَجُّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشَّيْخُ الْهِمُّ
بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ: آزَرُ اسْمُ
صَنَمٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ تَقْدِيرُهُ أَتَتَّخِذُ
آزَرَ إِلَهَا، قَوْلُهُ { أَصْنَامًا آلِهَةً } دُونَ اللَّهِ، { إِنِّي أَرَاكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ } أَيْ: كَمَا أَرَيْنَاهُ الْبَصِيرَةَ فِي
دِينِهِ، وَالْحَقَّ فِي خِلَافِ قَوْمِهِ، نريه { مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ } وَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ، زِيدَتْ فِيهِ التَّاءُ
لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْجَبَرُوتِ وَالرَّحَمُوتِ وَالرَّهَبُوتِ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَعْنِي خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي آيَاتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
أُقِيمَ عَلَى صَخْرٍ وَكُشِفَ لَهُ عَنِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى
الْعَرْشِ وَأَسْفَلَ الْأَرَضِينَ وَنَظَرَ إِلَى مَكَانِهِ فِي الْجَنَّةِ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا"
يَعْنِي: أَرَيْنَاهُ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ [عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (2) لَمَّا أُرِي إِبْرَاهِيمُ
__________
(1) بالضم ثم السكون ،والتاء مثلثة ،وألف مقصورة ،تكتب بالياء لأنها رابعة الاسم .
انظر: معجم البلدان 40 / 487 .
(2) ساقط من "ب".
مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ
فَهَلَكَ، ثُمَّ أَبْصَرَ آخَرَ فَدَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، ثُمَّ أَبْصَرَ آخَرَ
فَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا
إِبْرَاهِيمُ إِنَّكَ رَجُلٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، فَلَا تَدْعُوَنَّ عَلَى
عِبَادِي فَإِنَّمَا أَنَا مِنْ عَبْدِي عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ
يَتُوبَ فَأَتُوبُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ أُخْرِجَ مِنْهُ نَسَمَةً تَعْبُدُنِي،
وَإِمَّا أَنْ يُبْعَثَ إِلَيَّ فَإِنْ شِئْتُ عَفَوْتُ عَنْهُ، وَإِنْ شِئْتُ
عَاقَبْتُهُ" وَفِي رِوَايَةٍ: "وَإِمَّا أَنْ يَتَوَلَّى فَإِنَّ
جَهَنَّمَ مِنْ وَرَائِهِ" (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ،
وَمَلَكُوتُ الْأَرْضِ الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْبِحَارُ. { وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ } عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهُ: نُرِيهِ مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِيَسْتَدِلَّ بِهِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا } الْآيَةَ، قَالَ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ: وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي زَمَنِ نُمْرُودَ بْنِ
كَنْعَانَ، وَكَانَ نُمْرُودُ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ
وَدَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَكَانَ لَهُ كُهَّانٌ وَمُنَجِّمُونَ،
فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ يُولَدُ فِي بَلَدِكَ هَذِهِ السَّنَةَ غُلَامٌ يُغَيِّرُ
دِينَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَيَكُونُ هَلَاكُكَ وَزَوَالُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ،
يُقَالُ: إِنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَأَى نُمْرُودُ فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ كَوْكَبًا طَلَعَ
فَذَهَبَ بِضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمَا ضَوْءٌ،
فَفَزِعَ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ
فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هُوَ مَوْلُودٌ يُولَدُ فِي نَاحِيَتِكَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، فَيَكُونُ هَلَاكُكَ وَهَلَاكُ مُلْكِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ
عَلَى يَدَيْهِ، قَالُوا: فَأَمَرَ بِذَبْحِ كُلِّ غُلَامٍ يُولَدُ فِي
نَاحِيَتِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَمَرَ بِعَزْلِ الرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ،
وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةِ رِجَالٍ رَجُلًا فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ
خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُجَامِعُونَ فِي
الْحَيْضِ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَالَ بَيْنَهُمَا، فَرَجَعَ آزَرُ فَوَجَدَ
امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ فَوَاقَعَهَا، فَحَمَلَتْ
بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ نُمْرُودُ إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ
حُبْلَى بِقَرْيَةٍ، فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمِّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِحَبَلِهَا
لِأَنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، لَمْ يُعْرَفِ الْحَبَلُ فِي
بَطْنِهَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَرَجَ نُمْرُودُ بِالرِّجَالِ إِلَى مُعَسْكَرٍ
وَنَحَّاهُمْ عَنِ النِّسَاءِ تَخَوُّفًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْلُودِ أَنْ
__________
(1) قال السيوطي في الدر المنثور: 3 / 302 "أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم
عن شهر بن حوشب. وشهر: صدوق كثير الأوهام.
(2) انظر: الدر المنثور: 3 / 304. ونذكر هنا مرة أخرى: أن هذه التفصيلات التي
ساقها المصنف رحمه الله لم يرد فيها نص صحيح يجب المصير إليه، ولا يتوقف فهم
الآيات على هذه الروايات والأخبار.
يَكُونَ،
فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَأْتَمِنْ عَلَيْهَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا آزَرَ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي حَاجَةً أَحْبَبْتُ أَنْ
أُوصِيَكَ بِهَا وَلَا أَبْعَثُكَ إِلَّا لِثِقَتِي بِكَ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ
أَنْ لَا تَدْنُوَ مِنْ أَهْلِكَ، فَقَالَ آزَرُ: أَنَا أَشَحُّ عَلَى دِينِي مِنْ
ذَلِكَ، فَأَوْصَاهُ بِحَاجَتِهِ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ
قَالَ: لَوْ دَخَلْتُ عَلَى أَهْلِي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى
أُمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَتَمَالَكْ حَتَّى وَاقَعَهَا،
فَحَمَلَتْ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ الْكُهَّانُ لِنُمْرُودَ: إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي
أَخْبَرْنَاكَ بِهِ قَدْ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ اللَّيْلَةَ، فَأَمَرَ نُمْرُودُ
بِذَبْحِ الْغِلْمَانِ، فَلَمَّا دَنَتْ وِلَادَةُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَأَخَذَهَا الْمَخَاضُ خَرَجَتْ هَارِبَةً مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ
عَلَيْهَا فَيَقْتُلَ وَلَدَهَا، فَوَضَعَتْهُ فِي نَهْرٍ يَابِسٍ ثُمَّ لَفَّتْهُ
فِي خِرْقَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي حَلْفَاءَ، فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا
بِأَنَّهَا وَلَدَتْ، وَأَنَّ الْوَلَدَ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ
أَبُوهُ فَأَخَذَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَحَفَرَ لَهُ سَرَبًا عِنْدَ نَهَرٍ،
فَوَارَاهُ فِيهِ وَسَدَّ عَلَيْهِ بَابَهُ بِصَخْرَةٍ مَخَافَةَ السِّبَاعِ،
وَكَانَتْ أُمُّهُ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَتُرْضِعُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا وَجَدَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ الطَّلْقَ
خَرَجَتْ لَيْلًا إِلَى مَغَارَةٍ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهَا فَوَلَدَتْ فِيهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْلَحَتْ مِنْ شَأْنِهِ مَا يُصْنَعُ
بِالْمَوْلُودِ، ثُمَّ سَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَغَارَةَ وَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا
ثُمَّ كَانَتْ تُطَالِعُهُ لِتَنْظُرَ مَا فَعَلَ فَتَجِدُهُ حَيًّا يَمُصُّ
إِبْهَامَهَ.
قَالَ أَبُو رَوْقٍ: وَقَالَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ ذَاتَ يَوْمٍ لَأَنْظُرَنَّ
إِلَى أَصَابِعِهِ، فَوَجَدَتْهُ يَمُصُّ مِنْ أُصْبُعٍ مَاءً، وَمِنْ أُصْبُعٍ
لَبَنًا، وَمِنْ أُصْبُعٍ عَسَلًا وَمِنْ أُصْبُعٍ تَمْرًا، وَمِنْ أُصْبُعٍ
سَمْنًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ آزَرُ قَدْ سَأَلَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ حَمْلِهَا مَا فَعَلَ؟ فَقَالَتْ: وَلَدْتُ غُلَامًا فَمَاتَ، فَصَدَّقَهَا
فَسَكَتَ عَنْهَا، وَكَانَ الْيَوْمُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي الشَّبَابِ
كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ فَلَمْ يَمْكُثْ إِبْرَاهِيمُ فِي
الْمَغَارَةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا حَتَّى قَالَ لِأُمِّهِ أَخْرِجِينِي
فَأَخْرَجَتْهُ عِشَاءً فَنَظَرَ وَتَفَكَّرَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَنِي وَرَزَقَنِي وَأَطْعَمَنِي
وَسَقَانِي لَرَبِّي الَّذِي مَا لِي إِلَهٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى
السَّمَاءِ فَرَأَى كَوْكَبًا فَقَالَ: هَذَا رَبِّي، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بَصَرَهُ
لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ حَتَّى غَابَ، فَلَمَّا أَفَلَ، قَالَ: لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ، ثُمَّ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي وَأَتْبَعَهُ
بِبَصَرِهِ حَتَّى غَابَ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ هَكَذَا إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى أَبِيهِ آزَرَ وَقَدِ اسْتَقَامَتْ وُجْهَتُهُ وَعَرَفَ رَبَّهُ
وَبَرِئَ مِنْ دِينِ قَوْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَادِهِمْ بِذَلِكَ،
فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ ابْنُهُ وَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ ابْنُهُ،
وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَتْ صَنَعَتْ فِي شَأْنِهِ فَسُرَّ آزَرُ بِذَلِكَ
وَفَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَقِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ فِي السَّرَبِ سَبْعَ سنين، وقيل: ثلاثة عَشْرَةَ سنة، وقيل: سبعة
عَشْرَةَ سَنَةً، قَالُوا: فَلَمَّا شَبَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهُوَ فِي السَّرَبِ قَالَ لِأُمِّهِ: مَنْ رَبِّي؟ قَالَتْ: أَنَا، قَالَ:
فَمَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: أَبُوكَ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّ أَبِي؟ قَالَتْ:
نُمْرُودُ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ لَهُ: اسْكُتْ فَسَكَتَ، ثُمَّ
رَجَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ الْغُلَامَ الَّذِي كُنَّا
نُحَدَّثُ أَنَّهُ يُغَيِّرُ دِينَ أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ ابْنُكَ، ثُمَّ
أَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ، فَأَتَاهُ أَبُوهُ آزَرَ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا أَبَتَاهُ مَنْ رَبِّيَ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: وَمَنْ
رَبُّ أُمِّي؟ قَالَ: أَنَا قَالَ: وَمَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: نُمْرُودُ قَالَ:
فَمَنْ رَبُّ نَمْرُودَ؟ فَلَطَمَهُ لَطْمَةً وَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ فَلَمَّا
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ دَنَا مِنْ بَابِ السَّرَبِ فَنَظَرَ مِنْ خِلَالِ
الصَّخْرَةِ فَأَبْصَرَ كَوْكَبًا، قَالَ: هَذَا رَبِّي.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ لِأَبَوَيْهِ أَخْرِجَانِي فَأَخْرَجَاهُ مِنَ السَّرَبِ
وَانْطَلَقَا بِهِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى
الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ، فَسَأَلَ أَبَاهُ مَا هَذِهِ؟ فقال: إبل 120/ب
وَخَيْلٌ وَغَنَمٌ، فَقَالَ: مَا لِهَذِهِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا رَبٌّ
وَخَالِقٌ، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا الْمُشْتَرِي قَدْ طَلَعَ، وَيُقَالُ:
الزُّهَرَةُ، وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَتَأَخَّرَ
طُلُوعُ الْقَمَرِ فِيهَا، فَرَأَى الْكَوْكَبَ قَبْلَ الْقَمَرِ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أَيْ: دَخْلَ،
يُقَالُ: جَنَّ اللَّيْلُ وَأَجَنَّ اللَّيْلُ، وَجَنَّهُ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ يَجِنُّ جُنُونًا وَجِنَانًا إِذَا أَظْلَمَ وَغَطَّى كُلَّ
شَيْءٍ، وَجُنُونُ اللَّيْلِ سَوَادُهُ، { رَأَى كَوْكَبًا } قَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو(رَأَى) بِفَتْحِ الرَّاءِ وكسر الألف، وبكسرهما ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِكَافٍ أَوْ هَاءٍ فَتْحَهُمَا
ابْنُ عَامِرٍ، وَإِنْ لَقِيَهَا سَاكِنٌ كَسَرَ الرَّاءَ وَفَتَحَ الْهَمْزَةَ
حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَفَتَحَهُمَا الْآخَرُونَ. { قَالَ هَذَا رَبِّي }
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ: فَأَجْرَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ،
وَقَالُوا: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَرْشِدًا طَالِبًا
لِلتَّوْحِيدِ حَتَّى وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَآتَاهُ رُشْدَهُ فَلَمْ
يَضُرُّهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَيْضًا كَانَ ذَلِكَ في حال
طفوليته قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ كُفْرًا (1) .
وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
لِلَّهِ رَسُولٌ يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَهُوَ لِلَّهِ
مُوَحِّدٌ وَبِهِ عَارِفٌ، وَمِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَرِيءٌ وَكَيْفَ
يُتَوَهَّمُ هَذَا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَطَهَّرَهُ وَآتَاهُ رُشْدَهُ
مِنْ قَبْلُ وَأَخْبَرَ عَنْهُ فَقَالَ: "إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ"(الصَّافَّاتُ، 84) وَقَالَ: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ"، أَفَتَرَاهُ أَرَاهُ الْمَلَكُوتَ
لِيُوقِنَ فَلَمَّا أَيْقَنَ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ: هَذَا رَبِّيَ مُعْتَقِدًا؟
فَهَذَا مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا.
ثُمَّ قَالُوا: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجَهٍ مِنَ التَّأْوِيلِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدْرِجَ
الْقَوْمَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَيُعَرِّفَهُمْ خَطَأَهُمْ وَجَهْلَهُمْ
__________
(1) رجح هذا القول الطبري. وهو غير صحيح، فالراجح هو أن إبراهيم عليه السلام كان
مناظرا لقومه في هذا. انظر: ابن كثير 2 / 152.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
فِي
تَعْظِيمِ مَا عَظَّمُوهُ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ النُّجُومَ وَيَعْبُدُونَهَا،
وَيَرَوْنَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَيْهَا فَأَرَاهُمْ أَنَّهُ مُعَظِّمٌ
مَا عَظَّمُوهُ وَمُلْتَمِسٌ الْهُدَى مِنْ حَيْثُ مَا الْتَمَسُوهُ، فَلَمَّا
أَفَلَ أَرَاهُمُ النَّقْصَ الدَّاخِلَ عَلَى النُّجُومِ لِيُثْبِتَ خَطَأَ مَا
يَدَّعُونَ، وَمَثَلُ هَذَا مَثَلُ الْحَوَارِيِّ الَّذِي وَرَدَ عَلَى قَوْمٍ
يَعْبُدُونَ الصَّنَمَ، فَأَظْهَرَ تَعْظِيمَهُ فَأَكْرَمُوهُ حَتَّى صَدَرُوا فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَنْ رَأْيِهِ إِلَى أَنْ دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ
فَشَاوَرُوهُ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نَدْعُوَ هَذَا الصَّنَمَ
حَتَّى يَكْشِفَ عَنَّا مَا قَدْ أَظَلَّنَا، فَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ
يَتَضَرَّعُونَ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدْفَعُ
دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ فَدَعَوْهُ فَصَرَفَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَحْذَرُونَ، فَأَسْلَمُوا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ
الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ: أَهَذَا رَبِّي؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(أَفَإِنْ
مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)(الْأَنْبِيَاءُ، 34)؟ أَيْ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ؟
وَذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ مُنْكِرًا لِفِعْلِهِمْ، يَعْنِي: وَمِثْلُ
هَذَا يَكُونُ رَبًّا، أَيْ: لَيْسَ هَذَا رَبِّي.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ: أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، يَقُولُ:
هَذَا رَبِّي بِزَعْمِكُمْ؟ فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَوْ كَانَ إِلَهًا لَمَا
غَابَ، كَمَا قَالَ: [ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ](الدُّخَانُ،
49)، أَيْ: عِنْدَ نَفْسِكَ وَبِزَعْمِكَ، وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ
قَالَ:] (1) (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا
لَنُحَرِّقَنَّهُ)(طه 97) يُرِيدُ إِلَهَكَ بِزَعْمِكَ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِيهِ إِضْمَارٌ وَتَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ هَذَا رَبِّي،
كَقَوْلِهِ(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)،(الْبَقَرَةُ، 127) أَيْ: يَقُولُونَ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ }
وَمَا لَا يَدُومُ.
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) }
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا } طَالِعًا، { قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي } قِيلَ: لَئِنْ لَمْ يُثَبِّتْنِي
عَلَى الْهُدَى، لَيْسَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا، وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ
يَزَالُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَى
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
الْإِيمَانِ،
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنَامَ }(إِبْرَاهِيمَ، 35)، { لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ }
أَيْ: عَنِ الْهُدَى.
{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ } أَيْ:
أَكْبَرُ مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ، وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ مَعَ أَنَّ
الشَّمْسَ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الطَّالِعَ، أَوْ رَدَّهُ إِلَى الْمَعْنَى،
وَهُوَ الضِّيَاءُ وَالنُّورُ، لِأَنَّهُ رَآهُ أَضْوَأَ مِنَ النُّجُومِ
وَالْقَمَرِ، { فَلَمَّا أَفَلَتْ } غَرَبَتْ، { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ }
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا
أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي
كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ
وَقَدْ هَدَانِي } وَلَمَّا رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
أَبِيهِ، وَصَارَ مِنَ الشَّبَابِ بِحَالَةٍ سَقَطَ عَنْهُ طَمَعُ الذَّبَّاحِينَ،
وَضَمَّهُ آزَرُ إِلَى نَفْسِهِ جَعَلَ آزَرُ يَصْنَعُ الْأَصْنَامَ وَيُعْطِيهَا
إِبْرَاهِيمَ لِيَبِيعَهَا، فَيَذْهَبُ بِهَا [إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ]
(1) وَيُنَادِي مَنْ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، فَلَا
يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ، فَإِذَا بَارَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ بِهَا إِلَى نَهَرٍ
[فَضَرَبَ] (2) فِيهِ رُءُوسَهَا، وَقَالَ: اشْرَبِي، اسْتِهْزَاءً بِقَوْمِهِ،
وَبِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، حَتَّى فَشَا اسْتِهْزَاؤُهُ بِهَا فِي قَوْمِهِ
[وَأَهْلِ] (3) قَرْيَتِهِ، فَحَاجَّهُ أَيْ خَاصَمَهُ وَجَادَلَهُ قَوْمُهُ فِي
دِينِهِ، { قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَابْنُ عَامِرٍ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا
إِدْغَامًا لِإِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إِحْدَى
النُّونَيْنِ تَخْفِيفًا يَقُولُ: أَتُجَادِلُونَنِي فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ،
وَقَدْ هَدَانِي لِلتَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ؟ { وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ
} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: احْذَرِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ
تَمَسَّكَ بِسُوءٍ مِنْ خَبَلٍ أَوْ جُنُونٍ لِعَيْبِكَ إِيَّاهَا، فَقَالَ
لَهُمْ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي
شَيْئًا } وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِثْنَاءٍ عَنِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ،
مَعْنَاهُ لَكِنْ إِنْ يَشَأْ رَبِّي شيئا أي سوء، فَيَكُونُ مَا شَاءَ، { وَسِعَ
رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } أَيْ: أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، { أَفَلَا
تَتَذَكَّرُونَ }
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": (فصوّب).
(3) ساقط من "ب".
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } يَعْنِي الْأَصْنَامَ، وَهِيَ لَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } حُجَّةً وَبُرْهَانًا، وَهُوَ الْقَاهِرُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ } أَوْلَى، { بِالْأَمْنِ } أَنَا وَأَهْلُ دِينِي أَمْ أَنْتُمْ؟ { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
(83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) }
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاضِيًا بَيْنَهُمَا: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ، {
أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ ثَنَا إِسْحَاقُ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ أَنَا الْأَعْمَشُ أَنَا
إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ
ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّنَا لَا
يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ
تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: "يَا
بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (1)
؟(لُقْمَانَ، 13).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى
قَوْمِهِ } حَتَّى خَصَمَهُمْ وَغَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ
قَوْلُهُ: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ
لَهُمُ الْأَمْنُ } وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْحِجَاجَ الَّذِي حَاجَّ نُمْرُودَ
عَلَى مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2) .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بِالْعِلْمِ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ
وَيَعْقُوبُ(دَرَجَاتٍ) بِالتَّنْوِينِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ، أَيْ:
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِنْ نَشَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْفَضِيلَةِ
وَالْعَقْلِ، كَمَا رَفَعْنَا دَرَجَاتٍ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى اهْتَدَى وَحَاجَّ
قَوْمَهُ فِي التَّوْحِيدِ، { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى "ولقد آتينا لقمان
الحكمة..." 6 / 465.
(2) انظر فيما سبق تفسير الآية (258).
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا } 121\أ ووفقنا
وَأَرْشَدْنَا. { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ
إِبْرَاهِيمَ، { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَلَمْ يُرِدْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي
جُمْلَتِهِمْ يُونُسَ وَلُوطًا وَلَمْ يَكُونَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ {
دَاوُدَ } يَعْنِي: دَاوُدَ بْنَ أَيْشَا، { وَسُلَيْمَانَ } يَعْنِي ابْنَهُ، {
وَأَيُّوبَ } وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ أَمُوصَ بْنِ رَازِحَ بْنِ رُومِ بْنِ عِيصِ
بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، { وَيُوسُفَ } هُوَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ
بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، { وَمُوسَى } وَهُوَ
مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهُرَ بْنِ فَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. {
وَهَارُونَ } هُوَ أَخُو مُوسَى أَكْبَرُ مِنْهُ بِسَنَةٍ، { وَكَذَلِكَ } أَيْ:
وَكَمَا جَزَيْنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى تَوْحِيدِهِ بِأَنْ رَفَعْنَا دَرَجَتَهُ
وَوَهَبْنَا لَهُ أَوْلَادًا أَنْبِيَاءَ أَتْقِيَاءَ كَذَلِكَ، { نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ } عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَلَيْسَ ذِكْرُهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ
أَزْمَانِهِمْ.
{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى
الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ
وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى
اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) }
{ وَزَكَرِيَّا } وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنِ آذَنَ، { وَيَحْيَى } وَهُوَ ابْنُهُ، {
وَعِيسَى } وَهُوَ ابْنُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، { وَإِلْيَاسَ } اخْتَلَفُوا
فِيهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ إِدْرِيسُ، وَلَهُ اسْمَانِ مِثْلُ يَعْقُوبَ
وَإِسْرَائِيلَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
ذَكَرَهُ فِي وَلَدِ نُوحٍ، وَإِدْرِيسُ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَهُوَ إِلْيَاسُ
يَاسِينُ بْنُ فِنْحَاصَ بْنِ عِيزَارَ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ { كُلٌّ مِنَ
الصَّالِحِينَ }
{ وَإِسْمَاعِيلَ } وَهُوَ وَلَدُ إِبْرَاهِيمَ، { وَالْيَسَعَ } وَهُوَ ابْنُ
أَخْطُوبَ بْنِ الْعَجُوزِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "
وَالَّيْسَعَ " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ هُنَا وَفِي ص {
وَيُونُسَ } وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، { وَلُوطًا } وَهُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ
بن أَخِي إِبْرَاهِيمَ، { وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } أَيْ:
عَالَمِي زَمَانِهِمْ.
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ } مِنْ فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ آبَاءَ بَعْضِهِمْ
كَانُوا مُشْرِكِينَ، { وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أَيْ: وَمِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ.
وَأَرَادَ بِهِ ذُرِّيَّةَ بَعْضِهِمْ: لِأَنَّ عِيسَى وَيَحْيَى لَمْ يَكُنْ
لَهُمَا وَلَدٌ، وَكَانَ فِي ذُرِّيَّةِ بَعْضِهِمْ مَنْ كَانَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
كَافِرًا،
{ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } اخْتَرْنَاهُمْ وَاصْطَفَيْنَاهُمْ، {
وَهَدَيْنَاهُمْ } أَرْشَدْنَاهُمْ، { إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
{ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } دِينُ اللَّهِ، { يَهْدِي بِهِ } يُرْشِدُ بِهِ، { مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا } أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
سَمَّيْنَاهُمْ، { لَحَبِطَ } لَبَطَلَ وَذَهَبَ، { عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أَيِ: الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ
عَلَيْهِمْ، { وَالْحُكْمَ } يَعْنِي: الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ، { وَالنُّبُوَّةَ
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ } الْكُفَّارُ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } يَعْنِي: الْأَنْصَارَ
وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ، يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ
ذَكَرَهُمُ اللَّهُ هَاهُنَا، وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: مَعْنَاهُ
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ الْأَرْضِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ
السَّمَاءِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ.
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) }
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى
نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ
كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ
اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أَيْ: هَدَاهُمُ اللَّهُ، { فَبِهُدَاهُمْ
} فَبِسُنَّتِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ، { اقْتَدِهْ } الْهَاءُ فِيهَا هَاءُ الْوَقْفِ،
وَحَذَفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهَاءَ فِي الْوَصْلِ، وَالْبَاقُونَ
بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: " اقْتَدِهِ
" بِإِشْبَاعِ الْهَاءِ كَسْرًا { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِنْ هُوَ } مَا هُوَ، { إِلَّا ذِكْرَى } أَيْ: تَذْكِرَةٌ وَعِظَةٌ، {
لِلْعَالَمِينَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوهُ
حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَقِيلَ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ، { إِذْ قَالُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: جَاءَ
رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ يُخَاصِمُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ
السَّمِينَ" وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا فَغَضِبَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ (1) .
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 11 / 521-522، والواحدي في أسباب النزول، ص(253)،
والبيهقي في الشعب عن كعب من قوله. ويروى عن مالك بن دينار قال: "قرأت في
الحكمة: إن الله يبغض كل حبر سمين". وعزاه السيوطي لابن المنذر وابن أبي
حاتم، واختصره ابن هشام في السيرة: 1 / 547. قال في المقاصد الحسنة: "ما
علمته في المرفوع، نعم روى أحمد في المسند: 3 / 471، و4 / 339، والحاكم: 4 /
121-122 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبيهقي بسند جيد عن جعدة الجشمي أنه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى رجل سمين، فأومأ إلى بطنه، وقال: لو
كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك". وعزاه المنذري في الترغيب: 3 / 138 لابن
أبي الدنيا والطبراني بإسناد جيد، والحاكم والبيهقي. وانظر أيضا: تمييز الطيب من
الخبيث ص(53)، كشف الخفاء: 1 / 289-290، مجمع الزوائد: 5 / 31، الدر المنثور: 3 /
314، سلسلة الضعيفة للألباني: 3 / 265-267.
وَقَالَ
السُّدِّيُّ: نزلت في فنخاص بْنِ عَازُورَاءَ، وَهُوَ قَائِلٌ هَذِهِ الْمَقَالَةِ
(1) .
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ لَمَّا سَمِعَتِ الْيَهُودُ
مِنْهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ عَتَبُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى؟ فَلِمَ قَلَتْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ أَغْضَبَنِي مُحَمَّدٌ
فَقُلْتُ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: وَأَنْتَ إِذَا غَضِبَتْ تَقُولُ [عَلَى
اللَّهِ] (2) غَيْرَ الْحَقِّ فَنَزَعُوهُ مِنَ الْحَبْرِيَّةِ، وَجَعَلُوا
مَكَانَهُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَتِ الْيَهُودُ: يَا
مُحَمَّدُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ كِتَابًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: وَاللَّهِ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ"، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { قُلْ } لَهَمُ، { مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } (3) يَعْنِي
التَّوْرَاةَ، { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا }
أَيْ: تَكْتُبُونَ عَنْهُ دَفَاتِرَ وَكُتُبًا مُقَطَّعَةً تُبْدُونَهَا، أَيْ:
تُبْدُونَ مَا تُحِبُّونَ وَتُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةِ الرَّجْمِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو " يَجْعَلُونَهُ " " وَيُبْدُونَهَا " "
وَيُخْفُونَهَا " ، بِالْيَاءِ جَمِيعًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى }
وَقَوْلُهُ { وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } [الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا
خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، يَقُولُ: عُلِّمْتُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا] (4) { أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ
} قَالَ الْحَسَنُ: جُعِلَ لَهُمْ عِلْمُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَيَّعُوهُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُذَكِّرُهُمُ النِّعْمَةَ فِيمَا
عَلَّمَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ قُلِ اللَّهُ } هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَقُلْ أَنْتَ: اللَّهُ،
أَيْ: قُلْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 11 / 522 وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
الدر المنثور: 3 / 314.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه الطبري: 11 / 523.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ
وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ
وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) }
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أَيِ: الْقُرْآنُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ
أَنْزَلْنَاهُ { مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ } يَا مُحَمَّدُ،
قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمِ " وَلِيُنْذِرَ " بِالْيَاءِ أَيْ:
وَلِيُنْذِرَ الْكِتَابُ، { أُمَّ الْقُرَى } يَعْنِي: مَكَّةَ سُمِّيَتْ أُمَّ
الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا، فَهِيَ أَصْلُ الْأَرْضِ
كُلِّهَا كَالْأُمِّ أَصْلِ النَّسْلِ، وَأَرَادَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى { وَمَنْ
حَوْلَهَا } أَيْ: أَهْلَ الْأَرْضِ كُلِّهَا شَرْقًا وَغَرْبًا { وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بِالْكِتَابِ، { وَهُمْ عَلَى
صَلاتِهِمْ } يعني: الصلواات الْخَمْسِ، { يُحَافِظُونَ } يُدَاوِمُونَ، يَعْنِي:
الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى } أَيِ: اخْتَلَقَ {
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } فَزَعْمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُ نَبِيًّا، {
أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } قَالَ قَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الْحَنَفِيِّ، وَكَانَ يَسْجَعُ
وَيَتَكَهَّنُ، فَادَّعَى النُّبُوَّةَ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ،
وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَسُولَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا:
أَتَشْهَدَانِ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ؟ قَالَا نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ
لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا" (1) .
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ
الزِّيَادَيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُتِيتُ
خَزَائِنَ الْأَرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدِي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا علي
وأهمّاني 121/ب فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا،
فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ
صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ" (2) أَرَادَ بِصَاحِبِ صَنْعَاءَ
الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ وَبِصَاحِبِ الْيَمَامَةَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ. .
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة: 8 / 89، وفي
التعبير، ومسلم في الرؤيا، باب رؤيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
برقم (2274): 4 / 1781 عن أبي هريرة وعن ابن عباس. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 12
/ 252.
(2) أخرجه مسلم في الرؤيا: 4 / 1781، وعبد الرزاق: 11 / 99، والطبري: 11 / 535،
وأبو داود: 4 / 64، وأحمد: 1 / 390.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } قِيلَ:
نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ
وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ +إِذْ
أَمْلَى عَلَيْهِ: سَمِيعًا بَصِيرًا، كَتَبَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَإِذَا قَالَ:
عَلِيمًا حكِيمًا، كَتَبَ: غَفُورًا رَحِيمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ: "وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ"(الْمُؤْمِنُونَ، 12)
أَمْلَاهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَجِبَ
عَبْدُ اللَّهِ مِنْ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَقَالَ: تَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اكْتُبْهَا فَهَكَذَا نَزَلَتْ، فَشَكَّ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ
مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَارْتَدَّ
عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى
الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ إِذْ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ } يُرِيدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: { لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ تَرَى } يَا مُحَمَّدُ، { إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } سَكَرَاتِهِ وَهِيَ جَمْعُ غَمْرَةٍ، وَغَمْرَةُ كُلِّ
شَيْءٍ: مُعْظَمُهُ، وَأَصْلُهَا: الشَّيْءُ الَّذِي [يَعُمُّ] (2) الْأَشْيَاءَ
فَيُغَطِّيهَا، ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ، {
وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } بِالْعَذَابِ وَالضَّرْبِ، يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وَقِيلَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، { أَخْرِجُوا }
أَيْ: يَقُولُونَ أَخْرِجُوا، { أَنْفُسَكُمُ } أَيْ: أَرْوَاحَكُمْ كُرْهًا،
لِأَنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَنْشَطُ لِلِقَاءِ رَبِّهَا، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ،
يَعْنِي: لَوْ تَرَاهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَرَأَيْتَ عَجَبًا، { الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أَيِ: الْهَوَانِ، { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } تَتَعَظَّمُونَ
عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَلَا تُصَدِّقُونَهُ.
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) }
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى } هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ يَقُولُ
لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى وُحْدَانًا،
لَا مَالَ مَعَكُمْ وَلَا زَوْجَ وَلَا وَلَدَ وَلَا خَدَمَ، وَفُرَادَى جَمْعُ
فَرْدَانَ، مِثْلُ سَكْرَانَ وَسُكَارَى، وَكَسْلَانَ وَكُسَالَى، وَقَرَأَ
الْأَعْرَجُ فَرْدَى بِغَيْرِ أَلْفٍ مِثْلُ سَكْرَى، { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ } عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا
__________
(1) انظر: الطبري: 11 / 534، 535، أسباب النزول ص(254)، الدر المنثور: 3 / 317.
(2) في "ب": (يغمر).
{
وَتَرَكْتُمْ } خَلَّفْتُمْ { مَا خَوَّلْنَاكُمْ } أَعْطَيْنَاكُمْ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْخَدَمِ، { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } خَلْفَ ظُهُورِكُمْ
فِي الدُّنْيَا، { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ وَشُفَعَاؤُهُمْ
عِنْدَهُ، { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ النُّونِ، أَيْ: لَقَدْ تَقَطَّعَ
مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْوَصْلِ، أَوْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ. وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ "بَيْنُكُمْ" بِرَفْعِ النُّونِ، أَيْ: لَقَدْ تَقَطَّعَ
[وَصْلُكُمْ] (1) وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
الْأَسْبَابُ"(الْبَقَرَةِ، 166)، أَيِ: الْوَصَلَاتُ، وَالْبَيْنُ مِنَ
الْأَضْدَادِ يَكُونُ وَصْلًا وَيَكُونُ هَجْرًا، { وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ }
__________
(1) في "أ": (وصولكم).
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ
فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } الْفَلْقُ
الشَّقُّ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ يَشُقُّ
الْحَبَّةَ عَنِ السُّنْبُلَةِ وَالنَّوَاةَ عَنِ النَّخْلَةِ فَيُخْرِجُهَا
مِنْهَا، وَالْحَبُّ جَمْعُ الْحَبَّةِ، وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْبُذُورِ
وَالْحُبُوبِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَكُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ
لَهُ نَوًى، [وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَشُقُّ الْحَبَّةَ الْيَابِسَةَ وَالنَّوَاةَ
الْيَابِسَةَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا أَوْرَاقًا خُضْرًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الشَّقَّيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا، أَيْ: يَشُقُّ
الْحَبَّ عَنِ النَّبَاتِ وَيُخْرِجُهُ مِنْهُ وَيَشُقُّ النَّوَى عَنِ النَّخْلِ
وَيُخْرِجُهَا مِنْهُ] (1) .
وَالنَّوَى جَمْعُ النَّوَاةِ، وَهِيَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ حَبًّا، كَالتَّمْرِ
وَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ وَنَحْوِهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يَعْنِي: خَالِقَ الْحَبِّ
وَالنَّوَى، { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ
الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } تُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ.
{ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } شَاقُّ عَمُودِ الصُّبْحِ عَنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ
وَكَاشِفُهُ [وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ النَّهَارِ
__________
(1) ساقط من "ب".
يُرِيدُ
مُبْدِئَ الصُّبْحِ وَمُوَضِّحَهُ] (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَالِقُ النَّهَارِ، وَالْإِصْبَاحُ مَصْدَرٌ كَالْإِقْبَالِ
وَالْإِدْبَارِ، وَهُوَ الْإِضَاءَةُ وَأَرَادَ بِهِ الصُّبْحَ. { وَجَعَلَ
اللَّيْلَ سَكَنًا } يَسْكُنُ فِيهِ خَلْقُهُ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "
وَجَعَلَ " عَلَى الْمَاضِي، " اللَّيْلَ " نُصِبَ اتِّبَاعًا
لِلْمُصْحَفِ، وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } {
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } أَيْ: جَعَلَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ لَا يُجَاوِزَانِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَا
إِلَى أَقْصَى مَنَازِلِهِمَا، وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ كَالْحِسَابِ، { ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } أَيْ
خَلَقَهَا لَكُمْ، { لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }
وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النُّجُومَ لِفَوَائِدٍ:
أَحَدُهَا هَذَا: وَهُوَ أَنَّ [رَاكِبَ الْبَحْرِ] (2) وَالسَّائِرَ فِي
الْقِفَارِ يَهْتَدِي بِهَا فِي اللَّيَالِي إِلَى مَقَاصِدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ كَمَا قَالَ: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ"(الْمُلْكِ، 5).
وَمِنْهَا: رَمْيُ الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ: "وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا
لِلشَّيَاطِينِ"،(الْمُلْكِ، 5).
{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } خَلَقَكُمْ وَابْتَدَأَكُمْ، { مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ } يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ
} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ " فَمُسْتَقِرٌّ " بِكَسْرِ
الْقَافِ، يَعْنِي: فَمِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ: فَلَكُمْ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ إِلَى أَنْ يُولَدَ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي
الْقَبْرِ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي أَرْحَامِ
الْأُمَّهَاتِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةُ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَ لِيَ ابْنُ
عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ قُلْتُ: لَا قَالَ: إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ
مُسْتَوْدَعٍ فِي ظَهْرِكِ فَيَسْتَخْرِجُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مُسْتَقَرٌّ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَمُسْتَوْدَعٌ
فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ.
وَقِيلَ: مُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ فَوْقَ الْأَرْضِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ"(الْحَجِّ،
5).
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": (الراكب في البحر).
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مُسْتَقَرٌّ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَمُسْتَوْدَعٌ
عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ"(الْبَقَرَةِ، 36).
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الْقُبُورِ وَالْمُسْتَوْدَعُ فِي
الدُّنْيَا، وَكَانَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْتَ وَدِيعَةٌ فِي أَهْلِكَ وَيُوشِكُ
أَنْ تَلْحَقَ بِصَاحِبِكَ.
وَقِيلَ: الْمُسْتَوْدَعُ الْقَبْرُ وَالْمُسْتَقَرُّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ،
لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: "حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا"(الْفُرْقَانِ، 76) "وساءت
مُسْتَقَرًّا"(الْفُرْقَانِ، 66)، { قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَفْقَهُونَ }
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ
كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (99) }
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أَيْ:
بِالْمَاءِ، { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } أَيْ مِنَ الْمَاءِ،
وَقِيلَ: مِنَ النَّبَاتِ، { خَضِرًا } يَعْنِي: أَخْضَرَ، مِثْلُ الْعَوِرِ
وَالْأَعْوَرِ، يَعْنِي: مَا كَانَ رَطْبًا أَخْضَرَ مِمَّا يَنْبُتُ مِنَ
الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، { نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا }
أَيْ مُتَرَاكِمًا بَعْضُهُ على بعض 122\أ مِثْلُ سَنَابِلِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ
وَالْأُرْزِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ، { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا }
وَالطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ، { قِنْوَانٌ } جَمْعُ
قِنْوٍ وَهُوَ الْعِذْقُ، مِثْلُ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ، وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا فِي
الْكَلَامِ، { دَانِيَةٌ } أَيْ: قَرِيبَةُ الْمُتَنَاوَلِ يَنَالُهَا الْقَائِمُ
وَالْقَاعِدُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُتَدَلِّيَةٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قِصَارٌ
مُلْتَزِقَةٌ بِالْأَرْضِ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ مَعْنَاهُ: وَمِنَ النَّخْلِ مَا
قِنْوَانُهَا دَانِيَةٌ وَمِنْهَا مَا هِيَ بَعِيدَةٌ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ
الْقَرِيبَةِ عَنِ الْبَعِيدَةِ لِسَبْقِهِ إِلَى الْأَفْهَامِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: "سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ"(النَّمْلِ، 81) يَعْنِي:
الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا { وَجَنَّاتٍ مِنْ
أَعْنَابٍ } أَيْ: وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ جَنَّاتٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَنْ
عَاصِمٍ " وَجَنَّاتٌ " بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ "
قِنْوَانٌ " وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ، { وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ } يَعْنِي: وَشَجَرَ الزَّيْتُونِ [وَشَجَرَ] (1) الرُّمَّانِ، {
مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مُشْتَبِهًا
وَرَقُهَا مُخْتَلِفًا ثَمَرُهَا، لِأَنَّ وَرَقَ الزَّيْتُونِ يُشْبِهُ وَرَقَ
الرُّمَّانِ، وَقِيلَ: مُشْتَبِهٌ فِي الْمَنْظَرِ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ، {
انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الثَّاءِ
وَالْمِيمِ، هَذَا وَمَا بَعْدَهُ وَفِي "يس" عَلَى جَمْعِ
__________
(1) ساقط من "ب".
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
الثِّمَارِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ [بِفَتْحِهِمَا] (1) عَلَى جَمْعِ الثَّمَرَةِ، مِثْلُ:
بَقَرَةٍ وَبَقَرٍ، { إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } وَنُضْجِهِ وَإِدْرَاكِهِ، {
إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) }
__________
(1) ساقط من "ب".
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ } يَعْنِي:
الْكَافِرِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ، { وَخَلَقَهُمْ } يَعْنِي:
وَهُوَ خَلَقَ الْجِنَّ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ، أَثْبَتُوا الشَّرِكَةَ
لِإِبْلِيسَ فِي الْخَلْقِ، فَقَالُوا: [اللَّهُ خَالِقُ] (1) النُّورَ وَالنَّاسَ
وَالدَّوَابَّ وَالْأَنْعَامَ، وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَالسِّبَاعِ
وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: "وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا"،(الصَّافَاتِ، 158) وَإِبْلِيسُ مِنَ
الْجِنَّةِ، { وَخَرَقُوا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ "وَخَرَّقُوا"،
بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ،
أَيِ: اخْتَلَقُوا { لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَذَلِكَ مِثْلُ
قَوْلِ الْيَهُودِ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ، وَقَوْلِ كُفَّارِ الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، ثُمَّ
نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ }
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أَيْ: مُبْدِعُهُمَا لَا عَلَى مِثَالٍ
سَبَقَ، { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ {
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } زَوْجَةٌ، { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ } فَأَطِيعُوهُ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } بِالْحِفْظِ
لَهُ وَبِالتَّدْبِيرِ فِيهِ، { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصَارَ } الْآيَةَ، يَتَمَسَّكُ أَهْلُ الِاعْتِزَالِ بِظَاهِرِ هَذِهِ
الْآيَةِ فِي نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِيَانًا.
وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِيَانًا
جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ"،(الْقِيَامَةِ، 23)،
وَقَالَ: "كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"
__________
(1) في "ب": (خَلَق اللهُ).
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
(الْمُطَفِّفِينَ،
15)، قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ
رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ،
وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ"(يُونُسَ، 26)، وَفَسَّرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ
الْيَرْبُوعِيُّ أَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ
رَبَّكُمْ عِيَانًا" (2) .
{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (105) }
وَأَمَّا قَوْلُهُ: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } عُلِمَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ
غَيْرُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ: الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ الشَّيْءِ
وَالْإِحَاطَةُ بِهِ، وَالرُّؤْيَةُ: الْمُعَايَنَةُ، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ
بِلَا إِدْرَاكٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى "فَلَمَّا
تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ:
كَلَّا"(سُورَةُ الشُّعَرَاءِ، 61)، وَقَالَ "لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا
تَخْشَى"(سُورَةُ طه، 77)، فَنَفَى الْإِدْرَاكَ مَعَ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ،
فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَجُوزُ أَنْ يُرَى مِنْ غَيْرِ إِدْرَاكٍ وَإِحَاطَةٍ
كَمَا يُعْرَفُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُحَاطُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَلَا
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)،(سُورَةُ طه، 110)، فَنَفَى الْإِحَاطَةَ مَعَ ثُبُوتِ
الْعِلْمِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ،
وَقَالَ عَطَاءٌ: كلت أبصار المخلوقبن عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ يُرَى
فِي الْآخِرَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَفُوتُهُ، { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اللَّطِيفُ بِأَوْلِيَائِهِ [الْخَبِيرُ
بِهِمْ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَى { اللَّطِيفِ } ] (3) الرَّفِيقُ
بِعِبَادِهِ، وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الْمُوصِلُ الشَّيْءَ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ،
وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الَّذِي يُنْسِي الْعِبَادَ ذُنُوبَهُمْ لِئَلَّا يَخْجَلُوا،
وَأَصْلُ اللُّطْفِ دِقَّةُ النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي
الْحُجَجَ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُبْصِرُونَ بِهَا الْهُدَى
__________
(1) انظر الروايات في الدر المنثور: 4 / 356-358.
(2) قطعة من حديث، أخرجه البخاري في تفسير سورة (ق): 8 / 597، وفي التوحيد، وفي
مواقيت الصلاة. ومسلم في المساجد، باب فضل صلاة الصبح والعصر، برقم (633): 1 /
439. والمصنف في شرح السنة: 2 / 224.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
مِنَ
الضَّلَالَةِ وَالْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } أَيْ:
فَمَنْ عَرَفَهَا وَآمَنَ بِهَا فَلِنَفْسِهِ عَمِلَ، وَنَفْعُهُ لَهُ، { وَمَنْ
عَمِيَ فَعَلَيْهَا } أَيْ: مَنْ عَمِيَ عَنْهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا وَلَمْ
يُصَدِّقْهَا فَعَلَيْهَا، أَيْ: فَبِنَفْسِهِ ضَرَّ، وَوَبَالُ الْعَمَى عَلَيْهِ،
{ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } بِرَقِيبٍ أُحْصِي عَلَيْكُمْ
أَعْمَالَكُمْ، إِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ إِلَيْكُمْ أُبْلِغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
وَهُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكُمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
أَفْعَالِكُمْ.
{ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } نُفَصِّلُهَا وَنُبَيِّنُهَا فِي كُلِّ
وَجْهٍ، { وَلِيَقُولُوا } قِيلَ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَقُولُوا، { دَرَسْتَ }
وَقِيلَ: هَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ
يَقُولُوا: دَرَسْتَ، أَيْ: قَرَأْتَ عَلَى غَيْرِكَ، وَقِيلَ: قَرَأْتَ كُتُبَ
أَهْلِ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)،(الْقَصَصِ، 8)، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ
يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ كَانَ
عَدُوًّا لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلِيَقُولُوا يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ حِينَ تَقْرَأُ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ دَرَسْتَ، أَيْ: تَعَلَّمْتَ مِنْ يَسَارٍ وَجَبْرٍ، كَانَا
عَبْدَيْنِ مِنْ سَبْيِ الرُّومِ، ثُمَّ قَرَأَتْ عَلَيْنَا تَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَرَسْتُ الْكِتَابَ أَدْرُسُ دَرْسًا
وَدِرَاسَةٌ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُونَ تَعَلَّمْتَ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "دَارَسْتَ" بِالْأَلِفِ، [أَيْ: قَارَأْتَ
أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْمُدَارَسَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، تَقُولُ:] (1) قَرَأْتَ
عَلَيْهِمْ وَقَرَأُوا عَلَيْكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ:
"دَرَسَتْ" بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ التَّاءِ، أَيْ: هَذِهِ
الْأَخْبَارُ الَّتِي تَتْلُوهَا عَلَيْنَا قَدِيمَةٌ، قَدْ دَرَسَتْ وَانْمَحَتْ،
مِنْ قَوْلِهِمْ: دَرَسَ الْأَثَرُ يَدْرُسُ دُرُوسًا. { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ هَدَاهُمْ
إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَقِيلَ: يَعْنِي أَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ لَيَشْقَى
بِهِ قَوْمٌ وَيَسْعَدُ بِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَمَنْ قَالَ دَرَسْتَ فَهُوَ
شَقِّيٌّ وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَهُوَ سَعِيدٌ.
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ
عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) }
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ اعْمَلْ
بِهِ، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } فَلَا
تُجَادِلْهُمْ.
__________
(1) ساقط من "ب".
{
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } أَيْ: لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ
مُؤْمِنِينَ، { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } رَقِيبًا قَالَ عَطَاءٌ:
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا تَمْنَعُهُمْ مِنِّي، أَيْ: لَمْ تُبْعَثْ
لِتَحْفَظَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْعَذَابِ إِنَّمَا بُعِثْتَ مُبَلِّغًا. { وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ } الآية 122/ب قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ "إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ"(الْأَنْبِيَاءِ، 98)
قَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَا مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِينَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا أَوْ
لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَسُبُّوا
أَوْثَانَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكُفَّارِ، فَنَهَاهُمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ فَإِنَّهُمْ
قَوْمٌ جَهَلَةٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ قَالَتْ قُرَيْشٌ:
انْطَلِقُوا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَلْنَأْمُرَنَّهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا
ابْنَ أَخِيهِ فَإِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَتَقُولُ
الْعَرَبُ: كَانَ يَمْنَعُهُ عَمُّهُ فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ. فَانْطَلَقَ أَبُو
سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ وَأُبَيُّ
ابْنَا خَلَفٍ وَعُقْبَةُ [بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ،
وَالْأَسْوَدُ بْنُ] (1) الْبَخْتَرِيِّ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: يَا
أَبَا طَالِبٍ أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا
وَآلِهَتَنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا،
وَلَنَدَعَنَّهُ وَإِلَهَهَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَقُولُونَ
نُرِيدُ أَنْ تَدَعَنَا وَآلِهَتَنَا وَنَدَعَكَ وَإِلَهَكَ، فَقَدْ أَنْصَفَكَ
قَوْمُكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً
إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمُ الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا
الْعَجَمَ؟" قَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا
وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا، فَمَا هِيَ؟ قَالَ: "قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ" فَأَبَوْا وَنَفَرُوا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْ غَيْرَهَا يَا
ابْنَ أَخِي، فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا وَلَوْ
أَتَوْنِي بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِي، فَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ
آلِهَتَنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَلَنَشْتُمَنَّ مَنْ يَأْمُرُكَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
} (2) يَعْنِي الْأَوْثَانَ، { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا } أَيِ: اعْتِدَاءً
وَظُلْمًا، { بِغَيْرِ عِلْمٍ }
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ " عُدُوًّا " بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ
وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "لَا تَسُبُّوا
رَبَّكُمْ"، فَأَمْسَكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ.
فَظَاهِرُ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا عَنْ سَبِّ الْأَصْنَامِ، فَحَقِيقَتُهُ
النَّهْيُ عَنْ سَبِّ اللَّهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِذَلِكَ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي. انظر: الدر المنثور: 3 / 338-339، والواحدي في
أسباب النزول ص(255)، وانظر: الترمذي: 9 / 99-101 مع تحفة الأحوذي، تاريخ الطبري:
2 / 323-324، مجمع الزوائد: 6 / 15، تفسير الطبري: 12 / 34-35.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [أَيْ: كَمَا زَيَّنَّا
لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَطَاعَةَ الشَّيْطَانِ
بِالْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ، كَذَلِكَ زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ]
(1) مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، { ثُمَّ إِلَى
رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ } وَيُجَازِيهِمْ، { بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ
أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }
الْآيَةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: قَالَتْ
قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًى
يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا،
وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى
فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ؟ قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا
الصَّفَا ذَهَبًا أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضُ أَمْوَاتِنَا حَتَّى نَسْأَلَهُ
عَنْكَ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَمْ بَاطِلٌ، أَوْ أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ
يَشْهَدُونَ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَإِنْ فَعَلْتُ بَعْضَ مَا تَقُولُونَ أَتُصَدِّقُونَنِي؟ قَالُوا: نَعَمْ
وَاللَّهُ لَئِنْ فَعَلَتْ لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعِينَ، وَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْزِلَهَا عَلَيْهِمْ
حَتَّى يُؤْمِنُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّفَا ذَهَبًا فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ مَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ ذَهَبًا وَلَكِنْ إِنْ
لَمْ يُصَدِّقُوا عَذَّبْتُهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتُهُمْ حَتَّى يَتُوبَ
تَائِبُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ
يَتُوبُ تَائِبُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } (2) أَيْ: حَلَفُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، أَيْ:
بِجُهْدِ أَيْمَانِهِمْ، يَعْنِي أَوْكَدَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ
الْأَيْمَانِ وَأَشَدَّهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِاللَّهِ، فَهُوَ جَهْدُ
يَمِينِهِ.
{ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } كَمَا جَاءَتْ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، {
لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ } يَا مُحَمَّدُ، { إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ }
وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْزَالِهَا، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وَمَا يُدْرِيكُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 12 / 38، الواحدي ص(256)، وانظر الدر المنثور: 3 / 340.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
"
إِنَّهَا " بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَالُوا: تَمَّ
الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } فَمَنْ جَعْلَ الْخِطَابَ
لِلْمُشْرِكِينَ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا [الْمُشْرِكُونَ]
(1) أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ آمَنْتُمْ؟ وَمَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ
قَالَ مَعْنَاهُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهَا لَوْ
جَاءَتْ آمَنُوا؟ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ حَتَّى يُرِيَهُمْ مَا
اقْتَرَحُوا حَتَّى يُؤْمِنُوا فَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ }
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: { أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا
يُؤْمِنُونَ } وَهَذَا فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ [حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ]، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "أَنَّهَا"
بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي
قَوْلِهِ: { لَا يُؤْمِنُونَ } (2) فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: { لَا } صِلَةٌ،
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ الْآيَاتِ
إِذَا جَاءَتِ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَحَرَامٌ
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ"(الْأَنْبِيَاءِ،
95)، أَيْ: يَرْجِعُونَ وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى لَعَلَّ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ أَنَّكَ تَشْتَرِي
شَيْئًا، أَيْ: لَعَلَّكَ، وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ
أَنَّ مَنِيَّتِي ... إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ (3)
أَيْ: لَعَلَّ مَنِيَّتِي، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ: وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ [يُؤْمِنُونَ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ؟ وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ " لَا تُؤْمِنُونَ " بِالتَّاءِ عَلَى
الْخِطَابِ لِلْكَفَّارِ وَاعْتَبَرُوا بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ: إِذَا جَاءَتْكُمْ]
(4) لَا تُؤْمِنُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ،
دَلِيلُهَا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) }
__________
(1) في "ب": (المؤمنون).
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر: جمهرة أشعار العرب: 2 / 509، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. لسان
العرب مادة "أنن": 13 / 34.
(4) ساقط من "ب".
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) }
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْإِيمَانِ، فَلَوْ جِئْنَاهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوا مَا آمَنُوا بِهَا
كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَيْ: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا
قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: كَمَا
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، يَعْنِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى وَغَيْرِهِ
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ)،(الْقَصَصِ، 48)، وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ
تَقْدِيرُهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ،
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
ابْنِ
عَبَّاسٍ: الْمَرَّةُ الْأُولَى دَارُ الدُّنْيَا، يَعْنِي لَوْ رُدُّوا مِنَ
الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ
الْإِيمَانِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ مَمَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ:
"وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ"(الْأَنْعَامِ، 28) {
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قَالَ عَطَاءٌ: نَخْذُلُهُمْ
وَنَدَعُهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادُونَ.
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ } فَرَأَوْهُمْ عِيَانًا،
{ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ فَشَهِدُوا لَكَ
بِالنُّبُوَّةِ كَمَا سَأَلُوا، { وَحَشَرْنَا } وَجَمَعْنَا، { عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلًا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ " قِبَلَا
" بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ مُعَايَنَةً، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، هُوَ جَمْعُ قَبِيلٍ، وَهُوَ
الْكَفِيلُ، مِثْلُ رَغِيفٍ وَرُغُفٍ، وقضيب وقُضُب 123\أ أَيْ: ضُمَنَاءُ
وَكُفَلَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ قَبِيلٍ وَهُوَ الْقَبِيلَةُ، أَيْ: فَوْجًا
فَوْجًا، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: أَتَيْتُكَ قُبَلًا لَا دُبُرًا إِذَا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ،
{ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } ذَلِكَ، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) }
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا } أَيْ: أَعْدَاءً فِيهِ
تَعْزِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي كَمَا
ابْتَلَيْنَاكَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
قَبْلَكَ أَعْدَاءً، ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ: { شَيَاطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ } قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ:
مَعْنَاهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الَّتِي مَعَ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ
الَّتِي مَعَ الْجِنِّ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ
جَعَلَ جُنْدَهُ فَرِيقَيْنِ فَبَعَثَ فَرِيقًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِنْسِ
وَفَرِيقًا مِنْهُمْ إِلَى الْجِنِّ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَعْدَاءٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَهُمُ
الَّذِينَ يَلْتَقُونَ فِي كُلِّ حِينٍ، فَيَقُولُ [شَيْطَانُ] (1) الْإِنْسِ
[لِشَيْطَانِ] الْجِنِّ: أَضْلَلْتُ صَاحِبِي بِكَذَا فَأَضِلَّ صَاحِبَكَ
بِمِثْلِهِ، وَتَقُولُ شَيَاطِينُ الْجِنِّ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ كَذَلِكَ،
فَذَلِكَ وَحْيُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينٌ كَمَا
أَنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينٌ، وَالشَّيْطَانُ: الْعَاتِي الْمُتَمَرِّدُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ، قَالُوا: إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا أَعْيَاهُ الْمُؤْمِنُ وَعَجَزَ
مِنْ إِغْوَائِهِ ذَهَبَ إِلَى مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ شَيْطَانُ
الْإِنْسِ فَأَغْرَاهُ بِالْمُؤْمِنِ لِيَفْتِنَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ"؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ
شَيَاطِينَ؟
__________
(1) في الأصل "شياطين" في الموضعين.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قَالَ:
"نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ" (1) .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ
شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنِّي إِذَا تَعَوَّذْتُ بِاللَّهِ ذَهَبَ عَنِّي
شَيْطَانُ الْجِنِّ، وَشَيْطَانُ الْإِنْسِ يَجِيئُنِي فَيَجُرُّنِي إِلَى
الْمَعَاصِي عِيَانًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } أَيْ: يُلْقِي، { زُخْرُفَ
الْقَوْلِ } وَهُوَ قَوْلٌ مُمَوَّهٌ مُزَيَّنٌ بِالْبَاطِلِ لَا مَعْنَى
تَحْتَهُ، { غُرُورًا } يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ يُزَيِّنُونَ
الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ لِبَنِي آدَمَ، يَغُرُّونَهُمْ غُرُورًا، وَالْغُرُورُ:
الْقَوْلُ الْبَاطِلُ، { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أَيْ: مَا
أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ [فِي الْقُلُوبِ] (2) { فَذَرْهُمْ
وَمَا يَفْتَرُونَ }
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ }
أَيْ: تَمِيلُ إِلَيْهِ، وَالصَّغْوُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ: صَغْوُ فُلَانٍ مَعَكَ،
أَيْ: مَيْلُهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: صَغَى يُصْغِي، صَغًا، وَصَغَى يَصْغَى،
وَيَصْغُو صَغْوًا، وَالْهَاءُ فِي "إِلَيْهِ" رَاجِعَةٌ إِلَى زُخْرُفِ
الْقَوْلِ: { وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا } لِيَكْتَسِبُوا، { مَا هُمْ
مُقْتَرِفُونَ } يُقَالُ: اقْتَرَفَ فُلَانٌ مَالًا إِذَا اكْتَسَبَهُ، وَقَالَ
تَعَالَى:(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً)(الشُّورَى، 23)، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ
لِيَعْمَلُوا مِنَ الذُّنُوبِ مَا هُمْ عَامِلُونَ.
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ
الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ } فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ: قُلْ
لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَفَغَيْرَ اللَّهِ، { أَبْتَغِي } أَطْلُبُ { حَكَمًا }
قَاضِيًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ
حَكَمًا فَأَجَابَهُمْ بِهِ، { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
مُفَصَّلًا } مُبَيَّنًا فِيهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ،
وَقِيلَ: مُفَصَّلًا أَيْ خَمْسًا خَمْسًا وَعَشْرًا وَعَشْرًا، كَمَا
قَالَ:(لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)(الْفُرْقَانَ، 32)، { وَالَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ }
__________
(1) أخرجه النسائي في الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر شياطين الإنس: 8 / 275، دون
قوله "هم شر من شياطين الجن"، والإمام أحمد في المسند: 1 / 265.
(2) ساقط من "ب".
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
يَعْنِي:
عُلَمَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ، وَقِيلَ: هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ عَطَاءٌ:
هُمْ رُءُوسُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ الْقُرْآنُ، { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ }
يَعْنِي: الْقُرْآنَ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ [وَحَفْصٌ] (1) " مُنَزَّلٌ
" بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ نُجُومًا
مُتَفَرِّقَةً، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ"،
{ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } مِنَ
الشَّاكِّينَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ
وَيَعْقُوبُ " كَلِمَةَ " عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ(كَلِمَاتِ) بِالْجَمْعِ، وَأَرَادَ بِالْكَلِمَاتِ أَمْرَهُ
وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، { صِدْقًا وَعَدْلًا } أَيْ: صِدْقًا فِي
الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَعَدْلًا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، قَالَ قَتَادَةُ
وَمُقَاتِلٌ: صَادِقًا فِيمَا وَعَدَ وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ، { لَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُغَيِّرَ
لِحُكْمِهِ وَلَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } قِيلَ:
أَرَادَ بِالْكَلِمَاتِ الْقُرْآنَ لَا مُبَدِّلَ لَهُ، لَا يَزِيدُ فِيهِ
الْمُفْتَرُونَ وَلَا يَنْقُصُونَ.
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ كَانُوا عَلَى
الضَّلَالَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُمْ جَادَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَقَالُوا:
أَتَأْكَلُونَ مَا تَقْتُلُونَ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ؟ فَقَالَ: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: وَإِنْ
تُطِعْهُمْ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، { إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } يُرِيدُ أَنَّ دِينَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ
ظَنٌّ [وَهَوًى] (2) لَمْ يَأْخُذُوهُ عَنْ بَصِيرَةٍ، { وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ } يَكْذِبُونَ.
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ } قِيلَ: مَوْضِعُ
"مَنْ" نَصْبٌ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ، أَيْ: بِمَنْ يَضِلُّ،
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُهُ رَفَعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَفَظُهَا لَفْظُ
الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ مَنْ
يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أَخْبَرَ أَنَّهُ
أَعْلَمُ بِالْفَرِيقَيْنِ الضَّالِّينَ وَالْمُعْتَدِينَ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا
يَسْتَحِقُّهُ.
{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ
مُؤْمِنِينَ (118) }
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "ب".
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أَيْ:
كُلُوا مِمَّا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، { إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ
مُؤْمِنِينَ }
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَصْنَافًا مِنَ النَّعَمِ وَيُحِلُّونَ
الْأَمْوَاتَ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَحَلُّوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا
حَرَّمَ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ: { وَمَا لَكُمْ } يَعْنِي: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ، { أَلَّا تَأْكُلُوا
} وَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تَأْكُلُوا { مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ } مِنَ الذَّبَائِحِ، { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ }
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ " فَصَّلَ " وَ"
حَرَّمَ " بِالْفَتْحِ فِيهِمَا أَيْ فَصَّلَ اللَّهُ مَا حَرَّمَهُ
عَلَيْكُمْ، لِقَوْلِهِ { اسْمُ اللَّهِ } وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ
وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْحَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَالرَّاءِ عَلَى
غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، لِقَوْلِهِ { ذُكِرَ } وَقَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ " فَصَّلَ " بِالْفَتْحِ وَ"
حُرِّمَ " بِالضَّمِّ، وَأَرَادَ بِتَفْصِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ مَا ذُكِرَ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ"(الْمَائِدَةِ، 3)، { إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } مِنْ
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَكُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، { وَإِنَّ
كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ(لِيُضِلُّوا) فِي سُورَةِ يُونُسَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(يُضِلُّوكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ)، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ فَمَنْ دُونَهُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ لِقَوْلِهِ: { مَنْ يَضِلُّ } { بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ
عِلْمٍ } حِينَ امْتَنَعُوا مِنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَدَعَوْا إِلَى أكل الميتة 123/ب { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
} الَّذِينَ يُجَاوِزُونَ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ.
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ
بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
(121) }
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } يَعْنِي: الذُّنُوبَ كُلَّهَا
لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، قَالَ قَتَادَةُ:
عَلَانِيَتِهِ وَسِرِّهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ مَا يَعْمَلُهُ
بِالْجَوَارِحِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبَاطِنُهُ مَا يَنْوِيهِ وَيَقْصِدُهُ
بِقَلْبِهِ كَالْمُصِرِّ عَلَى الذَّنْبِ الْقَاصِدِ لَهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَاهِرُهُ الزِّنَا وَبَاطِنُهُ الْمُخَالَةُ، وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْإِثْمِ الْإِعْلَانُ بِالزِّنَا، وَهُمْ
أَصْحَابُ الرِّوَايَاتِ، وَبَاطِنَهُ الِاسْتِسْرَارُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْعَرَبَ كَانُوا يُحِبُّونَ الزِّنَا فَكَانَ الشَّرِيفُ مِنْهُمْ يَتَشَرَّفُ،
فَيُسِرُّ بِهِ، وَغَيْرُ الشَّرِيفِ لَا يُبَالِي بِهِ فَيُظْهِرُهُ،
فَحَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ
الْإِثْمِ نِكَاحُ الْمَحَارِمِ وَبَاطِنُهُ الزِّنَا.
وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ التَّجَرُّدُ مِنَ الثِّيَابِ وَالتَّعَرِّي فِي
[الطَّوَافِ] (1) وَالْبَاطِنُ الزِّنَا، وَرَوَى حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ:
ظَاهِرُ الْإِثْمِ طَوَافُ الرِّجَالِ بِالْبَيْتِ نَهَارًا عُرَاةً، وَبَاطِنُهُ
طَوَافُ النِّسَاءِ بِاللَّيْلِ عُرَاةً، { إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ
سَيُجْزَوْنَ } فِي الْآخِرَةِ، { بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } [يَكْتَسِبُونَ
فِي الدُّنْيَا] (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْآيَةُ فِي
تَحْرِيمِ الْمَيْتَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ الذَّبَائِحِ الَّتِي كَانُوا
يَذْبَحُونَهَا عَلَى اسْمِ الْأَصْنَامِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِهَا سَوَاءً تَرَكَ
التَّسْمِيَةَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ
وَالشَّعْبِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْلِيلِهَا، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا لَا يَحِلُّ،
وَإِنَّ تَرَكَهَا نَاسِيًا يَحِلُّ، حَكَى الْخِرَقِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ:
أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
مَنْ أَبَاحَهَا قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْمَيْتَاتِ أَوْ مَا ذُبِحَ
عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ }
وَالْفِسْقُ فِي ذِكْرِ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ } إِلَى
قَوْلِهِ { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهَا بِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ
مُوسَى ثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ
يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ
يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ
لَا؟ قَالَ: اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا" (3) .
وَلَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ لَكَانَ الشَّكُّ فِي
وُجُودِهَا مَانِعًا مِنْ أَكْلِهَا كَالشَّكِّ فِي أَصْلِ [الذَّبْحِ] (4) .
__________
(1) في "ب": (الطرقات).
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه البخاري في التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها: 13 /
379، وفي البيوع. والمصنف في شرح السنة: 11 / 194.
(4) في "أ": (الذبائح).
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ } أَرَادَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوَسْوِسُونَ إِلَى
أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيُجَادِلُوكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ
مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالَ: اللَّهُ قَتَلَهَا، قَالُوا: أَفَتَزْعُمُ أَنَّ مَا
قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَلَالٌ، وَمَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ
حَلَالٌ، وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، {
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَلَّ شَيْئًا مِمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ.
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ
فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } قَرَأَ
نَافِعٌ " مَيِّتًا " وَ(لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتًا)(الْحُجُرَاتِ، 12)
وَ(الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا)(سُورَةُ يس، 33) بِالتَّشْدِيدِ
فِيهِنَّ، وَالْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ { فَأَحْيَيْنَاهُ } أَيْ: كَانَ ضَالًّا
فَهَدَيْنَاهُ، كَانَ مَيِّتًا بِالْكُفْرِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ، {
وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا } يَسْتَضِيءُ بِهِ، { يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } عَلَى
قَصْدِ السَّبِيلِ، قِيلَ: النُّورُ هُوَ الْإِسْلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
"يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ"(الْبَقَرَةِ، 257)،
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كِتَابُ اللَّهِ بَيِّنَةٌ مِنَ اللَّهِ مَعَ
الْمُؤْمِنِ، بِهَا يَعْمَلُ وَبِهَا يَأْخُذُ وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي، { كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } الْمَثَلُ صِلَةٌ، أَيْ: كَمَنْ هُوَ فِي
الظُّلُمَاتِ، { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } يَعْنِي: مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَنَا لَهُ نُورًا، يُرِيدُ
حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ يُرِيدُ
أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ رَمَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرْثٍ، فَأُخْبِرَ حَمْزَةُ بِمَا فَعَلَ
أَبُو جَهْلٍ وَهُوَ رَاجِعٌ مِنْ قَنْصِهِ وَبِيَدِهِ قَوْسٌ، وَحَمْزَةُ لَمْ
يُؤْمِنْ بَعْدُ، فَأَقْبَلَ غَضْبَانَ حَتَّى عَلَا أَبَا جَهْلٍ بِالْقَوْسِ
وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا يَعْلَى أَمَا تَرَى مَا جَاءَ
بِهِ؟ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا وَخَالَفَ آبَاءَنَا، فَقَالَ
حَمْزَةُ: وَمَنْ أَسْفَهُ مِنْكُمْ؟ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي جَهْلٍ (2) .
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص(257-258)، وذكر قصة إسلام حمزة: ابن هشام في
السيرة 1 / 291-292، والحاكم في المستدرك: 3 / 192 ولم يذكرا أن الآية نزلت في
هذا.
(2) تفسير الطبري: 12 / 89، أسباب النزول ص(258)، الدر المنثور: 3 / 352.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وَقَالَ
عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي جَهْلٍ
(1) .
{ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مِنَ الْكُفْرِ
وَالْمَعْصِيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ.
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا
فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ
رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ
(124) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ
مُجْرِمِيهَا } أَيْ: كَمَا أَنَّ فُسَّاقَ مَكَّةَ أَكَابِرُهَا، كَذَلِكَ
جَعَلْنَا فُسَّاقَ كَلِّ [قَرْيَةٍ] (2) أَكَابِرَهَا، أَيْ: عُظَمَاءَهَا،
جَمْعُ أَكْبَرَ، مِثْلُ أَفْضَلَ وَأَفَاضِلَ، وَأَسُودَ وَأَسَاوِدَ، وَذَلِكَ سُنَّةُ
اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ
ضُعَفَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:(أَنُؤْمِنُ
لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(الشُّعَرَاءِ، 111)، وَجَعَلَ فُسَّاقَهُمْ
أَكَابِرَهُمْ، { لِيَمْكُرُوا فِيهَا } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْلَسُوا عَلَى
كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ مَكَّةَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنِ
الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ لِكُلِّ
مَنْ يُقْدِمُ: إِيَّاكَ وَهَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ كَاهِنٌ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. {
وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ } لِأَنَّ وَبَالَ مَكْرِهِمْ يَعُودُ
عَلَيْهِمْ { وَمَا يَشْعُرُونَ } أَنَّهُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى
نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } يَعْنِي: مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ
اللَّهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ:
لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ حَقًّا لَكُنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ، لِأَنِّي
أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ (3) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ:
زَاحَمَنَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فِي الشَّرَفِ حَتَّى إِنَّا صِرْنَا كَفَرَسَيْ
رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ
وَلَا نَتَّبِعُهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ } (4) حُجَّةٌ عَلَى
صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَعْنِي أَبَا
جَهْلٍ، { لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ }
يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 22 / 90، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: الدر
المنثور: 3 / 352.
(2) في "ب": (أمة).
(3) انظر: الدر المنثور: 3 / 353.
(4) أخرج القصة ابن إسحاق، السيرة: 1 / 315-316، ولم يذكر أنها سبب لنزول الآية.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ رِسَالَتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ رِسَالَاتِهِ بِالْجَمْعِ، يَعْنِي: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالرِّسَالَةِ. { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ } ذُلٌّ وَهَوَانٌ { عِنْدَ اللَّهِ } أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } 124\أ قِيلَ: صَغَارٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ.
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ (125) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } أَيْ: يَفْتَحْ قَلْبَهُ وَيُنَوِّرْهُ حَتَّى يَقْبَلَ
الْإِسْلَامَ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، فَقَالَ: "نُورٌ
يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ"،
قِيلَ: فَهَلْ لِذَلِكَ [أَمَارَةٌ؟] (1) قَالَ: "نَعَمْ، الْإِنَابَةُ إِلَى
دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ
لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا }
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " ضَيْقًا " بِالتَّخْفِيفِ هَاهُنَا وَفِي
الْفُرْقَانِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: هَيْنٍ
وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، { حَرَجًا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو
بَكْرٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْضًا
مِثْلُ: الدِّنَفِ وَالدَّنَفِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ الْحَرَجُ بِالْفَتْحِ:
الْمَصْدَرُ [كَالطَّلَبِ، وَمَعْنَاهُ ذَا حَرَجٍ] (3) وَبِالْكَسْرِ الِاسْمِ،
وَهُوَ أَشَدُّ الضِّيقِ، يَعْنِي: يَجْعَلْ قَلْبَهُ ضَيِّقًا حَتَّى لَا
يَدْخُلَهُ الْإِيمَانُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ مَنْفَذٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ،
وَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ارْتَاحَ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ،
فَسَأَلَ أَعْرَابِيًّا مِنْ كِنَانَةَ: مَا الْحَرِجَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ:
الْحَرِجَةُ فِينَا الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي لَا تَصِلُ
إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ وَلَا شَيْءٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ
الْخَيْرِ.
__________
(1) في "ب": (من علامة).
(2) أخرجه الطبري: 12 / 98-102، والبيهقي في الأسماء والصفات: 1 / 257-258 قال
البيهقي: "هذا منقطع". وانظر: الدر المنثور: 3 / 354. فقد عزاه لابن
المبارك في الزهد، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن
المنذر، وابن أبي حاتم. وضعفه الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري. وقواه ابن
كثير لتعدد طرقه: 2 / 176.
(3) ساقط من "ب".
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " يَصْعَدُ
" ، بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " يَصَّاعَدُ
" بِالْأَلِفِ، أَيْ يَتَصَاعَدُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { يَصَّعَّدُ }
بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ، أَيْ: يَتَصَعَّدُ، يَعْنِي: يَشُقُّ عَلَيْهِ
الْإِيمَانُ كَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ صُعُودُ السَّمَاءِ، وَأَصْلُ الصُّعُودِ
الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أَيْ: عَقَبَةً
شَاقَّةً، { كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّجْسُ هُوَ الشَّيْطَانُ، أَيْ: يُسَلَّطُ عَلَيْهِ،
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْمَأْثَمُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّجْسُ مَا لَا
خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الرِّجْسُ الْعَذَابُ مِثْلُ الرِّجْسِ. وَقِيلَ:
هُوَ النَّجَسُ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: "[اللَّهُمَّ إِنِّي] (1) أَعُوذُ بِكَ
مِنَ الرِّجْسِ +وَالنَّجَسِ" (2) . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرِّجْسُ
اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ.
{ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ
الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ
الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي
أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ
اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا } [أَيْ: هَذَا
الَّذِي بَيَّنَّا، وَقِيلَ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ طَرِيقُ
رَبِّكَ وَدِينُهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مُسْتَقِيمًا] (3) لَا عِوَجَ
فِيهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. { قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }
{ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ } يَعْنِي: الْجَنَّةَ: قَالَ
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ وَدَارُهُ الْجَنَّةُ،
وَقِيلَ: السَّلَامُ هُوَ السَّلَامَةُ، [أَيْ: لَهُمْ دَارُ السَّلَامَةِ] (4)
مِنَ الْآفَاتِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ. وَسُمِّيَتْ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ كُلَّ
مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم (299): 1 / 109، وقال في الزوائد: إسناده
ضعيف، أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص(12). من طريق إسماعيل بن رافع عن
دريد بن نافع عن ابن عمر، وابن عساكر عن ابن مسعود. قال المنذري: "هذا حديث
ضعيف" وقال العراقي: "إسماعيل مختلف فيه، ورواية دريد بن نافع عن ابن
عمر منقطعة". انظر: فيض القدير للمناوي: 5 / 128 والذي ثبت في الصحيحين وفي
السنن أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا دخل الخلاء:
"اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".
(3) زيادة من "ب".
(4) ساقط من "ب".
وَقِيلَ:
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ حَالَاتِهَا مَقْرُونَةٌ بِالسَّلَامِ،
يُقَالُ فِي الِابْتِدَاءِ:(ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)(الْحِجْرِ،
46)،(وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ)(الرَّعْدِ، 23)، وَقَالَ:(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا
تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)(الْوَاقِعَةِ، 26)،
وَقَالَ:(تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)(إِبْرَاهِيمَ، 23)(سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ)(يس، 58). { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قَالَ
[الْحُسَيْنُ] (1) بْنُ الْفَضْلِ: يَتَوَلَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْفِيقِ
وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } قَرَأَ حَفْصٌ: { يَحْشُرُهُمْ
} بِالْيَاءِ، { جَمِيعًا } يَعْنِي: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ يَجْمَعُهُمْ فِي
مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ } وَالْمُرَادُ
بِالْجِنِّ: الشَّيَاطِينُ، { قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ } أَيِ:
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ بِالْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ أَيْ: أَضْلَلْتُمْ
كَثِيرًا، { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ } يَعْنِي: أَوْلِيَاءَ
الشَّيَاطِينِ الَّذِي أَطَاعُوهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }
قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ
كَانَ إِذَا سَافَرَ وَنَزَلَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ
الْجِنِّ قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ،
فَيَبِيتُ فِي جِوَارِهِمْ.
وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا قَدْ سُدْنَا
الْإِنْسَ مَعَ الْجِنِّ، حَتَّى عَاذُوا بِنَا فَيَزْدَادُونَ شَرَفًا فِي
قَوْمِهِمْ وَعِظَمًا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى(وَأَنَّهُ
كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ
رَهَقًا)(الْجِنِّ، 6).
وَقِيلَ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ مَا كَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
مِنَ الْأَرَاجِيفِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمُ الْأُمُورَ
الَّتِي يَهْوُونَهَا، وَتَسْهِيلُ سَبِيلِهَا عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ
بِالْإِنْسِ طَاعَةُ الْإِنْسِ لَهُمْ فِيمَا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنَ
الضَّلَالَةِ وَالْمَعَاصِي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ طَاعَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَمُوَافَقَةُ
بَعْضِهِمْ [لِبَعْضٍ] (2) .
{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } يَعْنِي: الْقِيَامَةَ
وَالْبَعْثَ، { قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } مَقَامُكُمْ، {
خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ }
اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي
قَوْلِهِ:(خَالِدِينَ فِيهَا ما دامت السموات وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ)(هُودٍ، 107).
__________
(1) في "ب": (الحسن).
(2) في "ب": (بعضا).
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
قِيلَ:
أَرَادَ إِلَّا قَدْرَ مُدَّةِ مَا بَيْنَ بَعْثِهِمْ إِلَى دُخُولِهِمْ
جَهَنَّمَ، يَعْنِي: هُمْ خَالِدُونَ فِي النَّارِ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ.
وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ { النَّارُ
مَثْوَاكُمْ } أَيْ: خَالِدِينَ فِي النَّارِ سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ
الْعَذَابِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمٍ سَبَقَ فِيهِمْ
عِلْمُ اللَّهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ،
وَ"مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، { إِنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } قِيلَ: عَلِيمٌ بِالَّذِي اسْتَثْنَاهُ وَبِمَا فِي
قُلُوبِهِمْ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) }
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
[قِيلَ: أَيْ] (1) كَمَا خَذَلْنَا عُصَاةَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ حَتَّى
اسْتَمْتَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا، أَيْ:
نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَنَأْخُذُ مِنَ الظَّالِمِ بِالظَّالِمِ،
كَمَا جَاءَ: "مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ" (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، فَالْمُؤْمِنُ
وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ [أَيْنَ كَانَ] (3) وَالْكَافِرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ حَيْثُ
كَانَ. وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: نُتْبِعُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي
النَّارِ، مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نُوَلِّي ظَلَمَةَ الْإِنْسِ
ظَلَمَةَ الْجِنِّ، وَنُوَلِّي ظَلَمَةَ الْجِنِّ ظَلَمَةَ الْإِنْسِ، أَيْ:
نَكِلُ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى)(النِّسَاءِ، 115)، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِهَا هُوَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ خَيْرًا وَلَّى أَمْرَهُمْ خِيَارَهُمْ، وَإِذَا أَرَادَ
بِقَوْمٍ شَرًّا وَلَّى أَمْرَهُمْ شِرَارُهُمْ.
__________
(1) في "ب": (يقول).
(2) قال في اللآلئ: "ذكره صاحب الفردوس بسنده من حدديث ابن مسعود" وقال
في المقاصد الحسنة: رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن مسعود رفعه، وفيه: ابن زكريا
العدوي، متهم بالوضع، فهو آفته. وأورده الديلمي في الفردوس بلا سند عن ابن مسعود.
انظر: كشف الخفاء: 2 / 297-298، فيض القدير: 6 / 72، تمييز الطيب من الخبيث،
ص(177).
(3) ساقط من "ب".
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ } اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجِنَّ هَلْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ
[رَسُولٌ] (1) ؟ فَسُئِلَ الضَّحَّاكُ عَنْهُ، فَقَالَ: بَلَى أَلَمْ تَسْمَعِ
اللَّهَ يَقُولُ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } يَعْنِي: بِذَلِكَ رُسُلًا
مِنَ الْإِنْسِ وَرُسُلًا مِنَ الْجِنِّ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَتِ الرُّسُلُ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُبْعَثُونَ إِلَى الْجِنِّ وَإِلَى الْإِنْسِ جَمِيعًا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ، وَالنُّذُرُ مِنَ الْجِنِّ، ثُمَّ
قَرَأَ(وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)(الْأَحْقَافُ، 29)، وَهُمْ قَوْمٌ
يَسْمَعُونَ كَلَامَ الرُّسُلِ فَيُبَلِّغُونَ الْجِنَّ مَا سَمِعُوا، وَلَيْسَ
لِلْجِنِّ رُسُلٌ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ "رُسُلٌ مِنْكُمْ" يَنْصَرِفُ
إِلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَهُمُ الْإِنْسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(يَخْرُجُ
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والمرجان)(الرحمن، 22) 124/ب وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ
الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ، قَالَ:(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)(نُوحٌ،
16)، وَإِنَّمَا هُوَ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ.
{ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ } أي: يقرؤن عَلَيْكُمْ، { آيَاتِي } كُتُبِي {
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، {
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أَنَّهُمْ قَدْ بُلِّغُوا، قَالَ
مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِالشِّرْكِ
وَالْكُفْرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
} حَتَّى لَمْ يُؤْمِنُوا، { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
كَافِرِينَ }
{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
غَافِلُونَ (131) }
__________
(1) في "ب": (رسل).
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
(132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ
قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
(134) }
{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } أَيْ: ذَلِكَ
الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الرُّسُلِ وَعَذَابِ مَنْ كَذَّبَهُمْ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ، [أَيْ: لَمْ يَكُنْ
مُهْلِكَهُمْ بِظُلْمٍ] (1) أَيْ: بِشِرْكِ مِنْ أَشْرَكَ، { وَأَهْلُهَا
غَافِلُونَ } لَمْ ينذروا حتى يبعث إِلَيْهِمْ رُسُلًا يُنْذِرُونَهُمْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يُهْلِكْهُمْ بِذُنُوبِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَهُمُ الرُّسُلُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ
بِالرُّسُلِ فَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
__________
(1) زيادة من "ب".
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
تَعَالَى
أَجْرَى السُّنَةَ أَنْ لَا يَأْخُذَ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الذَّنْبِ،
وَإِنَّمَا يَكُونُ مُذْنِبًا إِذَا أُمِرَ فَلَمْ يَأْتَمِرْ وَنُهِيَ فَلَمْ
يَنْتَهِ، يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ.
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } يَعْنِي فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ
عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ
عَذَابًا وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَجْزَلُ ثَوَابًا، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ
عَمَّا يَعْمَلُونَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ
بِالْيَاءِ.
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ } عَنْ خَلْقِهِ، { ذُو الرَّحْمَةِ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: [ذُو الرَّحْمَةِ] (1) بِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: بِخَلْقِهِ ذُو التَّجَاوُزِ، { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ }
يُهْلِكْكُمْ، وَعِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، { وَيَسْتَخْلِفْ } [يَخْلُقْ] (2)
وَيُنْشِئْ، { مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } خَلْقًا غَيْرَكُمْ أَمْثَلَ
وَأَطْوَعَ، { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } أَيْ:
آبَائِهِمُ الْمَاضِينَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ.
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } أَيْ: مَا تُوعَدُونَ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ
وَالْحَشْرِ، { لَآتٍ } كَائِنٌ، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أَيْ:
بِفَائِتِينَ، يَعْنِي: يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ.
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ
شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) }
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ { يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } قَرَأَ
أَبُو بَكْرٍ عن عاصم { مَكَانَتِكُمْ } بِالْجَمْعِ حَيْثُ كَانَ أَيْ: عَلَى
تَمَكُّنِكُمْ، قَالَ عَطَاءٌ: عَلَى حَالَاتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا.
قَالَ الزَّجَّاجُ: اعْمَلُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. يُقَالُ لِلرَّجُلِ
إِذَا أُمِرَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالَةٍ: عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ، أَيْ:
اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
عَلَيْهِ،
وَهَذَا أَمْرُ وَعِيدٍ عَلَى الْمُبَالَغَةِ يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ اعْمَلُوا
عَلَى مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ، { إِنِّي عَامِلٌ } مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ }
أَيِ: الْجَنَّةُ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَكُونُ بِالْيَاءِ هُنَا
وَفِي الْقَصَصِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْعَاقِبَةِ، {
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَا
يَسْعَدُ مَنْ كَفَرَ بِي وَأَشْرَكَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَفُوزُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا } الْآيَةَ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ
مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَثِمَارِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ
نَصِيبًا، وَلِلْأَوْثَانِ نَصِيبًا فَمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ صَرَفُوهُ إِلَى الضِّيفَانِ
وَالْمَسَاكِينِ، وَمَا جَعَلُوهُ لِلْأَصْنَامِ أَنْفَقُوهُ عَلَى الْأَصْنَامِ
وَخَدَمِهَا، فَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَصِيبِ
الْأَوْثَانِ تَرَكُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا، وَإِنْ
سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ [نَصِيبِ] (1) الْأَصْنَامِ فِيمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ رَدُّوهُ
إِلَى الْأَوْثَانِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ، وَكَانَ إِذَا هَلَكَ أَوِ
انْتَقَصَ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لَمْ يُبَالُوا بِهِ، وَإِذَا هَلَكَ
أَوِ انْتَقَصَ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوا لِلْأَصْنَامِ جَبَرُوهُ بِمَا جَعَلُوهُ
لِلَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } خَلَقَ
{ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا } وَفِيهِ اخْتِصَارٌ مَجَازُهُ:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا.
{ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ } قَرَأَ الْكِسَائِيُّ(بِزُعْمِهِمْ)
بِضَمِّ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ
الْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ، { وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } يَعْنِي:
الْأَوْثَانَ، { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } وَمَعْنَاهُ: مَا قُلْنَا
أَنَّهُمْ [كَانُوا يُتِمُّونَ مَا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ مِمَّا جَعَلُوهُ
لِلَّهِ، وَلَا] (2) يُتِمُّونَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ اسْتَعَانُوا بِمَا
جَزَّءُوا لِلَّهِ وَأَكَلُوا مِنْهُ وَوَفَّرُوا مَا جَزَّءُوا لِشُرَكَائِهِمْ
وَلَمْ يَأْكُلُوا مِنْهُ [شَيْئًا] (3) { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أَيْ: بِئْسَ
مَا [يَصْنَعُونَ] (4) .
{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ: كَمَا زَيَّنَ لَهُمْ
تَحْرِيمَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، { قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ
شُرَكَاؤُهُمْ، أَيْ: شَيَاطِينُهُمْ زَيَّنُوا وَحَسَّنُوا لَهُمْ وَأْدَ
الْبَنَاتِ خِيفَةَ الْعَيْلَةِ، سُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءَ لِأَنَّهُمْ
أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ
لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شُرَكَاؤُهُمْ: سَدَنَةُ آلِهَتِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا
يُزَيِّنُونَ لِلْكُفَّارِ قَتَلَ الْأَوْلَادِ، فَكَانَ الرَّجُلُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(3) زيادة من "ب".
(4) في "ب": (يقضون).
مِنْهُمْ
يَحْلِفُ لَئِنْ وُلِدَ له كذا غلاما لَيَنْحَرَنَّ أَحَدُهُمْ كَمَا حَلَفَ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "زُيِّنَ" بِضَمِّ الزَّايِ وَكَسْرِ الْيَاءِ،
"قَتْلُ" رَفْعٌ "أَوْلَادَهُمْ" نَصْبٌ،
"شُرَكَائِهِمْ" بِالْخَفْضِ عَلَى التَّقْدِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ أَوْلَادَهُمْ،
فَصَلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُمُ الْأَوْلَادُ،
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَزَجَجْتُهُ مُتَمَكِّنًا ... زَجَّ الْقَلُوصَ أَبِي
مَزَادَهْ
أَيْ: زَجَّ أَبِي مَزَادَةَ الْقَلُوصَ، فَأُضِيفُ الْفِعْلُ وَهُوَ الْقَتْلُ
إِلَى الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّوْا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ
زَيَّنُوا ذَلِكَ وَدَعَوْا إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ. قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ { لِيُرْدُوهُمْ } لِيُهْلِكُوهُمْ، { وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ }
لِيَخْلِطُوا عَلَيْهِمْ، { دِينَهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيُدْخِلُوا
عَلَيْهِمُ الشَّكَّ فِي دِينِهِمْ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ إِسْمَاعِيلَ
فَرَجَعُوا عَنْهُ بِلَبْسِ الشَّيْطَانِ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ }
أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَصَمَهُمْ حَتَّى مَا فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ
الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ، { فَذَرْهُمْ } يَا مُحَمَّدُ، {
وَمَا يَفْتَرُونَ } يَخْتَلِقُونَ مِنَ الْكَذِبِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ.
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ
بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا
وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) }
{ وَقَالُوا } يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، { هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ }
أَيْ حَرَامٌ، يَعْنِي: مَا جَعَلُوا لِلَّهِ وَلِآلِهَتِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ عَلَى مَا مَضَى ذِكْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي
بِالْأَنْعَامِ: الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِ، { لَا
يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ } يَعْنُونُ الرِّجَالَ دُونَ
النِّسَاءِ، { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } يَعْنِي: الْحَوَامِيَ كَانُوا
لَا يَرْكَبُونَهَا، { وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا }
أَيْ: يَذْبَحُونَهَا بِاسْمِ الْأَصْنَامِ لَا بَاسِمَ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو
وَائِلٍ: مَعْنَاهُ لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يَرْكَبُونَهَا لِفِعْلِ
الْخَيْرِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى
فِعْلِ الْخَيْرِ عَبَّرَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ. {
افْتِرَاءً عَلَيْهِ } يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ
اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ { سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ }
{ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا
وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } أَيْ: نِسَائِنَا. قَالَ
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: أَرَادَ أَجِنَّةَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ،
فَمَا وُلِدَ مِنْهَا حَيًّا فَهُوَ خَالِصٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَمَا
وُلِدَ مَيِّتًا أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا، وَأَدْخَلَ الْهَاءَ
فِي ال " خالصة " لِلتَّأْكِيدِ كَالْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ،
كَقَوْلِهِمْ: نَسَّابَةٌ وَعَلَّامَةٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أُدْخِلَتِ الْهَاءُ
لِتَأْنِيثِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّ مَا فِي بُطُونِهَا مِثْلُهَا فَأُنِّثَتْ
بِتَأْنِيثِهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: خَالِصٌ وَخَالِصَةٌ وَاحِدٌ، مِثْلُ
وَعْظٍ وَمَوْعِظَةٌ.
{ وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ [وَأَبُو جَعْفَرٍ] (1) "
تَكُنْ " بِالتَّاءِ { مَيْتَةٌ } رَفْعٌ، ذَكَرَ الْفِعْلَ بِعَلَامَةِ
التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ الْمَيْتَةَ فِي اللَّفْظِ مُؤَنَّثَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " تكن " بالتاء 125\أ { مَيْتَةً } نَصْبٌ، أَيْ:
وَإِنْ تَكُنِ الْأَجِنَّةُ مَيْتَةً، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: { وَإِنْ يَكُنْ }
بِالْيَاءِ { مَيْتَةٌ } رَفْعٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَيْتَةِ الْمَيِّتُ،
أَيْ: وَإِنْ يَقَعْ مَا فِي الْبُطُونِ مَيِّتًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { وَإِنْ
يَكُنْ } بِالْيَاءِ { مَيْتَةً } نَصْبٌ، رَدَّهُ إِلَى { مَا } أَيْ: وَإِنْ
يَكُنْ مَا فِي الْبُطُونِ مَيْتَةً، [يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ] (2) {
فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، وَأَرَادَ أَنَّ الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ فِيهِ شُرَكَاءُ، { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أَيْ: بِوَصْفِهِمْ،
أَوْ عَلَى وَصْفِهِمُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى { إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ }
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا
كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ
وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) }
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ
كَثِيرٍ " قَتَلُوا " بِتَشْدِيدِ التَّاءِ عَلَى التَّكْثِيرِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ. { سَفَهًا } جَهْلًا. { بِغَيْرِ عِلْمٍ }
نَزَلَتْ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَبَعْضِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَانُوا
يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً مَخَافَةَ السَّبْيِ وَالْفَقْرِ، وَكَانَ بَنُو
كِنَانَةَ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ (3) .
{ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ } يَعْنِي: الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ
وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِ، { افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ } حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ
اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا، { قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }
__________
(1) في "ب": (وأبو حفص).
(2) ساقط من "ب".
(3) الدر المنثور: 3 / 366.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ } ابْتَدَعَ. { جَنَّاتٍ } بَسَاتِينَ، {
مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أَيْ: +مَسْمُوكَاتٍ مَرْفُوعَاتٍ وَغَيْرَ
مَرْفُوعَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْرُوشَاتٍ: مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ وَانْتَشَرَ مِمَّا يُعَرِّشُ، مِثْلُ: الْكَرْمِ وَالْقَرْعِ
وَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِهَا، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ. مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ
وَبَسَقَ، مِثْلُ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَسَائِرِ الْأَشْجَارِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كِلَاهُمَا، الْكَرْمُ خَاصَّةً، مِنْهَا مَا عَرَّشَ
وَمِنْهَا مَا لَمْ يُعَرِّشْ.
{ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ } أَيْ: وَأَنْشَأَ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ، {
مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } ثَمَرُهُ وَطَعْمُهُ مِنْهَا الْحُلْوُ وَالْحَامِضُ
وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ، { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا } فِي
الْمَنْظَرِ، { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } فِي الْمَطْعَمِ مِثْلَ الرُّمَّانَتَيْنِ
لَوْنُهُمَا وَاحِدٌ وَطَعْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا
أَثْمَرَ } هَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ.
{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَابْنُ عَامِرٍ
وَعَاصِمٌ { حَصَادِهِ } بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا
وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، كَالصِّرَامِ وَالصَّرَامِ وَالْجَزَازِ وَالْجِزَازِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْحَقِّ: فَقَالَ ابن عباس وطاووس وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ
بْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ
مِنَ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَحَمَّادٌ وَالْحَكَمُ:
هُوَ حَقٌّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ، أَمَرَ بِإِتْيَانِهِ، لِأَنَّ
الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ الضِّغْثُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: لُقَاطُ السُّنْبُلِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا [يُعَلِّقُونَ] (1) الْعِذْقَ عِنْدَ الصِّرَامِ
فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَنْ مَرَّ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِذَا صَرَمُوا
يَجِيئُونَ بِالْعِذْقِ فَيُعَلِّقُونَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَيَجِيءُ
الْمِسْكِينُ فَيَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُطُ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ هَذَا حَقًّا يُؤْمَرُ بِإِتْيَانِهِ فِي
ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِإِيجَابِ الْعُشْرِ.
وَقَالَ مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ نَفَقَةٍ فِي
الْقُرْآنِ.
{ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } قِيلَ: أَرَادَ
بِالْإِسْرَافِ إِعْطَاءَ الْكُلِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ
الْكَلْبِيِّ: إِنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ صَرَمَ خَمْسَمِائَةِ
نَخْلَةٍ وَقَسَّمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَهْلِهِ شَيْئًا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ. (2)
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) انظر: الدر المنثور: 3 / 369.
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قَالَ
السُّدِّيُّ: لَا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ فَتُقْعُدُوا
فُقَرَاءَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى هَذَا إِذَا أَعْطَى الْإِنْسَانُ كُلَّ
مَالِهِ وَلَمْ يُوَصِّلْ إِلَى عِيَالِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَسْرَفَ، لِأَنَّهُ
قَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ "ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" (1) . وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَعْنَاهُ لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ. فَتَأْوِيلُ
الْآيَةِ عَلَى هَذَا: لَا تَتَجَاوَزِ الْحَدَّ فِي الْبُخْلِ وَالْإِمْسَاكِ
حَتَّى تَمْنَعُوا الْوَاجِبَ مِنَ الصَّدَقَةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تُشْرِكُوا الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا تُنْفِقُوا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْإِسْرَافُ مَا قَصَّرْتَ بِهِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: لَوْ
كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ ذَهَبَا لِرَجُلٍ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ
يَكُنْ مُسْرِفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا أَوْ مُدًّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ
كَانَ مُسْرِفًا. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ
اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ وَإِسْرَافٌ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ.
قَالَ: الْخِطَابُ لِلسَّلَاطِينِ، يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا فَوْقَ حَقِّكُمْ.
{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) }
__________
(1) قطعة من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر
غنى: 3 / 294، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح،
برقم(1034): 2 / 717، والمصنف في شرح السنة: 5 / 178، 179.
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنَ الْأَنْعَامِ } أَيْ: وَأَنْشَأَ مِنَ
الْأَنْعَامِ، { حَمُولَةً } وَهِيَ كُلُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِبِلِ،
{ وَفَرْشًا } وَهِيَ الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ الَّتِي لَا تَحْمِلُ. { كُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } لَا
تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ وَآثَارَهُ فِي تَحْرِيمِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، { إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }
ثُمَّ بَيَّنَ الْحَمُولَةَ وَالْفَرْشَ فَقَالَ: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ }
نَصْبُهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ، أَيْ: وَأَنْشَأَ مِنَ
الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أَصْنَافٍ، { مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ }
أَيِ: الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، [فَالذَّكَرُ زَوْجٌ وَالْأُنْثَى] (1) زَوْجٌ،
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْوَاحِدَ زَوْجًا إِذَا كَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ
الْآخَرِ، وَالضَّأْنُ النِّعَاجُ، وَهِيَ ذَوَاتُ الصُّوفِ مِنَ الْغَنَمِ،
وَالْوَاحِدُ ضَائِنٌ وَالْأُنْثَى ضَائِنَةٌ، وَالْجَمْعُ ضَوَائِنُ، { وَمِنَ
الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ
"مِنَ الْمَعَزِ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا،
وَالْمَعْزُ وَالْمَعْزَى جَمْعٌ لَا
__________
(1) ساقط من "ب".
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
وَاحِدَ
لَهُ مَنْ لَفْظِهِ، وَهِيَ ذَوَاتُ الشَّعْرِ مِنَ الْغَنَمِ، وجمع الماعز
مَعِيْر، وجميع الْمَاعِزَةِ مَوَاعِزُ، { قُلْ } يَا مُحَمَّدُ { آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ } اللَّهُ عَلَيْكُمْ، يَعْنِي ذَكَرَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، { أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ } يَعْنِي أُنْثَى الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، { أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } مِنْهُمَا، فَإِنَّهَا لَا تَشْتَمِلُ
إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، { نَبِّئُونِي } أَخْبِرُونِي { بِعِلْمٍ }
قَالَ الزَّجَّاجُ: فَسِّرُوا مَا حَرَّمْتُمْ بِعِلْمٍ، { إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَمَ ذَلِكَ.
{ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) }
{ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الْأُنْثَيَيْنِ } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِهِ أَنْعَامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ، وَقَالُوا: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ
لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا، وَحَرَّمُوا الْبَحِيْرَةَ
وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَهَا
عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَعْضَهَا عَلَى النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ،
فَلَمَّا قَامَ الْإِسْلَامُ وَثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ جَادَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ خَطِيبَهُمْ مَالِكُ بْنُ عوف أبو الأحوض
الْجُشَمِيِّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ [بَلَغَنَا] (1) أَنَّكَ تُحَرِّمُ
أَشْيَاءَ مِمَّا كَانَ آبَاؤُنَا يَفْعَلُونَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ قَدْ حَرَّمْتُمْ أَصْنَافًا
مِنَ الْغَنَمِ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ
الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ لِلْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، فَمِنْ أَيْنَ
جَاءَ هَذَا التَّحْرِيمُ؟ مَنْ قِبَلِ الذَّكَرِ أَمْ مِنْ قِبْلِ
الْأُنْثَى"؟ فَسَكَتَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَتَحَيَّرَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ.
فَلَوْ قَالَ جَاءَ التَّحْرِيمُ بِسَبَبِ الذُّكُورِ وَجَبَ أَنْ يُحَرِّمَ
جَمِيعَ الذُّكُورِ، وَإِنْ قَالَ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ وَجَبَ أَنْ يُحَرِّمَ
جَمِيعَ الْإِنَاثِ، وَإِنْ كَانَ بِاشْتِمَالِ الرَّحِمِ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يُحَرِّمَ الْكُلَّ، لِأَنَّ الرَّحِمَ لَا يَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَى، فَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّحْرِيمِ بِالْوَلَدِ الْخَامِسِ أَوِ
السَّابِعِ أَوِ الْبَعْضِ دون البعض 125/ب فَمِنْ أَيْنَ؟.
__________
(1) ساقط من "أ".
وَيُرْوَى
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَالِكٍ: "يَا
مَالِكُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قَالَ لَهُ مَالِكٌ: بَلْ تَكَلَّمْ
وَأَسْمَعُ مِنْكَ".
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } حُضُورًا { إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ } قِيلَ: أَرَادَ بِهِ: عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ عَلَى
طَرِيقَتِهِ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ يَكُونُ بِالْوَحْيِ
وَالتَّنْزِيلِ، فَقَالَ: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا }
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: فَمَا الْمُحَرَّمُ إِذًا فَنَزَلَ: { قُلْ } يَا
مُحَمَّدُ { لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } أَيْ: شَيْئًا
مُحَرَّمًا، { عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } آكِلٍ يَأْكُلُهُ، { إِلَّا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ "تَكُونَ"
بِالتَّاءِ، { مَيْتَةٌ } رَفْعٌ أَيْ: إِلَّا أَنْ تَقَعَ مَيْتَةٌ، وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ " تَكُونَ " بِالتَّاءِ، { مَيْتَةً } نُصِبَ
عَلَى تَقْدِيرِ اسْمٍ مُؤَنَّثٍ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ، أَوْ:
الْجُثَّةُ مَيِّتَةً، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "يَكُونَ" بِالْيَاءِ
"مَيْتَةً" نَصْبٌ، يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ [الْمَطْعُومُ] (1)
مَيْتَةً، { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } أَيْ: مُهْرَاقًا سَائِلًا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا خَرَجَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَهُنَّ أَحْيَاءٌ وَمَا خَرَجَ
مِنَ الْأَرْوَاحِ وَمَا يخرج من الأدواج عِنْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ
الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ، لِأَنَّهُمَا جَامِدَانِ، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ
بِإِبَاحَتِهِمَا، وَلَا مَا اخْتَلَطَ بِاللَّحْمِ مِنَ الدَّمِ، لِأَنَّهُ
غَيْرُ سَائِلٍ.
قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ: سَأَلَتُ أَبَا مِجَلَزٍ عَمًّا يَخْتَلِطُ
بِاللَّحْمِ مِنَ الدَّمِ، وَعَنِ الْقِدْرِ يُرَى فِيهَا حُمْرَةُ الدَّمِ؟
فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا نَهَى عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ بِالدَّمِ فِي عِرْقٍ أَوْ مُخٍّ، إِلَّا
الْمَسْفُوحَ الَّذِي تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَوْلَا هَذِهِ
الْآيَةُ لَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعُرُوقِ مَا يَتَّبِعُ الْيَهُودُ.
{ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } حَرَامٌ، { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } وَهُوَ مَا ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا:
وَيَدْخُلُ فِي الْمَيْتَةِ: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ، وَمَا ذُكِرَ فِي
أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (2) .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ، وَالْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْكِتَابِ مَا ذُكِرَ هُنَا (3) .
__________
(1) في "ب": (الطعام).
(2) راجع فيما سبق، تفسير الآية (3) من سورة المائدة - في هذا الجزء. ص(10-12).
(3) انظر: تفسير القرطبي: 7 / 116 وما بعدها، أحكام القرآن للطبري الهراس: 3 /
346-347.
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
ذَلِكَ
مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ لا أجد فيما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا"، وَقَدْ حَرَّمَتِ السُّنَةُ أَشْيَاءَ يَجِبُ الْقَوْلُ بِهَا.
مِنْهَا: مَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ثَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ ثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبِي أَنَا شُعْبَةُ عَنِ
الْحَكَمِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"
(1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ثَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ" (2) .
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصُّ تَحْرِيمٍ
أَوْ تَحْلِيلٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا أَمَرَ الشَّرْعُ بِقَتْلِهِ -كَمَا قَالَ:
"خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ" (3) أَوْ نَهَى
عَنْ قَتْلِهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ
-فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ
عَادَاتِ الْعَرَبِ، فَمَا يَأْكُلُهُ الْأَغْلَبُ مِنْهُمْ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا
لَا يَأْكُلُهُ الْأَغْلَبُ مِنْهُمْ فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ:(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)، فَثَبَتَ أَنَّ مَا
اسْتَطَابُوهُ فَهُوَ حَلَالٌ.
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
أَبَاحَ أَكْلَ هَذِهِ الْمُحْرِمَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فِي غَيْرِ
الْعُدْوَانِ.
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا
أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا } يَعْنِي الْيَهُودَ، {
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْقُوقَ الْأَصَابِعِ
مِنَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ مِثْلَ: الْبَعِيرِ وَالنَّعَامَةِ وَالْإِوَزِّ
وَالْبَطِّ، قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هُوَ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع...
برقم(1934): 3 / 1534. والمصنف في شرح السنة: 11 / 234.
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق - برقم(1933): 3 / 1534. والمصنف في الموضع نفسه.
(3) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 4 / 34، ومسلم في
الحج باب ما يندب للمحرم وغيره قتله، برقم(1198): 2 / 856.
مِنَ
الطَّيْرِ وَكُلُّ ذِي حَافِرٍ مِنْ [الدَّوَابِّ] (1) وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ
الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ: سُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ.
{ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } يَعْنِي
شُحُومَ الْجَوْفِ، وَهِيَ الثُّرُوبُ، وَشَحْمُ الْكُلْيَتَيْنِ، { إِلَّا مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } أَيْ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ وَالْجَنْبِ مِنْ
دَاخِلِ بُطُونِهِمَا، { أَوِ الْحَوَايَا } وَهِيَ الْمَبَاعِرُ، وَاحِدَتُهَا:
حَاوِيَةٌ وَحَوِيَّةٌ، أَيْ: مَا حَمَلَتْهُ الْحَوَايَا مِنَ الشَّحْمِ. { أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } يَعْنِي: شَحْمَ الْأَلْيَةِ، هَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّحْرِيمُ مُخْتَصٌّ بِالثَّرْبِ (2) وَشَحْمِ الْكُلْيَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
ثَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ سَمَّعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَامَ
الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ
الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ" فَقِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا
السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ:
لَا هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ
اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهُمَا
جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ" (3) .
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ } أَيْ: ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ {
بِبَغْيِهِمْ } أَيْ: بِظُلْمِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ وَعَنْ بَغْيِهِمْ.
__________
(1) في "أ": (السباع).
(2) الثرب: على وزن (فَلَس): شحم رقيق على الكرش والأمعاء.
(3) أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع الميتة والأصنام: 4 / 424، ومسلم في
المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، برقم(1581): 3 / 207.
والمصنف في شرح السنة: 8 / 30.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
{
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ
مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) }
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } بِتَأْخِيرِ
الْعَذَابِ عَنْكُمْ، { وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ }
[عَذَابُهُ]
(1) { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } إِذَا جَاءَ وَقْتُهُ.
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } لَمَّا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَتَيَقَّنُوا
بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ
يَحُرِّمْهُ اللَّهُ [قَالُوا] (2) { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا
آبَاؤُنَا } مِنْ قَبْلُ، { وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } مَنَ الْبَحَائِرِ
وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهِمَا، أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا قَوْلَهُ: { لَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } حُجَّةً لَهُمْ عَلَى إِقَامَتِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ،
وَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
مَا نَحْنُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا نَفْعَلَهُ، فَلَوْلَا أَنَّهُ رَضِيَ بِمَا
نَحْنُ عَلَيْهِ وَأَرَادَهُ مِنَّا وَأَمَرَنَا بِهِ لَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ: { كَذَلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، { حَتَّى
ذَاقُوا بَأْسَنَا } عَذَابَنَا.
وَيَسْتَدِلُّ أَهْلُ الْقَدَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا
قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ وَرَدَّ
عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: "كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" .
قُلْنَا: التَّكْذِيبُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ "لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكْنَا" بَلْ ذَلِكَ الْقَوْلُ صِدْقٌ وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِهَا وَرَضِيَ بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ
عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ(الْآيَةَ 28):(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ، فَالرَّدُّ
عَلَيْهِمْ فِي هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:(قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ).
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ وَرَدَ فِيمَا قُلْنَا لَا فِي قَوْلِهِمْ:
"لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا"، قَوْلُهُ: { كَذَلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } بالتشديد 126\أ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكْنَا } لَقَالَ كَذَبَ الَّذِينَ [مَنْ قَبْلِهِمْ] (3) بِالتَّخْفِيفِ
فَكَانَ يَنْسِبُهُمْ إِلَى الْكَذِبِ لَا إِلَى التَّكْذِيبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
بْنُ الْفَضْلِ: لَوْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِهِ لَمَا عَابَهُمْ بِذَلِكَ،
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } وَقَالَ:(وما
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)(الْأَنْعَامِ، 111)،
وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوهُ تَكْذِيبًا
وَتَخَرُّصًا وَجَدَلًا مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِاللَّهِ وَبِمَا يَقُولُونَ،
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا
عَبَدْنَاهُمْ)(الزُّخْرُفِ، 20)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(مَا لَهُمْ بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(الْأَنْعَامِ، 116).
وَقِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْحَقَّ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ
إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَهُ عُذْرًا لِأَنْفُسِهِمْ وَيَجْعَلُونَهُ
حُجَّةً لِأَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا
لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنَّهُ
مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ غَيْرُ آمِرٍ بِجَمِيعِ مَا يُرِيدُ، وَعَلَى
الْعَبْدِ أَنْ يَتَّبِعَ أَمْرَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(3) ساقط من "ب".
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
بِمَشِيئَتِهِ،
فَإِنَّ مَشِيئَتَهُ لَا تَكُونُ عُذْرًا لِأَحَدٍ.
{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ } أَيْ: كِتَابٌ وَحُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ، {
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } حَتَّى يَظْهَرَ مَا تَدَّعُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنَ الشِّرْكِ أَوْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمْتُمْ، { إِنْ تَتَّبِعُونَ } مَا
تَتْبَعُونَ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، { إِلَّا الظَّنَّ } مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ
وَيَقِينٍ، { وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } تَكْذِبُونَ.
{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
(149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) }
{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } التَّامَّةُ عَلَى خَلْقِهِ
بِالْكِتَابِ [وَالرَّسُولِ] (1) وَالْبَيَانِ، { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ إِيمَانَ الْكَافِرِ،
وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاهُ.
{ قُلْ هَلُمَّ } يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، {
شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ } أَيِ: ائْتُوا بِشُهَدَائِكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ، { أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا } هَذَا رَاجَعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ
مِنْ تَحْرِيمِهِمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ
أَمَرَهُمْ بِهِ، { فَإِنْ شَهِدُوا } كَاذِبِينَ، { فَلَا تَشْهَدْ } أَنْتَ، {
مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ:
يُشْرِكُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا
وَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقَالَ عَزَّ
وَجَلَّ: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ" أَقْرَأْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ حَقًّا يَقِينًا لَا ظَنًّا وَلَا كَذِبًا كَمَا تَزْعُمُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ "حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الشِّرْكُ لَا تَرْكُ
الشِّرْكِ؟ .
__________
(1) في "أ": (والرسل).
قِيلَ:
مَوْضِعُ " أَنْ " رَفْعٌ، مَعْنَاهُ هُوَ أَنْ لَا تُشْرِكُوا،
وَقِيلَ: مَحَلُّهُ نَصُبٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ انْتِصَابِهِ، قِيلَ:
مَعْنَاهُ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ، وَ"لَا" صِلَةٌ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(ما منعك أن لا تَسْجُدَ)(الْأَعْرَافِ، 12)، أَيْ: مَنَعَكَ
أَنْ تَسْجُدَ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ "حَرَّمَ
رَبُّكُمْ" ثُمَّ قال: عليكم أن لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا عَلَى
الْإِغْرَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى
الْمَعْنَى، أَيْ: أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ الشِّرْكِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ
عَلَى مَعْنَى: أُوصِيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. { وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ } فَقْرٍ، { نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أَيْ: لَا تَئِدُوا بَنَاتِكُمْ خَشْيَةَ
الْعَيْلَةِ، فَإِنِّي رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [مَا ظَهَرَ يَعْنِي: الْعَلَانِيَةَ، وَمَا
بَطَنَ] (1) يَعْنِي: السِّرَّ.
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ الزِّنَا فِي الْعَلَانِيَةِ
وَلَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا فِي السِّرِّ فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الزِّنَا
فِي الْعَلَانِيَةِ وَالسِّرِّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا ظَهَرَ: الْخَمْرُ، وَمَا بَطَنَ: الزِّنَا.
{ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى قَتْلَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُعَاهِدِ إِلَّا بِالْحَقِّ،
إِلَّا بِمَا يُبِيحُ قَتْلَهُ مِنْ رِدَّةٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ زِنًا يُوجِبُ
الرَّجْمَ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ ثَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ
الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ
لِلْجَمَاعَةِ" (2) .
{ ذَلِكُمُ } الَّذِي ذَكَرْتُ { وَصَّاكُمْ بِهِ } أَمَرَكُمْ بِهِ، {
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في الديات، باب قول الله تعالى: "أن النفس بالنفس.."
12 / 201، ومسلم في القسامة، باب بيان ما يباح به دم المسلم (1676): 3 / 1302،
والمصنف في شرح السنة: 10 / 147.
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
}
{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } يَعْنِي:
بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَتَثْمِيرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
هُوَ
التِّجَارَةُ فِيهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ أَنْ يَبْتَغِيَ لَهُ فِيهِ وَلَا
يَأْخُذَ مِنْ رِبْحِهِ شَيْئًا، { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قَالَ
الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ: الْأَشُدُّ: الْحُلُمُ، حَتَّى يُكْتَبَ لَهُ
الْحَسَنَاتُ [وَتُكْتَبَ عَلَيْهِ] (1) السَّيِّئَاتُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
حَتَّى يَعْقِلَ وَتَجْتَمِعَ قُوَّتُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَشُدُّ ما بين
الثمانية عشر سَنَةً إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: إِلَى سِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَشُدُّ ثَلَاثٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَالْأَشُدُّ جَمْعُ شَدٍّ، مِثْلَ قَدٍّ وَأَقُدٍّ، وَهُوَ اسْتِحْكَامُ قُوَّةِ
شَبَابِهِ وَسِنِّهِ، وَمِنْهُ شَدُّ النَّهَارِ وَهُوَ ارْتِفَاعُهُ. وَقِيلَ
بُلُوغُ الْأَشُدِّ أَنْ يُؤْنَسَ رُشْدُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ عَلَى الْأَبَدِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، فَادْفَعُوا إِلَيْهِ
مَالَهُ إِنْ كَانَ رَشِيدًا.
{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } بِالْعَدْلِ، { لَا نُكَلِّفُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } أَيْ: طَاقَتَهَا فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ
وَالْمِيزَانِ، أَيْ: لَمْ يُكَلِّفِ الْمُعْطِيَ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ
عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْ صَاحِبَ الْحَقِّ الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ، حَتَّى
لَا تَضِيقَ نَفْسُهُ عَنْهُ، بَلْ أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَسَعُهُ
مِمَّا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ.
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } فَاصْدُقُوا فِي الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، {
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ وَالْمَشْهُودُ
عَلَيْهِ ذَا قُرَابَةٍ، { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تَتَّعِظُونَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَحَفْصٌ تَذَكَّرُونَ [خَفِيفَةَ] (2) الذَّالِ، كُلَّ الْقُرْآنِ، وَالْآخَرُونَ
بِتَشْدِيدِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ مُحَكَمَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ، لَمْ
يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ، وَهُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ مَنْ عَمِلَ بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ
دَخَلَ النَّارَ.
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) }
{ وَأَنَّ هَذَا } أَيْ: هَذَا الَّذِي وَصَّيْتُكُمْ بِهِ فِي هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ { صِرَاطِي } طَرِيقِي وَدِينِي،
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": (بتخفيف).
{
مُسْتَقِيمًا } مُسْتَوِيًا قَوِيمًا، { فَاتَّبِعُوهُ } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ "وَإِنَّ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ الْأَلِفِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْمَعْنَى
وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَيَعْقُوبُ: بِسُكُونِ النُّونِ. { وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } أَيْ:
الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي عَدَا هَذَا الطَّرِيقِ، مِثْلَ
الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ، وَقِيلَ: الْأَهْوَاءُ
وَالْبِدَعُ، { فَتَفَرَّقَ } فَتَمِيلَ، { بِكُمْ } وَتَشَتَّتَ، { عَنْ
سَبِيلِهِ } عَنْ طَرِيقِهِ وَدِينِهِ الَّذِي ارْتَضَى، وَبِهِ أَوْصَى، {
ذَلِكُمْ } الَّذِي ذَكَرْتُ، { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الترابي المعروف 126/ب
بِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَا الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ ثَنَا أَبُو يَزِيدَ مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ ثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْحَنْظَلِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا
ثُمَّ قَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ شِمَالِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ
يَدْعُو إِلَيْهِ" ثُمَّ قَرَأَ" "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ" الْآيَةَ. (1)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } فَإِنْ قِيلَ: لِمَ
قَالَ: "ثُمَّ آتَيْنَا" وَحَرْفُ "ثُمَّ" لِلتَّعْقِيبِ
وَإِيتَاءُ مُوسَى الْكِتَابَ كَانَ قَبْلَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ
ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، فَدَخَلَ "ثُمَّ"
لِتَأْخِيرِ الْخَبَرِ لَا لِتَأْخِيرِ النُّزُولِ.
{ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ: تَمَامًا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ قَوْمِهِ، فَتَكُونُ "الَّذِي" بِمَعْنَى مَنْ،
أَيْ: عَلَى مَنْ أَحْسَنَ مَنْ قَوْمِهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ مُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ،
يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: "عَلَى الَّذِينَ
أَحْسَنُوا" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ،
أَيْ: أَتْمَمْنَا فَضِيلَةَ مُوسَى بِالْكِتَابِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ، يَعْنِي:
أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُحْسِنُونَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ
وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: "الَّذِي أَحْسَنَ" هُوَ مُوسَى،
وَ"الَّذِي" بِمَعْنَى مَا، أَيْ: عَلَى مَا أَحْسَنَ مُوسَى،
تَقْدِيرُهُ: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، إِتْمَامًا عَلَيْهِ
لِلنِّعْمَةِ، لِإِحْسَانِهِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَتَبْلِيغِ
الرِّسَالَةِ وَأَدَاءِ الْأَمْرِ.
وَقِيلَ: الْإِحْسَانُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَأَحْسَنَ بِمَعْنَى عَلِمَ،
وَمَعْنَاهُ: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى
__________
(1) أخرجه الدارمي في المقدمة ، باب كراهية أخذ الرأي : 1 / 67 ، والطبري في
التفسير برقم (14168) ، وصححه الحاكم : 2 / 318 ، ووافقه الذهبي ، وأخرجه أيضا
الآجري في الشريعة ص(10) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة : 1 / 80-81 ،
وابن أبي عاصم في السنة : 1 / 13 ، والإمام أحمد في المسند 1 / 435 . قال الهيثمي
في المجمع : 7 / 22 : " رواه أحمد والبزار ، وفيه عاصم بن بهدلة ، وهو ثقة
وفيه ضعف " وأخرجه المصنف في شرح السنة : 1 / 196-197 وانظر : تفسير ابن كثير
: 2 / 191.
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
مِنَ
الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، أَيْ آتَيْنَاهُ الْكِتَابُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَمَامًا مِنِّي عَلَى إِحْسَانِي إِلَى مُوسَى.
{ وَتَفْصِيلًا } بَيَانًا { لِكُلِّ شَيْءٍ } يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ شَرَائِعِ
الدِّينِ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً } هَذَا فِي صِفَةِ التَّوْرَاةِ، { لَعَلَّهُمْ
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَيْ يُؤْمِنُوا
بِالْبَعْثِ وَيُصَدِّقُوا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى
طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ
(156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ
يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) }
{ وَهَذَا } يَعْنِي: الْقُرْآنَ، { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ
فَاتَّبِعُوهُ } وَاعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، { وَاتَّقُوا } وَأَطِيعُوا، { لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ }
{ أَنْ تَقُولُوا } يَعْنِي: لِئَلَّا تَقُولُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا"(النِّسَاءِ، 176)، أي: لئلا
تضلا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْزَلْنَاهُ كَرَاهَةَ { أَنْ تَقُولُوا } قَالَ
الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ اتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ، { إِنَّمَا
أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } يَعْنِي: الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى، { وَإِنْ كُنَّا } وَقَدْ كُنَّا، { عَنْ دِرَاسَتِهِمْ }
قِرَاءَتِهِمْ، { لَغَافِلِينَ } لَا نَعْلَمُ مَا هِيَ، مَعْنَاهُ أَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ لِئَلَّا تَقُولُوا إِنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ عَلَى مَنْ
قَبْلَنَا بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ فَلَمْ نَعْرِفْ مَا فِيهِ وَغَفَلْنَا عَنْ
دِرَاسَتِهِ، فَتَجْعَلُونَهُ عُذْرًا لِأَنْفُسِكُمْ.
{ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ } وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَالُوا ذَلِكَ لَوْ أَنَّا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَكُنَّا خَيْرًا
مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ }
حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ بِلُغَةٍ تَعْرِفُونَهَا، { وَهُدًى } بَيَانٌ { وَرَحْمَةٌ }
وَنِعْمَةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَصَدَفَ } أَعْرَضَ، { عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ
آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ } شِدَّةَ الْعَذَابِ { بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ }
[يُعْرِضُونَ] (1) .
__________
(1) ساقط من "ب".
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا
يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هَلْ يَنْظُرُونَ } أَيْ: هَلْ يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ
تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَإِنْكَارِهِمُ الْقُرْآنَ، { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ
الْمَلَائِكَةُ } لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ، قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ "يَأْتِيَهُمُ" بِالْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي النَّحْلِ،
وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } بِلَا كَيْفٍ، لِفَصْلِ
الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آيَاتِ رَبِّكَ } يَعْنِي طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، عَلَيْهِ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَرْفُوعًا (1) . { يَوْمَ
يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } أَيْ: لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ ظُهُورِ
الْآيَةِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، { أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْرًا } يُرِيدُ: لَا يُقْبَلُ إِيمَانُ كَافِرٍ وَلَا تَوْبَةُ
فَاسِقٍ { قُلِ انْتَظِرُوا } يَا أَهْلَ مَكَّةَ، { إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }
بِكُمُ الْعَذَابَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ ثَنَا أَبُو
طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمَشٍ الزِّيَادِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ
ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ ثَنَا أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعِينَ، وَذَلِكَ
حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا" (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَدَا اللَّهِ بُسْطَانِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ لِيَتُوبَ بِالنَّهَارِ،
وَلِمُسِيءِ النَّهَارِ لِيَتُوبَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
مَغْرِبِهَا" (3) .
__________
(1) أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تعالى: "أو يأتي بعض آيات ربك" قال:
"طلوع الشمس من مغربها". قال الترمذي: هذا حديث غريب، ورواه بعضهم ولم
يرفعه، انظر: السنن، تفسير سورة الأنعام: 8 / 448-449. ويؤيد ما أخرجه أيضا عن أبي
هريرة وهو الحديث الآتي بعده.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة الأنعام، باب قوله تعالى: "هلم
شهداءكم": 8 / 297 ومسلم في الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل الله فيه
الإيمان، برقم(157: 1 / 137.
(3) أخرجه مسلم في التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب، برقم(2759): 4 / 2113،
بلفظ: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب...". والمصنف في شرح
السنة: 5 / 82.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ أَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ
مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
أَنَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: أَتَيْتُ
صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ فَذَكَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ
بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَسِيرَةُ عَرْضِهِ سَبْعُونَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لَا
يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ"، وَذَلِكَ قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى: "يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ
نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ" (2) .
وَرَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ
إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ
الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا". (3) .
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ (159) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: " فَارَقُوا " ، بِالْأَلِفِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ
الرُّومِ، أَيْ: خَرَجُوا مِنْ دِينِهِمْ وَتَرَكُوهُ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:
"فَرَّقُوا" مُشَدَّدًا، أَيْ: جَعَلُوا دِينَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ
-دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَنِيفِيَّةَ -أَدْيَانًا
مُخْتَلِفَةً، فَتَهَوَّدُ قَوْمٌ وَتَنَصَّرُ قَوْمٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَكَانُوا شِيَعًا } أَيْ: صَارُوا فِرَقًا مُخْتَلِفَةً وَهُمُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء.. باب استحباب الاستغفار، برقم(2703): 4 / 2076،
والمصنف في شرح السنة 5 / 83.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب ما جاء في فضل التوبة والاستغفار: 9 / 517-519
مطولا، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه في الفتن، باب طلوع الشمس من
مغربها، برقم(4070) 2 / 1353، والطيالسي في المسند ص(160-161)، والمصنف في شرح
السنة: 5 / 89.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل الله فيه الإيمان،
برقم(158): 1 / 138.
أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: "يا
عائشة 127\أ إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ
أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ" (1) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْحَنَفِيُّ
أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَنْصَارِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ
الْأَزْهَرِيِّ بْنِ عَقِيلٍ الْفَقِيهُ الْبَلْخِيُّ أَنَا الرَّمَادِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَنَا ثَوْرُ بن يزيد نا
خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ عَنِ
الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ
مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا: فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ
بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فإن
من يعيش مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا
بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٍ" (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى
اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتْ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً"، قَالُوا:
مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ
وَأَصْحَابِي" (3) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "فَإِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ
اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَُ
__________
(1) عزاه ابن كثير لابن مردويه، وقال: "وهو غريب.. ولا يصح رفعه". ثم
قال: "والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن
الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد، لا اختلاف فيه
ولا افتراق". تفسير ابن كثير: 2 / 197.
(2) أخرجه أبو داود في السنة، باب لزوم السنة: 7 / 11، وسكت عنه المنذري، وأخرجه
الترمذي في العلم، باب ما جاء في الأخذ في السنة واجتناب البدع: 7 / 437-442،
وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه في المقدمة، برقم (42 و43): 1 / 15-16، والدارمي
في المقدمة: 1 / 44، وصححه ابن حبان ص(102) من موارد الظمآن، وأخرجه اللالكائي في
شرح أصول الاعتقاد: 1 / 74-75، والآجري في الشريعة ص(46-47)، وابن أبي عاصم في
السنة: 1 / 17-19، وأخرجه الحاكم: 1 / 95 وقال: صحيح ليس له علة. والإمام أحمد: 4
/ 126-127. والمصنف في شرح السنة: 1 / 205.
(3) روي هذا الحديث من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة بألفاظ مختلفة، فقد أخرجه أبو
داود في السنة: 7 / 3-4، والترمذي في الإيمان، باب افتراق هذه الأمة: 7 / 397
وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في الفتن برقم(3991): 2 / 1321، والدارمي في السير: 2 /
241، وابن حبان برقم(1834) من الموارد، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي:
1 / 128-129، والإمام أحمد في المسند: 2 / 232. وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في
السنة: 1 / 7، واللالكائي: 1 / 100، والآجري في الشريعة ص(14-16) وانظر: الوصية
الكبري لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيقنا، ص(45-46) طبع مكتبة الصديق.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
وَشَرَّ
الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا" (1) . وَرَوَاهُ جَابِرٌ مَرْفُوعًا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } قبل: لَسْتَ مِنْ
قِتَالِهِمْ فِي شَيْءٍ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (3) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ
مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ قَالَ:
أَرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
"لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ" أَيْ أَنْتَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ
مِنْكَ بُرَآءُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَلَسْتَ مِنِّي وَلَسْتُ
مِنْكَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بَرِيءٌ مِنْ صَاحِبِهِ، { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ
إِلَى اللَّهِ } يَعْنِي: فِي الْجَزَاءِ وَالْمُكَافَآتِ، { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } إِذَا وَرَدُوا لِلْقِيَامَةِ.
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ
لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }
أَيْ: لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ "عَشَرٌ"
مُنَوَّنٌ، "أَمْثَالُهَا" بِالرَّفْعِ، { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ ثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمَشٍ الزِّيَادِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْقَطَّانُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْقَطَّانُ ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ
بْنِ مُنَبِّهٍ ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَحْسَنَ
أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ
لَهُ بِمِثْلِهَا
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بالسنن: 13 / 251. والمصنف في شرح
السنة 1 / 211. قال ابن حجر في الفتح: "ظاهر سياق الحديث أنه موقوف، لكن
القدر الذي له حكم الرفع منه، قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فإن فيه إخبارا عن صفة من صفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وهو أحد أقسام المرفوع، وقلّ من نبه على ذلك. وهو كالمتفق عليه لتخريج
المصنفين المقتصرين على الأحاديث المرفوعة - الأحاديث الواردة في شمائله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أكثرها يتعلق بصفة خلقه وذاته، كوجهه وشعره، وكذا
بصفة خلقه كحلمه وصفحه. وهذا مندرج في ذلك، مع أن الحديث جاء عن ابن مسعود مصرحا
فيه بالرفع من وجه آخر أخرجه أصحاب السنن، ولكنه ليس على شرط البخاري".
(2) هذه الرواية أخرجها مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم
(867): 2 / 592. والمصنف في شرح السنة: 1 / 211. وانظر فتح الباري: 13 / 253.
(3) انظر فيما سبق التعليق على تفسير الآية (13) من سورة المائدة في هذا الجزء.
ص(32-33).
حَتَّى
يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ" (1) .
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا
الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقْرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ
ذِرَاعًا وَمِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ
أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ
خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً" (2) .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْآيَةُ فِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْحَسَنَاتِ،
فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ تُضَاعَفُ سَبْعَمِائَةَ ضِعْفٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ دِينًا قَيِّمًا } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ
"قِيَمًا" بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ خَفِيفَةً، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْيَاءِ مُشَدَّدًا وَمَعْنَاهُمَا
وَاحِدٌ وَهُوَ الْقَوِيمُ الْمُسْتَقِيمُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى مَعْنَى هَدَانِي
دِينًا قَيِّمًا، { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ }
{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } قِيلَ: أَرَادَ بِالنُّسُكِ الذَّبِيحَةَ فِي
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نُسُكِي: حَجِّي، وَقِيلَ: دِينِي، {
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أَيْ: حَيَاتِي وَوَفَاتِي، { لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } أَيْ: هُوَ يُحْيِينِي وَيُمِيتُنِي، وَقِيلَ: مَحْيَايَ
بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَمَاتِي إِذَا مِتُّ عَلَى الْإِيمَانِ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَقِيلَ: طَاعَتِي فِي حَيَاتِي لِلَّهِ وَجَزَائِي بَعْدَ
مَمَاتِي مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
"وَمَحْيَايْ" بِسُكُونِ الْيَاءِ وَ"مَمَاتِيَ" بِفَتْحِهَا،
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "مَحْيَايَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ لِئَلَّا
يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ } قَالَ قَتَادَةُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب حسن إسلام المرء: 1 / 100، وبنحوه في التوحيد،
ومسلم في الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همّ بسيئة لم تكتب، برقم
(129): 1 / 118-119، والمصنف في شرح السنة: 14 / 338.
(2) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الذكر والدعاء إلى الله تعالى، برقم
(2687): 4 / 2068، والمصنف في شرح السنة: 5 / 25-26.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) }
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: سَيِّدًا وَإِلَهًا { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } وَذَلِكَ أَنَّ
الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ارْجِعْ إِلَى دِينِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ يَقُولُ: اتَّبِعُوا سَبِيلِي أَحْمِلْ عَنْكُمْ أَوْزَارَكُمْ،
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا } لَا
تَجْنِي كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ إِثْمِهِ عَلَى الْجَانِي، { وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حِمْلَ أُخْرَى،
أَيْ: لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ } يَعْنِي: أَهْلَكَ أَهْلَ
الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَأَوْرَثَكُمُ الْأَرْضَ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَجَعَلَكُمْ خَلَائِفَ مِنْهُمْ
فِيهَا تَخْلُفُونَهُمْ فِيهَا وَتُعَمِّرُونَهَا بَعْدَهُمْ، وَالْخَلَائِفُ
جَمْعُ خَلِيفَةٍ كَالْوَصَائِفِ جَمْعُ وَصِيفَةٍ، وَكُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ
مَنْ مَضَى فَهُوَ خَلِيفَةٌ لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ. { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أَيْ: خَالَفَ بَيْنَ أَحْوَالِكُمْ فَجَعَلَ بَعْضَكُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْمَعَاشِ وَالْقُوَّةِ وَالْفَضْلِ،
{ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } لِيَخْتَبِرَكُمْ فِيمَا رَزَقَكُمْ،
يَعْنِي: يَبْتَلِيَ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَالشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ
وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ، لِيَظْهَرَ مِنْكُمْ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ
الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ } لِأَنَّ مَا هُوَ
آتٍ فَهُوَ سَرِيعٌ قَرِيبٌ، قِيلَ: هُوَ الْهَلَاكُ فِي الدُّنْيَا، { وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } قَالَ عَطَاءٌ: سَرِيعُ الْعِقَابِ لِأَعْدَائِهِ غَفُورٌ
لِأَوْلِيَائِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ.
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
سُورَةُ
الْأَعْرَافِ
{ المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا
مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا
بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) }
سورة الأعراف
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ، أَوَّلُهَا "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ التي كانت" 128/أ
{ المص }
{ كِتَابٌ } أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، { أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وَهُوَ الْقُرْآنُ، {
فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } قَالَ مُجَاهِدٌ: شَكٌّ، فَالْخِطَابُ
لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: حَرَجٌ أَيْ ضِيقٌ، مَعْنَاهُ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِالْإِبْلَاغِ وَتَأْدِيَةِ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، { لِتُنْذِرَ بِهِ } أَيْ:
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ، { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أَيْ:
عِظَةٌ لَهُمْ، وَهُوَ رَفْعٌ، مَرْدُودٌ عَلَى الْكِتَابِ.
{ اتَّبِعُوا } أَيْ: وَقُلْ لَهُمُ اتَّبِعُوا: { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أَيْ: لَا تَتَّخِذُوا
غَيْرَهُ أَوْلِيَاءَ تُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، { قَلِيلًا
مَا تَذَكَّرُونَ } تَتَّعِظُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: " يَتَذَكَّرُونَ
" بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ.
{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } بِالْعَذَابِ، { وَكَمْ } لِلتَّكْثِيرِ
وَ"رُبَّ" لِلتَّقْلِيلِ، { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا }
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
عَذَابُنَا،
{ بَيَاتًا } لَيْلًا { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } مِنَ الْقَيْلُولَةِ، تَقْدِيرُهُ:
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوْ نَهَارًا وَهُمْ
قَائِلُونَ، أَيْ نَائِمُونَ ظَهِيرَةً، وَالْقَيْلُولَةُ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ
النَّهَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْمٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ
جَاءَهُمْ بَأْسُنَا وَهُمْ غَيْرُ مُتَوَقِّعِينَ لَهُ إِمَّا لَيْلًا أَوْ
نَهَارًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَ"أَوْ" لِتَصْرِيفِ الْعَذَابِ، مَرَّةً
لَيْلًا وَمَرَّةً نَهَارًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى مَنْ
أَهْلَكْنَاهُمْ لَيْلًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكْنَاهُمْ نَهَارًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ
مَجِيءُ الْبَأْسِ بَعْدَ الْهَلَاكِ؟ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ:
"أَهْلَكْنَا" أَيْ: حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا.
وَقِيلَ: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا هُوَ بَيَانُ قَوْلِهِ "أَهْلَكْنَاهَا"
مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْطَيْتَنِي فَأَحْسَنْتَ إِلَيَّ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَأَعْطَيْتَنِي، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا
بَدَلًا مِنَ الْآخَرِ.
{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا
كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) }
{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } أَيْ: قَوْلُهُمْ وَدُعَاؤُهُمْ وَتَضَرُّعُهُمْ،
وَالدَّعْوَى تَكُونُ بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ وَبِمَعْنَى الدُّعَاءِ، قَالَ
سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ الْعَرَبُ اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوَى
الْمُسْلِمِينَ أَيْ فِي دُعَائِهِمْ، { إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا } عَذَابُنَا، {
إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } مَعْنَاهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
رَدِّ الْعَذَابِ، وَكَانَ حَاصِلَ أَمْرِهِمُ الِاعْتِرَافُ بِالْجِنَايَةِ حِينَ
لَا يَنْفَعُ الِاعْتِرَافُ.
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } يَعْنِي: الْأُمَمَ عَنْ
إِجَابَتِهِمُ الرُّسُلَ، وَهَذَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَا سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ،
يَعْنِي: لَنَسْأَلُهُمْ عَمَّا عَمِلُوا فِيمَا بَلَّغَتْهُمُ الرُّسُلُ، {
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } عَنِ الْإِبْلَاغِ.
{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ } أَيْ: لَنُخْبِرَنَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَنْطِقُ عَلَيْهِمْ كِتَابُ
أَعْمَالِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِّ).(الْجَاثِيَةِ، 29)، { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عَنِ الرُّسُلِ
فِيمَا بَلَّغُوا، وَعَنِ الْأُمَمِ فِيمَا أَجَابُوا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } يَعْنِي: يَوْمَ
السُّؤَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ وَالْقَضَاءُ يَوْمَئِذٍ الْعَدْلُ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَرَادَ بِهِ وَزْنَ الْأَعْمَالِ بِالْمِيزَانِ، وَذَاكَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْصِبُ مِيزَانًا لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ كُلُّ
كِفَّةٍ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
وَاخْتَلَفُوا
فِي كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ:
وَرُوِّينَا: "أَنَّ رَجُلًا يُنْشَرُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ
سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، فَيُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا
شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ،
فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ" (1) .
وَقِيلَ: تُوزَنُ الْأَشْخَاصُ، وَرُوِّينَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ
السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ
بَعُوضَةٍ" (2) .
وَقِيلَ: تُوزَنُ الْأَعْمَالُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيُؤْتَى
بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ عَلَى صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَبِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ
عَلَى صُورَةٍ قَبِيحَةٍ فَتُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِي وَزْنِ
الْأَعْمَالِ امْتِحَانُ اللَّهِ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا
وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الْعُقْبَى، { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَسَنَاتُهُ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا
كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في الإيمان، باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله: 7 /
395-397، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه في الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم
القيامة، برقم(4300): 2 / 1437، وصححه الحاكم: 1 / 6، وابن حبان ص(625) من
الموارد، وأخرجه الإمام أحمد: 2 / 213، والمصنف في شرح السنة: 15 / 134.
(2) أخرجه البخاري في التفسير، باب "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه
فحبطت أعمالهم": 8 / 426، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفة القيامة
والجنة والنار، برقم(2785): 4 / 2147، والمصنف في شرح السنة: 15 / 143.
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) }
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا
كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } يَجْحَدُونَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا،
وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ غَدًا أَنْ
يَكُونَ ثَقِيلًا وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي
الدُّنْيَا،
وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْبَاطِلُ غَدًا أَنْ
يَكُونَ خَفِيفًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: "مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ" ذُكِرَ
بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْمِيزَانُ وَاحِدٌ؟ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ
جَمْعًا وَمَعْنَاهُ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ"،
وَقِيلَ: لِكُلِّ عَبْدٍ مِيزَانٌ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ عَظِيمٌ،
وَلِكُلِّ عَبْدٍ فِيهِ مِيزَانٌ مُعَلَّقٌ بِهِ، وَقِيلَ جَمَعَهُ: لِأَنَّ
الْمِيزَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْكِفَّتَيْنِ وَالشَّاهِدَيْنِ وَاللِّسَانِ،
وَلَا يَتِمُّ الْوَزْنُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: مَكَّنَّاكُمْ
وَالْمُرَادُ مِنَ التَّمْكِينِ التَّمْلِيكُ وَالْقُدْرَةُ، { وَجَعَلْنَا لَكُمْ
فِيهَا مَعَايِشَ } أَيْ: أَسْبَابًا تَعِيشُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ مِنَ
التِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ وَالْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمُعَايِشُ جَمْعُ
الْمَعِيشَةِ، { قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } فِيمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقْنَاكُمْ، أَيْ: أُصُولَكُمْ وَآبَاءَكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ
وَالسُّدِّيُّ: أَمَّا "خَلَقْنَاكُمْ" فَآدَمُ، وَأَمَّا
"صَوَّرْنَاكُمْ" فَذُرِّيَّتُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي خَلَقْنَاكُمْ:
آدَمُ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ
أَبُو الْبَشَرِ فَفِي خَلْقِهِ خَلْقُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ، وَقِيلَ:
خَلَقْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ حِينَ
أَخْرَجَكُمْ كَالذَّرِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ
الرِّجَالِ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَقَالَ يَمَانٌ:
خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ صَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ
وَأَصَابِعَهُ. وَقِيلَ: الْكُلُّ آدَمُ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَ"ثُمَّ"
بِمَعْنَى الْوَاوِ.
{ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ
بِسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ بَنِي آدَمَ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ
"ثُمَّ قُلْنَا" وَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَلِلتَّرَاخِي؟ قِيلَ: عَلَى
قَوْلِ مَنْ يَصْرِفُ الْخَلْقَ وَالتَّصْوِيرَ إِلَى آدَمَ وَحْدَهُ يَسْتَقِيمُ
هَذَا الْكَلَامُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَصْرِفُهُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ:
فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا "ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَقُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ، فَلَا تَكُونُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ "ثُمَّ" أُخْبِرُكُمْ أَنَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا.
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ،
يَعْنِي: آدَمَ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَسَجَدُوا } يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، { إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } لِآدَمَ.
{ قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى يَا إِبْلِيسُ: { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ } أَيْ: وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
وَ"لَا"
زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَنَّهُمْ لا يرجعون" 128/ب (الْأَنْبِيَاءِ، 95). { قَالَ } إِبْلِيسُ
مُجِيبًا { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } لِأَنَّكَ { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وَالنَّارُ خَيْرٌ وَأَنْوَرُ مِنَ الطِّينِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فَأَخْطَأَ الْقِيَاسَ،
فَمَنْ قَاسَ الدِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِهِ قَرَنَهُ اللَّهُ مَعَ إِبْلِيسَ.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: ظَنَّ الْخَبِيثُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ
الطِّينِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْفَضْلَ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْفَضْلَ،
وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الطِّينَ عَلَى النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ مِنْ
جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةُ وَالْوَقَارُ وَالْحِلْمُ وَالصَّبْرُ وَهُوَ
الدَّاعِي لِآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ
وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ فَأَوْرَثَهُ الِاجْتِبَاءَ وَالتَّوْبَةَ
وَالْهِدَايَةَ، وَمِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْحِدَّةُ
وَالِارْتِفَاعُ وَهُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي
سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِصْرَارِ، فَأَوْرَثَهُ اللَّعْنَةَ
وَالشَّقَاوَةَ، وَلِأَنَّ الطِّينَ سَبَبُ جَمْعِ الْأَشْيَاءِ وَالنَّارَ سَبَبُ
تَفَرُّقِهَا وَلِأَنَّ التُّرَابَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ حَيَاةَ
الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ بِهِ، وَالنَّارُ سَبَبُ الْهَلَاكِ.
{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ
إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا } أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ:
مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَكَانَ لَهُ مُلْكُ الْأَرْضِ فَأَخْرَجَهُ
مِنْهَا إِلَى جَزَائِرِ الْبَحْرِ وَعَرْشُهُ فِي الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ، فَلَا
يَدْخُلُ الْأَرْضَ إِلَّا خَائِفًا عَلَى هَيْئَةِ السَّارِقِ مِثْلَ شَيْخٍ
عَلَيْهِ أَطْمَارٌ يَرُوعُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ } بِمُخَالَفَةِ
الْأَمْرِ، { فِيهَا } أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْكُنَ فِي
الْجَنَّةِ وَلَا السَّمَاءِ مُتَكَبِّرٌ مُخَالِفٌ لأمر الله تعال: { فَاخْرُجْ
إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } مِنَ الْأَذِلَّاءِ، وَالصَّغَارُ: الذُّلُّ
وَالْمَهَانَةُ.
{ قَالَ } إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ، { أَنْظِرْنِي } أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي
فَلَا تُمِتْنِي، { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُوَ
النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَرَادَ الْخَبِيثُ أَنْ لَا
يَذُوقَ الْمَوْتَ.
{
قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى، { إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ } الْمُؤَخَّرِينَ،
وَبَيَّنَ مُدَّةَ النَّظَرِ وَالْمُهْلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ:(إِلَى
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)،(الْحِجْرِ، 38)، وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى
حِينَ يَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ.
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } اخْتَلَفُوا فِي "مَا" قِيلَ: هُوَ
اسْتِفْهَامٌ يَعْنِي فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } وَقِيلَ: "مَا" الْجَزَاءُ، أَيْ: لِأَجْلِ
أَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي لَأَحْقِدَنَّ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ "مَا"
الْمَصْدَرِيَّةُ مَوْضِعُ الْقَسَمِ تَقْدِيرُهُ: فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ
لَأَقْعَدْنَ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ "بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي"(يَسٍ، 27)،
يَعْنِي: لِغُفْرَانِ رَبِّي.
وَالْمَعْنَى بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ وَنَفَاذِ سُلْطَانِكَ فِيَّ. وَقَالَ ابْنُ
الأنباري: أي فيما أَوْقَعْتَ فِي قَلْبِي مِنَ الْغَيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ
هُبُوطِي مِنَ السَّمَاءِ، أَغْوَيْتَنِي: أَضْلَلْتَنِي عَنِ الْهُدَى. وَقِيلَ:
أَهْلَكْتَنِي، وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي، { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ } أَيْ: لَأَجْلِسَنَّ لِبَنِي آدَمَ عَلَى طَرِيقِكِ الْقَوِيمِ
وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أَيْ مِنْ قِبَلِ
الْآخِرَةِ فَأُشَكِّكُهُمْ فِيهَا، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أُرَغِّبُهُمْ فِي
دُنْيَاهُمْ، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أُشْبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ. {
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أُشَهِّي لَهُمُ الْمَعَاصِي، وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، يَعْنِي
أُزَيِّنُهَا فِي قُلُوبِهِمْ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ
فَأَقُولُ: لَا بَعْثَ، وَلَا نُشُورَ، وَلَا جَنَّةَ، وَلَا نَارَ، { وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ } مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } مِنْ قِبَلِ
سَيِّئَاتِهِمْ.
وَقَالَ الْحَكَمُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا يُزَيِّنُهَا
لَهُمْ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ: مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ يُثَبِّطُهُمْ عَنْهَا، وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ: مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ:
مِنْ قِبَلِ الْبَاطِلِ يُزَيِّنُهُ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ،
وَمِنْ خَلْفِهِمْ: مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا يُزَيِّنُهَا لَهُمْ وَيَدْعُوهُمْ
إِلَيْهَا، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ: مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمْ عَنْهَا،
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ: زَيَّنَ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَدَعَاهُمْ
إِلَيْهَا أَتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ
يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ
اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ
حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا
يُبْصِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ
أَيْ لَا يُخْطِئُونَ وَحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ
يُخْطِئُونَ.
{ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ
عَلِمَ الْخَبِيثُ ذَلِكَ؟ قِيلَ: قَالَهُ ظَنًّا فَأَصَابَ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ"(سَبَأٍ، 20).
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ
أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ (21) }
{ قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ، { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
} أَيْ: مَعِيبًا، وَالذَّيْمُ وَالذَّأْمُ أَشَدُّ الْعَيْبِ، يُقَالُ: ذَأَمَهُ
يَذْأَمُهُ ذَأْمًا فَهُوَ مَذْءُومٌ وَذَامَهُ يَذِيمُهُ ذَامًّا فَهُوَ مَذِيمٌ،
مِثْلَ سَارَ يَسِيرُ سَيْرًا، وَالْمَدْحُورُ: الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ،
يُقَالُ: دَحَرَهُ يَدْحَرُهُ دَحْرًا إِذَا أَبْعَدَهُ وَطَرَدَهُ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مَذْءُومًا أَيْ مَمْقُوتًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَذْءُومًا مَدْحُورًا:
أَيْ لَعِينًا مَنْفِيًّا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَذْءُومًا، مَدْحُورًا:
مَقْصِيًّا مِنَ الْجَنَّةِ وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ. { لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ }
مِنْ بَنِي آدَمَ، { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، {
مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } أَيْ: مِنْكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِكَ وَمِنْ كُفَّارِ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ أَجْمَعِينَ.
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } أَيْ: إِلَيْهِمَا، وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثٌ
يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ
عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا } أَيْ: أَظْهَرَ لَهُمَا مَا غُطِّيَ وَسُتِرَ
عَنْهُمَا مِنْ عَوْرَاتِهِمَا، قِيلَ: اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ
وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يُوَسْوِسْ بِهَذَا وَلَكِنْ كَانَ عَاقِبَةَ
أَمْرِهِمْ ذَلِكَ، وَهُوَ ظُهُورُ عَوْرَتِهِمَا، كقوله تعالى: "فالتقطته
آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا"(الْقَصَصِ، 8)، ثُمَّ
بَيَّنَ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ: { وَقَالَ } يَعْنِي: إِبْلِيسُ لِآدَمَ
وَحَوَّاءَ { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ
تَكُونَا مَلَكَيْنِ } يَعْنِي: لِئَلَّا تَكُونَا، كَرَاهِيَةَ أَنْ تَكُونَا
مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَعْلَمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، { أَوْ
تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } مِنَ الْبَاقِينَ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ كَمَا
قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ
لَا يَبْلَى"(طه، 120).
{ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } أَيْ: وَأَقْسَمَ
وَحَلَفَ لَهُمَا وَهَذَا مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ،
قَالَ قَتَادَةُ: حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ حَتَّى خَدَعَهُمَا، وَقَدْ يُخْدَعُ
الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ، فَقَالَ: إِنِّي خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ
مِنْكُمَا فَاتَّبِعَانِي أُرْشِدْكُمَا، وَإِبْلِيسُ أَوَّلُ مَنْ حَلَفَ
بِاللَّهِ كَاذِبًا، فَلَمَّا حَلَفَ ظَنَّ
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
آدَمُ
أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِبًا، فَاغْتَرَّ بِهِ.
{ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ
لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) }
{ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } أَيْ: خَدَعَهُمَا، يُقَالُ: مَا زَالَ فُلَانٌ
يُدَلِّي لِفُلَانٍ بِغُرُورٍ، يَعْنِي: مَا زَالَ يَخْدَعُهُ وَيُكَلِّمُهُ
بِزُخْرُفٍ بَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ.
وَقِيلَ: حَطَّهُمَا مِنْ مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إِلَى حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ،
وَلَا يَكُونُ التَّدَلِّي إِلَّا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَالتَّدْلِيَةُ:
إِرْسَالُ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ، يُقَالُ: تَدَلَّى بِنَفْسِهِ وَدَلَّى
غَيْرَهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُهُ: تَدْلِيَةُ الْعَطْشَانِ الْبِئْرَ
لِيُرْوَى مِنَ الْمَاءِ وَلَا يجد الماء 128/ب فَيَكُونُ مُدَلًّى بِغُرُورٍ،
وَالْغُرُورُ: إِظْهَارُ النُّصْحِ مَعَ إِبْطَانِ الْغِشِّ.
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } قَالَ الْكَلْبِيُّ:
فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ أَنِ ازْدَرَدَا أَخَذَتْهُمَا الْعُقُوبَةُ،
وَالْعُقُوبَةُ أَنْ "بَدَتْ" ظَهَرَتْ لَهُمَا
"سَوْآتُهُمَا" عَوْرَاتُهُمَا، وَتَهَافَتَ عَنْهُمَا لِبَاسُهُمَا
حَتَّى أَبْصَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُ مِنْ عَوْرَةِ
صَاحِبِهِ، وَكَانَا لَا يَرَيَانِ ذَلِكَ. قَالَ وَهْبٌ: كَانَ لِبَاسُهُمَا مِنَ
النُّورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ظُفُرًا أَلْبَسَهُمَا اللَّهُ مِنَ الظُّفُرِ
لِبَاسًا فَلَمَّا وَقَعَا فِي الذَّنْبِ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
فَاسْتَحَيَا، { وَطَفِقَا } أَقْبَلَا وَجَعَلَا { يَخْصِفَانِ } يُرَقِّعَانِ
وَيَلْزَقَانِ وَيَصِلَانِ، { عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } وَهُوَ وَرَقُ
التِّينِ حَتَّى صَارَ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجْعَلَانِ وَرَقَةً عَلَى وَرَقَةٍ لِيَسْتُرَا
سَوْآتِهِمَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ آدَمُ رَجُلًا طِوَالًا كَأَنَّهُ
نَخْلَةٌ سُحُوقٌ (1) كَثِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ
بَدَتْ لَهُ سَوْأَتُهُ، وَكَانَ لَا يَرَاهَا فَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي
الْجَنَّةِ، فَعَرَضَتْ لَهُ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ فَحَبَسَتْهُ
بِشَعْرِهِ، فَقَالَ لَهَا: أَرْسِلِينِي، قَالَتْ: لَسْتُ بِمُرْسِلَتِكَ،
فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا آدَمُ أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنِ
اسْتَحْيَيْتُكَ" (2) .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ }
يَعْنِي: الْأَكْلَ مِنْهَا، { وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا
عَدُوٌّ مُبِينٌ }
__________
(1) هي النخلة الطويلة المفرطة في الطول التي تبعد ثمرها عن المجتني.
(2) أخرجه ابن جرير مرفوعا وموقوفا: 12 / 352 و354، قال ابن كثير: 2 / 207
"وقد رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن عن أبي بن كعب عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا". وصححه
السند إلى أُبي رضي الله عنه، لا تعني صحة الخبر في ذاته، فهذه التفصيلات الغيبية،
لا دليل ثابت على صحتها، وغالبا ما تكون متلقاة من أهل الكتاب، والله أعلم.
أَيْ:
بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: نَادَاهُ رَبُّهُ يَا آدَمُ
أَكَلْتَ مِنْهَا وَقَدْ نَهَيْتُكَ؟ قَالَ: رَبِّ أَطْعَمَتْنِي حَوَّاءُ، قَالَ
لِحَوَّاءَ: لِمَ أَطْعَمْتِيهِ؟ قَالَتْ: أَمَرَتْنِي الْحَيَّةُ، قَالَ
لِلْحَيَّةِ: لِمَ أَمَرْتِيهَا؟ قَالَتْ: أَمَرَنِي إِبْلِيسُ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: أَمَّا أَنْتِ يَا حَوَّاءُ فَكَمَا أَدْمَيْتِ الشَّجَرَةَ فَتَدْمِينَ
كُلَّ شَهْرٍ، وَأَمَّا أَنْتِ يَا حَيَّةُ فَأَقْطَعُ قَوَائِمَكِ فَتَمْشِينَ
عَلَى بَطْنِكِ وَوَجْهِكِ، وَسَيَشْدَخُ رَأْسَكِ مَنْ لَقِيَكِ، وَأَمَّا أَنْتَ
يَا إِبْلِيسُ فَمَلْعُونٌ مَدْحُورٌ (1) .
__________
(1) تقدمت الإشارة إلى ضعف الروايات في ذلك، وأنها مستقاة من الإسرائيليات، وخبر
محمد بن قيس هذا: أخرجه الطبري في التفسير: 1 / 530-531، 12 / 354، وفي التاريخ: 1
/ 109.
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ
فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي
آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (26) }
{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } يَعْنِي فِي الْأَرْضِ تَعِيشُونَ، { وَفِيهَا
تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ تُخْرَجُونَ مِنْ
قُبُورِكُمْ لِلْبَعْثِ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {
تَخْرُجُونَ } بِفَتْحِ التَّاءِ هَاهُنَا وَفِي الزُّخْرُفِ، وَافَقَ يَعْقُوبُ
هَاهُنَا وَزَادَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "وَكَذَلِكَ تَخْرُجُونَ"
فِي أَوَّلِ الرُّومِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ
فِيهِنَّ.
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ } أَيْ: خَلَقْنَا لَكُمْ {
لِبَاسًا } وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "أَنْزَلْنَا" لِأَنَّ اللِّبَاسَ
إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَالنَّبَاتُ يَكُونُ بِمَا يَنْزِلُ
مِنَ السَّمَاءِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: { أَنْزَلْنَا } أَيْ: أَنْزَلْنَا
أَسْبَابَهُ. وَقِيلَ: كُلُّ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى بَرَكَاتِ
السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ"(سُورَةِ
الْحَدِيدِ، 25)، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ الْحَدِيدُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَيَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ فِي
ثِيَابٍ
عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، فَكَانَ الرِّجَالُ يَطُوفُونَ بِالنَّهَارِ
وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ عُرَاةً.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ وَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَرْجِهَا
وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا
أُحِلُّهُ
فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالسَّتْرِ فَقَالَ: { قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } (1) يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ، وَاحِدَتُهَا
سَوْأَةٌ، سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهَا انْكِشَافُهَا، فَلَا
تَطُوفُوا عُرَاةً، { وَرِيشًا } يَعْنِي: مَالًا فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ: يُقَالُ: تَرَيَّشَ الرَّجُلُ إِذَا
تَمَوَّلَ، وَقِيلَ: الرِّيشُ الْجَمَالُ، أَيْ: مَا يَتَجَمَّلُونَ بِهِ مِنَ
الثِّيَابِ، وَقِيلَ: هُوَ اللِّبَاسُ.
{ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ
عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ " وَلِبَاسَ " بِنَصْبِ السِّينِ عَطْفًا عَلَى
قَوْلِهِ { لِبَاسًا } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ
وَخَبَرُهُ { خَيْرٌ } وَجَعَلُوا { ذَلِكَ } صِلَةً فِي الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ
قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ
خَيْرٌ }
وَاخْتَلَفُوا فِي { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ:
لِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ الْإِيمَانُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْحَيَاءُ
لِأَنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى التَّقْوَى.
وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَعَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ قَالَ: السَّمْتُ الْحَسَنُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لِبَاسُ التَّقْوَى خَشْيَةُ اللَّهِ، وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْعَفَافُ. وَالْمَعْنَى: لِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ
لِصَاحِبِهِ إِذَا أَخَذَ بِهِ مِمَّا خَلَقَ لَهُ مِنَ اللِّبَاسِ لِلتَّجَمُّلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ اللِّبَاسُ الْأَوَّلُ
وَإِنَّمَا أَعَادَهُ إِخْبَارًا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ خَيْرٌ مِنَ
التَّعَرِّي فِي الطَّوَافِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لِبَاسُ التَّقْوَى الْآلَاتُ الَّتِي يُتَّقَى
بِهَا فِي الْحَرْبِ كَالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَالسَّاعِدِ وَالسَّاقَيْنِ.
وَقِيلَ: لِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ الصُّوفُ وَالثِّيَابُ الْخَشِنَةُ الَّتِي
يَلْبَسُهَا أَهْلُ الْوَرَعِ. { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ }
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص(259-260)، ابن كثير: 2 / 209، 211.
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا
جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا
بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ (29) }
{ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } لَا يُضِلَّنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ، { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ } أَيْ: كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ
آدَمَ وَحَوَّاءَ فَأَخْرَجَهُمَا، { مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } لِيَرَى كُلٌّ وَاحِدٍ سَوْأَةَ
الْآخَرِ، { إِنَّهُ يَرَاكُمْ } يَعْنِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاكُمْ يَا بَنِي
آدَمَ، { هُوَ وَقَبِيلُهُ } جُنُودُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ وَوَلَدُهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَبِيلُهُ: الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، { مِنْ حَيْثُ لَا
تَرَوْنَهُمْ } قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ عَدُوًّا يَرَاكَ وَلَا
تَرَاهُ لَشَدِيدُ الْخُصُومَةِ وَالْمُؤْنَةِ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، {
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ } قُرَنَاءَ وَأَعْوَانًا، {
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُلْطَانُهُمْ عَلَيْهِمْ
يَزِيدُونَ فِي غَيِّهِمْ كَمَا قَالَ:(أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مَرْيَمَ-83].
{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ
طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً. وَقَالَ عَطَاءٌ: الشِّرْكُ وَالْفَاحِشَةُ،
اسْمٌ لِكُلِّ فِعْلٍ قَبِيحٍ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الْقُبْحِ. { قَالُوا
وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وَفِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ: وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً فَنُهُوا عَنْهَا قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا. قِيلَ: وَمَنْ
أَيْنَ أَخَذَ آبَاؤُكُمْ؟ قَالُوا: { وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ }
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ:
بِالْعَدْلِ. { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قَالَ مُجَاهِدٌ
وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي وَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ
إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَأَنْتُمْ
عِنْدَ مَسْجِدٍ فَصَلُّوا فِيهِ وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدَكُمْ أُصَلِّي فِي
مَسْجِدِي. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اجْعَلُوا سُجُودَكُمْ لِلَّهِ خَالِصًا، {
وَادْعُوهُ } وَاعْبُدُوهُ، { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الطَّاعَةَ
وَالْعِبَادَةَ، { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ خَلْقَ بَنِي آدَمَ مؤمنا وكافرا 129/أ كَمَا قَالَ:
"هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ"(التَّغَابُنِ، 2)، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا
خَلَقَهُمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُبْعَثُونَ عَلَى مَا مَاتُوا
عَلَيْهِ.
أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ
حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى
مَا مَاتَ عَلَيْهِ، الْمُؤْمِنُ عَلَى إِيمَانِهِ وَالْكَافِرُ عَلَى كُفْرِهِ"
(1) .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَادُوا عَلَى عَمَلِهِ فِيهِمْ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: كَمَا كَتَبَ عَلَيْكُمْ تَكُونُونَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَى الشَّقَاوَةِ
صَارَ إِلَيْهَا وَإِنْ عَمِلَ أَهْلِ السَّعَادَةِ، كَمَا أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ
يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ثُمَّ صَارَ إِلَى الشقاوة، ومن ابتداء
خَلْقَهُ عَلَى السَّعَادَةِ صَارَ إِلَيْهَا وَإِنَّ عَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ
الشَّقَاءَ، وَكَمَا أَنَّ السَّحَرَةَ كَانَتْ تَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الشَّقَاوَةِ فَصَارُوا إِلَى السَّعَادَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا عَلِيُّ
بْنُ الْجَعْدِ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ
سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى
النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا
الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ" (2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: كَمَا بَدَأَكُمْ وَخَلَقَكُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، كَذَلِكَ تَعُودُونَ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ"(الْأَنْبِيَاءِ، 104)، قَالَ قَتَادَةُ: بَدَأَهُمْ مِنَ
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت،
برقم(2878): 4 / 2206، والمصنف في شرح السنة: 14 / 402 - دون قوله "المؤمن
على إيمانه".
(2) أخرجه مسلم في الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم (112): 1 / 106،
وفيه قصة، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 1 / 150.
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
التُّرَابِ
وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُونَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ"(طَهَ، 55).
{ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ (30) }
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَرِيقًا هَدَى } أَيْ هَدَاهُمُ اللَّهُ، { وَفَرِيقًا
حَقَّ } وَجَبَ { عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أَيْ: بِالْإِرَادَةِ السَّابِقَةِ، {
إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي يَظُنُّ
أَنَّهُ فِي دِينِهِ عَلَى الْحَقِّ وَالْجَاحِدَ وَالْمُعَانِدَ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَتْ بَنُو عَامِرٍ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ
عُرَاةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، يَعْنِي الثِّيَابَ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
مَا يُوَارِي عَوْرَتَكَ وَلَوْ عَبَاءَةٌ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: الزِّينَةُ مَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
لِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ.
{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَتْ بَنُو عَامِرٍ لَا
يَأْكُلُونَ فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا وَلَا
يَأْكُلُونَ دَسَمًا، يُعَظِّمُونَ بِذَلِكَ حَجَّهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: "وَكُلُوا" يَعْنِي اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ
"وَاشْرَبُوا" اللَّبَنَ (1) { وَلَا تُسْرِفُوا } بِتَحْرِيمِ مَا
أَحِلَّ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّسَمِ، { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ } الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا
شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ
كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ فَقَالَ: "كلوا وَاشْرَبُوا وَلَا
تُسْرِفُوا".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ } يَعْنِي لِبْسَ الثِّيَابِ فِي الطَّوَافِ، { وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ } يَعْنِي اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ مَا حَرَّمَ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ.
{ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: هِيَ لِلَّذِينِ آمَنُوا
وَلِلْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ
يُشَارِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ
خَالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا حَظَّ لِلْمُشْرِكِينَ فِيهَا.
وَقِيلَ: هِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ التَّنْغِيصِ وَالْغَمِّ
لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ التَّنْغِيصِ وَالْغَمِّ.
قَرَأَ نَافِعٌ { خَالِصَةٌ } رَفْعٌ، أَيْ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينِ آمَنُوا
مُشْتَرِكِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ خَالِصَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ،
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص(260).
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) }
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }
يَعْنِي: الطَّوَافُ عُرَاةً { مَا ظَهَرَ } طَوَافُ الرِّجَالِ بِالنَّهَارِ {
وَمَا بَطَنَ } طَوَافُ النِّسَاءِ بِاللَّيْلِ. وَقِيلَ: هُوَ الزِّنَا سِرًّا
وَعَلَانِيَةً.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرَّةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ
قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَهُ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا
أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ
فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالْإِثْمَ } يَعْنِي: الذَّنْبَ وَالْمَعْصِيَةَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الذَّنْبُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ. قَالَ الْحَسَنُ:
الْإِثْمُ: الْخَمْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي
... كَذَاكَ الْإِثْمُ تَذْهَبُ بِالْعُقُولِ
{ وَالْبَغْيَ } الظُّلْمَ وَالْكِبْرَ، { بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } حُجَّةً وَبُرْهَانًا، { وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فِي تَحْرِيمِ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ عَامٌّ فِي
تَحْرِيمِ الْقَوْلِ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ.
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } مُدَّةٌ، وَأَكْلٌ وَشُرْبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَعَطَاءٌ وَالْحُسْنُ: يَعْنِي وَقْتًا لِنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، { فَإِذَا
جَاءَ أَجَلُهُمْ } وَانْقَطَعَ أَكْلُهُمْ، { لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ } أَيْ: وَلَا يَتَقَدَّمُونَ. وَذَلِكَ حِينَ سَأَلُوا
الْعَذَابَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
قوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } أَيْ:
أَنْ يَأْتِيَكُمْ. قِيلَ: أَرَادَ جَمِيعَ الرُّسُلِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، سورة الأنعام، باب "ولا تقربوا الفواحش":
8 / 296، وفي التوحيد، وفي النكاح، ومسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم
الفواحش، برقم(2760): 4 / 2113-2114.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: { يَا بَنِي آدَمَ } مُشْرِكِي الْعَرَبِ
وَبِالرُّسُلِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، {
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي،
{ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ } أَيْ: اتَّقَى الشِّرْكَ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ.
وَقِيلَ: أَخْلَصَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }
إِذَا خَافَ النَّاسُ، { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أَيْ: إِذَا حَزِنُوا.
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ
الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ
مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) }
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا } تَكْبَّرُوا عَنِ
الْإِيمَانِ بِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الِاسْتِكْبَارَ لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ
وَكَافِرٍ مُتَكَبِّرٌ. قَالَ الله تعالى "نهم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ"(الصَّافَّاتِ، 35)، { أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا، { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } بِالْقُرْآنِ، { أُولَئِكَ
يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } أَيْ: حَظُّهُمْ مِمَّا كَتَبَ لَهُمْ
فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ:
مَا كَتَبَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَقَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ سَوَادِ الْوُجُوهِ
وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ. قَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُتِبَ لِمَنْ
يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ أَنَّ وَجْهَهُ مُسْوَدٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ"(الزُّمَرِ، 60).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ
وَالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عباس وقتادة 129/ب وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي أَعْمَالُهُمُ الَّتِي
عَمِلُوهَا وَكَتَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَجْزِي عَلَيْهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: مَا كَتَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ
وَالْآجَالِ وَالْأَعْمَالِ فَإِذَا فَنِيَتْ، { جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ يَعْنِي مَلَكَ الْمَوْتِ
وَأَعْوَانَهُ، { قَالُوا } يَعْنِي يَقُولُ الرُّسُلُ لِلْكَافِرِ، { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
تَدْعُونَ } تَعْبُدُونَ، { مِنْ دُونِ اللَّهِ } سُؤَالَ تَبْكِيتٍ وَتَقْرِيعٍ،
{ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } بَطَلُوا وَذَهَبُوا عَنَّا، { وَشَهِدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ } اعْتَرَفُوا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ، { أَنَّهُمْ كَانُوا
كَافِرِينَ }
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى
إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا
هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ
ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا
كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا
لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى
يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) }
{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ } يَعْنِي: يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ، أَيْ: مَعَ جَمَاعَاتٍ، { قَدْ خَلَتْ }
مَضَتْ، { مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ } يَعْنِي
كُفَّارَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
} يُرِيدُ أُخْتَهَا فِي الدِّينِ لَا فِي النَّسَبِ، فَتَلْعَنُ الْيَهُودُ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى النَّصَارَى، وَكُلُّ فِرْقَةٍ تَلْعَنُ أُخْتَهَا
وَيَلْعَنُ الْأَتْبَاعُ الْقَادَةَ، وَلَمْ يَقُلْ أَخَاهَا لِأَنَّهُ عَنَى
الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا } أَيْ:
تَدَارَكُوا وَتَلَاحَقُوا وَاجْتَمَعُوا فِي النَّارِ، { جَمِيعًا قَالَتْ
أُخْرَاهُمْ } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أُخْرَاهُمْ دُخُولًا النَّارَ وَهُمُ
الْأَتْبَاعُ، { لِأُولَاهُمْ } أَيْ: لِأُولَاهُمْ دُخُولًا وَهُمُ الْقَادَةُ،
لِأَنَّ الْقَادَةَ يَدْخُلُونَ النَّارَ أَوَّلًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي آخَرَ كُلِّ أُمَّةٍ لِأُولَاهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَهْلُ آخِرِ
الزَّمَانِ لِأُولَاهُمُ الَّذِينَ شَرَعُوا لَهُمْ ذَلِكَ الدِّينَ، { رَبَّنَا
هَؤُلَاءِ } الَّذِينَ، { أَضَلُّونَا } عَنِ الْهُدَى يَعْنِي الْقَادَةَ {
فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ } أَيْ: ضَعِّفْ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ،
{ قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى، { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } يَعْنِي لِلْقَادَةِ
وَالْأَتْبَاعِ ضِعْفٌ مِنَ الْعَذَابِ، { وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } مَا لِكُلِّ
فَرِيقٍ مِنْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: "وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ"، وَقَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ "لَا يَعْلَمُونَ" بِالْيَاءِ، أَيْ: لَا يَعْلَمُ الْأَتْبَاعُ
مَا لِلْقَادَةِ وَلَا الْقَادَةِ مَا لِلْأَتْبَاعِ.
{ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ } يَعْنِي الْقَادَةَ { لِأُخْرَاهُمْ } لِلْأَتْبَاعِ، {
فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } لِأَنَّكُمْ كَفَرْتُمْ كَمَا
كَفَرْنَا فَنَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي الْكُفْرِ سَوَاءٌ وَفِي الْعَذَابِ سَوَاءٌ، {
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ
لَهُمْ } بِالتَّاءِ، خَفَّفَ أَبُو عَمْرٍو، وَبِالْيَاءِ
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
خَفَّفَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مُشَدَّدَةً، { أَبْوَابُ
السَّمَاءِ } لِأَدْعِيَتِهِمْ وَلَا لِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لِأَرْوَاحِهِمْ لِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ لَا يُصْعَدُ بِهَا بَلْ يُهْوَى بِهَا
إِلَى سِجِّينٍ، إِنَّمَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِأَرْوَاحِ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَدْعِيَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، { وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } أَيْ: حَتَّى يَدْخُلَ الْبَعِيرُ
فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ، وَالْخِيَاطُ وَالْمَخِيطُ الْإِبْرَةُ، وَالْمُرَادُ
مِنْهُ: أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا
عُلِّقَ بِمَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَأْكِيدِ الْمَنْعِ،
كَمَا يُقَالُ: لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ أَوْ يَبْيَضَّ
الْقَارُ، يُرِيدُ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا. { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }
{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (43) }
{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أَيْ: فِرَاشٌ، { وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ }
أَيْ: لُحُفٌ، وَهِيَ جَمْعُ غَاشِيَةٍ، يَعْنِي مَا غَشَّاهُمْ وَغَطَّاهُمْ،
يُرِيدُ إِحَاطَةَ النَّارِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ،
"لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ
ظُلَلٌ"(الزُّمَرِ، 16)، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا } أَيْ: طَاقَتَهَا وَمَا لَا تُحْرَجُ فِيهِ وَلَا تَضِيقُ عَلَيْهِ، {
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
{ وَنَزَعْنَا } وَأَخْرَجْنَا، { مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } مِنْ غِشٍّ
وَعَدَاوَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَجَعَلْنَاهُمْ إِخْوَانًا عَلَى
سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَحْسُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى شَيْءٍ خَصَّ
اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ. { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ } رَوَى
الْحَسَنُ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فِينَا وَاللَّهِ أَهِلُ
بِدْرٍ نَزَلَتْ: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى
سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } (1) .
وَقَالَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا: إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ
أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص(64): "ورواه ابن سعد من رواية جعفر
بن محمد عن أبيه، والطبري من رواية معمر عن قتادة عن علي، وكلاهما منقطع. وفي ابن
أبي شيبة من رواية ربحي عن علي، وهو متصل".
لَهُمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى
قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ
مَظَالِمٌ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا
أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لِأَحَدِهِمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي
الدُّنْيَا" (1) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا سِيقُوا
إِلَى الْجَنَّةِ وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً، فِي أَصْلِ سَاقِهَا
عَيْنَانِ، فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَيُنْزَعُ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ، فَهُوَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْأُخْرَى فَجَرَتْ
عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَلَنْ يَشْعَثُوا وَلَنْ يَسْحَنُوا بَعْدَهَا
أَبَدًا، أَيْ إِلَى هَذَا، يَعْنِي طَرِيقَ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَعْنَاهُ هَدَانَا لِعَمَلٍ هَذَا ثَوَابُهُ، {
وَمَا كُنَّا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "مَا كُنَّا" بِلَا وَاوٍ، {
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ } هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَوْا مَا وَعَدَهُمُ
الرُّسُلُ عَيَانًا، { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قِيلَ: هَذَا النِّدَاءُ إِذَا رَأَوُا الْجَنَّةَ مِنْ
بَعِيدٍ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ.
وَقِيلَ: هَذَا النِّدَاءُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ
الْخَطِيبُ أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْأَغَرِّ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ
لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا
فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا
أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: "وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ، أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ
عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ
مَرْفُوعًا (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب القصاص يوم القيامة: 11 / 395، وفي المظالم،
والمصنف في شرح السنة: 15 / 196.
(2) أخرجه مسلم في الجنة، باب في دوام نعيم أهل الجنة، برقم(2837): 4 / 2182.
وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلُهُ فِي الْجَنَّةِ
وَمَنْزِلُهُ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَرِثُ الْمُؤْمِنَ
مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الْكَافِرَ مَنْزِلَهُ مِنَ
الْجَنَّةِ" (1) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم. انظر تفسير ابن كثير: 2 / 135.
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا
نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
(44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ
يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ
وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } مِنَ الثَّوَابِ، { حَقًّا } أَيْ صِدْقًا، {
فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ } مِنَ الْعَذَابِ، { حَقًّا قَالُوا
نَعَمْ } قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ حَيْثُ كَانَ، وَالْبَاقُونَ
بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أَيْ: نَادَى
مُنَادٍ أَسْمَعَ الْفَرِيقَيْنِ، { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ: "أَنْ" خَفِيفٌ،
"لَعْنَةُ"، رَفْعٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ،
"لَعْنَةَ اللَّهِ" نَصْبٌ عَلَى الظَّالِمِينَ، أي: الكافرين، 130/أ
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ } أَيْ: يَصْرِفُونَ النَّاسَ، { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
طَاعَةِ اللَّهِ، { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أَيْ: يَطْلُبُونَهَا زَيْغًا
وَمَيْلًا أَيْ: يَطْلُبُونَ سَبِيلَ اللَّهِ جَائِرِينَ عَنِ الْقَصْدِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُصَلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَيُعَظِّمُونَ مَا لَمْ
يُعْظِّمْهُ اللَّهُ. وَالْعِوَجُ -بِكَسْرِ الْعَيْنِ -فِي الدِّينِ وَالْأَمْرِ
وَالْأَرْضِ وَكُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا، وَبِالْفَتْحِ فِي كُلِّ مَا كَانَ
قَائِمًا كَالْحَائِطِ وَالرُّمْحِ وَنَحْوِهُمَا. { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
كَافِرُونَ }
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } يَعْنِي: بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ:
بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ أَهْلِ النَّارِ حِجَابٌ، وَهُوَ السُّورُ
الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ
لَهُ بَابٌ"(الْحَدِيدِ، 13).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ } وَالْأَعْرَافُ هِيَ ذَلِكَ
السُّورُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهِيَ جَمْعُ عُرْفٍ، وَهُوَ
اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ، وَمِنْهُ عُرْفُ الدِّيكِ لِارْتِفَاعِهِ عَمَّا
سِوَاهُ مِنْ جَسَدِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: سُمِّيَ ذَلِكَ السُّورُ أَعْرَافًا
لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَعْرِفُونَ النَّاسَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ
عَلَى الْأَعْرَافِ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ
قَوْمٌ
اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَقَصَّرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ
عَنِ الْجَنَّةِ، وَتَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ، فَوَقَفُوا
هُنَاكَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا يَشَاءُ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَهُمْ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ
أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَتْ
حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ
كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ،
ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ)(الْأَعْرَافُ 8-9). ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ
بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ أَوْ يَرْجُحُ (1) . قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ
وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوُقِفُوا عَلَى الصِّرَاطِ،
ثُمَّ عَرَفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى
أَهْلِ الْجَنَّةِ نَادَوْا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صَرَفُوا أَبْصَارَهُمْ
إِلَى أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلُنَا مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ، فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا
يَمْشُونَ بِهِ بَيْنَ أيديهم وبأيمانهم، ويعط كُلُّ عَبْدٍ [يَوْمَئِذٍ] (2)
نُورًا فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ
وَمُنَافِقَةٍ، [فَلَمَّا] (3) رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
فَأُمًّا أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ النُّورَ لَمْ يُنْزَعْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ، وَمَنَعَتْهُمْ [سَيِّئَاتُهُمْ] (4) أَنْ يَمْضُوا فَبَقِيَ فِي
قُلُوبِهِمُ الطَّمَعُ إِذْ لَمْ يُنْزَعِ النُّورُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ،
فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللَّهُ: "لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ"،
وَكَانَ الطَّمَعُ النُّورَ الَّذِي [بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] (5) ثُمَّ أُدْخِلُوا
الْجَنَّةَ، وَكَانُوا آخَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا.
وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ قَوْمٌ خَرَجُوا فِي
الْغَزْوِ بِغَيْرِ إِذْنِ آبَائِهِمْ، وَرَوَاهُ مُقَاتِلٌ فِي تَفْسِيرِهِ
مَرْفُوعًا: هُمْ رِجَالٌ غَزَوْا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [عُصَاةٌ لِآبَائِهِمْ
فَقُتِلُوا، فَأُعْتِقُوا مِنَ النَّارِ بِقَتْلِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (6)
وَحُبِسُوا عَنِ الْجَنَّةِ بِمَعْصِيَةِ آبَائِهِمْ، فَهُمْ آخَرُ مَنْ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ أَقْوَامٌ رَضِيَ عَنْهُمْ أَحَدُ
الْأَبَوَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، يُحْبَسُونَ عَلَى
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 8 / 190-191 (طبع الحلبي)، وانظر: الدر المنثور: 3 /
461.
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": (فإذا).
(4) في "أ": (السيئات).
(5) في "أ": (في قلوبهم).
(6) ساقط من "ب".
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
[الْأَعْرَافِ]
(1) إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: هُمُ الَّذِينَ مَاتُوا
فِي الْفَتْرَةِ وَلَمْ يُبَدِّلُوا دِينَهُمْ.
وَقِيلَ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَهْلُ
الْفَضْلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَوْا عَلَى الْأَعْرَافِ فَيَطَّلِعُونَ عَلَى
أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ جَمِيعًا، وَيُطَالِعُونَ أَحْوَالَ
الْفَرِيقَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ } أَيْ: يَعْرِفُونَ أَهْلَ
الْجَنَّةِ بِبَيَاضِ وُجُوهِهِمْ وَأَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ. {
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أَيْ: إِذَا رَأَوْا
أَهْلَ الْجَنَّةِ قَالُوا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، { لَمْ يَدْخُلُوهَا } يَعْنِي:
أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، { وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فِي
دُخُولِهَا، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الطَّمَعَ
فِيهِمْ إِلَّا كَرَامَةً [يُرِيدُ] (2) بِهِمْ، قَالَ الْحَسَنُ: الَّذِي جَعَلَ
الطَّمَعَ فِي قُلُوبِهِمْ يُوصِلُهُمْ إِلَى مَا يَطْمَعُونَ.
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا
لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ
الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) }
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } تَعَوَّذُوا
بِاللَّهِ، { قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
يَعْنِي: الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ.
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا } كَانُوا عُظَمَاءَ فِي الدُّنْيَا
مِنْ أَهْلِ النَّارِ، { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى
عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ } فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، { وَمَا
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُنَادُونَ
وَهُمْ عَلَى السُّورِ: يَا وَلِيدُ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ
هِشَامٍ وَيَا فُلَانُ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَرَوْنَ فِيهَا
الْفُقَرَاءَ وَالضُّعَفَاءَ مِمَّنْ كَانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِهِمْ، مِثْلَ
سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَبِلَالٍ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ
الْأَعْرَافِ لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ: { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ }
{ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ } حَلَفْتُمْ، { لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ
بِرَحْمَةٍ } أَيْ: حَلَفْتُمْ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ
يُقَالُ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ
وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنْ
__________
(1) في "ب": (الصراط).
(2) في "ب": (يريدها).
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
أَصْحَابَ
الْأَعْرَافِ إِذَا قَالُوا لِأَهْلِ النَّارِ مَا قَالُوا، قَالَ لَهُمْ أَهْلُ
النَّارِ: إِنْ دَخَلَ أُولَئِكَ الْجَنَّةَ وَأَنْتُمْ لَمْ تَدْخُلُوهَا.
فَيُعَيِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ، وَيُقْسِمُونَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ،
فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ حَبَسُوا أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ عَلَى
الصِّرَاطِ لِأَهْلِ النَّارِ: أَهَؤُلَاءِ، يَعْنِي: أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ،
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ يَا أَهْلَ النَّارِ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ
بِرَحْمَةٍ، ثُمَّ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ:
"ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ" فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا
مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا
عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا
لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) }
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ
فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ
أَفِيضُوا } أَيْ: صَبُّوا، { عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ } أَيْ: أَوْسِعُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ طَعَامِ
الْجَنَّةِ.
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا صَارَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ
طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ فِي الْفَرَجِ، وَقَالُوا: يَا رَبِّ إِنَّ لَنَا
قَرَابَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ
وَنُكَلِّمَهُمْ، فَيَنْظُرُوا إِلَى قَرَابَتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ
فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَعْرِفُونَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ
لِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ، فَيُنَادِي أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ
بِأَسْمَائِهِمْ، وَأَخْبَرُوهُمْ بِقَرَابَاتِهِمْ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا
مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، { قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } يَعْنِي: الْمَاءَ وَالطَّعَامَ.
{ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا } وَهُوَ مَا زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَأَخَوَاتِهَا، وَالْمُكَّاءِ
وَالتَّصْدِيَةِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَسَائِرِ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، الَّتِي
كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: دِينُهُمْ أَيْ عِيدُهُمْ،
{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ } نَتْرُكُهُمْ
فِي النَّارِ، { كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } أَيْ: كَمَا تَرَكُوا
الْعَمَلَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا، { وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ { فَصَّلْنَاهُ }
بَيَّنَّاهُ، { عَلَى عِلْمٍ } مِنَّا لِمَا يُصْلِحُهُمْ، { هُدًى وَرَحْمَةً }
أَيْ: جَعَلْنَا الْقُرْآنَ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ، { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
130/ب
{ هَلْ يَنْظُرُونَ } أَيْ: هَلْ يَنْتَظِرُونَ، { إِلَّا تَأْوِيلَهُ } قَالَ
مُجَاهِدٌ: جَزَاءَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَاقِبَتَهُ. وَمَعْنَاهُ: هَلْ
يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، فِي الْعَذَابِ
وَمَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ. { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أَيْ: جَزَاؤُهُ
وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } اعْتَرَفُوا بِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ
الِاعْتِرَافُ، { فَهَلْ لَنَا } الْيَوْمَ، { مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا
أَوْ نُرَدُّ } إِلَى الدُّنْيَا، { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أَهْلَكُوهَا بِالْعَذَابِ، { وَضَلَّ } [وَبَطَلَ]
(1) { عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ
حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُ الْعَالَمِينَ (54) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أَرَادَ بِهِ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ أَيَّامٍ
لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنْ لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَلَمْ يَكُنْ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا سَمَاءٌ، قِيلَ: سِتَّةُ أَيَّامٍ
كَأَيَّامِ الْآخِرَةِ وَكُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: كَأَيَّامِ
الدُّنْيَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرًا
على خلق السموات وَالْأَرْضِ فِي لَمْحَةٍ وَلَحْظَةٍ، فَخَلَقَهُنَّ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ [تَعْلِيمًا] (2) لِخَلْقِهِ التَّثَبُّتَ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ
الشَّيْطَانِ" (3) .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْتَقَرَّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَعَدَ. وَأَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِوَاءَ
بِالِاسْتِيلَاءِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ عَلَى
الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، بِلَا كَيْفٍ، يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ
الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَكِلُ الْعِلْمَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَسَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى) [طَهَ-5]، كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَلِيًّا، وَعَلَاهُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": (تعظيما).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع والحارث بن أبي أسامة، وأخرجه أيضا البيهقي
في السنن عن أنس بن مالك: 10 / 104، وعزاه الهيثمي أيضا لأبي يعلى، وقال: رجاله
رجال الصحيح. انظر: المطالب العالية لابن حجر: 3 / 35، كشف الخفاء للعجلوني: 1 /
350، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 176. وله شاهد عند الترمذي في البر، باب ما
جاء في التأني والعجلة: 6 / 153، عن سهل بن سعد بلفظ: "الأناة من
الله..." وقال: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد المهيمن بن
عباس، وضعفه من قبل حفظه.
الرُّحَضَاءُ،
ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ،
وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَمَا أَظُنُّكَ
إِلَّا ضَالًّا ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ.
وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ
مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ
الْمُتَشَابِهَةِ: أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.
وَالْعَرْشُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ السَّرِيرُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا عَلَا فَأَظَلَّ،
وَمِنْهُ عَرْشُ الْكُرُومُ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ الْمُلْكُ.
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ
وَيَعْقُوبُ: "يُغَشِّي" بِالتَّشْدِيدِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ
الرَّعْدِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: يَأْتِي اللَّيْلُ عَلَى
النَّهَارِ فَيُغَطِّيهِ، وَفِيهِ حَذْفٌ أَيْ: وَيُغْشِي النَّهَارُ اللَّيْلَ،
وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى
فَقَالَ: "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ
عَلَى اللَّيْلِ" [الزُّمَرُ-5]، { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أَيْ: سَرِيعًا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْقُبُ أَحَدُهُمُ الْآخَرَ وَيَخْلُفُهُ،
فَكَأَنَّهُ يَطْلُبُهُ. { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ }
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ،
وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ عَطْفًا عَلَى قوله:
"خلق السموات وَالْأَرْضِ"، أَيْ: خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ
مُسَخَّرَاتٍ، أَيْ: مُذَلَّلَاتٍ { بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
} لَهُ الْخَلْقُ لِأَنَّهُ [خَلَقَهُمْ] (1) وَلَهُ الْأَمْرُ، يَأْمُرُ فِي خَلْقِهِ
بِمَا يَشَاءُ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ
الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ كَفَرَ.
{ تَبَارَكَ اللَّهُ } أَيْ: تَعَالَى اللَّهُ وَتَعَظَّمَ. وَقِيلَ: ارْتَفَعَ.
وَالْمُبَارَكُ الْمُرْتَفِعُ. وَقِيلَ: تَبَارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ
وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، أَيْ: الْبَرَكَةُ تُكْتَسَبُ وَتُنَالُ
بِذِكْرِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَجِيءُ
الْبَرَكَةُ مِنْ قِبَلِهِ وَقِيلَ: تَبَارَكَ: تَقَدَّسَ. وَالْقُدْسُ:
الطَّهَارَةُ. وَقِيلَ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَيْ: بِاسْمِهِ يُتَبَرَّكُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَعْنَى هَذِهِ [الصِّفَةِ] (2) ثَبَتَ وَدَامَ
بِمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَأَصِلُ الْبَرَكَةِ الثُّبُوتُ. وَيُقَالُ:
تَبَارَكَ اللَّهُ وَلَا يُقَالُ: مُتَبَارَكٌ وَلَا مُبَارَكٌ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَرِدْ بِهِ التَّوْقِيفُ. { رَبُّ الْعَالَمِينَ }
__________
(1) في "ب": (أمرهم).
(2) في "ب": (الآية).
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا
إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً، { وَخُفْيَةً } أَيْ
سِرًّا. قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعْوَةِ السِّرِّ وَدَعْوَةِ الْعَلَانِيَةِ
سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ
وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، وَإِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: "ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً"، وَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا وَرَضِيَ
فِعْلَهُ فَقَالَ: "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا"
[مَرْيَمُ-3]. { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } قِيلَ: الْمُعْتَدِينَ فِي
الدُّعَاءِ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هُمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ مَنَازِلَ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَاشَانِيُّ، أَنْبَأَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ الْلُؤْلُؤِيُّ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ،
أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ، عَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ
الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ
سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعُوذْ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي
هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ" (1) .
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الِاعْتِدَاءَ بِالْجَهْرِ [وَالصِّيَاحُ] (2) قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: مِنْ الِاعْتِدَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ بِالدُّعَاءِ
وَالصِّيَاحُ.
وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ
وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا" (3) . وَقَالَ
عَطِيَّةُ: هُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَا يَحِلُّ،
فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِمُ اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الماء: 1 / 87، وابن ماجه في الدعاء،
باب كراهية الاعتداء في الدعاء، برقم(3864) بلفظ: "سيكون قوم يعتدون في
الدعاء...": 2 / 1271، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: 1 / 504، وابن حبان، برقم
(171) ص(70-71) من موارد الظمآن، والإمام أحمد في المسند: 1 / 172،183 عن سعد بن
أبي وقاص، و4 / 86،87، 5 / 55 من حديث عبد الله بن مغفل. وساقه ابن كثير في
التفسير: 2 / 222-223 وقال: "وهو إسناد حسن لا بأس به".
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب غزوة خيبر: 7 / 470، وفي الدعوات وفي التوحيد
وفي الجهاد، وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب خفض الصوت
بالذكر، برقم (2704): 4 / 2076، والمصنف في شرح السنة: 5 / 66.
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
{
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } أَيْ لَا تُفْسِدُوا فِيهَا
بِالْمَعَاصِي وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ
اللَّهِ إِيَّاهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى
طَاعَةِ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ
وَالْكَلْبِيِّ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ: لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ الْمَطَرَ
وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ بِمَعَاصِيكُمْ. فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:
"بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" أَيْ: بَعْدَ إِصْلَاحِ اللَّهِ إِيَّاهَا
بِالْمَطَرِ وَالْخِصْبِ.
{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أَيْ: خَوْفًا مِنْهُ وَمِنْ عَذَابِهِ،
وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَثَوَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: خَوْفَ الْعَدْلِ وَطَمَعَ الْفَضْلِ. { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
الرَّحْمَةُ هَاهُنَا الثَّوَابُ فَرَجَعَ النَّعْتُ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ
اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ:(وَإِذَا حضر القسمة أولوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النِّسَاءُ-8] وَلَمْ يُقِلْ مِنْهَا
لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمِيرَاثَ وَالْمَالَ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ يَسْتَوِي فِيهِمَا
فِي اللُّغَةِ: الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. قَالَ
أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: الْقَرِيبُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى
الْقُرْبِ وَبِمَعْنَى الْمَسَافَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ
قَرِيبَةٌ مِنْكَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْكَ إِذَا
كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَسَافَةِ.
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ
الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ
الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) }
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا
يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
}
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا } قَرَأَ
عَاصِمٌ "بُشِّرَا" بِالْبَاءِ وَضَمَّهَا وسكون الشين 131/أ هَاهُنَا
وَفِي الْفُرْقَانِ وَسُورَةِ النَّمْلِ، وَيَعْنِي: أَنَّهَا تُبَشِّرُ
بِالْمَطَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ)
[الرُّومُ-46]، [وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "نَشَرَا" بِالنُّونِ
وَفَتَحَهَا، وَهِيَ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ اللَّيِّنَةُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى]: (1) (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) [الْمُرْسَلَاتُ-3]، وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ
النُّونِ وَالشِّينِ، جَمْعُ نُشُورٍ، مِثْلَ صَبُورٍ وَصَبْرٍ وَرَسُولٍ
وَرُسُلٍ، أَيْ: مُتَفَرِّقَةٌ وَهِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أَيْ: قُدَّامَ الْمَطَرِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنْبَأَنَا
الرَّبِيعُ أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا الثِّقَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ
بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَعُمَرُ حَاجٌّ فَاشْتَدَّتْ، فَقَالَ عُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَا بَلَغَكُمْ فِي الرِّيحِ فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ
شَيْئًا، فَبَلَغَنِي الَّذِي سَأَلَ [عُمَرُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرِّيحِ] (1) فَاسْتَحْثَثْتُ
رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكُنْتُ فِي
مُؤَخَّرِ النَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ
سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَأْتِي
بِالرَّحْمَةِ وَبِالْعَذَابِ فَلَا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ مَنْ خَيْرِهَا
وَتَعَوَّذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا" (2) وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ (3) .
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } حَمَلَتِ الرِّيَاحُ { سَحَابًا ثِقَالًا }
بِالْمَطَرِ، { سُقْنَاهُ } وَرَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى السَّحَابِ، { لِبَلَدٍ
مَيِّتٍ } أَيْ: إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ مُحْتَاجٍ إِلَى الْمَاءِ، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ لِإِحْيَاءِ بَلَدٍ مَيِّتٍ لَا نَبَاتَ فِيهِ { فَأَنْزَلْنَا بِهِ }
أَيْ: بِالسَّحَابِ. وَقِيلَ: بِذَلِكَ الْبَلَدِ الْمَيِّتِ { الْمَاءَ }
يَعْنِي: الْمَطَرَ، { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ
نُخْرِجُ الْمَوْتَى } اسْتَدَلَّ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى
إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا مَاتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى
أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ مِنْ مَاءٍ تَحْتَ
الْعَرْشِ يُدْعَى مَاءَ الْحَيَوَانِ، فَيُنْبَتُونَ فِي قُبُورِهِمْ نَبَاتَ
الزَّرْعِ حَتَّى إِذَا اسْتُكْمِلَتْ أَجْسَادُهُمْ نَفَخَ فِيهِمُ الرُّوحَ،
ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِمُ النُّوَّمَ فَيَنَامُونَ فِي قُبُورِهِمْ، ثُمَّ
يُحْشَرُونَ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ وَهُمْ يَجِدُونَ طَعْمَ النَّوْمِ فِي
رُءُوسِهِمْ وَأَعْيُنِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ:(يَا وَيْلَنَا مَنْ
بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) [يس-52].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ } هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ
فَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْبَلَدِ الطَّيِّبِ، يُصِيبُهُ الْمَطَرُ
فَيَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، { وَالَّذِي خَبُثَ } يُرِيدُ الْأَرْضَ
السَّبْخَةَ الَّتِي { لَا يَخْرُجُ } نَبَاتُهَا، { إِلَّا نَكِدًا } قَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ:
عُسْرًا قَلِيلًا بِعَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ.
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ص(264)، وأبو داود في الأدب، باب القول إذا
هاجت الريح: 8 / 4، واللفظ له، وابن ماجه في الأدب، باب النهي عن سب الريح: 2 /
1228، والشافعي في المسند: 1 / 175-176، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص(520)،
والطحاوي في مشكل الآثار: 1 / 399، والبيهقي في الدعوات الكبير (انظر: مشكاة
المصابيح: 1 / 480)، وصححه ابن حبان ص(488)، من الموارد، والحاكم في المستدرك 4 /
285، والإمام أحمد في المسند: 2 / 268، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 4 / 391،
وإسناده صحيح.
(3) انظر: المصنف للإمام عبد الرزاق: 11 / 89.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
فَالْأَوَّلُ:
مِثْلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي إِذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَعَاهُ وَعَقَلَهُ
وَانْتَفَعَ بِهِ، وَالثَّانِي: مِثْلُ الْكَافِرِ الَّذِي يَسْمَعُ الْقُرْآنَ
فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، كَالْبَلَدِ الْخَبِيثِ الَّذِي لَا يُتَبَيَّنُ أَثَرُ
الْمَطَرِ فِيهِ { كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } نُبَيِّنُهَا، { لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى
وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا
طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ
الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ
بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ
أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تَنْبُتُ كَلَأً
فَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ
بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمِثْلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ
يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" (1) .
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
(60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ
الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } وَهُوَ نُوحُ
بْنُ لَمْكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخَنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ
نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَ إِدْرِيسَ، وَكَانَ نَجَّارًا بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى
قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْنُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً
(2) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِّي
نُوحًا لِكَثْرَةِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نَوْحِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِدَعْوَتِهِ عَلَى
قَوْمِهِ بِالْهَلَاكِ، وَقِيلَ: لِمُرَاجَعَتِهِ رَبَّهُ فِي شَأْنِ ابْنِهِ
كَنْعَانَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَرَّ بِكَلْبٍ مَجْذُومٍ، فَقَالَ: اخْسَأْ يَا
قَبِيحُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَعِبْتَنِي أَمْ عِبْتَ الْكَلْبَ؟
{ فَقَالَ } لِقَوْمِهِ، { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنَ إِلَهٍ
غَيْرُهُ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ { مِنَ إِلَهٍ غَيْرِهِ }
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم، باب فضل من علِم وعلّم: 1 / 175، ومسلم في الفضائل،
باب بيان ما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهدى والعلم،
برقم(2282): 2 / 1787. والمصنف في شرح السنة: 1 / 287.
(2) في "ب": (مائة وخمسين سنة).
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
بِكَسْرِ
الرَّاءِ حَيْثُ كَانَ، عَلَى نَعْتِ الْإِلَهِ، وَافَقَ حَمْزَةُ فِي سُورَةِ
فَاطِرٍ:(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)(فَاطِرٌ-3)، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى التَّقْدِيمِ، تَقْدِيرُهُ: مَا لَكَمَ غَيْرُهُ مِنَ
إِلَهٍ، { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا، { عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ }
{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ } خَطَأٍ وَزَوَالٍ
عَنِ الْحَقِّ، { مُبِينٍ } بَيِّنٍ.
{ قَالَ } نُوحٌ، { يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ } وَلَمْ يَقُلْ لَيْسَتْ،
لِأَنَّ مَعْنَى الضَّلَالَةِ: الضَّلَالُ أَوْ عَلَى تَقْدِيمِ الْفِعْلِ، {
وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
{ أُبَلِّغُكُمْ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "أُبْلِغُكُمْ" بِالتَّخْفِيفِ
حَيْثُ كَانَ مِنَ الْإِبْلَاغِ. لِقَوْلِهِ:(لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ)
[الْأَعْرَافُ-93] ، { رِسَالَاتِ رَبِّي } ["لِيَعْلَمَ أَنَّ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ
التَّبْلِيغِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ)(الْمَائِدَةُ-67)، رِسَالَاتِ رَبِّي] (1) { وَأَنْصَحُ لَكُمْ }
يُقَالُ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَالنُّصْحُ أَنْ يُرِيدَ لِغَيْرِهِ مِنَ
الْخَيْرِ مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ، { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
} أَنَّ عَذَابَهُ لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنَ إِلَهٍ
غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
(66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (67) }
{ أَوَعَجِبْتُمْ } أَلْفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ، { أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: مَوْعِظَةٌ. وَقِيلَ: بَيَانٌ. وَقِيلَ: رِسَالَةٌ. { عَلَى رَجُلٍ
مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } عَذَابَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا، { وَلِتَتَّقُوا
} أَيْ: لِكَيْ تَتَّقُوا اللَّهَ، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لِكَيْ
تُرْحَمُوا.
{ فَكَذَّبُوهُ } يَعْنِي: كَذَّبُوا نُوحًا، { فَأَنْجَيْنَاهُ } مِنَ
الطُّوفَانِ، { وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } فِي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
السَّفِينَةِ،
{ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
عَمِينَ } أَيْ: كُفَّارًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ
مَعْرِفَةِ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَمُوا عَنِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ،
يُقَالُ رِجْلٌ عَمٍ عَنِ الْحَقِّ وَأَعْمَى فِي الْبَصَرِ. وَقِيلَ: الْعَمِيُّ
وَالْأَعْمَى كَالْخَضِرِ وَالْأَخْضَرِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عموات عَنْ نُزُولِ
الْعَذَابِ بِهِمْ وَهُوَ الْغَرَقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى
عَادٍ -وَهُوَ عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، وَهِيَ عَادٌ الْأُولَى "أَخَاهُمْ" فِي النَّسَبِ لَا
فِي الدِّينِ "هُودًا"، وَهُوَ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ
بْنِ الْجلودِ بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ بن شَالِخِ
بْنِ أَرْفَخَشْذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنَ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } أَفَلَا تَخَافُونَ
نِقْمَتَهُ؟
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ } يَا
هُودُ، { فِي سَفَاهَةٍ } فِي حُمْقٍ وَجَهَالَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: تَدْعُونَا إِلَى دِينٍ لَا نَعْرِفُهُ، { وَإِنَّا
لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْنَا.
{ قَالَ } هُودٌ، { يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } 131/ب
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ
وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ
أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ
(72) }
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } نَاصِحٌ
أَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْبَةِ أَمِينٌ عَلَى الرِّسَالَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ:
كُنْتُ فِيكُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ أَمِينًا.
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ }
يَعْنِي نَفْسَهُ، { لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ }
يَعْنِي
فِي الْأَرْضِ، { مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ، {
وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } أَيْ: طُولًا وَقُوَّةً. قَالَ الْكَلْبِيُّ
وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ قَامَةُ الطَّوِيلِ مِنْهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَقَامَةُ
الْقَصِيرِ مِنْهُمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ:
سَبْعُونَ ذِرَاعًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ثَمَانُونَ
ذِرَاعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُ كُلِّ رَجُلٍ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا.
وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَأْسُ أَحَدِهِمْ مِثْلَ الْقُبَّةِ الْعَظِيمَةِ وَكَانَ
عَيْنُ الرَّجُلِ تُفْرِخُ فِيهَا الضِّبَاعُ، وَكَذَلِكَ مَنَاخِرُهُمْ. {
فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ } نِعَمَ اللَّهِ، وَاحِدُهَا إِلًى وَآلَاءُ مِثْلَ
مِعًى وَأَمْعَاءٍ، وَقَفًا وَأَقْفَاءٍ، وَنَظِيرُهَا:(آنَاءَ
اللَّيْلِ)(الزُّمَرُ-9)، وَاحِدُهَا أَنَا وَآنَاءٌ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا } مِنَ الْأَصْنَامِ، فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ، مِنَ الْعَذَابِ، {
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
{ قَالَ } هُودٌ، { قَدْ وَقَعَ } وَجَبَ وَنَزَلَ، { عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
رِجْسٌ } أَيْ عَذَابٌ، وَالسِّينُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الزَّايِ، { وَغَضَبٌ } أَيْ:
سَخَطٌ، { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا } وَضَعْتُمُوهَا، {
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ
يَعْبُدُونَهَا سُمَّوْهَا أَسْمَاءَ مُخْتَلِفَةً، { مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا
مِنْ سُلْطَانٍ } حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، { فَانْتَظِرُوا } نُزُولُ الْعَذَابِ، {
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
{ فَأَنْجَيْنَاهُ } يَعْنِي هُودًا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، { وَالَّذِينَ
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا }
أَيْ: اسْتَأْصَلْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، { وَمَا كَانُوا
مُؤْمِنِينَ }
وَكَانَتْ قِصَّةُ عَادٍ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ:
(1) أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَنْزِلُونَ الْيَمَنَ وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ
بِالْأَحْقَافِ، وَهِيَ رِمَالٌ بَيْنَ عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَكَانُوا قَدْ
فَشَوْا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ
الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ
يَعْبُدُونَهَا، صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ صَدَى، وَصَنَمٌ يُقَالُ لَهُ صَمُودٌ،
وَصَنَمٌ يُقَالُ لَهُ الْهَبَاءُ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا نَبِيًّا،
وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَيَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ
بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَّبُوهُ فَقَالُوا مِنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فَبَنَوُا
الْمَصَانِعَ وَبَطَشُوا بَطْشَةَ الْجَبَّارِينَ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ
أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ.
__________
(1) ساق هذه القصة الحافظ ابن كثير في التفسير: 2 / 226-227 وفي البداية والنهاية:
1 / 126-127. وأشار إلى حديث يشبه هذه القصة، أخرجه الإمام أحمد في المسند: 3 /
482، والترمذي في التفسير، تفسير سورة الذاريات: 9 / 159-162، ورواه أيضا النسائي
من حديث سلام بن أبي المنذر عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه ابن ماجه أيضا عن أبي
وائل عن الحارث بن حسان البكري، انظر: ابن كثير، الموضع السابق، الدر المنثور: 7 /
622، مجمع الزوائد:6 / 9-12.
وَكَانَ
النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ فَطَلَبُوا الْفَرَجَ
كَانَتْ طِلْبَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ
بِمَكَّةَ مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، فَيَجْتَمِعُ بِمَكَّةَ نَاسٌ كَثِيرٌ
شَتَّى، مُخْتَلِفَةٌ أَدْيَانُهُمْ وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمٌ لِمَكَّةَ، وَأَهْلُ
مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ سُمُّوا عَمَالِيقَ، لِأَنَّ أَبَاهُمْ
عِمْلِيقُ بْنُ لَاذَا بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدَ الْعَمَالِيقِ إِذْ
ذَاكَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ وَكَانَتْ أَمُّ
مُعَاوِيَةَ كَلَهْدَةَ بِنْتَ الْخَيْبَرِيِّ رَجُلٌ مِنْ عَادٍ، فَلَمَّا قَحَطَ
الْمَطَرُ عَنْ عَادٍ وَجَهِدُوا قَالُوا جَهِّزُوا وَافِدًا مِنْكُمْ إِلَى
مَكَّةَ فَلْيَسْتَسْقُوا لَكُمْ، فَبَعَثُوا قَيْلَ بْنَ عَنْزٍ وَلِقِيَمَ بْنَ
هُزَالٍ مِنْ هَزِيلٍ، وَعَقِيلَ بْنَ صَنْدِينَ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرِ،
وَمَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَفِيرٍ وَكَانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ،
وَجَلْهَمَةَ بْنَ الْخَيْبَرِيِّ خَالَ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، ثُمَّ بَعَثُوا
لُقْمَانَ بْنَ عَادِ الْأَصْغَرِ بْنِ صَنْدِينَ بْنِ عَادِ الْأَكْبَرِ،
فَانْطَلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى
بَلَغَ عَدَدُ وَفْدِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا.
فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ نَزَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَهُوَ
بِظَاهِرِ مَكَّةَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ
وَكَانُوا أَخْوَالَهُ وَأَصْهَارَهُ فَأَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ
الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِمُ الْجَرَادَتَانِ، قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ
بَكْرٍ، وَكَانَ مَسِيِرُهُمْ شَهْرًا وَمَقَامُهُمْ شَهْرًا فَلَمَّا رَأَى
مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ طُولَ مَقَامِهِمْ وَقَدْ بَعَثَهُمْ قَوْمُهُمْ
يَتَغَوَّثُونَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ شَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِ، وَقَالَ هَلَكَ أَخْوَالِي وَأَصْهَارِي وَهَؤُلَاءِ مُقِيمُونَ عِنْدِي
وَهُمْ ضَيْفِي، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِمْ، أَسْتَحِي أَنْ
آمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَا بُعِثُوا إِلَيْهِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ ضِيقٌ
مِنِّي بِمَقَامِهِمْ عِنْدِي، وَقَدْ هَلَكَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ جُهْدًا
وَعَطَشَا، فَشَكَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى قَيْنَتَيْهِ الْجَرَادَتَيْنِ،
فَقَالَتَا: قُلْ شِعْرًا نُغَنِّيهِمْ بِهِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ قَالَهُ، لَعَلَّ
ذَلِكَ أَنْ يُحَرِّكَهُمْ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ: أَلَا يَا قَيْلُ
وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامَا
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا ... قَدْ أَمْسَوْا لَا يُبِينُونَ
الْكَلَامَا
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيَرَ وَلَا
الْغُلَامَا
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ ... فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ أَيَامَى
وَإِنَّ الْوَحْشَ تَأْتِيهِمْ جِهَارًا ... فَلَا تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا
وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ ... نَهَارُكُمُو وَلَيْلُكُمُو
التَّمَامَا
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ ... وَلَا لُقُّوا التَّحِيَّةَ
وَالسَّلَامَا
فَلَمَّا غَنَّتْهُمُ الْجَرَادَتَانِ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا
قَوْمِ إِنَّمَا بَعَثَكُمْ قَوْمُكُمْ يَتَغَوَّثُونَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ
الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَقَدْ أَبْطَأْتُمْ عَلَيْهِمْ، فَادْخُلُوا هَذَا
الْحَرَمَ فَاسْتَسْقُوا لِقَوْمِكُمْ، فَقَالَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ
عَفِيرٍ،
وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِهُودٍ سِرًّا: إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَا تُسْقَوْنَ
بِدُعَائِكُمْ، وَلَكِنْ إِنْ أَطَعْتُمْ نَبِيَّكُمْ وَأَنَبْتُمْ إِلَى
رَبِّكُمْ سُقِيتُمْ، فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: عَصَتْ عَادٌ
رَسُولَهُمْ فَأَمْسَوْا ... عِطَاشًا مَا تَبُلُّهُمُ السَّمَاءُ
لَهُمْ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ صُمُودٌ ... يُقَابِلُهُ صَدَاءٌ وَالْهَبَاءُ
فَبَصَّرَنَا الرَّسُولُ سَبِيلَ رُشْدٍ ... فَأَبْصَرْنَا الْهُدَى وَجَلَى
الْعَمَاءُ
وَإِنَّ إِلَهَ هُودٍ هُو إِلَهِي ... عَلَى اللَّهِ التَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ
فَقَالُوا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ: احْبِسْ عَنَّا مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ فَلًّا
يَقْدُمَنَّ مَعَنَا مَكَّةَ، فَإِنَّهُ قَدِ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ، وَتَرَكَ
دِينَنَا، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ لِعَادٍ، فَلَمَّا وَلَّوْا
إِلَى مَكَّةَ خَرَجَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مَنْزِلِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى
أَدْرَكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَا اللَّهَ بِشَيْءٍ مِمَّا خَرَجُوا لَهُ،
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ قَامَ يَدْعُو اللَّهَ، وَبِهَا وَفْدُ عَادٍ
يَدْعُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي سُؤْلِي وَحْدِي وَلَا تُدْخِلْنِي فِي
شَيْءٍ مِمَّا يَدْعُوكَ بِهِ وَفْدُ عَادٍ، وَكَانَ قَيْلُ بْنُ عَنْزٍ رَأْسَ
وَفْدِ عَادٍ، فَقَالَ وَفْدُ عَادٍ: اللَّهُمَّ أَعْطِ قَيْلًا مَا سَأَلَكَ
وَاجْعَلْ سُؤْلَنَا مَعَ سُؤْلِهِ.
وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ وَفْدِ عَادٍ -حِينَ دَعَوْا -لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ،
وَكَانَ سَيِّدَ عَادٍ، حَتَّى إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَعْوَتِهِمْ قَامَ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي جِئْتُكَ وَحْدِي فِي حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي، وَسَأَلَ
اللَّهَ طُولَ الْعُمْرِ فَعُمِّرَ عُمَرَ سَبْعَةِ أَنَسُرٍ، وَقَالَ قَيْلُ بْنُ
عَنْزٍ حِينَ دَعَا: يَا إِلَهَنَا إِنْ كَانَ هُودٌ صَادِقًا فَاسْقِنَا فَإِنَّا
قَدْ هَلَكْنَا، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَائِبَ ثَلَاثًا بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ
وَسَوْدَاءَ، ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّحَايِبِ [يَا قَيْلُ] (1) اخْتَرْ
لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ مِنْ هَذِهِ السَّحَائِبِ [مَا شِئْتَ] (2) فقال قيل: 132/أ
اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً
فَنَادَاهُ مُنَادٍ: اخْتَرْتَ رَمَادًا رِمْدِدًا لَا تُبْقِي مِنْ آلِ عَادٍ
أَحَدًا، وَسَاقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ
الَّتِي اخْتَارَهَا قَيْلٌ بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ حَتَّى
خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ "الْمُغِيثُ"
فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا: هَذَا عَارَضٌ مُمْطِرُنَا، يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى:(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)(الْأَحْقَافُ-24-25) أَيْ:
كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ بِهِ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحٌ مُهْلِكَةٌ
امْرَأَةٌ مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا مُهَدَّدٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَتْ مَا فِيهَا
صَحَّتْ ثُمَّ صَعِقَتْ، فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا لَهَا: مَاذَا رَأَيْتِ؟
قَالَتْ: رَأَيْتُ الرِّيحَ فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ أَمَامَهَا رِجَالٌ
يَقُودُونَهَا، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ حُسُومًا، فَلَمْ تَدَعْ مِنْ آلِ عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ،
وَاعْتَزَلَ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ مَا يُصِيبُهُ
هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مَا تَلِينُ عَلَيْهِ الْجُلُودُ
وَتَلَذُّ الْأَنْفُسُ، وَإِنَّهَا لَتَمُرُّ مِنْ عَادٍ بِالظَّعْنِ
فَتَحْمِلُهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ،
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
وَخَرَجَ
وَفْدُ عَادٍ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَنَزَلُوا
عَلَيْهَا فَبَيْنَمَا هم عنده إذا أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ فِي لَيْلَةٍ
مُقْمِرَةٍ مَسَاءَ ثَالِثَةٍ مِنْ مُصَابِ عَادٍ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ،
فَقَالُوا لَهُ فَأَيْنَ فَارَقْتَ هُودًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ: فَارَقْتُهُمْ
بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَأَنَّهُمْ شَكُّوا فِيمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ، فَقَالَتْ
هَزِيلَةُ بِنْتُ بَكْرٍ: صَدَقَ وَرَبِّ مَكَّةَ.
وَذَكَرُوا أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ وَلُقْمَانَ بْنَ عَادٍ، وَقَيْلَ بْنَ
عَنْزٍ حِينَ دَعَوْا بِمَكَّةَ، قِيلَ لَهُمْ: قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ مُنَاكُمْ
فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُلُودِ، وَلَا
بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ مَرْثَدٌ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي صِدْقًا وَبِرًّا
فَأُعْطِيَ ذَلِكَ، وَقَالَ لُقْمَانُ: أَعْطِنِي يَا رَبِّ عُمْرًا، فَقِيلَ
لَهُ: اخْتَرْ، فَاخْتَارَ عُمْرَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْفَرْخَ
حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْضَتِهِ فَيَأْخُذُ الذَّكَرَ مِنْهَا لِقُوَّتِهِ، حَتَّى
إِذَا مَاتَ أَخَذَ غَيْرَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى أَتَى عَلَى
السَّابِعِ، وَكَانَ كُلُّ نَسْرٍ يَعِيشُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ آخِرُهَا
لَبَدٌ فَلَمَّا مَاتَ لَبَدٌ مَاتَ لُقْمَانُ مَعَهُ.
وَأَمَّا قَيْلٌ فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْتَارُ أَنْ يُصِيبَنِي مَا أَصَابَ قَوْمِي
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْهَلَاكَ، فَقَالَ: لَا أُبَالِي لَا حَاجَةَ لِي فِي
الْبَقَاءِ بِعَدَّهُمْ، فَأَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَ عَادًا مِنَ الْعَذَابِ
فَهَلَكَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ الرِّيحَ الْعَقِيمَ فَلَمَّا
دَنَتْ مِنْهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْإِبِلِ وَالرِّجَالِ، تَطِيرُ بِهِمُ الرِّيحُ
بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض، فلما رأواها تَبَادَرُوا الْبُيُوتَ فَدَخَلُوهَا
وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ، فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَقَلَعَتْ أَبْوَابَهُمْ
فَدَخَلَتْ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَتْهُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَخْرَجَتْهُمْ مِنَ
الْبُيُوتِ، فَلَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا سَوْدَاءَ
فَنَقَلَتْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ فَأَلْقَتْهُمْ فِيهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الرِّيحِ فَأَهَالَتْ عَلَيْهِمُ
الرِّمَالَ، فَكَانُوا تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ
لَهُمْ أَنِينٌ تَحْتَ الرَّمْلِ، ثُمَّ أَمَرَ الرِّيحَ فَكَشَفَتْ عَنْهُمُ
الرِّمَالِ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْ بِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَلَمْ تَخْرُجْ
رِيحٌ قَطُّ إِلَّا بِمِكْيَالٍ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهَا عَتَتْ عَلَى
الْخَزَنَةِ فَغَلَبَتْهُمْ فَلَمْ يَعْلَمُوا كَمْ كَانَ مِكْيَالُهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّهَا خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ خَرْقِ
الْخَاتَمِ" (1) وَرُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ قَبْرَ
هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ. وَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ قَبْرُ
تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا، وَإِنَّ قَبْرَ هُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ
وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ. وَيُرْوَى: أَنَّ
النَّبِيَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا هَلَكَ قَوْمُهُ جَاءَ هُوَ وَالصَّالِحُونَ
مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهَا حَتَّى يَمُوتُوا.
__________
(1) جاء قريب من هذا في رواية الإمام أحمد والترمذي في الموضع السابق، وليس مرفوعا
إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل السياق يدل على أنه من راوي
القصة.
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) }
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
{
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
(74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ
رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } وَهُوَ ثَمُودُ
بْنُ عَابِرِ بْنِ إِرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَأَرَادَ هَاهُنَا
الْقَبِيلَةَ.
قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: سُمِّيَتْ ثَمُودُ لِقِلَّةِ مَائِهَا،
وَالثَّمْدُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الْحِجْرَ بَيْنَ
الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى { أَخَاهُمْ صَالِحًا } أَيْ:
أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ، لَا فِي الدِّينِ صَالِحًا،
وَهُوَ صَالِحُ بْنُ عَبِيدِ بْنِ آسَفَ بْنِ مَاشِيحَ بْنِ عَبِيدِ بْنِ خَادِرِ
بْنِ ثَمُودَ، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } حُجَّةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَلَى صِدْقِي ، { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } أَضَافَهَا إِلَيْهِ عَلَى
التَّفْضِيلِ وَالتَّخْصِيصِ، كَمَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ، { لَكُمْ آيَةً }
نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ } الْعُشْبَ، { فِي أَرْضِ اللَّهِ
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } لَا تُصِيبُوهَا بِعَقْرٍ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ }
{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ }
أَسْكَنَكُمْ وَأَنْزَلَكُمْ، { فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا
قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا } كَانُوا يَنْقُبُونَ فِي الْجِبَالِ
الْبُيُوتَ فَفِي الصَّيْفِ يَسْكُنُونَ بُيُوتَ الطِّينِ، وَفِي الشِّتَاءِ
بُيُوتَ الْجِبَالِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْحِتُونَ الْبُيُوتَ فِي الْجَبَلِ
لِأَنَّ بُيُوتَ الطِّينِ مَا كَانَتْ تَبْقَى مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ لِطُولِ
أَعْمَارِهِمْ، { فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ } وَالْعَيْثُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ.
{ قَالَ الْمَلَأُ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ:(وَقَالَ الْمَلَأُ) بِالْوَاوِ {
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالْقَادَةَ
الَّذِينَ تَعَظَّمُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِصَالِحٍ، { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا }
يَعْنِي الْأَتْبَاعَ، { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ }
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
يَعْنِي:
قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُؤْمِنِينَ، { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ
رَبِّهِ } إِلَيْكُمْ، { قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ }
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ
ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) }
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
جَاحِدُونَ.
{ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَقْرُ هُوَ قَطْعُ عُرْقُوبِ
الْبَعِيرِ، ثُمَّ جَعَلَ النَّحْرَ عَقْرًا لِأَنَّ نَاحِرَ الْبَعِيرِ
يَعْقِرُهُ ثُمَّ يَنْحَرُهُ، { وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } وَالْعُتُوُّ
الْغُلُوُّ فِي الْبَاطِلِ، يُقَالُ: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا: إِذَا
اسْتَكْبَرُوا، وَالْمَعْنَى: عَصَوُا اللَّهَ وَتَرَكُوا أَمْرَهُ فِي النَّاقَةِ
وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ. { وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا }
أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ، { إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } وَهِيَ زَلْزَلَةُ الْأَرْضِ وَحَرَكَتُهَا
وَأَهْلَكُوا بِالصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ، { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ } قِيلَ:
أَرَادَ الدِّيَارَ. وَقِيلَ: أَرَادَ فِي أَرْضِهِمْ وَبَلْدَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ
وَحَّدَ الدَّارَ، { جَاثِمِينَ } خَامِدَيْنِ مَيِّتِينِ. قِيلَ: سَقَطُوا عَلَى
وُجُوهِهِمْ مَوْتَى عَنْ آخِرِهِمْ.
{ فَتَوَلَّى } أَعْرَضَ صَالِحٌ، { عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ } فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ بَعْدَمَا هَلَكُوا
بِالرَّجْفَةِ؟
قِيلَ: كَمَا خَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُفَّارَ
مِنْ قَتْلَى بَدْرٍ حِينَ أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ
بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ["وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ"] (1) مَا
أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ" (2) .
__________
(1) زيادة من "ب" ومن صحيح البخاري.
(2) قطعة من حديث أنس بن مالك، أخرجه البخاري في المغازي، باب قتل أبي جهل: 7 /
300-301. وأخرج أيضا في الموضع نفسه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعد
ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول" فذُكِر لعائشة فقالت: إنما قال
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم
هو الحق، ثم قرأت: "إنك لا تسمع الموتى" حتى قرأت الآية. فكان هذا مما
استدركته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على ابن عمر رضي الله عنهما وأنه وهم في
قوله "ليسمعون"، وإنما هو بلفظ "إنهم ليعلمون". قال البيهقي:
العلم لا يمنع من السماع. والجواب عن الآية: أنه لا يُسْمِعُهم وهم موتى. ولكن
الله أحياهم حتى سمعوا، كما قال قتادة. ولم ينفرد عمر ولا ابنه - رضي الله عنهما -
بحكاية ذلك، بل وافقهما: أبو طلحة، وللطبراني من حديث ابن مسعود مثله بإسناد صحيح،
ومن حديث عبد الله بن سيدان نحوه، وفيه: "قالوا يا رسول الله وهل
يسمعون"؟ قال: "يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون"، وفي حديث ابن
مسعود: "ولكنهم اليوم لا يجيبون". ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق
رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه: "ما أنتم
بأسمع لما أقول منهم" وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن
الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة. انظر
بالتفصيل: فتح الباري: 7 / 303-304، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة
للزركشي: ص(99-100)، الروض الأنف للسهيلي: 2 / 74.
وَقِيلَ:
خَاطَبَهُمْ لِيَكُونَ عِبْرَةً لِمَنْ خَلْفَهُمْ.
وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهَا: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ،
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أبلغتكم رسالة 132/ب رَبِّي فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ.
وَكَانَ قِصَّةُ ثَمُودٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَوَهْبٌ
وغيرهما: أن عاد لَمَّا هَلَكَتْ وَانْقَضَى أَمْرُهَا عَمَّرَتْ ثَمُودُ
بَعْدَهَا، وَاسْتُخْلِفُوا فِي الْأَرْضِ فَدَخَلُوا فِيهَا وَكَثُرُوا
وَعَمَّرُوا، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَبْنِي الْمَسْكَنَ مِنَ الْمَدَرِ
فَيَنْهَدِمُ وَالرَّجُلُ حَيٌّ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اتَّخَذُوا مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ مَعَاشِهِمْ فَعَثَوْا
وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ صَالِحًا وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا، وَكَانَ صَالِحٌ مِنْ
أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا وَمَوْضِعًا، فَبَعَثَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ غُلَامًا شَابًّا، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى شَمِطَ وَكَبِرَ
لَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِمْ
صَالِحٌ بِالدُّعَاءِ وَالتَّبْلِيغِ وَأَكْثَرَ لَهُمُ التَّحْذِيرَ
وَالتَّخْوِيفَ سَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً تَكُونُ مِصْدَاقًا لِمَا
يَقُولُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيَّ آيَةٍ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: تَخْرُجُ مَعَنَا
غَدًا إِلَى عِيدِنَا، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ بِأَصْنَامِهِمْ
فِي يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ فَتَدْعُو إِلَهَكَ وَنَدْعُو آلِهَتَنَا،
فَإِنِ اسْتُجِيبَ لَكَ اتَّبَعْنَاكَ وَإِنِ اسْتُجِيبَ لَنَا اتَّبَعْتَنَا،
فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: نَعَمْ، فَخَرَجُوا بِأَوْثَانِهِمْ إِلَى عِيدِهِمْ،
وَخَرَجَ صَالِحٌ مَعَهُمْ فَدَعَوْا أَوْثَانَهُمْ، وَسَأَلُوهَا أَنْ لَا
يُسْتَجَابُ لِصَالِحٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَدْعُو بِهِ، ثُمَّ قَالَ جُنْدَعُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ حَوَّاسٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ ثَمُودَ: يَا صَالِحُ أَخْرِجْ
لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ -لِصَخْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ
الْحِجْرِ يُقَالُ لَهَا الْكَاثِبَةُ -نَاقَةً مُخْتَرِجَةٍ جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ
عُشَرَاءَ
-وَالْمُخْتَرِجَةُ
مَا شَاكَلَ الْبُخْتَ مِنَ الْإِبِلِ -، فَإِنْ فَعَلْتَ صَدَّقْنَاكَ وَآمَنَّا
بِكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ صَالِحٌ مَوَاثِيقَهُمْ لَئِنْ فَعَلْتُ
لَتُصَدِّقُنِّي وَلَتُؤْمِنُنَّ بِي، قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى صَالِحٌ
رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا رَبَّهُ فَتَمَخَّضَتِ الصَّخْرَةُ تَمَخُّضَ النَّتُوجِ
بِوَلَدِهَا، ثُمَّ تَحَرَّكَتِ الْهَضْبَةُ فَانْصَدَعَتْ عَنْ نَاقَةٍ عُشَرَاءَ
جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ كَمَا وَصَفُوا لَا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ جَنْبَيْهَا عِظَمًا
إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ ثُمَّ نَتَجَتْ سَقْيًا مِثْلَهَا فِي
الْعِظَمِ، فَآمَنَ بِهِ جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو وَرَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَرَادَ
أَشْرَافُ ثَمُودَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوهُ فَنَهَاهُمْ ذُؤَابُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ لَبِيدٍ وَالْحُبَابُ صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ وَرَبَابُ بْنُ صَمْغَرَ
وَكَانَ كَاهِنَهُمْ وَكَانُوا مِنْ أَشْرَافِ ثَمُودَ.
فَلَمَّا خَرَجَتِ النَّاقَةُ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ،
لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقَةُ وَمَعَهَا
سَقْيُهَا فِي أَرْضِ ثَمُودَ، تَرْعَى الشَّجَرَ وَتَشْرَبُ الْمَاءَ، فَكَانَتْ
تَرِدُ الْمَاءَ غِبًّا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُهَا وَضَعَتْ رَأْسَهَا فِي بِئْرٍ
فِي الْحِجْرِ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ النَّاقَةِ فَمَا تَرْفَعُ رَأْسَهَا حَتَّى
تَشْرَبَ كُلَّ مَاءٍ فِيهَا، فَلَا تَدَعُ قَطْرَةً، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَهَا
فَتَنْفَشِخُ حَتَّى تَفْحَجَ لَهُمْ فَيَحْلِبُونَ مَا شَاءُوا مِنْ لَبَنٍ،
فَيَشْرَبُونَ وَيَدَّخِرُونَ، حَتَّى +يَمْلَئُوا أَوَانِيَهِمْ كُلَّهَا ثُمَّ
تَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْفَجِّ الَّذِي وَرَدَتْ مِنْهُ لَا تَقْدِرُ أَنْ
تَصْدُرَ مِنْ حَيْثُ تَرِدُ، يَضِيقُ عَنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ كَانَ
يَوْمُهُمْ فَيَشْرَبُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَاءِ وَيَدَّخِرُونَ مَا شَاءُوا
لِيَوْمِ النَّاقَةِ، فَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي سَعَةٍ وَدَعَةٍ، وَكَانَتِ
النَّاقَةُ تُصَيِّفُ إِذَا كَانَ الْحُرُّ بِظَهْرِ الْوَادِي، فَتَهْرُبُ
مِنْهَا الْمَوَاشِي، أَغْنَامُهُمْ وَبَقْرُهُمْ وَإِبِلُهُمْ، فَتَهْبِطُ إِلَى
بَطْنِ الْوَادِي فِي حَرِّهِ وَجَدْبِهِ، وَتَشْتُو بِبَطْنِ الْوَادِي إِذَا
كَانَ الشِّتَاءُ، فَتَهْرُبُ مَوَاشِيهِمْ إِلَى [ظَهْرِ] (1) الْوَادِي فِي
الْبَرْدِ وَالْجَدَبِ فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِمَوَاشِيهِمْ لِلْبَلَاءِ
وَالِاخْتِبَارِ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَعَتَوَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
وَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى عَقْرِهَا.
وَكَانَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ ثَمُودَ إِحْدَاهُمَا يُقَالُ لَهَا عُنَيْزَةُ
بِنْتُ غَنْمِ بْنِ مِجْلِزِ تُكَنَّى بِأُمِّ غَنْمٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةَ
ذُؤَابِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَتْ عَجُوزًا مُسِنَّةً، وَكَانَتْ ذَاتَ بَنَاتٍ
حِسَانٍ وَذَاتَ مَالٍ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى
يُقَالُ لَهَا صُدُوفُ بِنْتُ الْمَحْيَا وَكَانَتْ جَمِيلَةً غَنِيَّةً ذَاتَ
مواشي كَثِيرَةٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِصَالِحٍ
وَكَانَتَا تُحِبَّانِ عَقْرَ النَّاقَةِ [لِمَا أَضَرَّتْ] (2) بِهِمَا مِنْ
مَوَاشِيهِمَا فَتَحَيَّلَتَا فِي عَقْرِ النَّاقَةِ فَدَعَتْ صَدُوفُ رَجُلًا
مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُ الْحُبَابُ لِعَقْرِ النَّاقَةِ، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ
نَفْسَهَا إِنْ هُوَ فَعَلَ فَأَبَى عَلَيْهَا فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ
لَهُ مُصَدَّعُ بْنُ مُهَرِّجِ بْنِ الْمَحْيَا، وَجَعَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا عَلَى
أَنْ يَعْقِرَ النَّاقَةَ وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا
فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَدَعَتْ عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنْمٍ قِدَارَ بْنَ
سَالِفٍ، وَكَانَ رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ
لِزَانِيَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَالِفٍ، وَلَكِنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ سَالِفٍ،
فَقَالَتْ: أُعْطِيكَ أَيَّ
__________
(1) في "ب": (بطن).
(2) ساقط من "أ".
بَنَاتِي
شِئْتَ عَلَى أَنْ تَعْقِرَ النَّاقَةَ، وَكَانَ قِدَارٌ عَزِيزًا مَنِيعًا فِي
قَوْمِهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وَهَيْبٌ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهُ
سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَذَكَرَ
النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا)(الشَّمْسُ-12)، انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ
عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي قَوْمِهِ مِثْلَ أَبِي زَمْعَةَ (1) .
رَجَعْنَا إِلَى الْقِصَّةِ، قَالُوا: فَانْطَلَقَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ
وَمُصَدَّعُ بْنُ مُهَرِّجٍ فَاسْتَغْوَيَا غُوَاةَ ثَمُودَ فَاتَّبَعَهُمْ
سَبْعَةُ نَفَرٍ فَكَانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ، فَانْطَلَقَ قِدَارٌ وَصَدْعٌ
وَأَصْحَابُهُمَا فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ، وَقَدْ
كَمَنَ لَهَا قِدَارٌ فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمَنَ لَهَا
مُصَدَّعٌ فِي طَرِيقٍ آخَرَ فَمَرَّتْ عَلَى مُصَدَّعٍ، فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ
فَانْتَظَمَ بِهِ فِي عَضَلَةِ سَاقِهَا، وَخَرَجَتْ بِنْتُ غَنْمٍ عُنَيْزَةُ،
وَأَمَرَتِ ابْنَتَهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَسْفَرَتْ لِقِدَارٍ
ثُمَّ ذَمَرَتْهُ (2) فَشَدَّ عَلَى النَّاقَةِ بِالسَّيْفِ فَكَشَفَتْ
عُرْقُوبَهَا فَخَرَّتْ وَرَغَتْ رُغَاةً وَاحِدَةً تُحَذِّرُ سَقْبَهَا (3) ثُمَّ
طَعَنَ فِي لُبَتِّهَا فَنَحَرَهَا، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ وَاقْتَسَمُوا
لَحْمَهَا وَطَبَخُوهُ، فَلَمَّا رَأَى سَقْبُهَا ذَلِكَ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى
جَبَلًا مُنِيفًا يُقَالُ لَهُ: صِنْوٌ، وَقِيلَ: اسْمُهُ قَارَّةٌ، وَأَتَى
صَالِحٌ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكِ النَّاقَةَ فَقَدْ عُقِرَتْ، فَأَقْبَلَ
وَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ
إِنَّمَا عَقَرَهَا فُلَانٌ وَلَا ذَنْبَ لَنَا، فَقَالَ صَالِحٌ: انظروا هل
تدكرون فَصِيلَهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُ فَعَسَى أَنْ يُرْفَعَ عَنْكُمُ
الْعَذَابُ، فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى الْجَبَلِ
ذَهَبُوا لِيَأْخُذُوهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْجَبَلِ فَتَطَاوَلَ
فِي السَّمَاءِ حَتَّى مَا تَنَالُهُ الطَّيْرُ.
وَجَاءَ صَالِحٌ فَلَمَّا رَآهُ الْفَصِيلُ بَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ، ثُمَّ
رَغَا ثَلَاثًا، وَانْفَجَرَتِ الصَّخْرَةُ فَدَخَلَهَا. فَقَالَ صَالِحٌ لِكُلِّ
رَغْوَةٍ أَجْلُ يَوْمٍ فَتَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ
وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اتَّبَعَ السَّقْبَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنَ التِّسْعَةِ
الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَفِيهِمْ مُصَدَّعُ بْنُ مُهَرِّجٍ وَأَخُوهُ
ذَابُ بْنُ مُهَرِّجٍ، فَرَمَاهُ مُصَدَّعٌ بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ قَلْبَهُ، ثُمَّ
جَرَّ بِرِجْلِهِ فَأَنْزَلَهُ، فَأَلْقَوْا لَحْمَهُ مَعَ لَحْمِ أُمِّهِ،
وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: انْتَهَكْتُمْ حُرْمَةَ اللَّهِ فَأَبْشِرُوا بِعَذَابِ
اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ، قَالُوا وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ: وَمَتَى ذَلِكَ يَا
صَالِحُ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَيَّامَ فِيهِمْ:
الْأَحَدُ أَوَّلٌ، وَالِاثْنَيْنِ أَهْوَنُ، وَالثُّلَاثَاءَ
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة "والشمس وضحاها": 8 / 705، وفي النكاح،
ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، برقم(2855): 4 /
2191، والمصنف في شرح السنة: 9 / 182.
(2) الذمر: التحريض على القتال.
(3) السقب: ولد الناقة ساعة يولد.
دبار
والأربعاء 133/أ جُبَارٌ، وَالْخَمِيسُ مُؤْنِسٌ وَالْجُمُعَةُ الْعَرُوبَةُ،
وَالسَّبْتُ شِيَارٌ، وَكَانُوا عَقَرُوا النَّاقَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ،
فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ: تُصْبِحُونَ غَدَاةَ يَوْمِ
مُؤْنِسٍ وَوُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةٌ، ثُمَّ تُصْبِحُونَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ
وَوُجُوهُكُمْ مُحْمَرَّةٌ، ثُمَّ تُصْبِحُونَ يَوْمَ شِيَارٍ وَوُجُوهُكُمْ
مُسْوَدَّةٌ، ثُمَّ يُصَبِّحُكُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ أَوَّلٍ.
فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ ذَلِكَ قَالَ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا
النَّاقَةَ: هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ
قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا قَدْ كُنَّا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ،
فَأَتَوْهُ لَيْلًا لِيُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ، فَدَمَغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ
بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أَبْطَأُوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ
صَالِحٍ فَوَجَدُوهُمْ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ، فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ
قَتَلْتَهُمْ، ثُمَّ هَمُّوا بِهِ فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ وَلَبِسُوا
السِّلَاحَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا فَقَدْ
وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ كَانَ
صَادِقًا لَمْ تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَّا غَضَبًا وَإِنْ كَانَ
كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ
لَيْلَتَهُمْ فَأَصْبَحُوا يَوْمَ الْخَمِيسَ وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ
كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْخَلُوقِ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، ذِكْرُهُمْ
وَأُنْثَاهُمْ، فَأَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ وَعَرَفُوا أَنَّ صَالِحًا قَدْ
صَدَقَهُمْ، فَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، وَخَرَجَ صَالِحٌ هَارِبًا مِنْهُمْ حَتَّى
جَاءَ إِلَى بَطْنٍ مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُمْ بَنِي غَنْمٍ، فَنَزَلَ عَلَى
سَيِّدِهِمْ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نُفَيْلٌ وَيُكَنَّى بِأَبِي هُدْبٍ، وَهُوَ
مُشْرِكٌ فَغَيَّبَهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَغَدَوَا عَلَى أَصْحَابِ
صَالِحٍ يُعَذِّبُونَهُمْ لِيَدُلُّوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ
صَالِحٍ يُقَالُ لَهُ مُبْدِعُ بْنُ هَرَمٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُمْ
لَيُعَذِّبُونَنَا لِنَدُلَّهُمْ عَلَيْكَ، أَفَنَدُلُّهُمْ؟ قَالَ: نَعِمَ،
فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَتَوْا أَبَا هُدْبٍ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
نَعِمَ عِنْدِي صَالِحٌ وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، فَأَعْرَضُوا عَنْهُ
وَتَرَكُوهُ وَشَغَلَهُمْ عَنْهُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ،
فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُخْبِرُ بَعْضًا بِمَا يَرَوْنَ فِي وُجُوهِهِمْ فَلَمَّا
أَمْسَوْا صَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ أَلَّا قَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنَ الْأَجَلِ،
فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الثَّانِي إِذَا وُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ
كَأَنَّمَا خُضِبَتْ بِالدِّمَاءِ فَصَاحُوا وَضَجُّوا وَبَكَوْا، وَعَرَفُوا
أَنَّهُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلَّا قَدْ
مَضَى يَوْمَانِ مِنَ الْأَجَلِ وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا
الْيَوْمَ الثَّالِثَ إِذَا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ
بِالْقَارِ، فَصَاحُوا جَمِيعًا: أَلَا قَدْ حَضَرَكُمُ الْعَذَابُ.
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ خَرَجَ صَالِحٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ
وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ رَمَلَةَ فِلَسْطِينَ، فَلَمَّا
أَصْبَحَ الْقَوْمُ تُكَفَّنُوا وَتَحَنَّطُوا وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى
الْأَرْضِ يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً وَإِلَى الْأَرْضِ
مَرَّةً، لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ
الضُّحَى مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا
صَوْتُ كل صاعقة، وصت كُلِّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فِي الْأَرْضِ، فَقَطَّعَتْ
قُلُوبَهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ
إِلَّا هَلَكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ"ُ
إِلَّا
جَارِيَةً مُقْعَدَةً يُقَالُ لَهَا ذَرِيعَةُ بِنْتُ سَالِفٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً
شَدِيدَةَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِصَالِحٍ، فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا
بَعْدَمَا عَايَنَتِ الْعَذَابَ، فَخَرَجَتْ كَأَسْرَعِ مَا يُرَى شَيْءٌ قَطُّ
حَتَّى أَتَتْ قزح، وهو واد الْقُرَى، فَأَخْبَرَتْهُمْ بِمَا عَايَنَتْهُ مِنَ
الْعَذَابِ وَمَا أَصَابَ ثَمُودَ، ثُمَّ اسْتَقَتْ مِنَ الْمَاءِ فَسُقِيَتْ
فَلَمَّا شَرِبَتْ مَاتَتْ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي عَقْرِ النَّاقَةِ وَجْهًا آخَرَ قَالَ: فَأَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إِلَى صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ قَوْمَكَ سَيَعْقِرُونَ
نَاقَتَكَ، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَفْعَلُ، فَقَالَ
صَالِحٌ: إِنَّهُ يُولَدُ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا غُلَامٌ يَعْقِرُهَا فَيَكُونُ
هَلَاكُكُمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالُوا: لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ فِي هَذَا
الشَّهْرِ إِلَّا قَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَوُلِدَ لِتِسْعَةٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ
الشَّهْرِ فَذَبَحُوا أَبْنَاءَهُمْ ثُمَّ وُلِدَ لِلْعَاشِرِ فَأَبَى أَنْ
يَذْبَحَ ابْنَهُ، وَكَانَ لَمْ يُولَدْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُهُ
أَزْرَقَ أَحْمَرَ فَنَبَتَ نَبَاتًا سَرِيعًا وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِالتِّسْعَةِ
وَرَأَوْهُ قَالُوا: لَوْ كَانَ أَبْنَاؤُنَا أَحْيَاءً لَكَانُوا مِثْلَ هَذَا،
فَغَضِبَ التِّسْعَةُ عَلَى صَالِحٍ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ،
فَتَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهَّلَهُ، قَالُوا: نَخْرُجُ لِيَرَى
النَّاسُ أَنَّا قَدْ خَرَجْنَا إِلَى سَفَرٍ فَنَأْتِي الْغَارَ فَنَكُونُ فِيهِ،
حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَخَرَجَ صَالِحٌ إِلَى مَسْجِدِهِ أَتَيْنَاهُ
فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى الْغَارِ فَكُنَّا فِيهِ فَانْصَرَفْنَا
إِلَى رَحْلِنَا فَقُلْنَا: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ، فَيُصَدِّقُونَنَا، يَظُنُّونَ أَنَا قَدْ خَرَجْنَا إِلَى سَفَرٍ.
وَكَانَ صَالِحٌ لَا يَنَامُ مَعَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ، وَكَانَ يَبِيتُ فِي
مَسْجِدٍ يُقَالُ لَهُ مَسْجِدُ صَالِحٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ أَتَاهُمْ فَوَعَظَهُمْ
وَذَكَّرَهُمْ وَإِذَا أَمْسَى خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَاتَ فِيهِ
فَانْطَلَقُوا فَدَخَلُوا الْغَارَ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ فَقَتَلَهُمْ،
فَانْطَلَقَ رِجَالٌ مِمَّنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِذَا هُمْ
رَضْخٌ، فَرَجَعُوا يَصِيحُونَ فِي الْقَرْيَةِ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ مَا رَضِيَ
صَالِحٌ أَنْ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ، فَاجْتَمَعَ
أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ تَقَاسُمُ التِّسْعَةِ عَلَى تَبْيِيتِ صَالِحٍ
بَعْدَ عَقْرِهِمُ النَّاقَةَ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا وُلِدَ ابْنُ الْعَاشِرِ، يَعْنِي:
قَذَارَ، شَبَّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ، وَشَبَّ فِي
شَهْرٍ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي السَّنَةِ، فَلَمَّا كَبِرَ جَلَسَ مَعَ أُنَاسٍ
يُصِيبُونَ مِنَ الشَّرَابِ، فَأَرَادُوا مَاءً يَمْزِجُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ،
وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ شِرْبُ النَّاقَةِ، فَوَجَدُوا الْمَاءَ قَدْ شَرِبَتْهُ
النَّاقَةُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: مَا نَصْنَعُ نَحْنُ
بِاللَّبَنِ؟ لَوْ كُنَّا نَأْخُذُ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُهُ هَذِهِ
النَّاقَةُ فَنَسْقِيهِ أَنْعَامَنَا وَحُرُوثَنَا كَانَ خَيْرًا لَنَا، فَقَالَ
ابْنُ الْعَاشِرِ: هَلْ لَكُمْ فِي أَنْ أَعْقِرَهَا لَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ،
فَعَقَرُوهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ
حَيَّانَ أَبُو زَكَرِيَّا ثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
عَنِ
ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
نَزَلَ الْحِجْرَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ
بِئْرٍ بِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا
وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا
ذَلِكَ الْمَاءَ" (1) . وَقَالَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَأَمَرَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا مَا
اسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ (2) .
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ: لَا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْقَرْيَةَ وَلَا تَشْرَبُوا
مِنْ مَائِهِمْ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ
تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ فَلَا تَسْأَلُوا رَسُولَكُمُ الْآيَاتِ، هَؤُلَاءِ قَوْمُ صَالِحٍ
سَأَلُوا رَسُولَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّاقَةَ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا
الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وُرُودِهَا،
وَأَرَاهُمْ مُرْتَقَى الْفَصِيلِ مِنَ الْقَارَةِ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِمْ وَعَقَرُوهَا، فَأَهْلَكَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ
السَّمَاءِ مِنْهُمْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا إِلَّا رَجُلًا
وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ أَبُو رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ كَانَ فِي حَرَمِ
الله، فمنعه 133/ب حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ
أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ،
وَأَرَاهُمْ قَبْرَ أَبِي رِغَالٍ، فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوا
بِأَسْيَافِهِمْ وَحَفَرُوا عَنْهُ وَاسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ الْغُصْنَ (3) .
وَكَانَتِ الْفِرْقَةُ الْمُؤْمِنَةُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ
خَرَجَ بِهِمْ صَالِحٌ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، فَلَمَّا دَخَلُوهَا مَاتَ صَالِحٌ
فَسَمَّى حَضْرَمَوْتَ ثُمَّ بَنَى الْأَرْبَعَةُ آلَافٍ مَدِينَةً يُقَالُ لَهَا
حَاصُورَاءُ، قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تُوفِي بِمَكَّةَ، وَهُوَ ابْنُ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ فِي قَوْمِهِ عِشْرِينَ سَنَةً.
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا
مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ
دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلُوطًا } أَيْ: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
وَاذْكُرْ لُوطًا. وَهُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ تَارِخَ ابْنُ أَخِي
إِبْرَاهِيمَ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } وَهُمْ أَهْلُ سَدُومٍ وَذَلِكَ أَنَّ
لُوطًا شَخَصَ مِنْ أَرْضِ بَابِلٍ [سَافَرَ] (4) مَعَ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مُؤْمِنًا بِهِ مُهَاجِرًا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ
إِبْرَاهِيمُ فِلَسْطِينَ وَأَنْزَلَ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: "وإلى ثمود أخاهم
صالحا": 6 / 378، ومسلم في الزهد، باب "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا
أنفسهم" برقم(2981): 4 / 2286 بلفظ قريب.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: "وإلى ثمود أخاهم
صالحا": 6 / 378.
(3) أخرجه الطبري في التفسير: 8 / 230 (طبع الحلبي)، والإمام أحمد في المسند
مختصرا: 3 / 296، وصححه الحاكم: 2 / 340-341، ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي
للطبراني في الأوسط والبزار وأحمد، وقال: رجال أحمد رجال الصحيح وعزاه أيضا ابن
حجر لابن حبان. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 37-38، الكافي الشاف ص(65)، الدر المنثور:
3 / 492.
(4) ساقط من "ب".
لُوطًا
الْأُرْدُنَ، فَأَرْسَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَهْلِ سَدُومٍ فَقَالَ
لَهُمْ، { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } يَعْنِي: إِتْيَانَ الذُّكْرَانِ، { مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
مَا يُرَى ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَانَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ.
{ إِنَّكُمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَفْصٌ(إِنَّكُمْ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ
عَلَى الْخَبَرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، { لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ } فِي أَدْبَارِهِمْ، { شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } فَسَّرَ
تِلْكَ الْفَاحِشَةَ يَعْنِي أَدْبَارَ الرِّجَالِ أَشْهَى عِنْدَكُمْ مِنْ
فُرُوجِ النِّسَاءِ، { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } مُجَاوَزُونَ
الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارٌ وَقُرَى لَمْ يَكُنْ فِي
الْأَرْضِ مِثْلُهَا فَقَصَدَهُمُ النَّاسُ فَآذَوْهُمْ، فَعَرَضَ لَهُمْ
إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ، فَقَالَ: إِنْ فَعَلْتُمْ بِهِمْ كَذَا نَجَوْتُمْ،
فَأَبَوْا فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِمُ النَّاسُ قَصَدُوهُمْ فَأَصَابُوهُمْ
غِلْمَانًا صِبَاحًا، فَأَخَذُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
فَأَخْبَثُوا وَاسْتَحْكَمَ ذَلِكَ فِيهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا لَا
يَنْكِحُونَ إِلَّا الْغُرَبَاءَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِبْلِيسُ،
لِأَنَّ بِلَادَهُمْ أَخْصَبَتْ فَانْتَجَعَهَا أَهْلُ الْبُلْدَانِ، أَيْ:
فَتَمَثَّلَ لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَابٍّ، ثُمَّ دَعَا إِلَى دُبُرِهِ،
فَنُكِحَ فِي دُبُرِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاءَ أَنْ تَحْصِبَهُمْ
وَأَمْرَ الْأَرْضَ أَنْ تَخْسِفَ بِهِمْ.
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(85) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا }
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: { أَخْرِجُوهُمْ } يَعْنِي: لُوطًا وَأَهْلَ دِينِهِ،
{ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يَتَنَزَّهُونَ عَنْ
أَدْبَارِ الرِّجَالِ.
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{
فَأَنْجَيْنَاهُ } يَعْنِي: لُوطًا، { وَأَهْلَهُ } الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ:
أَهْلُهُ: ابْنَتَاهُ، { إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }
يَعْنِي: الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَتْ مِنَ
الْبَاقِينَ الْمُعَمِّرِينَ، قَدْ أَتَى عَلَيْهَا دَهْرٌ طَوِيلٌ فَهَلَكَتْ مَعَ
مَنْ هَلَكَ مَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: "مِنَ الْغَابِرِينَ"
لِأَنَّهُ أَرَادَ: مِمَّنْ بَقِيَ مِنَ الرِّجَالِ فَلَمَّا ضُمَّ ذِكْرُهَا
إِلَى ذِكْرِ الرِّجَالِ قَالَ: "مِنَ الْغَابِرِينَ".
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا } يَعْنِي: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. قَالَ
وَهْبٌ: الْكِبْرِيتُ وَالنَّارُ، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ } قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ فِي الْعَذَابِ: أُمْطِرُ،
وَفِي الرَّحْمَةِ: مَطَرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } أَيْ: وَأَرْسَلْنَا
إِلَى وَلَدِ مَدْيَنَ -وَهُوَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ -وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فِي
النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ. قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ تَوْبَةَ بْنِ
مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ
مِيكَائِيلَ بْنِ يَسْخَرَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأُمُّ مِيكَائِيلَ
بِنْتُ لُوطٍ. وَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ يَثْرَوُنَ بْنِ مَدْيَنَ وَكَانَ
شُعَيْبٌ أَعْمَى وَكَانَ يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ
مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ، وَكَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ كُفْرٍ وَبَخْسٍ لِلْمِكْيَالِ
وَالْمِيزَانِ.
{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنَ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ
جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: "قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ" وَلَمْ تَكُنْ
لَهُمْ آيَةٌ؟.
قِيلَ: قَدْ كَانَتْ لَهُمْ آيَةٌ إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ، وَلَيْسَتْ
كُلُّ الْآيَاتِ مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْبَيِّنَةِ مَجِيءَ شُعَيْبٍ.
{ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ } أَتِمُّوا الْكَيْلَ، { وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } لَا تَظْلِمُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ وَلَا
تَنْقُصُوهُمْ إِيَّاهَا، { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا }
أَيْ: بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ إِلَى
قَوْمٍ فَهُوَ صَلَاحُهُمْ، { ذَلِكُمْ } الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ
بِهِ، { خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } مُصَدِّقِينَ بِمَا أَقُولُ.
{ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا
فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) }
{ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ } أَيْ: عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ، { تُوعِدُونَ }
تُهَدِّدُونَ، { وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
دِينِ
اللَّهِ، { مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } زَيْغًا، وَقِيلَ:
تَطْلُبُونَ الِاعْوِجَاجَ فِي الدِّينِ وَالْعُدُولَ عَنِ الْقَصْدِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِسُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقُولُونَ لِمَنْ يُرِيدُ
الْإِيمَانَ بشعيب، إن شعيب كَذَّابٌ فَلَا يَفْتِنَنَّكَ عَنْ دِينِكَ
وَيَتَوَعَّدُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَتْلِ وَيُخَوِّفُونَهُمْ، وَقَالَ
السُّدِّيُّ: كَانُوا عَشَّارِينَ. { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا
فَكَثَّرَكُمْ } فَكَثُرَ عَدَدُهُمْ، { وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ } أَيْ: آخِرُ أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ.
{ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ
لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ (87) }
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ
مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفَاتِحِينَ (89) }
{ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ
لَمْ يُؤْمِنُوا } أَيْ: إِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي رِسَالَتِي فَصِرْتُمْ
فِرْقَتَيْنِ مُكَذِّبِينَ وَمُصَدِّقِينَ، { فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
بَيْنَنَا } بِتَعْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ وَإِنْجَاءِ الْمُصَدِّقِينَ، { وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ
الَّذِينَ تَعَظَّمُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا }
لِتَرْجِعَنَّ إِلَى دِينِنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، { قَالَ } شُعَيْبٌ {
أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يَعْنِي: لَوْ كُنَّا، أَيْ: وَإِنْ كُنَّا
كَارِهِينَ لِذَلِكَ فَتُجْبِرُونَنَا عَلَيْهِ؟
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ
إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا } بَعْدَ
إِذْ أَنْقَذَنَا اللَّهُ مِنْهَا، { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا }
يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ لَنَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ
أَنَا نَعُودُ فِيهَا فَحِينَئِذٍ يَمْضِي قَضَاءُ اللَّهِ فِينَا وَيُنَفِّذُ
حُكْمَهُ عَلَيْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: "أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا"، "وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا"، وَلَمْ
يَكُنْ شُعَيْبٌ قَطُّ عَلَى مِلَّتِهِمْ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُمْ تَرْجِعُ
إِلَى مِلَّتِنَا؟
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
قِيلَ:
مَعْنَاهُ: أَوْ لَتَدْخُلَنَّ فِي مِلَّتِنَا، فَقَالَ: وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ
نَدْخُلَ فِيهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ صِرْنَا فِي مِلَّتِكُمْ. وَمَعْنَى عَادَ صَارَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ قَوْمَ شُعَيْبٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا فَآمَنُوا
فَأَجَابَ شُعَيْبٌ عنهم.
قوله تعال: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ،
{ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } فِيمَا تُوعِدُونَنَا بِهِ، ثُمَّ عَادَ شُعَيْبٌ
بَعْدَمَا أَيِسَ مِنْ فَلَاحِهِمْ فَقَالَ: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا } أَيِ: اقْضِ بَيْنَنَا، { بِالْحَقِّ } وَالْفَتَّاحُ:
الْقَاضِي، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أَيِ: الْحَاكِمِينَ.
{ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ
لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ
(92) }
{ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْبًا } وَتَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، { إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ }
مَغْبُونُونَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: جَاهِدُونَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: عَجَزَةٌ.
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: الزَّلْزَلَةُ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ جَهَنَّمَ،
فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حَرًّا شَدِيدًا، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ وَلَمْ
يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْأَسْرَابَ
لِيَتَبَرَّدُوا فِيهَا، فَإِذَا دَخَلُوهَا وَجَدُوهَا أَشَدَّ حَرًّا مِنَ
الظَّاهِرِ، فَخَرَجُوا هَرَبًا إِلَى الْبَرِيَّةِ فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً
فِيهَا رِيحٌ طيبة فأظلتهم 134/أ وَهِيَ الظُّلَّةُ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرَدًا
وَنَسِيمًا فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى اجْتَمَعُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ،
رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ، أَلْهَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ
نَارًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ
الْمَقْلِيُّ، وَصَارُوا رَمَادًا.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ. قَالَ يَزِيدُ الْجَرِيرِيُّ: سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رُفِعَ لَهُمْ جَبَلٌ مِنْ بَعِيدٍ،
فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَإِذَا تَحْتَهُ أَنْهَارٌ وَعُيُونٌ فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهُ
كُلُّهُمْ فَوَقَعَ ذَلِكَ الْجَبَلُ عَلَيْهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ(عَذَابُ
يَوْمِ الظُّلَّةِ)(الشُّعَرَاءُ-89)، قَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا
إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ، أَمَّا أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
فَأُهْلِكُوا بِالظُّلَّةِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ مَدْيَنَ فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ، صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَيْحَةً فَهَلَكُوا
جَمِيعًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ: كَانَ أَبُو جَادٍ وَهُوزٌ
وَحَطِّيٌّ وَكَلَمُنْ وَسَعْفَصْ وَقَرَشَتْ مُلُوكُ مَدْيَنَ، وَكَانَ
مَلِكُهُمْ فِي زَمَنِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
السَّلَامُ
يَوْمَ الظُّلَّةِ كَلَمُنْ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالَتِ ابْنَتُهُ تَبْكِيهِ:
كَلَمُنْ قَدْ هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسْطَ الْمَحِلَّهْ
سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ ... الْحَتْفُ نَارًا تَحْتَ ظِلِّهْ
جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أَيْ: لَمْ يُقِيمُوا
وَلَمْ يَنْزِلُوا فِيهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَنِيتُ بِالْمَكَانِ إِذَا قُمْتُ
بِهِ، وَالْمَغَانِي الْمَنَازِلُ وَاحِدُهَا مَغْنَى، وَقِيلَ: كَأَنَّ لَمْ
يَتَنَعَّمُوا فِيهَا. { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ
الْخَاسِرِينَ } لَا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا زَعَمُوا.
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ
الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ
وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) }
{ فَتَوَلَّى } أَعْرَضَ { عَنْهُمْ } شُعَيْبٌ شَاخِصًا مِنْ بَيْنِ أَظْهَرِهِمْ
حِينَ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ، { وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى } أَحْزَنُ { عَلَى قَوْمٍ
كَافِرِينَ } وَالْأَسَى: الْحُزْنُ، وَالْأَسَى: الصَّبْرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ } فِيهِ
إِضْمَارٌ، يَعْنِي: فَكَذَّبُوهُ، { إِلَّا أَخَذْنَا } عَاقَبْنَا { أَهْلَهَا }
حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، { بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
الْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ
قَالَ: الْبَأْسَاءُ فِي الْمَالِ، وَالضَّرَّاءُ فِي النَّفْسِ، وَقِيلَ:
الْبَأْسَاءُ الْبُؤْسُ وَضِيقُ الْعَيْشِ، وَالضَّرَّاءُ وَالضُّرُّ سُوءُ
الْحَالِ. وَقِيلَ: الْبَأْسَاءُ فِي الْحَرْبِ وَالضَّرَّاءُ: الْجَدْبُ، {
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } لِكَيْ يَتَضَرَّعُوا فَيَتُوبُوا.
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } يَعْنِي: مَكَانَ
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الْحَسَنَةَ، يَعْنِي: النِّعْمَةَ وَالسَّعَةَ
وَالْخِصْبَ وَالصِّحَّةَ، { حَتَّى عَفَوْا } أَيْ: كَثُرُوا وَازْدَادُوا،
وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، [يُقَالُ: عَفَا الشَّعْرُ إِذَا كَثُرَ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ] (1) { وَقَالُوا } مَنْ
غِرَّتِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ بَعْدَ مَا صَارُوا إِلَى
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
الرَّخَاءِ، { قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ } أَيْ: هَكَذَا كَانَتْ عَادَةُ الدَّهْرِ قَدِيمًا لَنَا وَلِآبَائِنَا، وَلَمْ يَكُنْ مَا مَسَّنَا مِنَ الضَّرَّاءِ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ، فَكُونُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } فَجْأَةً آمَنَ مَا كَانُوا { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } بِنُزُولِ الْعَذَابِ.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا
بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
(100) }
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } يَعْنِي: الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ
وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى
الشَّيْءِ، أَيْ: تَابَعْنَا عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ وَرَفَعْنَا
عَنْهُمُ الْقَحْطَ وَالْجَدْبَ، { وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ } مِنَ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا، يَعْنِي: أَهْلَ
مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، { أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } عَذَابُنَا، { بَيَاتًا
} لَيْلًا { وَهُمْ نَائِمُونَ }
{ أَوَأَمِنَ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ: "أَوْ أَمِنَ"
بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، { أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى } أَيْ: نَهَارًا، وَالضُّحَى: صَدْرُ النَّهَارِ،
وَوَقْتُ انْبِسَاطِ الشَّمْسِ، { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } سَاهُونَ لَاهُونَ.
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ } وَمَكْرُ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا أَنْعَمَ
عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: يَعْنِي أَخْذَهُ وَعَذَابَهُ.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } قَرَأَ قَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ: "نَهْدِ" بِالنُّونِ
عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى التَّفْرِيدِ==
7 معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير
البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
يَعْنِي
أَوَلَمْ نُبَيِّنُ، { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ } هَلَاكِ {
أَهْلِهَا } الَّذِينَ كَانُوا فِيهَا قَبْلَهُمْ { أَنْ لَوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُمْ } أَيْ: أَخَذْنَاهُمْ وَعَاقَبْنَاهُمْ، { بِذُنُوبِهِمْ } كَمَا
عَاقَبْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ، { وَنَطْبَعُ } نَخْتِمُ { عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لَا يَسْمَعُونَ } الْإِيمَانَ وَلَا يَقْبَلُونَ الْمَوْعِظَةَ، قَالَ
الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ { وَنَطْبَعُ عَلَى } مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ
قَوْلَهُ { أَصَبْنَاهُمْ } مَاضٍ وَ" نَطْبَعُ " مُسْتَقْبَلٌ.
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) }
{ تِلْكَ الْقُرَى } أَيْ: هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي ذَكَرْتُ لَكَ أَمْرَهَا
وَأَمْرَ أَهْلِهَا، يَعْنِي: قُرَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ
لُوطٍ وَشُعَيْبٍ، { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا } أَخْبَارِهَا لِمَا
فِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ، { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ }
بِالْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْعَجَائِبِ، { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } أَيْ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ رُؤْيَةِ
الْمُعْجِزَاتِ وَالْعَجَائِبِ بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِهِمْ تِلْكَ
الْعَجَائِبَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:(قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ
قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ)(الْمَائِدَةُ-102).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ
الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ بِمَا
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ يَوْمَ أُخِذَ مِيثَاقُهُمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ
آدَمَ، فَأَقَرُّوا بِاللِّسَانِ وَأَضْمَرُوا التَّكْذِيبَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
مَعْنَاهُ فَمَا كَانُوا لَوْ أَحْيَيْنَاهُمْ بَعْدَ إِهْلَاكِهِمْ لِيُؤْمِنُوا
بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ هَلَاكِهِمْ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:(وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)(الْأَنْعَامُ-28).
قَالَ يَمَانُ بْنُ رَبَابٍ: هَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالْعَذَابِ فَكَذَّبُوهُ، يَقُولُ: مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبَ بِهِ أَوَائِلُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، بَلْ كَذَّبُوا بِمَا
كَذَّبَ أَوَائِلُهُمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:(كَذَلِكَ مَا أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ)(الذَّارِيَاتُ-52). { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ
الْكَافِرِينَ } أَيْ: كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ
الَّتِي أَهْلَكَهَا، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ
الَّذِينَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا مَنْ قَوْمِكَ.
{ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ } أَيْ: وَفَاءً بِالْعَهْدِ
الَّذِي عَاهَدَهُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ {
وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أَيْ: مَا وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
إِلَّا فَاسِقِينَ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) }
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
{
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ
إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ } أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ
وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ، { مُوسَى بِآيَاتِنَا } بِأَدِلَّتِنَا، { إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا } فَجَحَدُوا بِهَا، وَالظُّلْمُ: وَضْعُ
الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَظُلْمُهُمْ وَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ
الْإِيمَانِ، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } وَكَيْفَ
فَعَلْنَا بِهِمْ.
{ وَقَالَ مُوسَى } لَمَّا دَخَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، { يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إِلَيْكَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: كَذَبْتَ
فَقَالَ مُوسَى:
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } 134/ب أَيْ:
أَنَا خَلِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، فَتَكُونُ
" عَلَى " بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا يُقَالُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ
وَرَمَيْتُ عَلَى الْقَوْسِ، وَجِئْتُ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ،
يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ والأعمش " حقيق بأن لَا أَقُولَ عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ " وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ حَرِيصٌ
عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَقَرَأَ نَافِعٌ(عَلَيَّ)
بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ. { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي
الْعَصَا، { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أَيْ: أَطْلِقْ عَنْهُمْ
وَخَلِّهِمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ
اسْتَخْدَمَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ مِنْ ضَرْبِ اللَّبِنِ وَنَقْلِ
التُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا.
فَقَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لِمُوسَى: { قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ
بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
{ فَأَلْقَى } مُوسَى { عَصَاهُ } مِنْ يَدِهِ { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ }
وَالثُّعْبَانُ: الذَّكَرُ الْعَظِيمُ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ
قَالَ فِي مَوْضِعٍ:(كَأَنَّهَا جَانٌّ)(النَّمْلُ-10)، وَالْجَانُّ الْحَيَّةُ
الصَّغِيرَةُ؟ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ كَالْجَانِّ فِي الْحَرَكَةِ وَالْخِفَّةِ،
وَهِيَ فِي جُثَّتِهَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ لَمَّا أَلْقَى الْعَصَا صَارَتْ
حَيَّةً عَظِيمَةً صَفْرَاءَ شَعْرَاءَ فَاغِرَةً فَاهَا مَا بَيْنَ لِحْيَيْهَا
ثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَارْتَفَعَتْ مِنَ الْأَرْضِ بِقَدْرِ مِيلٍ، وَقَامَتْ لَهُ
عَلَى ذَنَبِهَا وَاضِعَةً لِحْيَهَا الْأَسْفَلَ فِي
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
الْأَرْضِ
وَالْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ، وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ
لِتَأْخُذَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهَا أَخَذَتْ قُبَّةَ فِرْعَوْنَ بَيْنَ نَابَيْهَا
فَوَثَبَ فِرْعَوْنُ مِنْ سَرِيرِهِ هَارِبًا وَأَحْدَثَ.
قِيلَ: أَخَذَهُ الْبَطْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ،
وَحَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا وَصَاحُوا وَمَاتَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ الْبَيْتَ
وَصَاحَ يَا مُوسَى أُنْشَدُكَ بِالَّذِي أَرْسَلَكَ خُذْهَا وَأَنَا أُؤْمِنُ
بِكَ وَأُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخَذَهَا مُوسَى فَعَادَتْ عَصَا
كَمَا كَانَتْ ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ: هَلْ مَعَكَ آيَةٌ أُخْرَى؟ قَالَ: نَعَمْ.
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ
وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) }
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي
جَيْبِهِ ثُمَّ نَزَعَهَا، وَقِيلَ: أَخْرَجَهَا مِنْ تَحْتِ إِبِطَهَ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَاءُ لَهَا شُعَاعٌ غَلَبَ نُورَ الشَّمْسِ، وَكَانَ مُوسَى آدَمَ،
ثُمَّ أَدْخَلَهَا جَيْبَهُ فَصَارَتْ كَمَا كَانَتْ.
{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }
يَعْنُونَ أَنَّهُ لَيَأْخُذُ بِأَعْيُنِ النَّاسِ حَتَّى يُخَيِّلَ إِلَيْهِمُ
الْعَصَا حَيَّةً وَالْآدَمَ أَبْيَضَ، وَيُرِيَ الشَّيْءَ بِخِلَافِ مَا هُوَ
بِهِ.
{ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ } يَا مَعْشَرَ الْقِبْطِ، { مِنْ أَرْضِكُمْ }
مِصْرَ، { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أَيْ: تُشِيرُونَ إِلَيْهِ، هَذَا يَقُولُهُ
فِرْعَوْنُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَأِ
لِفِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ.
{ قَالُوا } يَعْنِي الْمَلَأَ { أَرْجِهْ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ
الْبَصْرَةِ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِلَا هَمْزٍ، ثُمَّ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ وَالْكِسَائِيُّ
يُشْبِعَانِ الْهَاءَ كَسْرًا، وَيُسَكِّنُهَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ،
وَيَخْتَلِسُهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونَ.
قَالَ عَطَاءٌ، مَعْنَاهُ أَخِّرْهُ. وَقِيلَ: احْبِسْهُ، { وَأَخَاهُ } مَعْنَاهُ
أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ أَمْرِهِ وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالْقَتْلِ،
{ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } يَعْنِي الشُّرَطَ وَالْمَدَائِنَ،
وَهِيَ مَدَائِنُ الصَّعِيدِ مِنْ نَوَاحِي مِصْرَ، قَالُوا: أَرْسَلَ إِلَى هَذَا
الْمَدَائِنِ رِجَالًا يَحْشُرُونَ إِلَيْكَ مَنْ فِيهَا مِنَ السَّحَرَةِ،
وَكَانَ رُؤَسَاءُ السَّحَرَةِ بِأَقْصَى مَدَائِنِ الصَّعِيدِ، فَإِنْ غَلَبَهُمْ
مُوسَى صَدَقْنَاهُ وَإِنْ غَلَبُوا عَلِمْنَا أَنَّهُ سَاحِرٌ.
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: "سَحَّارٍ" هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ يُونُسَ، وَلَمْ
يَخْتَلِفُوا فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ "سَحَّارٍ".
قِيلَ: السَّاحِرُ: الَّذِي يَعْلَمُ السِّحْرَ وَلَا يُعَلِّمُ، وَالسَّحَّارُ:
الَّذِي يُعَلِّمُ، وَقِيلَ: السَّاحِرُ مَنْ يَكُونُ سِحْرُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ
وَقْتٍ، وَالسَّحَّارُ مَنْ يُدِيمُ السِّحْرَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالسُّدِّيُّ: قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا
رَأَى مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ فِي الْعَصَا مَا رَأَى: إِنَّا لَا نُغَالِبُ
إِلَّا بِمَنْ هُوَ +أَعْلَمُ مِنْهُ، فَاتَّخَذَ غِلْمَانًا مَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا الْفَرْحَاءُ
يُعَلِّمُونَهُمُ السِّحْرَ، فَعَلَّمُوهُمْ سِحْرًا كَثِيرًا، وَوَاعَدَ
فِرْعَوْنُ مُوسَى مَوْعِدًا فَبَعَثَ إِلَى السَّحَرَةِ فَجَاءُوا
وَمُعَلِّمُهُمْ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَدْ
عَلَّمْتُهُمْ سِحْرًا لَا يُطِيقُهُ سَحَرَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
أَمْرًا مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَ
فِرْعَوْنُ فِي مَمْلَكَتِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ فِي سُلْطَانِهِ سَاحِرًا +إِلَّا
أَتَى بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِمْ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ،
اثْنَانِ مِنَ الْقِبْطِ، وَهُمَا رَأْسَا الْقَوْمِ، وَسَبْعُونَ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كان الذين يعملونهم رَجُلَيْنِ مَجُوسِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ
نِينَوَى، وَكَانُوا سَبْعِينَ غَيْرَ رَئِيسِهِمْ.
وَقَالَ كَعْبٌ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا
بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ رَئِيسُ
السَّحَرَةِ شَمْعُونَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رَئِيسُ السَّحَرَةِ يُوحَنَّا.
{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا
نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
(114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
(115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) }
{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ } وَاجْتَمَعُوا، { قَالُوا } لِفِرْعَوْنَ {
إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا } أَيْ جُعْلًا وَمَالًا
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَحَفْصٌ:
"إِنَّ لَنَا" عَلَى الْخَبَرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ مُسْتَفْهِمٌ.
{ قَالَ } فِرْعَوْنُ { نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } فِي الْمَنْزِلَةِ
الرَّفِيعَةِ عِنْدِي مَعَ الْأَجْرِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَوَّلَ مَنْ
يَدْخُلُ وَآخِرَ مَنْ يَخْرُجُ.
{ قَالُوا } يَعْنِي السَّحَرَةَ { يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ } عَصَاكَ {
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } لِعِصِيِّنَا وَحِبَالِنَا.
{ قَالَ } مُوسَى بَلْ { أَلْقُوا } أَنْتُمْ، { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ } أَيْ: صَرَفُوا أَعْيُنَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ مَا
فَعَلُوهُ مِنَ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ، وَهَذَا هُوَ السِّحْرُ، {
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } أَيْ: أَرْهَبُوهُمْ وَأَفْزَعُوهُمْ، { وَجَاءُوا بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخَشَبًا طِوَالًا
فَإِذَا هِيَ حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ
بَعْضُهَا بَعْضًا. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مِيلَا فِي مِيلٍ
صَارَتْ حَيَّاتٍ وَأَفَاعِيَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فَأَلْقَاهَا فَصَارَتْ
حَيَّةً عَظِيمَةً حَتَّى سَدَّتِ الْأُفُقَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ
اجْتِمَاعُهُمْ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَيُقَالُ: بَلَغَ ذَنَبُ الْحَيَّةِ مِنْ
وَرَاءِ الْبُحَيْرَةِ ثُمَّ فَتَحَتْ فَاهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، { فَإِذَا هِيَ
تَلْقَفُ } قَرَأَ حَفْصٌ: "تَلْقَفُ" سَاكِنَةَ اللَّامِ، خَفِيفَةً،
حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ،
أَيْ: تَبْتَلِعُ، { مَا يَأْفِكُونَ } يَكْذِبُونَ مِنَ التَّخَايِيلِ وَقِيلَ:
يُزَوِّرُونَ عَلَى النَّاسِ. فَكَانَتْ تَلْتَقِمُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَاحِدًا واحدا حتى ابتعلت الْكُلَّ وَقَصَدَتِ الْقَوْمَ الَّذِينَ حَضَرُوا فَوَقَعَ
الزِّحَامُ عَلَيْهِمْ فَهَلَكَ مِنْهُمْ فِي الزِّحَامِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
أَلْفًا، ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى فَصَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ.
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) }
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ
فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) }
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ } قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: ظَهَرَ الْحَقُّ، { وَبَطَلَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 135/أ مِنَ السِّحْرِ
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وَذَلِكَ
أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَصْنَعُ مُوسَى سِحْرًا لَبَقِيَتْ
حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا فَلَمَّا فُقِدَتْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ.
{ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } ذَلِيلِينَ مَقْهُورِينَ .
{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُقَاتِلٌ:
أَلْقَاهُمُ اللَّهُ. وَقِيلَ: أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْجُدُوا فَسَجَدُوا.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ سُرْعَةِ مَا سَجَدُوا كَأَنَّهُمْ أُلْقُوا.
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } فَقَالَ فِرْعَوْنُ: إِيَّايَ
تَعْنُونَ فَقَالُوا، { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }
{ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ مُوسَى لِكَبِيرِ السَّحَرَةِ
تُؤْمِنُ بِي إِنْ غَلَبْتُكَ؟ فَقَالَ: لَآتِيَنَّ بِسِحْرٍ لَا يَغْلِبُهُ
سِحْرٌ، وَلَئِنْ غَلَبْتَنِي لِأُومِنَنَّ بِكَ، وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ.
{ قَالَ } لَهُمْ { فِرْعَوْنُ } حِينَ آمَنُوا { آمَنْتُمْ بِهِ } قَرَأَ حَفْصٌ
"آمَنْتُمْ" عَلَى الْخَبَرِ هَاهُنَا وَفِي طَهَ وَالشُّعَرَاءِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ أَآمَنْتُمْ بِهِ، { قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ } أَصَدَّقْتُمْ مُوسَى مِنْ غَيْرِ أَمْرِي إِيَّاكُمْ، { إِنَّ هَذَا
لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ } أَيْ: صَنِيعٌ صَنَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَمُوسَى: { فِي
الْمَدِينَةِ } فِي مِصْرَ قَبْلَ خُرُوجِكُمْ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ
لِتَسْتَوْلُوا عَلَى مِصْرَ، { لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ } مَا أَفْعَلُ بِكُمْ.
{ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ } وَهُوَ أَنْ
يَقْطَعَ مِنْ كُلِّ شِقٍّ طَرَفًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمُ الْيُمْنَى وَأَرْجُلَكُمُ الْيُسْرَى، { ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ } عَلَى شَاطِئِ [نَهْرِ] (1) مِصْرَ.
{ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا
فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) }
{ قَالُوا } يَعْنِي السَّحَرَةَ لِفِرْعَوْنَ، { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا
مُنْقَلِبُونَ } رَاجِعُونَ فِي الْآخِرَةِ.
{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا } أَيْ: مَا تَكْرَهُ مِنَّا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ
وَغَيْرُهُ: وَمَا تَطْعَنُ عَلَيْنَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا لَنَا عِنْدَكَ مِنْ
ذَنْبٍ تُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ، { إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا
جَاءَتْنَا } ثُمَّ فَزِعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالُوا:
__________
(1) في "ب": (بحر).
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{
رَبَّنَا أَفْرِغْ } اصْبُبْ، { عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }
ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ: أَنَّ فِرْعَوْنَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَلَا
يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ)
[الْقَصَصُ-35].
{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ } لَهُ { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } وَأَرَادُوا بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ
دُعَاءَهُمُ النَّاسَ إِلَى مُخَالَفَةِ فِرْعَوْنَ فِي عِبَادَتِهِ، { وَيَذَرَكَ
} أَيْ: وَلِيَذَرَكَ، { وَآلِهَتَكَ } فُلَا يَعْبُدُكَ وَلَا يَعْبُدُهَا. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ بَقَرَةٌ يَعْبُدُهَا، وَكَانَ إِذَا رَأَى
بَقَرَةً حَسْنَاءَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهَا، فَلِذَلِكَ أَخْرَجَ
السَّامِرِيُّ لَهُمْ عِجْلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ قَدْ عَلَّقَ عَلَى
عُنُقِهِ صَلِيبًا يَعْبُدُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ
اتَّخَذَ لِقَوْمِهِ أَصْنَامًا وَأَمَرَهَمْ بِعِبَادَتِهَا، وَقَالَ لِقَوْمِهِ
هَذِهِ آلِهَتُكُمْ وَأَنَا رَبُّهَا وَرَبُّكُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ(أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النَّازِعَاتُ-24)، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: "وَيَذَرَكَ وَإَلِاهَتِكَ"
بِكَسْرِ الْأَلِفِ، أَيْ: عِبَادَتَكَ فَلَا يَعْبُدُكَ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ
كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْآلِهَةِ الشَّمْسَ.
وَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّعْبَاءِ
قَصْرًا ... وَأَعْجَلْنَا الْإِلَاهَةَ أَنْ تَؤُبَا
{ قَالَ } فِرْعَوْنُ { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ:
"سَنَقْتُلُ" بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْقَتْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْتِيلِ عَلَى التَّكْثِيرِ، { وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ } نَتْرُكُهُنَّ أَحْيَاءً، { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }
غَالِبُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ يُقَتِّلُ أَبْنَاءَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الْعَامِ الَّذِي قِيلَ أَنَّهُ يُولَدُ مَوْلُودٌ يَذْهَبُ بِمُلْكِكَ،
فَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُهُمْ حَتَّى أَتَاهُمْ مُوسَى بِالرِّسَالَةِ، وَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَعِيدُوا عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ،
فَأَعَادُوا عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَشَكَتْ ذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ.
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ
(128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا
جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
(130) }
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
} يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، { يُورِثُهَا } يُعْطِيهَا { مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ. وَقِيلَ:
السَّعَادَةُ وَالشَّهَادَةُ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ.
{
قَالُوا أُوذِينَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا آمَنَتِ السَّحَرَةُ اتَّبَعَ
مُوسَى سِتِّمِائَةُ أَلْفٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا -يَعْنِي قَوْمَ
مُوسَى -إِنَّا أُوذِينَا، { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا } بِالرِّسَالَةِ
بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ، { وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } بِإِعَادَةِ الْقَتْلِ
عَلَيْنَا. وَقِيلَ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَسْتَسْخِرُهُمْ
قَبْلَ مَجِيءِ مُوسَى إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
اسْتَسْخَرَهُمْ جَمِيعَ النَّهَارِ بِلَا أَجْرٍ. وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ لَهُ اللَّبِنَ بِتِبْنِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا
جَاءَ مُوسَى أَجْبَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ بِتِبْنٍ مِنْ عِنْدِهِمْ. { قَالَ }
مُوسَى { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } فِرْعَوْنَ، {
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: يُسْكِنَكُمْ أَرْضَ مِصْرَ مِنْ
بَعْدِهِمْ، { فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فَحَقَّقَ اللَّهُ ذَلِكَ
بِإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
فَعَبَدُوا الْعِجْلَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ }
أَيْ: بِالْجُدُوبِ وَالْقَحْطِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: مَسَّتْهُمُ السَّنَةُ، أَيْ:
جَدْبُ السَّنَةِ وَشِدَّةُ السَّنَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالسِّنِينَ الْقَحْطَ
سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، { وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ } وَالْغَلَّاتِ بِالْآفَاتِ
وَالْعَاهَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا السِّنِينَ فَلِأَهْلِ الْبَوَادِي،
وَأَمَّا نَقْصِ الثَّمَرَاتِ فَلِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، { لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ } أَيْ: يَتَّعِظُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشدة ترقق القوب
وَتُرَغِّبُهَا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ
اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا
تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
(132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ
وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا
مُجْرِمِينَ (133) }
{ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ } يَعْنِي: الْخِصْبَ وَالسَّعَةَ
وَالْعَافِيَةِ، { قَالُوا لَنَا هَذِهِ } أَيْ: نَحْنُ أَهْلُهَا
وَمُسْتَحِقُّوهَا عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي جَرَتْ لَنَا فِي سَعَةِ أَرْزَاقِنَا
وَلَمْ يَرَوْهَا تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَشْكُرُوا عَلَيْهَا،
{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } جَدْبٌ وَبَلَاءٌ وَرَأَوْا مَا يَكْرَهُونَ، {
يَطَّيَّرُوا } يَتَشَاءَمُوا، { بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } وَقَالُوا: مَا
أَصَابَنَا بَلَاءٌ حَتَّى رَأَيْنَاهُمْ، فَهَذَا مِنْ شُؤْمِ مُوسَى وَقَوْمِهِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: كَانَ مُلْكُ
فِرْعَوْنَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَاشَ سِتَّمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً لَا
يَرَى مَكْرُوهًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ جُوعُ يَوْمٍ أَوْ
حُمَّى لَيْلَةٍ، أَوْ وَجَعُ سَاعَةٍ، لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قَطُّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أَيْ:
انْصِبَاؤُهُمْ مِنَ الْخِصْبِ وَالْجَدْبِ
وَالْخَيْرِ
وَالشَّرِّ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَائِرُهُمْ مَا قَضَى
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَدَّرَ لَهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: شُؤْمُهُمْ عِنْدَ
اللَّهِ وَمِنْ قِبَلِ اللَّهِ. أَيْ: إِنَّمَا جَاءَهُمُ الشُّؤْمُ بِكُفْرِهِمْ
بِاللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشُّؤْمُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُمْ عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أَنَّ
الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنَ اللَّهِ.
{ وَقَالُوا } يَعْنِي: الْقِبْطَ لِمُوسَى { مَهْمَا تَأْتِنَا } مَتَى مَا
كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، { تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ }
مِنْ عَلَامَةٍ، { لِتَسْحَرَنَا بِهَا } لِتَنْقِلَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ
مِنَ الدِّينِ، { فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } بِمُصَدِّقِينَ.
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ } قَالَ ابن عباس 135/ب وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ -دَخَلَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي
بَعْضٍ -: لَمَّا آمَنَتِ السَّحَرَةُ، وَرَجَعَ فِرْعَوْنُ مَغْلُوبًا، أَبَى
هُوَ وَقَوْمُهُ إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي فِي الشَّرِّ،
فَتَابَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ وَأَخَذَهُمْ بِالسِّنِينَ وَنَقَصٍ مِنَ
الثَّمَرَاتِ، فَلَمَّا عَالَجَ مِنْهُمْ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ: الْعَصَا،
وَالْيَدِ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصِ الثِّمَارِ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤْمِنُوا فَدَعَا
عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ عَبْدَكَ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ
وَبَغَى وَعَتَا وَإِنَّ قَوْمَهُ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَكَ، رَبِّ فَخُذْهُمْ
بِعُقُوبَةٍ تَجْعَلُهَا لَهُمْ نِقْمَةً وَلِقَوْمِي عِظَةً وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ
آيَةً وَعِبْرَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ، وَهُوَ الْمَاءُ،
أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ وَبُيُوتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبُيُوتُ
الْقِبْطِ مُشْتَبِكَةٌ مُخْتَلِطَةٌ، فَامْتَلَأَتْ بُيُوتُ الْقِبْطِ حَتَّى
قَامُوا فِي الْمَاءِ إِلَى تَرَاقِيهِمْ وَمَنْ جَلَسَ مِنْهُمْ غَرِقَ، وَلَمْ
يَدْخُلْ بُيُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمَاءِ قَطْرَةٌ، وَرَكَدَ الْمَاءُ
عَلَى أَرْضِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَحْرُثُوا وَلَا يَعْمَلُوا شَيْئًا،
وَدَامَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنَ السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: الطُّوفَانُ الْمَوْتُ. وَقَالَ وَهْبٌ: الطُّوفَانُ
الطَّاعُونُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: الطُّوفَانُ
الْجُدَرِيُّ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ عُذِّبُوا بِهِ فَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الطُّوفَانُ الْمَاءُ طَغَى فَوْقَ حُرُوثِهِمْ.
وَرَوَى ابْنُ ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّوفَانُ أَمْرٌ مِنَ
اللَّهِ طَافَ بِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ(فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ
وَهُمْ نَائِمُونَ)(الْقَلَمُ-19).
قَالَ نُحَاةُ الْكُوفَةِ: الطُّوفَانُ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ، كَالرُّجْحَانِ
وَالنُّقْصَانِ.
وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: هُوَ جَمْعٌ، وَاحِدُهَا طُوفَانَةٌ، فَقَالَ
لِمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفُ عَنَّا الْمَطَرَ فَنُؤْمِنُ بِكَ وَنُرْسِلُ
مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَرَفَعَ عَنْهُمُ الطُّوفَانَ،
فَأَنْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ شيئا لم ينتبه لَهُمْ قَبْلَ
ذَلِكَ مِنَ الْكَلَأِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَأَخْصَبَتْ بِلَادُهُمْ،
فَقَالُوا: مَا كَانَ هَذَا الْمَاءُ إِلَّا
نِعْمَةً
عَلَيْنَا وَخِصْبًا، فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَأَقَامُوا شَهْرًا فِي عَافِيَةٍ،
فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ عَامَّةَ زُرُوعِهِمْ
وَثِمَارِهِمْ وَأَوْرَاقِ الشَّجَرِ حَتَّى كَانَتْ تَأْكُلُ الْأَبْوَابَ
وَسُقُوفَ الْبُيُوتِ وَالْخَشَبِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ وَمَسَامِيرِ
الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَعَ دُورُهُمْ، وَابْتُلِيَ الْجَرَادُ
بِالْجُوعِ، فَكَّانِ لَا يَشْبَعُ وَلَمْ يُصِبْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ فَعَجُّوا وَضَجُّوا، وَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لَئِنْ
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَأَعْطَوْهُ عَهْدَ اللَّهِ
وَمِيثَاقَهُ، فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ
الْجَرَادَ بَعْدَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنَ السَّبْتِ إِلَى
السَّبْتِ.
وَفِي الْخَبَرِ: "مَكْتُوبٌ عَلَى صَدْرِ كُلِّ جَرَادَةٍ جُنْدُ اللَّهِ
الْأَعْظَمِ" (1) .
وَيُقَالُ إِنَّ مُوسَى بَرَزَ إِلَى الْفَضَاءِ فَأَشَارَ بِعَصَاهُ نَحْوَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَرَجَعَتِ الْجَرَادُ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ، وَكَانَتْ
قَدْ بَقِيَتْ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَغَلَّاتِهِمْ بَقِيَّةٌ، فَقَالُوا: قَدْ بَقِيَ
لَنَا مَا هُوَ كَافِينَا فَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي دِينِنَا، فَلَمْ يَفُوا بِمَا
عَاهَدُوا، وَعَادُوا لِأَعْمَالِهِمِ السُّوءِ، فَأَقَامُوا شَهْرًا فِي
عَافِيَةٍ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ.
[وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُمَّلِ] (2) فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُمَّلُ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحِنْطَةِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: الْقُمَّلُ الدَّبَى
وَالْجَرَادُ الطَّيَّارَةُ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ، وَالدَّبَى الصِّغَارُ
الَّتِي لَا أَجْنِحَةَ لَهَا. وَقَالَ [عِكْرِمَةُ: هِيَ بَنَاتُ] (3)
الْجَرَادِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ الْحَمْنَانُ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ
الْقُرَادِ. وقال عطاء الخرساني: هُوَ الْقُمَّلُ. وَبِهِ قَرَأَ أَبُو
الْحَسَنِ(الْقَمْلُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ.
قَالُوا: أَمَرُ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ، بِقَرْيَةٍ
مِنْ قُرَى مِصْرَ تُدْعَى عَيْنَ الشَّمْسِ، فَمَشَى مُوسَى إِلَى ذَلِكَ الْكَثِيبِ
وَكَانَ أَهْيَلُ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْثَالَ عَلَيْهِمُ الْقَمْلُ،
فَتَتَبَّعَ مَا بَقِيَ مِنْ حروثهم وأشجارهم وبناتهم فَأَكَلَهُ، وَلَحَسَ
الْأَرْضَ كُلَّهَا وَكَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ ثَوْبِ أَحَدِهِمْ وَجِلْدِهِ
فَيَعُضُّهُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَيَمْتَلِئُ قَمْلًا.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْقُمَّلُ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ
الْحُبُوبِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يُخْرِجُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ إِلَى الرَّحَا فَلَا
يَرُدُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَقْفِزَةٍ، فَلَمْ يُصَابُوا بِبَلَاءٍ كَانَ أَشَدَّ
عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَمْلِ، وَأَخَذَ أَشْعَارَهُمْ
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 7 / 522-523، ففيه جملة أخبار بهذا المعنى فيها ضعف
ونكارة.
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
وَأَبْشَارَهُمْ
وَأَشْفَارَ عُيُونِهِمْ وَحَوَاجِبِهِمْ وَلَزِمَ جُلُودَهُمْ كَأَنَّهُ
الْجُدَرِيُّ عَلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمُ النَّوْمَ وَالْقَرَارَ فَصَرَخُوا
وَصَاحُوا إِلَى مُوسَى أَنَّا نَتُوبُ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا
الْبَلَاءَ، فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهَ فَرَفَعَ اللَّهُ
الْقَمْلَ عَنْهُمْ بَعْدَمَا أَقَامَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنَ
السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ، فَنَكَثُوا وَعَادُوا إِلَى أَخْبَثِ أَعْمَالِهِمْ.
وَقَالُوا: مَا كُنَّا قَطُّ أَحَقَّ أَنْ نَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ سَاحِرٌ مِنَّا
الْيَوْمَ يَجْعَلُ الرَّمْلَ دَوَابَّ. فَدَعَا مُوسَى بَعْدَمَا أَقَامُوا
شَهْرًا فِي عَافِيَةٍ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ فَامْتَلَأَتْ
مِنْهَا بُيُوتُهُمْ وَأَفْنِيَتُهُمْ وَأَطْعِمَتُهُمْ وَآنِيَتُهُمْ، فَلَا
يَكْشِفُ أَحَدٌ إِنَاءً وَلَا طَعَامًا إِلَّا وَجَدَ فِيهِ الضَّفَادِعَ،
وَكَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ فِي الضَّفَادِعِ إِلَى ذَقْنِهِ، وَيَهُمُّ أَنْ
يَتَكَلَّمَ فَيَثِبُ الضُّفْدَعُ فِي فِيهِ، وَكَانَتْ تَثِبُ فِي قُدُورِهِمْ
فَتُفْسِدُ عَلَيْهِمْ طَعَامَهُمْ وَتُطْفِئُ نِيرَانَهُمْ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ
يَضْطَجِعُ فَتَرْكَبُهُ الضَّفَادِعُ فَتَكُونُ عَلَيْهِ رُكَامًا حَتَّى مَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى شَقِّهِ الْآخَرِ، وَيَفْتَحُ فَاهُ
لِأَكْلَتِهِ فَيَسْبِقُ الضُّفْدَعُ أَكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ، وَلَا يَعْجِنُ
عَجِينًا إِلَّا تَشَدَّخَتْ فِيهِ، وَلَا يَفْتَحُ قِدْرًا إِلَّا امْتَلَأَتْ
ضَفَادِعَ، فَلَقُوا مِنْهَا أَذًى شَدِيدًا.
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الضَّفَادِعُ بَرِّيَّةً،
فَلَمَّا أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ
فَجَعَلَتْ تَقْذِفُ أَنْفُسَهَا فِي الْقُدُورِ وَهِيَ تَغْلِي، وَفِي
التَّنَانِيرِ وَهِيَ تَفُورُ، فَأَثَابَهَا اللَّهُ بِحُسْنِ طَاعَتِهَا بِرْدَ
الْمَاءِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ بَكَوْا وَشَكَوْا ذَلِكَ (1) إِلَى مُوسَى،
وَقَالُوا هَذِهِ الْمَرَّةُ نَتُوبُ وَلَا نَعُودُ، فَأَخَذَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ،
ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الضَّفَادِعَ بَعْدَمَا أَقَامَ سَبْعًا
مِنَ السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ، فَأَقَامُوا شَهْرًا فِي عَافِيَةٍ ثُمَّ
نَقَضُوا الْعَهْدَ وَعَادُوا لِكُفْرِهِمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى فَأَرْسَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ، فَسَالَ النِّيلُ عَلَيْهِمْ دَمًا وَصَارَتْ
مِيَاهُهُمْ دَمًا وَمَا يَسْتَقُونَ مِنَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ إِلَّا
وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا أَحْمَرَ، فَشَكَوَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَالُوا لَيْسَ
لَنَا شَرَابٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَحَرَكُمْ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ سَحَرَنَا
وَنَحْنُ لَا نَجِدُ فِي أَوْعِيَتِنَا شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا دَمًا
عَبِيطًا؟ وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقِبْطِيِّ وَالْإِسْرَائِيلِيِّ
عَلَى الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ مَا يَلِي الْإِسْرَائِيلِيَّ مَاءٌ وَالْقِبْطِيَّ
دَمًا [وَيَقُومَانِ إِلَى الْجَرَّةِ فِيهَا الْمَاءُ فَيَخْرُجُ
لِلْإِسْرَائِيلِيِّ مَاءٌ وَلِلْقِبْطِيِّ دَمٌ] (2) حَتَّى كَانَتِ الْمَرْأَةُ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ تَأْتِي الْمَرْأَةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ
جَهَدَهُمُ الْعَطَشُ فَتَقُولُ اسْقِنِي مِنْ مَائِكِ فَتَصُبُّ لَهَا مِنْ
قِرْبَتِهَا فَيَعُودُ فِي الْإِنَاءِ دَمًا حَتَّى كَانَتْ تَقُولُ اجْعَلِيهِ
فِي فِيكِ ثُمَّ مُجِّيهِ فِي فِيَّ فَتَأْخُذُ فِي فِيهَا مَاءً فإذا مجَّته
136/أ فِي فِيهَا صَارَ دَمًا، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ اعْتَرَاهُ الْعَطَشُ حَتَّى
إِنَّهُ لَيَضْطَرُّ إِلَى مَضْغِ الْأَشْجَارِ الرَّطْبَةِ، فَإِذَا مَضَغَهَا
يَصِيرُ مَاؤُهَا فِي فِيهِ مِلْحًا أُجَاجًا، فَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا الدَّمَ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
قَالَ
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الدَّمُ الَّذِي سُلِّطَ عَلَيْهِمْ كَانَ الرُّعَافَ،
فَأَتَوْا مُوسَى وَقَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ رَبَّكَ يَكْشِفُ عَنَّا هَذَا
الدَّمَ فَنُؤْمِنُ بِكَ وَنُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ
وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ } يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَتَفْصِيلُهَا أَنَّ كُلَّ عَذَابٍ يَمْتَدُّ أُسْبُوعًا، وَبَيْنَ كُلِّ
عَذَابَيْنِ شَهْرًا، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ }
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ
وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ
الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) }
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ } أَيْ: نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ وَهُوَ مَا
ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الطُّوفَانِ وَغَيْرِهِ.. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: الرِّجْزُ الطَّاعُونُ، وَهُوَ الْعَذَابُ السَّادِسُ بَعْدَ الْآيَاتِ
[الْخَمْسِ] (1) حَتَّى مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا فِي يَوْمٍ احد، فأمسوا
وهو لَا يَتَدَافَنُونَ { قَالُوا } لِمُوسَى { يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ } أَيْ: بِمَا أَوْصَاكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: بِمَا نَبَّأَكَ. وَقِيلَ: بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مِنْ إِجَابَةِ
دَعْوَتِكَ { لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ } وَهُوَ الطَّاعُونُ {
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ثَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ
يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: [قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) "الطَّاعُونُ رِجْزٌ
أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا
سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ
وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" (3)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ
هُمْ بَالِغُوهُ } يَعْنِي: إِلَى الْغَرَقِ فِي الْيَمِّ { إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ } يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء: 6 / 513، ومسلم في السلام، باب الطاعون والطيرة
والكهانة ونحوها، برقم (2218) 4 / 1737، والمصنف في شرح السنة: 5 / 254.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } يَعْنِي: الْبَحْرَ {
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } أَيْ: عَنِ
النِّقْمَةِ قَبْلَ حُلُولِهَا غَافِلِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَنْ آيَاتِنَا
مُعْرِضِينَ.
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) }
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
{
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ
آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا
هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) }
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ } يُقْهَرُونَ
وَيُسْتَذَلُّونَ بِذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِخْدَامِ النِّسَاءِ
[وَالِاسْتِعْبَادِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ] (1) { مَشَارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا } يَعْنِي مِصْرَ وَالشَّامَ { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }
بِالْمَاءِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْخِصْبِ وَالسَّعَةِ { وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } يَعْنِي: وَفَتْ كَلِمَةُ
اللَّهِ وَهِيَ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ،
وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [الْقَصَصُ-5) { بِمَا صَبَرُوا } عَلَى دِينِهِمْ
وَعَلَى عَذَابِ فِرْعَوْنَ { وَدَمَّرْنَا } أَهْلَكْنَا { مَا كَانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ الْعِمَارَاتِ، { وَمَا كَانُوا
يَعْرِشُونَ } قَالَ مُجَاهِدٌ: يَبْنُونَ مِنَ الْبُيُوتِ وَالْقُصُورِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: يَعْرِشُونَ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْأَعْنَابِ. وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ { يَعْرُشُونَ } بِضَمِّ الرَّاءِ هَاهُنَا وَفِي
النَّحْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } قَالَ
الْكَلْبِيُّ: عَبَرَ بِهِمْ مُوسَى الْبَحْرَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بَعْدَ مَهْلِكِ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَصَامَهُ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَأَتَوْا }
فَمَرُّوا { عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ } يُقِيمُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ " يَعْكِفُونَ " بِكَسْرِ الْكَافِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، { عَلَى أَصْنَامٍ } أَوْثَانٍ {
لَهُمْ } يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ تَمَاثِيلَ بَقَرٍ، وَذَلِكَ أَوَّلُ شَأْنِ
الْعِجْلِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ
__________
(1) ساقط من "ب".
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
لَخْمٍ
وَكَانُوا نُزُولًا بِالرِّقَّةِ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمَّا رَأَوْا
ذَلِكَ: { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا } أَيْ: مِثَالًا نَعْبُدُهُ
{ كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: اجْعَلْ لَنَا شَيْئًا
نُعَظِّمُهُ وَنَتَقَرَّبُ بِتَعْظِيمِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَظَنُّوا
أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الدِّيَانَةَ وَكَانَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ جَهْلِهِمْ. {
قَالَ } مُوسَى { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } عَظَمَةَ اللَّهِ.
{ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ } مُهْلَكٌ، { مَا هُمْ فِيهِ } وَالتَّتْبِيرُ
الْإِهْلَاكُ، { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
{ قَالَ } يَعْنِي مُوسَى { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ } أَيْ: أَبْغِي لَكُمْ
وَأَطْلُبُ، { إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أَيْ: عَلَى
عَالَمَيْ زَمَانِكُمْ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَنَا
جَدِّي أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، أَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الدَّيْرِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي وَاقَدٍ
اللَّيْثِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قِبَلَ حُنَيْنٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ،
وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ يَعْكُفُونَ حَوْلَهَا،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا
كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى "اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا
لَهُمْ آلِهَةٌ إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ" (1) .
{ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنَ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
"أَنْجَاكُمْ" وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ، { مِنَ
آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ }
قَرَأَ نَافِعٌ "يَقْتُلُونَ" خَفِيفَةً، مِنَ الْقَتْلِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ مِنَ التَّقْتِيلِ، {
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ }
__________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم: 6 / 407-408
وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن إسحاق في السيرة: 4 / 84-85، والطيالسي في مسنده
برقم(1346)، وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 37، وابن حبان برقم(1835) من موارد
الظمآن، والإمام أحمد في المسند: 5 / 218. وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث
تيسير العزيز الحميد ص64-65.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً } ذِي الْقِعْدَةِ، { وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ } مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
وَقَالَ مُوسَى } عِنْدَ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ لِلْمُنَاجَاةِ { لِأَخِيهِ
هَارُونَ اخْلُفْنِي } كُنْ خَلِيفَتِي، { فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ } أَيْ
أَصْلِحْهُمْ بِحَمْلِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرِّفْقَ بِهِمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ { وَلَا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } أَيْ: لَا تُطِعْ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَلَا تُوَافِقْهُ
عَلَى أَمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَهُمْ بِمِصْرَ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ
أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ فِيهِ بَيَانُ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ! فَلَمَّا
فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ الْكِتَابَ، فَأَمَرَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا تَمَّتْ
ثَلَاثُونَ أَنْكَرَ خُلُوفَ فَمِهِ، فَتَسَوَّكَ بِعُودِ خَرُّوبٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَكَلَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ: كُنَّا نَشُمُّ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، فَأَفْسَدْتَهُ
بِالسِّوَاكِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ
عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي
زَادَهَا.
{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ
تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } أَيْ: للوقت
الذي 136/ب ضَرَبْنَا لَهُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ:
إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَطَهَّرَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ لِمِيعَادِ
رَبِّهِ لَمَّا أَتَى طُورَ سَيْنَاءَ. وَفِي الْقِصَّةِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْزَلَ ظُلْمَةً عَلَى سَبْعَةِ فَرَاسِخَ وَطَرَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ
وَطَرَدَ عَنْهُ هَوَامَّ الْأَرْضِ وَنَحَّى عَنْهُ الْمَلَكَيْنِ وَكَشَطَ لَهُ
السَّمَاءَ وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ قِيَامًا فِي الْهَوَاءِ وَرَأَى الْعَرْشَ
بَارِزًا وَكَلَّمَهُ اللَّهُ وَنَاجَاهُ حَتَّى أَسْمَعَهُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مَعَهُ فَلَمْ يَسْمَعْ مَا كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَأَدْنَاهُ حَتَّى
سَمِعَ صَرِيرَ الْقَلَمِ فَاسْتَحْلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ
رَبِّهِ وَاشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ }
قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: أَرِنِي نَفْسَكَ أَنْظُرْ
إِلَيْكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِي النَّظَرَ إِلَيْكَ. فَإِنْ قِيلَ:
كَيْفَ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي
الدُّنْيَا؟ قَالَ الْحَسَنُ: هَاجَ بِهِ الشَّوْقُ فَسَأَلَ الرُّؤْيَةَ.
وَقِيلَ: سَأَلَ الرُّؤْيَةَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَى فِي
الدُّنْيَا { قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى { لَنْ تَرَانِي } وَلَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُطِيقَ النَّظَرَ [إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ] (1) فِي
الدُّنْيَا مَاتَ فَقَالَ إِلَهِي سَمِعْتُ كَلَامَكَ فَاشْتَقْتُ إِلَى النَّظَرِ
إِلَيْكَ وَلَأَنْ أَنْظُرَ
__________
(1) ساقط من "أ".
إِلَيْكَ
ثُمَّ أَمُوتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعِيشَ وَلَا أَرَاكَ فَقَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } وَهُوَ أَعْظَمُ جَبَلٍ
بِمَدْيَنَ يُقَالُ لَهُ زُبَيْرٌ.
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى غَاصَ الْخَبِيثُ إِبْلِيسُ فِي
الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجَ بَيْنَ قَدَمَيْ مُوسَى، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ: أَنْ
يُكَلِّمُكَ شَيْطَانٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ سَأَلَ مُوسَى الرُّؤْيَةَ فَقَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { لَنْ تَرَانِي } وَتَعَلَّقَتْ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ بِظَاهِرِ
هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { لَنْ تَرَانِي } وَلَنْ
تَكُونُ لِلتَّأْبِيدِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَنْ
تَرَانِي فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ الرُّؤْيَةَ
فِي الْحَالِ وَ"لَنْ" لَا تَكُونُ لِلتَّأْبِيدِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) [الْبَقَرَةُ-95]، إِخْبَارًا عَنِ
الْيَهُودِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فِي
الْآخِرَةِ يَقُولُونَ(يَا مالك ليقض علنيا رَبُّكَ) [الزُّخْرُفُ-77]، وَ(يَا
لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ) [الْحَاقَّةُ-27]، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
لَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى الْجَهْلِ بِسُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي لَا
أَرَى حَتَّى تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ بَلْ عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلَى اسْتِقْرَارِ
الْجَبَلِ وَاسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ عَلَى التَّجَلِّي غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ إِذَا
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ، وَالْمُعَلَّقَ بِمَا لَا يَسْتَحِيلُ
لَا يَكُونُ مُحَالًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } قَالَ وَهْبٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا سَأَلَ
مُوسَى رَبَّهُ الرُّؤْيَةَ أَرْسَلَ اللَّهُ الضَّبَابَ وَالصَّوَاعِقَ وَالظُّلْمَةَ
وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَأَحَاطَتْ بِالْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ مُوسَى
أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَمَرَ اللَّهُ (1) مَلَائِكَةَ
السَّمَاءِ أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى فَمَرَّتْ بِهِ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ
الدُّنْيَا كَثِيرَانِ الْبَقَرِ تَنْبُعُ أَفْوَاهُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ
وَالتَّقْدِيسِ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ
أَمَرَ اللَّهِ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ أَنِ اهْبِطُوا عَلَى مُوسَى
فَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، فَهَبَطُوا عَلَيْهِ أَمْثَالَ الْأُسُودِ لَهُمْ لَجَبٌ
بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، فَفَزِعَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ابْنُ عِمْرَانَ
مِمَّا رَأَى وَسَمِعَ وَاقْشَعَرَّتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ،
ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى مَسْأَلَتِي فَهَلْ يُنْجِينِي مِنْ مَكَانِي
الَّذِي أَنَا فِيهِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ خَيْرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأْسُهُمْ:
يَا مُوسَى اصْبِرْ لِمَ سَأَلْتَ، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَيْتَ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ أَنِ اهْبِطُوا عَلَى
مُوسَى فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ، فَهَبَطُوا أَمْثَالَ النُّسُورِ لَهُمْ قَصْفٌ
وَرَجْفٌ شَدِيدٌ، وَأَفْوَاهُهُمْ تَنْبُعُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ
كَجَلَبِ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ أَلْوَانُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ، فَفَزِعَ مُوسَى
وَاشْتَدَّ نَفَسُهُ وَأَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَقَالَ لَهُ خَيْرُ
الْمَلَائِكَةِ: مَكَانَكَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ حَتَّى تَرَى مَا لَا تَصْبِرُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ
أَنِ اهْبِطُوا فَاعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى بْنِ
__________
(1) ساقط من "ب".
عِمْرَانَ
فَهَبَطُوا عَلَيْهِ لَا يُشْبِهُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ
قَبْلَهُمْ أَلْوَانُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ، وَسَائِرُ خَلْقِهِمْ كَالثَّلْجِ
الْأَبْيَضِ أَصْوَاتُهُمْ عَلِيَّةٌ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ لَا
يُقَارِبُهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَاتِ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ قَبْلَهُمْ،
فَاصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ وَأَرْعَدَ قَلْبُهُ وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ فَقَالَ لَهُ
خَيْرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأْسُهُمْ: يَا ابْنَ عِمْرَانَ اصْبِرْ لِمَا سَأَلْتَ
فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَيْتَ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ أَنِ
اهْبِطُوا فَاعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى فَهَبَطُوا عَلَيْهِ لَهُمْ سَبْعَةُ
أَلْوَانٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يُتْبِعَهُمْ بَصَرَهُ، لَمْ يَرَ
مِثْلَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعْ مِثْلَ أَصْوَاتِهِمْ فَامْتَلَأَ جَوْفُهُ خَوْفًا
وَاشْتَدَّ حُزْنُهُ وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ، فَقَالَ لَهُ خَيْرُ الْمَلَائِكَةِ
وَرَأْسُهُمْ: يَا ابْنَ عِمْرَانَ مَكَانَكَ حَتَّى تَرَى بَعْضَ مَا لَا
تَصْبِرُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ أَنِ اهْبِطُوا عَلَى
عَبْدِي الَّذِي طَلَبَ لِيَرَانِي، فَهَبَطُوا عَلَيْهِ فِي يَدِ كُلِّ مَلَكٍ
مِنْهُمْ مِثْلَ النخلة الطويلة، نار أَشَدَّ ضَوْءًا مِنَ الشَّمْسِ،
وَلِبَاسُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ إِذَا سَبَّحُوا وَقَدَّسُوا جَاوَبَهُمْ مَنْ
كَانَ قَبْلَهُمْ من ملائكة السموات، كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِشِدَّةِ
أَصْوَاتِهِمْ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْعِزَّةِ أَبَدًا لَا يَمُوتُ، فِي
رَأْسِ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُوسَى
رَفَعَ صَوْتَهُ يُسَبِّحُ مَعَهُمْ [حِينَ سَبَّحُوا] (1) وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ:
رَبِّ اذْكُرْنِي وَلَا تَنْسَ عَبْدَكَ لَا أَدْرِي أَأَنْفَلِتُ مِمَّا أَنَا
فِيهِ أَمْ لَا؟ إِنْ خَرَجْتُ احْتَرَقْتُ وَإِنْ مَكَثْتُ مِتُّ، فَقَالَ لَهُ
كَبِيرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَسُهُمْ: قَدْ أَوْشَكْتَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ أَنْ
يَشْتَدَّ خَوْفُكَ وَيَنْخَلِعَ قَلْبُكَ فَاصْبِرْ لِلَّذِي سَأَلْتَ.
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُحْمَلَ عَرْشُهُ فِي مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ فَلَمَّا بَدَا نُورُ الْعَرْشِ انْفَرَجَ الْجَبَلُ مِنْ عَظَمَةِ
الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، ورفعت ملائكة السموات أَصْوَاتَهُمْ جَمِيعًا
يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْعِزَّةِ أَبَدًا لَا يَمُوتُ
بِشِدَّةِ أَصْوَاتِهِمْ، فَارْتَجَّ الْجَبَلُ وَانْدَكَّتْ كُلُّ شَجَرَةٍ
كَانَتْ فِيهِ وَخَرَّ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مُوسَى صَعِقًا عَلَى وَجْهِهِ لَيْسَ
مَعَهُ رَوْحُهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الرُّوَحَ فَتَغَشَّاهُ،
وَقَلَبَ عَلَيْهِ الْحَجَرَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى وَجَعَلَهُ كَهَيْئَةِ
الْقُبَّةِ لِئَلَّا يَحْتَرِقَ مُوسَى، فَأَقَامَهُ الرُّوحُ مِثْلَ اللَّامَةِ،
فَقَامَ مُوسَى يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُولُ آمَنْتُ بِكَ رَبِّي
وَصَدَّقْتُ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَيَحْيَا، مَنْ نَظَرَ إِلَى
مَلَائِكَتِكَ انْخَلَعَ قَلْبُهُ فَمَا أَعْظَمَكَ وَأَعْظَمَ مَلَائِكَتَكَ
أَنْتَ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَإِلَهُ الْآلِهَةِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، وَلَا
يَعْدِلُكَ شَيْءٌ وَلَا يَقُومُ لَكَ شَيْءٌ، رَبِّ تُبْتُ إِلَيْكَ الْحَمْدُ
لَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ مَا أَعْظَمَكَ وَمَا أَجَلَّكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكًّا } قَالَ ابْنُ عباس: ظهر 137/أ نُورُ رَبِّهِ لِلْجَبَلِ، جَبَلِ زُبَيْرٍ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحُجُبِ مِثْلَ مَنْخَرِ
ثَوْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا
__________
(1) ساقط من "ب".
تَجَلَّى
مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مَثَّلُ سَمِّ الْخِيَاطِ حَتَّى صَارَ
دَكًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا تَجَلَّى إِلَّا قَدَرَ الْخِنْصَرِ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ مَا رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: "هَكَذَا" وَوَضَعَ
الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ
(1) .
وَحُكِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ
مِنْ سَبْعِينَ أَلْفِ حِجَابٍ نُورًا قَدَرَ الدِّرْهَمِ فَجَعَلَ الْجَبَلَ
دَكًّا، أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ(دَكَّاءَ) مَمْدُودًا غَيْرَ مُنَوَّنٍ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ
الْكَهْفِ، [وَافَقَ عَاصِمٌ فِي الْكَهْفِ] (2) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ(دَكَّا)
مَقْصُورًا مُنَوَّنًا، فَمَنْ قَصْرَهُ فَمَعْنَاهُ جَعَلَهُ مَدْقُوقًا:
وَالدَّكُّ وَالدَّقُّ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ دَكَّهُ اللَّهُ دَكَّا، أَيْ:
فَتَّتَهُ كَمَا قَالَ:(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)
[الْفَجْرُ-21]، وَمَنْ قَرَأَ بِالْمَدِّ أَيْ: جَعَلَهُ مُسْتَوِيًا أَرْضًا
دَكَّاءَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهُ مِثْلَ دَكَّاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي لَا
سَنَامَ لَهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ تُرَابًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: سَاخَ
الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَذْهَبُ فِيهِ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: صَارَ رَمْلًا هَائِلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ كَسْرًا جِبَالًا صِغَارًا.
ووقع في تعض التَّفَاسِيرِ: صَارَ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةَ أَجْبُلٍ وَقَعَتْ
ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ: أَحَدٌ وَوَرِقَانَ وَرَضْوَى، وَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ
بِمَكَّةَ ثَوْرٌ وَثَبِيرٌ وَحِرَاءٌ (3) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحُسْنُ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتًا. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَوْمَ الْخَمِيسَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَأُعْطِي
التَّوْرَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا خَرَّ مُوسَى صَعِقًا قالت ملائكة السموات: مَا
لِابْنِ عِمْرَانَ وَسُؤَالِ الرُّؤْيَةِ؟ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ (4) أن ملائكة
السموات أَتَوْا مُوسَى وَهُوَ مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَرْكَلُونَهُ
بِأَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُونَ يَا
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الأعراف: 8 / 451-452، وقال: هذا حديث حسن
صحيح غريب، ورواه أيضا من طريق عبد الوهاب الوراق وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه
الحاكم في المستدرك: 2 / 320-321.
(2) ساقط من "ب".
(3) هذه الرواية الطويلة عن ابن إسحاق ووهب، في تفسير الآيات من الروايات
الإسرائيلية، وفيها كثير من الكلام المتهافت، وعلامات الاختلاق ظاهرة عليها. ونضع
هنا كلمة الشيخ محمد أبو شهبة تعليقا على هذه الرواية بعد أن ساق رواية البغوي،
قال رحمه الله: "وهذه المرويات وأمثالها، مما لا نشك أنها من إسرائيليات بني
إسرائيل وكذبهم على الله، وعلى الأنبياء، وعلى الملائكة، فلا تلق إليه بالا. وليس
تفسير الآية في حاجة إلى هذه المرويات. والآية ظاهرة واضحة، وليس فيها ما يدل على
امتناع رؤية الله في الآخرة كما دل على ذلك القرآن الكريم والسنة الصحيحة
المتواترة، وغاية ما تدل عليه: امتناع الرؤية البصرية في الدنيا، لأن العين
الفانية لا تقدر أن ترى الذات الباقية. انظر: الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة
ص(277-281).
(4) وهذه أيضا من الإسرائيليات المكذوبة، وهي تتفق مع طبيعة بني إسرائيل وموقفهم
من الأنبياء وإطالة ألسنتهم بالسوء في حقهم، وتنقيصهم ما استطاعوا! وانظر: تفسير
الآلوسي: 9 / 46.
ابْنَ النِّسَاءِ الْحُيَّضِ أَطْمِعْتَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّ الْعِزَّةِ. { فَلَمَّا أَفَاقَ } مُوسَى مِنْ صَعْقَتِهِ وَثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لَهُ { قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } عَنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي
فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) }
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } اخْتَرْتُكَ عَلَى
النَّاسِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "إِنِّيَ" بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَكَذَلِكَ "أَخِيَ اشْدُدْ" [طه-31] ، { بِرِسَالَاتِي }
قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِرِسَالَتِي عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْآخَرُونَ
بِالْجَمْعِ، { وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أَعْطَيْتُكَ { وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ } لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسَالَاتِي" وَقَدْ أُعْطِيَ غَيْرُهُ الرِّسَالَةَ؟ قِيلَ :لَمَّا لَمْ
تَكُنِ الرِّسَالَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً اسْتَقَامَ
قَوْلُهُ اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ وَإِنْ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا
يَقُولُ الرَّجُلُ: خَصَصْتُكَ بِمَشُورَتِي وَإِنْ شَاوَرَ غَيْرَهُ إِذَا لَمْ
تَكُنِ الْمَشُورَةُ عَلَى الْعُمُومِ يَكُونُ مُسْتَقِيمًا.
وَفِي بَعْضِ الْقِصَّةِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَمَا
كَلَّمَهُ رَبُّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ لِمَا غَشِيَ
وَجْهَهُ مِنَ النُّورِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى وَجْهِهِ بُرْقُعٌ حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَنَا أَيِّمٌ مِنْكَ مُنْذُ كَلَّمَكَ رَبُّكَ
فَكَشَفَ لَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَأَخَذَهَا مِثْلُ شُعَاعِ الشَّمْسِ فَوَضَعَتْ
يَدَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَخَرَجَتْ لِلَّهِ سَاجِدَةً، وَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ
أَنْ يَجْعَلَنِي زَوْجَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ذَاكَ لَكِ إِنْ لَمْ
تَتَزَوَّجِي بَعْدِي، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ
أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُزَكِّي
أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا رَاشِدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْمُغَافِرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ مُوسَى
نَظَرَ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً خَيْرُ الْأُمَمِ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَبِالْكِتَابِ الْآخِرِ،
وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ،
رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: هِيَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ يَا مُوسَى، فَقَالَ:
رَبِّيَ إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً هُمُ الْحَمَّادُونَ رُعَاةُ الشَّمْسِ الْمُحَكِّمُونَ
إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قَالُوا
نَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: هِيَ أُمَّةُ
مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً يَأْكُلُونَ كَفَّارَاتِهِمْ
وَصَدَقَاتِهِمْ، وَكَانَ الْأَوَّلُونَ يَحْرِقُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالنَّارِ،
وَهُمُ الْمُسْتَجِيبُونَ وَالْمُسْتَجَابُ لَهُمْ الشَّافِعُونَ الْمَشْفُوعُ
لَهُمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: هِيَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: يَا رَبِّ
إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً إِذَا أَشْرَفَ أَحَدُهُمْ عَلَى شَرَفٍ كَبَّرَ اللَّهَ
فَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا حَمِدَ اللَّهَ، الصَّعِيدُ لَهُمْ طَهُورٌ وَالْأَرْضُ
لَهُمْ مَسْجِدٌ حَيْثُ مَا كَانُوا، يَتَطَهَّرُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ
طَهُورُهُمْ بِالصَّعِيدِ كَطَهُورِهِمْ بِالْمَاءِ حَيْثُ لَا يَجِدُونَ
الْمَاءَ، غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي،
قَالَ: هِيَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً إِذَا هَمَّ
أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ مِثْلُهَا
وَإِنَّ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ ضِعْفَ عَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى
سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ
عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، فَاجْعَلْهُمْ
أُمَّتِي، قَالَ: هِيَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً
مَرْحُومَةً ضُعَفَاءَ يَرِثُونَ الْكِتَابَ مِنَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ وَلَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا مَرْحُومًا
فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: هِيَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا رَبِّ
إِنِّي أَجِدُ أُمَّةً [مَصَاحِفُهُمْ] (1) فِي صُدُورِهِمْ يَلْبَسُونَ أَلْوَانَ
ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُصَفُّونَ فِي صَلَاتِهِمْ صُفُوفَ الْمَلَائِكَةِ
أَصْوَاتُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ كَدَوِيِّ النَّحْلِ لَا يَدْخُلُ النَّارَ
أَحَدٌ مِنْهُمْ أَبَدًا إِلَّا مَنْ يَرَى الْحِسَابَ مِثْلَ مَا يَرَى الْحَجَرَ
من وراء الشحر، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: هِيَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، فَلَمَّا
عَجِبَ مُوسَى مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ قَالَ: يَا لَيْتَنِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ
وَأُمَّتِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ثَلَاثَ آيَاتٍ يُرْضِيهِ بِهِنَّ:
"يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي" إِلَى قَوْلِهِ: "سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ،
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ"،
فَرَضِيَ مُوسَى كُلَّ الرِّضَا" (2) .
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا
لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَكَتَبْنَا لَهُ } يَعْنِي لِمُوسَى، { فِي
الْأَلْوَاحِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَلْوَاحَ
__________
(1) في "ب": أناجيلهم.
(2) عزاه السيوطي لأبي نعيم في الدلائل عن عبد الرحمن المغافري عن كعب الأحبار
موقوفا عليه. انظر: الدر المنثور: 3 / 557-558، وبنحوه أخرجه الطبري أيضا عن قتادة
سببا لنزول قوله تعالى: "وألقى الألواح" ولم يذكر ذلك البغوي في روايته.
قال ابن عطية الأندلسي في تفسيره: 6 / 87 "وهذا قول رديء لا ينبغي أن يوصف
موسى عليه السلام به". وقال الحافظ ابن كثير: "وروى ابن جرير عن قتادة
في هذا قولا غريبا، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة، وقد رده ابن عطية وغير واحد من
العلماء، وهو جدير بالرد، وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب، وفيهم كذابون
ووضاعون وأفاكون وزنادقة". انظر : تفسير ابن كثير: 2 / 249. وقال القرطبي:
"ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح، ولا يصح أن إلقاء الألواح إنما كان لما
رأى من فضيلة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن ذلك لأمته، وهذا
قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى عليه السلام". تفسير القرطبي: 7 / 288.
التَّوْرَاةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: "كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الْجَنَّةِ طُولُ اللَّوْحِ اثْنَا عَشَرَ
ذِرَاعًا" (1) . وَجَاءَ فِي أَحَادِيثِ خَلْقِ اللَّهِ آدَمَ بِيَدِهِ:
"وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَغَرَسَ شَجَرَةَ طُوبَى بِيَدِهِ"
(2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ خَشَبٍ. قال الكلبي 137/ب كَانَتْ
مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ مِنْ
يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مَنْ
بَرَدٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدٍ، أَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ
حَتَّى جَاءَ بِهَا مَنْ عَدَنٍ، وَكَتَبَهَا بِالْقَلَمِ الَّذِي كُتِبَ بِهِ
الذِّكْرُ وَاسْتُمِدَّ مَنْ نَهْرِ النُّورِ وَقَالَ وَهْبٌ: أَمَرَهُ اللَّهُ
بِقَطْعِ الْأَلْوَاحِ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيَّنَهَا اللَّهُ لَهُ
فَقَطَعَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ شَقَّقَهَا بِأُصْبُعِهِ، وَسَمِعَ مُوسَى صَرِيرَ
الْقَلَمِ بِالْكَلِمَاتِ الْعَشَرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَوَهْبٌ: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ } كَنَقْشِ
الْخَاتَمِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَهِيَ
سَبْعُونَ وِقْرِ بَعِيرٍ، يُقْرَأُ الْجُزْءُ مِنْهُ فِي سَنَةٍ، لَمْ يَقْرَأْهُ
إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: مُوسَى، وَيُوشَعُ، وَعُزَيْرٌ، وَعِيسَى.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّوْرَاةِ أَلْفُ آيَةٍ يَعْنِي
"وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ" { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } مِمَّا
أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، { مَوْعِظَةً } نَهْيًا عَنِ الْجَهْلِ،
وَحَقِيقَةُ الْمَوْعِظَةِ: التَّذْكِرَةُ وَالتَّحْذِيرُ بما يخاف عاقتبه، {
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ } أَيْ: تَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ. {
فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أَيْ: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَقِيلَ: بِقُوَّةِ الْقَلْبِ
وَصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهُ بِضَعْفِ النِّيَّةِ أَدَّاهُ إِلَى
الْفُتُورِ، { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قَالَ عَطَاءٌ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُحِلُّوا حَلَالَهَا، وَيُحَرِّمُوا
حَرَامَهَا، وَيَتَدَبَّرُوا أَمْثَالَهَا، وَيَعْمَلُوا بِمُحْكَمِهَا،
وَيَقِفُوا عِنْدَ مُتَشَابِهِهَا وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَدُّ
عِبَادَةً مِنْ قَوْمِهِ، فَأُمِرَ بِمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ.
قَالَ قُطْرُبٌ: بِأَحْسَنِهَا أَيْ بِحُسْنِهَا، وَكُلُّهَا حَسَنٌ. وَقِيلَ:
أَحْسَنُهَا الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، وَهِيَ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا
الثَّوَابُ، وَمَا دُونَهَا الْمُبَاحُ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ
الثَّوَابُ. وَقِيلَ: بِأَحْسَنِهَا بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
كَالْعَفْوِ أَحْسَنَ مِنَ الْقِصَاصِ، وَالصَّبْرِ أَحْسَنَ مِنَ الِانْتِصَارِ.
{ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } قَالَ مُجَاهِدٌ: مَصِيرُهَا فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: يَعْنِي
__________
(1) عزاه السيوطي لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن جده. انظر: الدر المنثور: 3 / 548.
(2) عزاه السيوطي لابن أبي الدنيا في صفة أهل الجنة وأبي الشيخ في العظمة، وأخرجه
البيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 47 "إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده:
خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده وغرس الفردوس بيده" وقال: هذا مرسل.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
جَهَنَّمَ،
يُحَذِّرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا مَثَلَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ:
سَأُدْخِلُكُمْ الشَّأْمَ فَأُرِيكُمْ مَنَازِلَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ
الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ لِتَعْتَبِرُوا بِهَا. قَالَ عَطِيَّةُ
الْعَوْفِيُّ: أَرَادَ دَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَهِيَ مِصْرُ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ قِرَاءَةُ قَسَامَةَ بن زهير: "سأوريكم دَارَ الْفَاسِقِينَ"،
وَقَالَ السُّدِّيُّ: دَارُ الْفَاسِقِينَ مُصَارِعُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: مَا مَرُّوا عَلَيْهِ إِذَا سَافَرُوا مِنْ مَنَازِلِ عَادٍ
وَثَمُودَ وَالْقُرُونِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا.
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَجَبَّرُونَ عَلَى عِبَادِي وَيُحَارِبُونَ أَوْلِيَائِي حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا
بِي، يَعْنِي: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ قَبُولِ آيَاتِي وَالتَّصْدِيقِ بِهَا
عُوقِبُوا بِحِرْمَانِ الْهِدَايَةِ لِعِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ،
كَقَوْلِهِ:(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سَأَمْنَعُهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: يَعْنِي عن خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا أَيْ أَصْرِفُهُمْ
عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهَا وَيَعْتَبِرُوا بِهَا. وَقِيلَ: حُكْمُ الْآيَةِ
لِأَهْلِ مِصْرَ خَاصَّةً، وَأَرَادَ بِالْآيَاتِ الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي
أَعْطَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى
أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ { وَإِنْ يَرَوْا } [يَعْنِي: هَؤُلَاءِ
الْمُتَكَبِّرِينَ] (1) { كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "الرَّشَدِ"
بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ، وَالْآخَرُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ
وَهُمَا لُغَتَانِ كَالسُّقْمِ وَالسَّقَمِ وَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ وَالْحُزْنِ
وَالْحَزَنِ.
وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُ: الرُّشْدُ -بِالضَّمِّ
-الصَّلَاحُ فِي الْأَمْرِ، وَبِالْفَتْحِ الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ. مَعْنَى
الْآيَةِ: إِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الْهُدَى وَالسَّدَادِ { لَا يَتَّخِذُوهُ }
لِأَنْفُسِهِمْ { سَبِيلًا } { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ } أَيْ طَرِيقَ
الضَّلَالِ { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } عَنِ التَّفْكِيرِ فِيهَا وَالِاتِّعَاظِ بِهَا
غَافِلِينَ سَاهِينَ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ } أَيْ: وَلِقَاءِ
الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ مَوْعِدُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، { حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ } بَطَلَتْ وَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، { هَلْ يُجْزَوْنَ } فِي
الْعُقْبَى { إِلَّا مَا كَانُوا } أَيْ إِلَّا جَزَاءَ مَا كَانُوا { يَعْمَلُونَ
} فِي الدُّنْيَا.
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا
وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ } أَيْ: بَعْدَ
انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ { مِنْ حُلِيِّهِمْ } الَّتِي اسْتَعَارُوهَا مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ { مِنْ حِلِيِّهِمْ }
بِكَسْرِ الْحَاءِ [وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ] (1)
وَاتَّخَذَ السَّامِرِيُّ مِنْهَا { عِجْلًا } وَأَلْقَى فِي فَمِهِ مِنْ تُرَابِ
أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَحَوَّلَ عِجْلًا { جَسَدًا }
حَيًّا وَلَحْمًا وَدَمًا { لَهُ خُوَارٌ } وَهُوَ صَوْتُ الْبَقَرِ، وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَجَمَاعَةِ أَهْلِ
التَّفْسِيرِ.
وَقِيلَ: كَانَ جَسَدًا مُجَسَّدًا مِنْ ذَهَبٍ لَا رُوحَ فِيهِ، كَانَ يُسْمَعُ
مِنْهُ صَوْتٌ.
وَقِيلَ: كَانَ يُسْمَعُ صَوْتُ حَفِيفِ الرِّيحِ يَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ
وَيَخْرُجُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا خَارَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: كَانَ يَخُورُ
كَثِيرًا كُلَّمَا خَارَ سَجَدُوا لَهُ وَإِذَا سَكَتَ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ.
وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُ الْخُوَارُ وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي { أَلَمْ يَرَوْا } يَعْنِي:
الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ { أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ
سَبِيلًا } قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ }
أَيْ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَكَانُوا كَافِرِينَ.
{ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ } أَيْ نَدِمُوا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ،
تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ نَادِمٍ عَلَى أَمْرٍ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدَيْهِ، {
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا }
يَتُبْ عَلَيْنَا رَبُّنَا، { وَيَغْفِرْ لَنَا } يَتَجَاوَزْ عَنَّا، {
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"تَرْحَمْنَا وَتَغْفِرْ لَنَا" بِالتَّاءِ فِيهِمَا "رَبَّنَا"
بِنَصْبِ الْبَاءِ. وَكَانَ هَذَا النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُمْ بَعْدَ
رُجُوعِ مُوسَى إِلَيْهِمْ.
__________
(1) ساقط من "أ" واستدركناه من "ب".
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
{
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى
الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ
إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (151) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ
أَسِفًا } قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْأَسِفُ شَدِيدُ الْغَضَبِ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: أَسِفَا أَيْ حَزِينًا. وَالْأَسَفُ أَشَدُّ الْحُزْنِ، {
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي } أَيْ: بئس ما عملتهم بَعْدَ
ذَهَابِي، يُقَالُ: خَلَفَهُ بِخَيْرٍ أَوْ بَشَرٍّ إِذَا أَوْلَاهُ فِي أَهْلِهِ
بَعْدَ شُخُوصِهِ عَنْهُمْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، { أَعَجِلْتُمْ } أَسَبَقْتُمْ {
أَمْرَ رَبِّكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ: وَعْدُ رَبِّكُمُ الَّذِي وَعَدَكُمْ من
الأربعين 138/أ لَيْلَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعَجِلْتُمْ بِعِبَادَةِ
الْعِجْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرُ رَبِّكُمْ. { وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ }
الَّتِي فِيهَا التَّوْرَاةُ وَكَانَ حَامِلًا لَهَا، فَأَلْقَاهَا عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ.
قَالَتِ الرُّوَاةُ: كَانَتِ التَّوْرَاةُ سَبْعَةَ أَسْبَاعٍ، فَلَمَّا أَلْقَى
الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ فَرُفِعَتْ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا وَبَقِيَ سُبْعٌ،
فَرُفِعَ مَا كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَبَقِيَ مَا فِيهِ الْمَوْعِظَةُ
وَالْأَحْكَامُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ }
بِذَوَائِبِهِ وَلِحْيَتِهِ { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ
مِنْ مُوسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ وَأَحَبَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى،
لِأَنَّهُ كَانَ لَيِّنَ الْغَضَبِ. { قَالَ } هَارُونُ عِنْدَ ذَلِكَ { ابْنَ
أُمَّ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ هَاهُنَا وَفِي طَهَ بِكَسْرِ
الْمِيمِ، يُرِيدُ يَا ابْنَ أُمِّي، فَحَذَفَ يَاءَ الْإِضَافَةِ وَأُبْقِيَتِ
الْكَسْرَةُ لِتَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: "يَا عِبَادِ"
وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ: بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى
مَعْنَى يَا ابْنَ أُمَّاهُ.
وَقِيلَ: جَعَلَهُ اسْمًا وَاحِدًا وَبَنَاهُ عَلَى الْفَتْحِ، كَقَوْلِهِمْ:
حَضْرَمَوْتَ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَنَحْوُهُمَا، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنَ أُمَّ
وَكَانَ هَارُونُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ لِيُرَقِّقَهُ وَيَسْتَعْطِفَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، { إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي } يَعْنِي عَبَدَةَ الْعِجْلِ، { وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي }
هَمُّوا وَقَارَبُوا أَنْ يَقْتُلُونِي، { فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا
تَجْعَلْنِي } فِي مُؤَاخَذَتِكَ عَلَيَّ { مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
يَعْنِي عَبَدَةَ الْعِجْلِ.
{ قَالَ } مُوسَى لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ عُذْرُ أَخِيهِ، { رَبِّ اغْفِرْ لِي }
مَا صَنَعْتُ إِلَى أَخِي، { وَلِأَخِي } إِنْ كَانَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي
الْإِنْكَارِ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ، { وَأَدْخِلْنَا } جَمِيعًا { فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى
الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ
هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } أَيِ: اتَّخَذُوهُ
إِلَهًا { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ } فِي الْآخِرَةِ { وَذِلَّةٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ
قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: "إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ" أَرَادَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيَّرَهُمْ بِصَنِيعِ آبَائِهِمْ
فَنَسَبَهُ إِلَيْهِمْ { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أَرَادَ مَا أَصَابَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مِنَ
الْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ الْجِزْيَةُ، { وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } الْكَاذِبِينَ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ هُوَ -وَاللَّهِ
-جَزَاءُ كُلِّ مُفْتَرٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ. قَالَ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا فِي كُلِّ مُبْتَدِعٍ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { وَلَمَّا سَكَتَ } أَيْ: سَكَنَ، { عَنْ مُوسَى
الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ } الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا وَقَدْ ذَهَبَتْ
سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا { وَفِي نُسْخَتِهَا } اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ: أَرَادَ
بِهَا الْأَلْوَاحَ، لِأَنَّهَا نُسِخَتْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ فَنَسَخَ مِنْهَا
نُسْخَةً أُخْرَى فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: { وَفِي نُسْخَتِهَا }
وَقِيلَ: أَرَادَ: وَفِيمَا نَسَخَ مِنْهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيمَا بَقِيَ
مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: لَمَّا أَلْقَى مُوسَى
الْأَلْوَاحَ فَتَكَسَّرَتْ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَرُدَّتْ عَلَيْهِ فِي
لَوْحَيْنِ فَكَانَ فِيهِ، { هُدًى وَرَحْمَةً } أَيْ: هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ
وَرَحْمَةً مِنَ الْعَذَابِ، { لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أَيْ: لِلْخَائِفِينَ
مِنْ رَبِّهِمْ، وَاللَّامُ فِي { لِرَبِّهِمْ } زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ،
كَقَوْلِهِ:(رَدِفَ لَكُمْ) [النَّمْلُ-72]، وَقَالَ
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
الْكِسَائِيُّ:
لَمَّا تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الْفِعْلِ حَسُنَتْ، كَقَوْلِهِ:(لِلرُّؤْيَا
تَعْبُرُونَ) [يُوسُفُ-43]، وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَرَادَ مِنْ رَبِّهِمْ
يَرْهَبُونَ. وَقِيلَ: أَرَادَ رَاهِبُونَ. وَقِيلَ: أَرَادَ رَاهِبُونَ
لِرَبِّهِمْ.
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ
وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا
فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ،
فَانْتَصَبَ لِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ، { سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا }
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ. قَالَ
السُّدِّيُّ: أمر الله تعال مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَاخْتَارَ مُوسَى
مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا { فَلَمَّا } أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
فَمَاتُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَهُمْ لِيَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعُوا
وَيَسْأَلُوا التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكُوا وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ،
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: { أَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ } لِأَنَّهُمْ لَمْ يُزَايِلُوا قَوْمَهُمْ حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ،
وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ لم يَنْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قَالُوا:(لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى نَرَى الله جهرة فأخذتهم الصَّاعِقَةُ)[الْبَقَرَةُ-55]، كَانُوا
قَبْلَ السَّبْعِينَ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ
قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا فَاخْتَارَهُمْ وَبَرَزَ بِهِمْ لِيَدْعُوا رَبَّهُمْ،
فَكَانَ فِيمَا دَعَوْا أَنْ قَالُوا: اللَّهُمَّ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ
أَحَدًا قَبْلَنَا، وَلَا تُعْطِهِ أَحَدًا بَعْدَنَا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ
مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ.
وَقَالَ وَهْبٌ: لَمْ تَكُنِ الرَّجْفَةُ صَوْتًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا
رَأَوْا تِلْكَ الْهَيْبَةَ أَخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ وَقَلِقُوا وَرَجَفُوا،
حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبِينَ مَفَاصِلُهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ
رَحِمَهُمْ وَخَافَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقْدُهُمْ،
وَكَانُوا لَهُ وُزَرَاءَ عَلَى الْخَيْرِ، سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَعِنْدَ
ذَلِكَ دَعَا وَبَكَى وَنَاشَدَ رَبَّهُ، فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ
الرَّجْفَةَ، فَاطْمَأَنُّوا وَسَمِعُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { قَالَ } يَعْنِي مُوسَى { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ
قَبْلُ } يَعْنِي عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ { وَإِيَّايَ } بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ.
{ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا }
يَعْنِي
عَبَدَةَ الْعِجْلِ، وَظَنَّ مُوسَى أَنَّهُمْ عُوقِبُوا بِاتِّخَاذِهِمُ
الْعِجْلَ، وَقَالَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ السُّؤَالِ، يَسْأَلُ: أَتُهْلِكُنَا
بِفِعْلِ السُّفَهَاءِ؟.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: قَوْلُهُ "أَهَلَكْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا" اسْتِفْهَامُ اسْتِعْطَافٍ، أَيْ: لَا تُهْلِكْنَا، وَقَدْ عَلِمَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ
بِجَرِيرَةِ الْجَانِي غَيْرَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ } أَيْ: الَّتِي وَقَعَ فِيهَا
السُّفَهَاءُ، لَمْ تَكُنْ إِلَّا اخْتِبَارَكَ وَابْتِلَاءَكَ، أَضْلَلْتَ بِهَا
قَوْمًا فَافْتَتَنُوا، وَهَدَيْتَ قَوْمًا فَعَصَمْتَهُمْ حَتَّى ثَبَتُوا عَلَى
دِينِكَ، فَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: { تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي
مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا } نَاصِرُنَا وَحَافِظُنَا، { فَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ
هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }
{ وَاكْتُبْ لَنَا } أَوْجِبْ لَنَا { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً }
النِّعْمَةَ وَالْعَافِيَةَ، { وَفِي الْآخِرَةِ } أَيْ: وَفِي الْآخِرَةِ {
حَسَنَةً } أَيِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ، { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أَيْ:
تُبْنَا إِلَيْكَ، { قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى: { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ
أَشَاءُ } مِنْ خَلْقِي، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } عَمَّتْ كُلَّ
شَيْءٍ، قَالَ الحسن وقتادة: 138/ب وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا الْبَرَّ
وَالْفَاجِرَ، وَهِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً. وَقَالَ
عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَلَكِنْ لَا تَجِبُ إِلَّا
لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ يُرْزَقُ، وَيُدْفَعُ عَنْهُ
بِالْمُؤْمِنِينَ لِسِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَعِيشُ فِيهَا،
فَإِذَا صَارَ إِلَى الْآخِرَةِ وَجَبَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً،
كَالْمُسْتَضِيءِ بِنَارِ غَيْرِهِ إِذَا ذَهَبَ صَاحِبُ السِّرَاجِ بِسِرَاجِهِ.
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا
نَزَلَتْ: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا
مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فَتَمَنَّاهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا:
نَحْنُ نَتَّقِي وَنُؤْمِنُ، وَنُؤْتِي الزَّكَاةَ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ لِهَذِهِ
الْأُمَّةِ فَقَالَ:
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } الْآيَةَ. قَالَ
نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ الْحِمْيَرِيُّ: لَمَّا اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: أَجْعَلُ لَكُمُ الْأَرْضَ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا، تصلون حيث أردكتكم الصَّلَاةُ إِلَّا عِنْدَ مِرْحَاضٍ أَوْ حَمَّامٍ
أَوْ قَبْرٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ
تَقْرَأُونَ التَّوْرَاةَ عَنْ ظَهْرِ قُلُوبِكُمْ، يَقْرَؤُهَا الرَّجُلُ
وَالْمَرْأَةُ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَقَالَ
ذَلِكَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ إِلَّا فِي
الْكَنَائِسِ، وَلَا نَسْتَطِيعُ حَمْلَ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِنَا، وَلَا
نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقْرَأَ التَّوْرَاةَ عَنْ ظُهُورِ قُلُوبِنَا، وَلَا نُرِيدُ
أَنْ نَقْرَأَهَا إِلَّا نَظَرًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ" إِلَى
قَوْلِهِ: "أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، فَجَعَلَهَا اللَّهُ
لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ اجْعَلْنِي
نَبِيَّهُمْ، فَقَالَ: نَبِيُّهُمْ مِنْهُمْ، قَالَ: رَبِّ اجْعَلْنِي مِنْهُمْ
فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا
رَبِّ إِنِّي أَتَيْتُكَ بِوَفْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلْتَ وِفَادَتَنَا
لِغَيْرِنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الْأَعْرَافُ-159]، فَرَضِيَ مُوسَى
(1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ }
وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ نَبِيُّكُمْ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ
وَلَا يَحْسِبُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ" (2) وَهُوَ
مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، أَيْ هُوَ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَقِيلَ هُوَ
مَنْسُوبٌ إِلَى أُمَّتِهِ، أَصْلُهُ أُمَّتِي فَسَقَطَتِ التَّاءُ فِي
النِّسْبَةِ كَمَا سَقَطَتْ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَقِيلَ: هُوَ
مَنْسُوبٌ إِلَى أُمِّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ.
{ الَّذِي يَجِدُونَهُ } أَيْ: يَجِدُونَ صِفَتَهُ وَنَعْتَهُ وَنُبُوَّتَهُ، {
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيَّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا
هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
__________
(1) رواية نوف البكالي هذه من الأخبار الإسرائيلية، فقد كان نوف راويا للقصص، وهو
ابن زوجة كعب الأحبار، وله ترجمة في "تهذيب التهذيب". وانظر فيما يأتي
التعليق على سبب نزول الآية من السورة. ص(291).
(2) أخرجه البخاري في الصوم، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا نكتب ولا نحسب" 4 / 126، ومسلم في الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية
الهلال.... برقم (1080) 2 / 761. والمصنف في شرح السنة: 6 / 228 عن ابن عمر رضي الله
عنهما.
عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ: قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ
لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا
لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلُ، لَيْسَ
بِفَظٍّ لا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ
بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ
اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا
وَقُلُوبًا غُلْفًا" (1) .
تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ
ابْنِ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الطَّيْسَفُونِيُّ
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التُّرَابِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بِسْطَامٍ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: إِنِّي أُجِدُ فِي
التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا
سَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ
يَعْفُو وَيَصْفَحُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ
مَنْزِلَةٍ وَيُكَبِّرُونَهُ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، يَأْتَزِرُونَ عَلَى
أَنْصَافِهِمْ +وَيُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ، صَفُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ
وَصَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ سَوَاءٌ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ،
لَهُمْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ
وَمُهَاجَرُهُ بِطَابَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ: بِالْإِيمَانِ، {
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } أَيْ: عَنِ الشِّرْكِ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ:
الشَّرِيعَةُ وَالسُّنَّةُ، وَالْمُنْكَرُ: مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا
سُنَّةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ: بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ،
وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ:
عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ. { وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ } يَعْنِي: مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ
الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالِحَامِ { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ } يَعْنِي: الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ،
وَالزِّنَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ }
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "آصَارَهُمْ" بِالْجَمْعِ. وَالْإِصْرُ: كُلُّ مَا
يَثْقُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ:
يَعْنِي الْعَهْدَ الثَّقِيلَ كَانَ أُخِذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَمَلِ
بِمَا فِي التَّوْرَاةِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق: 4 / 342-343 وفي تفسير
سورة الفتح، باب "إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا" 8 / 585.
(2) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في الكتب قبل مبعثه: 1 / 5، وابن سعد في الطبقات: 1 / 360، والبغوي في المصابيح: 4
/ 36، وانظر: مشكاة المصابيح: 3 / 1607.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
وَقَالَ
قَتَادَةُ: يَعْنِي التَّشْدِيدَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ، {
وَالْأَغْلَالَ } يَعْنِي: الْأَثْقَالَ { الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وَذَلِكَ
مِثْلَ: قَتْلِ الْأَنْفُسِ فِي التَّوْبَةِ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ،
وَقَرْضِ النَّجَاسَةِ عَنِ الثَّوْبِ بِالْمِقْرَاضِ، وَتَعْيِينِ الْقِصَاصِ فِي
الْقَتْلِ وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَتَرَكِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ،
وَأَنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الْكَنَائِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الشَّدَائِدِ. وَشُبِّهَتْ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي تَجْمَعُ الْيَدَ إِلَى
الْعُنُقِ. { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ } أَيْ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. { وَعَزَّرُوهُ } وَقَّرُوهُ، { وَنَصَرُوهُ } عَلَى
الْأَعْدَاءِ { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } يَعْنِي:
الْقُرْآنَ { أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ
قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أَيْ: آيَاتِهِ وَهِيَ
الْقُرْآنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ،
وَيَقْرَأُ "كَلِمَتَهُ" { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى } يَعْنِي: بني إسرائيل 139/أ {
أُمَّةٌ } أَيْ: جَمَاعَةٌ، { يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أَيْ: يُرْشِدُونَ
وَيَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَهْتَدُونَ وَيَسْتَقِيمُونَ
عَلَيْهِ، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أَيْ: بِالْحَقِّ يَحْكُمُونَ وَبِالْعَدْلِ
يَقُومُونَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: هُمْ قَوْمٌ خَلْفَ
الصِّينِ، بِأَقْصَى الشَّرْقِ عَلَى نَهْرٍ [يُجْرِي الرَّمْلُ] (1) يُسَمَّى
نَهْرَ أَوَدَافٍ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَالٌ دُونَ صَاحِبِهِ، يُمْطَرُونَ
بِاللَّيْلِ وَيُصْحَوْنَ بِالنَّهَارِ، وَيَزْرَعُونَ حَتَّى لَا يَصِلَ
إِلَيْهِمْ مِنَّا أَحَدٌ، وَهُمْ عَلَى الْحَقِّ (2) .
وَذُكِرَ: أَنَّ جِبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، فَكَلَّمَهُمْ [فَقَالَ
لَهُمْ جِبْرِيلُ: هَلْ تَعْرِفُونَ مَنْ تُكَلِّمُونَ؟ قَالُوا: لَا فَقَالَ
لَهُمْ: هَذَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ فَآمِنُوا بِهِ] (3) فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْصَانَا أَنَّ مَنْ
أَدْرَكَ مِنْكُمْ أَحْمَدَ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ مِنَّا السَّلَامَ، فَرَدَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
__________
(1) في بعض النسخ: (مجرى الرمل).
(2) انظر: الطبري: 13 / 173-174، البحر المحيط: 4 / 406.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
مُوسَى
وَعَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَقْرَأَهُمْ عَشْرَ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ
بِمَكَّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا
مَكَانَهُمْ، وَكَانُوا يَسْبِتُونَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَمِّعُوا وَيَتْرُكُوا
السَّبْتَ (1) .
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ (2)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (3) .
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 3 / 586، روح المعاني للآلوسي: 9 / 84.
(2) انظر: البحر المحيط: 4 / 406.
(3) هذه الروايات التي ساقها المصنف - رحمه الله - في تفسير الآية، من
الإسرائيليات التي لو صح سندها إلى قائليها فإنه لا يحتج بها في هذه الأمور
الغيبية التي لا نص عليها في الكتاب والسنة وقد استبعدها ابن عطية في تفسيره
"المحرر الوجيز": 6 / 109. وقال الآلوسي في روح المعاني: 9 / 85
"وضعّف هذه الحكاية ابن الخازن، وأنا لا أراها شيئا، ولا أظنك تجد لها سندا
يعوّل عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء". ولهذا نثبت هنا
خلاصة ما قاله ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية الكريمة: "يقول الله
تعالى مخبرا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى:
"من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" وقال
تعالى: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم
خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن الله
سريع الحساب"... ثم أشار إلى رواية ابن جرير وقال: "وقد ذكر ابن جرير في
تفسيرها خبرا عجيبا". وكذلك أبدى ابن عطية رحمه الله رأيه في تفسير الآية
فقال: يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين المتقين من بني إسرائيل، على عهد موسى عليه
السلام وما والاه من الزمن.. ويحتمل: أن يريد الجماعة التي آمنت بمحمد، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان
جميعهم". انظر: المحرر الوجيز: 6 / 108-109، الإسرائيليات والموضوعات لأبي
شهبة ص (291-292).
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا
هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَطَّعْنَاهُمْ } أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ، يَعْنِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ، { اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا }
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
قَالَ
الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ: "اثْنَتَيْ عَشْرَةَ"، وَالسِّبْطُ
مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ قَالَ: "أُمَمًا" فَرَجَعَ التَّأْنِيثُ إِلَى
الْأُمَمِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أُمَمًا، وَإِنَّمَا قَالَ: "أَسْبَاطًا أُمَمًا"، بِالْجَمْعِ وَمَا
فَوْقَ الْعَشَرَةِ لَا يُفَسَّرُ بِالْجَمْعِ، فَلَا يُقَالُ: أَتَانِي اثْنَا
عَشَرَ رِجَالًا لِأَنَّ الْأَسْبَاطَ فِي الْحَقِيقَةِ نَعْتُ الْمُفَسِّرِ
الْمَحْذُوفِ وَهُوَ الْفِرْقَةُ، أَيْ: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
فِرْقَةً أُمَمًا.
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَقَطَّعْنَاهُمْ أَسْبَاطًا
أُمَمًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَالْأَسْبَاطُ الْقَبَائِلُ وَاحِدُهَا سِبْطٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ }
فِي التِّيهِ، { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ } انْفَجَرَتْ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: عَرِقَتْ وَهُوَ الِانْبِجَاسُ، ثُمَّ
انْفَجَرَتْ، { مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ { قَدْ
عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } كُلُّ سِبْطٍ، { مَشْرَبَهُمْ } وَكُلُّ سِبْطٍ بَنُو أَبٍ
وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ } فِي التِّيهِ
تَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ، { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ }
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عامر ويعقوب: "نغفر" بِالتَّاءِ
وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا
وَكَسْرِ الْفَاءِ، { خَطِيئَاتِكُمْ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
"خَطِيئَتَكُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ وَرَفْعِ التَّاءِ، [وَقَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو: "خَطَايَاكُمْ"، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ:
"خَطِيئَاتِكُمْ" بِالْجَمْعِ وَرَفْعِ التَّاءِ] (1) . وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ وَكَسْرِ التَّاءِ { سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا } عَذَابًا { مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا
يَظْلِمُونَ }
{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ } قِيلَ: هِيَ "مَدْيَنُ"، [أَيْ: سَلْ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
يَا
مُحَمَّدُ هؤلاء اليهود الذي هُمْ جِيرَانُكَ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ] (1) أَيْ: بِقُرْبِهِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا "إِيَلَةُ" بَيْنَ
"مَدْيَنَ" وَ"الطُّورِ" عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ: هِيَ "طَبَرِيَّةُ الشَّامِ". { إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ } أَيْ : يَظْلِمُونَ فِيهِ وَيُجَاوِزُونَ أَمْرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِصَيْدِ السَّمَكِ ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا
أَيْ : ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ كَثِيرَةٌ، جَمْعُ شَارِعٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
مُتَتَابِعَةٌ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ مِثْلَ
الْكِبَاشِ السِّمَانِ الْبِيضِ.
{ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ } كَإِتْيَانِهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ،
قَرَأَ الْحَسَنُ: "لَا يُسْبِتُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: لَا
يَدْخُلُونَ فِي السَّبْتِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِنُصْبِ الْيَاءِ،
وَمَعْنَاهُ: لَا يُعَظِّمُونَ السَّبْتَ، { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ }
نَخْتَبِرُهُمْ، { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } فَوَسْوَسَ إِلَيْهِمُ
الشَّيْطَانُ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَكُمْ عَنِ الِاصْطِيَادِ
وَإِنَّمَا نَهَاكُمْ عَنِ الْأَكْلِ، فَاصْطَادُوا. أَوْ قِيلَ: وَسْوَسَ
إِلَيْهِمْ أَنَّكُمْ إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنِ الْأَخْذِ، فَاتَّخَذُوا حَيْضًا
عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، تَسُوقُونَ الْحِيتَانَ إِلَيْهَا يَوْمَ السَّبْتِ،
ثُمَّ تَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ
تَجَرَّأُوا عَلَى السَّبْتِ، وَقَالُوا: مَا نَرَى السَّبْتَ إِلَّا قَدْ أُحِلُّ
لَنَا، فَأَخَذُوا وَأَكَلُوا وَبَاعُوا، فَصَارَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ أَثْلَاثًا،
وَكَانُوا نحوا من سعين أَلْفًا، ثُلُثٌ نَهَوْا، وَثُلُثٌ لَمْ يَنْهَوْا
وَسَكَتُوا وَقَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟ وَثُلُثٌ
هُمْ أَصْحَابُ الْخَطِيئَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهُوا قَالَ النَّاهُونَ: لَا
نُسَاكِنُكُمْ فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَسَّمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ
لِلْمُسْلِمِينَ بَابٌ وَلِلْمُعْتَدِينَ بَابٌ، وَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَأَصْبَحَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ
الْمُعْتَدِينَ أَحَدٌ، فَقَالُوا: إِنَّ لَهُمْ شَأْنًا لَعَلَّ الْخَمْرَ
غَلَبَتْهُمْ فَعَلَوْا عَلَى الْجِدَارِ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ، فَعَرَفَتِ
الْقُرُودُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ وَلَمْ تَعْرِفِ الْإِنْسُ أَنْسَابَهَا
مِنَ الْقُرُودِ، فَجَعَلَتِ الْقُرُودُ يَأْتِيهَا نَسِيبُهَا مِنَ الْإِنْسِ
فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي، فَيَقُولُ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ فَتَقُولُ
بِرَأْسِهَا: نَعَمْ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ.
__________
(1) زيادة من "ب".
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ
أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا
اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } اخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ قَالُوا هَذَا،
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قِيلَ:
كَانُوا مِنَ الْفِرْقَةِ الْهَالِكَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمُ
انْتَهُوا عَنْ هَذَا الْعَمَلِ السَّيِّئِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ
الْعَذَابُ وَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ بِكُمْ بَأْسَهُ إِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا أَجَابُوا وَقَالُوا:(لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مهلكهم)، { أَوْ
} علمتهم أَنَّهُ { مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا } أَيْ: قَالَ
النَّاهُونَ { مَعْذِرَةً } أَيْ: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ { إِلَى رَبِّكُمْ }
قَرَأَ حَفْصٌ: "مَعْذِرَةً" بِالنَّصْبِ أَيْ نَفْعَلُ ذَلِكَ
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مِنْ قول الفرقة الساكنة،
قَالُوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى
رَبِّكُمْ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبٌ عَلَيْنَا فَعَلَيْنَا
مَوْعِظَةُ هَؤُلَاءِ عُذْرًا إِلَى اللَّهِ، { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أَيْ:
يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَتْرُكُوا الْمَعْصِيَةَ، وَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ
الْمُعْتَدِينَ لَكَانَ يَقُولُ وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أَيْ: تَرَكُوا مَا وُعِظُوا بِهِ، {
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا }
يَعْنِي الْفِرْقَةَ الْعَاصِيَةَ، { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أَيْ: شَدِيدٍ وَجِيعٍ،
مِنَ الْبَأْسِ وَهُوَ الشِّدَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِيهِ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ
"بِئِيسٍ" بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى وَزْنِ فِعِلٍ، إِلَّا أَنِ ابْنَ
عَامِرٍ يَهْمِزُهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ لَا يَهْمِزَانِ، وَقَرَأَ
عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ
وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ فَيَعْلَ مِثْلَ صَيْقَلٍ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ مِثْلَ بَعِيرٍ وَصَغِيرٍ.
{ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: "أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ"، فَلَا أَدْرِي مَا
فَعَلَ بِالْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ؟ قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي
اللَّهُ فِدَاكَ أَلَا تَرَاهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا وَكَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ،
وَقَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟ وَإِنْ لَمْ يَقُلِ
اللَّهُ أَنْجَيْتُهُمْ لَمْ يَقِلْ: أَهْلَكْتُهُمْ، فَأَعْجَبَهُ قَوْلِي،
فَرَضِيَ وَأَمَرَ لِي بِبُرْدَيْنِ فَكَسَانِيهِمَا.
وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رباب: نجت 139/ب الطَّائِفَتَانِ الَّذِينَ قَالُوا لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمَا وَالَّذِينَ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، وَأَهْلَكَ
اللَّهُ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَجَتِ النَّاهِيَةُ، وَهَلَكَتِ الْفِرْقَتَانِ، وَهَذِهِ
أَشَدُّ آيَةٍ فِي تَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
{ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْمَعْصِيَةِ { قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
مُبْعَدِينَ،
فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاسُ ثُمَّ هَلَكُوا.
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أَيْ: آذَنَ وَأَعْلَمَ رَبُّكَ، يُقَالُ: تَأَذَّنَ
وَآذَنَ، مِثْلَ: تَوَعَّدَ وَأَوْعَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَأَذَّنَ
رَبُّكَ قَالَ رَبُّكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَ رَبُّكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
حَكَمَ رَبُّكَ. { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أَيْ:
عَلَى الْيَهُودِ، { مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } بَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ يُقَاتِلُونَهُمْ
حَتَّى يُسَلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ
دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ
الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا
فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(169) }
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ } وَفَرَّقْنَاهُمْ { فِي الْأَرْضِ أُمَمًا } فِرَقًا
فَرَّقَهُمُ اللَّهُ فَتَشَتَّتَ أَمْرُهُمْ وَلَمْ تَجْتَمِعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ، {
مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: يُرِيدُ الَّذِينَ
أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ {
وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } يَعْنِي الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ هُمُ الَّذِينَ وَرَاءَ نَهْرِ
أَوَدَافٍ مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ (1) وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، يَعْنِي: مَنْ
هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ، { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ } بِالْخِصْبِ
وَالْعَافِيَةِ، { وَالسَّيِّئَاتِ } الْجَدْبِ وَالشِّدَّةِ، { لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ } لِكَيْ يُرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَتُوبُوا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أَيْ: جَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ { خَلْفٌ } وَالْخَلْفُ: الْقَرْنُ الَّذِي يَجِيءُ
بَعْدَ قَرْنٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ الْأَوْلَادُ،
الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْخَلْفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الْبَدَلُ
سَوَاءٌ كَانَ وَلَدًا أَوْ غَرِيبًا.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَلْفُ بِالْفَتْحِ: الصَّالِحُ،
وَبِالْجَزْمِ: الطَّالِحُ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْخَلَفُ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَإِسْكَانِهَا
فِي الْقَرْنِ السُّوءِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا فِي
__________
(1) انظر الحاشية السابقة في آخر تفسير الآية (159) من هذه السورة. ص(291).
الْقَرْنِ
الصَّالِحِ فَبِتَحْرِيكِ اللَّامِ لَا غَيْرُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْمَدْحِ بِفَتْحِ
اللَّامِ، وَفِي الذَّمِّ بِتَسْكِينِهَا وَقَدْ يُحَرَّكُ فِي الذَّمِّ
وَيُسَكَّنُ فِي الْمَدْحِ. { وَرِثُوا الْكِتَابَ } أَيِ: انْتَقَلَ إِلَيْهِمُ
الْكِتَابُ مِنْ آبَائِهِمْ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا
الْأَدْنَى } فَالْعَرَضُ مَتَاعُ الدُّنْيَا، وَالْعَرَضُ، بِسُكُونِ الرَّاءِ،
مَا كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَأَرَادَ
بِالْأَدْنَى الْعَالَمِ، وَهُوَ هَذِهِ الدَّارُ الْفَانِيَةُ، فَهُوَ تَذْكِيرُ
الدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَرِثُوا التَّوْرَاةَ فَقَرَؤُوهَا
وَضَيَّعُوا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا، وَخَالَفُوا حُكْمَهَا، يَرْتَشُونَ فِي
حُكْمِ اللَّهِ وَتَبْدِيلِ كَلِمَاتِهِ، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }
ذُنُوبُنَا يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ الْأَبَاطِيلَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنْبَأَنَا أَبُو
طَاهِرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَحْمُودٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ،
أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ،
وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ" (1)
.
{ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ
حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الذُّنُوبِ، يَقُولُ إِذَا
أَشْرَفَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا أَخَذُوهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا،
وَيَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ وَإِنْ وَجَدُوا مِنَ الْغَدِ
مِثْلَهُ أَخَذُوهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا
يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا إِلَّا ارْتَشَى فِي الْحُكْمِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا لَكَ
تَرْتَشِي؟ فَيَقُولُ: سَيُغْفَرُ لِي، فَيَطْعَنُ عَلَيْهِ الْآخَرُونَ، فَإِذَا
مَاتَ أَوْ نُزِعَ وَجُعِلَ مَكَانَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ عَلَيْهِ
فَيَرْتَشِي أَيْضًا. يَقُولُ: وَإِنْ يَأْتِ الْآخَرِينَ عَرْضٌ مِثْلُهُ
يَأْخُذُوهُ.
{ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } أَيْ: أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ فِي التَّوْرَاةِ
أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ، وَهِيَ تَمَنِّي الْمَغْفِرَةِ مَعَ
الْإِصْرَارِ، وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ مِيعَادُ الْمَغْفِرَةِ مَعَ
الْإِصْرَارِ، { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قَرَأُوا مَا فِيهِ، فَهُمْ ذَاكِرُونَ
لِذَلِكَ، وَلَوْ عَقَلُوهُ لَعَمِلُوا لِلدَّارِ الْآخِرَةِ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب الكيس من دان نفسه: 7 / 156، وقال: هذا
حديث حسن، وابن ماجه في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له: 2 / 1423 برقم
(4260)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين 1 / 57، وتعقبه الذهبي فقال: قلت: لا والله،
أبو بكر: واهٍ، وأخرجه أيضا في موضع آخر: 4 / 251. وأخرجه الإمام أحمد في المسند:
4 / 124، والبغوي في شرح السنة: 14 / 309 وقال: هذا حديث حسن، وصححه في مصابيح
السنة: 3 / 444. والحديث، فيه: أبو بكر بن مريم الغساني، وهو ضعيف، قال ابن طاهر:
مدار الحديث عليه، وهو ضعيف جدا. انظر: فيض القدير للمناوي: 5 / 68.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
وَدَرْسُ
الْكِتَابِ: قِرَاءَتُهُ وَتَدَبُّرُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، { وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
{ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) }
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ (172) }
{ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ } قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ:
"يُمْسِكُونَ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّشْدِيدِ،
لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ أَمْسَكْتُ بِالشَّيْءِ،
إِنَّمَا يُقَالُ: أَمْسَكْتُهُ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "وَالَّذِينَ
تَمَسَّكُوا بِالْكِتَابِ"، عَلَى الْمَاضِي وَهُوَ جَيِّدٌ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } إِذْ قَلَّ مَا يُعْطَفُ مَاضٍ عَلَى
مُسْتَقْبَلٍ إِلَّا فِي الْمَعْنَى، [وَأَرَادَ] (1) الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا
فِي الْكِتَابِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، تَمَسَّكُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي
جَاءَ بِهِ مُوسَى فَلَمْ يُحَرِّفُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ وَلَمْ يَتَّخِذُوهُ
مَأْكَلَةً. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أَيْ: فَلَقْنَا
الْجَبَلَ، وَقِيلَ: رَفَعْنَاهُ { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } قَالَ عَطَاءٌ: سَقِيفَةٌ،
وَالظُّلَّةُ: كُلُّ مَا أَظَلَّكَ، { وَظَنُّوا } عَلِمُوا { أَنَّهُ وَاقِعٌ
بِهِمْ خُذُوا } أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ خُذُوا، { مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ }
بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } واعلموا بِهِ، { لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ } وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ،
فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ جَبَلًا. قَالَ الْحَسَنُ: فَلَمَّا نَظَرُوا
إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَاجِدًا عَلَى حَاجِبِهِ
الْأَيْسَرِ يَنْظُرُ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْجَبَلِ فَرَقًا مِنْ أَنْ
يَسْقُطَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ يَهُودِيًّا إِلَّا وَيَكُونُ سُجُودُهُ
عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ } الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا
زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا أَبُو
مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
__________
(1) ساقط من "ب".
الْخَطَّابِ
أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: { وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الْآيَةَ. قَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [يُسْأَلُ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] (1) "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ
بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ
لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ
فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ
وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ
لِلْجَنَّةِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ
أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُدْخِلُهُ به الجنة 140/أ وَإِذَا خُلِقَ
الْعَبْدُ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ
عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ النَّارَ"
(2) وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بَيْنَ
مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَعُمَرَ رَجُلًا.
قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ اللَّهَ مَسَحَ
صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ
كَهَيْئَةِ الذَّرِّ يَتَحَرَّكُونَ، ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى
فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقَالَ: يَا آدَمُ
هَذِهِ ذُرِّيَّتُكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى،
فَقَالَ لِلْبِيضِ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي وَلَا أُبَالِي وَهُمْ
أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَقَالَ لِلسُّودِ: هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي،
وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ، ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِهِ، فَأَهْلُ
الْقُبُورِ مَحْبُوسُونَ حَتَّى يَخْرُجَ أَهْلُ الْمِيثَاقِ كُلُّهُمْ مِنْ
أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ
نَقَضَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ: "وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ"
[الْأَعْرَافُ-102] .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ أَقَرُّوا طَوْعًا
وَقَالُوا: بَلَى، وَأَهْلَ الشَّقَاوَةِ قَالُوهُ تَقِيَّةً وَكَرْهًا، وَذَلِكَ
مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَهُ أَسْلَمَ من في السموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا" [آلُ عِمْرَانَ-83].
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْمِيثَاقِ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: بِبَطْنِ نَعْمان -واد إلا جَنْبِ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه أبو داود في السنة، باب في القدر: 7 / 71-72، والترمذي في تفسير سورة
الأعراف: 8 / 452-455. وقال: هذا حديث حسن: ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، ومالك
في الموطأ، أول القدر: 2 / 898-899، وصححه الحاكم: 1 / 27، وأخرجه الإمام أحمد في
المسند: 1 / 44-45، وعزاه المزي في تحفة الأشراف: 8 / 113 للنسائي في الكبرى.
والمصنف في شرح السنة: 1 / 139 والآجري في الشريعة ص(170). قال المنذري في تهذيب
السنن: معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه
ثمانية يطول ذكرها. وانظر: ابن كثير: 2 / 263-264 وما كتبه الشيخ شاكر تعليقا في
تفسير الطبري: 13 / 234-236، والتمهيد لابن عبد البر 6 / 3-5.
عَرَفَةَ
- (1) وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ بِدَهْنَاءَ مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ (2)
وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هَبَطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخْرَجَ
اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْجَنَّةِ فَلَمْ يَهْبِطْ مِنَ
السَّمَاءِ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ. وَرُوِيَ: أَنَّ
اللَّهَ أَخْرَجَهُمْ جَمِيعًا وَصَوَّرَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ عُقُولًا
يَعْلَمُونَ بِهَا وَأَلْسُنًا يَنْطِقُونَ بِهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا
-يَعْنِي عِيَانًا -وَقَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَجَائِزٌ
أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِأَمْثَالِ الذَّرِّ فَهْمًا تَعْقِلُ
بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ" [ النَّمْلُ-18].
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لهم جميعا: اعملوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ
غَيْرِي وَأَنَا رَبُّكُمْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرِي فَلَا تُشْرِكُوا بِي
شَيْئًا، فَإِنِّي سَأَنْتَقِمُ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِي وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي،
وَإِنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْكُمْ رُسُلًا يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي،
وَمُنَزِّلٌ عَلَيْكُمْ كُتُبًا، فَتَكَلَّمُوا جَمِيعًا، وَقَالُوا: شَهِدْنَا
أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرَكَ، فَأَخَذَ بِذَلِكَ
مَوَاثِيقَهُمْ، ثُمَّ كَتَبَ آجَالَهُمْ وَأَرْزَقَاهُمْ وَمَصَائِبَهُمْ،
فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ آدَمُ فَرَأَى مِنْهُمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ
الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوْلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ:
إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ، فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ بِتَوْحِيدِهِ وَأَشْهَدَ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَعَادَهُمْ إِلَى صُلْبِهِ فَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ
حَتَّى يُولَدَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ مِيثَاقَهُ (3) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ" أَيْ: مِنْ
ظُهُورِ بَنِي آدَمَ ذُرِّيَّتَهُمْ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو
وَابْنُ عَامِرٍ: "ذُرِّيَّاتِهِمْ" بِالْجَمْعِ وَكَسْرِ التَّاءِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "ذُرِّيَّتَهُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَنَصْبِ
التَّاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ" وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ؟ قِيلَ: إِنَّ
اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ بعضهم من ذرية آدم بَعْضَهُمْ مِنْ ظُهُورِ
بَعْضٍ عَلَى نَحْوِ مَا يَتَوَالَدُ الْأَبْنَاءُ مِنَ الْآبَاءِ فِي
التَّرْتِيبِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ ظَهْرِ آدَمَ لِمَا عُلِمَ أَنَّهُمْ
كُلُّهُمْ بَنُوُهُ وَأُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِهِ (4)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 12 / 222، المستدرك للحاكم: 1 / 27، مجمع الزوائد
للهيثمي: 7 / 25،188-189. وساقه الحافظ ابن كثير من رواية الإمام أحمد والنسائي في
التفسير مرفوعا وذكر الروايات عن ابن عباس موقوفا وقال: هذا أكثر وأثبت. والله
أعلم. التفسير: 2 / 263.
(2) انظر: تفسير الطبري: 13 / 225 مع تعليق الشيخ شاكر.
(3) انظر: الطبري: 3 / 238-239، المسند: 5 / 125، المستدرك 2 / 323، مجمع الزوائد
7 / 25.
(4) قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بعد أن ساق روايات أخذ الذرية والإشهاد:
"قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام
فيه. وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها.
وبالله العصمة والتوفيق". التمهيد: 16 / 12.
وساق الحافظ ابن كثير الروايات في التفسير: 2 / 262-265 ثم قال: "... فهذه
الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه، وميَّز ين أهل الجنة
وأهل النار. وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وقد بينا أنهما موقوفان،
لا مرفوعان -... - ومن ثم قال القائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد
إنما هو فطرهم على التوحيد كما في حديث أبي هريرة وعياض بن عمار المجاشعي، ومن
رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع. وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك...".
وانظر: تفسير الفخر الرازي: 15 / 50-56، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 4 /
158-163، درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية: 8 / 359، وما بعدها،
تفسير القرطبي: 7 / 313 وما بعدها.
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى } أَيْ: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ: { شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا }
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "أَنْ يَقُولُوا" وَيَقُولُوا بِالْيَاءِ
فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: "شَهِدْنَا" قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ
خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى
إِقْرَارِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِ بَنِي آدَمَ
حِينَ أَشْهَدَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا بَلَى شَهِدْنَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ حَذْفٌ
تَقْدِيرُهُ: لَمَّا قَالَتِ الذُّرِّيَّةُ: بَلَى قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ:
اشْهَدُوا، قَالُوا: شَهِدْنَا، قَوْلُهُ: "أَنْ يَقُولُوا" يَعْنِي:
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا، أَيْ: لِئَلَّا يَقُولُوا أَوْ
كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقُولُوا، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ:
أُخَاطِبُكُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا: { يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } أَيْ: عَنْ هَذَا الْمِيثَاقِ
وَالْإِقْرَارِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَلْزَمُ الْحُجَّةُ عَلَى أَحَدٍ لَا
يَذْكُرُ الْمِيثَاقَ؟ قِيلَ: قَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ الدَّلَائِلَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ
وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا، فَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ مُعَانِدًا
نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَلَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ، وَبِنِسْيَانِهِمْ وَعَدَمِ
حِفْظِهِمْ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بَعْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ
صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ.
{ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً
مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ
وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ } يَقُولُ: إِنَّمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ
عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا أَشْرَكَ
آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ،
أَيْ كُنَّا أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ، فَتَجْعَلُوا هَذَا عُذْرًا
لِأَنْفُسِكُمْ وَتَقُولُوا: { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }
أَفَتُعَذِّبُنَا بِجِنَايَةِ آبَائِنَا الْمُبْطِلِينَ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ
يَحْتَجُّوا بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ تَذْكِيرِ اللَّهِ تَعَالَى
بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أَيْ: نُبَيِّنُ الْآيَاتِ لِيَتَدَبَّرَهَا
الْعِبَادُ، { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } مِنَ الْكُفْرِ إِلَى التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ
مِنْهَا } الْآيَةَ. اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (1): هُوَ بَلْعَمُ
بْنُ بَاعُورَاءَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ (1) : بَلْعَامُ بْنُ بَاعِرَ . وَقَالَ
عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) : كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَرُوِيَ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مَنْ
الْكَنْعَانِيِّينَ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ (2) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ
مِنْ مَدِينَةِ بَلْقَا.
وَكَانَتْ قِصَّتُهُ -عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ
وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ - (3) أَنْ مُوسَى لَمَّا قَصَدَ حَرْبَ الْجَبَّارِينَ
وَنَزَلَ أَرْضَ بَنِي كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ أَتَى قَوْمُ بَلْعَمَ
إِلَى بَلْعَمَ -وَكَانَ عِنْدَهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ -فَقَالُوا: إِنَّ
مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنْدٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّهُ جَاءَ يُخْرِجُنَا مِنْ
بِلَادِنَا وَيَقْتُلُنَا وَيُحِلُّهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ
مُجَابُ الدَّعْوَةِ، فَاخْرُجْ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَنَّا،
فَقَالَ: وَيْلَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ وَمَعَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ
كَيْفَ أَدْعُو عَلَيْهِمْ وَأَنَا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ، وَإِنِّي
إِنْ فَعَلْتُ هَذَا ذَهَبَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَرَاجَعُوهُ وَأَلَحُّوا
عَلَيْهِ فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، وَكَانَ لَا يَدْعُوهُ حَتَّى
يَنْظُرَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي الْمَنَامِ فَآمَرَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ،
فَقِيلَ لَهُ فِي الْمَنَامِ لَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِنِّي
قَدْ آمَرْتُ رَبِّي وَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ فَأَهْدَوْا إِلَيْهِ هَدِيَّةً
فَقَبِلَهَا، ثُمَّ رَاجَعُوهُ فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ، فَآمَرَ، فَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: قَدْ آمَرْتُ فَلَمْ يُجَزْ إِلَيَّ شَيْءٌ، فَقَالُوا:
لَوْ كَرِهَ رَبُّكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَنَهَاكَ كَمَا نَهَاكَ فِي
الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمْ يَزَالُوا يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى فَتَنُوهُ
فَافْتَتَنَ فَرَكِبَ أَتَانًا لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى جَبَلٍ يُطْلِعُهُ عَلَى
عَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ حُسْبَانُ، فلما سار 140/ب عَلَيْهَا
غَيْرَ كَثِيرٍ رَبَضَتْ بِهِ، فَنَزَلَ عَنْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى إِذَا
أَذْلَقَهَا قَامَتْ فَرَكِبَهَا، فَلَمْ تَسِرْ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى رَبَضَتْ،
فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَامَتْ، فَرَكِبَهَا فَلَمْ تَسِرْ بِهِ كَثِيرًا
حَتَّى رَبَضَتْ، فَضَرَبَهَا حَتَّى أَذْلَقَهَا، أَذِنَ اللَّهُ لَهَا
بِالْكَلَامِ فَكَلَّمَتْهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا بَلْعَمُ
أَيْنَ تَذْهَبُ بِي؟ أَلَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تَرُدُّنِي عَنْ
وَجْهِي هَذَا؟ أَتَذْهَبُ بِي إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو
عَلَيْهِمْ؟ فَلَمْ يَنْزِعْ، فَخَلَّى اللَّهُ سَبِيلَهَا فَانْطَلَقَتْ حَتَّى
إِذَا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى جَبَلِ حُسْبَانَ جَعَلَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَلَا
يَدْعُو عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ بِهِ لِسَانَهُ إِلَى
قَوْمِهِ، وَلَا يَدْعُو لِقَوْمِهِ بِخَيْرٍ إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ بِهِ
لِسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: يَا بَلْعَمُ
أَتَدْرِي مَاذَا تَصْنَعُ إِنَّمَا تَدْعُو لَهُمْ عَلَيْنَا؟! فَقَالَ: هَذَا
مَا لَا أَمْلِكُهُ، هَذَا شَيْءٌ قَدْ غَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَانْدَلَعَ
لِسَانُهُ فَوَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ ذَهَبَتِ الْآنَ مِنِّي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ،
فَسَأَمْكُرُ لَكُمْ وَأَحْتَالُ، جَمِّلُوا النِّسَاءَ وَزَيِّنُوهُنَّ
وَأَعْطُوهُنَّ
__________
(1) انظر: الطبري: 13 / 254، أسباب النزول للواحدي ص(261)، الدر المنثور: 3 /
608-609.
(2) الطبري: 13 / 254-255.
(3) انظر: الطبري: 13 / 264-267، تفسير ابن كثير: 2 / 267-268، البداية والنهاية:
1 / 322 وقال: "هذا الذي ذكره ابن إسحاق في قصة بلعام صحيح قد ذكره غير واحد
من السلف".
السِّلَعَ،
ثُمَّ أَرْسِلُوهُنَّ إِلَى الْعَسْكَرِ يَبِعْنَهَا فِيهِ، وَمُرُوهُنَّ فَلَا
تَمْنَعُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ أَرَادَهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ زِنَا
رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا دَخَلَ النِّسَاءُ
الْعَسْكَرَ مَرَّتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، اسْمُهَا كَسْتَى بِنْتُ
صُورَ، بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ زَمْرِيُّ بْنُ
شَلُومَ رَأْسُ سِبْطِ شَمْعُونَ بْنِ يَعْقُوبَ، فَقَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ
بِيَدِهَا حِينَ [أَعْجَبَهُ جَمَالُهَا] (1) ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا حَتَّى وَقَفَ
بِهَا عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: إِنِّي أَظُنُّكَ سَتَقُولُ هَذِهِ حَرَامٌ
عَلَيْكَ؟ قَالَ: أَجَلْ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ لَا تَقْرَبْهَا، قَالَ:
فَوَاللَّهِ لَا أُطِيعُكَ فِي هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا قُبَّتَهُ فَوَقَعَ
عَلَيْهَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ الطَّاعُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
الْوَقْتِ، وَكَانَ فِنْحَاصُ بْنُ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ صَاحِبَ أَمْرِ
مُوسَى، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أُعْطِيَ بَسْطَةً فِي الْخَلْقِ وَقُوَّةً فِي
الْبَطْشِ، وَكَانَ غَائِبًا حِينَ صَنَعَ زَمْرِيُّ بْنُ شَلُومَ مَا صَنَعَ،
فَجَاءَ وَالطَّاعُونُ يَجُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ،
فَأَخَذَ حَرْبَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ كُلِّهَا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمَا
الْقُبَّةَ، وَهُمَا مُتَضَاجِعَانِ فَانْتَظَمَهُمَا بِحَرْبَتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ
بِهِمَا رَافِعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ، وَالْحَرْبَةُ قَدْ أَخَذَهَا بِذِرَاعِهِ
وَاعْتَمَدَ بِمِرْفَقِهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ، وَأَسْنَدَ الْحَرْبَةَ إِلَى
لِحْيَتِهِ وَكَانَ بِكْرَ الْعَيْزَارِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَكَذَا
نَفْعَلُ بِمَنْ يَعْصِيكَ، وَرُفِعَ الطَّاعُونُ، فَحُسِبَ مَنْ هَلَكَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الطَّاعُونِ فِيمَا بَيْنَ أَنْ أَصَابَ زَمْرِيُّ
الْمَرْأَةَ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ فِنْحَاصُ، فَوَجَدُوا قَدْ هَلَكَ مِنْهُمْ
سَبْعُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، فَمِنْ هُنَالِكَ يُعْطِي بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَلَدَ فِنْحَاصَ مِنْ كُلِّ ذَبِيحَةٍ ذَبَحُوهَا الْقُبَّةَ
وَالذِّرَاعَ وَاللِّحْيَ، لِاعْتِمَادِهِ بِالْحَرْبَةِ عَلَى خَاصِرَتِهِ،
وَأَخْذِهِ إِيَّاهَا بِذِرَاعِهِ، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى لِحْيَتِهِ،
وَالْبِكْرَ مِنْ كُلِّ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ بِكْرَ
الْعَيْزَارِ وَفِي بَلْعَمَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا" الْآيَةَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مَلِكَ الْبَلْقَاءِ قَالَ لِبَلْعَامَ: ادْعُ اللَّهَ
عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دِينِي لَا أَدْعُو عَلَيْهِ،
فَنَحَتَ خَشَبَةً لِيَصْلِبَهُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى أَتَانٍ لَهُ
لِيَدْعُوَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَايَنَ عَسْكَرَهُمْ قَامَتْ بِهِ الْأَتَانُ
وَوَقَفَتْ فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ تَضْرِبُنِي؟ إِنِّي مَأْمُورَةٌ
وَهَذِهِ نَارٌ أَمَامِي قَدْ مَنَعَتْنِي أَنْ أَمْشِيَ فَرَجَعَ وَأَخْبَرَ
الْمَلِكَ فَقَالَ: لَتَدْعُوَنَّ عَلَيْهِ أَوْ لَأَصْلِبَنَّكَ، فَدَعَا عَلَى
مُوسَى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ: أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، فَاسْتُجِيبَ
لَهُ وَوَقَعَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ بِدُعَائِهِ، فَقَالَ
مُوسَى: يَا رَبِّ بِأَيِّ ذَنْبٍ وَقَعْنَا فِي التِّيهِ؟ فَقَالَ: بِدُعَاءِ
بَلْعَامَ. قَالَ: فَكَمَا سَمِعْتَ دُعَاءَهُ عَلَيَّ فَاسْمَعْ دُعَائِي
عَلَيْهِ، [فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] (2) أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُ
الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَالْإِيمَانُ، فَنَزَعَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَعْرِفَةَ
وَسَلَخَهُ مِنْهَا فَخَرَجَتْ مَنْ صَدْرِهِ كَحَمَامَةٍ بَيْضَاءَ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: "فَانْسَلَخَ مِنْهَا".
__________
(1) في "أ" (أعجبته).
(2) زيادة من نسخة "ب".
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،
وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي
الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُ: أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَرَأَ
الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُرْسِلٌ رَسُولًا فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ
ذَلِكَ الرَّسُولَ، فَلَمَّا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَكَانَ صَاحِبَ حِكْمَةٍ وَمَوْعِظَةٍ
حَسَنَةٍ، وَكَانَ قَصَدَ بَعْضَ الْمُلُوكِ فَلَمَّا رَجَعَ مَرَّ عَلَى قَتْلَى
بَدْرٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقِيلَ: قَتَلَهُمْ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ
نَبِيًّا مَا قَتَلَ أَقْرِبَاءَهُ، فَلَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ أَتَتْ أُخْتُهُ
فَارِعَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَفَاةِ أَخِيهَا فَقَالَتْ:
بَيْنَمَا هُوَ رَاقِدٌ أَتَاهُ آتِيَانِ فَكَشَفَا سَقْفَ الْبَيْتِ، فَنَزَلَا
فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ
الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: وَعَى؟ قَالَ أَزْكَى؟
قَالَ: أَبَى، قَالَتْ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: خَيْرٌ أُرِيدَ بِي،
فَصَرَفَ عَنِّي فَغَشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: كُلُّ عَيْشٍ وَإِنْ
تَطَاوَلَ دَهْرًا ... صَائِرٌ مَرَّةً إِلَى أَنْ يَزُولَا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ مَا قَدْ بَدَا لِي ... فِي قِلَالِ الْجِبَالِ أَرْعَى
الْوُعُولَا
إِنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ يَوْمٌ عَظِيمٌ ... شَابَ فِيهِ الصَّغِيرُ يَوْمًا
ثَقِيلًا
ثُمَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْشِدِينِي مِنْ شِعْرِ أَخِيكِ، فَأَنْشَدَتْهُ بَعْضَ قَصَائِدِهِ، فَقَالَ
لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آمَنَ شِعْرُهُ
وَكَفَرَ قَلْبُهُ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } الْآيَةَ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْبَسُوسِ، رَجُلٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ لَهُ ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ
مُسْتَجَابَاتٍ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَتْ:
اجْعَلْ لِي مِنْهَا دَعْوَةً، فَقَالَ لَكِ مِنْهَا وَاحِدَةٌ فَمَا تُرِيدِينَ؟
قَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا لَهَا فَجُعِلَتْ أَجْمَلَ النِّسَاءِ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ
عَنْهُ، فَغَضِبَ الزَّوْجُ وَدَعَا عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَلْبَةً نَبَّاحَةً،
فَذَهَبَتْ فِيهَا دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا عَلَى
هَذَا قَرَارٌ، قَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً، وَالنَّاسُ
يُعَيِّرُونَنَا بِهَا، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى الْحَالِ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهَا، فَدَعَا اللَّهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَذَهَبَتْ فِيهَا
الدَّعَوَاتُ كُلُّهَا (2) . وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَظْهَرُ (3) .
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 13 / 255-257، أسباب النزول ص261، الدر المنثور: 3 / 609.
(2) أسباب النزول (261-262)، الدر المنثور 3 / 608، البحر المحيط: 4 / 422.
(3) قال أبو حيان في البحر المحيط: 4 / 423: "والأولى في مثل هذا إذا ورد عن
المفسرين أن تُحمل أقاويلهم على التمثيل، لا على الحصر في معين. فإنه يؤدي إلى
الاضطراب والتناقض". وقال إمام المفسرين، الطبري رحمه الله: "والصواب من
القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يتلو على قومه خبر رجل كان صالحا آتاه الله حججه وأدلته، وهي
"الآيات"... وجائز أن يكون الذي آتاه الله ذلك: "بلعم"، وجائز
أن يكون "أمية" ولا خبر بأي الرجلين المعنيّ - يوجب الحجة، ولا في العقل
دلالة على أي ذلك، المعنيّ به من أيٍّ. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ونقرّ
بظاهر التنزيل، على ما جاء به الوحي من الله" التفسير 13 / 259-260.
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
وَقَالَ
الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ
الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ عُرِضَ
عَلَيْهِ الْهُدَى فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ "وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالسُّدِّيُّ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ لَا
يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى: أُوتِيَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَانْسَلَخَ، أَيْ: خَرَجَ مِنْهَا
كَمَا تَنْسَلِخُ، أَيْ: خَرَجَ مِنْهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ
جِلْدِهَا. { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أَيْ: لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ، { فَكَانَ
مِنَ الْغَاوِينَ }
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) }
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أَيْ: رَفَعْنَا درجته ومنزلته 141/أ
بِتِلْكَ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
لَرَفَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ بِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: لَرَفَعْنَا عَنْهُ
الْكُفْرَ وَعَصَمْنَاهُ بِالْآيَاتِ. { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ }
أَيْ: سَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا وَمَالَ إِلَيْهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَدَ
وَأَخْلَدَ وَاحِدٌ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْخُلُودِ وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْمَقَامُ،
يُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَالْأَرْضُ هَاهُنَا
عِبَارَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْقِفَارِ وَالرِّبَاعِ
كُلُّهَا أَرْضٌ، وَسَائِرُ مَتَاعِهَا مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْأَرْضِ. { وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ } انْقَادَ لِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ الْهَوَى، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ
هَوَاهُ مَعَ الْقَوْمِ. قَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ الدُّنْيَا وَأَطَاعَ
شَيْطَانَهُ. وَهَذِهِ أَشَدُّ آيَةٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
أَخْبَرَ أَنَّهُ آتَاهُ [آيَةً] (1) مِنِ اسْمِهِ الْأَعْظَمِ وَالدَّعَوَاتِ
الْمُسْتَجَابَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَاسْتَوْجَبَ بِالسُّكُونِ إِلَى
الدُّنْيَا وَاتِّبَاعِ الْهَوَى تَغْيِيرَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَالِانْسِلَاخَ
عَنْهَا، وَمَنِ الَّذِي يَسْلَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ إِلَّا مَنْ
عَصَمَهُ اللَّهُ؟
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
الْكِسَائِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ
__________
(1) في "ب": (آياته).
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
أَبِيهِ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا
ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ
الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } يُقَالُ: لَهَثَ الْكَلْبُ يَلْهَثُ لَهْثًا:
إِذَا أَدْلَعَ لِسَانَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مِثْلُ الَّذِي يَقْرَأُ
الْكِتَابَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الْكَافِرَ إِنْ زَجَرْتَهُ لَمْ يَنْزَجِرْ، وَإِنْ
تَرَكْتَهُ لَمْ يَهْتَدِ، فَالْحَالَتَانِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، كَحَالَتَيِ الْكَلْبِ:
إِنْ طُرِدَ وَحُمِلَ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ كَانَ لَاهِثًا، وَإِنْ تُرِكَ
وَرَبَضَ كَانَ لَاهِثًا. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ إِنَّمَا
يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إِلَّا الْكَلْبَ، فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي
حَالِ الْكَلَالِ وَفِي حَالِ الرَّاحَةِ وَفِي حَالِ الْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ
اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ
ضَالٌّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ كَالْكَلْبِ إِنْ طَرَدَتْهُ لَهَثَ،
وَإِنْ تَرَكْتَهُ عَلَى حَالِهِ لَهَثَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) [الْأَعْرَافُ-193]، ثُمَّ عَمَّ
بِهَذَا التَّمْثِيلِ جَمِيعَ مَنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: { ذَلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ هَادِيًا يَهْدِيهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى
طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَبِيٌّ لَا يَشُكُّونَ فِي صِدْقِهِ
كَذَّبُوهُ فَلَمْ يَهْتَدُوا تُرِكُوا أَوْ دُعُوا.
{ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ
كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ
يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) }
{ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أَيْ: بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَتَقْدِيرُهُ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ
الْقَوْمِ، فَحَذَفَ مَثَلَ وَأُقِيمَ الْقَوْمُ مَقَامَهُ فَرُفِعَ، {
وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ }
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب رقم(30): 7 / 46 وقال: هذا حديث صحيح، وصححه ابن
حبان ص(612) من موارد الظمآن، وأخرجه الدارمي في الرقاق: 2 / 304، والمصنف في شرح
السنة: 14 / 257-258، وعزاه ابن رجب الحنبلي أيضا: للنسائي، وقال: وروي من وجه آخر
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأبي
هريرة، وأسامة بن زيد، وأبي سعيد، وعاصم بن عدي الأنصاري رضي الله عنهم. وأخرجه
الإمام أحمد في المسند: 3 / 456 ،460. وانظر: "شرح حديث ما ذئبان
جائعان" لابن رجب الحنبلي في مجموعة الرسائل المنيرية: 3 / 1 وما بعدها.
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (180) }
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلنَّارِ،
وَهُمُ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ الْأَزَلِيَّةُ بِالشَّقَاوَةِ،
وَمَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الصَّيْرَفِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ،
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ الشَّطَوِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: أَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةَ صَبِيٍّ مِنْ صِبْيَانِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتْ
عَائِشَةُ: طُوبَى لَهُ عصفور من عاصفير الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا يُدْرِيكَ؟ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ
الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ
النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ" (1) .
وَقِيلَ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ "لِجَهَنَّمَ" لَامُ الْعَاقِبَةِ،
أَيْ: ذَرَأْنَاهُمْ، وَعَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ جَهَنَّمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"فَالْتَقَطَهَ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا"(الْقَصَصِ 8)، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: { لَهُمْ قُلُوبٌ لَا
يَفْقَهُونَ بِهَا } أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِهَا الْخَيْرَ وَالْهُدَى. { وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا } طَرِيقَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ، {
وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا } مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ فَيَتَفَكَّرُونَ
فِيهَا وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فِي الْجَهْلِ وَالِاقْتِصَارِ
عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَقَالَ: { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ } أَيْ: كَالْأَنْعَامِ فِي أَنَّ هِمَّتَهُمْ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تُمَيِّزُ
بَيْنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، فَلَا تُقْدِمُ عَلَى الْمَضَارِّ،
وَهَؤُلَاءِ يُقْدِمُونَ عَلَى النَّارِ مُعَانَدَةً، مَعَ الْعِلْمِ
بِالْهَلَاكِ، { أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } قَالَ
مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا دَعَا اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ وَدَعَا
الرَّحْمَنَ، فَقَالَ بَعْضُ مُشْرِكِي مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَدَّعُونَ (2) أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رَبًّا
__________
(1) أخرجه مسلم في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة... برقم(2662): 4 /
2050، والمصنف في شرح السنة: 1 / 141.
(2) في "ب": (يزعمون).
وَاحِدًا،
فَمَا بَالُ هَذَا يَدْعُو اثْنَيْنِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا". وَالْحُسْنَى
تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ كَالْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، فَادْعُوهُ بِهَا.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشْرَانَ، أَنَا أَبُو عَلِيٍّ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ
الْمُرَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ
بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً
إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ
الْوِتْرَ" (1) .
{ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قَرَأَ حَمْزَةُ:
"يَلْحَدُونَ" -بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ حَيْثُ كَانَ -وَافَقَهُ
الْكِسَائِيُّ فِي النَّحْلِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ،
وَمَعْنَى الْإِلْحَادِ هُوَ: الْمَيْلُ عَنِ [الْمَقْصِدِ] (2) يُقَالُ: أَلْحَدَ
يُلْحِدُ إِلْحَادًا، وَلَحَدَ يَلْحَدُ لُحُودًا: إِذَا مَالَ. قَالَ يَعْقُوبُ
بْنُ السُّكَيْتِ: الْإِلْحَادُ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ، وَإِدْخَالُ مَا
لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ، يُقَالُ: أَلْحَدَ فِي الدِّينِ، وَلَحَدَ، وَبِهِ قَرَأَ
حَمْزَةُ.
{ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } هُمُ الْمُشْرِكُونَ عَدَلُوا
بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَسَمُّوا بِهَا
أَوْثَانَهُمْ فَزَادُوا وَنَقَصُوا، فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ
"اللَّهِ" وَالْعُزَّى مِنَ "الْعُزَيْزِ"، وَمَنَاةَ مِنَ
"الْمَنَّانِ"، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقِيلَ: هُوَ تَسْمِيَتُهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ يَكْذِبُونَ. وَقَالَ أَهْلُ
الْمَعَانِي: الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ: تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ
يُسَمَّ بِهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَلَا سُنَّةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى على التوقيف 141/ب فَإِنَّهُ
يُسَمَّى جَوَادًا وَلَا يُسَمَّى سَخِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْجَوَادِ،
وَيُسَمَّى رَحِيمًا وَلَا يُسَمَّى رَفِيقًا، وَيُسَمَّى عَالِمًا وَلَا يُسَمَّى
عَاقِلًا وَقَالَ تَعَالَى: "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ"(النِّسَاءِ 142) وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: "وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ"(آلُ عِمْرَانَ-54)، وَلَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: يَا
مُخَادِعُ، يَا مَكَّارُ، بَلْ يُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا
التَّوْقِيفُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، فَيُقَالُ: يَا اللَّهُ، يَا رَحْمَنُ،
يَا رَحِيمُ، يَا عَزِيزُ، يَا كَرِيمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. { سَيُجْزَوْنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات ، باب لله مائة اسم غير واحد :11 / 214 وفي الشروط ،
وفي التوحيد ، ومسلم في الذكر والدعاء ، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها ،
برقم (2677) :4 / 2062 ، والمصنف في شرح السنة : 5 / 30 .
(2) في "ب": (القصد).
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا
يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
(184) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ } أَيْ: عِصَابَةٌ، { يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ
أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
قَالَ: "هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِي الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
مِثْلَهَا، وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا الْحَمِيدِيُّ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ، حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ،
وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ
هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تَزَالُ مِنْ
أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ
وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ"
(2) . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ.
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا
يَعْلَمُونَ } قَالَ عَطَاءٌ: سَنَمْكُرُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقِيلَ: نَأْتِيهِمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ، كَمَا قَالَ: "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا"(الْحَشْرُ-2)، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُزَيِّنُ
لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلَّمَا جَدَّدُوا
مَعْصِيَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: نُسْبِغُ
عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ وَنُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي:
الِاسْتِدْرَاجُ أَنْ يَتَدَرَّجَ إِلَى الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ قَلِيلًا قَلِيلًا
فَلَا يُبَاغِتُ وَلَا يُجَاهِرُ، وَمِنْهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ إِذَا قَارَبَ
بَيْنَ خُطَاهُ فِي الْمَشْيِ، وَمِنْهُ دَرَجَ الْكِتَابَ إِذَا طَوَاهُ شَيْئًا
بَعْدَ شَيْءٍ.
{ وَأُمْلِي لَهُمْ } أَيْ: أُمْهِلُهُمْ وَأُطِيلُ لَهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ
لِيَتَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي، { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أَيْ: إِنَّ أَخْذِي
قَوِيٌّ شَدِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَكْرِي شَدِيدٌ. قِيلَ: نَزَلَتْ
فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
__________
(1) تفسير الطبري: 13 / 286.
(2) أخرجه البخاري في المناقب، باب رقم(28): 6 / 632، ومسلم في الإمارة، باب قوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق
..." برقم(1037): 3 / 1524، والمصنف في شرح السنة: 14 / 212.
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ } قَالَ
قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ
عَلَى الصَّفَا لَيْلًا فجعل يدعو قرشا فَخِذًا فَخِذًا: يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا
بَنِي فُلَانٍ، يُحَذِّرُهُمْ بِأُسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَهُ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ:
إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ، بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَوْلَمَ يَتَفَكَّرُوا مَا
بِصَاحِبِهِمْ" (1) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { مِنْ
جِنَّةٍ } جُنُونٍ، { إِنْ هُوَ } مَا هُوَ، { إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } ثُمَّ
حَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ فَقَالَ:
{ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ
فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ
لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا
تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(187) }
{ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ } فِيهِمَا { مِنْ شَيْءٍ } أَيْ: وَيَنْظُرُوا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ لِيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. { وَأَنْ عَسَى أَنْ
يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } أَيْ: لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيَصِيرُوا إِلَى الْعَذَابِ، {
فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أَيْ: بَعْدَ الْقُرْآنِ يُؤْمِنُونَ.
يَقُولُ: بِأَيِّ كِتَابٍ غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُونَ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ وَلَا كِتَابٌ، ثُمَّ
ذَكَرَ عِلَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ:
{ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } قَرَأَ أَهْلُ
الْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ قَدْ مَرَّ
قَبْلَهُ، وَجَزْمُ الرَّاءِ مَرْدُودٌ عَلَى "يُضْلِلِ" وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. {
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قَالَ
قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً فَأَسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى
السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ" (2) يَعْنِي: الْقِيَامَةَ، { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مُنْتَهَاهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: قِيَامُهَا،
وَأَصْلُهُ الثَّبَاتُ، أَيْ: مُثْبِتُهَا؟ { قُلْ } يَا مُحَمَّدُ { إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } استأثر بعملها وَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، { لَا
يُجَلِّيهَا }
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 13 / 289 بإسناد صحيح إلى قتادة. انظر: الكافي الشاف
ص(66).
(2) أخرجه الطبري: 13 / 292، 298.
لَا
يَكْشِفُهَا وَلَا يُظْهِرُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَأْتِي بِهَا، {
لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } يَعْنِي:
ثِقَلَ عِلْمِهَا وَخَفِيَّ أَمْرِهَا على أهل السموات وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ
خَفِيٍّ ثَقِيلٌ. قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ إِذَا جَاءَ ثَقُلَتْ وَعَظُمَتْ على
أهل السموات وَالْأَرْضِ، { لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } فَجْأَةً عَلَى غَفْلَةٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا
أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
"لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا
بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ
السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمْهُ،
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ،
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا
يَطْعَمُهَا" (1) .
{ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } أَيْ: عَالِمٌ بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ
أَحْفَيْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَيْ: بَالَغْتُ فِيهَا، مَعْنَاهُ: كَأَنَّكَ
بَالَغْتَ فِي السُّؤَالِ عَنْهَا حَتَّى عَلِمْتَهَا، { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أَنَّ عِلْمَهَا
عِنْدَ اللَّهِ حَتَّى سَأَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْهَا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب حدثنا أبو اليمان : 11 / 352 ، ومسلم في الفتن ،
باب قرب الساعة (2954):4 / 2270 . والمصنف في شرح السنة :15 / 26-27.
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) }
{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، أَلَّا يُخْبِرُكَ رَبُّكَ بِالسِّعْرِ الرَّخِيصِ قَبْلَ أَنْ
يَغْلُوَ فَتَشْتَرِيَهُ وَتَرْبَحَ فِيهِ عِنْدَ الْغَلَاءِ؟ وَبِالْأَرْضِ
الَّتِي يريد أن تجذب فَتَرْتَحِلَ مِنْهَا إِلَى مَا قَدْ أَخْصَبَتْ؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا" (1) أَيْ: لَا
أَقْدِرُ لِنَفْسِي نَفْعًا، أَيِ: اجْتِلَابَ نَفْعٍ بِأَنْ أَرْبَحَ وَلَا ضُرًّا،
أَيْ دَفْعَ ضُرٍّ بِأَنْ أَرْتَحِلَ مَنْ أَرْضٍ تُرِيدُ أَنْ تَجْدِبَ إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْلِكَهُ.
{ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ } أَيْ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْخِصْبَ وَالْجَدْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ
مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ: مِنَ الْمَالِ لِسَنَةِ الْقَحْطِ { وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ } أَيِ: الضُّرُّ وَالْفَقْرُ وَالْجُوعُ.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص(263).
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
وَقَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ: "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا"
يَعْنِي: الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ،(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أَيْ: مَتَى
أَمُوتُ، لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، يَعْنِي: مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ وَاتَّقَيْتُهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أَيْ مَتَى السَّاعَةُ
لَأَخْبَرَتْكُمْ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ بِتَكْذِيبِكُمْ.
وَقِيلَ: مَا مَسَّنِيَ السُّوءُ: ابْتِدَاءً، يُرِيدُ: وَمَا مَسَّنِيَ
الْجُنُونُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ. { إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ } لِمَنْ لَا يُصَدِّقُ بِمَا جِئْتُ بِهِ، { وَبَشِيرٌ }
بِالْجَنَّةِ، { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يُصَدِّقُونَ.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ
بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يَعْنِي:
آدَمَ، { وَجَعَلَ } وَخَلَقَ { مِنْهَا زَوْجَهَا } يَعْنِي: حَوَّاءَ، {
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } لِيَأْنَسَ بِهَا ويأوي إليها 142/أ { فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا } أَيْ: وَاقَعَهَا وَجَامَعَهَا { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا }
وَهُوَ أَوَّلُ مَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ مِنَ النُّطْفَةِ يَكُونُ خَفِيفًا
عَلَيْهَا، { فَمَرَّتْ بِهِ } أَيْ: اسْتَمَرَّتْ بِهِ وَقَامَتْ وَقَعَدَتْ
بِهِ، لَمْ يُثْقِلْهَا، { فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } أَيْ: كَبِرَ الْوَلَدُ فِي
بَطْنِهَا وَصَارَتْ ذَاتَ ثِقَلٍ بِحَمْلِهَا وَدَنَتْ وِلَادَتُهَا، { دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُمَا } يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، { لَئِنْ آتَيْتَنَا } يَا
رَبَّنَا { صَالِحًا } أَيْ: بَشَرًا سَوِيًّا مِثْلَنَا، { لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا
إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي فِي بَطْنِكِ؟ قَالَتْ:
مَا أَدْرِي. قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أن يكون بهمية، أَوْ كَلْبًا، أَوْ
خِنْزِيرًا، وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ مِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ،
أَوْ مِنْ [قُبُلِكِ] (1) وَيَنْشَقُّ بَطْنُكِ، فَخَافَتْ حَوَّاءُ مِنْ ذَلِكَ،
وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ
ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِنِّي مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ، فَإِنْ
دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَلْقًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ عَلَيْكِ
خُرُوجَهُ تُسَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ؟ -وَكَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ فِي
الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ -فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ
صَاحِبُنَا الَّذِي قَدْ عَلِمْتِ، فَعَاوَدَهَا إِبْلِيسُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمَا
حَتَّى غَرَّهُمَا، فَلَمَّا وَلَدَتْ سَمَّيَاهُ
__________
(1) في "ب": (فيك).
عَبْدَ
الْحَارِثِ (1) .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ إِبْلِيسُ لَهَا: إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَوَلَدْتِ
إِنْسَانًا أَتُسَمِّينَهُ بِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَ
سَمِّيهِ بِي، قَالَتْ: وَمَا اسْمُكَ قَالَ الْحَارِثُ، وَلَوْ سَمَّى لَهَا
نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ فَسَمَّتْهُ عَبَدَ الْحَارِثِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ
تَلِدُ لِآدَمَ فَيُسَمِّيهِ عَبْدَ اللَّهِ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ
__________
(1) حديث ضعيف أخرجه الترمذي في تفسير سورة الأعراف : 8 / 460، وقال: هذا حديث حسن
غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد
ولم يرفعه، ورواه الإمام أحمد في المسند: 5 / 11، والطبراني في الكبير برقم(6895)،
والحاكم: 2 / 545، والطبري: 13 / 309، وعمر بن إبراهيم، صدوق، في حديثه عن قتادة
ضعف، قال أحمد: يروي عن قتادة أحاديث مناكير. وقال ابن عدي: يروي عن قتادة أشياء
لا يوافق عليها، وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب. (تهذيب التهذيب). وساق الحافظ ابن
كثير رواية ابن عباس، وعزاها أيضا لابن أبي حاتم في تفسيره، وكذا ابن مردويه ثم
قال: الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم
الرازي لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن
سمرة مرفوعا، فالله أعلم.
(الثاني) أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعا، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن
عبد الأعلى حدثنا المعتمر عن أبيه، حدثنا بكر بن عبد الله عن سليمان التيمي عن أبي
العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب قال سمى آدم ابنه عبد الحارث.
(الثالث) أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما
عدل عنه. قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمر وعن الحسن (وجعلا
له شركاء فيما آتاهما) قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم.
وحدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: قال الحسن عني بها ذرية
آدم ومن أشرك منهم بعده يعني (جعلا له شركاء فيما آتاهما). وحدثنا بشر حدثنا يزيد
حدثنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن يقول هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا
فهودوا ونصروا.
وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك، وهو أحسن التفاسير
وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه
فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن
منهم: مثل: كعب أو وهب بن منبه وغيرهما - كما سيأتي بيانه إن شاء الله - إلا أننا
برئنا من عهده المرفوع والله أعلم.
فأما الآثار: فقال محمد بن إسحاق بن يسار: عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس
قال: كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادا فيعبدهم لله، ويسميهم: عبد الله،
وعبيد الله، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إنكما لو سميتماه بغير
الذي تسميانه به لعاش، قال فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث ففيه أنزل الله يقول (
هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) - إلى قوله - (جعلا له شركاء فيما آتاهما) إلى آخر
الآية.
وقال العوفي: عن ابن عباس قوله في آدم: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) - إلى قوله -
(فمرت به) شكت أحملت أم لا؟ (فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن
من الشاكرين) فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون
أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل إنه غوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا،
فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا ومات كما مات الأول، فسميا
ولدهما عبد الحارث، فذلك قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما
آتاهما) الآية. وقال عبد الله بن أبي سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: (فلما
آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) قال الله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس
واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها) آدم (حملت) فأتاهما إبليس لعنه
الله فقال إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل،
فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما، فسمياه عبد الحارث، فأبيا أن
يطيعاه، فخرج ميتا ثم حملت الثانية فأتاهما أيضا فقال أنا صاحبكما الذي فعلت ما
فعلت لتفعلن أو لأفعلن - يخوفهما - فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت الثالث
فأتاهما أيضا فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى
(جعلا له شركاء فيما آتاهما) رواه ابن أبي حاتم.
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن
الطبقة الثانية: قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسرين
من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه والله أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب
فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو
الجماهر حدثنا سعيد يعني ابن بشير عن عقبة عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي
بن كعب قال لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها أتطيعيني ويسلم لك ولدك، سميه
عبد الحارث فلم تفعل فولدت فمات ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ثم حملت
الثالثة فجاءها فقال إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبهما فأطاعا.
وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال "إذا حدثكم أهل الكتاب
فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم".
ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام: فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله
أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا، ومنها:
ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام "حدثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج"، وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله: (فلا تصدقوهم ولا
تكذبوهم): وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر، فأما من حدث به من
صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه
الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك
المشركون من ذريته، ولهذا قال الله: (فتعالى الله عما يشركون)، ثم قال: فذكر آدم
وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى
الجنس.
وانظر: تفسير الفخر الرازي: 15 / 90-93، الإسرائيليات والموضوعات للشيخ محمد أبي
شهبة ص(292-301)، المنهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص(236).
وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ، فَيُصِيبُهُمُ الْمَوْتُ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ وَقَالَ: إِنْ
سَرَّكُمَا أَنْ يَعِيشَ لَكُمَا وَلَدٌ فَسَمِّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ،
فَوَلَدَتْ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"خَدَعَهُمَا إِبْلِيسُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي الْجَنَّةِ وَمَرَّةً فِي
الْأَرْضِ".
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وُلِدَ لِآدَمَ وَلَدٌ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ
فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُمَا: مَا سَمَّيْتُمَا ابْنَكُمَا؟ قَالَا
عَبْدَ اللَّهِ -وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدٌ فَسَمَّيَاهُ
عَبْدَ اللَّهِ فَمَاتَ -فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَتَظُنَّانِ أَنَّ اللَّهَ تَارِكٌ
عَبْدَهُ عِنْدَكُمَا، لَا وَاللَّهِ لَيَذْهَبَنَّ بِهِ كَمَا ذَهَبَ بِالْآخَرِ،
وَلَكِنْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمٍ يَبْقَى لَكُمَا مَا بَقِيتُمَا، فَسَمَّيَاهُ
عَبْدَ شَمْسٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { فَلَمَّا آتَاهُمَا
صَالِحًا }
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } بَشَرًا سَوِيًّا { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ
فِيمَا آتَاهُمَا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو بَكْرٍ:
"شِرْكًا" بِكَسْرِ الشِّينِ وَالتَّنْوِينِ، أَيْ: شَرِكَةً. قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ حَظًّا وَنَصِيبًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "شُرَكَاءَ"
بِضَمِّ الشِّينِ مَمْدُودًا عَلَى جَمْعِ شَرِيكٍ، يَعْنِي: إِبْلِيسَ، أَخْبَرَ
عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. أَيْ: جَعَلَا لَهُ شَرِيكًا إِذْ سَمَّيَاهُ
عبد الحارث، ولمن يَكُنْ هَذَا إِشْرَاكًا فِي الْعِبَادَةِ وَلَا أَنَّ
الْحَارِثَ رَبَّهُمَا، فَإِنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا مَعْصُومًا مِنَ الشِّرْكِ،
وَلَكِنْ قَصَدَ إِلَى أَنَّ الْحَارِثَ كَانَ سَبَبَ نَجَاةِ الْوَلَدِ
وَسَلَامَةِ أُمِّهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
الْعَبْدِ
عَلَى مَنْ لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ، كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الرَّبِّ
عَلَى مَا لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَعْبُودُ هَذَا، كَالرَّجُلِ إِذَا نَزَلَ
بِهِ ضَيْفٌ يُسَمِّي نَفْسَهُ عَبَدَ الضَّيْفَ، عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لَا
عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ رَبُّهُ، وَيَقُولُ لِلْغَيْرِ: أَنَا عَبْدُكَ. وَقَالَ
يُوسُفُ لِعَزِيزِ مِصْرَ: إِنَّهُ رَبِّي، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ
مَعْبُودُهُ، كَذَلِكَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قِيلَ: هَذَا ابْتِدَاءُ
كَلَامٍ وَأَرَادَ بِهِ إِشْرَاكَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَئِنْ أَرَادَ بِهِ مَا
سَبَقَ فَمُسْتَقِيمٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى بِهِمَا أَنْ لَا
يَفْعَلَا مَا أَتَيَا بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ فِي الِاسْمِ.
وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ
الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةُ،
وَمَعْنَاهُ: جَعَلَ أَوْلَادَهُمَا شُرَكَاءَ، فَحَذَفَ الْأَوْلَادَ
وَأَقَامَهُمَا مَقَامَهُمْ، كَمَا أَضَافَ فِعْلَ الْآبَاءِ إِلَى الْأَبْنَاءِ
فِي تَعْيِيرِهِمْ بِفِعْلِ الْآبَاءِ فَقَالَ: "ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ"، "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا" خَاطَبَ بِهِ الْيَهُودَ
الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ آبَائِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى، رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا، وَقَالَ
ابْنُ كَيْسَانَ: هُمُ الْكُفَّارُ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ عَبْدَ الْعُزَّى
وَعَبْدَ اللَّاتِ وَعَبْدَ مَنَاةَ وَنَحْوَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَاطَبَ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ خَلَقَكُمْ أَيْ خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْ أَبِيهِ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا، أَيْ: جَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا،
وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لَوْلَا قَوْلُ السَّلَفِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ.
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا
يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(194) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا } يَعْنِي:
إِبْلِيسَ وَالْأَصْنَامَ، { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أَيْ: هُمْ مَخْلُوقُونَ.
{ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } أَيْ: الْأَصْنَامُ لَا تَنْصُرُ مَنْ
أَطَاعَهَا، { وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَدْفَعُونَ
عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَكْرُوهَ مَنْ أَرَادَ بِهِمْ بِكَسْرٍ أَوْ نَحْوِهُ ثُمَّ
خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى }
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى } إِنْ تَدْعُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى
الْإِسْلَامِ، { لَا يَتَّبِعُوكُمْ } قَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّخْفِيفِ وَكَذَلِكَ:
"يَتْبَعُهُمُ الْغَاوُونَ" فِي الشُّعَرَاءِ(الْآيَةُ 224) وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: تَبِعَهُ
تَبَعًا وَأَتْبَعَهُ إِتْبَاعًا. { سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ } إِلَى
الدِّينِ، { أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } عَنْ دُعَائِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا
قَالَ: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ"(الْبَقَرَةُ-6) وقيل: "وإن تدعهم إِلَى الْهُدَى"
يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، لَا يَتَّبِعُوكُمْ لِأَنَّهَا غَيْرُ عَاقِلَةٍ.
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يَعْنِي الْأَصْنَامَ، {
عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } يُرِيدُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ أَمْثَالُكُمْ. وَقِيلَ:
أَمْثَالُكُمْ فِي التَّسْخِيرِ، أَيْ: أَنَّهُمْ مُسَخَّرُونَ مُذَلَّلُونَ لِمَا
أُرِيدَ مِنْهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَوْلُهُ "عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ"
أَرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَالْخِطَابُ مَعَ قَوْمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ
الْمَلَائِكَةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
{ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أَنَّهَا
آلِهَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاعْبُدُوهُمْ، هَلْ يُثِيبُونَكُمْ أَوْ
يُجَاوِزُونَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ لَكُمْ عِنْدَهَا مَنْفَعَةً؟
ثُمَّ بَيَّنَ عَجْزَهُمْ فَقَالَ: { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا }
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) }
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى
الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
(198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) }
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا }
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ هُنَا وَفِي الْقَصَصِ وَالدُّخَانِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الطَّاءِ، { أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ
بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أَرَادَ أَنَّ قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِينَ
تَكُونُ بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْآلَاتِ، وَلَيْسَتْ لِلْأَصْنَامِ هَذِهِ
الْآلَاتُ، فَأَنْتُمْ مُفَضَّلُونَ عَلَيْهَا بِالْأَرْجُلِ الْمَاشِيَةِ
وَالْأَيْدِي الْبَاطِشَةِ وَالْأَعْيُنِ الْبَاصِرَةِ وَالْآذَانِ السَّامِعَةِ،
فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَنْ أَنْتُمْ أَفْضَلُ وَأَقْدَرُ مِنْهُمْ؟ { قُلِ ادْعُوا
شُرَكَاءَكُمْ } يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ، { ثُمَّ كِيدُونِ } أَنْتُمْ
وَهُمْ، { فَلَا تُنْظِرُونِ } أَيْ: لَا تُمْهِلُونِي وَاعْجَلُوا فِي كَيْدِي.
قَوْلُهُ: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ } يَعْنِي
الْقُرْآنَ، أَيْ أَنَّهُ يَتَوَلَّانِي وَيَنْصُرُنِي كَمَا أَيَّدَنِي
بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ، { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الَّذِينَ لَا يَعْدِلُونَ
بِاللَّهِ
شَيْئًا فَاللَّهُ يَتَوَلَّاهُمْ بِنَصْرِهِ فَلَا يَضُرُّهُمْ عَدَاوَةُ من
عاداهم 142/ب
{ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا } يَعْنِي الْأَصْنَامَ، {
وَتَرَاهُمْ } يَا مُحَمَّدُ { يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } يَعْنِي الْأَصْنَامَ، {
وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ النَّظَرِ حَقِيقَةَ
النَّظَرِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ: الْمُقَابَلَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِكَ، أَيْ: تُقَابِلُهَا. وَقِيلَ: وَتَرَاهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أَيْ: كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: "وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى"(الْحَجِّ 2)، أَيْ: كَأَنَّهُمْ
سُكَارَى هَذَا قَوْلُ [أَكْثَرِ] (1) الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
"وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى" يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ لَا
يَسْمَعُوا وَلَا يَعْقِلُوا ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ بِأَعْيُنِهِمْ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِقُلُوبِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { خُذِ الْعَفْوَ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:
أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَأْخُذَ
الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُذِ الْعَفْوَ يَعْنِي
الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّسٍ،
وَذَلِكَ مِثْلُ قَبُولِ الِاعْتِذَارِ وَالْعَفْوِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَتَرْكِ
الْبَحْثِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: "مَا هَذَا؟ قَالَ لَا أَدْرِي
حَتَّى أَسْأَلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ
مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ" (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالسُّدِّيُّ والضحاك والكلبي:
يعي خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَهُوَ الْفَضْلُ عَنِ الْعِيَالِ،
وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ"(الْبَقَرَةُ-219)، ثُمَّ نُسِخَتْ هَذِهِ بِالصَّدَقَاتِ
الْمَفْرُوضَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } أَيْ:
بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ يَعْنِي بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. { وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ } أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ.
وَقِيلَ: إِذَا تَسَفَّهَ عَلَيْكَ الْجَاهِلُ فَلَا تُقَابِلْهُ بِالسَّفَهِ،
وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا
سَلَامًا"(الْفُرْقَانُ-63)، وَذَلِكَ سَلَامُ الْمُتَارَكَةِ. قَالَ
جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
__________
(1) ساقط من ب".
(2) أخرجه الطبري من طريق سفيان بن عيينة عن أبي المرادي: 13 / 303، قال ابن حجر
في "الكافي الشاف" ص(66): "هذا منقطع، وأخرجه ابن مردويه موصولا من
حديث جابر وحديث قيس بن سعد، وزاد في أوله: لما نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حمزة قال: والله لأمثلن بسبعين منهم - فجاء جبريل بهذه
الآية، فذكر الحديث". وانظر: جامع الأصول لابن الأثير: 2 / 143-144 مع حاشية
المحقق.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ [الْجُرْجَانِيُّ] (1) ثَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، ثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ
كُلَيْبٍ، ثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي
بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ" (2) .
ثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الْوَاعِظُ ثَنَا عِمَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْحَافِظِ ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي الْكُوفِيَّ
ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَإِتْمَامِ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ" (3) .
{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ } أَيْ:
يُصِيبُكَ وَيَعْتَرِيكَ وَيَعْرِضُ لَكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ نَخْسَةٌ،
وَالنَّزْغُ مِنَ الشَّيْطَانِ الْوَسْوَسَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّزْغُ
أَدْنَى حَرَكَةٍ تَكُونُ مِنَ الْآدَمِيِّ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ أَدْنَى وَسْوَسَةٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
"خُذِ الْعَفْوَ"، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"كَيْفَ يَا رَبِّ وَالْغَضَبُ"؟ فَنَزَلَ: "وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ" (4) أَيِ:
اسْتَجِرْ بِاللَّهِ { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
مِنَ الشَّيْطَانِ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ:
"طَيْفٌ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "طَائِفٌ" بِالْمَدِّ
وَالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْمَيِّتِ وَالْمَائِتِ، وَمَعْنَاهُمَا:
الشَّيْءُ يُلِمُّ بِكَ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو:
الطَّائِفُ مَا يَطُوفُ حَوْلَ الشَّيْءِ والطيف: اللمة والسوسة، وَقِيلَ:
الطَّائِفُ مَا طَافَ بِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَالطَّيْفُ اللَّمَمُ
وَالْمَسُّ.
__________
(1) في "أ": "الجوزجاني".
(2) أخرجه الترمذي في البر، باب ما جاء في خُلُق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: 6 / 157-158، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضا في كتابه المفرد
"الشمائل المحمدية" ص(200) بشرح الباجوري. والإمام أحمد في المسند: 6 /
236، وإسناده صحيح، والمصنف في شرح السنة: 13 / 237.
(3) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشي، وهو ضعيف (انظر: مجمع
الزوائد: 8 / 188)، والبغوي في مصابيح السنة: 4 / 41، وهو في مشكاة المصابيح برقم
(7570)، وشرح السنة: 13 / 202.
(4) انظر: تفسير الطبري: 13 / 333.
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{
تَذَكَّرُوا } عَرَفُوا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَغْضَبُ
الْغَضْبَةَ فَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فَيَكْظِمُ الْغَيْظَ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: هُوَ الرَّجُلُ يَهِمُّ بِالذَّنْبِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُهُ. {
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } أَيْ يُبَصِرُونَ مَوَاقِعَ خَطَايَاهُمْ
بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ. قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا زَلُّوا تَابُوا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُتَّقِي إِذَا أَصَابَهُ نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرَ وَعَرَفَ أَنَّهُ معصية، فأبصر فنزغ عَنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ.
{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا
أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }
قَوْلُهُ: { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ } يَعْنِي إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَمُدُّونَهُمْ، أَيْ: يَمُدُّهُمُ الشَّيْطَانُ. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: لِكُلِّ كَافِرٍ أَخٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ. { فِي الْغَيِّ } أَيْ:
يَطْلُبُونَ هُمُ الْإِغْوَاءَ حَتَّى يَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ:
يَزِيدُونَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
"يُمِدُّونَهُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مِنَ
الْإِمْدَادِ، وَالْآخَرُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَهُمَا
لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. { ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } أَيْ: لَا يَكُفُّونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا الْإِنْسُ يُقْصِرُونَ عَمَّا
يَعْمَلُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلَا الشَّيَاطِينُ يُمْسِكُونَ عَنْهُمْ،
فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: "ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ" مِنْ فِعْلِ
الْمُشْرِكِينَ وَالشَّيَاطِينِ جَمِيعًا. قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي
الْمُشْرِكِينَ لَا يُقْصِرُونَ عَنِ الضَّلَالَةِ وَلَا يُبْصِرُونَهَا،
بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ: "تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ
مُبْصِرُونَ".
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } يَعْنِي: إِذَا لَمْ تَأْتِ الْمُشْرِكِينَ
بِآيَةٍ، { قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا } هَلَّا افْتَعَلْتَهَا
وَأَنْشَأْتَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ وَاخْتِيَارِكَ؟ تَقُولُ الْعَرَبُ: اجْتَبَيْتُ
الْكَلَامَ إِذَا اخْتَلَقْتُهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ
يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا
فَإِذَا تَأَخَّرَتِ اتَّهَمُوهُ وَقَالُوا: لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا؟ أَيْ: هَلَّا
أَحْدَثْتَهَا وَأَنْشَأْتَهَا مِنْ عِنْدِكَ؟ { قُلْ } لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ {
إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي } ثُمَّ قَالَ: { هَذَا }
يَعْنِي: الْقُرْآنَ { بَصَائِرُ } حُجَجٌ وَبَيَانٌ وَبُرْهَانٌ { مِنْ رَبِّكُمْ
} وَاحِدَتُهَا بَصِيرَةٌ، وَأَصْلُهَا ظُهُورُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْكَامُهُ حَتَّى
يُبْصِرَهُ الْإِنْسَانُ، فَيَهْتَدِي به يقول: هذا دَلَائِلُ تَقُودُكُمْ إِلَى
الْحَقِّ. { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ
الْآيَةِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ،
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كانوا يتكلمون 143/أ
فِي
الصَّلَاةِ بِحَوَائِجِهِمْ فَأُمِرُوا بِالسُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (1) . وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي تَرْكِ الْجَهْرِ
بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ (2) .
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَهُمْ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ (3) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فِي الصَّلَاةِ حِينَ
يَسْمَعُونَ ذِكْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ (4) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ نَاسًا يَقْرَأُونَ
مَعَ الْإِمَامِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَفْقَهُوا
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كَمَا أَمَرَكُمُ
اللَّهُ (5) ؟ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّ
الْآيَةَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ الْآيَةَ فِي
الْخُطْبَةِ، أُمِرُوا بِالْإِنْصَاتِ لِخُطْبَةِ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(6) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْأَضْحَى
وَالْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ (7) .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: [يَجِبُ] (8) الْإِنْصَاتُ لِقَوْلِ كُلِّ
وَاعِظٍ.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 13 / 345،349، (وفيه: إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف)،
وسنن البيهقي: 2 / 155، أسباب النزول للواحدي ص(264). وعزاه السيوطي في الدر: (3 /
636) لابن المنذر، وابن أبي حاكم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن أبي شيبة.
(2) جاء في ذلك آثار عديدة انظرها في: الدر المنثور 3 / 635، أسباب النزول للواحدي
ص(264).
(3) رواه الدارقطني في السنن: 1 / 326 وقال: فيه عبد الله بن عامر: ضعيف. وانظر:
نصب الراية للزيلعي: 2 / 14، إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام لأبي
الحسنات اللكنوي ص(77) طبع الهند.
(4) أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي.
(5) أخرجه الطبري: 13 / 346، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبي
الشيخ عن ابن مسعود، انظر: الدر المنثور: 13 / 635.
(6) انظر: الطبري: 13 / 352، الدر المنثور: 3 / 637، أسباب النزول ص(264). وقال
ابن عطية في "المحرر الوجيز" 6 / 196: "وأما قول من قال إنها نزلت
في الخطبة، فضعيف، لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة. وكذلك ما ذكره الزهراوي (؟) من أنها نزلت بسبب
فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ
في الصلاة. وانظر: القراءة خلف الإمام للبيهقي.
(7) أخرجه أبو الشيخ - كما في الدر المنثور، وانظر إمام الكلام للكنوي ص(81).
(8) ساقط من "ب".
وَالْأَوَّلُ
أَوْلَاهَا، وَهُوَ أَنَّهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْآيَةَ
مَكِّيَّةٌ وَالْجُمُعَةُ وَجَبَتْ بِالْمَدِينَةِ (1) . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ حَالَةَ مَا يَخْطُبُ الْإِمَامُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ ثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ثَنَا
الرَّبِيعُ ثَنَا الشَّافِعِيُّ ثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ
يَوْمَ الْجُمُعَةَ فَقَدْ لَغَوْتَ" (2) .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ:
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِيحَابِهَا سَوَاءٌ جَهَرَ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ
أَوْ أَسَرَّ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُعَاذٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيمَا أَسَرَّ الْإِمَامُ فِيهِ
بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَقْرَأُ إِذَا جَهَرَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ سَوَاءٌ أَسَرَّ الْإِمَامُ أَوْ
جَهَرَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ (3) وَيَتَمَسَّكُ مَنْ لَا يَرَى الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ
بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أُوجَبَهَا قَالَ الْآيَةُ فِي غَيْرِ
الْفَاتِحَةِ وَإِذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ يَتْبَعُ سَكَتَاتِ الْإِمَامِ وَلَا
يُنَازِعُ الْإِمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، ثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، ثَنَا أَبُو
عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا هَنَّادٌ، ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ
__________
(1) وهذا الذي رجحه شيخ المفسرين، الطبري رحمه الله حيث قال في التفسير: 13 /
352-353: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: أمروا باستماع القرآن
في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه، وفي الخطبة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال: "وإذا قرأ فأنصتوا" وإجماع الجميع على أن على من سمع
خطبة الجمعة ممن عليه الجمعة، الاستماع والإنصات لها، مع تتابع الأخبار بالأمر
بذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه لا وقت يجب على أحد
استماع القرآن والإنصات لسامعه، من قارئه، إلا من هاتين الحالتين، على اختلاف في
إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به وقد صح الخبر عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما ذكرنا من قوله: "إذا قرأ الإمام
فأنصتوا" فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان به مؤتما سامعا قراءته،
بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وانظر بحثا نفيسا في هذا لأبي الحسنات اللكنوي في كتابه "إمام الكلام فيما
يتعلق بالقراءة خلف لإمام" ص 75 وما بعدها، بتحقيقنا.
(2) أخرجه البخاري في الجمعة: باب الإنصات والإمام يخطب: 2 / 414، ومسلم في الكتاب
والباب نفسه برقم(851): 2 / 583، والمصنف في شرح السنة: 4 / 583.
(3) انظر هذه الآراء مع أدلتها في: التمهيد لابن عبد البر: 11 / 22-56، الاستذكار:
2 / 166-193، إمام الكلام للكنوي، فقد جمع فيه الأقوال مع الأدلة وناقشها بتجرد،
ورجح ما يساعد عليه الدليل.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا
انْصَرَفَ قَالَ: "إِنِّي أَرَاكُمْ تَقْرَأُونَ وَرَاءَ إِمَامِكُمْ"؟
قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِيِ وَاللَّهِ، قَالَ: "لَا تَفْعَلُوا
إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا"
(1) .
{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ
وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي بِالذِّكْرِ: الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، يُرِيدُ يَقْرَأُ سِرًّا فِي
نَفْسِهِ، { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } خَوْفًا، أَيْ: تَتَضَرَّعُ إِلَيَّ وَتَخَافُ
مِنِّي هَذَا فِي صَلَاةِ السِّرِّ. وَقَوْلُهُ: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ } أَرَادَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ لَا تَجْهَرْ جَهْرًا شَدِيدًا، بَلْ
فِي خَفْضٍ وَسُكُونٍ، يَسْمَعُ مَنْ خَلْفَكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ
جُرَيْجٍ: أَمَرَ أَنْ يَذْكُرُوهُ فِي الصُّدُورِ بِالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي
الدُّعَاءِ وَالِاسْتِكَانَةِ دُونَ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالصِّيَاحِ بِالدُّعَاءِ {
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } أَيْ: بِالْبُكَرِ
وَالْعَشِيَّاتِ، وَاحِدُ آصَالٍ: أَصِيلٌ مِثْلَ يَمِينٍ وَأَيْمَانٍ، وَهُوَ مَا
بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ.
{ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ
بِالْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ، { لَا يَسْتَكْبِرُونَ } لَا يَتَكَبَّرُونَ، { عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ } وَيُنَزِّهُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ، فَيَقُولُونَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ. { وَلَهُ يَسْجُدُونَ }
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ،
ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، ثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ
السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، فَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ
هَذَا بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ
فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ" (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته: 1 / 390، والترمذي في
الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام: 2 / 226-227، وقال: حديث عبادة حديث
حسن، والدارقطني: 1 / 318 وقال: إسناد حسن. وصححه الحاكم: 1 / 318، وابن حبان
ص(127) من موارد الظمآن، وأخرجه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، والبيهقي أيضا
في القراءة: وأخرجه المصنف في شرح السنة: 3 / 82.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة(81): 1 / 87
والمصنف في شرح السنة: 3 / 147.
مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ مَعْدَانَ قَالَ: سَأَلْتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْتُ: حَدَّثَنِي حَدِيثًا
يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً
إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً" (1)
.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الإقامة باب ما جاء في كثرة السجود، برقم(1423): 1 / 457،
والإمام أحمد في المسند: 5 / 276، 280. وأخرجه مسلم في الصلاة، باب فضل السجود
والحث عليه برقم(488) بلفظ: "عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة
إلا رفعك..".
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
سُورَةُ
الْأَنْفَالِ
مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً قِيلَ : إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ
قَوْلِهِ : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» إِلَى آخِرِ سَبْعِ آيَاتٍ
فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ،
وَإِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ بِمَكَّةَ .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) }
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ } الْآيَةَ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: سَبَبُ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنْ أَتَى مَكَانَ كَذَا فَلَهُ مِنَ النَّفْلِ كَذَا
وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا"،
فَلَمَّا الْتَقَوْا تَسَارَعَ إِلَيْهِ الشُّبَّانُ وَأَقَامَ الشُّيُوخُ وَوُجُوهُ
النَّاسِ عِنْدَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
جَاءُوا يَطْلُبُونَ مَا جَعَلَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْأَشْيَاخُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ
لَانْحَزْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْغَنَائِمِ دُونَنَا، وَقَامَ
أَبُو الْيَسَرِ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ وَعَدْتَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ
أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَإِنَّا قَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ
وَأَسَرْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَنَعَنَا أَنْ نَطْلُبَ مَا
طَلَبَ هَؤُلَاءِ زَهَادَةً فِي الأجر ولا جبن عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنْ
كَرِهْنَا أَنْ نُعَرِّيَ مَصَافَّكَ [فَيَعْطِفُ عَلَيْهِ] (1) خَيْلٌ من
المشركين 143/ب فَيُصِيبُوكَ، فَأَعْرَضَ
__________
(1) في "ب": (فتعطف علينا).
عَنْهُمَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سَعِيدٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ وَالْغَنِيمَةَ دُونَ ذَلِكَ، فَإِنْ تُعْطَ
هَؤُلَاءِ [الَّذِينَ] (1) ذَكَرْتَ لَا يَبْقَى لِأَصْحَابِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ،
فَنَزَلَتْ: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ" (2) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَا فِي الْعَسْكَرِ فَجُمِعَ فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ،
فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ: هُوَ لَنَا، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ، وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا
يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ: لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، وَقَالَ الَّذِينَ
كَانُوا يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ
رَأَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ الْعَدُوَّ وَأَنْ نَأْخُذَ الْمَتَاعَ وَلَكِنَّا
خِفْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَّةَ
الْعَدُوِّ، وَقُمْنَا دُونَهُ فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا (3) .
وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ
بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ، قَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ
نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا،
فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَنَا عَنْ بَوَاءٍ -يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ -وَكَانَ فِي ذَلِكَ
تَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ (4) .
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ،
وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَثِيفَةِ، فَأَعْجَبَنِي فَجِئْتُ
بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا
السَّيْفِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لِي وَلَا لَكَ، اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي
الْقَبَضِ، فَطَرَحْتُهُ وَرَجَعْتُ، وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ
مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سِلَاحِي، وَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا
السَّيْفَ مَنْ لَمْ يُبْلِ بَلَائِي فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى
جَاءَنِي الرَّسُولُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفَالِ"، الْآيَةَ. فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ فِيَّ
شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "يَا سَعْدُ إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَلَيْسَ لِي، وَإِنَّهُ
قَدْ صَارَ لِي الْآنَ فَاذْهَبْ فَخُذْهُ فَهُوَ لَكَ" (5) .
__________
(1) في "ب": (الذي).
(2) جاء هذا السبب في نزول الآية، في جملة أحاديث جمع بينها المصنف، رحمه الله،
وهي عند الطبري من طرق، بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: تفسير
الطبري: 13 / 367-369، المستدرك: 2 / 326-327، السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 315.
وانظر: الدر المنثور: 4 / 6، تفسير ابن كثير: 2 / 283-284.
(3) سيرة ابن هشام: 1 / 641-642 (طبع الحلبي).
(4) انظر: تفسير الطبري: 13 / 370-371، والمستدرك: 2 / 326، والبيهقي: 6 / 292،
المسند للإمام أحمد: 5 / 322، سيرة ابن هشام: 1 / 642. وقال الهيثمي بعدما عزاه
للإمام أحمد: "ورجال الطريقين ثقات". وانظر تعليق الشيخ محمود شاكر على
تفسير الطبري في الموضع السابق، وابن كثير: 2 / 284.
(5) الطبري: 13 / 373 من طرق عدة، وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وأبو عبيد في
الأموال، وصححه الحاكم: 2 / 132 ووافقه الذهبي. انظر: تعليق محمود شاكر على
الطبري. والقَبَضُ،: - بالتحريك - بمعنى المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن
تُقْسم.
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَتِ الْمَغَانِمُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ، وَمَا أَصَابَ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ
مِنْ شَيْءٍ أَتَوْهُ بِهِ فَمَنْ حَبَسَ مِنْهُ إِبْرَةً أَوْ سِلْكًا فَهُوَ
غُلُولٌ (1) .
قَوْلُهُ: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ } أَيْ: عَنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ
وَعِلْمِهَا، وَهُوَ سُؤَالُ اسْتِخْبَارٍ لَا سُؤَالُ طَلَبٍ، وَقِيلَ: هُوَ
سُؤَالُ طَلَبٍ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ. وَقَوْلُهُ: { عَنِ
الْأَنْفَالِ } أَيْ: مِنَ الْأَنْفَالِ، عَنْ بِمَعْنَى مِنْ. وَقِيلَ: عَنْ
صِلَةٌ أَيْ: يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ، وَهَكَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ
بِحَذْفِ عَنْ. وَالْأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ، وَاحِدُهَا: نَفَلٌ، وَأَصْلُهُ
الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: نَفَلْتُكَ وَأَنْفَلْتُكَ، أَيْ: زِدْتُكَ، سُمِّيَتِ
الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ
الْأُمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي غَنَائِمَ بَدْرٍ. وَقَالَ
عَطَاءٌ: هِيَ مَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ
قِتَالٍ، مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ وَمَتَاعٍ فَهُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } [يَقْسِمُهَا
كَمَا شَاءَ] (2) وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ
وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
"وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ" الْآيَةَ. كَانَتِ الْغَنَائِمُ يَوْمَئِذٍ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخُمُسِ
(3) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ ثَابِتَةٌ غَيْرُ
مَنْسُوخَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ مَعَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَلِلرَّسُولِ يَضَعُهَا حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ:
الْحُكْمُ فِيهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَصَارِفَهَا فِي
قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" الْآيَةَ (4) .
__________
(1) الطبري: 13 / 378، والبيهقي: 6 / 293 مطولا، وعزاه السيوطي أيضا لابن المنذر،
وابن أبي حاتم، وابن مردويه: الدر المنثور: 4 / 8. وإسناده منقطع لأن علي بن أبي
طلحة لم يسمع تفسير من ابن عباس.
(2) في "ب": (يقسمانها كما شاءا).
(3) انظر: الناسخ والمنسوخ، لأبي القاسم هبة بن سلامة، ص(48-49)، وهو مروي عن
مجاهد وعكرمة. انظر: الطبري: 13 / 380-381.
(4) أخرجه الطبري: 13 / 381، ورجح أنها محكمة غير منسوخة فقال: "والصواب من
القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينفّل من شاء، فنفّل القاتل السَّلَبَ وجعل للجيش في البدأة
(ابتداء سفر الغزو) الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. ونفّل قوما بعد سهمانهم
بعيرا بعيرا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين، وعلى من بعده
من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك. وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ،
لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن
أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا أن لا منسوخ
إلا ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه، ينفيه من كل معانيه، أو يأتي خبر يوجب الحجة أن
أحدهما ناسخ للآخر".
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أَيْ: اتَّقُوا اللَّهَ
بِطَاعَتِهِ وَأَصْلِحُوا الْحَالَ بَيْنَكُمْ بِتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ
وَالْمُخَالَفَةِ، وَتَسْلِيمِ أَمْرِ الْغَنِيمَةِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } يَقُولُ لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِفُ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، {
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } خَافَتْ وَفَرِقَتْ
قُلُوبُهُمْ، وَقِيلَ: إِذَا خُوِّفُوا بِاللَّهِ انْقَادُوا خَوْفًا مِنْ
عِقَابِهِ. { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } تَصْدِيقًا
وَيَقِينًا. وَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ: إِنَّ
لِلْإِيمَانِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا، قِيلَ: فَمَا زِيَادَتُهُ؟ قَالَ: إِذَا
ذَكَرْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحَمِدْنَاهُ فَذَلِكَ زِيَادَتُهُ، وَإِذَا
سَهَوْنَا وَغَفَلْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِطَ
وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ
وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ. { وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ } أَيْ: يُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ وَيَثِقُونَ بِهِ وَلَا
يَرْجُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَخَافُونَ سِوَاهُ.
{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } يَعْنِي يَقِينًا: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بَرِئُوا مِنَ الْكُفْرِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَقًّا لَا شَكَّ فِي
إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصِفَ
نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا حَقًّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَ
بِذَلِكَ قَوْمًا مَخْصُوصِينَ عَلَى أَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا
يَتَحَقَّقُ وُجُودُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ: أَمُؤْمِنٌ
أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ
تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" الْآيَةَ، فَلَا أَدْرِي أَمِنْهُمْ أَنَا أَمْ
لَا؟
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: كُنَّا فِي سَفَرٍ فَلَقِينَا قَوْمًا فَقُلْنَا: مَنِ
الْقَوْمُ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نُجِيبُهُمْ
حَتَّى لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا قَالُوا،
قَالَ: فَمَا رَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ قُلْنَا: لَمْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
شَيْئًا،
قَالَ أَفَلَا قُلْتُمْ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْتُمْ؟ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ
أَهْلُ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ حَقًّا أَوْ عِنْدَ
اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يَشْهَدْ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَدْ آمَنَ بِنِصْفِ
الْآيَةِ دُونَ النِّصْفِ.
{ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي دَرَجَاتِ
الْجَنَّةِ يَرْتَقُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حَضَرُ الفرس المئُضَمَّر سبعين
144/أ سَنَةً (1) . { وَمَغْفِرَةٌ } لِذُنُوبِهِمْ { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } حَسَنٌ
يَعْنِي مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ
ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ }
اخْتَلَفُوا فِي الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْكَافِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ { كَمَا
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقْدِيرُهُ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَإِنْ كَرِهُوا، كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِنْ كَرِهُوا. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ امْضِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي
الْأَنْفَالِ وَإِنْ كَرِهُوا كَمَا مَضَيْتَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْخُرُوجِ
مِنَ الْبَيْتِ لِطَلَبِ الْعِيرِ وَهُمْ كَارِهُونَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ، كَمَا أَنَّ إِخْرَاجَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ بِالْحَقِّ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ كَرِهَهُ
فَرِيقٌ مِنْكُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ
عَلَى كُرْهِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ وَيُجَادِلُونَ
فِيهِ.
وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: "لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ"، تَقْدِيرُهُ: وَعْدُ [اللَّهِ] (2) الدَّرَجَاتِ لَهُمْ حَقٌّ
يُنْجِزُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ، فَأَنْجَزَ الْوَعْدَ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ.
__________
(1) تفسير الطبري: 13 / 390.
(2) ساقط من "ا".
وَقِيلَ:
الْكَافُ بِمَعْنَى عَلَى، تَقْدِيرُهُ: امْضِ عَلَى الَّذِي أَخْرَجَكَ رَبُّكَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ بِمَعْنَى الْقَسَمِ مَجَازًا، وَالَّذِي
أَخْرَجَكَ، لِأَنَّ "مَا" فِي مَوْضِعِ الَّذِي، وَجَوَابُهُ
"يُجَادِلُونَكَ"، وَعَلَيْهِ يَقَعُ الْقَسَمُ، تَقْدِيرُهُ:
يُجَادِلُونَكَ وَاللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
وَقِيلَ: الْكَافُ بِمَعْنَى "إِذْ" تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ.
قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْإِخْرَاجِ هُوَ إِخْرَاجُهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى
الْمَدِينَةِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِخْرَاجُهُ مِنَ
الْمَدِينَةِ إِلَى بَدْرٍ، أَيْ: كَمَا أَمَرَكَ رَبُّكَ بِالْخُرُوجِ مِنْ
بَيْتِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالْحَقِّ قِيلَ: بِالْوَحْيِ لِطَلَبِ
الْمُشْرِكِينَ { وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } مِنْهُمْ، {
لَكَارِهُونَ }
{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } أَيْ: فِي الْقِتَالِ، { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ }
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْقِتَالِ كَرِهُوا ذَلِكَ،
وَقَالُوا: لَمْ تُعْلِمْنَا أَنَّا نَلْقَى الْعَدُوَّ فَنَسْتَعِدَّ
لِقِتَالِهِمْ، وَإِنَّمَا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ، فذلك جدالهم بعدما تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّكَ لَا تَصْنَعُ إِلَّا مَا أَمَرَكَ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُكَ فِي
الْوَعْدِ، { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمُ
الْقِتَالَ ، { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ:
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى
الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ جَادَلُوهُ فِي الْحَقِّ كَأَنَّمَا
يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ
لِكَرَاهِيَتِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ وَالسُّدِّيُّ (1) أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ
لِقُرَيْشٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ: عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَفِيهَا تِجَارَةٌ
كَثِيرَةٌ، وَهِيَ اللَّطِيمَةُ (2) حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ،
فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَنَدَبَ
أَصْحَابَهُ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُمْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ،
وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا
لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنْفِلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ النَّاسَ فَخَفَّ
بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا.
فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى
مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ وَيُخْبِرَهُمْ
أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لِعِيرِهِمْ فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمٌ
سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ.
__________
(1) الطبري: 13 / 399 وابن إسحاق في السيرة: 1 / 607 (طبع الجلبي) وعزاه السيوطي
أيضا لابن المنذر. انظر: الدر المنثور: 4 / 26.
(2) اللطيمة: العير التي تحمل الطيب وبز التجارة.
وَقَدْ
رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ مَكَّةَ
بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ
اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْزَعَتْنِي وَخَشِيتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ
مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ مَا أُحَدِّثُكَ. قَالَ لَهَا:
وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى
وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَلَا انْفِرُوا يَا آلَ
غُدُرَ (1) لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَأَرَى النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا
إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ فَبَيْنَمَا هُمْ
حَوْلَهُ مَثُلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ صَرَخَ
بِمِثْلِهَا بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَلَا انْفِرُوا يَا آلَ غُدُرَ لِمَصَارِعِكُمْ
فِي ثَلَاثٍ، ثُمَّ مَثُلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَصَرَخَ
بِمِثْلِهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتَّى
إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ
مَكَّةَ وَلَا دَارٌ مِنْ دُورِهَا إِلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فِلْقَةٌ (2) .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا رَأَيْتِ! فَاكْتُمِيهَا
وَلَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدٍ.
ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ
إِيَّاهَا، فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةَ فَفَشَا الْحَدِيثُ حَتَّى
تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ أَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ
فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا
رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ
فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ
مَعَهُمْ، فَقَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَتَى
حَدَّثَتْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ؟
قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟
قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَتَنَبَّأَ
رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ؟ قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي
رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ
الثَّلَاثَ، فَإِنْ يَكُ مَا قَالَتْ حَقًّا فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ
الثَّلَاثُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نَكْتُبُ عَلَيْكُمْ كِتَابًا
أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ كَبِيرٌ إِلَّا أَنِّي
جَحَدْتُ ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا، ثُمَّ
__________
(1) آل: مضاف إلى غُدُرٍ، معدول به من "الغادر" للمبالغة.
(2) الفلقة - بالكسر - الكِسْرة.
تَفَرَّقْنَا
فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا
أَتَتْنِي فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي
رِجَالِكُمْ ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ
تَكُنْ عِنْدَكَ غَيْرَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَ؟
قَالَ: قَلْتُ وَاللَّهِ قَدْ فَعَلْتُ مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَثِيرٍ،
وَأَيْمُ اللَّهِ لَأَتَعَرَّضَنَّ لَهُ فَإِنْ عَادَ لَأَكْفِيَنَّكَهُ.
قَالَ: فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَأَنَا
حَدِيدٌ مُغْضَبٌ أَرَى أَنْ قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ
مِنْهُ، قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَمْشِي
نَحْوَهُ أَتَعَرَّضُهُ لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ، وَكَانَ
رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، حَدِيدَ النَّظَرِ،
إِذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ.
قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ أَكُلَّ هذا فرقا 144/ب
مِنِّي أَنْ أُشَاتِمَهُ؟ قَالَ: فَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ،
صَوْتَ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى
بَعِيرِهِ، وَقَدْ جَدَعَ بِعِيرَهُ (1) وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ
وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ أَمْوَالُكُمْ
مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى
أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ. قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ
عَنِّي مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا فَلَمْ
يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ أَحَدٌ إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ
تَخَلَّفَ وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِلْمَسِيرِ ذَكَرَتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ
بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ الْحَارِثِ، فَقَالُوا:
نَخْشَى أَنْ يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يُثْنِيَهُمْ،
فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ
وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَنَا جَارٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ
تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ.
فَخَرَجُوا سِرَاعًا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي أَصْحَابِهِ، فِي لَيَالٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ
وَادِيًا يُقَالُ لَهُ ذَفِرَانَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ مَسِيرِ قُرَيْشٍ
لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ أَخَذَ عَيْنًا لِلْقَوْمِ
فَأَخْبَرَهُ بِهِمْ.
وَبَعْثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا عَيْنًا لَهُ
مِنْ جُهَيْنَةَ حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ يُدْعَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ
فَأَتَاهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَسَبَقَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرَ وَإِمَّا قُرَيْشًا، وَكَانَتِ الْعِيرُ
أَحَبَّ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِ الْعِيرِ وَحَرْبِ النَّفِيرِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ
فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ
الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ
__________
(1) أي: قطع أنف بعيره.
لِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ فَوَاللَّهِ مَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ
بَنُو إسرائيل لموسى: اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا
مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى
بَرْكِ الْغَمَادِ يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ، لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ
دُونَهُ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشِيرُوا
عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ" وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بَرَاءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا،
فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَامِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ
مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا
نُصْرَتَهُ إِلَّا عَلَى مَنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ
لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: أَجَلْ.
قَالَ: قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَنَا بِهِ
هُوَ الْحَقُّ أَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ [عُهُودًا وَمَوَاثِيقَ] (1) عَلَى
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَوَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ
لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ
تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي
اللِّقَاءِ وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ،
فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:
"سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لِكَأَنِيٍّ الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ
الْقَوْمِ".
قَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ"، قَالَ
وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، قَالَ فَمَا مَاطَ أَحَدٌ
عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ } أَيْ: الْفَرِيقَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَبُو سُفْيَانَ مَعَ
الْعِيرِ وَالْأُخْرَى أَبُو جَهْلٍ مَعَ النَّفِيرِ.
{ وَتَوَدُّونَ } أَيْ: تُرِيدُونَ { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ
لَكُمْ } يَعْنِي الْعِيرَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قِتَالٌ. وَالشَّوْكَةُ:
الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ. وَيُقَالُ السِّلَاحُ.
__________
(1) في "ب": (عهودنا ومواثيقنا).
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{
وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ } أَيْ يُظْهِرَهُ وَيُعْلِيهِ، {
بِكَلِمَاتِهِ } بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْقِتَالِ. وَقِيلَ [بِعِدَاتِهِ] (1)
الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ إِظْهَارِ الدِّينِ وَإِعْزَازِهِ، { وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ } أَيْ: يَسْتَأْصِلَهُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ،
يَعْنِي: كُفَّارَ الْعَرَبِ.
{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) }
__________
(1) في "أ": (بعداوته).
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
{
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) }
{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ } لِيُثَبِّتَ الْإِسْلَامَ، { وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ }
أَيْ: يُفْنِي الْكُفْرَ { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } الْمُشْرِكُونَ.
وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } تَسْتَجِيرُونَ بِهِ مِنْ
عَدُوِّكُمْ وَتَطْلُبُونَ مِنْهُ الْغَوْثَ وَالنَّصْرَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا
كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا دَخَلَ الْعَرِيشَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَمَدَّ يَدَهُ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ
تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي
الْأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَادًّا يَدَيْهِ حَتَّى
سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ
عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله
كفاك منا شدتك رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ" (1) {
فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ } مُرْسِلٌ إِلَيْكُمْ مَدَدًا وَرِدْءًا
لَكُمْ، { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَيَعْقُوبُ "مُرْدَفِينَ" بِفَتْحِ الدَّالِّ، أَيْ: أَرْدَفَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ وَجَاءَ بِهِمْ مَدَدًا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ،
أَيْ: مُتَتَابِعِينَ بَعْضُهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، يُقَالُ: أَرْدَفْتُهُ
وَرَدِفْتُهُ بِمَعْنَى تَبِعْتُهُ.
يُرْوَى أَنَّهُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ وَمِيكَائِيلُ فِي
خَمْسِمِائَةٍ فِي [صُورَةِ] (2) الرِّجَالِ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ عَلَيْهِمْ
ثِيَابٌ بِيضٌ وَعَلَى رُءُوسِهِمْ عَمَائِمُ بِيضٌ، قَدْ أَرْخَوْا أَطْرَافَهَا
بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ (3) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَاشَدَ
رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا
وَعَدَكَ فَخَفَقَ رَسُولُ
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763): 3 /
1383-1385، والمصنف في شرح السنة: 13 / 379.
(2) في "ب": (صفة).
(3) أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس: انظر: الدر المنثور: 4
/ 27.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَفْقَةً وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ ثُمَّ
انْتَبَهَ، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا
جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ" (1)
.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، ثَنَا خَالِدٌ، عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ
عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ" (2) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتْ سِيمَا
الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ
خُضْرٍ، وَلَمْ تقاتل الملائكة 145/أ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ مِنَ
الْأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ عَدَدًا وَمَدَدًا (3) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّهُ
قَالَ بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْيَوْمَ بِبَدْرٍ
وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ
(4) .
{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ } يَعْنِي: الْإِمْدَادَ
بِالْمَلَائِكَةِ، { إِلَّا بُشْرَى } أَيْ: بِشَارَةً { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو:
"يَغْشَاكُمْ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، "النُّعَاسُ" رَفْعٌ عَلَى
أَنَّ الْفِعْلَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
"أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ"(آلُ عِمْرَانَ-154)
__________
(1) قطعة من الحديث السابق.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب شهود الملائكة بدرا: 7 / 312.
(3) رواه الطبراني موقوفا على ابن عباس. وفيه عمار بن أبي مالك الجنبي، ضعّفه
الأزدي. انظر: مجمع الزوائد: 6 / 83.
(4) عزاه السيوطي لابن مردويه والبيهقي في الدلائل، الدر المنثور: 4 / 34.
وَقَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ: "يُغْشِيكُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ
مُخَفَّفًا، "النُّعَاسَ" نَصْبٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ
الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مُشَدَّدًا، "النُّعَاسَ" نَصْبٌ، عَلَى
أَنَّ الْفِعْلَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَغَشَّاهَا
مَا غَشَّى"(النَّجْمُ-54)، وَالنُّعَاسُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ. { أَمَنَةً
} أَمْنًا { مِنْهُ } مَصْدَرُ أَمِنْتُ أَمْنًا وَأَمَنَةً وَأَمَانًا. قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ
أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَفِي الصَّلَاةِ وَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ.
{ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } وَذَلِكَ
أَنَّ الْمُسْلِمِينَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ، تَسُوخُ
فِيهِ الْأَقْدَامُ وَحَوَافِرُ الدَّوَابِّ، وَسَبَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى
مَاءِ بَدْرٍ وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مُحْدِثِينِ وَبَعْضُهُمْ
مُجْنِبِينَ، وَأَصَابَهُمُ الظَّمَأُ، وَوَسْوَسَ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ،
وَقَالَ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَفِيكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ
وَأَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ
وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُحْدِثِينَ وَمُجْنِبِينَ، فَكَيْفَ تَرْجُونَ أَنْ
تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ مَطَرًا
سَالَ مِنْهُ الْوَادِي فَشَرِبَ الْمُؤْمِنُونَ وَاغْتَسَلُوا، وَتَوَضَّأُوا
وسقوا الركاب، +وملأوا الْأَسْقِيَةَ، وَأُطْفِأَ الْغُبَارُ، وَلَبَّدَ الْأَرْضَ
حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَامُ، وَزَالَتْ عَنْهُمْ وَسْوَسَةُ
الشَّيْطَانِ، وَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" مِنَ الْأَحْدَاثِ
وَالْجَنَابَةِ.
{ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } وَسْوَسَتَهُ، { وَلِيَرْبِطَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ } بِالْيَقِينِ وَالصَّبْرِ { وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } حَتَّى
لَا تَسُوخَ فِي الرَّمْلِ بِتَلْبِيدِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: يُثَبِّتُ بِهِ
الْأَقْدَامَ بِالصَّبْرِ وَقُوَّةِ الْقَلْبِ.
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ } الَّذِينَ أَمَدَّ بِهِمُ
الْمُؤْمِنِينَ، { أَنِّي مَعَكُمْ } بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ، { فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا } أَيْ: قَوُّوا قُلُوبَهُمْ. قِيلَ: ذَلِكَ التَّثْبِيتُ
حُضُورُهُمْ مَعَهُمُ الْقِتَالَ وَمَعُونَتُهُمْ، أَيْ: ثَبِّتُوهُمْ
بِقِتَالِكُمْ مَعَهُمُ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ: بَشِّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَمْشِي
أَمَامَ الصَّفِّ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ وَيَقُولُ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
نَاصِرُكُمْ. { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } قَالَ
عَطَاءٌ: يُرِيدُ الْخَوْفَ مِنْ أَوْلِيَائِي، { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ
} قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ
الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ "فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا"، وَقَوْلُهُ: "فَوْقَ الْأَعْنَاقِ" قَالَ عِكْرِمَةُ:
يَعْنِي الرُّءُوسَ لِأَنَّهَا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ
فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ، وَفَوْقَ صِلَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: "فَإِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ"،(مُحَمَّدٌ-4)، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ فَاضْرِبُوا عَلَى الْأَعْنَاقِ. فَوْقَ بِمَعْنَى: عَلَى.
{
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قَالَ عَطِيَّةُ: يَعْنِي كُلَّ مُفَصَّلٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْأَطْرَافَ.
وَالْبَنَانُ جُمَعُ بَنَانَةٍ، وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ
تَعْلَمُ كَيْفَ يُقْتَلُ الْآدَمِيُّونَ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
الْجُلُودِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، ثَنَا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ، ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ يُونُسَ
الْحَنَفِيُّ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ
سَمَّاكُ الْحَنَفِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا
رَجُلٌ مِنَ المسلمين يومئذ يشتد فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
أَمَامَهُ، إِذَا سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتُ الْفَارِسِ
يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ
مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ حُطِّمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ
وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ
الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَلِكَ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ".
فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينِ (1) وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي (2) .
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَاللَّهِ،
لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى
الْمُشْرِكِ، فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ
السَّيْفُ (3) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ،
وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ وَأَسْلَمْتُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ
وَيَكْرَهُ خِلَافَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ
مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَدُوُّ اللَّهِ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ
بَدْرٍ وَبَعْثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا
جَاءَهُ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ،
وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا وَكُنْتُ
أَعْمَلُ الْقِدَاحَ وَأَنْحِتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي
لِجَالِسٌ أَنْحِتُ الْقِدَاحَ، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، إِذْ
أَقْبَلَ الْفَاسِقُ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ
(4) الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالَسٌ إِذْ
قَالَ النَّاسُ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
قَدْ قَدِمَ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: إِلَيَّ يَا ابْنَ أَخِي فَعِنْدَكَ
الْخَبَرُ، فَجَلَسَ
__________
(1) قطعة من حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم. آنفا. و"حيزوم": اسم فرس
جبريل.
(2) أخرجه عبد بن حميد وابن مردويه. انظر : الدر المنثور: 4 / 35 - 36.
(3) عزاه السيوطي لأبي الشيخ وابن مردويه 4 / 33.
(4) الطنب: حَبْل الخِباء، والجمع: أطناب.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
إِلَيْهِ
وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ
أَمْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ وَاللَّهِ إِنْ كَانَ إِلَّا أَنْ
لَقِينَاهُمْ فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا يَقْتُلُونَنَا وَيَأْسِرُونَنَا
كَيْفَ شَاءُوا وَأَيْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا
رِجَالًا بَيْضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا
وَاللَّهِ مَا تَلِيقُ شَيْئًا وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ
فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاللَّهِ
الْمَلَائِكَةُ، قَالَ فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَةً
شَدِيدَةً، فَثَاوَرْتُهُ، فَاحْتَمَلَنِي فَضَرَبَ بِي الْأَرْضَ، ثُمَّ بَرَكَ
عَلَيَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى
عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ به ضربة 145/ب
فَلَقَتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: تَسْتَضْعِفُهُ أَنْ غَابَ
عَنْهُ سَيِّدُهُ؟ فَقَامَ مُوَلِّيًا ذَلِيلًا فَوَاللَّهِ مَا عَاشَ إِلَّا
سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ" (1) .
وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسَ
أَبُو الْيُسْرِ، كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَكَانَ أَبُو
الْيُسْرِ رَجُلًا مَجْمُوعًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلًا جَسِيمًا، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي الْيُسْرِ، كَيْفَ
أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ
رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ
أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ" (2) .
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) }
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ } خَالَفُوا اللَّهَ، { وَرَسُولَهُ وَمَنْ
يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
{ ذَلِكُمْ } أَيْ: هَذَا الْعَذَابُ وَالضَّرْبُ الَّذِي عَجَّلْتُهُ لَكُمْ
أَيُّهَا الْكَفَّارُ بِبَدْرٍ، { فَذُوقُوهُ } عَاجِلًا { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ
} أَيْ: وَاعْلَمُوا وَأَيْقِنُوا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ أَجَلًا فِي الْمَعَادِ، {
عَذَابَ النَّارِ }
__________
(1) رواه الطبراني والبزار، وفي إسناده حسن بن عبد الله، وثقه أبو حاتم وغيره،
وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات. (مجمع الزوائد: 6 / 89).
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 1 / 353 وقال الهيثمي في المجمع: 6 / 86
"رواه أحمد وفيه راوٍ لم يسمَّ، وبقية رجاله ثقات".
رَوَى
عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ
دُونَهَا شَيْءٌ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وَثَاقِهِ: لَا
يَصْلُحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَهْ؟
قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ
أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أَيْ مُجْتَمِعِينَ مُتَزَاحِمِينِ بَعْضُكُمْ إِلَى
بَعْضٍ، وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي فِي الْقِتَالِ: وَالزَّحْفُ مُصْدَرٌ؛
لِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، كَقَوْلِهِمْ: قَوْمٌ عَدْلٌ وَرِضَا. قَالَ: اللَّيْثُ:
الزَّحْفُ جَمَاعَةٌ يزحفون إلى عدولهم بِمَرَّةٍ، فَهُمُ الزَّحْفُ وَالْجَمْعُ:
الزُّحُوفُ. { فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ } يَقُولُ : فَلَا تُوَلُّوهُمْ
ظُهُورَكُمْ، أَيْ تَنْهَزِمُوا فَإِنَّ الْمُنْهَزِمَ يُوَلِّي دُبُرَهُ.
{ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } ظَهْرَهُ ، { إِلَّا مُتَحَرِّفًا
لِقِتَالٍ } أَيْ مُنْعَطِفًا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الِانْهِزَامَ، وَقَصْدُهُ
طَلَبُ الْغِرَّةِ وَهُوَ يُرِيدُ الْكَرَّةَ، { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ }
أَيْ : مُنْضَمًّا صَائِرًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يُرِيدُ] (2)
الْعَوْدَ إِلَى الْقِتَالِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الِانْهِزَامِ
مِنَ الْكُفَّارِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُمْ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ التَّحَرُّفِ
لِلْقِتَالِ وَالِانْضِمَامِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينَ
بِهِمْ وَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ، فَمَنْ وَلَّى ظَهْرَهُ لَا عَلَى هَذِهِ
النِّيَّةِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هَذَا فِي أَهْلِ بَدْرٍ
خَاصَّةً، مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمُ الِانْهِزَامُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ
يَتَحَيَّزُونَ إِلَيْهَا دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَوِ انْحَازُوا لَانْحَازُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ (3) فَيَكُونُ الْفَارُّ
مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ كَبِيرَةً، وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ.
قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ (4) أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ لِمَنْ فَرَّ
يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ:
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الأنفال: 8 / 471 - 472 وقال: هذا حديث حسن،
والإمام أحمد في المسند: 1 / 314. وعزاه السيوطي: للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد
بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ
وابن مردويه. (الدر المنثور: 4 / 28).
(2) في "أ": (يريدون).
(3) أخرجه الطبري في التفسير: 13 / 437، ورواه مختصرا أبو داود في الجهاد، باب
التولي يوم الزحف: 3 / 439، والحاكم: 2 / 327، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه. وعزاه السيوطي: لعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس
في الناسخ والمنسوخ، وأبي الشيخ وابن مردويه، (الدر المنثور: 4 / 36).
(4) أخرجه الطبري: 13 / 438.
"إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ"(آلُ عِمْرَانَ -155) ، ثُمَّ كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ بَعْدَهُ فَقَالَ:
"ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ"(التَّوْبَةِ 0 25) "ثُمَّ يَتُوبُ
اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ"(التَّوْبَةُ -27).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنَّا فِي جَيْشٍ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَانْهَزَمْنَا،
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ [الْفَرَّارُونَ] (1) قَالَ: "بَلْ
أَنْتُمُ الْكَرَّارُونَ، أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ" (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ جَاءَ الْخَبَرُ
إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ كُنْتُ لَهُ فِئَةً فَأَنَا فِئَةُ
كُلِّ مُسْلِمٍ (3) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حُكْمُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ وَلَّى
مُنْهَزِمًا. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مِنَ الْكَبَائِرِ الْفِرَارُ مِنَ
الزَّحْفِ" (4) .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ"(الْأَنْفَالُ -66)
فَلَيْسَ لِقَوْمٍ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ [مِثْلِهِمْ] (5) فَنُسِخَتْ تِلْكَ إِلَّا
فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ (6) وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانُوا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَا يَجُوزُ
لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا أَوْ يُوَلُّوا ظُهُورَهُمْ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقَتَّالٍ
أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ
أَنْ يُوَلُّوا ظُهُورَهُمْ وَيَنْحَازُوا عَنْهُمْ (7) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:"مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَ، وَمِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ
فَرَّ" (8) .
__________
(1) في "أ" (الفارُّون).
(2) أخرجه الترمذي في الجهاد، باب ما جاء في الفرار من الزحف: 5 / 378 وقال: هذا
حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد، وأبو داود في الجهاد، باب
التولي يوم الزحف: 3 / 438، وسعيد بن منصور في السنن: 2 / 209 - 210، والشافعي في
المسند: 2 / 116، والحميدي في المسند: 2 / 302، ومعنى حاصوا حيصة أي: جالوا جولة
يغلبون الفرار.
(3) أخرجه الطبري في التفسير: 13 / 439 ، 440، وفيه: أن عمر لما بلغه قتل أبي عبيد
قال: . . .
(4) عزاه السيوطي لابن أبي شيبة (الدر المنثور: 4 / 38)، وقد ورد في أحاديث كثيرة
عدّ الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر.
(5) في "ب": مثليهم.
(6) أخرجه الطبري: 13 / 439.
(7) انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 2 / 843 - 844، أحكام القرآن للجصاص: 4 / 226
- 228، شرح السير الكبير للسرخسي: 1 / 123 - 125، وراجع: منهج الإسلام في الحرب
والسلام، تأليف عثمان جمعة ص (150 - 154).
(8) أخرجه الطبري: 13 / 440، والشافعي: 2 / 116، وسعيد بن منصور في السنن: 2 /
209، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرفوعا ورجاله ثقات. (مجمع الزوائد: 5 / 328).
وننقل هنا ترجيح الطبري رحمه الله في أن الآية محكمة غير منسوخة حيث قال في
التفسير: 13 / 440 - 441: "وأولى التأولين في هذه الآية بالصواب عندي، قول من
قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله
حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف لقتال، أو
لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف
لقتال منهزما بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من
الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه. وإنما قلنا: هي محكمة غير منسوخة، لما قد
بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره-: أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله
في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل. ولا
حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا
متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة).
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } قَالَ
مُجَاهِدٌ (1) سَبَبُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنِ
الْقِتَالِ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: أَنَا قَتَلْتُ فَلَانًا وَيَقُولُ الْآخَرُ
مِثْلَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَمَعْنَاهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ
بِقُوَّتِكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [بِنَصْرِهِ] (2) إِيَّاكُمْ
وَتَقْوِيَتِهِ لَكُمْ.
وَقِيلَ: لَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ.
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } قَالَ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي: نَدَبَ (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ
عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ أَسْلَمُ، غُلَامٌ أَسْوَدُ لِبَنِي
الْحَجَّاجِ، وَأَبُو يَسَارٍ، غُلَامٌ لِبَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا
بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمَا:
أَيْنَ قُرَيْشٌ؟ قَالَا هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى -وَالْكَثِيبُ: الْعَقَنْقَلُ -فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا: كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَا كَثِيرٌ،
قَالَ: مَا عِدَّتُهُمْ؟ قَالَا لَا نَدْرِي، قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ
يَوْمٍ؟ قَالَا يَوْمًا عَشْرَةً وَيَوْمًا تِسْعَةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ
إِلَى الْأَلِفِ" ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ
قُرَيْشٍ؟ قَالَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو
الْبَخْتَرِيِّ ابْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ
عَامِرٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو جَهْلِ
بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا
الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ
كَبِدِهَا" (4) فَلَمَّا أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ وَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ
تُصَوِّبُ مِنَ الْعَقَنْقَلِ، وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ إِلَى
الْوَادِي، قَالَ لَهُمْ: هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا
وَفَخْرِهَا [تُحَادُّكَ] (5) وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ
الَّذِي وَعَدْتِنِي، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَهُ: خُذْ
قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَارْمِهِمْ بِهَا، فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ
تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفًّا مِنْ حَصَى
عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ: شَاهَتْ
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 4 / 39.
(2) في "ب" (بنصرته).
(3) ندبته: بعثته ودعوته.
(4) الأفلاذ: جمع فلذ، والفلذ: جمع فلذة، وهي القطعة؛ وهو استعارة أراد : لباب
قريش وأشرافها، لأن الفلذ من أشرف الأعضاء. (من هامش التفسير).
(5) تحادك: تعادك. وفي "أ" تجادل.
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
الْوُجُوهُ،
فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ
وَمَنْخَرَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَانْهَزَمُوا وَرَدِفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: ذَكِرُ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى
بِحَصَاةٍ فِي مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ وَبِحَصَاةٍ فِي مَيْسَرَةِ الْقَوْمِ
وَبِحَصَاةٍ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَانْهَزَمُوا،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى"، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَرْمِيَ كفا من
146/أ الْحَصَا إِلَى وُجُوهِ جَيْشٍ فَلَا يَبْقَى فِيهِمْ عَيْنٌ إِلَّا
وَيُصِيبُهَا مِنْهُ شيء.
وقيل: معناه الْآيَةِ وَمَا بَلَّغْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ بَلَّغَ.
وَقِيلَ: وَمَا رَمَيْتَ بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ
بِالْحَصْبَاءِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى
انْهَزَمُوا، { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا } أَيْ:
وَلِيُنْعِمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً عَظِيمَةً بِالنَّصْرِ
وَالْغَنِيمَةِ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لِدُعَائِكُمْ، { عَلِيمٌ }
بِنِيَّاتِكُمْ.
{ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا
وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) }
{ ذَلِكُمْ } الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ وَالْبَلَاءِ
الْحَسَنِ، { وَأَنَّ اللَّهَ } قِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: [وَاعْلَمُوا] (2)
أَنَّ اللَّهَ { مُوهِنُ } مُضَعِفُ، { كَيْدِ الْكَافِرِينَ } قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "مُوَهِّنٌ" بِالتَّشْدِيدِ
وَالتَّنْوِينِ، "كَيْدَ" نَصْبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"مُوهِنُ" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّنْوِينِ إِلَّا حَفْصًا، فَإِنَّهُ
يُضِيفُهُ فَلَا يُنَوِّنُ وَيَخْفِضُ "كَيْدَ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } وَذَلِكَ
أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ: اللَّهُمَّ
أَقَطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَمْ نَعْرِفْ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ،
فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ عَلَى نَفْسِهِ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ
__________
(1) انظر : سيرة ابن هشام: 1 / 616 وما بعدها. (طبع الحلبي)، والمسند للإمام أحمد:
1 / 117.
(2) في : "أ": (وأعلم).
(3) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 628. ومعنى: أحِنْه: أهلكه، والمستفتح: الحاكم على
نفسه بهذا الدعاء.
عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ الْتَفَتُّ
فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ، حَدِيثَا السِّنِّ، فَكَأَنِّي
لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا، إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ:
يَا عَمٌّ أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟
فَقَالَ: عَاهَدْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ رَأَيْتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ
أَمُوتَ دُونَهُ. فَقَالَ لِي الْآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ، فَمَا
سَرَّنِي أَنِّي بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِمَكَانِهِمَا، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ،
فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حَتَّى ضَرْبَاهُ، وَهُمَا ابْنَا
عَفْرَاءَ (1) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا ابْنُ
أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ:
"مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ"؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ
ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ:
فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ
رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ أَوْ قَتَلْتُمُوهُ (2) .
[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ أَمَرَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ
هِشَامٍ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا يُعْجِزَنَّكَ،
قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي فَعَمَدْتُ نَحْوَهُ
فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطْنَتْ (3) قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ. قَالَ:
وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي فَتَعَلَّقْتُ
بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي (4) الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ
قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي
جَعَلْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا، ثُمَّ
مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ عَقِيرٌ مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى
أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
[بِأَبِي جَهْلٍ] (5) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَجَدْتُهُ بِآخِرِ
رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ
أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي، أَعْمَدُ
مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (6) أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ؟ قُلْتُ: لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: لَقَدِ
ارْتَقَيْتَ يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ مُرْتَقًى صَعْبًا، ثُمَّ
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب إذا أكثبوكم فارموهم: 7 / 307 - 308، ومسم في
الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، برقم (1752): 3 / 172.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب قتل أبي جهل: 7 / 293.
(3) أطنت قدمه: أطارَتْها.
(4) أجهضني: غلبني واشتدَّ علي.
(5) من سيرة ابن هشام.
(6) قال السهيلي في الروض الأنف: 2 / 72: "أي: هل فوق رجل قتله قومه؟ وهو
معنى تفسير ابن هشام حيث قال: أي ليس عليه عار . . . ".
احْتَزَزْتُ
رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ:
آللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ (1) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ
غَيْرُهُ، ثُمَّ أَلْقَيْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] (2) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ أَخَذُوا بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ وَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأَهْدَى
الْفِئَتَيْنِ وَأَكْرَمَ الْحِزْبَيْنِ وَأَفْضَلَ الدِّينَيْنِ فَفِيهِ
نَزَلَتْ: "إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ" أَيْ: إِنْ
تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ (3) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ وَاللَّهِ لَا نَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ فَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْحَقِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: "إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ" (4) أَيْ:
إِنْ تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ (5) .
وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: هَذَا خِطَابٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنْ
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ" أَيْ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا
فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَالنَّصْرُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ
بْنُ مُنِيبٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ
عَنْ قَيْسٍ عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ
فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْنَا:
أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ، أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ فَجَلَسَ مُحْمَارًّا
لَوْنُهُ أَوْ وَجْهُهُ فَقَالَ لَنَا : قَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُؤْخَذُ
الرَّجُلُ، وَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ
فَيُجْعَلُ فَوْقَ رَأْسِهِ ثُمَّ يُجْعَلُ بِفِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ
عَنْ دِينِهِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ
وَعَصَبٍ، وَمَا يَصْرِفُهُ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ
حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْكُمْ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخْشَى
إِلَّا اللَّهَ ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ" (6) .
__________
(1) قال السهيلي أيضا: 2 / 72: "قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "الله الذي لا إله إلا هو" بالخفض - عند سيبويه وغيره- لأن
الاستفهام عوض من الخافض عنده، وإذا كنت مخبرا قلت: "الله" بالنصب، لا
يجيز المبرِّد غيره، وأجاز سيبويه الخفض أيضا، لأنه قَسَم ، وقد عرف أن المقسم به
مخفوض الباء أو الواو، ولا يجوز إضمار حرف الجر إلا في مثل هذا الموضع أو ما كثر
استعماله جدا، كما روى أن رؤبَةَ كان يقول إذا قيل له: كيف أصبحت؟ خير عافاك الله".
(2) انظر: سيرة ابن هشام: 2 / 71 - 72 مع الروض الأنف للسهيلي 1 / 634 - 636 (طبع
الحلبي)، وقد جاءت هذه الرواية في نسخة "ب" بعد قول السدي والكلبي الذي
يليها مباشرة، وهو ما وضعناه بين القوسين.
(3) تفسير الطبري: 13 / 453 ، أسباب النزول للواحدي ص (269).
(4) أسباب النزول للواحدي ص (269).
(5) تفسير الطبري: 13 / 451، الدر المنثور: 4 / 42.
(6) أخرجه البخاري بلفظ قريب، في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: 6 / 619،
وفي مناقب الأنصار: 7 / 164 - 165 وذكره المصنف في مصابيح السنة: 4 / 74.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قَوْلُهُ:
{ وَإِنْ تَنْتَهُوا } يَقُولُ لِلْكُفَّارِ، إِنْ تَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ
بِاللَّهِ وَقِتَالِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا } لِحَرْبِهِ وَقِتَالِهِ، { نَعُدْ } بِمِثْلِ
الْوَاقِعَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَعُودُوا
إِلَى الدُّعَاءِ وَالِاسْتِفْتَاحِ نَعُدْ لِلْفَتْحِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ } جَمَاعَتُكُمْ، {
شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ "وَأَنَّ اللَّهَ" بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ، أَيْ: وَلِأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ "لَنْ
تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا"، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى
قَوْلِهِ: "ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ"،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَإِنَّ اللَّهَ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا
عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا
سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
}
قَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ } أَيْ: لَا تُعْرِضُوا عَنْهُ، { وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ } الْقُرْآنَ وَمَوَاعِظَهُ.
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } أَيْ:
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ سَمِعْنَا بِآذَانِنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، أَيْ
لَا يَتَّعِظُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ
يَسْمَعُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ } أَيْ: شَرُّ مَنْ
دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ [مِنْ خَلْقِ اللَّهِ] (1) { الصُّمُّ الْبُكْمُ }
عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، { الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ
} أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وجل، سماهم دواب لِقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: "أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ"
،(الْأَعْرَافُ -179) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ عَمَّا
جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا بِأُحُدٍ، وَكَانُوا أَصْحَابَ
اللِّوَاءِ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ
وَسُوَيْبِطُ بن حرملة.
146/ب { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } أَيْ:
لَأَسْمَعَهُمْ سَمَاعَ التَّفَهُّمِ وَالْقَبُولِ، { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ }
بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ مَا انْتَفَعُوا بِذَلِكَ، {
لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } لِعِنَادِهِمْ وَجُحُودِهِمُ الْحَقَّ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
بَعْدَ
ظُهُورِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أحيي لَنَا قُصَيًّا فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا مُبَارَكًا حَتَّى
يَشْهَدَ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ فَنُؤْمِنَ بِكَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ" كَلَامَ قُصَيٍّ "لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ" .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ } يَقُولُ أَجِيبُوهُمَا بِالطَّاعَةِ، { إِذَا دَعَاكُمْ }
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أَيْ: إِلَى
مَا يُحْيِيكُمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ مَيِّتٌ
فَيَحْيَا بِالْإِيمَانِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْقُرْآنُ فِيهِ الْحَيَاةُ وَبِهِ النَّجَاةُ
وَالْعِصْمَةُ فِي الدَّارَيْنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْحَقُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ الْجِهَادُ أَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ
الذُّلِّ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: بَلِ الشَّهَادَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
الشُّهَدَاءِ: "بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"(آلِ
عِمْرَانَ 0 169).
وَرَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَعَاهُ فَعَجِلَ
أُبَيُّ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَا مَنَعَكَ
أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: أَلَيْسَ
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ [فَقَالَ: لَا
جَرَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَدْعُونِي إِلَّا أَجَبْتُ وَإِنْ كُنْتُ
مُصَلِّيًا" (1) ] (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ
وَالْكَفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ.
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 13 / 467 بهذا اللفظ، وأخرجه بنحوه الترمذي في فضائل
القرآن - باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب: 8 / 178 - 180 وقال: هذا حديث حسن صحيح
. والإمام أحمد في المسند: 2 / 412 - 413، وأخرجه البخاري بغير هذا السياق في
التفسير 8 / 156، وفي فضائل القرآن. وقال المنذري: رواه ابن خزيمة وابن حبان في
صحيحيهما والحاكم باختصار عن أبي هريرة عن أُبي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
انظر: الكافي الشاف ص (68 - 69) تحفة الأحوذي: 8 / 180.
(2) ما بين القوسين من نسخة "ب".
وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالطَّاعَةِ، وَيَحُولُ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فَلَا يَعْقِلُ وَلَا
يَدْرِي مَا يَعْمَلُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَقَلْبِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُؤْمِنَ وَلَا أَنْ يَكْفُرَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دُعُوا إِلَى الْقِتَالِ فِي حَالَةِ
الضَّعْفِ سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ وَاخْتَلَجَتْ صُدُورُهُمْ فَقِيلَ لَهُمْ:
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فَيُبَدِّلُ الْخَوْفَ أَمْنًا وَالْجُبْنَ جُرْأَةً. {
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى
دِينِكِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ
فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "الْقُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ
أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا" (1) .
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً } اخْتِبَارًا وَبَلَاءً { لَا تُصِيبَنَّ } قَوْلُهُ:
"لَا تُصِيبَنَّ" لَيْسَ بِجَزَاءٍ مَحْضٍ، وَلَوْ كَانَ جَزَاءً لَمْ
تَدْخُلْ فِيهِ النُّونُ، لَكِنَّهُ [نَفْيٌ] (2) وَفِيهِ طَرَفٌ مِنَ الْجَزَاءِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ"(النَّمْلُ -18) وَتَقْدِيرُهُ
وَاتَّقُوا فِتْنَةً إِنْ لَمْ تَتَّقُوهَا أَصَابَتْكُمْ، فَهُوَ كَقَوْلِ
الْقَائِلِ: انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، فَهَذَا جَوَابُ
الْأَمْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ، مَعْنَاهُ إِنْ تَنْزِلْ لَا تَطْرَحْكَ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ: اتَّقُوا فِتْنَةً تُصِيبُ
الظَّالِمَ وَغَيْرَ الظَّالِمِ.
قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ قَرَأْنَا هَذِهِ الْآيَةَ
زَمَانًا وَمَا أَرَانَا مِنْ أَهْلِهَا فَإِذَا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا،
يَعْنِي مَا كَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ (3) .
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ: الإمام أحمد في المسند: 3 / 112 ، 257، والترمذي بزيادة
"كيف شاء" في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن:
6 / 349، وأخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو، في القدر، باب تصريف الله تعالى
القلوب كيف شاء برقم (2654): 4 / 2045. وذكره البغوي في مصابيح السنة: 1 / 141.
(2) في "أ" (نهي).
(3) تفسير الطبري: 13 / 472 - 473 وفيه: نزلت في علي وعمار وطلحة. . .
وَقَالَ
السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: هَذَا فِي قَوْمٍ
مَخْصُوصِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصَابَتْهُمُ الْفِتْنَةُ يَوْمَ الْجَمَلِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا
الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ يُصِيبُ
الظَّالِمَ وَغَيْرَ الظَّالِمِ (2) .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَنَا أَبُو
طَاهِرٍ الْحَارِثِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَيْفِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ يَقُولُ:
حَدَّثَنِي مَوْلَى لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا
يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ
ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ،
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ" (3) .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِالْفِتْنَةِ افْتِرَاقَ الْكَلِمَةِ
وَمُخَالَفَةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ
فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي،
وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مِنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ،
فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ" (5) .
قَوْلُهُ { لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } يَعْنِي:
الْعَذَابَ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
__________
(1) تفسير الطبري: 13 / 473.
(2) تفسير الطبري: 13 / 474 دون قوله "يصيب الظالم وغير الظالم".
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 192، والطحاوي في مشكل الآثار: 2 / 66، وعبد
الله بن المبارك في الزهد، برقم (1352) ص (476)، والمصنف في شرح السنة: 14 / 346.
(4) قارن قوله الآخر في الطبري: 13 / 475 قال: الفتنة: الضلالة.
(5) أخرجه البخاري في الفتن، باب تكون الفتنة، القاعد فيها خير من القائم: 13 /
29، وفي الأنبياء، وفي المناقب، وأخرجه مسلم في الفتن، باب نزول الفتن كمواقع
القطر، برقم (2886): 4 / 2212، والمصنف في شرح السنة: 15 / 22.
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي
الْأَرْضِ } يَقُولُ: وَاذْكُرُوا يَا مَعْشَرَ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
الْمُهَاجِرِينَ
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ فِي الْعَدَدِ، مُسْتَضْعَفُونَ فِي أَرْضِ مَكَّةَ، فِي
ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، { تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } يَذْهَبُ
بِكُمُ النَّاسُ، يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُفَّارُ
الْعَرَبِ : وَقَالَ وَهْبٌ: فَارِسٌ وَالرُّومُ، { فَآوَاكُمْ } إِلَى
الْمَدِينَةِ، { وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ } أَيْ: قَوَّاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ
بالأنصار. وقال الكلبيك قُوَّاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ، {
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } يَعْنِي: الْغَنَائِمَ، أَحَلَّهَا لَكُمْ
وَلَمْ يُحِلَّهَا لِأَحَدٍ قَبْلَكُمْ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } قَالَ
السُّدِّيُّ: كَانُوا يَسْمَعُونَ الشَّيْءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُفْشُونَهُ، حَتَّى يَبْلُغَ الْمُشْرِكِينَ (1) .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي لُبَابَةَ،
هَارُونَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّ، مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَاصَرَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَسَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ عَلَى مَا صَالَحَ عَلَيْهِ
إِخْوَانَهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، عَلَى أَنْ يَسِيرُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ
إِلَى أَذَرِعَاتٍ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ
يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: أَرْسِلْ
إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ مُنَاصِحًا لهم، لأن
ما له وَوَلَدَهُ وَعِيَالَهُ كَانَتْ عندهم، فبعثه 147/أ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآتَاهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ مَا
تَرَى أَنَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؟ فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ
بِيَدِهِ عَلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ، فَلَا تَفْعَلُوا، قَالَ أَبُو
لُبَابَةَ: وَاللَّهِ مَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَرَفْتُ
أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ انْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ
يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَدَّ نَفْسَهُ عَلَى
سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَذُوقُ طَعَامًا
وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ فَلَمَّا بَلَغَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ قَالَ: أَمَا لَوْ
جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ فَإِنِّي لَا
أُطْلِقُهُ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لَا
يَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ تَابَ
اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ قَدْ تِيبَ عَلَيْكَ،
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ نَفْسِي حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحُلُّنِي، فَجَاءَهُ فَحَلَّهُ
بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَمَامِ
تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ وَأَنْ
أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَجْزِيكَ الثُّلُثُ فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فَنَزَلَتْ فِيهِ
"لَا تَخُونُوا
__________
(1) الطبري: 13 / 483.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
اللَّهَ
وَالرَّسُولَ" (1) . { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } أَيْ: [وَلَا تَخُونُوا
أَمَانَاتِكُمْ] (2) { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَنَّهَا أَمَانَةٌ. وَقِيلَ:
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا فَعَلْتُمْ، مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَلْقِ،
خِيَانَةٌ.
قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا خَانُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَقَدْ خَانُوا
أَمَانَاتِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَخُونُوا اللَّهَ بِتَرْكِ فَرَائِضِهِ وَالرَّسُولَ
بِتَرْكِ سُنَّتِهِ وَتَخُونُوا أَمَانَتَكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَا يَخْفَى عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنْ فَرَائِضِ
اللَّهِ، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا.
قَالَ قَتَادَةُ: اعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللَّهِ أَمَانَةٌ فَأَدُّوا إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ،
وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ
عَلَيْهَا.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } قِيلَ: هَذَا
أَيْضًا فِي أَبِي لُبَابَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمْوَالَهُ وَأَوْلَادَهُ كَانُوا
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ مَا قَالَ خَوْفًا عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: هَذَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّالِحِيُّ -إِمْلَاءً -وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ، قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
[رَزْمَوَيْهِ] (3) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي
الْأُسُودِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ
مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ وَإِنَّهُمْ لِمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"
(4) .
{ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لِمَنْ نَصَحَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَأَدَّى أَمَانَتَهُ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (29) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ
} بِطَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتَهُ، { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا }
__________
(1) انظر : تفسير الطبري: 13 / 481، سيرة ابن هشام: 2 / 237 - 238، أسباب النزول
للواحدي ص (269 - 270)، الدر المنثور: 4 / 48 - 49.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "ب" (ذرقويه).
(4) أخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 35، وفيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، وللحديث
شواهد يتقوى بها، عند أحمد: 6 / 409، والترمذي في البر والصلة.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قَالَ
مُجَاهِدٌ: مَخْرَجًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مَخْرَجًا فِي الدِّينِ مِنَ الشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَجَاةً أَيْ يُفَرِّقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا تَخَافُونَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَيَانًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ يُظْهِرُ اللَّهُ به حقكم ويطفىء بَاطِلَ مَنْ خَالَفَكُمْ.
وَالْفُرْقَانُ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ. { وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ } يَمْحُ عَنْكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، { وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
(30) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } هَذِهِ الْآيَةُ
مَعْطُوفَةٌ [عَلَى قَوْلِهِ] (1) { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ }
وَاذْكُرْ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ،
لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَهَذَا الْمَكْرُ وَالْقَوْلُ إِنَّمَا
كَانَا بِمَكَّةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَّرَهُمْ بِالْمَدِينَةِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ"(التَّوْبَةُ
آيَةُ 40) وَكَانَ هَذَا الْمَكْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ
مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ:
أَنَّ قُرَيْشًا فَرِقُوا لَمَّا أَسْلَمَتْ الْأَنْصَارُ أَنْ يَتَفَاقَمَ أَمْرُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ
كِبَارِهِمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ رُءُوسَهُمْ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ
ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَطُعَيْمَةُ
بْنُ عَدِيٍّ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو
الْبَخْتَرِيُّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمُ بْنُ
حِزَامٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ،
فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ نَجْدٍ، سَمِعْتُ بِاجْتِمَاعِكُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ
أَحْضُرَكُمْ، وَلَنْ تَعْدِمُوا مِنِّي رَأْيًا وَنُصْحًا، قَالُوا: ادْخُلْ
فَدَخَلَ، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنْ تَأْخُذُوا
مُحَمَّدًا وَتَحْبِسُوهُ فِي بَيْتٍ، وَتَشُدُّوا وِثَاقَهُ، وَتَسُدُّوا بَابَ
الْبَيْتِ غَيْرَ كُوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، وَتَتَرَبَّصُوا
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلَكَ فِيهِ، كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ
مِنَ الشُّعَرَاءِ. قال: فصرخ عدوا اللَّهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ وَقَالَ:
بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ وَاللَّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ
أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي غَلَّقْتُمْ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ
فَيُوشِكُ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ وَيُقَاتِلُوكُمْ وَيَأْخُذُوهُ مِنْ
أَيْدِيكُمْ، قَالُوا: صَدَقَ الشَّيْخُ، فَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ
تُخْرِجُوهُ مِنْ أَظْهُرِكُمْ فَلَا
__________
(1) في "ب": (على ما قبلها).
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
يَضُرُّكُمْ
مَا صَنَعَ وَلَا أَيْنَ وَقَعَ إِذَا غَابَ عَنْكُمْ وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ،
فَقَالَ إِبْلِيسُ: مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ،
تَعْمِدُونَ إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَفْسَدَ أَحْلَامَكُمْ فَتُخْرِجُونَهُ إِلَى
غَيْرِكُمْ فَيُفْسِدُهُمْ أَلَمْ تَرَوْا إِلَى حَلَاوَةِ مَنْطِقِهِ وَحَلَاوَةِ
لِسَانِهِ وَأَخْذِ الْقُلُوبِ بِمَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ
فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَيَذْهَبَنَّ وَلِيَسْتَمِيلَ قُلُوبَ قَوْمٍ ثُمَّ يَسِيرَ
بِهِمْ إِلَيْكُمْ فَيُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ، قَالُوا: صَدَقَ الشَّيْخُ:
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَاللَّهِ لَأُشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ مَا أَرَى
غَيْرَهُ إِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ شَابًّا
نَسِيبًا وَسِيطًا فَتِيًّا ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا،
ثُمَّ يَضْرِبُوهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ
فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا وَلَا أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
+يَقْوَوْنَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ
قَبِلُوا الْعَقْلَ فَتُؤَدِّي قُرَيْشٌ دِيَّتَهُ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: صَدَقَ
هَذَا الْفَتَى، وَهُوَ أَجْوَدُكُمْ رَأْيًا، الْقَوْلُ مَا قَالَ لَا أَرَى
رَأْيًا غَيْرَهُ فَتَفَرَّقُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ وَهُمْ مُجْمِعُونَ
لَهُ. فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ
يَبِيتُ فِيهِ، وَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَنَامَ فِي مَضْجَعِهِ وَقَالَ لَهُ: تَسَيَّحْ
بِبُرْدَتِي هَذِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ،
ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ قَبْضَةً
مِنْ تُرَابٍ فَأَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ التُّرَابَ
عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَقْرَأُ : "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ
أَغْلَالًا" إِلَى قَوْلِهِ "فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ"(سورة يس 8
-9) 147/ب وَمَضَى إِلَى الْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَخَلَّفَ
عَلِيًّا بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْوَدَائِعَ الَّتِي قَبِلَهَا
وَكَانَتِ الْوَدَائِعُ تُودَعُ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا فِي
فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا
إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟
قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ وَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ فَلَمَّا
بَلَغُوا الْغَارَ رَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ
دَخَلَهُ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ
ثَلَاثًا، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا" (1) .
{ لِيُثْبِتُوكَ } لِيَحْبِسُوكَ وَيَسْجِنُوكَ وَيُوثِقُوكَ، { أَوْ يَقْتُلُوكَ
أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } قَالَ الضَّحَّاكُ:
يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللَّهُ، وَالْمَكْرُ التَّدْبِيرُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ
التَّدْبِيرُ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْمَكْرِ { وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا } يَعْنِي النَّضْرَ بْنَ
الْحَارِثِ، { قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا }
__________
(1) انظر : الطبري: 13 / 496 وما بعدها مع تعليق الشيخ محمود شاكر، مجمع الزوائد:
7 / 27، الدر المنثور 4 / 51 - 52.
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
وَذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ تَاجِرًا إِلَى فَارِسٍ وَالْحِيرَةَ فَيَسْمَعُ
أَخْبَارَ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدَيَارَ، وَأَحَادِيثَ الْعَجَمِ وَيَمُرُّ
بِالْيَهُودِ والنصارى فيراهم +يقرؤن التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَيَرْكَعُونَ
وَيَسْجُدُونَ، فَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ النَّضْرُ: قَدْ
سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا (1) { إِنْ هَذَا إِلَّا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أَخْبَارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَسْمَاؤُهُمْ
وَمَا سَطَّرَ الْأَوَّلُونَ فِي كُتُبِهِمْ. وَالْأَسَاطِيرُ: جُمْعُ
أُسْطُورَةٍ، وَهِيَ الْمَكْتُوبَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ سُطِّرَتْ أَيْ كُتِبَتْ (2)
.
{ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ } الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي
عَبْدِ الدَّارِ (3) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَأْنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، قَالَ النَّضْرُ: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ
مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ -أَيْ: مَا هَذَا إِلَّا
مَا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ فِي كُتُبِهِمْ -فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ
الْحَقَّ، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ الْحَقَّ، قَالَ عُثْمَانُ: فَإِنَّ مُحَمَّدًا
يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ وَأَنَا أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ بَنَاتُ اللَّهِ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا الَّذِي يَقُولُ مُحَمَّدٌ هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ -"وَالْحَقُّ" نُصِبَ بِخَبَرِ كَانَ، وَهُوَ عِمَادٌ وَصِلَةٌ
-{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ } كَمَا أَمْطَرْتَهَا عَلَى
قَوْمِ لُوطٍ، { أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أَيْ: بِبَعْضِ مَا عَذَّبْتَ
بِهِ الْأُمَمَ، وَفِيهِ نَزَلَ: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ"
(4) .(الْمَعَارِجُ -1). .
وَقَالَ عَطَاءٌ: لَقَدْ نَزَلَ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بِضْعَ عَشْرَةَ
آيَةً فَحَاقَ بِهِ مَا سَأَلَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ (5) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً صَبْرًا مِنْ قُرَيْشٍ: طُعَيْمَةَ بْنَ
عَدِيٍّ
__________
(1) انظر : الطبري : 13 / 503 - 504، أسباب النزول للواحدي ص (270)، المدر
المنثور: 4 / 55.
(2) انظر: الطبري: 11 / 308 - 310 ، 13 / 503.
(3) تفسير الطبري 13 / 505 - 506 ، الدر المنثور 4 / 55.
(4) انظر : الدر المنثور: 8 / 277.
(5) الدر المنثور : 8 / 278.
وَعُقْبَةَ
بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ (1) .
وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو جَهْلٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ، ثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ
صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ: { وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ
} (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ }
اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
هَذَا حِكَايَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَالُوهَا وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ
بِالْآيَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُعَذِّبُنَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُهُ، وَلَا يُعَذِّبُ أُمَّةً وَنَبِيُّهَا
مَعَهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَذْكُرُ جَهَالَتَهُمْ وَغَرَّتَهُمْ وَاسْتِفْتَاحَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ:
"وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ" الْآيَةَ، وَقَالُوا (3) "وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ" ثُمَّ قَالَ رَدًّا عَلَيْهِمْ: "وَمَا لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ"؟ وَإِنْ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا
يَسْتَغْفِرُونَ "وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" (4) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هَذَا كَلَامٌ +مُسْتَأْنَفٌ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
إِخْبَارًا عَنْ نَفْسِهِ: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ".
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ: تَأْوِيلُهَا
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ مُقِيمٌ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ، قَالُوا: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِهِمْ وَبَقِيَتْ بِهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَغْفِرُونَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ"، ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَعُذِّبُوا،
وَأَذِنَ اللَّهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي وَعَدَهُمْ (5) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 14 / 372، وأبو عبيد في الأموال (154) (طبع
قطر) من طريق هشيم عن أبي بشر، وفيه: مطعم ابن عدي بدلا من طعيمة ثم قال: هكذا
حديث هشيم، فأما أهل العلم بالمغازي فينكرون مقتل مطعم بن عدي، يقولون: مات بمكة
موتا قبل بدر، وإنما قتل أخوه طعيمة بن عدي، ولم يقتل صبرا، قتل في المعركة. ومما
يصدِّق قولهم الحديث الذي ذكرناه عن الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال لجبير بن مطعم - حين كلمه في الأسارى -: شيخ لو كان أتانا لشفعناه -
يعني أباه مطعم بن عدي - فكيف يكون مقتولا يومئذ، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول فيه هذه المقالة؟ وأما مقتل عقبة والنضر: فلا يختلفون فيه.
(الأموال لأبي عبيد ص 154 - 155).
(2) أخرجه البخاري في التفسير، باب: وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق 8 / 308.
(3) جاء السياق في الطبري هكذا: "وقال حين نعى عليهم سوء أعمالهم: "وما
كان الله ليعذبهم. . " وهو أتم.
(4) أخرجه الطبري في التفسير: 13 / 512 - 513.
(5) الطبري: 13 / 510 - 511 .
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: لَمْ يُعَذِّبِ اللَّهُ
قَرْيَةً حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ مِنْهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَيَلْحَقَ
بِحَيْثُ أُمِرَ. فَقَالَ: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ
فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (1)
يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا
لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ" ، فَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
بَدْرٍ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: كَانَ فِيكُمْ أَمَانَانِ "وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ" ، "وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَضَى وَالِاسْتِغْفَارُ كَائِنٌ فِيكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ (2) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الِاسْتِغْفَارُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بَعْدَ الطَّوَافِ: غُفْرَانَكَ غُفْرَانَكَ (3) .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَلَمَّا
أَمْسَوْا نَدِمُوا عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالُوا غُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ" (4) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ : وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، أَيْ: لَوِ اسْتَغْفَرُوا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالذَّنْبِ، وَاسْتَغْفَرُوا،
لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ (5) .
وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِهَذِهِ
الْكَلِمَةِ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ لَا أُعَاقِبُكَ وَأَنْتَ
تُطِيعُنِي، أَيْ أَطِعْنِي حَتَّى لَا أُعَاقِبَكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ يُسْلِمُونَ.
يَقُولُ: لَوْ أَسْلَمُوا لَمَا عُذِّبُوا (6) . وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَيْ وَفِيهِمْ مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُسْلِمَ وَيُؤْمِنَ
وَيَسْتَغْفِرَ (7) وَذَلِكَ مِثْلُ: أَبِي سُفْيَانَ، وَصَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهِلٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَكِيمِ
بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ.
__________
(1) الطبري: 13 / 511.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير: 8 / 472 - 473 مرفوعا وقال: "هذا حديث غريب
وإسماعيل بن إبراهيم يضعف في الحديث". وأخرجه الطبري موقوفا على أبي موسى :
13 / 513.
(3) الطبري: 13 / 511.
(4) الطبري: 13 / 512.
(5) الطبري: 13 / 514.
(6) الطبري: 13 / 515.
(7) الطبري: 13 / 516.
وَرَوَى
عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ وَفِي
أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَسْتَغْفِرُ (1) .
__________
(1) قال الطبري رحمه الله : 13 / 517 "وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب،
قول من قال: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" يا محمد، وبين
أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأني لا أهلك قرية وفيها نبيها -
"وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" ، من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا
يستغفرون من ذلك ، بل هم مصرون عليه، فهم للعذاب مستحقون ثم قيل: "وما لهم
ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام" بمعنى: وما شأنهم، وما يمنعهم
أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، وهم يصدون المؤمنين
بالله ورسوله عن المسجد الحرام"؟ .
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (35) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ } أَيْ: وَمَا
يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يُعَذَّبُوا، يُرِيدُ بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، {
وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أَيْ: يمنعون المؤمنين 148/أ
مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَذَابِ الْأَوَّلِ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، وَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ "وما لهم أن أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ" أَيْ:
بِالسَّيْفِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَوَّلِ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ عَذَابَ
الْآخِرَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْآيَةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: "وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ" مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا
لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ" (1) .
{ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ } قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَقُولُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَرَدَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: "وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ" أَيْ:
أَوْلِيَاءَ الْبَيْتِ، { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ } أَيْ: لَيْسَ أَوْلِيَاءُ
الْبَيْتِ، { إِلَّا الْمُتَّقُونَ } يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَتَّقُونَ الشِّرْكَ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ:
__________
(1) قال الإمام الطبري، رحمه الله : "لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله:
"وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، الآية، لأن قوله
جل ثناؤه "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" خبر، والخبر لا يجوز أن
يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر أو النهي" التفسير: 13 / 518.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
الْمُكَاءُ:
الصَّفِيرُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ اسْمُ طَائِرٍ أَبْيَضَ، يَكُونُ بِالْحِجَازِ
لَهُ صَفِيرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا صَوْتَ مُكَاءٍ، وَالتَّصْدِيَةُ
التَّصْفِيقُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ
يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ (1) .
قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُعَارِضُونَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الطواف، +ويستهزءون بِهِ،
وَيُدْخِلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَيُصَفِّرُونَ. فَالْمُكَاءُ:
جَعْلُ الْأَصَابِعِ فِي الشِّدْقِ. وَالتَّصْدِيَةُ الصَّفِيرُ، وَمِنْهُ
الصَّدَى الَّذِي يَسْمَعُهُ الْمُصَوِّتُ فِي الْجَبَلِ.
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ "إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً" فَجَمَعَ
كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا صَفِيرًا (2) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ قَامَ رَجُلَانِ عَنْ يَمِينِهِ فَيُصَفِّرَانِ
وَرَجُلَانِ عَنْ شِمَالِهِ فَيُصَفِّقَانِ لِيَخْلِطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، وَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ (3) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّصْدِيَةُ صَدُّهُمُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَعَنِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةِ. وَهِيَ عَلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ: التَّصْدِدَةُ بِدَالَيْنِ، فَقُلِبَتْ إِحْدَى الدَّالَيْنِ يَاءً،
كَمَا يُقَالُ تَظَنَّيْتُ مِنَ الظَّنِّ، وَتَقَضَّى الْبَازِي إِذَا الْبَازِي
كَسَرَ، أَيْ تَقَضَّضَ الْبَازِي. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا
سَمَّاهُ صَلَاةً لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَجَعَلُوا
ذَلِكَ صَلَاتَهُمْ. { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ: لِيَصْرِفُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ
وَكَانُوا اثَّنَى عَشَرَ رَجُلًا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَعُتْبَةُ،
وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا
الْحَجَّاجِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، والنضر بن الحرث، وَحَكِيمُ
بْنُ حِزَامٍ، وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْحَارِثُ
بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ
__________
(1) الطبري : 13 / 522.
(2) الطبري : 13 / 522.
(3) انظر : الدر المنثور: 4 / 61 (عن ابن عباس).
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
وَالْعَبَّاسُ
بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ يُطْعِمُ كُلٌّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَ جُزُرٍ (1) .
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ أَنْفَقَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً (2) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
} يُرِيدُ: مَا أَنْفَقُوا فِي الدُّنْيَا يَصِيرُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ فِي
الْآخِرَةِ، { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } وَلَا يَظْفَرُونَ، { وَالَّذِينَ كَفَرُوا }
مِنْهُمْ، { إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } خُصَّ الْكُفَّارُ لِأَنَّ مِنْهُمْ
مَنْ أَسَلَمَ.
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ
عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا
قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) }
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ } [فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ] (3) { مِنَ
الطَّيِّبِ } يَعْنِي: الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَيُنْزِلُ الْمُؤْمِنَ
الْجِنَانَ وَالْكَافِرَ النِّيرَانَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعَمَلُ الْخَبِيثُ مِنَ الْعَمَلِ الصالح الطيب، فيثب
عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْجَنَّةَ، وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ
النَّارَ.
وَقِيلَ: يَعْنِي: الْإِنْفَاقَ الْخَبِيثَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ مِنَ
الْإِنْفَاقِ الطَّيِّبِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
{ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } أَيْ: فَوْقَ بَعْضٍ، {
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا } أَيْ: يَجْمَعَهُ وَمِنْهُ السَّحَابُ الْمَرْكُومُ،
وَهُوَ الْمُجْتَمِعُ الْكَثِيفُ، فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ { أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } رَدَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ } . . . { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الَّذِينَ خَسِرَتْ
تِجَارَتُهُمْ، لِأَنَّهُمُ اشْتَرَوْا بِأَمْوَالِهِمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ.
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا } عَنِ الشِّرْكِ { يُغْفَرْ لَهُمْ
مَا قَدْ سَلَفَ } أَيْ: مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، {
وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } فِي نَصْرِ اللَّهِ أَنْبِيَاءَهُ
وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: تَوْحِيدٌ لَمْ
يَعْجَزْ عَنْ هَدْمِ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَفْرٍ، أَرْجُو أَنْ لَا يَعْجَزُ عَنْ
هَدْمِ مَا بَعْدَهُ مِنْ ذَنْبٍ.
__________
(1) انظر : سيرة ابن هشام : 1 / 671 ، أسباب النزول للواحدي ، ص (271).
(2) انظر: الطبري: 13 / 531، أسباب النزول ص (272)، الدر المنثور: 4 / 63.
(3) ما بين القوسين ساقط من"ب".
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) }
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (41) }
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أَيْ: شِرْكٌ. قَالَ الرَّبِيعُ:
حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
} أَيْ: وَيَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لِلَّهِ لَا شِرْكَ فِيهِ، { فَإِنِ
انْتَهَوْا } عَنِ الْكُفْرِ، { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قَرَأَ يَعْقُوبُ "تَعْمَلُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ.
{ وَإِنْ تَوَلَّوْا } عَنِ الْإِيمَانِ وَعَادُوا إِلَى قِتَالِ أَهْلِهِ، {
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ } نَاصِرُكُمْ وَمُعِينُكُمْ، { نِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ. الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ: اسْمَانِ لِمَالٍ
يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى
أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ:
فَالْغَنِيمَةُ: مَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ عَنْوَةً بِقِتَالٍ،
وَالْفَيْءُ: مَا كَانَ عَنْ صُلْحٍ بِغَيْرِ قِتَالٍ. فَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: "فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ" (1) .
ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ:
"لِلَّهِ" افْتِتَاحُ كَلَامٍ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَإِضَافَةِ
هَذَا الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ لِشَرَفِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ
سَهْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ لِلَّهِ مُنْفَرِدًا، فَإِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ
كُلَّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ، قَالُوا: سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ
وَاحِدٌ. وَالْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا
لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَالْخُمُسُ لِخَمْسَةِ أَصْنَافٍ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، "وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ".
قَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي الْعَالِيَةِ، سَهْمٌ لِلَّهِ: فَيُصْرَفُ إِلَى
__________
(1) انظر : الطبري: 13 / 545 - 548، القرطبي: 8 / 1 وما بعدها، أحكام القرآن لابن
العربي: 2 / 855 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص: 4 / 229 وما بعدها الخراج لأبي
يوسف: ص (19 - 30)، الخراج ليحيى بن آدم: ص 18 - 45، الأموال لأبي عبيد ص (28) وما
بعدها. ففيها تفصيل لآراء العلماء والمفسرين في قسمة الفيء والغنيمة.
الْكَعْبَةِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ،
سَهْمٌ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ،
وَالْيَوْمَ هُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ،
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْعَلَانِ سَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَهْمُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْدُودٌ فِي الْخُمُسِ
وَالْخُمُسِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ.
قَوْلُهُ: { وَلِذِي الْقُرْبَى } أَرَادَ أَنَّ سَهْمًا من الخمس 148/ب لِذَوِي
الْقُرْبَى وَهُمْ أَقَارِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ، فَقَالَ قَوْمٌ: جَمِيعُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ
الَّذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَلَيْسَ لِبَنِي
عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ،
أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ، أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا الثِّقَةُ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِي
الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهُ
أَحَدًا مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا بَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا (1) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنَا
الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ، أَنَا مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ
رَاشِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ
أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ
الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي
الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا أَوْ مَنَعْتَنَا، وَإِنَّمَا
قَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ
وَاحِدٌ هَكَذَا وَشَبَّكَ
__________
(1) أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 112. وانظر: البخاري - كتاب المغازي، باب غزوة
خيبر: 7 / 484، والمصنف في شرح السنة: 11 / 126.
بَيْنَ
أَصَابِعِهِ" (1) .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى هَلْ هُوَ ثَابِتٌ
الْيَوْمَ؟ .
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والشافعي.
وذهب أ صحاب الرَّأْيِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَقَالُوا: سَهْمُ رَسُولِ
اللَّهِ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى مَرْدُودَانِ فِي الْخُمُسِ، وَخُمْسُ
الْغَنِيمَةِ لِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُعْطُونَهُ، وَلَا
يُفَضَّلُ فَقِيرٌ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ كَانُوا يُعْطُونَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبَدِ
الْمُطَّلِبِ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهِ، فَأَلْحَقَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْمِيرَاثِ
الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْطَى الْقَرِيبُ
وَالْبَعِيدُ. وَقَالَ: يُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى فَيُعْطَى الرَّجُلُ
سَهْمَيْنِ وَالْأُنْثَى سَهْمًا وَاحِدًا.
قَوْلُهُ: { وَالْيَتَامَى } وَهُوَ جَمْعُ الْيَتِيمِ، وَالْيَتِيمُ الَّذِي لَهُ
سَهْمٌ فِي الْخُمُسِ هُوَ الصَّغِيرُ الْمُسْلِمُ، الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، إِذَا
كَانَ فَقِيرًا، { وَالْمَسَاكِينِ } هُمْ أَهْلُ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، { وَابْنُ السَّبِيلِ } هُوَ الْمُسَافِرُ الْبَعِيدُ عَنْ
مَالِهِ، فَهَذَا مَصْرِفُ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ وَيُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ
الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ، لِلْفَارِسِ
مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ، لِمَا:
أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُؤَذِّنُ، أَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ ثَنَا
سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ
لِفَرَسِهِ" (2) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعُلَمَاءِ وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ،
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ،
وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ.
__________
(1) أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 111، وأبو داود في الخراج والإمارة، باب في بيان
مواضع قسم الخمس: 4 / 220 - 221، والنسائي في قسم الفيء: 7 / 130 - 131 ، وابن
ماجه في الجهاد، باب قسمة الخمس: 2 / 961، والمصنف في شرح السنة: 11 / 125 - 126،
الطبري في التفسير: 13 / 556.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد، باب سهام الفرس: 6 / 67، ومسلم في الجهاد والسير،
باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين برقمي(1762): 3 / 1382، والمصنف في شرح
السنة: 11 / 101.
وَيُرْضَخُ
(1) لِلْعَبِيدِ وَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ إِذَا حَضَرُوا الْقِتَالَ،
وَيُقَسَّمُ الْعَقَارُ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ
كَالْمَنْقُولِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي
الْعَقَارِ: بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ
وَقْفًا عَلَى الْمَصَالِحِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ.
وَمَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا فِي الْقِتَالِ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ مِنْ رَأْسِ
الْغَنِيمَةِ، لَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا
لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ" (2) . وَالسَّلَبُ: كُلُّ مَا
يَكُونُ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ مَلْبُوسٍ وَسِلَاحٍ، وَفَرَسُهُ الَّذِي هُوَ
رَاكِبُهُ.
وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بَعْضَ الْجَيْشِ مِنَ الْغَنِيمَةِ،
لِزِيَادَةِ عَنَاءٍ وَبَلَاءٍ يَكُونُ مِنْهُمْ فِي الْحَرْبِ، يَخُصُّهُمْ بِهِ
مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْجَيْشِ وَيَجْعَلُهُ أُسْوَةَ الْجَمَاعَةِ فِي سَهْمَانِ
الْغَنِيمَةِ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ
مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمِ عَامَّةِ
الْجَيْشِ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبْعَ فِي الْبَدْأَةِ وَالثُّلُثَ
فِي الرَّجْعَةِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّفْلَ مِنْ أَيْنَ يُعْطَى؟ فَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ خُمْسِ
الْخُمُسِ، سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَالِي مِمَّا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا
__________
(1) الرَّضْخُ: العطيَّة القليلة.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب قول الله تعالى: "ويوم حنين إذا أعجبتكم
كثرتكم" 8 / 34 - 35، وأخرجه أيضا في الجهاد، وأخرجه مسلم في الجهاد والسير،
باب استحقاق سلب القتيل: (1751): 3 / 1370، والمصنف في شرح السنة: 11 / 105 - 106.
(3) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين: 6
/ 237، ومسلم في الجهاد والسير، باب الأنفال، برقم (1750: 3 / 1369) والمصنف في
شرح السنة: 11 / 112.
(4) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل: 4 / 57، والترمذي
في السير، باب في النفل: 5 / 176، من حديث عبادة، وقال: حديث حسن، وقال: وفي الباب
عن ابن عباس وحبيب بن مسلمة ومعن بن يزيد وابن عمر وسلمة بن الأكوع، وأخرجه ابن
ماجه في النفل برقم (2852): 2 / 951 - 952. قال في الزوائد: إسناده حسن وصححه ابن
حبان برقم (1672) ص (403) من موارد الظمآن، أخرجه سعيد بن منصور في السنن: 2 /
262، والإمام أحمد في المسند: 4 / 160.
الْخُمُسَ
وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ" (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ بَعْدَ إِفْرَازِ الْخُمُسِ
كَسِهَامِ الْغُزَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّفْلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ
الْخُمُسِ كَالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. وَأَمَّا الْفَيْءُ: وَهُوَ مَا أَصَابَهُ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ، بِأَنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ، وَمَالُ الْجِزْيَةِ،
وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ
لِلتِّجَارَةِ، أَوْ يَمُوتُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا
وَارِثَ لَهُ، فَهَذَا كُلُّهُ فَيْءٌ.
وَمَالُ الْفَيْءِ كَانَ خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ
خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ
بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ (2) ثُمَّ قَرَأَ: "وَمَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ"
إِلَى قَوْلِهِ: "قَدِيرٌ" "الْحَشْرِ -6" ، وَكَانَتْ هَذِهِ
خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ
عَلَى أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ
يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، لِلْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ
أُثْبِتَتْ أَسَامِيهِمْ فِي دِيوَانِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ
مَقَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِرْهَابِ الْعَدُوِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَبْدَأُ
بِالْمُقَاتِلَةِ فَيُعْطَوْنَ مِنْهُ كِفَايَتَهُمْ، ثُمَّ بِالْأَهَمِّ
فَالْأَهَمِّ مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَخْمِيسِ الْفَيْءِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
إِلَى أَنَّهُ يُخَمَّسُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْغَنِيمَةِ، عَلَى خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ. وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِلْمَصَالِحِ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ: إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ، بَلْ مَصْرِفُ
جميعه واحد، 149/أ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ:
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَنَا
جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَنَا إِسْحَاقُ الدَّبْرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ
الْحَدَثَانِ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ: "مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه بلفظ أخر: 4
/ 62، والنسائي في الفيء: 7 / 131 - 132، والإمام أحمد في المسند: 4 / 128، 5 /
316، وعزاه في الدر المنثور: 4 / 67 لابن أبي حاتم.
(2) جاء ذلك في روايات صحيحة كثيرة مطولة - ساقها السيوطي في الدر المنثور: 8 /
101 - 103.
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
مُسْلِمٌ
إِلَّا لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"
(1) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الطَّاهِرِيُّ أَنْبَأْنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ
أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الدَّبْرِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أوس بن
الحدثنان قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" حَتَّى بَلَغَ
"عَلِيمٌ حَكِيمٌ" "التَّوْبَةِ -60" فَقَالَ: هَذِهِ
لِهَؤُلَاءِ ثُمَّ قَرَأَ: "وَاعْلَمُوا أَنَمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" حَتَّى بَلَغَ "وَابْنِ السَّبِيلِ"،
ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى" حَتَّى بَلَغَ "لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا" "الْحَشْرُ -7 -9" ثُمَّ
قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، فَلَئِنْ عِشْتُ،
فَلَيُأْتَيَنَّ الرَّاعِي وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نُصِيبَهُ مِنْهَا، لَمْ
يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } قِيلَ: أَرَادَ
"اعْلَمُوا أَنَمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ" يَأْمُرُ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ، فَاقْبَلُوهُ إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللَّهِ { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَنَا عَلَى عَبْدِنَا، يَعْنِي: قَوْلَهُ:
"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ" { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يَعْنِي
يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ { يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ } حِزْبُ اللَّهِ وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } عَلَى نَصْرِكُمْ مَعَ قِلَّتِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ.
{ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى
وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي
الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
{ إِذْ أَنْتُمْ } أَيْ: إِذْ أَنْتُمْ نُزُولٌ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، {
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } أَيْ: بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَدْنَى إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَالدُّنْيَا. تَأْنِيثُ الْأَدْنَى ، { وَهُمْ } يَعْنِي
عَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، { بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى }
__________
(1) أخرجه الشافعي: 2 / 127، وعبد الرزاق في المصنف برقم (20039)، وأبو عبيد في
الأموال ص (243) طبع قطر، ويحيى بن آدم في الخراج ص (42)، والبيهقي: 6 / 347،
وفيه: عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف من السابعة (تقريب). وانظر: إرواء الغليل
للألباني: 5 / 83، كنز العمال: 4 / 525.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (20040) وأبو عبيد، بنحوه، في الأموال ص (25)
و(244) ورواه البخاري مطولا بنحوه في فرض الخمس وفي المغازي وفي التفسير، ومسلم في
الجهاد. وانظر: البيهقي: 6 / 352، شرح السنة: 11 / 131 - 134.
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
بِشَفِيرِ
الْوَادِي الْأَقْصَى مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْقُصْوَى تَأْنِيثُ الْأَقْصَى.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ "بِالْعِدُوَةِ" بِكَسْرِ
الْعَيْنِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْكِسْوَةِ
وَالْكُسْوَةِ وَالرَّشْوَةِ وَالرُّشْوَةِ. { وَالرَّكْبُ } يَعْنِي: الْعِيرَ
يُرِيدُ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، { أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أَيْ: فِي مَوْضِعٍ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ
بَدْرٍ، { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ } وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا لِيَأْخُذُوا الْعِيرَ وَخَرَجَ الْكُفَّارُ
لِيَمْنَعُوهَا، فَالْتَقَوْا عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ تَعَالَى:
"وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ"، لِقِلَّتِكُمْ
وَكَثْرَةِ عَدُوِّكُمْ، { وَلَكِنَّ } اللَّهَ جَمَعَكُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ،
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا } مِنْ نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ
وَإِعْزَازِ دِينِهِ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِ، { لِيَهْلَكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ
بَيِّنَةٍ } أَيْ: لِيَمُوتَ مَنْ يَمُوتُ عَلَى بَيِّنَةٍ رَآهَا وَعِبْرَةٍ
عَايَنَهَا وَحُجَّةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ. { وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ }
وَيَعِيشَ مَنْ يَعِيشُ عَلَى بَيِّنَةٍ لِوَعْدِهِ: "وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" "الْإِسْرَاءُ -15). وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَعْنَاهُ لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ حُجَّةٍ
قَامَتْ عَلَيْهِ، وَيُؤَمِنَ مَنْ آمَنَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ، فَالْهَلَاكُ هُوَ
الْكُفْرُ، وَالْحَيَاةُ هِيَ الْإِيمَانُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لِيُضِلَّ مَنْ ضَلَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَهْدِيَ مَنِ
اهْتَدَى عَلَى بَيِّنَةٍ.
قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو بَكْرٍ ويعقوب: "حيي" ببائين، مِثْلَ
"خَشِيَ" وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ،
لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ.
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ } لِدُعَائِكُمْ، { عَلِيمٌ } بِنِيَّاتِكُمْ.
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا
لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ
أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ } يُرِيكَ يَا مُحَمَّدُ
الْمُشْرِكِينَ، { فِي مَنَامِكَ } أَيْ: نَوْمِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي
مَنَامِكَ أَيْ فِي عَيْنِكَ، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَوْضِعُ النَّوْمِ، { قَلِيلًا
وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ } لَجَبُنْتُمْ { وَلَتَنَازَعْتُمْ }
أَيِ: اخْتَلَفْتُمْ { فِي الْأَمْرِ } أَيْ: فِي الْإِحْجَامِ وَالْإِقْدَامِ، {
وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْفَشَلِ، {
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلِمَ مَا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
فِي
صُدُورِكُمْ مِنَ الْحُبِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا } قَالَ
مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى
فِي الْمَنَامِ أَنَّ الْعَدُوَّ قَلِيلٌ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَخْبَرَ
أَصْحَابَهُ بِمَا رَأَى، فَلَمَّا الْتَقَوْا بِبَدْرٍ قَلَّلَ اللَّهُ
الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ قَلَّلُوا فِي أَعْيُنِنَا
حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ
مِائَةً، فَأَسَرْنَا رَجُلًا فَقُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا.
{ وَيُقَلِّلُكُمْ } يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ { فِي أَعْيُنِهِمْ } قَالَ
السُّدِّيُّ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْعِيرَ قَدِ انْصَرَفَتْ
فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جهل: الآن إذا بَرَزَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟
فَلَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، إِنَّمَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ
أَكَلَةُ جَزُورٍ، فَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَارْبِطُوهُمْ بِالْحِبَالِ -يَقُولُهُ
مِنَ الْقُدْرَةِ الَّتِي فِي نَفْسِهِ -: قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَقَلَّ بعضهم
بعضا ليجترؤا عَلَى الْقِتَالِ، فَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ
الْمُؤْمِنِينَ لِكَيْ لَا يَجْبُنُوا، وَقَلَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ
الْمُشْرِكِينَ لِكَيْ لَا يَهْرَبُوا، { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا } مِنْ
إِعْلَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِعْزَازِ أَهْلِهِ وَإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ. {
كَانَ مَفْعُولًا } كَائِنًا ، { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) }
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً }
أَيْ: جَمَاعَةً كَافِرَةً { فَاثْبُتُوا } لِقِتَالِهِمْ، { وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا } أَيِ: ادْعُوا اللَّهَ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، { لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } أَيْ: كُونُوا عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا } لَا
تَخْتَلِفُوا، { فَتَفْشَلُوا } أَيْ: تَجْبُنُوا وَتَضْعُفُوا، { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
} قَالَ مُجَاهِدٌ: نُصْرَتُكُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَرَاءَتُكُمْ
وَجَدُّكُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: حِدَّتُكُمْ. وَقَالَ النَّضْرُ
بْنُ شُمَيْلٍ: قَوَّتُكُمْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: دَوْلَتُكُمْ. وَالرِّيحُ هَا
هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفَاذِ الْأَمْرِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى الْمُرَادِ، تَقُولُ
الْعَرَبُ: هَبَّتْ رِيحُ فُلَانٍ إِذَا أَقْبَلَ أَمْرُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ.
قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ رِيحُ النَّصْرِ لَمْ يَكُنْ نَصْرٌ قَطُّ
إِلَّا بِرِيحٍ يَبْعَثُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَضْرِبُ وُجُوهَ الْعَدُوِّ.
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا
وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُّورِ" (1) .
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ
انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ
(2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي
النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ:
كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأْتُهُ أن رسول 149/ب
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ
فِيهَا الْعَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ
فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا
أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ
مُنَزِّلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ
وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" (3) .
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ
الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي
أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
}
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بَطَرًا } فَخْرًا وَأَشَرًا، { وَرِئَاءَ النَّاسِ } قَالَ الزَّجَّاجُ:
الْبَطَرُ الطُّغْيَانُ فِي النِّعْمَةِ وَتَرْكُ شُكْرِهَا، وَالرِّيَاءُ:
إِظْهَارُ الْجَمِيلِ لِيُرَى وَإِبْطَانُ الْقَبِيحِ، { وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } نَزَلَتْ فِي
الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَقْبَلُوا إِلَى بَدْرٍ وَلَهُمْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: نصرت بالصبا: 2 / 520، وفي بدء الخلق، والأنبياء، ومسلم في الاستسقاء، باب في
ريح الصبا والدَّبُور برقم (900): 2 / 617، والمصنف في شرح السنة: 4 / 387.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء؟: 4 / 7، والترمذي في
السير، باب ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال: 5 / 238، وقال: حديث حسن
صحيح، والحاكم: 2 / 116، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد في
المسند: 5 / 444 - 445، وعزاه المنذري في مختصر السنن للنسائي.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذا لم يقاتل أول النهار. . . 6 / 130 ، ومسلم في الجهاد والسير، باب كراهية تمني
لقاء العدو (1742) 3 / 1362، والمصنف في شرح السنة: 11 / 38 - 39.
بَغْيٌ
وَفَخْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا
تُجَادِلُكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي
وَعَدْتَنِي"، قَالُوا: لَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ
عِيرَهُ أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا
عِيرَكُمْ فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ، فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:
وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ
مَوَاسِمِ الْعَرَبِ يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ، فَنُقِيمُ بِهَا
ثَلَاثًا فَنَنْحَرُ الْجَزُورَ وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ وَنَسْقِي الْخَمْرَ
وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ فَلَا يَزَالُونَ
يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَوَافَوْهَا فَسُقُوا +كُئُوسَ الْمَنَايَا مَكَانَ
الْخَمْرِ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقِيَانِ، فَنَهَى
اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ وَأَمَرَهُمْ
بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ فِي نَصْرِ دِينِهِ وَمُؤَازَرَةِ نَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } وَكَانَ
تَزْيِينُهُ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعَتْ لِلسَّيْرِ ذَكَرَتِ الَّذِي
بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ مِنَ الْحَرْبِ، فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ
يُثْنِيَهُمْ فَجَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَايَتُهُ،
فَتَبَدَّى لَهُمْ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ، { وَقَالَ }
لَهُمْ { لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ }
أَيْ: مُجِيرٌ لَكُمْ مِنْ كِنَانَةَ، { فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ } أَيِ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ رَأَى إِبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ
عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ } قَالَ
الضَّحَّاكُ: وَلَّى مُدْبِرًا. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: رَجَعَ
الْقَهْقَرَى عَلَى قَفَاهُ هَارِبًا. قال الكلبي: لم الْتَقَوْا كَانَ إِبْلِيسُ
فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صُورَةِ سُرَاقَةَ آخِذًا بِيَدِ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ، فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: أَفِرَارًا مِنْ
غَيْرِ قِتَالٍ؟ فَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ وَانْطَلَقَ وَانْهَزَمَ
النَّاسُ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ قَالُوا هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ سُرَاقَةُ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي هَزَمْتُ
النَّاسَ، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِمَسِيرِكُمْ، حَتَّى بَلَغَنِي
هَزِيمَتَكُمْ! فَقَالُوا: أَمَا أَتَيْتَنَا فِي يَوْمِ كَذَا؟ فَحَلَفَ لَهُمْ.
فَلَمَّا أَسْلَمُوا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الشَّيْطَانَ.
قَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: { وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى
مَا لَا تَرَوْنَ } قَالَ: رَأَى إِبْلِيسُ جِبْرِيلَ مُتَعَجِّرًا بِبُرْدٍ
يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي
يَدِهِ اللِّجَامُ يَقُودُ الْفَرَسَ، مَا رَكِبَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِبْلِيسُ يَقُولُ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ
وَصَدَقَ. وَقَالَ { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } وَكَذَبَ وَاللَّهِ مَا بِهِ مِنْ
مَخَافَةِ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ بِهِ وَلَا مَنَعَةَ
فَأَوْرَدَهُمْ وَأَسْلَمَهُمْ، وَذَلِكَ عَادَةُ عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ
أَطَاعَهُ، إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ وَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُهْلِكَنِي فِيمَنْ يَهْلَكُ.
__________
(1) انظر - فيما سبق - تفسير الآية (7) من السورة، والروايات التي ساقها المصنف
هناك.
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: خَافَ أَنْ يَأْخُذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَعْرِفَ
حَالَهُ فَلَا يُطِيعُوهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَيْ أَعْلَمُ صِدْقَ وَعْدِهِ
لِأَوْلِيَائِهِ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَمْرِهِ.
{ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ
عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَقِيلَ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عِنْدَ
قَوْلِهِ أَخَافُ اللَّهَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عُلَيَّةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
كُرَيْزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما
رؤي الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ
وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَرَى مِنْ
تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ،
إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ"، فَقِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟
قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ
يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ". هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ (1) .
{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ
هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ } شَكٌّ وَنِفَاقٌ، { غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ } يَعْنِي: غَرَّ
الْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ
قَدْ أَسْلَمُوا، وَحَبَسَهُمْ أَقْرِبَاؤُهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا
خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ، أَخْرَجُوهُمْ كُرْهًا، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى
قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ ارْتَابُوا وَارْتَدُّوا، وَقَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ
دِينُهُمْ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا، مِنْهُمْ: قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّانِ،
وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ
أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ الْجُمَحِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أَيْ: وَمَنْ
يُسَلِّمُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَثِقُ بِهِ، { فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ }
قَوِيٌّ يَفْعَلُ بِأَعْدَائِهِ مَا يَشَاءُ، { حَكِيمٌ }
{ وَلَوْ تَرَى } يَا مُحَمَّدُ، { إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ } أَيْ: يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ. اخْتَلَفُوا
فِيهِ، قِيلَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، تَضْرِبُ الْمَلَائِكَةُ وُجُوهَ
الْكُفَّارِ وَأَدْبَارَهُمْ بِسِيَاطِ النَّارِ.
__________
(1) أخرجه مرسلا" الإمام مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب جامع الحج: 1 / 422،
وعبد الرزاق في المصنف : 5 / 17 - 18 والمصنف في شرح السنة: 7 / 158.
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
وَقِيلَ:
أَرَادَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ
يَضْرِبُونَ، { وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَمُجَاهِدٌ: يُرِيدُ أَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَيِيٌ يُكَنِّي. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَقْبَلُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ وُجُوهَهُمْ بالسيوف، وإذا ولو
أَدْرَكَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُرِيدُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمْ وَمَا أَدْبَرَ، أَيْ:
يَضْرِبُونَ أَجْسَادَهُمْ كُلَّهَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّوَفِّي: الْقَتْلُ. {
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } أَيْ: وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ذُوقُوا
عَذَابَ الْحَرِيقِ. وَقِيلَ: كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
يَضْرِبُونَ بِهَا الْكُفَّارَ، فَتَلْتَهِبُ النَّارُ فِي جِرَاحَاتِهِمْ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ". وَقَالَ
الْحَسَنُ: هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: ذُوقُوا
عَذَابَ الْحَرِيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَقُولُونَ
لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) }
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
{
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ
كَانُوا ظَالِمِينَ (54) }
{ ذَلِكَ } أَيْ: ذَلِكَ الضَّرْبُ الَّذِي وَقَعَ بِكُمْ، { بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيَكُمْ } أَيْ: بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ وَصَنِيعِهِمْ
وَعَادَتِهِمْ، مَعْنَاهُ: أَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ فِي كُفْرِهِمْ كَعَادَةِ آلِ
فِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أَيْقَنُوا أَنَّ
مُوسَى نَبِيٌّ مِنَ اللَّهِ فَكَذَّبُوهُ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ جَاءَهُمْ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ فَكَذَّبُوهُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ عُقُوبَةً كَمَا أَنْزَلَ بآل فرعون. 150/أ {
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أَيْ: { كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } أَرَادَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا
يُغَيِّرُ مَا أَنْعَمَ عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا هُمْ مَا بِهِمْ،
بِالْكُفْرَانِ وَتَرْكِ الشُّكْرِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ غَيَّرَ اللَّهُ مَا
بِهِمْ، فَسَلَبَهُمُ النِّعْمَةَ.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
وَقَالَ
السُّدِّيُّ: نِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْعَمَ
اللَّهُ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ، فَكَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ
فَنَقَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَنْصَارِ، { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } كَصُنْعِ آلِ فِرْعَوْنَ، { وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ } مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ، { كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أَهْلَكْنَا بَعْضَهُمْ بِالرَّجْفَةِ
وَبَعْضَهُمْ بِالْخَسْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْمَسْخِ وَبَعْضَهُمْ بِالرِّيحِ
وَبَعْضَهُمْ بِالْغَرَقِ، فَكَذَلِكَ أَهْلَكْنَا كَفَّارَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ،
لَمَّا كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ
كَانُوا ظَالِمِينَ } يَعْنِي: الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي
كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا
تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) }
{ إِنَّ شَرَ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ،
مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ.
{ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ } يَعْنِي عَاهَدْتَهُمْ وَقِيلَ: أَيْ: عَاهَدْتَ
مَعَهُمْ. وَقِيلَ أَدْخَلَ "مَنْ" لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَخَذْتَ
مِنْهُمُ الْعَهْدَ، { ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } وَهُمْ
بَنُو قُرَيْظَةَ، نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ
بِالسِّلَاحِ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالُوا: نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا فَعَاهَدَهُمُ الثَّانِيَةَ،
فَنَقَضُوا الْعَهْدَ +وَمَالَئُوا الْكُفَّارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَرَكِبَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ
إِلَى مَكَّةَ، فَوَافَقَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ } لَا يَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى
فِي نَقْضِ الْعَهْدِ.
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ } تَجِدَنَّهُمْ، { فِي الْحَرْبِ } قَالَ مُقَاتِلٌ:
إِنْ أَدْرَكْتَهُمْ فِي الْحَرْبِ وَأَسَرْتَهُمْ، { فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَكِّلْ بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ. وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْذِرْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. وَأَصْلُ التَّشْرِيدَ:
التَّفْرِيقُ وَالتَّبْدِيدُ، مَعْنَاهُ فَرِّقْ بِهِمْ جَمْعَ كَلِّ نَاقِضٍ،
أَيْ: افْعَلْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَجَاءُوا لِحَرْبِكَ
فِعْلًا مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّنْكِيلِ، يَفْرَقُ مِنْكَ وَيَخَافُكَ مَنْ
خَلْفَهُمْ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
يَتَذَكَّرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ فَلَا يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ.
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{
وَإِمَّا تَخَافَنَّ } أَيْ: تَعْلَمَنَّ يَا مُحَمَّدُ، { مِنْ قَوْمٍ }
مُعَاهَدِينَ، { خِيَانَةً } نَقْضَ عَهْدٍ بِمَا يَظْهَرُ لَكُمْ مِنْهُمْ آثَارِ
الْغَدْرِ كَمَا ظَهَرَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ }
فَاطْرَحْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، { عَلَى سَوَاءٍ } يَقُولُ: أَعْلِمْهُمْ قَبْلَ
حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ
حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ سَوَاءً، فَلَا
[يَتَوَهَّمُوا] (1) أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ، {
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ }
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَا أَبُو سَهْلٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ طَرَفَةَ السِّجْزِيُّ، أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ
الْخَطَّابِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ دَاسَةَ التَّمَّارُ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ
بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ،
ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْفَيْضِ عَنْ [سُلَيْمِ] (2) بْنِ عَامِرٍ عَنْ
رَجُلٍ مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ،
وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ،
فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ،
وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ
عَهْدٌ فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ
يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ". فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ (3) .
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا }
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ
"يَحْسَبَنَّ" بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ،
"سَبَقُوا" أَيْ: فَأَتَوْا، نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ
بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ يَقُولُ "لَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" أَنْفُسَهُمْ سَابِقِينَ فَائِتِينَ فِي
عَذَابِنَا، وَمَنْ قَرَأَ
__________
(1) في "ب": (فلا يتوهموا).
(2) في "ب": (سليمان).
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو، فيسير إليه: 4
/ 63 - 64، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر: 5 / 203 - 204 ، وقال: هذا
حديث حسن صحيح، وابن حبان ص (405) من موارد الظمآن، والإمام أحمد في المسند: 4 /
113، وعزاه المنذري أيضا للنسائي.
بِالتَّاءِ
فَعَلَى الْخِطَابِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: { أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ }
بِفَتْحِ الْأَلِفِ، أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، وَلَا يَفُوتُونَنِي.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }
الْإِعْدَادُ: اتِّخَاذُ الشَّيْءِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ. { مِنْ قُوَّةٍ } أَيْ:
مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً عَلَيْهِمْ من الخيل والسلاك.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ ثَنَا هَارُونُ
بْنُ مَعْرُوفٍ ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ
أَبِي عَلِيٍّ، ثُمَامَةَ بْنِ شُفَى أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ،
وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ
الْقُوَّةَ الرَّمْيُ" (1) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ "سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ حَمْزَةَ
بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا:
"إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانَيُّ، ثَنَا حُمَيْدُ
بْنُ زَنْجَوَيْهِ، ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، ثَنَا هِشَامُ
الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ
مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: حَاصَرْنَا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَسَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ بَلَغَ
بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ" ، قَالَ:
فَبَلَغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَهُوَ عِدْلُ مُحَرَّرٍ" (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الرمي، برقم (1917): 3 / 1522.
(2) أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الرمي، برقم (1917): 3 / 1522.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب التحريض على الرمي: 6 / 91، والمصنف في شرح
السنة: 11 / 61.
(4) أخرجه أبو داود في العتق، باب أي الرقاب أفضل: 5 / 425، والترمذي في فضائل
الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي: 5 / 267 - 268، وقال: هذا حديث حسن صحيح،
والنسائي في الجهاد، باب فضل من رمى بسهم: 6 / 27، والحاكم: 2 / 121، وقال: هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد في المسند: 4 / 386،
والمصنف في شرح السنة: 1 / 383.
أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشْرَانَ، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ،
ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْأَزْرَقِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ
يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ الْجَنَّةَ ثَلَاثَةً: صَانِعَهُ، وَالْمُمِدَّ
بِهِ، وَالرَّامِيَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (1) .
وَرُوِيَ عَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ
بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْجَنَّةِ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ
فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ وَمُنْبِلَهُ، وَارْمُوا
وَارْكَبُوا، وَإِنْ ترموا أحب 150/ب إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، كُلُّ شَيْءٍ
يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ
فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ. وَمَنْ تَرَكَ
الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ تَرَكَهَا أَوْ
قَالَ كَفَرَهَا" (2) .
قَوْلُهُ: { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } يَعْنِي: رَبْطُهَا وَاقْتِنَاؤُهَا
لِلْغَزْوِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْقُوَّةُ الْحُصُونُ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
الْإِنَاثُ. وَرُوِيَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرْكَبُ
فِي الْقِتَالِ إِلَّا الْإِنَاثَ لِقِلَّةِ صَهِيلِهَا. وَعَنْ أَبِي مُحَيْرِيزٍ
قَالَ: كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَسْتَحِبُّونَ ذُكُورَ
الْخَيْلِ عِنْدَ الصُّفُوفِ وَإِنَاثَ الْخَيْلِ عِنْدَ الْبَيَاتِ
وَالْغَارَاتِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ
عَامِرٍ، ثَنَا عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا
طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا
وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ، وَرِيَّهُ، وَرَوْثَهُ، وَبَوْلَهُ
فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (4) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (19522)، وأحمد في المسند: 4 / 154، وعبد
الله بن زيد الأزرق لم يوثقه غير ابن حبان. وذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا
ولا تعديلا.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب في الرمي: 3 / 370، والترمذي في فضائل الجهاد،
باب ما جاء في فضل الرمي: 5 / 265 - 266، وقال: هذا حديث حسن. (دون قوله: ومن ترك
الرمي). والنسائي في الخيل، باب تأديب الرجل فرسه: 6 / 222 - 223، وابن ماجه في
الجهاد، باب الرمي في سبيل الله (2811): 2 / 940 بلفظ الترمذي وصححه الحاكم: 2 /
95 ووافقه الذهبي. والإمام أحمد: 4 / 144.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب الجهاد ماض مع البر والفاجر: 6 / 56، ومسلم في
الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: (1872): 3 / 1493، والمصنف
في شرح السنة: 10 / 385.
(4) أخرجه البخاري في الجهاد، باب من احتبس فرسا: 6 / 57، والمصنف في شرح السنة:
10 / 388.
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
أَخْبَرَنَا
أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ
أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ
أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ
رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيلِهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ
كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ
شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ،
وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ
يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ،
وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا،
ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ
سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا
وَرِيَاءً، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ"
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ
فَقَالَ: "مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ
الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" (1) { تُرْهِبُونَ
بِهِ } تُخَوِّفُونَ { عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ } أَيْ:
وَتُرْهِبُونَ آخَرِينَ، { مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ فَارِسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ:
هُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَعْلَمُونَهُمْ، لِأَنَّهُمْ مَعَكُمْ يَقُولُونَ: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: هُمْ كُفَّارُ الْجِنِّ.
{ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ }
يُوَفَّى لَكُمْ أَجْرُهُ، { وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } لَا تَنْقُصُ
أُجُورُكُمْ.
{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) }
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب الخيل لثلاثة. . . : 6 / 63 - 64، وفي الشرب
والأنبياء والتفسير والاعتصام، ومسلم في الزكاة بأطول من هذا - باب إثم مانع
الزكاة (987): 2 / 680 - 682، والمصنف في شرح السنة: 6 / 24.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ } أَيْ: مَالُوا إِلَى
الصُّلْحِ، { فَاجْنَحْ لَهَا } أَيْ: مِلْ إِلَيْهَا وَصَالِحْهُمْ. رُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ (1) بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 10 / 34 (طبع الحلبي) ثم قال عنه إنه "قول لا
دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا -
التفسير - وغيره، وعلى أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما
ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا، وقول الله في براءة "فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم" غير ناف حكمه حكم قوله: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" لأن
قوله: "وإن جنحوا للسلم" إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهودا أهل كتاب،
وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب، ومتاركتهم الحرب، على أخذ الجزية
منهم. وأما قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" فإنما عني به مشركي
العرب من عبدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس في إحدى الآيتين نفي
حكم الأخرى. بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه".
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
وَجَدْتُمُوهُمْ"
"بَرَاءَةٌ -5" { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ! ثُمَّ بِاللَّهِ، {
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
{ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ } يَغْدِرُوا وَيَمْكُرُوا بِكَ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ. { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } كَافِيكَ
اللَّهُ، { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } أَيْ:
بِالْأَنْصَارِ.
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أَيْ: بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَانَتْ
بَيْنَهُمْ إِحَنٌ وَثَارَاتٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَصَيَّرَهُمُ اللَّهُ
إِخْوَانًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَاءً، { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا
وَسِتُّ نِسْوَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَتَمَّ بِهِ
الْأَرْبَعُونَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ "مَنِ" فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ
مَحَلُّهُ خَفْضٌ، عَطْفًا عَلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: "حَسْبُكَ
اللَّهُ" وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَفْعٌ عَطْفًا
عَلَى اسْمِ اللَّهِ مَعْنَاهُ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمُتَّبِعُوكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ.
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ } أَيْ: حُثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ.
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (273).
{
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ } رَجُلًا { صَابِرُونَ } مُحْتَسِبُونَ، {
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } مِنْ عَدُوِّهِمْ يَقْهَرُوهُمْ، { وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ } صَابِرَةٌ مُحْتَسِبَةٌ، { يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا } ذَلِكَ { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } أي: إن المشركون
يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ احْتِسَابٍ وَلَا طَلَبِ ثَوَابٍ، وَلَا يَثْبُتُونَ إِذَا
صَدَقْتُمُوهُمُ الْقِتَالَ، خَشْيَةَ أَنْ يُقْتَلُوا. وَهَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى
الْأَمْرِ، وَكَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ
الْوَاحِدِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَ عَشَرَةٍ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَثَقُلَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَنَزَلَ:
{ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } أَيْ:
ضَعْفًا فِي الْوَاحِدِ عَنْ قِتَالِ الْعَشَرَةِ وَفِي الْمِائَةِ عَنْ قِتَالِ
الْأَلِفِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "ضُعَفَاءَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ
وَالْمَدِّ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، { فَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } مِنَ الْكُفَّارِ، {
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ } فَرَدَّ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الِاثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ
يَفِرُّوا.
وَقَالَ سُفْيَانُ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: وَأَرَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا .
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ"،
بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَافَقَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي الْأَوَّلِ وَالْبَاقُونَ
بِالتَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ "ضُعَفَاءَ" بِفَتْحِ
الضَّادِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الرُّومِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } قَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "تَكُونَ" بِالتَّاءِ
وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "أَسَارَى"،
وَالْآخَرُونَ. "أَسْرَى".
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ
وَجِيءَ بِالْأَسْرَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ"؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ +وَاسْتَأْنِ بِهِمْ،
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً، تَكُونُ
لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ قَدِّمْهُمْ نَضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، مَكِّنْ
عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبٍ
لِعُمَرَ -فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أئمة الكفر، 151/أ وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ
الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَارًا. فَقَالَ لَهُ
الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ
بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ:
يَأْخُذُ بِقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ
رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ
حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ
مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"
"إِبْرَاهِيمُ
-36"، وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى حَيْثُ قَالَ: "إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" "الْمَائِدَةُ -118"، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا
عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ حَيْثُ قَالَ: "رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا" "نُوحٌ -26"، وَمَثَلُ مُوسَى قَالَ:
"رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ"
"يُونُسُ -88"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَلَا يُفْلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ
إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن مَسْعُودٍ
إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ،
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُنِي
فِي يَوْمٍ أَخَوَفَ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ
ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ" (1) . قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا
كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ [يَبْكِيَانِ] (2) قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ
وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ
لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ
عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، لِشَجَرَةٍ
قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" إِلَى قَوْلِهِ: "فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ
حَلَالًا طَيِّبًا" "الْأَنْفَالُ 67 -69" فَأَحَلَّ اللَّهُ
الْغَنِيمَةَ لَهُمْ (3) . بِقَوْلِهِ: "لَهُ أَسْرَى" جَمْعُ أَسِيرٍ
مِثْلَ قَتْلَى وَقَتِيلٍ.
قَوْلُهُ: { حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: يُبَالِغُ فِي قِتَالِ
الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِهِمْ، { تُرِيدُونَ } أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ { عَرَضَ
الدُّنْيَا } بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ، { وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } يُرِيدُ
لَكُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِقَهْرِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَنَصْرِ دِينِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
وَكَانَ الْفِدَاءُ لِكُلِّ أَسِيرٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ
يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ
فِي الْأَسَارَى "فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً"،
"مُحَمَّدٌ -4" فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْأَسَارَى بِالْخِيَارِ
إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ وإن شاءوا استبعدوهم ، وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة الأنفال: 8 / 476، وقال: هذا حديث حسن.
وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه (فهو منقطع)، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 14 / 370
- 372، ومن طريقه: البيهقي في السنن: 6 / 321، وأخرجه أبو عبيد في الأموال ص (135)
(طبع قطر). وصححه الحاكم: 3 / 21 - 22، ووافقه الذهبي، والطبري: 10 / 43 (طبع
الحلبي) والواحدي ص (274)، وانظر: مجمع الزوائد: 6 / 86 - 87. وفي رواية الطبري:
ومثلك يا بن رواحة كمثل موسى. . .
(2) زيادة من "ب".
(3) الطبري: 10 / 44 (طبع الحلبي).
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
وَإِنْ
شَاءُوا أَعْتَقُوهُمْ (1) .
{ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْغَنَائِمُ حَرَامًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ
فَكَانُوا إِذَا أَصَابُوا شَيْئًا مِنَ الغَنَائِمِ [جَعَلُوهُ] (2)
لِلْقُرْبَانِ، فَكَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ، فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْغَنَائِمِ وَأَخَذُوا
الْفِدَاءَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ" (3) يَعْنِي لَوْلَا قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِأَنَّهُ يُحِلُّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ
قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، وَأَنَّهُ
لَا يَأْخُذُ قَوْمًا فَعَلُوا أَشْيَاءَ بجهالة (5) { لَمَسَّكُمْ } لنا لكم
وَأَصَابَكُمْ، { فِيمَا أَخَذْتُمْ } مِنَ الْفِدَاءِ قَبْلَ أَنْ تُؤْمَرُوا
بِهِ، { عَذَابٌ عَظِيمٌ }
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَحْضَرَ
إِلَّا حَبَّ الْغَنَائِمَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَإِنَّهُ أَشَارَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْأَسْرَى،
وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي
الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنِ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ
مَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ" (6)
.
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا
نَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى كَفَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْدِيَهُمْ عَمَّا أَخَذُوا مِنَ الْفِدَاءِ فَنَزَلَ: {
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ }
__________
(1) عزاه السيوطي لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن
مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما. (الدر المنثور: 4 / 108).
(2) في "أ"" (كان).
(3) عزاه السيوطي لابن مردويه. (الدر: 4 / 111).
(4) انظر: الطبري: 10 / 47.
(5) انظر: الطبري: 10 / 47.
(6) أخرجه الطبري: 14 / 71. قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" ص
(71) : "ورواه الواقدي في المغازي من وجه آخر منقطع، بمعناه، وروى ابن مردويه
من حديث ابن عمر رفعه: "لو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب"،
وانظر: الأموال لأبي عبيد ص (136 - 137).
الْآيَةَ.
وَرَوَيْنَا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَ
لِأَحَدٍ قَبْلِي" (1) .
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَنَا أَبُو طَاهِرٍ
الزِّيَادِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، ثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامٍ، ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَمْ
تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى
ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا". (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم: 1 / 435 - 436، وفي المساجد، والجهاد، ومسلم في
المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521): 1 / 370 - 371 ، والمصنف في شرح السنة: 13 /
196.
(2) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب "لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا. . .
" 6 / 220، ومسلم مطولا، واللفظ له، في الجهاد، باب تحليل الغنائم. . .
(1747): 3 / 1366 - 1367.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أَخَذَ
مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ
الْأَسْرَى } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ: "مِنَ
الْأَسَارَى" بِالْأَلِفِ، وَالْبَاقُونَ بِلَا أَلِفٍ.
نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَكَأَنَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ ضَمِنُوا
طَعَامَ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ يَوْمَ بَدْرٍ نَوْبَتُهُ ، وَكَانَ خَرَجَ
بِعِشْرِينَ أُوقِيَّةً مِنَ الذَّهَبِ لِيُطْعِمَ بِهَا النَّاسَ، فَأَرَادَ أَنْ
يُطْعِمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَاقْتَتَلُوا [وَبَقِيَتْ] (1) الْعِشْرُونَ أُوقِيَّةً
مَعَهُ، فَأُخِذَتْ مِنْهُ فِي الْحَرْبِ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْتَسِبَ الْعِشْرِينَ أُوقِيَّةً مِنْ فِدَائِهِ
فَأَبَى وَقَالَ: "أَمَّا شَيْءٌ خَرَجْتَ تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْنَا فَلَا
أَتْرُكُهُ لَكَ" وَكُلِّفَ فَدَاءَ ابْنَيْ أَخِيهِ عَقِيلَ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا مُحَمَّدُ
تَرَكْتَنِي أَتَكَفُّفُ قُرَيْشًا مَا بَقِيتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إِلَى
أُمِّ الْفَضْلِ وَقْتَ خُرُوجِكَ مِنْ مَكَّةَ وَقُلْتَ لَهَا: إِنِّي لَا
أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي هَذَا، فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَهُوَ لَكِ
وَلِعَبْدِ اللَّهِ وَلِعُبَيْدِ اللَّهِ وَلِلْفَضْلِ وقثم"، يعني نبيه،
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ، قَالَ الْعَبَّاسُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ! وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى" الَّذِينَ أَخَذْتَ
مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، { إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا } أَيْ
إِيمَانًا، { يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ } مِنَ الْفِدَاءِ، { وَيَغْفِرْ
لَكُمْ }
__________
(1) ساقط من "ب".
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
ذُنُوبَكُمْ
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [قَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (1)
فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ عَنْهَا عشرين عبدا 151/ب كُلُّهُمْ تَاجِرٌ يَضْرِبُ
بِمَالٍ كَثِيرٍ وَأَدْنَاهُمْ يَضْرِبُ بِعِشْرِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَكَانَ
عِشْرِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطَانِي زَمْزَمَ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا
جَمِيعَ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ } يَعْنِي الْأَسَارَى، {
فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } بِبَدْرٍ، { وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ بِالْخِيَانَةِ الْكُفْرَ، أَيْ:
إِنْ كَفَرُوا بِكَ فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنُ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنِينَ بِبَدْرٍ حَتَّى قَتَلُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ
لَهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُعَادَاتِهِمْ.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا } أَيْ: هَجَرُوا
قَوْمَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ. { وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا } رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ، أَيْ:
أَسْكَنُوهُمْ مَنَازِلَهُمْ، { وَنَصَرُوا } أَيْ: وَنَصَرُوهُمْ عَلَى
أَعْدَائِهِمْ وَهُمُ الْأَنْصَارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، { أُولَئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } دُونَ أَقْرِبَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. قِيلَ:
فِي الْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْمِيرَاثِ وَكَانُوا
يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
يَتَوَارَثُونَ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَكَانَ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ
لَا يَرِثُ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُهَاجِرِ حَتَّى كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ
وَانْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ، وَتَوَارَثُوا بِالْأَرْحَامِ حَيْثُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي ص (276)، والطبري: 14 / 73، والحاكم
في المستدرك: 3 / 324 عن عائشة وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، قال الهيثمي
في مجمع الزوائد: 7 / 28: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجال
الأوسط رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع وفي الصحيح بعضه" وانظر:
الكافي الشاف ص (71).
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
مَا
كَانُوا، وَصَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (1) "وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ"
"الْأَحْزَابُ -6" { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } يَعْنِي الْمِيرَاثَ، { حَتَّى يُهَاجِرُوا }
قرأ حمزة: "ولا يتهم" بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ،
وَهُمَا وَاحِدٌ كَالدِّلَالَةِ وَالدَّلَالَةِ. { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ } أَيِ: اسْتَنْصَرَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، {
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ }
عَهْدٌ فَلَا تَنْصُرُوهُمْ عَلَيْهِمْ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } فِي الْعَوْنِ
وَالنُّصْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْمِيرَاثِ، أَيْ: يَرِثُ
الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، { إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا تَأْخُذُوا فِي الْمِيرَاثِ بِمَا
أَمَرْتُكُمْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِلَّا تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَهْلَ
وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: { إِلَّا تَفْعَلُوهُ } وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى
الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ } فَالْفِتْنَةُ فِي الْأَرْضِ قُوَّةُ الْكُفْرِ، وَالْفَسَادُ
الْكَبِيرُ ضَعْفُ الْإِسْلَامِ.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } لَا مِرْيَةَ وَلَا
رَيْبَ فِي إِيمَانِهِمْ. قِيلَ: حَقَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْهِجْرَةِ
وَالْجِهَادِ وَبَذْلِ الْمَالَ فِي الدِّينِ، { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ } فِي الْجَنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ مَعْنَى فِي تَكْرَارِ هَذِهِ
الْآيَةِ؟ قِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ كَانُوا عَلَى طَبَقَاتٍ: فَكَانَ بَعْضُهُمْ
أَهْلَ الْهِجْرَةِ الأولى، وهم الذي هَاجَرُوا قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَبَعْضُهُمْ أَهْلُ الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَ
صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ ذَا
هِجْرَتَيْنِ هِجْرَةُ الْحَبَشَةِ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى الْهِجْرَةُ الْأُولَى، وَمِنَ الثَّانِيَةِ
الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
قَوْلُهُ: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } أَيْ: مَعَكُمْ، يُرِيدُ: أَنْتُمْ
__________
(1) انظر : الطبري: 14 / 68 بتحقيق محمود شاكر.
مِنْهُمْ
وَهُوَ مِنْكُمْ، { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وَهَذَا
نَسَخَ التَّوَارُثَ بِالْهِجْرَةِ وَرَدَّ الْمِيرَاثَ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
قَوْلُهُ { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنَ، يَعْنِي: الْقِسْمَةُ الَّتِي
بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
سُورَةُ
التَّوْبَةِ
قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ
السُّورَةِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟
قَالَ: هِيَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: "وَمِنْهُمْ.."،
"وَمِنْهُمْ.." حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ أَحَدًا مِنْهُمْ
إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا، قَالَ: قُلْتُ سُورَةُ الْأَنْفَالِ؟ قَالَ: تِلْكَ سُورَةُ
بَدْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ
(1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ،
أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ
الْجُرْجَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُدَيٍّ
الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا
عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيُّ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ،
حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى
الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةَ، وَهِيَ مِنَ
الْمِئِينِ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ
الطِّوَالِ؟.
فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ، وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ
ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ
يَكْتُبُ عِنْدَهُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي
يُذَكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِمَّا نَزَلَ
بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا
شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ
بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ (2) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: (4 / 120) لأبي عبيد وابن المنذر وابن مردويه،
مختصرا.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب من جهر بها (بسم الله الرحمن الرحيم): 1 / 380،
والترمذي في التفسير: 8 / 477-480، وقال: هذا حديث حسن (وفي نسخة: حسن صحيح) لا
نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، ويزيد الفارسي روى عن ابن
عباس غير حديث، ويقال: هو يزيد بن هرمز. وأخرجه ابن حبان ص (125) من موارد الظمآن،
والحاكم: 2 / 221، 330، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والإمام
أحمد في المسند: 1 / 57، 69. وعزاه ابن كثير للنسائي (تفسير ابن كثير: 4 / 588)
ورواه الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر ص68، 69" بإسناده إلى أبي
داود وحسنه، وقال: رجاله رجال الصحيح إلا يزيد الفارسي، وضعف أحمد شاكر هذا الحديث
في تعليقه على المسند: 1 / 329، وقال: هو حديث ضعيف، بل هو حديث لا أصل له، يدور
في كل رواياته على يزيد الفارسي الذي رواه عن ابن عباس، تفرد به عنه عوف بن أبي
جميلة الأعرابي وهو ثقة. ومن قبل: ضعفه ابن عطية فقال: هذا القول يضعفه النظر أن
يختلف في كتاب الله هكذا. انظر: المحرر الوجيز: 6 / 398. وانظر أيضا: تفسير ابن كثير:
2 / 332، 4 / 106، 588، فضائل القرآن (الملحق بالتفسير) لابن كثير: ص (17-18)، شرح
السنة للبغوي: 4 / 518، والدر المنثور: 4 / 119، فتح القدير للشوكاني: 2 /
331-332.
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ
مِنَ اللَّهِ. وَهِيَ مَصْدَرٌ كَالنَّشَاءَةِ وَالدَّنَاءَةِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ الْأَرَاجِيفَ
وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودًا كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِمَّا
تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً" الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ -58).
قَالَ الزَّجَّاجُ: بَرَاءَةٌ أَيْ: قَدْ بَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ
مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْعُهُودَ وَالْوَفَاءِ لَهُمْ بِهَا إِذَا نَكَثُوا.
{ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الْخِطَابُ مَعَ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي عَاهَدَهُمْ وَعَاقَدَهُمْ، لِأَنَّهُ
عَاهَدَهُمْ وَأَصْحَابُهُ رَاضُونَ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ عَاقَدُوا
وَعَاهَدُوا.
{ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ، أَيْ: قُلْ
لَهُمْ: سِيحُوا، أَيْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ،
آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } أَيْ: غَيْرُ فَائِتِينَ وَلَا
سَابِقِينَ، { وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } أَيْ: مُذِلُّهُمْ
بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّأْجِيلِ وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
بَرِئَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا تَأْجِيلٌ مِنَ الله تعالى 152/أ لِلْمُشْرِكِينَ،
فَمَنْ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ:
رَفَعَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: حَطَّهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ كَانَتْ
مُدَّةُ عَهْدِهِ بِغَيْرِ أَجَلٍ مَحْدُودٍ: حَدَّهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ هُوَ حَرْبٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيُقْتَلُ حَيْثُ أُدْرِكَ
وَيُؤْسَرُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ (1) .
وَابْتِدَاءُ هَذَا الْأَجَلِ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَانْقِضَاؤُهُ إِلَى
عَشْرٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ.
فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَإِنَّمَا أَجَلُهُ انْسِلَاخُ
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ يَوْمًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ:
الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ
وَالْمُحَرَّمُ (2) لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَوَّالٍ، وَالْأَوَّلُ
هُوَ الْأَصْوَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ لِمَنْ كَانَ
لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَأَتَمَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ،
فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا
أَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ". (3) قَالَ الْحَسَنُ: أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: "قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ" فَكَانَ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ
بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَأَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَجَلٌ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، لَا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَبْلَ الْبَرَاءَةِ وَلَا مَنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ عَهْدٌ، فَكَانَ الْأَجَلُ لِجَمِيعِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَحَلَّ
دِمَاءَ جَمِيعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَغَيْرِهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْأَجَلِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ قَبْلَ تَبُوكَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ
مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَاهَدَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى: أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ
سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ
قُرَيْشٍ، ثُمَّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ فَنَالَتْ مِنْهَا،
وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ، فَلَمَّا تَظَاهَرَ بَنُو بَكْرٍ
وَقُرَيْشٌ عَلَى خُزَاعَةَ وَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ، خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ،
حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لا
هُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَبَدًا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا
مَدَدًا
أَبْيَضُ مِثْلُ الشَّمْسِ يَسْمُو صَعِدَا ... إِنْ سِيْمَ خَسْفًا وَجْهُهُ
تَرَبَّدَا
هَمْ بَيَّتُونَا بِالْهَجِيرِ هُجَّدًا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا
كُنْتَ لَنَا أَبَا وَكُنَّا وَلَدًا ... ثَمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ
يَدًا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي
مُزْبِدًا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ
الْمُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تُنْجِي أَحَدًا ... وَهُمْ أُذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدًا
__________
(1) تفسير الطبري: 14 / 96-97.
(2) تفسير الطبري: 14 / 101.
(3) تفسير الطبري: 14 / 102.
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ
أَنْصُرْكُمْ"، وَتَجَهَّزَ إِلَى مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ تِسْعٍ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَحُجَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ يَحْضُرُ الْمُشْرِكُونَ
فَيَطُوفُونَ عُرَاةً، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ تِلْكَ السَّنَةَ أَمِيرًا عَلَى
الْمَوْسِمِ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً
مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ، ثُمَّ بَعَثَ
بَعْدَهُ عَلِيًّا، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ
لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ صَدْرَ بَرَاءَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِمَكَّةَ
وَمِنًى وَعَرَفَةَ: أَنْ قَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَلَا يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي
أَنَزَلَ فِي شَأْنِي شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ
يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي، أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ
أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ؟ قَالَ:
بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَعَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ
التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ وَحَدَّثَهُمْ عَنْ
مَنَاسِكِهِمْ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَالْعَرَبُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ
عَلَى مَنَازِلِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ
الْحَجِّ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ،
وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةَ (1) .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ يُثَيْعٍ (2) سَأَلْنَا عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي
تِلْكَ الْحَجَّةِ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ
عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ
فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 2 / 394-396، 545-546، تفسير الطبري: 14 / 96-97.
(2) زيد بن يُثَيْع - بضم التحتانية، وقد تبدل همزة، بعدها مثلثة ثم تحتانية ساكنة
ثم مهملة، الهمداني الكوفي - ثقة، مخضرم - من الثانية (التقريب) وفي الأصل كانت
"تبيع".
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
أَشْهُرٍ،
وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ
الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (1) .
ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ حَجَّةَ
الْوَدَاعِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عَزَلَهُ وَبَعَثَ عَلِيًّا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟.
قُلْنَا: ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَعْزِلْ أَبَا بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ هُوَ الْأَمِيرَ، وَإِنَّمَا بَعَثَ عَلِيًّا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُنَادِيَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ:
أَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي عَقْدِ الْعُهُودِ
وَنَقْضِهَا، أَنْ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ إِلَّا سَيِّدُهُمْ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ
رَهْطِهِ، فَبَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ،
لِئَلَّا يَقُولُوا: هَذَا خِلَافُ مَا نَعْرِفُهُ فَيُنَافِي نَقْضَ الْعَهْدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ هُوَ
الْأَمِيرَ: مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عَمِّهِ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي
مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ
الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: أَلَا
لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (2) .
{ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَذَانٌ } عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
"بَرَاءَةٌ" أَيْ: إِعْلَامٌ. وَمِنْهُ الْأَذَانُ بِالصَّلَاةِ،
يُقَالُ: آذَنْتُهُ فَأَذِنَ، أَيْ: أَعْلَمْتُهُ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْأُذُنِ،
أَيْ: أَوْقَعْتُهُ فِي أُذُنِهِ.
{ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ }
وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ
__________
(1) تفسير الطبري: 14 / 106، ورواه الترمذي في الحج: 3 / 610، وفي التفسير: 8 /
488 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (4) ورقم (594)
بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. وانظر: فتح الباري: 8 / 319.
(2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب ما يستر من العورة: 1 / 477-478، ومسلم في الحج،
باب لا يحج بالبيت مشرك.. برقم (1347): 2 / 982.
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
وَمُجَاهِدٍ
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ
قَالَ: خَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى بَغْلَةٍ
بَيْضَاءَ، يُرِيدُ الْجَبَّانَةَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ بِلِجَامِ
دَابَّتِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟ فَقَالَ: يَوْمُكَ
هَذَا، خَلِّ سَبِيلَهَا. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
أَوْفَى وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ حِينَ
الْحَجِّ أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا، وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ:
يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ مِنَى كُلُّهَا، مِثْلُ: يَوْمِ صِفِّينَ
وَيَوْمِ الْجَمَلِ وَيَوْمِ بُعَاثَ، يُرَادُ بِهِ: الْحِينُ وَالزَّمَانُ،
لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوبَ دَامَتْ أَيَّامًا كَثِيرَةً .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ: يَوْمُ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ الْيَوْمُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ
حَجُّ الْمُسْلِمِينَ وَعِيدُ الْيَهُودِ والنصارى والمشركين، 152/ب وَلَمْ
يَجْتَمِعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَجُّ
الْأَكْبَرُ: الْقِرَانُ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ: إِفْرَادُ الْحَجِّ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْحَجُّ،
وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ: الْعُمْرَةُ؛ قِيلَ لَهَا الْأَصْغَرُ لِنُقْصَانِ
أَعْمَالِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ }
أَيْ: وَرَسُولُهُ أَيْضًا بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ
"وَرَسُولَهُ" بِنَصْبِ اللَّامِ أَيْ: أَنَّ الله ورسوله برئ، { فَإِنْ
تُبْتُمْ } رَجَعْتُمْ مِنْ كُفْرِكُمْ وَأَخْلَصْتُمُ التَّوْحِيدَ، { فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، {
فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ
شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ
إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) } .
{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ
قَوْلِهِ: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ" إِلَّا مِنْ عَهْدِ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ بَنُو ضَمْرَةَ، حَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ
إِلَى مُدَّتِهِمْ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِمْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ،
وَكَانَ السَّبَبُ
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
فِيهِ:
أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: { ثُمَّ
لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا } مِنْ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ،
{ وَلَمْ يُظَاهِرُوا } لَمْ يُعَاوِنُوا، { عَلَيْكُمْ أَحَدًا } مِنْ
عَدُوِّكُمْ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: "لَمْ يَنْقُضُوكُمْ"
بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ } فَأَوْفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، { إِلَى مُدَّتِهِمْ } إِلَى
أَجَلِهِمُ الَّذِي عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ } .
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ } انْقَضَى وَمَضَى { الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ } قِيلَ: هِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ: رَجَبٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ،
وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ شُهُورُ الْعَهْدِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ
عَهْدٌ فَعَهْدُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ: فَأَجَلُهُ إِلَى
انْقِضَاءِ الْمُحَرَّمِ خَمْسُونَ يَوْمًا، وَقِيلَ لَهَا "حُرُمٌ"
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَّرَّمَ فِيهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دِمَاءَ
الْمُشْرِكِينَ وَالتَّعَرُّضَ لَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْقَدْرُ بَعْضُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَاللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ"؟.
قِيلَ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَدَرُ مُتَّصِلًا بِمَا مَضَى أُطْلِقَ عَلَيْهِ
اسْمُ الْجَمْعِ، وَمَعْنَاهُ: مَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ الَّتِي يَكُونُ
مَعَهَا انْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فِي
الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، { وَخُذُوهُمْ } وَأْسِرُوهُمْ ، { وَاحْصُرُوهُمْ } أَيِ:
احْبِسُوهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُرِيدُ إِنْ تَحَصَّنُوا
فَاحْصُرُوهُمْ، أَيِ: امْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَقِيلَ: امْنَعُوهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ وَالتَّصَرُّفِ فِي بِلَادِ
الْإِسْلَامِ.
{ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أَيْ: عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ، وَالْمَرْصَدُ:
الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرْقُبُ فِيهِ الْعَدُوَّ، مِنْ رَصَدْتُ الشَّيْءَ
أَرْصُدُهُ: إِذَا تَرَقَّبْتُهُ، يُرِيدُ: كُونُوا لَهُمْ رَصْدًا
لِتَأْخُذُوهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهُوا.
وَقِيلَ: اقْعُدُوا لَهُمْ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، حَتَّى لَا يَدْخُلُوهَا.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{
فَإِنْ تَابُوا } مِنَ الشِّرْكِ، { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } يَقُولُ: دَعُوهُمْ فَلْيَتَصَرَّفُوا فِي أَمْصَارِهِمْ
وَيَدْخُلُوا مَكَّةَ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِمَنْ تَابَ، { رَحِيمٌ } بِهِ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ كُلَّ آيَةٍ فِي
الْقُرْآنِ فِيهَا ذِكْرُ الْإِعْرَاضِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْأَعْدَاءِ (1)
.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْلَمُونَ (6) } .
__________
(1) تقدم في مناسبة سابقة أن بعض العلماء رحمهم الله قد توسع في هذه القضية، فجعل
آية السيف ناسخة لكل آية في القرآن فيها أمر بالصبر أو الصفح أو المسالمة، ولا
يسلم لهم ذلك فإنه لا تنافي بينها، وهي من "المنسأ" كما يقول الزركشي
وغيره، وليست من المنسوخ.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } أَيْ:
وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ
بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ، أَيِ: اسْتَأْمَنَكَ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ. { فَأَجِرْهُ } فَأَعِذْهُ وَآمِنْهُ، {
حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ،
{ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أَيْ: إِنْ لَمْ يُسْلِمْ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ،
أَيِ: الْمَوْضِعَ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ وَهُوَ دَارُ قَوْمِهِ، فَإِنْ
قَاتَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِرْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى
وَتَوْحِيدَهُ فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ. قَالَ
الْحَسَنُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ
وَعِنْدَ رَسُولِهِ } هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ، وَمَعْنَاهُ جَحْدٌ، أَيْ:
لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ، وَهُمْ
يَغْدِرُونَ وَيَنْقُضُونَ الْعَهْدَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ
عَاهَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ } أَيْ: عَلَى الْعَهْدِ، {
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا، وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَعَانُوا
بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، فَضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْفَتْحِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَخْتَارُونَ مِنْ
أَمْرِهِمْ: إِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَإِمَّا أَنْ يَلْحَقُوا بأي بلاد شاؤوا،
فَأَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ.
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قَالَ
السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: هُمْ مِنْ قَبَائِلِ بَكْرٍ: بَنُو
خُزَيْمَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ وَبَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو الدَّيْلِ، وَهُمُ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَلَمْ يَكُنْ نَقَضَ الْعَهْدَ إِلَّا قُرَيْشٌ وَبَنُو الدَّيْلِ مِنْ بَنِي
بَكْرٍ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَنْقُضْ وَهُمْ بَنُو
ضَمْرَةَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ
بَعْدَ نَقْضِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَكَيْفَ يَقُولُ
لِشَيْءٍ قَدْ مَضَى: "فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ"؟ وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "إِلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ
شَيْئًا" كَمَا نَقَصَتْكُمْ قُرَيْشٌ، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَدًا كَمَا ظَاهَرَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ } .
{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا
ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ
فَاسِقُونَ (8) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } هَذَا مَرْدُودٌ
عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ
اللَّهِ [كَيْفَ] (1) وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ! { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ
إِلًّا وَلَا ذِمَّةً } قَالَ الْأَخْفَشُ: كَيْفَ لَا تَقْتُلُونَهُمْ وَهُمْ
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَيْ: يَظْفَرُوا بِكُمْ، لَا يَرْقُبُوا: لَا
يَحْفَظُوا؟ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَنْتَظِرُوا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: لَا
يُرَاعُوا فِيكُمْ إِلًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: قَرَابَةً.
وَقَالَ يَمَانُ: رَحِمًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِلُّ الْحِلْفُ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: هُوَ الْعَهْدُ. وَكَذَلِكَ الذِّمَّةُ، إِلَّا أَنَّهُ كَرَّرَ
لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ وَمُجَاهِدٌ: الْإِلُّ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقْرَأُ: "جَبْرَ
إِلِّ" بِالتَّشْدِيدِ، يَعْنِي: "عَبْدَ اللَّهِ". وَفِي
الْخَبَرِ أَنَّ نَاسًا قَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَوْمِ مُسَيْلِمَةَ
الْكَذَّابِ، فَاسْتَقْرَأَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ فَقَرَؤُوا،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ
يَخْرُجْ مِنْ إِلِّ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عِكْرِمَةَ "لَا
يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِيلًا" بِالْيَاءِ، يَعْنِي: اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ. مِثْلَ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَلَا ذِمَّةً أَيْ: عَهْدًا. {
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } أَيْ: يُعْطُونَكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِلَافَ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ، { وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } الْإِيمَانَ، { وَأَكْثَرُهُمْ
فَاسِقُونَ } .
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّهُمْ فَاسِقُونَ فَكَيْفَ قَالَ:
"وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ"؟
__________
(1) ساقط من "ب".
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
قِيلَ:
أَرَادَ بِالْفِسْقِ: نَقْضَ الْعَهْدِ، وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ وَفَّى
بِعَهْدِهِ، وَأَكْثَرُهُمْ نَقَضُوا، فَلِهَذَا قَالَ: "وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ".
{ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا
وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) } .
{ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَقَضُوا
الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَكْلَةٍ أَطْعَمَهُمْ إِيَّاهَا أَبُو سُفْيَانَ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
أَطْعَمَ أبو سفيان 153/أ حُلَفَاءَهُ، { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ } فَمَنَعُوا
النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ أَمَدُّوهُمْ بِالْأَمْوَالِ
لِيُقَوُّوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
{ إِنَّهُمْ سَاءَ } بِئْسَ { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
{ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً } يَقُولُ: لَا تُبْقُوا
عَلَيْهِمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا لَا يُبْقُونَ عَلَيْكُمْ لَوْ
ظَهَرُوا، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } بِنَقْضِ الْعَهْدِ.
{ فَإِنْ تَابُوا } مِنَ الشِّرْكِ، { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ } أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، { فِي الدِّينِ } لَهُمْ مَا
لَكُمَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْكُمْ، { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ } وَنُبَيِّنُ
الْآيَاتِ { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَرَّمَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمَرَتْهُمْ
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ
بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ
أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ
قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا
بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ
لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ
حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ
شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفَتُ أَنَّهُ الْحَقُّ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمَهْدِيِّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَيْمُونِ
بْنِ سِيَاهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا
وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا: فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ
وَذِمَّةُ رَسُولِهِ" (2) .
{ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ (12) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } نَقَضُوا عُهُودَهُمْ، {
مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } عَقْدِهِمْ، يَعْنِي: مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، { وَطَعَنُوا
} قَدَحُوا { فِي دِينِكُمْ } عَابُوهُ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ
إِذَا طَعَنَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا لَا يَبْقَى لَهُ عَهْدٌ، {
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ:
"أَئِمَّةَ" بِهَمْزَتَيْنِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَئِمَّةُ الْكُفْرِ: رُؤُوسُ
الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي جَهْلِ
بْنِ هِشَامٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ،
وَسَائِرِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَهُمُ
الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ (3) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ
فَارِسَ وَالرُّومِ (4) .
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ
يَأْتِ أَهْلُهَا بَعْدُ (5) { إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } أَيْ: لَا
عُهُودَ لَهُمْ، جَمْعُ يَمِينٍ. قَالَ قُطْرُبٌ: لَا وَفَاءَ لَهُمْ بِالْعَهْدِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "لَا إِيمَانَ لَهُمْ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ،
أَيْ: لَا تَصْدِيقَ لَهُمْ وَلَا دِينَ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْأَمَانِ،
أَيْ لَا تُؤَمِّنُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، { لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ } أَيْ: لِكَيْ يَنْتَهُوا عَنِ الطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ
وَالْمُظَاهَرَةِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: عَنِ الْكُفْرِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 13 / 250، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله.. برقم (20): 1 / 51-52.
(2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب فضل استقبال القبلة: 1 / 496.
(3) أخرجه الطبري في التفسير: 14 / 154، وبنحوه مطولا: البخاري: 8 / 322. وانظر:
الدر المنثور: 4 / 136.
(4) في الدر المنثور: عن مجاهد قال أبو سفيان.
(5) انظر: الطبري: 14 / 155-156، فتح الباري: 8 / 323.
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) } .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
} .
ثُمَّ حَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ، فَقَالَ جُلَّ ذِكْرُهُ: { أَلَا
تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } نَقَضُوا عُهُودَهُمْ، وَهُمُ
الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَ الصُّلْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ
عَلَى قِتَالِ خُزَاعَةَ. { وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } مِنْ مَكَّةَ
حِينَ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، { وَهُمْ بَدَءُوكُمْ } بِالْقِتَالِ، {
أَوَّلَ مَرَّةٍ } يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ
سَلِمَ الْعِيرُ: لَا نَنْصَرِفُ حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ أَنَّهُمْ بَدَؤُوا بِقِتَالِ
خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ أَتَخْشَوْنَهُمْ } أَتَخَافُونَهُمْ فَتَتْرُكُونَ قِتَالَهُمْ؟ { فَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ } فِي تَرْكِ قِتَالِهِمْ، { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
.
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } يَقْتُلُهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ، { وَيُخْزِهِمْ } وَيُذِلُّهُمْ بِالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ، {
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ } وَيُبْرِئُ دَاءَ قُلُوبِ
قَوْمٍ، { مُؤْمِنِينَ } مِمَّا كَانُوا يَنَالُونَهُ مِنَ الْأَذَى مِنْهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: أَرَادَ صُدُورَ خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي
بَكْرٍ عليهم، حتى نكؤوا فِيهِمْ فَشَفَى اللَّهُ صُدُورَهُمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } كَرْبَهَا وَوَجْدَهَا بِمَعُونَةِ قُرَيْشٍ
بَكْرًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُسْتَأْنِفًا: { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ } فَيَهْدِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَ بِأَبِي سُفْيَانَ
وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ } وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "ارْفَعُوا السَّيْفَ إِلَّا خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي
بَكْرٍ إِلَى الْعَصْرِ". (1)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 14 / 487، وأبو عبيد في الأموال ص (131).
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
(17) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَمْ حَسِبْتُمْ } أَظَنَنْتُمْ { أَنْ تُتْرَكُوا } قِيلَ:
هَذَا خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ شَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ. فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا فَلَا
تُؤْمَرُوا بِالْجِهَادِ، وَلَا تُمْتَحَنُوا، لِيَظْهَرَ الصَّادِقُ مِنَ
الْكَاذِبِ، { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } وَلَمْ يَرَ اللَّهُ { الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } بِطَانَةً وَأَوْلِيَاءَ يُوَالُونَهُمْ وَيُفْشُونَ
إِلَيْهِمْ أَسْرَارَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلِيجَةٌ خِيَانَةٌ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: خَدِيعَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَوْلِيَاءُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ،
وَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَةٌ. فَوَلِيجَةُ
الرَّجُلِ: مَنْ يَخْتَصُّ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ دُونَ النَّاسِ، يُقَالُ: هُوَ
وَلِيجَتِي، وَهُمْ وَلِيجَتِي لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. { وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ
اللَّهِ } الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ
بَدْرٍ عَيَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ الْقَوْلَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ
تَذْكُرُونَ مَسَاوِيَنَا وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلْكُمْ مَحَاسِنُ؟ فَقَالَ نَعَمْ:
إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ وَنَسَقِي
الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ: "مَا
كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ" (1) أَيْ: مَا
يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ.
أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَنْعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ
إِنَّمَا تُعْمَرُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ كَانَ كَافِرًا بِاللَّهِ
فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْمُرَهَا. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ
الْمُرَادَ مِنْهُ: الْعِمَارَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ بناء المساجد 153/ب
ومُرَمَّمَته عِنْدَ الْخَرَابِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ الْكَافِرُ حَتَّى لَوْ أَوْصَى
بِهِ لَا تُمْتَثَلُ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص (278).
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
الْعِمَارَةَ
ها هنا عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْقُعُودِ فِيهِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُتْرَكُوا فَيَكُونُوا أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "مَسْجِدَ اللَّهِ" عَلَى
التَّوْحِيدِ، وَأَرَادَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
"وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى
"فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: {
مَسَاجِدَ اللَّهِ } بِالْجَمْعِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَيْضًا الْمَسْجِدُ
الْحَرَامُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا قَالَ مَسَاجِدَ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ
الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: رُبَّمَا ذَهَبَتِ الْعَرَبُ
بِالْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ وَبِالْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الرَّجُلَ يَرْكَبُ الْبِرْذَوْنَ فَيَقُولُ: أَخَذْتُ فِي رُكُوبِ الْبَرَاذِينَ؟
وَيُقَالُ: فُلَانٌ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، يُرِيدُ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } أَرَادَ:
وَهُمْ شَاهِدُونَ، فَلَمَّا طُرِحَتْ "وَهُمْ" نَصَبَتَ، قَالَ
الْحَسَنُ: لَمْ يَقُولُوا نَحْنُ كُفَّارٌ، وَلَكِنَّ كَلَامَهُمْ بِالْكُفْرِ
شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ سُجُودُهُمْ لِلْأَصْنَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا
نَصَبُوا أَصْنَامَهُمْ خَارِجَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْقَوَاعِدِ،
وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، كُلَّمَا طَافُوا شَوْطًا سَجَدُوا لِأَصْنَامِهِمْ،
وَلَمْ يَزْدَادُوا بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بُعْدًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ هُوَ أَنَّ
النَّصْرَانِيَّ يُسْأَلُ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا نَصْرَانِيٌّ،
وَالْيَهُودِيُّ يَقُولُ: أَنَا يَهُودِيٌّ، وَيُقَالُ لِلْمُشْرِكِ: مَا دِينُكَ؟
فَيَقُولُ: مُشْرِكٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
} لِأَنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }
.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ
شَاهِدِينَ عَلَى رَسُولِهِمْ بِالْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ بَطْنٍ إِلَّا
وَلَدَتْهُ.
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى
أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) } .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } وَلَمْ يَخَفْ فِي الدِّينِ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَمْ
يَتْرُكْ أَمْرَ اللَّهِ لِخَشْيَةِ غَيْرِهِ، { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَ"عَسَى" مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، أَيْ:
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، وَالْمُهْتَدُونَ هُمُ الْمُتَمَسِّكُونَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ.
أَخْبَرَنَا
أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَوِيُّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الْحِجَازِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَجَّاجِ، الْمَهْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ
الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ" فَإِنَّ
اللَّهَ قَالَ: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ
مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانَيُّ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ
النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ
مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ" (3) .
وَأَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي،
أَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادَيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدَّارَابَجِرْدِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "بَنَى اللَّهُ
لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ" (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة: 7 / 366، وقال: هذا
حديث حسن غريب، وفي تفسير سورة التوبة: 8 / 490 وقال: حسن غريب، وابن ماجه في
المساجد، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، برقم (802): 1 / 263، والدارمي في
الصلاة، باب المحافظة على الصلوات: 1 / 222، وصححه ابن حبان، ص (99) من موارد
الظمآن، والحاكم: 1 / 212، 2 / 232 وتعقبه الذهبي فقال: درّاج كثير المناكير.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 3 / 68، 76 وضعفه الألباني في تعليقه على المشكاة:
1 / 244 وسلسلة الضعيفة: 4 / 178.
(2) أخرجه البخاري في صلاة الجماعة، باب فضل من غدا إلى المسجد أو راح: 2 / 148،
ومسلم في المساجد، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا.. برقم (669): 1 / 463،
والمصنف في شرح السنة: 2 / 352.
(3) أخرجه البخاري في الصلاة، باب من بنى مسجدا: 1 / 544، ومسلم في المساجد، باب
فضل بناء المساجد برقم (533): 1 / 378 بنحوه. والمصنف في شرح السنة: 2 / 347.
(4) انظر: المراجع السابقة نفسها.
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
{
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) }
.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
الْمُعَافِرَيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ
السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ
الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ،
عَنْ أَبِي سَلَامٍ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا
أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ
الْآخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَعْمُرَ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ الْآخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمَا، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا
صَلَّيْتُ دَخَلَتُ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَفَعَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ"، إِلَى قَوْلِهِ: "وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ أُسِرَ
يَوْمَ بَدْرٍ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ
وَالْجِهَادِ، لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَسَقِي
الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ
عِمَارَتَهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقِيَامَهُمْ عَلَى السِّقَايَةِ لَا
يَنْفَعُهُمْ مَعَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ
(2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ،
نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَطَلْحَةَ بْنِ شَيْبَةَ، افْتَخَرُوا فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا
صَاحِبُ الْبَيْتِ بِيَدِي مِفْتَاحُهُ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ
السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ، مَا أَدْرِي مَا
تَقُولُونَ لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ
وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، برقم (1879): 3 / 1499،
والواحدي في أسباب النزول ص (279).
(2) انظر: تفسير الطبري: 14 / 170، أسباب النزول للواحدي ص (279).
(3) أخرجه الطبري: 14 / 171، والواحدي ص (279-280). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في
"منهاج السنة النبوية": (5 / 18-19) من طبعة جامعة الإمام: "هذا
اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، بل ودلالات الكذب عليه ظاهرة. منها:
أن طلحة بن شيبة لا وجود له، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة،
وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح.. وقول علي: "صليت ستة أشهر قبل
الناس" فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر
وخديجة يوما أو نحوه فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر". ؟ .
وَالسِّقَايَةُ:
مَصْدَرٌ كَالرِّعَايَةِ وَالْحِمَايَةِ.
قَوْلُهُ: { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فِيهِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ
الْحَاجَّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟.
وَقِيلَ: السِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ بِمَعْنَى السَّاقِي وَالْعَامِرِ.
وَتَقْدِيرُهُ: أَجَعَلْتُمْ سَاقِيَ الْحَاجَّ وَعَامِرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" أَيْ:
لِلْمُتَّقِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"، عَلَى جَمْعِ السَّاقِي وَالْعَامِرِ.
{ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُهَلَّبٍ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى،
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ من عندها، 154/أ فَقَالَ: اسْقِنِي،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ:
اسْقِنِي، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ
فِيهَا، فَقَالَ: اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ قَالَ:
لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ،
وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ،
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُزَنِيُّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَا لِي أَرَى بَنِي عَمِّكُمْ يَسْقُونَ
الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ؟ أَمِنْ حَاجَةٍ بِكُمْ؟
أَمْ مِنْ بُخْلٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا بِنَا حَاجَةٌ
وَلَا بُخْلٌ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ
نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ، وَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ
وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا، فَلَا نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب سقاية الحاج: 3 / 491.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.. برقم (1316):
2 / 953.
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) } .
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
{
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا
نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً } فَضِيلَةً، { عِنْدِ
اللَّهِ } مِنَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ. { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } النَّاجُونَ من النار.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ
أَوْلِيَاءَ } قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبِلَهَا،
نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ وَطَلْحَةَ وَامْتِنَاعِهِمَا مِنَ الْهِجْرَةِ
(1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: لَمَّا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْهِجْرَةِ
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ،
يَقُولُونَ: نَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنْ لَا تُضَيِّعَنَا. فَيَرِقُّ لَهُمْ
فَيُقِيمُ عَلَيْهِمْ وَيَدَعُ الْهِجْرَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي التِّسْعَةِ الَّذِينَ ارْتَدَوْا عَنِ
الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ وِلَايَتِهِمْ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ } (3) بِطَانَةً وَأَصْدِقَاءَ فَتُفْشُونَ
إِلَيْهِمْ أَسْرَارَكُمْ وَتُؤْثِرُونَ الْمَقَامَ مَعَهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ، {
إِنِ اسْتَحَبُّوا } اخْتَارُوا { الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ }
__________
(1) تفسير الطبري: 14 / 176. وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي
حاتم وأبي الشيخ. انظر: الدر المنثور: 4 / 157.
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص (280)، وعزاه ابن حجر للثعلبي من رواية جويبر
عن الضحاك عن ابن عباس. انظر: الكافي الشاف ص (74).
(3) عزاه ابن حجر للثعلبي. المرجع السابق.
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
فَيُطْلِعُهُمْ
عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُؤَثِرُ الْمُقَامَ مَعَهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ
وَالْجِهَادِ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
لَا يُقْبَلُ الْإِيمَانُ إِلَّا مِنْ مُهَاجِرٍ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ
كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) } .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: { قُلْ } يَا مُحَمَّدُ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ
الْهِجْرَةِ: { إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ
الْآيَةُ الْأَوْلَى قَالَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا: إِنْ نَحْنُ
هَاجَرْنَا ضَاعَتْ أَمْوَالُنَا وَذَهَبَتْ تِجَارَاتُنَا وَخَرِبَتْ دُورُنَا
وَقَطَعْنَا أَرْحَامَنَا، فَنَزَلَ: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } قَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "عَشِيرَاتُكُمْ" بِالْأَلْفِ عَلَى الْجَمْعِ،
وَالْآخَرُونَ بِلَا أَلْفٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ جَمْعَ الْعَشِيرَةِ
عَشَائِرُ { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } اكْتَسَبْتُمُوهَا { وَتِجَارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } أَيْ: تَسْتَطِيبُونَهَا
يَعْنِي الْقُصُورَ وَالْمَنَازِلَ، { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } فَانْتَظَرُوا ، { حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } قَالَ عَطَاءٌ: بِقَضَائِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَمُقَاتِلٌ: بِفَتْحِ مَكَّةَ وَهَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ، { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
} لَا يُوَفِّقُ وَلَا يُرْشِدُ { الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } الْخَارِجِينَ عَنِ
الطَّاعَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ } أَيْ مَشَاهِدَ،
{ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } وَحُنِينٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ.
وَكَانَتْ قِصَّةُ حُنِينٍ عَلَى مَا نَقَلَهُ الرُّوَاةُ (1) أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ وَقَدْ بَقِيَتْ
عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُنِينٍ لِقِتَالِ
هَوَازِنَ وَثَقِيفَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، -عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 2 / 437 وما بعدها، الدر المنثور: 4 / 158 وما بعدها.
وَأَلْفَانِ
مِنَ الطُّلَقَاءِ، قَالَ عَطَاءٌ كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ أَكْثَرَ
مَا كَانُوا قَطُّ، وَالْمُشْرِكُونَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ هَوَازِنَ وَثَقِيفَ،
وَعَلَى هَوَازِنَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، وَعَلَى ثَقِيفَ كِنَانَةُ
بْنُ عَبْدِ ياليل الثَّقَفِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ قَالَ رَجُلٌ
مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقَشٍ: لَنْ
نَغْلِبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ، فَسَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُ، وَوُكِلُوا إِلَى كَلِمَةِ الرَّجُلِ. وَفِي
رِوَايَةٍ: فَلَمْ يَرْضَ اللَّهُ قَوْلَهُ، وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَخَلَّوْا عَنِ
الذَّرَارِيِّ، ثُمَّ نَادَوْا: يَا حُمَاةَ السَّوَادِ اذْكُرُوا الْفَضَائِحَ،
فَتَرَاجَعُوا وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الطُّلَقَاءَ انْجَفَلُوا يَوْمَئِذٍ
بِالنَّاسِ فَلَمَّا انْجَفَلَ الْقَوْمُ هَرَبُوا.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، [أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ] (1) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ
لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: يَا أَبَا عِمَارَةَ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ
: لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ وَهُمْ حُسَّرٌ لَيْسَ
عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ، أَوْ كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لَا يَكَادُ
يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا
مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ
بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ
وَقَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ
صَفَّهُمْ (2) .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ
إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَزَادَ قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ
يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ مِنْهُ (3) .
وَرَوَاهُ زَكَرِيَّا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَزَادَ قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا
إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي
يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين، برقم (1776): 3 / 1400.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب من قال: خذها وأنا ابن فلان.. 6 / 164.
(4) أخرجه مسلم في الموضع السابق: 3 / 1401.
وَرَوَى
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ الْبَرَاءُ: إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا
قَوْمًا رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلَنَا عَلَيْهِمْ،
فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا
بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ
يَفِرَّ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ سَائِرُ النَّاسِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ غَيْرُ: الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ
الْحَارِثِ، وَأَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بن سفيان 154/ب حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
سَرْحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ
عَبَّاسٌ: شَهِدَتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ
فَرْوَةُ بْنُ نَفَّاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ
وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ،
وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ
بِرِكَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ
عَبَّاسُ: نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، فَقَالَ عَبَّاسٌ -وَكَانَ رَجُلًا
صَيِّتًا-فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ:
فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ
عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ:
فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ قَصُرَتِ الدَّعْوَةُ
عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا
إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ: هَذَا حِينُ حَمِيَ الْوَطِيسُ (1) ثُمَّ أَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ
وُجُوهَ الْكَفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، فَذَهَبْتُ
أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ
كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا (2) .
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا قَالَ فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ
قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ
"شَاهَتِ الْوُجُوهُ"، فَمَا خَلَقَ
__________
(1) لم تسمع هذه الكلمة إلا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والوطيس: حفرة تحتفر تحت الأرض، فتوقد فيها النار، ويصغر رأسها، ويخرق فيها خرق
للدخان، ثم يوضع فيها اللحم ويُسَدُّ، ثم يؤتى من الغد واللحم غاب لم يحترق.
ولحمها شواء. وهي مجاز في شدة الحرب.
(2) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1775): 3 / 1398-1399،
والمصنف في شرح السنة: 14 / 31-32.
اللَّهُ
مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَهُ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ،
فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
(1) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَدَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَسُوِّمِينَ (2) .
وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَضَرٍ يُقَالُ لَهُ شَجَرَةُ، قَالَ
لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْقِتَالِ: أَيْنَ الْخَيْلُ الْبُلْقُ وَالرِّجَالُ
الَّذِينَ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، مَا كُنَّا نَرَاكُمْ فِيهِمْ إِلَّا
كَهَيْئَةِ الشَّامَةِ وَمَا كُنَّا قُتِلْنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ؟ فَأَخْبَرُوا
بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تِلْكَ
الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ (3)
قَالَ: اسْتَدْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
حُنَيْنٍ وَأَنَا أُرِيدُ قَتْلَهُ بِطَلْحَةَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُثْمَانَ بْنِ
طَلْحَةَ، وَكَانَا قَدْ قُتِلَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَطَلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فِي نَفْسِي فَالْتَفَتَ إِلَيَّ
وَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا شَيْبَةُ، فَأَرْعَدَتْ
فَرَائِصِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي،
فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَطْلَعَكَ
عَلَى مَا فِي نَفْسِي.
فِلْمًا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، انْطَلَقُوا
حَتَّى أَتَوْا أَوَطَاسَ وَبِهَا عِيَالُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ رَجُلًا مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ وَأَمَّرَهُ
عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَوَطَاسَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا،
وَقُتِلَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ، وَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَسَبَى
الْمُسْلِمُونَ عِيَالَهُمْ، وَهَرَبَ أَمِيرُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
النَّصْرِيُّ، فَأَتَى الطَّائِفَ فَتَحَصَّنَ بِهَا وَأُخِذَ مَالُهُ وَأَهْلُهُ
فِيمَنْ أُخِذَ. وَقُتِلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَبُو عَامِرٍ (4) .
قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمْ أَصَابُوا
يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ آلَافِ سَبْيٍ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الطَّائِفَ فَحَاصَرَهُمْ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الشَّهْرِ،
فَلَمَّا دَخَلَ ذُو الْقِعْدَةِ وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ انْصَرَفَ عَنْهُمْ،
فَأَتَى الْجِعْرَانَةَ فَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ وَقَسَّمَ فِيهَا غَنَائِمَ
حُنَيْنٍ وَأَوْطَاسَ، وَتَأَلَّفَ أُنَاسًا، مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ
حَرْبٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْأَقْرَعُ بْنُ
حَابِسٍ، فَأَعْطَاهُمْ (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الموضع السابق، برقم (1777): 3 / 1402.
(2) عزاه السيوطي لابن أبي حاتم. الدر المنثور: 4 / 161.
(3) انظر: سيرة ابن هشام: 2 / 444.
(4) سيرة ابن هشام: 2 / 449، 453، طبقات ابن سعد: 2 / 151-152.
(5) انظر: إمتاع الأسماع للمقريزي: 1 / 422-423.
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ،
حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -حِينَ أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِي
رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ-فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا
وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟ قَالَ أَنْسٌ: فُحُدِّثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى
الْأَنْصَارَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مَنْ أَدَمٍ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ
أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟
فَقَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ
يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا:
يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي
قُرَيْشًا وَيَتْرُكُ الْأَنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأُعْطِي
رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ
وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ،
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ:
"إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى
تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ عَلَى الْحَوْضِ" (1) .
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: "فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي
عَهْدٍ بِالْكُفْرِ أَتَأَلَّفُهُمْ"، وَقَالَ: "فَاصْبِرُوا حَتَّى
تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ"، قَالُوا:
سَنَصْبِرُ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو
بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجِدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ
مَا أَصَابَهُ النَّاسُ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ
أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ
فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟
كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ: مَا
يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ: لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا،
أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُوا
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا
الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا
أَوْ شِعْبًا لَسَلَكَتْ وَادِيَ
__________
(1) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب ما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يعطي المؤلفة: 6 / 250-251، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم،
برقم (1059): 2 / 733-734.
(2) في رواية مسلم، في الموضع السابق.
الْأَنْصَارِ
وَشِعْبَهُمْ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ
بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ" (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا محمد بن 155/أ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ
بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَعْطَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ
وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ
كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ
مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: فَمَا كَانَ حِصْنٌ
وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْـ ... دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً
(2) .
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ نَاسًا مِنْ هَوَازِنَ أَقْبَلُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَ
ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ خَيْرُ النَّاسِ وَأَبَرُّ
النَّاسِ، وَقَدْ أُخِذَتْ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا وَأَمْوَالُنَا (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ
أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ
جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ مَعِيَ مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ
إِلَيَّ أَصَدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ،
وَإِمَّا الْمَالَ. قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ
جَاؤُوا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ،
فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَطَيِّبَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظٍّ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا
يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا
ذَلِكَ
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة الطائف: 8 / 47، ومسلم في الزكاة، باب
إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، برقم (1061): 2 / 738، والمصنف في شرح السنة:
14 / 34.
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (1060) 2 / 737.
(3) ذكره الثعلبي بغير سند، وذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة في المغازي مطولا.
انظر: الكافي الشاف ص (74)، فتح الباري: 8 / 38.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ
فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ
النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا
وَأَذِنُوا (1) . فَأَنْزَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ: { لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } حَتَّى قُلْتُمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ،
{ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ } كَثْرَتُكُمْ، { شَيْئًا } يَعْنِي أَنَّ الظَّفَرَ
لَا يَكُونُ بِالْكَثْرَةِ، { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ }
أَيَّ بِرَحَبِهَا وَسِعَتِهَا، { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } مُنْهَزِمِينَ.
{ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ
جَزَاءُ الْكَافِرِينَ26 } .
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب قوله تعالى: "ويوم حنين...": 8 /
32-33.
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) } .
{ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ } بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، { سَكِينَتَهُ } يَعْنِي:
الْأَمَنَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنَ السُّكُونِ { عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } يَعْنِي:
الْمَلَائِكَةَ. قِيلَ: لَا لِلْقِتَالِ، وَلَكِنْ لِتَجْبِينِ الْكُفَّارِ
وَتَشْجِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ يُرْوَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُقَاتِلُوا
إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، { وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ
وَسَبْيِ الْعِيَالِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } .
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } فَيَهْدِيهِ
إِلَى الْإِسْلَامِ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ } الْآيَةَ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: نَجَسٌ: قَذَرٌ.
وَقِيلَ: خَبِيثٌ. وَهُوَ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى
وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ، فَأَمَّا النِّجْسُ: بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ
الْجِيمِ، فَلَا يُقَالُ عَلَى الِانْفِرَادِ، إِنَّمَا يُقَالُ: رِجْسٌ نِجْسٌ،
فَإِذَا أُفْرَدَ قِيلَ: نَجِسٌ، بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَأَرَادَ
بِهِ: نَجَاسَةَ الْحُكْمِ لَا نَجَاسَةَ الْعَيْنِ، سُمُّوا نَجَسًا عَلَى
الذَّمِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَمَّاهُمْ نَجَسًا لِأَنَّهُمْ يُجْنِبُونَ فَلَا
يَغْتَسِلُونَ ويُحْدثون فلا يتوضؤون.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } أَرَادَ مَنْعَهُمْ مِنْ
دُخُولِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ فَقَدْ قَرُبُوا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ" [الْإِسْرَاءِ -1]، وَأَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ لِأَنَّهُ أُسَرِيَ
بِهِ مِنْ بَيْتِ أَمِّ هَانِئٍ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ: وَجُمْلَةُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي
حَقِّ الْكُفَّارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: الْحَرَمُ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنَّ يَدْخُلَهُ بِحَالٍ،
ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْتَأْمِنًا، لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا جَاءَ
رَسُولٌ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ
لَا يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، بَلْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ
خَارِجَ الْحَرَمِ. وَجَوَّزَ أَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهَدِ دُخُولَ الْحَرَمِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ: الْحِجَازُ، فَيَجُوزُ
لِلْكَافِرِ دُخُولُهَا بِالْإِذْنِ وَلَكِنْ لَا يُقِيمُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ
مَقَامِ السَّفَرِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا
أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا" (1) . فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْصَى فَقَالَ: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ
مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ" (2) فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ،
وَأَجَّلَ لِمَنْ يَقْدُمُ مِنْهُمْ تَاجِرًا ثَلَاثًا. وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ
مِنْ أَقْصَى عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا
الْعَرْضُ فَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ
الشَّامِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ
يُقِيمَ فِيهَا بِذِمَّةٍ وَأَمَانٍ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ
إِلَّا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: { بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } يَعْنِي: الْعَامَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ، وَنَادَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ بِبَرَاءَةَ، وَهُوَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانَتْ
مَعَايِشُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَ مَكَّةَ
بِالطَّعَامِ وَيَتَجِّرُونَ، فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ خَافُوا
الْفَقْرَ، وَضِيقَ الْعَيْشِ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً } فَقْرًا وَفَاقَةً. يُقَالُ: عَالَ يَعِيلُ عَيْلَةً، { فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، برقم
(1767): 3 / 1388، والمصنف في شرح السنة: 11 / 182.
(2) أخرجه البخاري في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجزية: 6 / 271،
مطولا، ومسلم في الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، برقم (1637) 3 /
1257-1258، والمصنف في شرح السنة: 11 / 180-181.
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قَالَ
عِكْرِمَةُ: فَأَغْنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ
الْمَطَرَ مِدْرَارًا فَكَثُرَ خَيْرُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَسْلَمَ أَهْلُ
جَدَّةَ وَصَنْعَاءَ وَجَرِيشَ مِنَ الْيَمَنِ وَجَلَبُوا الْمِيرَةَ الْكَثِيرَةَ
إِلَى مَكَّةَ فَكَفَاهُمُ اللَّهُ مَا كَانُوا يَخَافُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ
وَقَتَادَةُ: عَوَّضَهُمُ اللَّهُ مِنْهَا الْجِزْيَةَ فَأَغْنَاهُمْ بِهَا.
{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } .
وَذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الرُّومِ، فَغَزَا بَعْدَ نُزُولِهَا
غَزْوَةَ تَبُوكَ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ،
فَصَالَحَهُمْ وَكَانَتْ أَوَّلَ جِزْيَةٍ أَصَابَهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ،
وَأَوَّلَ ذُلٍّ أَصَابَ أهل الكتاب 155/ب بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } فَإِنْ قِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ قِيلَ: لَا يُؤْمِنُونَ كَإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَإِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ،
لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا بِاللَّهِ. { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أَيْ: لَا يَدِينُونَ
الدِّينَ الْحَقَّ، أَضَافَ الِاسْمَ إِلَى الصِّفَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ، أَيْ: لَا يَدِينُونَ دِينَ اللَّهِ، وَدِينُهُ
الْإِسْلَامُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ وَلَا يُطِيعُونَ اللَّهَ
تَعَالَى طَاعَةَ أَهْلِ الْحَقِّ. { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }
يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } وَهِيَ
الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رِقَابِهِمْ، { عَنْ يَدٍ } عَنْ قَهْرٍ وَذُلٍّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَعْطَى شَيْئًا كُرْهًا مِنْ
غَيْرِ طِيبٍ نَفْسٍ: أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعْطُونَهَا
بِأَيْدِيهِمْ وَلَا يُرْسِلُونَ بِهَا عَلَى يَدِ غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ
أَيْ: عَنْ نَقْدٍ لَا نَسِيئَةٍ. وَقِيلَ: عَنْ إِقْرَارٍ بِإِنْعَامِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ }
أَذِلَّاءُ مَقْهُورُونَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ قِيَامٍ،
وَالْقَابِضُ جَالِسٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُوطَأُ
عُنُقُهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِذَا أَعْطَى صُفِعَ فِي قَفَاهُ.
وَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِلِحْيَتِهِ وَيُضْرَبُ فِي لِهْزِمَتَيْهِ.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 4 / 167.
وَقِيلَ:
يُلَبَّبُ وَيُجَرُّ إِلَى مَوْضِعِ الْإِعْطَاءِ بِعُنْفٍ.
وَقِيلَ: إِعْطَاؤُهُ إِيَّاهَا هُوَ الصَّغَارُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّغَارُ هُوَ جَرَيَانُ أَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ.
وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابَيْنِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَرَبًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيِّ وَفِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ
مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى
الْأَدْيَانِ لَا عَلَى الْأَنْسَابِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبَا
كَانُوا أَوْ عَجَمًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ بِحَالٍ،
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ
أَكَيْدِرِ دُوْمَةٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ
غَسَّانَ، وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْيَمَنِ، وَعَامَّتُهُمْ عَرَبٌ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ
الْكُفَّارِ إِلَّا الْمُرْتَدَّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْعُمُومِ،
وَتُؤْخَذُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِيِّ، كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ
مُشْرِكًا، وَتُؤْخَذُ مِنَ الْعَجَمِيِّ كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ: فَاتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى
أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى
شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ
الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة - باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة
والحرب: 6 / 257.
فِي
أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعَتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سُنُّوا بِهِمْ سَنَةَ
أَهْلِ الْكِتَابِ" (1) .
وَفِي امْتِنَاعِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ
الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
رَأْيَ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ] (2) مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ،
وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَجُوسَ: هَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ
يَدْرُسُونَهُ فَأَصْبَحُوا، وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ، فَرُفِعَ مِنْ
بَيْنِ أَظْهُرِهُمْ (3) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ بِخِلَافِ
أَهَّلِ الْكِتَابَيْنِ.
أَمَّا مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ نُظِرَ: إِنْ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ، وَإِنْ
دَخَلُوا فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ
وَذَبَائِحُهُمْ، وَمَنْ شَكَكْنَا فِي أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِيهِ
بَعْدَ النَّسْخِ أَوْ قَبْلَهُ: يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ
الدَّمِ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا
لِلتَّحْرِيمِ، فَمِنْهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ تَنُّوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي
تَغَلِبَ، أَقَرَّهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَقَالَ:
لَا تَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُهُمْ.
وَأَمَّا قَدْرُ الْجِزْيَةِ: فَأَقَلُّهُ دِينَارٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ
مِنْهُ، وَيُقْبَلُ الدِّينَارُ مِنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَالْوَسَطِ لِمَا
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، باب الزكاة: 1 / 278، والشافعي: 2 / 130 (ترتيب
المسند)، وأبو عبيد في الأموال ص (42)، وابن أبي شيبة في المصنف: 3 / 224، والخطيب
في تاريخ بغداد: 10 / 88، والبيهقي في السنن: 9 / 189، والمصنف في شرح السنة: 11 /
169. وقال ابن عبد البر: هذا حديث منقطع، لكن معناه يتصل من وجوه حسان. وانظر: نصب
الراية: 3 / 448-449، مجمع الزوائد: 6 / 13، إرواء الغليل: 5 / 88.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) جاء ذلك في خبر عن علي رضي الله عنه أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 131، وفيه
سعيد بن المرزبان: مجروح. قال يحيى بن سعيد القطان: لا أستحل أروي عنه. وانظر: نصب
الراية: 3 / 449-450.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
بَعَثَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِعَافِرَ (1) .
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
كُلِّ حَالِمٍ، أَيْ بَالِغٍ، دِينَارًا وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْغَنِيِّ
وَالْفَقِيرِ وَالْوَسَطِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى
الصِّبْيَانِ وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَى النِّسْوَانِ، إِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنَ
الْأَحْرَارِ الْعَاقِلِينَ الْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَالِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ مُوسِرٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ،
وَعَلَى كُلِّ مُتَوَسِّطٍ دِينَارَانِ، وَعَلَى كُلِّ فَقِيرٍ دِينَارٌ، وَهُوَ
قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ
النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ: سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ
أَوْفَى، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، فَقَالُوا: كَيْفَ
نَتْبَعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا وَأَنْتَ لَا تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا
ابْنُ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } (2) .
قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ " عُزَيْرٌ "
بِالتَّنْوِينِ وَالْآخَرُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ
وَيُشْبِهُ اسْمًا مُصَغَّرًا، وَمَنْ نَوَّنَ قَالَ: لِأَنَّهُ اسْمٌ خَفِيفٌ،
فَوَجْهُهُ أَنْ يُصْرَفَ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا مِثْلَ نُوحٍ وَهُودٍ
وَلُوطٍ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ التَّنْوِينَ وَقَالَ: لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ
بِمَنْسُوبٍ إِلَى أَبِيهِ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ ابْنُ الْأَمِيرِ
وَزَيْدٌ ابن أختنا، فعزيز مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لَهُ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ مِنَ الْيَهُودِ اسْمُهُ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر: 3 / 257 وقال: هذا حديث
حسن. وأبو داود في الإمارة، باب في أخذ الجزية: 4 / 249، والنسائي في الزكاة: 5 /
25-26، وابن حبان في موارد الظمآن ص (794) والإمام أحمد في المسند: 5 / 230، 233،
وصححه الحاكم: 1 / 398، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 11 / 172.
(2) أخرجه الطبري في التفسير: 14 / 202، وابن إسحاق في السيرة: 1 / 570، وعزاه
السيوطي أيضا مع الرواية الأخرى لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه. الدر
المنثور: 4 / 170-171.
(3) تفسير الطبري: 14 / 201، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج. الدر المنثور: 4 /
171.
وَهُوَ
الَّذِي قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ" "آلِ
عِمْرَانَ -181".
وَرَوَى عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: إِنَّمَا قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
عُزَيْرًا كَانَ فِيهِمْ وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ عِنْدَهُمْ وَالتَّابُوتُ
فِيهِمْ، فَأَضَاعُوا التَّوْرَاةَ وَعَمِلُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَرَفَعَ
اللَّهُ عَنْهُمُ التَّابُوتَ وَأَنْسَاهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَسْخَهَا مِنْ
صُدُورِهِمْ، فَدَعَا اللَّهَ عُزَيْرٌ وَابْتَهَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ
إِلَيْهِ الَّذِي نَسَخَ مِنْ صُدُورِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي مُبْتَهِلًا
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَزَلَ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ فَدَخَلَ جَوْفَهُ فَعَادَتْ
إِلَيْهِ التَّوْرَاةُ فَأَذَّنَ فِي قَوْمِهِ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ قَدْ آتَانِيَ
اللَّهُ التَّوْرَاةَ رَدَّهَا إِلَيَّ! فعلق به 156/أ النَّاسُ يُعَلِّمُهُمْ،
فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ التَّابُوتَ نَزَلَ بَعْدَ
ذَهَابِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَوُا التَّابُوتَ عَرَضُوا مَا كَانَ فِيهِ عَلَى
الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمْ عُزَيْرٌ فَوَجَدُوهُ مِثْلَهُ، فَقَالُوا: مَا
أُوتِيَ عُزَيْرٌ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ بُخْتُنَصَّرَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ، وَكَانَ عُزَيْرٌ إِذْ
ذَاكَ صَغِيرًا فَاسْتَصْغَرَهُ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ بَنُو
إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ
التَّوْرَاةَ بَعَثَ اللَّهُ عُزَيْرًا لِيُجَدِّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ وَتَكُونَ
لَهُمْ آيَةً بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، يُقَالُ: أَتَاهُ مَلَكٌ بِإِنَاءٍ فِيهِ
مَاءٌ فَسَقَاهُ فَمَثُلَتِ التَّوْرَاةُ فِي صَدْرِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ
أَنَا عُزَيْرٌ فَكَذَّبُوهُ وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ فَأَمْلِ
عَلَيْنَا التَّوْرَاةَ، فَكَتَبَهَا لَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنْ
أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّي أَنَّ التَّوْرَاةَ جُعِلَتْ فِي خَابِيَةٍ
وَدُفِنَتْ فِي كَرْمٍ، فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَخْرَجُوهَا، فَعَارَضُوهَا
بِمَا كَتَبَ لَهُمْ عُزَيْرٌ فَلَمْ يَجِدُوهُ غَادَرَ مِنْهَا حَرْفًا،
فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْذِفِ التَّوْرَاةَ فِي قَلْبِ رَجُلٍ إِلَّا
لِأَنَّهُ ابْنُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَكَانَ السَّبَبُ
فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً
بَعْدَمَا رُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ،
وَيَصُومُونَ رَمَضَانَ، حَتَّى وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ
حَرْبٌ، وَكَانَ فِي الْيَهُودِ رَجُلٌ شُجَاعٌ يُقَالُ لَهُ "بُولِصُ"
قَتَلَ جُمْلَةً مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ
لِلْيَهُودِ: إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَ عِيسَى فَقَدْ كَفَرْنَا بِهِ وَالنَّارُ
مَصِيرُنَا، فَنَحْنُ مَغْبُونُونَ إِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَدَخَلْنَا
النَّارَ، فَإِنِّي أَحْتَالُ وَأُضِلُّهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ، وَكَانَ
لَهُ فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ الْعُقَابُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ
وَأَظْهَرَ النَّدَامَةَ، وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ لَهُ
النَّصَارَى: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: بُولِصُ عَدُوُّكُمْ، فَنُودِيَتُ مِنَ
السَّمَاءِ: لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ إِلَّا أَنْ تَتَنَصَّرَ، وَقَدْ تُبْتُ.
فَأَدْخَلُوهُ الْكَنِيسَةَ، وَدَخَلَ بَيْتًا
__________
(1) أخرجه الطبري: 14 / 202-203. وانظر الدر المنثور: 4 / 171.
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
سَنَةً
لَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا حَتَّى تَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَ، ثُمَّ
خَرَجَ وَقَالَ: نُودِيَتُ أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ تَوْبَتَكَ، فَصَدَّقُوهُ
وَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ
نُسْطُورًا وَعَلَّمَهُ أَنَّ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَالْإِلَهَ كَانُوا ثَلَاثَةً،
ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الرُّومِ وَعَلَّمَهُمُ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ،
وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِيسَى بِإِنْسٍ وَلَا بِجِسْمٍ، وَلَكِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ،
وَعَلَّمَ ذَلِكَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ "يَعْقُوبُ" ثُمَّ دَعَا رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ مَلْكًا، فَقَالَ: إِنَّ الْإِلَهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ
عِيسَى، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ دَعَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَاحِدًا
وَاحِدًا، وَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنْتَ خَالِصَتَيْ، وَقَدْ رَأَيْتُ
عِيسَى فِي الْمَنَامِ فَرَضِيَ عَنِّي. وَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إِنِّي
غَدًا أَذْبَحُ نَفْسِي، فَادْعُ النَّاسَ إِلَى نِحْلَتِكَ. ثُمَّ دَخَلَ
الْمَذْبَحَ نَفْسَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ لِمَرْضَاةِ عِيسَى،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ ثَالِثِهِ دَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ النَّاسَ إِلَى
نِحْلَتِهِ، فَتَبِعَ كُلَّ وَاحِدٍ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَاخْتَلَفُوا
وَاقْتَتَلُوا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ } ، { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى
قَوْلًا مَقْرُونًا بِالْأَفْوَاهِ وَالْأَلْسُنِ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ زُورًا.
{ يُضَاهِئُونَ } قَرَأَ عَاصِمٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَهْمُوزًا، وَالْآخَرُونَ
بِضَمِّ الْهَاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: ضَاهَيْتُهُ
وَضَاهَأْتُهُ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: يُشَابِهُونَ. وَالْمُضَاهَاةُ الْمُشَابَهَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
يُوَاطِئُونَ وَقَالَ الْحَسَنُ: يُوَافِقُونَ، { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَبْلُ } قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ
مِنْ قَبْلُ، فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ:
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ قَبْلِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ بَنَاتُ
اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ كُفْرَهُمْ بِكُفْرِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنَ
الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ كَمَا قَالَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ: "كَذَلِكَ
قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ"
(الْبَقَرَةِ -188). وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
يَقُولُونَ مَا قَالَ أَوَّلُهُمْ، { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْ: قَتَلَهُمُ اللَّهُ. وَقِيلَ:
لَيْسَ هُوَ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُقَاتَلَةِ وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ،
{ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أَيْ: يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ قِيَامِ
الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ.
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) } .
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا } أَيْ: عُلَمَاءَهُمْ
وَقُرَّاءَهُمْ، وَالْأَحْبَارُ: الْعُلَمَاءُ، وَاحِدُهَا حِبْرٌ،
وَحَبْرٌ
بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى أَصْحَابُ
الصَّوَامِعِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا الْأَحْبَارَ
وَالرُّهْبَانَ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ وَاسْتَحَلُّوا مَا أَحَلُّوا وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا، فَاتَّخَذُوهُمْ
كَالْأَرْبَابِ. رُوِيَ عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي
صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لِي: "يَا عُدَيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ
عُنُقِكَ"، فَطَرَحْتُهُ ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } حَتَّى
فَرَغَ مِنْهَا، قُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ:
"أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيَحِلُّونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ"؟ قَالَ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: "فَتِلْكَ
عِبَادَتُهُمْ" (1) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَهَلْ بَدَّلَ الدِّينَ إِلَّا
الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سَوْءٍ وَرُهْبَانُهَا
{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } أَيِ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا، { وَمَا أُمِرُوا
إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ } .
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 14 / 210. ورواه مختصرا الترمذي في تفسير سورة
براءة: 8 / 492-494، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب،
وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وعزاه السيوطي أيضا: لابن سعد وعبد بن حميد
وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي. انظر: الدر
المنثور: 4 / 174، الكافي الشاف ص (75)، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص
(437).
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ
إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } .
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أَيْ: يُبْطِلُوا
دِينَ اللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
النُّورُ الْقُرْآنُ، أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوا الْقُرْآنَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ تَكْذِيبًا، { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ }
أَيْ: يُعْلِيَ دِينَهُ وَيُظْهِرَ كَلِمَتَهُ وَيُتِمَّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ
بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
} .
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } يَعْنِي: الَّذِي يَأْبَى إِلَّا إِتْمَامَ
دِينِهِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، { بِالْهُدَى } قِيلَ: بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: بِبَيَانِ الْفَرَائِضِ،
{ وَدِينِ الْحَقِّ } وَهُوَ الْإِسْلَامُ، { لِيُظْهِرَهُ }
لِيُعْلِيَهُ
وَيَنَصُرَهُ، { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، { وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَاءُ
عَائِدَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ:
لِيُعَلِّمَهُ شَرَائِعَ الدِّينِ كُلَّهَا فَيُظْهِرَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَظُهُورُهُ عَلَى
الْأَدْيَانِ هُوَ أَنْ لَا يُدَانَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِهِ. وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَالضَّحَّاكُ: وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى بن مَرْيَمَ لَا
يَبْقَى أَهْلُ دِينٍ إِلَّا دَخَلَ في الإسلام. 156 / ب وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "وَيَهْلَكُ فِي
زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ" (1) وَرَوَى الْمِقْدَادُ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا
أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ إِمَّا بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ
ذَلِيلٍ" (2) إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهِ،
فَيَعِزُّ بِهِ، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ سُلَيْمَانَ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمِ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَجِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ
النَّبِيلُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ الْأَسْوَدِ
بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَذْهَبُ
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى"، قَالَتْ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ". ثُمَّ قَالَ: "يَكُونُ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ،
ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَقْبِضُ مَنْ كَانَ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ،
فَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ" (3) .
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَعْنَى الْآيَةِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ.
وَقِيلَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ الَّتِي حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَغْلِبَهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ
مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ
__________
(1) قطعة من حديث أبي هريرة، أخرجه الإمام أحمد في المسند: 2 / 437. وقال الحافظ
ابن حجر: رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة
مرفوعا.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 6 / 4. وذكره الهيثمي من رواية المقداد وتميم
الداري وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح. مجمع الزوائد: 6 /
14. هذا، وفي نسخة "أ" جاء في الرواية: "يعز عزيزا ويذل
ذليلا".
(3) أخرجه مسلم في الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة برقم (2907):
4 / 2230 والمصنف في شرح السنة: 15 / 91-92.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
الْحُقُّ،
وَمَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ، وَقَالَ: وَأَظْهَرُهُ بِأَنَّ
جِمَاعَ الشِّرْكِ دِينَانِ: دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَدِينُ أُمِّيِّينَ
فَقَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّينَ
حَتَّى دَانُوا بِالْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَقَتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَسَبَى،
حَتَّى دَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَأَعْطَى بَعْضُهُمُ الْجِزْيَةَ
صَاغِرِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، فَهَذَا ظُهُورُهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ } يَعْنِي، الْعُلَمَاءَ وَالْقُرَّاءَ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } [يُرِيدُ:
لَيَأْخُذُونَ] (1) الرِّشَا فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللَّهِ،
وَيَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ كُتُبًا يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،
وَيَأْخُذُونَ بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ سَفَلَتِهِمْ، وَهِيَ الْمَآكِلُ
الَّتِي يُصِيبُونَهَا مِنْهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخَافُونَ لَوْ صَدَّقُوهُمْ لَذَهَبَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ
الْمَآكِلُ، { وَيَصُدُّونَ } وَيَصْرِفُونَ النَّاسَ، { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلُّ مَالٍ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ
كَانَ مَدْفُونًا. وَكُلُّ مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا. وَمِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ أَبَا صَالِحِ بْنَ ذَكْوَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ
لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ
لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى
بِهَا جَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرُدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ،
فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَلَا
صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ
وِرْدِهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ
قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا،
تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ
__________
(1) في "أ": (يريدون يأخذون).
أُولَاهَا
رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ، حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى
الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَلَا صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ، لَا
يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا
بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا
جَلْحَاءُ، وَلَا عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا،
كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ،
فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" (1) .
وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا
فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا
أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ
بِلِهْزِمَتَيْهِ، يَعْنِي: شِدْقَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا
كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ } الْآيَةَ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
كُلُّ مَالٍ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَهُوَ كَنْزٌ أَدَّيْتَ
مِنْهُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ، وَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ (3) .
وَقِيلَ: مَا فَضُلَ عَنِ الْحَاجَةِ فَهُوَ كَنْزٌ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ
الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ،
فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"،
قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمُ
الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلَّا مَنْ قَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمَنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَقَلِيلٌ
مَا هُمْ" (4)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ
تَرَكَ بَيْضَاءَ، أَوْ حَمْرَاءَ، كُوِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة -برقم (987): 2 / 680-681، والمصنف
في شرح السنة: 5 / 480.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة: باب إثم مانع الزكاة: 3 / 268، والمصنف في شرح
السنة: 5 / 478.
(3) أخرجه الطبري في التفسير: 14 / 219-220.
(4) أخرجه البخاري في الأيمان -باب كيف كان يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: 11 / 524، ومسلم في الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة- برقم
(990): 2 / 686.
(5) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 168، والطبري: 14 / 220. وعزاه ابن حجر أيضا
للبخاري في التاريخ - وابن مردويه من طريق عبد الله بن عبد الواحد الثقفي عن أبي
النجيب الشامي عن أبي ذر، وعن ثوبان أخرجه ابن مردويه والطبراني في مسند الشاميين
بلفظ أخر. انظر: الكافي الشاف ص (75-76).
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي
مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"كَيَّةٌ"، ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيَّتَانِ"
(1) .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ لَا فِي
جَمْعِ الْمَالِ الْحَلَالِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" (2) .
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَا
يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَدَعَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا، فَذَكَرَ عُمَرُ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ
يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ
أَمْوَالِكُمْ" (3) .
وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ:
كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا
اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أعلم
عدده 157/أ أُزَكِّيهِ وَأَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَلَمْ
يَقُلْ: وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ جَمِيعًا.
قِيلَ: أَرَادَ الْكُنُوزَ وَأَعْيَانَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقِيلَ: رَدَّ
الْكِنَايَةَ إِلَى الْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ"
"الْبَقَرَةِ -45"، رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا
أَعَمُّ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انْفَضُّوا إِلَيْهَا" (الْجُمُعَةِ -11) رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى
التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أَيْ:
أَنْذِرْهُمْ.
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ
وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا
كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) } .
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } أَيْ: تُدْخَلُ النَّارُ
فَيُوقَدُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْكُنُوزِ،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 101. قال ابن حجر: رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو يعلى
والطبراني والطبري - من طريق شهر بن حوشب.. ورواه ابن حبان من حديث ابن مسعود
بالشطر الثاني. انظر: الكافي الشاف ص (76).
(2) أخرجه الإمام أحمد: 4 / 197، 202، والمصنف في شرح السنة: 10 / 91.
(3) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب حقوق المال: 2 / 250، وصححه الحاكم: 2 / 333،
والبيهقي: 4 / 83، وذكره المصنف في المصابيح: 2 / 10. وذكره الهيثمي في المجمع: 7
/ 30 وقال: رواه أبو يعلى وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف. وانظر: الدر المنثور: 4 /
178.
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{
فَتُكْوَى بِهَا } فَتُحْرَقُ بِهَا، { جِبَاهُهُمْ } أَيْ: جِبَاهُ كَانِزِيهَا،
{ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّهُ لَا
يُوضَعُ دِينَارٌ عَلَى دِينَارٍ وَلَا دِرْهَمٌ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَكِنْ
يُوَسَّعُ جِلْدُهُ حَتَّى يُوضَعَ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ فِي مَوْضِعٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لِمَ خَصَّ الْجِبَاهَ وَالْجَنُوبَ
وَالظُّهُورَ بِالْكَيِّ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ إِذَا
رَأَى الْفَقِيرَ قَبَضَ وَجْهَهُ، وَزَوَى مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَوَلَّاهُ
ظَهْرَهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ بِكَشْحِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ } أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مَا
كَنَزْتُمْ، { لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } أَيْ:
تَمْنَعُونَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْوَالِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ
الصَّحَابَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ:
هِيَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ذَرٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ
اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) } .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } أَيْ: عَدَدَ الشُّهُورِ، {
عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَهِيَ الْمُحَرَّمُ
وَصَفْرٌ وَرَبِيعٌ الْأَوَّلُ وَشَهْرُ رَبِيعٍ الثَّانِي وَجُمَادَى الْأُولَى
وَجُمَادَى الْآخِرَةُ وَرَجَبٌ وَشَعْبَانُ وَشَهْرُ رَمَضَانَ وَشَوَّالٌ وَذُو
الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَقَوْلُهُ: { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أَيْ : فِي
حُكْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ:
اثْنَا عَشْرَ، وَتِسْعَةَ عَشْرَ، وَأَحَدَ عَشْرَ، بِسُكُونِ الشِّينِ، وَقَرَأَ
الْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا، { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ }
وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الشُّهُورُ الْهِلَالِيَّةُ، وَهِيَ الشُّهُورُ الَّتِي
يَعْتَدُّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي صِيَامِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ
وَسَائِرِ أُمُورِهِمْ، وَبِالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ تكون السنة ثلاث مائة
وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبْعَ يَوْمٍ، وَالْهِلَالِيَّةُ تنقص عن ثلاث
مائة وَسِتِّينَ يَوْمًا بِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ. وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَكُونُ
ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }
مِنَ الشُّهُورِ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَهِيَ: رَجَبٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو
الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، { ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ } أَيِ: الْحِسَابُ الْمُسْتَقِيمُ.
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قِيلَ: قَوْلُهُ "فِيهِنَّ"
يَنْصَرِفُ إِلَى جَمِيعِ شُهُورِ السَّنَةِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَتَرْكِ الطَّاعَةِ. وَقِيلَ:
"فِيهِنَّ" أَيْ: فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. قَالَ قَتَادَةُ:
الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالظُّلْمُ
فِيهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهُنَّ، وَإِنْ
كَانَ
الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْحَرَامِ وَالْغَارَةَ فِيهِنَّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: لَا تَجْعَلُوا حَلَالَهَا
حَرَامًا، وَلَا حَرَامَهَا حَلَالًا كَفِعْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُوَ
النَّسِيءُ.
{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } جَمِيعًا عَامَّةً، { كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ كَبِيرًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: { وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } كَأَنَّهُ يَقُولُ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ. وَهُوَ
قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ، وَحَاصَرَهُمْ فِي شَوَّالٍ
وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ: قَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ بِاللَّهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَا يَحِلُّ
لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَمِ، وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِلَّا
أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا وَمَا نُسِخَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } قِيلَ: هُوَ
مَصْدَرٌ كَالسَّعِيرِ وَالْحَرِيقِ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ كَالْجَرِيحِ
وَالْقَتِيلِ، وَهُوَ مِنَ التَّأْخِيرِ. وَمِنْهُ النَّسِيئَةُ فِي الْبَيْعِ،
يُقَالُ: أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ أَيْ أَخَّرَ، وَهُوَ مَمْدُودٌ مَهْمُوزٌ
عِنْدَ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدْ قِيلَ: أَصْلُهُ
الْهَمْزَةُ فَخُفِّفَ.
وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النِّسْيَانِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْسِيِّ أَيِ: الْمَتْرُوكِ.
وَمَعْنَى النَّسِيءِ: هُوَ تَأْخِيرُ تَحْرِيمِ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ،
وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَمَسَّكَتْ بِهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَكَانَتْ عَامَّةُ مَعَايِشِهِمْ مِنَ الصَّيْدِ وَالْغَارَةِ،
فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى
التَّوَالِي، وَرُبَّمَا وَقَعَتْ لَهُمْ حَرْبٌ فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
فَيَكْرَهُونَ تأخير حربهم، فنسؤوا أَيْ: أَخَّرُوا تَحْرِيمَ ذَلِكَ الشَّهْرِ
إِلَى شَهْرٍ آخَرَ، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرَ،
فَيُحَرِّمُونَ صَفَرَ وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى
تَأْخِيرِ تَحْرِيمِ صَفَرَ أَخَّرُوهُ إِلَى رَبِيعٍ، هَكَذَا شَهْرًا بَعْدَ
شَهْرٍ، حَتَّى اسْتَدَارَ التَّحْرِيمُ عَلَى السَّنَةِ كُلِّهَا. فَقَامَ
الْإِسْلَامُ وَقَدْ رَجَعَ الْمُحَرَّمُ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي وَضَعَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ دَهْرٍ طَوِيلٍ، فَخَطَبَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ.
كَمَا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
سَلَامٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يوم خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا،
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ
وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".
وَقَالَ: "أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ:
أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ
بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ؟ قُلْنَا: بَلَى،
قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ
حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمُ
النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ
مُحَمَّدٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ
يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ
رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي
ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوَعَى لَهُ مِنْ
بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ" (1) ؟
قَالُوا: وَكَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ النَّسِيءُ بِهِمْ، فَكَانُوا رُبَّمَا
يَحُجُّونَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ في شهر 157/ب وَيَحُجُّونَ مَنْ قَابَلٍ فِي
شَهْرٍ آخَرَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، فَحَجُّوا فِي
شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ،
ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرَ عَامَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُورِ، فَوَافَقَتْ
حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ السَّنَةَ
الثَّانِيَةَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَوَافَقَ
حَجُّهُ شَهْرَ الْحَجِّ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ، فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ
يَوْمَ التَّاسِعِ، وَخَطْبَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ بِمِنًى، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ
أَشْهُرَ النَّسِيءِ قَدْ تَنَاسَخَتْ بِاسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ، وَعَادَ
الْأَمْرُ إِلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَ الْأَشْهُرِ يَوْمَ خَلْقَ
اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ
لِئَلَّا يَتَبَدَّلَ فِي مُسْتَأْنَفِ الْأَيَّامِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ بَنُو
مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً: أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادُ بْنُ
عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيُّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأضاحي - باب من قال: الأضحى يوم النحر: 10 / 7-8، ومسلم في
القيامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض، برقم (1679): 3 / 1305، والمصنف في شرح
السنة: 7 / 215-216.
مَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِيَ كِنَانَةَ يُقَالُ: لَهُ نُعَيْمُ بْنُ
ثَعْلَبةَ، وَكَانَ يَكُونُ أَمِيرًا عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ، فَإِذَا هَمَّ
النَّاسُ بِالصَّدَرِ، قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لَا مَرَدَّ لِمَا
قَضَيْتُ، أَنَا الَّذِي لَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ، فَيَقُولُ لَهُ
الْمُشْرِكُونَ: لَبَّيْكَ، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُنْسِأَهُمْ شَهْرًا
يُغِيرُونَ فِيهِ، فيقول: فإن صفرًا الْعَامَ حَرَامٌ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ
حَلُّوا الْأَوْتَارَ، وَنَزَعُوا الْأَسِنَّةَ وَالْأَزِجَّةَ، وَإِنْ قَالَ
حَلَالٌ عَقَدُوا الْأَوْتَارَ وَشَدُّوا الْأَزِجَّةَ، وَأَغَارُوا. وَكَانَ مِنْ
بَعْدِ نُعَيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جَنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَهُوَ
الَّذِي أَدْرَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: الْقَلَمَّسُ، قَالَ شَاعِرُهُمْ: "وَفِينَا نَاسِئُ
الشَّهْرِ الْقَلَمَّسُ"، وَكَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ذِي
الْحِجَّةِ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ لِلْمَوْسِمِ.
وَقَالَ جُوَيْبِرُ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ النَّسِيءَ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ
قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ
سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو
بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ أَبَا بَنِي كَعْبٍ، وَهُوَ يَجُرُّ
قُصْبَهُ فِي النَّارِ" (1) .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَنَا هُوَ النَّسِيءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَقَالَ: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } يُرِيدُ زِيَادَةَ
كُفْرٍ عَلَى كُفْرِهِمْ، { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: { يُضَلُّ } بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ"، وَقَرَأَ
يَعْقُوبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ
وَمُجَاهِدٍ عَلَى مَعْنَى " يُضِلُّ " بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
النَّاسَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، لِأَنَّهُمْ
هُمُ الضَّالُّونَ لِقَوْلِهِ: { يُحِلُّونَهُ } يَعْنِي النَّسِيءَ { عَامًا
وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا } أَيْ: لِيُوَافِقُوا، وَالْمُوَاطَأَةُ:
الْمُوَافَقَةُ، { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ
يُحِلُّوا شَهْرًا مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا حَرَّمُوا مَكَانَهُ شَهْرًا مِنَ
الْحَلَالِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا شَهْرًا مِنَ الْحَلَالِ إِلَّا أَحَلُّوا
مَكَانَهُ شَهْرًا مِنَ الْحَرَامِ، لِئَلَّا يَكُونَ الْحَرَامُ أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَكُونُ مُوَافَقَةَ الْعَدَدِ، {
فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: زَيَّنَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ }
__________
(1) سبق تخريجه في سورة المائدة 3 / 108. وليس في الحديث ما يدل على أن عمرو بن
لحي أول من سنَّ النسيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ
إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ
لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } الْآيَةَ،
نَزَلَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ أُمِرَ بِالْجِهَادِ
لِغَزْوَةِ الرُّومِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ،
وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ، حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَلَمْ يَكُنْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا
وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا
بَعِيدًا، وَمَفَاوِزَ هَائِلَةً، وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ
أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدوِّهُمْ، فَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ
وَتَثَاقَلُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا
لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ } (1) أَيْ: قَالَ لَكُمْ رسول الله صلى اللَّهِ: {
انْفِرُوا } اخْرُجُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ }
أَيْ: لَزِمْتُمْ أَرْضَكُمْ وَمَسَاكِنَكُمْ، { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ } أَيْ: بِخَفْضِ الدُّنْيَا وَدِعَتِهَا مِنْ نَعِيمِ
الْآخِرَةِ. { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
} .
ثُمَّ أَوعَدَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ، فَقَالَ تَعَالَى: { إِلَّا
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ
احْتِبَاسُ الْمَطَرِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَسَأَلَ نَجْدَةُ بْنُ نُفَيْعٍ
ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ،
فَتَثَاقَلُوا عَلَيْهِ، فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ
عَذَابَهُمْ (2) { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } خَيْرًا مِنْكُمْ
وَأُطَوَعَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ أَبْنَاءُ فَارِسَ. وَقِيلَ: هُمْ
أَهْلُ الْيَمَنِ، { وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا } بِتَرْكِكُمُ النَّفِيرَ. {
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
__________
(1) انظر، الطبري: 14 / 253، أسباب النزول للواحدي ص (283)، الدر المنثور: 4 /
190.
(2) أخرجه الطبري: 14 / 254-255، وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 118، وأخرجه أبو
داود في السنن مختصرا: 3 / 367، والبيهقي في السنن: 9 / 48. وانظر: الدر المنثور:
4 / 193-194.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } هَذَا
إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بِنَصْرِ رَسُولِهِ
وَإِعْزَازِ دِينِهِ، أَعَانُوهُ أَوْ لَمْ يُعِينُوهُ، وَأَنَّهُ قَدْ نَصَرَهُ
عِنْدَ قِلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ
وَهُوَ فِي كَثْرَةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ؟ { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا } مِنْ مَكَّةَ حِينَ مَكَرُوا بِهِ وَأَرَادُوا تَبْيِينَهُ وَهَمُّوا
بِقَتْلِهِ، { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أَيْ هُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ، وَالِاثْنَانِ:
أَحَدُهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ أَبُو
بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وَهُوَ
نَقْبٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ بِمَكَّةَ، { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } قَالَ الشَّعْبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ،
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا
خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ
عَنْ كَثِيرٍ النَّوَّاءِ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ، وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ" (1) .
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنْ قَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ
صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ
لِإِنْكَارِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ. وَفِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ إِذَا أَنْكَرَ
يَكُونُ مُبْتَدِعًا، لَا يَكُونُ كَافِرًا.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } لَمْ يَكُنْ
حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ جُبْنًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ إِشْفَاقًا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: إِنْ أُقْتَلُ فَأَنَا
رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُتِلْتَ هلكت الأمة 158/أ
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب، باب بشارة لأبي بكر وعمر: 10 / 154، وقال: هذا حديث
حسن غريب صحيح. والمصنف في شرح السنة: 14 / 82. وقال: هذا حديث حسن غريب. وفي
الحديث: كثير بن إسماعيل أو ابن نافع النَّواء: ضعيف من السادسة. (تقريب).
وَرُوِيَ
أَنَّهُ حِينَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى الْغَارِ جَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَالَكَ يَا
أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ
الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْك، فَلَّمَا انْتَهَيَا إِلَى الْغَارِ قَالَ
مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَارَ، فَدَخَلَ
فَاسْتَبْرَأَهُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ فَقَالَ
عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ
(1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي النَّظَرِ، أَخْبَرَنَا
خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَّاشِيُّ،
حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ
الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا، فَقَالَ:
يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ
بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ
الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً
وَعَشِيًّا، فَلِمَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ.. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنِّي أُرِيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ،
ذَاتَ نَخْلٍ، بَيْنَ لَابَّتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ". فَهَاجَرَ مَنْ
هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي"
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ:
"نَعَمْ" فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ -كَانَتَا
عِنْدَهُ-وَرَقَ السَّمُرِ، وَهُوَ الْخَبْطُ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءً لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي
هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ
عِنْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: (4 / 197-198) للبيهقي في الدلائل، ولابن عساكر
عن ضبة بن محصن. قال ابن كثير في البداية والنهاية: (3 / 180) في هذا السياق غرابة
ونكارة. وأخرجه ابن إسحاق مختصرا: 1 / 486. وقال ابن كثير عن هذه الرواية: وهذا
فيه انقطاع من طرفيه، وساقه من رواية أبي القاسم البغوي مطولا، وقال: وهذا مرسل،
وقد ذكرنا له شواهد.
(2) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب
مناقب المهاجرين: 7 / 8-9، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر رضي الله
عنه، برقم (2381): 4 / 1854، والمصنف في شرح السنة: 13 / 365.
=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق