8مصاحف

الخميس، 30 يونيو 2022

تفسير البغوي مج12 و13.

 

12.   معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)

صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ } (الزُّمَرِ: 74) ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ أَنَّ أَرَاضِي الْكُفَّارِ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
{ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) }
{ إِنَّ فِي هَذَا } أَيْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، { لَبَلَاغًا } وُصُولًا إِلَى الْبُغْيَةِ، أَيْ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ وَصَلَ إِلَى مَا يَرْجُوهُ مِنَ الثَّوَابِ. وَقِيلَ: بَلَاغًا أَيْ كِفَايَةً. يُقَالُ فِي هَذَا الشَّيْءِ بَلَاغٌ وبلغة أَيْ كِفَايَةٌ، وَالْقُرْآنُ زَادُ الْجَنَّةِ كَبَلَاغِ الْمُسَافِرِ، { لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أَيِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَالِمِينَ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ. { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ. [وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" (1) . { قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أَيْ أَسْلِمُوا. { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ } أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِالْحَرْبِ وَأَنْ لَا صُلْحَ بَيْنَنَا، { عَلَى سَوَاءٍ } أَيْ إِنْذَارٌ بَيَّنٌ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ لَا اسْتِيذَانًا بِهِ دُونَكُمْ لِتَتَأَهَّبُوا لِمَا يُرَادُ بِكُمْ، أَيْ آذَنْتُكُمْ عَلَى وَجْهٍ نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَقِيلَ: لِتَسْتَوُوا فِي الْإِيمَانِ، { وَإِنْ أَدْرِي } أَيْ وَمَا أَعْلَمُ. { أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } يَعْنِي الْقِيَامَةَ.
__________
(1) أخرجه الدارمي عن أبي صالح مرسلا، في المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1 / 9 ووصله الحاكم 1 / 35 وصححه على شرط الشيخين، وقال: "فقد احتجا جميعا بمالك بن سعير، والتفرد من الثقات مقبول" ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في شعب الإيمان: 3 / 577 مرسلا من طريق الأعمش عن أبي صالح مرفوعا. ثم قال: رواه زياد بن يحيى الحساني عن مالك ابن سعير عن الأعمش موصولا بذكر أبي هريرة فيه، ثم ساقه بإسناده، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 11 / 504، وابن سعد في الطبقات: 1 / 192 - 193 من طريق وكيع مرسلا، وقال الهيثمي في المجمع: 8 / 257 رواه البزار والطبراني في الصغير ورجال البزار رجال الصحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1 / 803 - 805.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) }
{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } . { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ } أَيْ لَعَلَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، { فِتْنَةٌ } اخْتِبَارٌ، { لَكُمْ } لِيَرَى كَيْفَ صَنِيعُكُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أَيْ تَتَمَتَّعُونَ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ. { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ } وَالْآخَرُونَ: " قُلْ رَبِّ احْكُمْ " افْصِلْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ كَذَّبَنِي بِالْحَقِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَاللَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ؟ قِيلَ: الْحَقُّ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ كَأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ لِقَوْمِهِ فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } (الْأَعْرَافِ: 89) ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: مَعْنَاهُ رَبِّ احْكُمْ بِحُكْمِكَ الْحَقِّ فَحُذِفَ الْحُكْمُ وَأُقِيمَ الْحَقُّ مَقَامَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَحْكُمْ بِالْحَقِّ طَلَبَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ ظُهُورُ الرَّغْبَةِ مِنَ الطَّالِبِ فِي حُكْمِهِ الْحَقِّ، { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } مِنَ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

سُورَةُ الْحَجِّ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { هَذَانَ خَصْمَانِ } إِلَى قَوْلِهِ { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } أَيْ: احْذَرُوا عِقَابَهُ بِطَاعَتِهِ، { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وَالزَّلْزَلَةُ وَالزِّلْزَالُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ:
فَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. [وَقِيلَ: قِيَامُ السَّاعَةِ] (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قِيَامُهَا فَتَكُونُ مَعَهَا. { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } يَعْنِي السَّاعَةَ، وَقِيلَ: الزَّلْزَلَةُ، { تَذْهَلُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُشْغَلُ، وَقِيلَ: تَنْسَى، يُقَالُ: ذَهَلْتُ عَنْ كَذَا أَيْ تَرَكْتُهُ وَاشْتُغِلْتُ بِغَيْرِهِ. { كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } أَيْ: كُلُّ امْرَأَةٍ مَعَهَا وَلَدٌ تُرْضِعُهُ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، بِلَا هَاءٍ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ، مِثْلَ حَائِضٍ وَحَامِلٍ، فَإِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ أَدْخَلُوا الْهَاءَ. { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أَيْ: تُسْقِطُ وَلَدَهَا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".

قَالَ الْحَسَنُ: تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا بِغَيْرِ تَمَامٍ (1) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ حَمْلٌ.
وَمَنْ قَالَ: تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَصَابَنَا أَمْرٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ، يُرِيدُ شِدَّتَهُ.
{ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى" بِلَا أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمْعِ السَّكْرَانِ، مِثْلُ كَسْلَى وَكُسَالَى.
قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَتَرَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى، { وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمَشٍ الزِّيَادَيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بُكَيْرٍ الْكُوفِيُّ الْعَبْسِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلِفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى [النَّاسَ] (2) سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، قَالَ: فَيَقُولُونَ: وَأَيُّنَا ذَاكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ"، فَقَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوِ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ" (3) .
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا في
__________
(1) أخرجه الطبري: 17 / 114.
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قول الله تعالى (يسألونك عن ذي القرنين) 6 / 382، ومسلم في الإيمان، باب: قوله (يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين برقم (222) 1 / 201 - 202 والمصنف في شرح السنة: 15 / 139 - 140.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

غزوة 23/ب بَنِي الْمُصْطَلَقِ لَيْلًا فَنَادَى [مُنَادِي] (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثُّوا الْمَطِيَّ حَتَّى كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلِمَا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السُّرُوجَ عَنِ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَلَمْ يَطْبُخُوا قِدْرًا، وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ بَاكٍ أَوْ جَالِسٍ حَزِينٍ مُتَفَكِّرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ وَلَدِكَ، فَيَقُولُ آدَمُ: مِنْ كُلٍّ كَمْ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلى النار وواحد فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَكَوْا وَقَالُوا: فَمَنْ يَنْجُو إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارَبُوا فَإِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو [أَنْ تَكُونُوا] (2) ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا، ثَمَانُونَ مِنْهَا أُمَّتِي، وَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، بَلْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عُمَرُ: سَبْعُونَ أَلْفًا؟ قَالَ: نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مِنْهُمْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ" (3) .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ (4) كَانَ كَثِيرَ الْجَدَلِ، وَكَانَ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ مَنْ صَارَ تُرَابًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَتَّبِعُ } أَيْ: يَتَّبِعُ فِي جِدَالِهِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، { كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } وَالْمَرِيدُ: الْمُتَمَرِّدُ الْمُسْتَمِرُّ فِي الشَّرِّ. { كُتِبَ عَلَيْهِ } قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ، { أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ } اتَّبَعَهُ { فَأَنَّهُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه الترمذي: 9 / 12 -13 حتى قوله: في ذراع الدابة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والإمام أحمد 4 / 435 حتى قوله: أو الرقمة في ذراع الدابة، والحاكم: 2 / 385، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وعزاه ابن حجر في الكافي الشاف ص 112 للثعلبي والبغوي، ثم قال: وأما آخره فلم أره.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 8 لابن أبي حاتم.

{ يُضِلُّهُ } أَيْ: يَضِلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ، { وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } ثُمَّ أَلْزَمَ الْحُجَّةَ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } فِي شَكٍّ { مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ } يَعْنِي: أَبَاكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النَّسْلِ، { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } يَعْنِي: ذُرِّيَّتَهُ، وَالنُّطْفَةُ هِيَ الْمَنِيُّ، وَأَصْلُهَا الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَجَمْعُهَا نِطَافٌ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } وَهِيَ الدَّمُ الْغَلِيظُ الْمُتَجَمِّدُ، وَجَمْعُهَا عِلَقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّطْفَةَ تَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا ثُمَّ تَصِيرُ لَحْمًا، { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } وَهِيَ لَحْمَةٌ قَلِيلَةٌ قَدْرُ مَا يُمْضَغُ، { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: "مُخَلَّقَةٍ" أَيْ تَامَّةِ الْخَلْقِ، "وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" غَيْرِ تَامَّةٍ أَيْ نَاقِصَةِ الْخَلْقِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُصَوَّرَةٍ وَغَيْرِ مُصَوَّرَةٍ، يَعْنِي السَّقْطَ.
وَقِيلَ: "الْمُخَلَّقَةُ" الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْمَرْأَةُ لِوَقْتِهِ، "وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ" السَّقْطُ.
رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ وَقَالَ: أَيْ رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، قَذَفَهَا الرَّحِمُ دَمًا وَلَمْ تَكُنْ نَسَمَةً، وَإِنْ قَالَ: مُخَلَّقَةٌ، قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُّ مَا الْعَمَلُ مَا الرِّزْقُ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا كُلَّ ذَلِكَ، فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَنْسَخُهَا، فَلَا يَزَالُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخَرَ صِفَتِهِ (1) .
{ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } كَمَالَ قُدْرَتِنَا وَحِكْمَتَنَا فِي تَصْرِيفِ أَطْوَارِ خَلْقِكُمْ وَلِتَسْتَدِلُّوا بِقُدْرَتِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ.
وَقِيلَ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ مَا تأتون وما تذرون وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ.
{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ } فَلَا تَمُجُّهُ وَلَا تُسْقِطُهُ، { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَقْتِ خُرُوجِهَا مِنَ الرَّحِمِ تَامَّةَ الْخَلْقِ وَالْمُدَّةِ. { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ { طِفْلًا } أَيْ: صِغَارًا، وَلَمْ يَقُلْ:
__________
(1) أخرجه الترمذي في "نوادر الأصول" وابن أبي حاتم.

أَطْفَالًا لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْجَمْعَ بِاسْمِ الْوَاحِدِ. وَقِيلَ: تَشْبِيهًا بِالْمَصْدَرِ مِثْلَ عَدْلٍ وَزُورٍ. { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } يَعْنِي: الْكَمَالَ وَالْقُوَّةَ.
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } مِنْ قَبْلِ بُلُوغِ الْكِبَرِ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } أَيِ: الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ، { لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أَيْ: يَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ فَلَا يَعْقِلُ شَيْئًا.
ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى الْبَعْثِ فَقَالَ: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أَيْ: يَابِسَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ } الْمَطَرَ، { اهْتَزَّتْ } تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَرْتَفِعُ بِالنَّبَاتِ فَذَلِكَ تَحَرُّكُهَا، { وَرَبَتْ } أَيِ: ارْتَفَعَتْ وَزَادَتْ، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ: رَبَتْ وَاهْتَزَّتْ وَرَبَا نَبَاتُهَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالِاهْتِزَازُ فِي النَّبَاتِ أَظْهَرُ، يُقَالُ: اهْتَزَّ النَّبَاتُ أَيْ : طال وإنما أُنِّت لِذِكْرِ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: " وَرَبَأَتْ " بِالْهَمْزَةِ، وَكَذَلِكَ فِي حم السَّجْدَةِ، أَيِ: ارْتَفَعَتْ وَعَلَتْ.
{ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أَيْ: صِنْفٍ حَسَنٍ يُبْهَجُ بِهِ مَنْ رَآهُ، أَيْ: يُسَرُّ، فَهَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْبَعْثِ.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) }
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أَيْ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، { وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } . { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } يَعْنِي النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، { وَلَا هُدًى } بَيَانٍ { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ }

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)

{ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) }
{ ثَانِيَ عِطْفِهِ } أَيْ: مُتَبَخْتِرًا لِتَكَبُّرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: لَاوِيَ عُنُقِهِ. قَالَ عَطِيَّةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: مُعْرِضًا عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ تَكَبُّرًا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ تَكَبُّرًا. وَالْعِطْفُ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَعْطِفُهُ الْإِنْسَانُ أَيْ يَلْوِيهِ وَيُمِيلُهُ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّيْءِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا } (لُقْمَانُ: 7) ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } (المُنَافِقُونَ: 5) . { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } 24/أ عَنْ دِينِ اللَّهِ، { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } عَذَابٌ وَهَوَانٌ، وَهُوَ الْقَتْلُ بِبَدْرٍ، فَقُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } وَيُقَالُ لَهُ: { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } فَيُعَذِّبُهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَهُوَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ تَصَرَّفَ فِي عَبْدِهِ، فَحُكْمُهُ عَدْلٌ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ كَانُوا يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرِينَ مِنْ بَادِيَتِهِمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَحَّ بِهَا جِسْمُهُ وَنُتِجَتْ بِهَا فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَكَثُرَ مَالُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ حَسَنٌ وَقَدْ أَصَبْتُ فِيهِ خَيْرًا وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً وَأُجْهِضَتْ رِمَاكُهُ (1) وَقَلَّ مَالُهُ، قَالَ: مَا أَصَبْتُ مُنْذُ دَخَلْتُ فِي هَذَا الدِّينِ إِلَّا شَرًّا فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ الْفِتْنَةُ (2) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: عَلَى شَكٍّ وَأَصْلُهُ مِنْ حَرْفِ الشَّيْءِ وَهُوَ طَرَفُهُ، نَحْوُ حَرْفِ الْجَبَلِ وَالْحَائِطِ الَّذِي كَالْقَائِمِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَقِيلَ لِلشَّاكِّ فِي الدِّينِ إِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ لِأَنَّهُ عَلَى طَرَفٍ وَجَانِبٍ مِنَ الدِّينِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالتَّمَكُّنِ وَأَصْلُهُ كَالْقَائِمِ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ مُضْطَرِبٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، يَعْرِضُ أَنْ يَقَعَ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الطَّرَفِ لِضَعْفِ قِيَامِهِ، وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ فِي الشُّكْرِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَرْفٍ، قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ
__________
(1) الأنثى من البراذين.
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 355 عن المفسرين، وأخرجه الطبري: 17 / 122 - 123، وأخرج البخاري نحوه في التفسير: 8 / 442 عن ابن عباس.

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

يَعْبُدُهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } صِحَّةٌ فِي جِسْمِهِ، وَسِعَةٌ فِي مَعِيشَتِهِ، { اطْمَأَنَّ بِهِ } أَيْ: رَضِيَ بِهِ وَسَكَنَ إِلَيْهِ، { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } بَلَاءٌ فِي جَسَدِهِ، وَضِيقٌ فِي مَعِيشَتِهِ، { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } ارْتَدَّ وَرَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، { خَسِرَ الدُّنْيَا } يَعْنِي هَذَا الشَّاكُّ خَسِرَ الدُّنْيَا بِفَوَاتِ مَا كَانَ يُؤَمِّلُ، { وَالْآخِرَةَ } بِذَهَابِ الدِّينِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ. قَرَأَ يَعْقُوبُ " خَاسِرَ " بِالْأَلْفِ { وَالْآخِرَةِ } جَرٌّ. { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } الظَّاهِرُ.
{ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) }
{ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ } إِنْ عَصَاهُ وَلَمْ يَعْبُدْهُ، { وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } إِنْ أَطَاعَهُ وَعَبَدَهُ، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ. { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَفِيهَا أَسْئِلَةٌ:
أَوَّلُهَا قَالُوا: قَدْ قَالَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى "يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ"، وَقَالَ هَاهُنَا: "لَمَنْ ضُرُّهُ أَقْرَبُ"، فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟
قِيلَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى "يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ" أَيْ: لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عِبَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ: "لَمَنْ ضُرُّهُ أَقْرَبُ" أَيْ: ضَرُّ عِبَادَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: "لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ" وَلَا نَفْعَ فِي عِبَادَةِ الصَّنَمِ أَصْلًا؟.
قِيلَ: هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَا لَا يَكُونُ أَصْلًا بَعِيدٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } (ق:3) أَيْ: لَا رَجْعَ أَصْلًا فَلَمَّا كَانَ نَفْعُ الصَّنَمِ بَعِيدًا، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ أَصْلًا قِيلَ: ضَرُّهُ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُ كَائِنٌ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ } مَا وَجْهُ هَذِهِ اللَّامِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ صِلَةٌ، مَجَازُهَا: يَدْعُو مَنْ ضُرُّهُ أَقْرَبُ (1) وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: "لَمَنْ ضَرُّهُ" أَيْ إِلَى الَّذِي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ. وَقِيلَ: "يَدْعُو" بِمَعْنَى يَقُولُ: وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَقُولُ: لِمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ هُوَ إِلَهٌ.
__________
(1) انظر مسائل الرازي وأجوبتها ص 272.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ يَدْعُو، فَحَذَفَ يَدْعُو الْأَخِيرَةَ اجْتِزَاءً بِالْأُولَى، وَلَوْ قَلْتَ: يَضْرِبُ لَمَنْ خَيْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَرِّهِ يَضْرِبُ، ثُمَّ يُحْذَفُ الْأَخِيرُ جَازَ.
وَقِيلَ: عَلَى التَّوْكِيدِ، مَعْنَاهُ: يَدْعُو وَاللَّهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.
وَقِيلَ: "يَدْعُو مَنْ" صِلَةُ قَوْلِهِ: "ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ" يَقُولُ: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: "لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ" فَيَكُونُ "مَنْ" فِي مَحَلِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ: { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } أَيِ النَّاصِرُ. وَقِيلَ: الْمَعْبُودُ. { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } أَيِ: الصَّاحِبُ وَالْمُخَالِطُ، يَعْنِي: الْوَثَنَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الزَّوْجَ عَشِيرًا لِأَجْلِ الْمُخَالَطَةِ.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } . { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ } يَعْنِي نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } بِحَبْلٍ { إِلَى السَّمَاءِ } أَرَادَ بِالسَّمَاءِ سَقْفَ الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، أَيْ: لِيَشْدُدْ حَبْلًا فِي سَقْفِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } الْحَبْلَ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ. وَقِيلَ: "ثُمَّ لْيَقْطَعْ" أَيْ لِيَمُدَّ الْحَبْلَ حَتَّى يَنْقَطِعَ فَيَمُوتُ مُخْتَنِقًا، { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } صَنِيعُهُ وَحِيلَتُهُ، { مَا يَغِيظُ } "مَا" بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَحِيلَتُهُ غَيْظَهُ، مَعْنَاهُ: فَلْيَخْتَنِقْ غَيْظًا حَتَّى يَمُوتَ. وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ أَيْ : أَنْ يَفْعَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَالنَّظَرُ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ وَالْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ لِلْحَاسِدِ: إِنْ لَمْ تَرْضَ هَذَا فَاخْتَنِقْ وَمُتْ غَيْظًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ مِنَ السَّمَاءِ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَيَكِيدَ فِي أَمْرِهِ لِيَقْطَعَهُ عَنْهُ فَلْيَقْطَعْهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ الَّذِي يَأْتِيهِ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى إِذْهَابِ غَيْظِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ.

وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ حِلْفٌ، وَقَالُوا: لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُسْلِمَ لِأَنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ وَلَا يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيَنْقَطِعُ الْحِلْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِ، فَلَا يميروننا ولا +يئوننا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "النَّصْرُ" بِمَعْنَى الرِّزْقِ (2) وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى { مَنْ } وَمَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَافَ أَلَّا يَرْزُقَهُ اللَّهُ، "فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ"، أَيْ: إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُ، وَهُوَ خِيفَةُ أَنْ لَا يُرْزَقَ.
وَقَدْ يَأْتِي النَّصْرُ بِمَعْنَى الرِّزْقِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ. أَيْ: مَنْ يُعْطِنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ، أَيْ: مَمْطُورَةٌ.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ: "ثُمَّ لِيَقْطَعْ" "ثُمَّ لِيَقْضُوا" بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِهَا لِأَنَّ الْكُلَّ لَامُ الْأَمْرِ، زَادَ ابْنُ عَامِرٍ { وَلِيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلِيَطَّوَّفُوا } (الحَجِّ: 29) بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَمَنْ كَسَرَ فِي: "ثُمَّ لِيَقْطَعْ" وَفِي "ثُمَّ لِيَقْضُوا" فَرَّقَ بِأَنَّ ثُمَّ مَفْصُولٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: "فَلْيَنْظُرْ".
__________
(1) ذكره الطبري: 17 / 128 بدون سند.
(2) 24 / ب.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) }
{ وَكَذَلِكَ } أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ، يَعْنِي: مَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، { أَنْزَلْنَاهُ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } يَعْنِي: عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ،، { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } { أَلَمْ تَرَ } أَلَمْ تَعْلَمْ، وَقِيلَ: { أَلَمْ تَرَ } [تَقْرَأْ] (1) بِقَلْبِكَ { أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ }
__________
(1) زيادة من "ب".

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)

قَالَ مُجَاهِدٌ: سُجُودُهَا تَحَوُّلُ ظِلَالِهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا يَقَعُ سَاجِدًا حِينَ يَغِيبُ ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ. وَقِيلَ: سُجُودُهَا بِمَعْنَى الطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَمَادٍ إِلَّا وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ خَاشِعٌ لَهُ مُسَبِّحٌ لَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (فُصِّلَتْ: 11) ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحِجَارَةِ { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } (الْبَقَرَةُ: 74) ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الْإِسْرَاءُ: 44) ، وَهَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا تُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ "وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ"، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ. { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } وَهُمُ الْكُفَّارُ لِكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ السُّجُودَ وَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ تَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ.
{ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ } أَيْ: يُهِنْهُ اللَّهُ { فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } أَيْ: مَنْ يُذِلُّهُ اللَّهُ فَلَا يُكْرِمُهُ أَحَدٌ، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } أَيْ: يُكْرِمُ وَيُهِينُ فَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
{ هَذَانَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { هَذَانَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } أَيْ: جَادَلُوا فِي دِينِهِ وَأَمْرِهِ، وَالْخَصْمُ اسْمٌ شَبِيهٌ بِالْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: { اخْتَصَمُوا } بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ( ص"21 ) ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنَ الْخَصْمَيْنِ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: { هَذَانَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ، وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ ابْنَيْ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي ، باب قتل أبي جهل: 7 / 297، ومسلم في التفسير، باب: في قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في ربهم) برقم: (3033) 4 / 2323.

وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: { هَذَانَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ، وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ (1) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ خَرَجَ -يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ -عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَدَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ: عَوْذٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ وَأُمُّهُمَا عَفْرَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا حِينَ انْتَسَبُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ وَيَا حَمْزَةُ بْنَ عَبْدِ الْمَطْلَبِ وَيَا عَلِيُّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا دَنَوْا قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ فَذَكَرُوا وَقَالُوا: نَعمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ أَنْ قَتْلَ شَيْبَةَ، وَعَلِيٌّ الْوَلِيدَ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَانِ كِلَاهُمَا [أَثْبَتَ] (2) صَاحِبَهُ، فَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفَّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ وَمُخُّهَا يَسِيلُ، فَلَمَّا أَتَوْا بِعُبَيْدَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَسْتُ شَهِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بَلَى"، فَقَالَ عُبَيْدَةُ: لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا لَعَلِمَ أَنَّا أَحَقُّ بِمَا قَالَ مِنْهُ (3) حَيْثُ يَقُولُ: وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ وَأَقْدَمُ مِنْكُمْ كِتَابًا، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِاللَّهِ آمَنَّا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَبِيِّكُمْ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ، وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ نَبِيَّنَا وَكِتَابَنَا وَكَفَرْتُمْ بِهِ حَسَدًا، فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ فِي رَبِّهِمْ (4) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْكَلْبِيُّ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ كُلُّهُمْ مِنْ أَيِّ مِلَّةٍ كَانُوا (5) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ الْأَدْيَانَ سِتَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } (الْمَائِدَةُ: 69) الْآيَةَ، فَجَعَلَ خَمْسَةً لِلنَّارِ وَوَاحِدًا لِلْجَنَّةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: { هَذَانَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } يَنْصَرِفُ
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب قتل أبي جهل: 7 / 296.
(2) في "ب" أثخن.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام مع الروض الأنف: 2 / 67 - 68.
(4) أخرجه الطبري: 17 / 132 عن ابن عباس.
(5) انظر الطبري: 17 / 132.

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)

إليهم فالمؤمنون 25/أ خَصْمٌ وَسَائِرُ الْخَمْسَةِ خَصْمٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ اخْتَصَمَتَا كَمَا أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ حُسَيْنٍ الْقَطَّانُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ فِيهَا رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا" (1) . ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا لِلْخَصْمَيْنِ فَقَالَ:
{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثِيَابٌ مِنْ نُحَاسٍ مُذَابٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْآنِيَةِ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ وَسُمِّيَ بِاسْمِ الثِّيَابِ لِأَنَّهَا تُحِيطُ بِهِمْ كَإِحَاطَةِ الثِّيَابِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْبَسُ أَهْلُ النَّارِ مُقَطَّعَاتٍ مِنَ النَّارِ، { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } الْحَمِيمُ: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي انْتَهَتْ حَرَارَتُهُ.
{ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) }
{ يُصْهَرُ بِهِ } أَيْ: يُذَابُ بِالْحَمِيمِ، { مَا فِي بُطُونِهِمْ } يُقَالُ: صَهَرْتُ الْأَلْيَةَ وَالشَّحْمَ بِالنَّارِ إِذَا أَذَبْتَهُمَا أَصْهَرُهَا صَهْرًا، مَعْنَاهُ يُذَابُ بِالْحَمِيمِ الَّذِي يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ حَتَّى يَسْقُطَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشُّحُومِ وَالْأَحْشَاءِ، { وَالْجُلُودِ } أَيْ: يَشْوِي حرها جلودهم فتتساط.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي جُحَيْرَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلُتَ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب (وتقول هل من مزيد) 8 / 595، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب : النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء برقم (2846) 4 / 2186، والمصنف في شرح السنة: 15 / 256 - 257.
(2) أخرجه الترمذي في صفة أهل جهنم، باب ما جاء في صفة شراب أهل النار 7 / 302 - 303 وقال: هذا حديث غريب صحيح، والإمام أحمد: 2 / 374، والحاكم في المستدرك: 2 / 387، والطبري: 17 / 133 - 134، والمصنف في شرح السنة: 15 / 244، وقد ضعف الألباني إسناده في تعليقه على المشكاة: 3 / 1581.

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)

{ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } سِيَاطٌ مِنْ حَدِيدٍ وَاحِدَتُهَا: مِقْمَعَةٌ، قَالَ اللَّيْثُ: المقمعة شبه الجزر مِنَ الْحَدِيدِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَمَعْتُ رَأْسَهُ، إِذَا ضَرَبْتَهُ ضَرْبًا عَنِيفًا، وَفِي الْخَبَرِ: "لَوْ وُضِعَ مِقْمَعٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ مِنَ الْأَرْضِ" (1) . { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ } أَيْ: كُلَّمَا حَاوَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ الَّذِي يَأْخُذُ بِأَنْفَاسِهِمْ { أُعِيدُوا فِيهَا } أَيْ: رُدُّوا إِلَيْهَا بِالْمَقَامِعِ. وَفِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَجِيشُ بِهِمْ فَتُلْقِيهِمْ إِلَى أَعْلَاهَا فَيُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَتَضْرِبُهُمُ الزَّبَانِيَةُ بِمَقَامِعَ مِنَ الْحَدِيدِ فَيَهْوُونَ فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا. { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أَيِ: الْمُحْرِقِ، مِثْلُ الْأَلِيمِ وَالْوَجِيعِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } جَمْعُ سِوَارٍ، { وَلُؤْلُؤًا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ "وَلُؤْلُؤًا" هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ بِالنَّصْبِ وَافَقَ يَعْقُوبُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى وَيُحَلَّوْنَ لُؤْلُؤًا، وَلِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: "مِنْ ذَهَبٍ"، وَيَتْرُكُ الْهَمْزَةَ الْأُولَى فِي كُلِّ الْقُرْآنِ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ، فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَثْبَتُوهَا كَمَا أَثْبَتُوا فِي: قَالُوا وَكَانُوا، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَثْبَتُوهَا لِلْهَمْزَةِ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أَيْ: يَلْبَسُونَ فِي الْجَنَّةِ ثِيَابَ الْإِبْرَيْسَمِ وَهُوَ الَّذِي حَرُمَ لَبْسُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرِّجَالِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ دَاوُدَ السَّرَّاجِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) أخرجه الحاكم: 4 / 600 من رواية دراج، عن أبي الهيثم، والإمام أحمد: 3 / 29 قال الهيثمي في المجمع 10 / 388 رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه ضعفاء وثقوا، وانظر الكافي الشاف ص (112)، الترغيب والترهيب: 4 / 474.

قَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُلْبِسْهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ دَخْلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ" (1) .
__________
(1) أخرجه الحاكم: 4 / 191 وصححه ووافقه الذهبي، وأبو داود الطيالسي ص (294) وأخرجه أيضا عن عمر رضي الله عنه ص (10)، وأخرجه الشيخان عن أنس بن مالك بلفظ: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة): البخاري في اللباس، باب: لبس الحرير للرجال: 10 / 284، ومسلم في اللباس،، باب تحريم الذهب والحرير على الرجال وإباحته للنساء، برقم (2073) 3 / 1645، والمصنف في شرح السنة: 12 / 30 - 31.

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [وَسُبْحَانَ اللَّهِ] (1) . وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ". (الزُّمَرُ:74) { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } إِلَى دِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، "وَالْحَمِيدُ" هُوَ اللَّهُ الْمَحْمُودُ فِي أَفْعَالِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } عَطَفَ الْمُسْتَقْبَلَ عَلَى الْمَاضِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَاضِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (النِسَاءُ: 167) ، مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحَالِ، أَيْ: وَهُمْ يَصُدُّونَ. { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أَيْ: وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } قِبْلَةً لِصَلَاتِهِمْ وَمَنْسَكًا وَمُتَعَبَّدًا كَمَا قَالَ: { وُضِعَ لِلنَّاسِ } (آلِ عِمْرَانَ: 96) . { سَوَاءً } قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ: "سَوَاءً" نَصْبًا بِإِيقَاعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْجَعْلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُسْتَوِيًا فِيهِ، { الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ " لِلنَّاسِ " وَأَرَادَ بِالْعَاكِفِ: الْمُقِيمَ فِيهِ، وَبِالْبَادِي: الطَّارِئَ الْمُنْتَابَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: "سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ" أَيْ: فِي تَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَقَضَاءِ النُّسُكِ فِيهِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ: هُوَ التَّسْوِيَةُ فِي تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ.
__________
(1) زيادة من "ب".

وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ: أَنَّ الْمُقِيمَ وَالْبَادِيَ سَوَاءٌ فِي النُّزُولِ بِهِ، لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بالمَنْزِلِ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْآخَرِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يزعج فيه أحد إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَى مَنْزِلٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ فِي [الْبُيُوتِ] (1) وَالْمَنَازِلِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: كَانَ الْحُجَّاجُ إِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَحَقَّ بِمَنْزِلِهِ مِنْهُمْ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يُغْلِقُوا أَبْوَابَهُمْ فِي الْمَوْسِمِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتُهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ -وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ -يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } (الحَجِّ: 40) ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ" (2) فَنَسَبَ الدَّارَ إِلَيْهِ نَسَبَ مِلْكٍ، وَاشْتَرَى عُمْرُ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا. وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَى الظُّلْمِ، الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ "بِإِلْحَادٍ" زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } (المُؤْمِنُونَ: 20) ، وَمَعْنَاهُ مَنْ يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ، قَالَ الْأَعْشَى: "ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا"، أَيْ: رِزْقَ عِيَالِنَا. وَأَنْكَرَ الْمُبْرَدُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً وَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ مَنْ تَكُنْ إِرَادَتُهُ فِيهِ بِأَنْ يُلْحِدَ بِظُلْمٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِلْحَادِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَتَّى شَتْمِ الْخَادِمِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ دُخُولُ الْحَرَمِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، أَوِ ارْتِكَابُ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَرَمِ، مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ، أَوْ قَطْعِ شَجَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تَقْتُلَ فِيهِ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ، أَوْ تَظْلِمَ فِيهِ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: وَهُوَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِعَدَنِ
__________
(1) في "ب" السوق".
(2) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: فتح مكة برقم (1780) 3 / 1405 - 1407.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

أَبْيَنَ، أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِلَّا أَنْ يَتُوبَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فُسْطَاطَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ عَاتَبَهُمْ فِي الْآخَرِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ كَلَّا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ (1) .
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } أَيْ: وَطَّأْنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلْنَا. وَقِيلَ: بَيَّنَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ [مُبَوَّءًا لِإِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هَيَّأْنَا. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ] (2) لِأَنَّ الْكَعْبَةَ رُفِعَتْ إِلَى السَّمَاءِ زَمَانَ الطُّوفَانِ، ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَبْنِي فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا خَجُوجًا فَكَنَسَتْ لَهُ مَا حَوْلَ الْبَيْتِ عَلَى الْأَسَاسِ (3) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً بِقَدْرِ الْبَيْتِ فَقَامَتْ بِحِيَالِ الْبَيْتِ وَفِيهَا رَأْسٌ يَتَكَلَّمُ يَا إِبْرَاهِيمُ ابْنِ عَلَى قَدْرِي فَبَنَى عَلَيْهِ (4) . قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } أَيْ: عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَقُلْنَا لَهُ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } يَعْنِي: الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، { وَالْقَائِمِينَ } أَيِ: الْمُقِيمِينَ، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أَيِ: الْمُصَلِّينَ. { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ } أَيْ: أَعْلِمْ وَنَادِ فِي النَّاسِ، { بِالْحَجِّ } فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ: عَلَيْكَ الْأَذَانُ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ فَارْتَفَعَ الْمَقَامُ حَتَّى صَارَ كَأَطْوَلِ الْجِبَالِ فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ بَنَى بَيْتًا وَكَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ فَأَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابَهُ كُلُّ مَنْ كَانَ يَحُجُّ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 17 / 138 - 142، ثم قال: وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب : القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس من أنه معنى بالظلم في هذا الموضع، كل معصية لله، وذلك أن الله عم بقوله: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)، ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خير ولا عقل، فهو على عمومه.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) انظر الطبري: 17 / 143.
(4) انظر الدر المنثور: 6 / 30.

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)

الْأُمَّهَاتِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ (1) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ فَهَمْ أَكْثَرُ النَّاسِ حَجًّا.
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَنَادَى (2) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِيَ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ، وَزَعَمَ الْحَسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ" كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهَذَا التَّأْذِينِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا" (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَأْتُوكَ رِجَالًا } مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ جَمْعُ رَاجِلٍ، مِثْلُ قَائِمٍ وَقِيَامٍ وَصَائِمٍ وَصِيَامٍ، { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } أَيْ: رُكْبَانًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ الْمَهْزُولُ. { يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } أَيْ: مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ "يَأْتِينَ" لِمَكَانِ كُلٍّ وَإِرَادَةِ النُّوقِ.
{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) }
{ لِيَشْهَدُوا } لِيَحْضُرُوا، { مَنَافِعَ لَهُمْ } قال سعيد بن المسيب، ومحمد بن علي الباقر: العفو والمغفرة. وقال سعيد بن جبير: التجارة، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْأَسْوَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التِّجَارَةُ وَمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (4) . { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ لَهَا "مَعْلُومَاتٍ" لِلْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهَا بِحِسَابِهَا مِنْ أَجْلِ وَقْتِ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا. وَيُرْوَى عن علي 26/أ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ (5) . { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } يَعْنِي: الْهَدَايَا، وَالضَّحَايَا، تَكُونُ مِنَ النَّعَمِ،
__________
(1) انظر الطبري: 17 / 144.
(2) عزاه السيوطي: 6 / 35 لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(3) اخرجه مسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر برقم: (1337) 2 / 975 والمصنف في شرح السنة: 7 / 3.
(4) ذكر هذه الأقوال الطبري: 17 / 146 - 147 ثم قال مرجحا: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عني بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة، وذلك أن الله عم لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيء من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت.
(5) سبق تخريج هذه الأقوال في المجلد الأول صفحة (234) هامش (1).

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ.
وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ: يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ يَدُلُّ عَلَى التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا، وَنَحْرُ الْهَدَايَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. { فَكُلُوا مِنْهَا } أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ هَدَايَاهُمْ شَيْئًا، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أُضْحِيَّةُ التَّطَوُّعِ لِمَا:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرْقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَقَدِمَ عَلِيٌّ بِبَدَنٍ مِنَ الْيَمَنِ وَسَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَنَحَرَ عَلِيٌّ مَا بَقِيَ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُؤْخَذَ بِضْعَةٌ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ فَتُجْعَلَ فِي قِدْرٍ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَحَسِيَا مِنْ مَرَقِهَا (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا؟ مِثْلَ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالدَّمِ الْوَاجِبِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَفَوَاتِهِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ؟
فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَأْكُلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَمِنْ كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ فِدْيَةِ الْأَذَى وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْمَنْذُورِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ يَأْكُلُ مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْ وَاجِبٍ سِوَاهُمَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } يَعْنِي: الزَّمِنَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ وَ"الْبَائِسُ" الَّذِي اشْتَدَّ بُؤْسُهُ، وَالْبُؤْسُ شِدَّةُ الْفَقْرِ.
{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) }
{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } التَّفَثُ: الْوَسَخُ وَالْقَذَارَةُ مِنْ طُولِ الشَّعَرِ وَالْأَظَافِرِ وَالشَّعَثِ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ تَسْتَقْذِرُهُ: مَا أتْفَثَكَ: أَيْ: مَا أَوَسَخَكَ. وَالْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، لَمْ يَحْلِقْ شَعْرَهُ وَلَمْ يُقَلِّمْ ظُفْرَهُ، فَقَضَاءُ التَّفَثِ: إِزَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، أَيْ: لِيُزِيلُوا أَدْرَانَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَالِاسْتِحْدَادِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ
__________
(1) قطعة من حديث جابر، أخرجه مسلم برقم (1218): 2 / 893، والمصنف في شرح السنة: 7 / 150.

وَابْنُ عَبَّاسٍ: "قَضَاءُ التَّفَثِ": مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ. وَقِيلَ: التَّفَثُ هَاهُنَا رَمْيُ الْجِمَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا نَعْرِفُ التَّفَثَ وَمَعْنَاهُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا يُنْذِرُ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ أَيْ: لِيُتِمُّوهَا بِقَضَائِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخُرُوجَ. عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ نَذَرَ أَوْ لَمْ يَنْذِرْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَفَّى بِنَذْرِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ "وَلِيُوَفُّوا" بِنَصْبِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ.
{ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَرَادَ بِهِ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ.
وَالطَّوَافُ ثَلَاثَةُ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا يَرْمُلُ ثَلَاثًا مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ وَيَمْشِي أَرْبَعًا، وَهَذَا الطَّوَافُ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ هُوَ أَبُو عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمْرُ مَثَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَيَمْشِي أَرْبَعًا، ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا (2) .
وَالطَّوَافُ الثَّانِي: هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب: الطواف على وضوء: 3 / 496، ومسلم في الحج، باب: ما يلزم من طاف بالبيت وسعى برقم: (1235) 2 / 906 - 907، والمصنف في شرح السنة: 7 / 101 - 102.
(2) أخرجه البخاري في الحج، باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة: 3 / 477 ومسلم في الحج، باب : استحباب الرمل في الطواف والعمرة برقم: (1261) 2 / 920، والمصنف في شرح السنة: 7 / 104 والشافعي في المسند: 1 / 347.

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْأُسُودِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فَقَالَتْ: مَا أَرَانِي إِلَّا حَابِسَتُكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَقْرَى حَلْقَى أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي" (1) فَثَبْتَ بِهَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ يَوْمَ النَّحْرِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ.
وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ: هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ لَا رُخْصَةَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَنْ يُفَارِقَهَا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، فَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إِلَّا الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا تَرْكُ طَوَافِ الْوَدَاعِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أحمد الخلال، 26/ب أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ (2) .
وَالرَّمَلُ مُخْتَصٌّ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، وَلَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ.
قَوْلُهُ: { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى "الْعَتِيقِ": قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى تَخْرِيبِهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ وَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، يُقَالُ: دِينَارٌ عَتِيقٌ أيْ قَدِيمٌ، وَقِيلَ: سَمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْغَرَقِ، فَإِنَّهُ رُفِعَ أَيَّامَ الطُّوفَانِ (3) .
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) }
{ ذَلِكَ } أَيِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، { وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ } أَيْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب: الإدلاج من المحصب: 3 / 595، والمصنف في شرح السنة: 7 / 234.
(2) أخرجه البخاري في الحج، باب: طواف الوداع 3 / 585، ومسلم في الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328)، والمصنف في شرح السنة: 7 / 232. والشافعي في المسند: 1 / 364.
(3) ذكر هذه الأقوال الطبري: 17 / 151 - 152 ثم قال: ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في قوله: (البيت العتيق) وجه صحيح، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر، غير أن الذي روي عن ابن الزبير أولى بالصحة، إن كان ما حدثني به محمد بن سهل البخاري - قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: أخبرني الليث، عن عبد الرحمن ابن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن محمد بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه قط - صحيحا".

مَعَاصِي اللَّهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحُرُمَاتِ هَاهُنَا: الْمَنَاسِكُ، بِدَلَالَةِ مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا: الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْإِحْرَامُ (1) . { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أَيْ: تَعْظِيمُ الْحُرُمَاتِ، خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ } أَنْ تَأْكُلُوهَا إِذَا ذَبَحْتُمُوهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } تَحْرِيمُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } (المَائِدَةِ: 3) ، الْآيَةَ، { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } أَيْ: عِبَادَتَهَا، يَقُولُ: كُونُوا عَلَى جَانِبٍ مِنْهَا فَإِنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ: سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ، وَالرِّجْسُ: بِمَعْنَى الرِّجْزِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: { مِنْ } هَاهُنَا لِلتَّجْنِيسِ أَيْ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ، { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } يَعْنِي: الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: شَهَادَةُ الزُّورِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ"، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (2) . وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
__________
(1) انظر الطبري: 17 / 153.
(2) أخرجه أبو داود في الأقضية، باب في شهادة الزور: 5 / 217، والترمذي في الشهادات 6 / 585، وقال: (هذا حديث إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد - يعني حديث خريم بن فاتك - وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وابن ماجه في الأحكام، باب: شهادة الزور رقم (2372)، 2 / 794، والإمام أحمد: 4 / 178.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)

{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) }
{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ } مُخْلِصِينَ لَهُ، { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا فِي الشِّرْكِ يَحُجُّونَ، وَيُحْرِمُونَ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَنَزَلَتْ: "حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ" أَيْ: حُجَّاجًا لِلَّهِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ، يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ لَا يَكُونُ حَنِيفًا.
{ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ } أَيْ: سَقَطَ، { مِنَ السَّمَاءِ } إِلَى الْأَرْضِ، { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } أَيْ: تَسْتَلِبُهُ الطَّيْرُ وَتَذْهَبُ بِهِ، وَالْخَطْفُ وَالِاخْتِطَافُ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَتَخَطَّفُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: يَتَخَطَّفُهُ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ } أَيْ: تَمِيلُ وَتَذْهَبُ بِهِ، { فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

أَيْ: بَعِيدٍ، مَعْنَاهُ: بُعْدُ مَنْ أَشْرَكَ مِنَ الْحَقِّ كَبُعْدِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ فَذَهَبَتْ بِهِ الطَّيْرُ، أَوْ هَوَتْ بِهِ الرِّيحُ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِحَالٍ. وَقِيلَ: شَبَّهَ حَالَ الْمُشْرِكِ بِحَالِ الْهَاوِي مِنَ السَّمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حِيلَةً حَتَّى يَقَعَ بِحَيْثُ تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إِمَّا بِاسْتِلَابِ الطَّيْرِ لَحْمَهُ وَإِمَّا بِسُقُوطِهِ إِلَى الْمَكَانِ السَّحِيقِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الْحَالِ فِي أَنَّهَا تَذْهَبُ وَتَبْطُلُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) }
{ ذَلِكَ } يَعْنِي: الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ اجْتِنَابِ الرِّجْسِ وَقَوْلِ الزُّورِ، { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "شَعَائِرُ اللَّهِ" الْبُدْنُ وَالْهَدْيُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِشْعَارِ، وَهُوَ إِعْلَامُهَا لِيُعْرَفَ أَنَّهَا هَدْيٌ، وَتَعْظِيمُهَا: اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا. وَقِيلَ "شَعَائِرُ اللَّهِ" أَعْلَامُ دِينِهِ، "فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"، أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. { لَكُمْ فِيهَا } أَيْ: فِي الْبُدْنِ قَبْلَ تَسْمِيَتِهَا لِلْهَدْيِ، { مَنَافِعُ } فِي دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَرُكُوبِ ظُهُورِهَا، { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَهُوَ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَيُوجِبَهَا هَدْيًا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَرَوَاهُ مُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعُ بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تَرْكَبُوهَا وَتَشْرَبُوا أَلْبَانَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ "إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى"، يَعْنِي: إِلَى أَنْ تَنْحَرُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ.
فَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ لَهُ رُكُوبُهَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، لِمَا أَخْبَرَ أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ : "ارْكَبْهَا، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدْنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ"، وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ: "اشْرَبْ لَبْنَهَا بَعْدَمَا فَضُلَ عَنْ رَيِّ وَلَدِهَا" (1) .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَرْكَبُهَا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب: ركوب البدن 3 / 536، ومسلم في الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، برقم (1322) 2 / 960 والمصنف في شرح السنة: 7 / 195.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ: الْمَنَاسِكَ وَمُشَاهَدَةَ مَكَّةَ. "لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ" بِالتِّجَارَةِ وَالْأَسْوَاقِ "إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى" وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ.
وَقِيلَ: "لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ" بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ. "إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى"، أَيْ: إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ الْحَجِّ.
{ ثُمَّ مَحِلُّهَا } أَيْ: مَنْحَرُهَا، { إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَيْ: مَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، يُرِيدُ أَرْضَ الْحَرَمِ كُلَّهَا، كَمَا قَالَ: { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (التَّوْبَةِ: 28) أَيِ: الْحَرَمُ كُلُّهُ.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 27/أ قَالَ: "نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ" (1) .
وَمَنْ قَالَ: "الشَّعَائِرُ" الْمَنَاسِكُ، قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ "ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ" أَيْ: مَحِلُّ النَّاسِ مِنْ إِحْرَامِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَيْ: أَنْ يَطُوفُوا به طواف الزيادة يَوْمَ النَّحْرِ.
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } أَيْ: جَمَاعَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلَفَتْ قَبْلَكُمْ، { جَعَلْنَا مَنْسَكًا } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ هَاهُنَا وَفِي آخِرِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ مِثْلَ الْمَسْجِدِ وَالْمَطْلِعِ، أَيْ: مَذْبَحًا وَهُوَ مَوْضِعُ الْقُرْبَانِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ، مِثْلَ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ، أَيْ: إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ وَذَبْحُ الْقَرَابِينَ، { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [عِنْدَ نَحْرِهَا وَذَبْحِهَا، وَسَمَّاهَا بَهِيمَةً] (2) لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ، وَقَالَ: "بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" وَقَيَّدَهَا بِالنَّعَمِ، لِأَنَّ مِنَ الْبَهَائِمِ مَا لَيْسَ مِنَ الْأَنْعَامِ كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، لَا يَجُوزُ دَخْلُهَا (3) فِي الْقَرَابِينَ.
{ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أَيْ: سَمُّوا عَلَى الذَّبَائِحِ اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ،
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب: ما جاء أن عرفه كلها موقف، برقم (1218) 2 / 893، والمصنف في شرح السنة: 7 / 150.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) في "ب" ذبحها.

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

{ فَلَهُ أَسْلِمُوا } انْقَادُوا وَأَطِيعُوا، { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْمُتَوَاضِعِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُطْمَئِنِّينَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، "وَالْخَبْتُ" الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَاشِعِينَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْمُخْلِصِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الرَّقِيقَةُ قُلُوبُهُمْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا.
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) }
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ { وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ } أَيِ: الْمُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يَتَصَدَّقُونَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالْبُدْنَ } جَمْعُ بَدَنَةٍ سُمِّيَتْ بَدَنَةً لِعِظَمِهَا وَضَخَامَتِهَا، يُرِيدُ: الْإِبِلَ الْعِظَامَ الصِّحَاحَ الْأَجْسَامِ، يُقَالُ بَدَنَ الرَّجُلُ بُدْنًا وَبَدَانَةً إِذَا ضَخُمَ، فَأَمَّا إِذَا أَسَنَّ وَاسْتَرْخَى يُقَالُ بَدَنَ تَبْدِينًا. قَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: الْبُدْنُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ أَمَّا الْغَنَمُ فَلَا تُسَمَّى بَدَنَةً. { جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } مِنْ أَعْلَامِ دِينِهِ، سُمِّيَتْ شَعَائِرَ لِأَنَّهَا تُشْعِرُ، وَهُوَ أَنْ تُطْعَنَ بِحَدِيدَةٍ فِي سَنَامِهَا فَيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ، { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } النَّفْعُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرُ فِي الْعُقْبَى، { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } عِنْدَ نَحْرِهَا، { صَوَافَّ } أَيْ: قِيَامًا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ قَدْ صَفَّتْ رِجْلَيْهَا وَإِحْدَى يَدَيْهَا، وَيَدُهَا الْيُسْرَى مَعْقُولَةٌ فَيَنْحَرُهَا كَذَلِكَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَةً يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّوَّافُ إِذَا عُقِلَتْ رِجْلُهَا الْيُسْرَى وَقَامَتْ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "صَوَافِنَ" وَهِيَ أَنْ تُعْقَلَ مِنْهَا يَدٌ وَتُنْحَرَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَهُوَ مِثْلُ صَوَافٍّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "صَوَافِي" بِالْيَاءِ أَيْ: صَافِيَةً خَالِصَةً لِلَّهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا.
{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أَيْ: سَقَطَتْ بَعْدَ النَّحْرِ فَوَقَعَتْ جُنُوبُهَا عَلَى الْأَرْضِ. وَأَصِلُ الْوُجُوبِ:
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج ، باب: نحر الإبل مقيدة: 3 / 553، ومسلم في الحج، باب: نحر البدن قياما مقيدة، برقم (1320) 2 / 956، والمصنف في شرح السنة: 7 / 198.

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

الْوُقُوعُ. يُقَالُ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ لِلْمَغِيبِ، { فَكُلُوا مِنْهَا } أَمْرُ إِبَاحَةٍ، { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُمَا:.
فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: "الْقَانِعُ" الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ الْمُتَعَفِّفُ يَقْنَعُ بِمَا يُعْطَى وَلَا يَسْأَلُ، وَ"الْمُعْتَرُّ" الَّذِي يَسْأَلُ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْقَانِعُ" الَّذِي لَا يَعْتَرِضُ وَلَا يَسْأَلُ، وَ"الْمُعْتَرُّ" الَّذِي يُرِيكَ نَفْسَهُ وَيَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ، فَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ "الْقَانِعُ": مِنَ الْقَنَاعَةِ، يُقَالُ: قَنِعَ قَنَاعَةً إِذَا رَضِيَ بِمَا قُسِمَ لَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: "الْقَانِعُ": الَّذِي يَسْأَلُ، "وَالْمُعْتَرُّ": الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ، فَيَكُونُ "الْقَانِعُ" مِنْ قَنَعَ يَقْنَعُ قُنُوعًا إِذَا سَأَلَ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: "وَالْمُعْتَرِي" وَهُوَ مِثْلُ الْمُعْتَرِّ، يُقَالُ: عَرَّهُ وَاعْتَرَّهُ وَعَرَّاهُ وَاعْتَرَاهُ إِذَا أَتَاهُ يَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ، إِمَّا سُؤَالًا أَوْ تَعَرُّضًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الْقَانِعُ": الْمِسْكِينُ، "وَالْمُعْتَرُّ": الَّذِي لَيْسَ بِمِسْكِينٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَبِيحَةٌ يَجِيءُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَتَعَرَّضُ لَهُمْ لِأَجْلِ لَحْمِهِمْ (1) .
{ كَذَلِكَ } أَيْ: مِثْلُ مَا وَصَفْنَا مِنْ نَحْرِهَا قِيَامًا، { سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } نِعْمَةً مِنَّا لِتَتَمَكَّنُوا مِنْ نَحْرِهَا، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لِكَيْ تَشْكُرُوا إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) }
{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا نَحَرُوا الْبُدْنَ لَطَّخُوا الْكَعْبَةَ
__________
(1) ذكر هذه الأقوال وغيرها الطبري: 17 / 167 - 170 ثم قال: (وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بالقانع: السائل، لأنه لو كان المعني بالقانع في هذا الموضع: المكتفي بما عنده، والمستغني به لقيل: وأطعموا القانع والسائل، ولم يقل: وأطعموا القانع والمعتر، وفي إتباع ذلك قوله: والمعتر، الدليل الواضح على أن القانع معني به السائل من قولهم: قنع فلان إلى فلان، بمعنى سأله وخضع إليه، فهو يقنع قنوعا، ومنه قول لبيد: وأعطاني المولى على حين فقره ... بنات إذا قال أبصر خلتي وقنوعي
وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي، فإنه من قنعت، بكسر النون، أقنع قناعة، وقنوعا وقنعانا، وأما المعتر: فإنه الذي يأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه).

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)

بِدِمَائِهَا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: "لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا" قَرَأَ يَعْقُوبُ "تَنَالُ وَتَنَالُهُ" بِالتَّاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَنْ يُرْفَعَ إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، { وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } وَلَكِنْ تُرَفَعُ إِلَيْهِ مِنْكُمُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالتَّقْوَى، وَالْإِخْلَاصُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } يَعْنِي: الْبُدْنَ، { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أَرْشَدَكُمْ لِمَعَالِمِ دِينِهِ وَمَنَاسِكِ حَجِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا، { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُوَحِّدِينَ.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) }

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "يَدْفَعُ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "يُدَافِعُ" بِالْأَلِفِ، يُرِيدُ: يَدْفَعُ غَائِلَةَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَمْنَعُهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أَيْ: خَوَّانٍ فِي أَمَانَةِ اللَّهِ كَفُورٍ لِنِعْمَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَانُوا اللَّهَ فَجَعَلُوا مَعَهُ شَرِيكًا وَكَفَرُوا نِعَمَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِذَبِيحَتِهِ وذكر عليها اسم غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ خَوَّانٌ كَفُورٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } 27/ب قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ: "أُذِنَ" بِضَمِّ الْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: أَذِنَ اللَّهُ، "لِلَّذِينِ يُقَاتِلُونَ"، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ "يُقَاتَلُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ يَعْنِي الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ بِالْجِهَادِ "يُقَاتِلُونَ" الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ يُؤْذُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَزَالُونَ مَحْزُونِينَ مِنْ بَيْنِ مَضْرُوبٍ وَمَشْجُوجٍ، وَيَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ لَهُمُ: اصْبِرُوا فإني لم أومر بِالْقِتَالِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (1) وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانُوا
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (113): لم أجده هكذا. وعزاه الواحدي في الوسيط للمفسرين، قلت - ابن حجر -: هو منتزع من أحاديث، أقربها ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قوله (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وذلك أن مشركي أهل مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة، فاستأذنوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتالهم بمكة، فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فلما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أنزل الله عليه: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا).

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

يُمْنَعُونَ فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ (1) { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } أَيْ: بِسَبَبِ ما ظلموا، واعتدوا عَلَيْهِمْ بِالْإِيذَاءِ، { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) }
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ } بَدَلٌ "عَنِ الَّذِينَ" الْأُولَى { إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أَيْ: لَمْ يُخْرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَّا لِقَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ وَحْدَهُ.
{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } بِالْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، { لَهُدِّمَتْ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، فَالتَّخْفِيفُ يَكُونُ لِلْقَلِيلِ وَالتَّكْثِيرُ، وَالتَّشْدِيدُ يَخْتَصُّ بِالتَّكْثِيرِ، { صَوَامِعُ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي: صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: صَوَامِعُ الصَّابِئِينَ، { وَبِيَعٌ } بِيَعُ النَّصَارَى جَمْعُ "بَيْعَةٍ" وَهِيَ كَنِيسَةُ النَّصَارَى، { وَصَلَوَاتٌ } يَعْنِي كَنَائِسَ الْيَهُودِ، وَيُسَمُّونَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ صَلُوتَا، { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } يَعْنِي مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مَكَانُ صَلَاتِهِمْ، لَهُدِمَ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الْبِيَعُ وَالصَّوَامِعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَاجِدُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِالصَّلَوَاتِ صَلَوَاتِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ إِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ.
{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أَيْ: يَنْصُرُ دِينَهُ وَنَبِيَّهُ، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا مِنْ صِفَةِ نَاصِرِيهِ، وَمَعْنَى "مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ": نَصَرْنَاهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ حَتَّى
__________
(1) عزاه السيوطي : 6 / 57 لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

يَتَمَكَّنُوا فِي الْبِلَادِ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أَيْ: آخَرُ أُمُورِ الْخَلْقِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ، يَعْنِي: يُبْطَلُ كُلُّ مُلْكٍ سِوَى مُلْكِهِ، فَتَصِيرُ الْأُمُورُ إِلَيْهِ بِلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُدَّعٍ.
{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ } يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ } { وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ } . { وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ: أَمْهَلْتُهُمْ وَأَخَّرْتُ عُقُوبَتَهُمْ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } [عَاقَبْتُهُمْ] (1) { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أَيْ: إِنْكَارِي، أَيْ: كَيْفَ أَنْكَرْتُ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ، يُخَوِّفُ بِهِ مَنْ يُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَذِّبُهُ. { فَكَأَيِّنْ } فَكَمْ { مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } بِالتَّاءِ (2) هَكَذَا قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَيَعْقُوبُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "أَهْلَكْنَاهَا" بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أَيْ: وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } سَاقِطَةٌ { عَلَى عُرُوشِهَا } عَلَى سُقُوفِهَا، { وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } [أَيْ: وَكَمْ مِنْ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ] (3) مَتْرُوكَةٍ مُخْلَاةٍ عَنْ أَهْلِهَا { وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: رَفِيعٌ طَوِيلٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ شَادَ بِنَاءَهُ إِذَا رَفَعَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: مُجَصَّصٌ، مِنَ الشَّيْدِ، وَهُوَ الْجِصُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْبِئْرَ الْمُعَطَّلَةَ وَالْقَصْرَ الْمَشِيدَ بِالْيَمَنِ، أَمَّا الْقَصْرُ فَعَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ، وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْمٌ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ فَكَفَرُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَبَقِيَ الْبِئْرُ وَالْقَصْرُ خَالِيَيْنِ.
وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْبِئْرَ كَانَتْ بِحَضْرَمَوْتَ فِي بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا حَاضُورَاءَ، وَذَلِكَ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أي: أهلكتها.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

أَنَّ أَرْبَعَةَ آلَافِ نَفَرٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصَالِحٍ، نَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ، أَتَوْا حَضْرَمَوْتَ وَمَعَهُمْ صَالِحٌ فَلَمَّا حَضَرُوهُ مَاتَ صَالِحٌ، فَسُمِّيَ حَضْرَمَوْتُ، لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَ مَاتَ فَبَنَوْا حَاضُورَاءَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَقَامُوا دَهْرًا وَتَنَاسَلُوا حَتَّى كَثُرُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَكَفَرُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُقَالُ لَهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ، كَانَ حَمَّالًا فِيهِمْ، فَقَتَلُوهُ فِي السُّوقِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَعُطِّلَتْ بِئْرُهُمْ وَخُرِّبَتْ قُصُورُهُمْ (1) .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) }
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 6 / 377.

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) }
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } يَعْنِي: كَفَّارَ مَكَّةَ، فَيَنْظُرُوا إِلَى مَصَارِعِ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } يَعْنِي: مَا يُذْكَرُ لَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، { فَإِنَّهَا } الْهَاءُ عِمَادٌ، { لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } ذَكَرَ "الَّتِي فِي الصُّدُورِ" تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ: { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } (الْأَنْعَامِ: 38) مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَى الضَّارَّ هُوَ عَمَى الْقَلْبِ، فَأَمَّا عَمَى الْبَصَرِ فَلَيْسَ بِضَارٍّ فِي أَمْرِ الدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ: الْبَصَرُ الظَّاهِرُ: بُلْغةٌ وَمُتْعَةٌ، وَبَصَرُ الْقَلْبِ: هُوَ الْبَصَرُ النَّافِعُ. { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حَيْثُ قَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرَ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ (1) { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } فَأَنْجَزَ ذلك يوم 28/أ بَدْرٍ. { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "يَعُدُّونَ" بِالْيَاءِ هَاهُنَا لِقَوْلِهِ: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُسْتَعْجِلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَاتَّفَقُوا فِي تَنْزِيلِ "السَّجْدَةِ" أَنَّهُ بِالتَّاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
__________
(1) سبق تخريجه سورة الأنفال عند الآية (32).

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ" (1) .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" هَذِهِ أَيَّامُ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: "كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ، وَإِنَّ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَلْفُ سَنَةٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ فِي الثِّقَلِ وَالِاسْتِطَالَةِ وَالشِّدَّةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَكَيْفَ تَسْتَعْجِلُونَهُ؟ هَذَا كَمَا يُقَالُ: أَيَّامُ الْهُمُومِ طِوَالٌ، وَأَيَّامُ السُّرُورِ قِصَارٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وَأَلْفَ سَنَةٍ فِي الْإِمْهَالِ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ مَتَى شَاءَ أَخَذَهُمْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ، فَيَسْتَوِي فِي قُدْرَتِهِ وُقُوعُ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَأَخُّرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ.
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) }
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا } أَيْ أَمْهَلْتُهَا، { وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } . { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } . { فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الرِّزْقُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا. وَقِيلَ: هُوَ الْجَنَّةُ. { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا } أَيْ عَمِلُوا فِي إِبْطَالِ آيَاتِنَا، { مُعَاجِزِينَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "مُعَجِّزَيْنِ" بِالتَّشْدِيدِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ سَبَإٍ أَيْ: مُثَبِّطِينَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَرَأَ الآخرون: "معاجزين" بالأف أَيْ مُعَانِدِينَ مُشَاقِّينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ ظَانِّينَ وَمُقَدِّرِينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا بِزَعْمِهِمْ أَنْ لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمَعْنَى يُعْجِزُونَنَا، أَيْ: يَفُوتُونَنَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } ( الْعَنْكَبُوتِ: 4 ) ، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وَقِيلَ: "مُعَاجِزِينَ" مُغَالِبِينَ، يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في العلم، باب في القصص: 5 / 255 - 256 ، قال المنذري في إسناده المعلى بن زياد، وفيه مقال، ثم ساق شاهدا من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجه. والإمام أحمد: 3 / 63، والمصنف في شرح السنة: 14 / 191 - 192.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَكَانَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ قُرَيْشٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ "النَّجْمِ" فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ بِمَا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَتَمَنَّاهُ: "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى وإن شفاعتهم لِتُرْتَجَى"، فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا بِهِ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا وَسَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِهِ، وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ إِلَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو أُحَيْحَةَ سَعِيدُ بْنُ العاصِ، فَإِنَّهُمَا أَخَذَا حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ وَرَفَعَاهَا إِلَى جَبْهَتَيْهِمَا وَسَجَدَا عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمَا كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا السُّجُودَ. وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ وَيَقُولُونَ: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَلَكِنَّ آلِهَتَنَا هَذِهِ تَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ، فَإِذَا جَعَلَ لَهَا نَصِيبًا فَنَحْنُ مَعَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا صَنَعْتَ؟ لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا شَدِيدًا وَخَافَ مِنَ اللَّهِ خَوْفًا كَثِيرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُعَزِّيهِ، وَكَانَ بِهِ رَحِيمًا، وَسَمِعَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَهُمْ سُجُودُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ وَأَهْلُ مَكَّةَ فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ بَلَغَهُمْ أَنَّ الَّذِي كَانُوا تُحَدَّثُوا بِهِ مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ إِلَّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْزِلَةِ آلِهَتِنَا عِنْدَ اللَّهِ فَغَيَّرَ ذَلِكَ. وَكَانَ الْحَرْفَانِ اللَّذَانِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَقَعَا فِي فَمِ كُلِّ مُشْرِكٍ فَازْدَادُوا شَرًّا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَشِدَّةً عَلَى مَنْ أَسْلَمَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ } وَهُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ عَيَانًا، { وَلَا نَبِيٍّ } وَهُوَ الَّذِي تَكُونُ نُبُوَّتُهُ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا، وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا { إِلَّا إِذَا تَمَنَّى } قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ: أَحَبَّ شَيْئًا وَاشْتَهَاهُ وَحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أَيْ مُرَادِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ وَوَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا تَمَنَّى

أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ قَوْمُهُ وَلَمْ يَتَمَنَّ ذَلِكَ نَبِيٌّ إِلَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ مَا يَرْضَى بِهِ قَوْمُهُ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ.
وأكثر المفسرين 28/ب قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: { تَمَنَّى } أَيْ: تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى. "أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ" أَيْ: فِي تِلَاوَتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي التِّلَاوَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } (فُصِّلَتْ: 42) يَعْنِي إِبْلِيسَ؟
قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْرَأْ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ بَيْنَ قِرَاءَتِهِ، فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الرَّسُولَ قَرَأَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَغْفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً فَجَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَبَرٌ.
وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَبَّهَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ أَبْيَضُ عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً وَمِحْنَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بِمَا يَشَاءُ (1) .
__________
(1) أن هذه القصة والمعروفة بقصة الغرانيق قد ذكرها أكثر المفسرين دون تعليق فقد ذكرها الطبري 17 / 186 - 190 وابن كثير في تفسيره 3 / 230 - 231 ثم قال: (وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا كلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم). والذي يتتبع طرق هذه القصة يجد أن جميع طرقها مرسلة أو منقطعة أو معلة أو فيها جهالة فالطرق مهما كثرت وكانت ضعيفة لا تزيد الرواية إلا ضعفا. فإن قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق لا تقبل على إطلاقها وهذا ما حققه الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمته وغيره من علماء الحديث المحققين. لقد وقف على هذه القصة غير واحد من العلماء المحققين وبينوا زيف وبطلان هذه المرويات التي أوردها بعض المفسرين. فقد ذكر الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني في تفسيره: 3 / 462 عند قوله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم" فقال: "ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه قال تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) وقوله: (وما ينطق عن الهوى) وقوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم). قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسناد متصل. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وصنف في ذلك كتابا". وللقاضي عياض في كتاب الشفاء 2 / 750 كلام حول نقض هذه القصة فيقول: (فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: المأخذ الأول: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، والمتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح، وقد أعاذنا الله من صحته ولكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين. ثم سرد أحاديث بين زيفها ورد العلماء عليها. ويقول الإمام القرطبي في تفسيره 12 / 84 عند قوله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول. . . " بعد أن سرد بعض الروايات "ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: (وإن كادوا ليفتنونك) الآيتين؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه في أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا) +أ إن هذه الأقاويل يجب تنزيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها وقد ثبت بطلان هذه القصة سندا ومتنا. ولمن أراد مزيد إطلاع فلينظر بحثا قيما للأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) فقد سرد جميع الروايات وبين ضعفها وسرد أقوال المحدثين والعلماء المحققين في رد هذه القصة. انظر الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، صفحة 440 - 452 لمحمد بن محمد أبو شهبة روح المعاني للألوسي 17 / 175 - 184 . الشفاء للقاضي عياض 2 / 750 وما بعده فتح القدير 3 / 461 تفسير القرطبي 12 / 79 وما بعدها في ظلال القرآن 5 / 611.

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

{ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) }
{ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أَيْ: يُبْطِلُهُ وَيُذْهِبُهُ، { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } فَيُثْبِتُهَا، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أَيْ: مِحْنَةٌ وَبَلِيَّةٌ، شَكٌّ وَنِفَاقٌ، { وَالْقَاسِيَةِ } يَعْنِي الْجَافِيَةَ، { قُلُوبُهُمْ } عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ افْتُتِنُوا لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ وَرُفِعَ فَازْدَادُوا عُتُوًّا، وَظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَنْدَمُ فَيُبْطِلُ، { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ } الْمُشْرِكِينَ { لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أَيْ: فِي خِلَافٍ شَدِيدٍ. { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } التَّوْحِيدَ وَالْقُرْآنَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: التَّصْدِيقَ بِنَسْخِ اللَّهِ تَعَالَى، { أَنَّهُ } يَعْنِي: أَنَّ الَّذِي أَحْكَمَ اللَّهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ هُوَ { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أَيْ: يَعْتَقِدُوا

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أَيْ: فَتَسْكُنَ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أَيْ: طَرِيقٍ قَوِيمٍ هُوَ الْإِسْلَامُ.
{ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) }

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)

{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) }
{ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ } أَيْ: فِي شَكٍّ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: مَا بَالُهُ ذَكَرَهَا بِخَيْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "مِنْهُ" أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } يَعْنِي: الْقِيَامَةَ. وَقِيلَ: الْمَوْتُ، { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } قَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: عَذَابُ يَوْمٍ لَا لَيْلَةَ لَهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ يَوْمُ بَدْرٍ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ السَّاعَةَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَ يَوْمَ بَدْرٍ عَقِيمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْكُفَّارِ خَيْرٌ، كَالرِّيحِ الْعَقِيمِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ، سَحَابٌ وَلَا مَطَرَ، [وَالْعُقْمُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَقِيمٌ إِذَا مُنِعَ مِنَ الْوَلَدِ] (1) . وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي عِظَمِ أَمْرِهِ لِقِتَالِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى قُتِلُوا قَبْلَ الْمَسَاءِ. { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ } يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { لِلَّهِ } وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ثُمَّ بَيَّنَ الْحُكْمَ، فَقَالَ تَعَالَى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } . { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ رِضَاهُ، { ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا } وَهُمْ كَذَلِكَ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "قُتِّلُوا" بِالتَّشْدِيدِ { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا هُوَ رِزْقُ الْجَنَّةِ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (آلِ عِمْرَانَ: 169) .
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)

{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) }
{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ } لِأَنَّ لَهُمْ فِيهِ مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } بِنِيَّاتِهِمْ، { حَلِيمٌ } عَنْهُمْ. { ذَلِكَ } أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ، { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } جَازَى الظَّالِمَ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَاتَلُوهُ، { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ } أَيْ: ظُلِمَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ يَعْنِي: مَا أَتَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَحْوَجُوهُمْ إِلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَتَوْا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ قِتَالَهُمْ وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ مِنْ أَجْلِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ وَقَاتَلُوهُمْ فَذَلِكَ بَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فَنُصِرُوا عَلَيْهِمْ (1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ } وَالْعِقَابُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } عَفَا عَنْ مَسَاوِئِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ. { ذَلِكَ } أَيْ: ذَلِكَ النَّصْرُ { بِأَنَّ اللَّهَ } الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، فَمِنْ قُدْرَتِهِ أَنَّهُ: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالتَّاءِ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، { مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ } الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، { الْكَبِيرُ } الْعَظِيمُ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ دُونَهُ. { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً } بِالنَّبَاتِ، { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، { خَبِيرٌ } بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، إِذَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ.
__________
(1) ذكره الطبري: 17 / 195 بغير سند، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6 / 71 لابن أبي حاتم.

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)

{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) }

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) }
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } عَبِيدًا وَمُلْكًا، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ } عَنْ عِبَادِهِ، { الْحَمِيدُ } فِي أَفْعَالِهِ. { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ } أَيْ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفَلْكَ، { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } 29/أ وَقِيلَ: "مَا فِي الْأَرْضِ": الدَّوَابُّ تُرْكَبُ فِي الْبَرِّ، وَ"الْفُلْكُ" تُرْكَبُ فِي الْبَحْرِ، { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ } يَعْنِي: لِكَيْلَا تَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، { إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ } أَيْ: أَنْشَأَكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يَوْمَ الْبَعْثِ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ } لِنِعَمِ اللَّهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شَرِيعَةً هُمْ عَامِلُونَ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عِيدًا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: مَوْضِعَ قُرْبَانٍ يَذْبَحُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَوْضِعَ عِبَادَةٍ. وَقِيلَ: مَأْلَفًا يَأْلَفُونَهُ.
وَالْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ لِعَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْهُ "مَنَاسِكُ الْحَجِّ" لِتَرَدُّدِ النَّاسِ إِلَى أَمَاكِنِ أَعْمَالِ الْحَجِّ.
{ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } يَعْنِي فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ. نَزَلَتْ فِي بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، وَيَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ قَالُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكُمْ تَأْكُلُونَ مِمَّا تَقْتُلُونَ بِأَيْدِيكُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ (1) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى قَوْلِهِ { فَلَا يُنَازِعُنَّكَ } أَيْ: لَا تُنَازِعْهُمْ أَنْتَ، كَمَا يُقَالُ: لَا يُخَاصِمُكَ فُلَانٌ،
__________
(1) انظر: القرطبي: 12 / 93.

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

أَيْ: لَا تُخَاصِمْهُ، وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ الْاثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ: لَا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ، وَأَنْتَ تُرِيدُ: لَا تَضْرِبْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ وَالْمُخَاصَمَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، فَإِذَا تُرِكَ أَحَدُهُمَا فَلَا مُخَاصَمَةَ هُنَاكَ.
{ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } إِلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّكَ، { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } .
{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) }
{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } . { اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فَتَعْرِفُونَ حِينَئِذٍ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَالِاخْتِلَافُ: ذَهَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ إِلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ. { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ } كُلَّهُ، { فِي كِتَابٍ } يَعْنِي اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، { إِنَّ ذَلِكَ } يَعْنِي: عِلْمَهُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } حُجَّةً، { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } يَعْنِي أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا عَنْ جَهْلٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ } لِلْمُشْرِكِينَ، { مِنْ نَصِيرٍ } مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ، { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ } يَعْنِي الْإِنْكَارَ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْعُبُوسِ، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ } أَيْ: يَقَعُونَ وَيَبْسُطُونَ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بِالسُّوءِ. وَقِيلَ: يَبْطِشُونَ، { بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أَيْ: بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ. يُقَالُ: سَطَا عَلَيْهِ وَسَطَا بِهِ، إِذَا تَنَاوَلَهُ بِالْبَطْشِ وَالْعُنْفِ، وَأَصَّلُ السَّطْوِ: الْقَهْرُ.
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ، { أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ } أَيْ: بِشَرٍّ لَكُمْ وَأَكْرَهَ إِلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ

الَّذِي تَسْتَمِعُونَ، { النَّارُ } أَيْ: هِيَ النَّارُ، { وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } مَعْنَى ضُرِبَ: جُعِلَ، كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ السُّلْطَانُ الْبَعْثَ عَلَى النَّاسِ، وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: جُعِلَ لِي شَبَهٌ، وَشَبَّهَ بِيَ الْأَوْثَانَ، أَيْ: جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ الْأَصْنَامَ شُرَكَائِي فَعَبَدُوهَا وَمَعْنَى { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أَيْ: فَاسْتَمِعُوا حَالَهَا وَصِفَتَهَا. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، قَرَأَ يَعْقُوبُ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ { لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا } وَاحِدًا فِي صِغَرِهِ وَقِلَّتِهِ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَالذُّبَابُ: وَاحِدٌ وَجَمْعُهُ الْقَلِيلُ: أَذِبَّةٌ، وَالْكَثِيرُ: ذِبَّانٌ، مِثْلُ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ، وَغِرْبَانٍ، { وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي: خلقه، { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَطْلُونَ الْأَصْنَامَ بِالزَّعْفَرَانِ ، فَإِذَا جَفَّ جَاءَ الذُّبَابُ فَاسْتَلَبَ مِنْهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا يَضَعُونَ الطَّعَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ فَتَقَعُ الذُّبَابُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلْنَ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يُحَلُّونَ الْأَصْنَامَ بِالْيَوَاقِيتِ وَاللَّآلِئِ وَأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ، وَيُطَيِّبُونَهَا بِأَلْوَانِ الطِّيبِ فَرُبَّمَا تَسْقُطُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ فَيَأْخُذُهَا طَائِرٌ أَوْ ذُبَابٌ فَلَا تَقْدِرُ الْآلِهَةُ عَلَى اسْتِرْدَادِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا } أَيْ: وَإِنْ يَسْلُبِ الذُّبَابُ الْأَصْنَامَ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهَا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الطَّالِبُ": الذُّبَابُ يَطْلُبُ مَا يَسْلُبُ مِنَ الطِّيبِ مِنَ الصَّنَمِ، وَ"الْمَطْلُوبُ": الصَّنَمُ يَطْلُبُ الذُّبَابَ مِنْهُ السَّلْبَ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَكْسِ: "الطَّالِبُ": الصَّنَمُ وَ"الْمَطْلُوبُ": الذُّبَابُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "الطَّالِبُ": الْعَابِدُ وَ"الْمَطْلُوبُ": الْمَعْبُودُ. { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ إِنْ أَشْرَكُوا بِهِ مَا لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا يَنْتَصِفُ مِنْهُ، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { اللَّهُ يَصْطَفِي } يَعْنِي يَخْتَارُ { مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } وَهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَعِزْرَائِيلُ وَغَيْرُهُمْ، { وَمِنَ النَّاسِ } أَيْ: يَخْتَارُ مِنَ النَّاسِ رُسُلًا مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)

وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، نَزَلَتْ حِينَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: "أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا" فَأَخْبَرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِ، يَخْتَارُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلقِهِ (1) .
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أَيْ: سَمِيعٌ لِقَوْلِهِمْ، بَصِيرٌ بِمَنْ يَخْتَارُهُ لِرِسَالَتِهِ.
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) }
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قَدَّمُوا، { وَمَا خَلْفَهُمْ } مَا خَلَّفُوا، وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ": مَا عَمِلُوا "وَمَا خَلْفَهُمْ" مَا هُمْ عَامِلُونَ مِنْ بَعْدُ وَقِيلَ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: مَلَائِكَتُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلُهُ قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُمْ، "وَمَا خَلْفَهُمْ" أَيْ: يَعْلَمُ مَا هُوَ كَائِنٌ فَنَائِهِمْ. { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } أَيْ: صَلُّوا، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، { وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ } وَحْدَهُ، { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } قَالَ ابن عباس 29/ب صِلَةُ الرَّحِمِ وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لِكَيْ تَسْعَدُوا وَتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ.
فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْجَدُ عِنْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمْرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ . وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مشرح بن عاهان، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا" (2) .
__________
(1) انظر: القرطبي: 12 / 98.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن 2 / 117، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في السجدة في الحج 3 / 178 - 179 وقال: (هذا حديث ليس إسناده بالقوي) ونقل المنذري قول الترمذي هذا وقال: "وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ومشرح بن هاعان، ولا يحتج بحديثهما". وأخرجه الإمام أحمد: 1 / 151 ، والدارقطني: 1 / 408، والحاكم: 2 / 390 وقال: هذا حديث لم نكتبه مسندا إلا من هذا الوجه، وعبد الله بن لهيعة أحد الأئمة إنما نقم عليه اختلاطه في آخر عمره، وقد صحت الرواية فيه من قول عمر بن الخطاب. . . وأخرجه المصنف في شرح السنة: 3 / 304. وانظر: نصب الراية للزيلعي: 2 / 179.

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ هَاهُنَا، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَعِدَّةُ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفْصَّلِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُفْصَّلِ سُجُودٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي "اقْرَأْ" وَ"إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" (1) وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْإِسْلَامِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سُجُودِ صاد، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ سُجُودُ شُكْرٍ لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ فِيهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمْرَ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، فَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحْمَدَ، وَجَمَاعَةٍ: سُجُودُ الْقُرْآنِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، فَعَدُّوا سَجْدَتَيِ الْحَجِّ وَسَجْدَةَ ص، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ (3) .
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } قِيلَ: جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ "حَقَّ جِهَادِهِ" هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطَّاقَةِ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَا تَخَافُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ فَهُوَ حَقُّ الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } (المَائِدَةِ: 54) .
قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: اعْمَلُوا لِلَّهِ حَقَّ عَمَلِهِ وَاعْبُدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ (4) { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (التَّغَابُنِ: 16) ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: "حَقُّ الْجِهَادِ": أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ خَالِصَةً صَادِقَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَهُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ حَقُّ الْجِهَادِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَالَ: "رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد، باب: سجود التلاوة برقم: (578) 1 / 406، والمصنف في شرح السنة: 3 / 301.
(2) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب سجدة ص: 2 / 552، والمصنف في شرح السنة: 3 / 306.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: تفريع أبواب السجود: 2 / 117، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: عدد سجود القرآن: 1 / 335 برقم: (1057)، والحاكم، 1 / 223 وقال: هذا حديث رواته مصريون قد احتج الشيخان بأكثرهم وليس في عدد سجود القرآن أتم منه ولم يخرجاه.
(4) انظر فيما سبق: 3 / 2 تعليق (1).

الْأَكْبَرِ" (1) وَأَرَادَ بِالْجِهَادِ الْأَصْغَرِ الْجِهَادَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَبِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ الْجِهَادَ مَعَ النَّفْسِ.
{ هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أَيِ: اخْتَارَكُمْ لِدِينِهِ، { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ضِيقٍ، مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا، بَعْضُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَبَعْضُهَا بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالْقِصَاصِ، وَبَعْضُهَا بِأَنْوَاعِ الْكَفَّارَاتِ، فَلَيْسَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ذَنْبٌ لَا يَجِدُ الْعَبْدُ سَبِيلًا إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ فِيهِ.
وَقِيلَ: مِنْ ضِيقٍ فِي أَوْقَاتِ فُرُوضِكُمْ مِثْلَ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْفِطْرِ وَوَقْتِ الْحَجِّ إِذَا الْتَبَسَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وَسَّعَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَتَيَقَّنُوا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الرُّخَصَ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْإِفْطَارِ بِالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَالصَّلَاةِ قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ. وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَرَجُ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْآصَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَضَعَهَا اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (2) .
{ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } أَيْ كَلِمَةَ أَبِيكُمْ، نُصِبَ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: اتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، [وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ] (3) لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: { مِلَّةَ أَبِيكُمْ } وَلَيْسَ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ يَرْجِعُ نَسَبُهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ؟ .
قِيلَ: خَاطَبَ بِهِ الْعَرَبَ وَهُمْ كَانُوا مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: خَاطَبَ بِهِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ أَبٌ لَهُمْ، عَلَى مَعْنَى وُجُوبِ احْتِرَامِهِ وَحِفْظِ حَقِّهِ كَمَا يَجِبُ احْتِرَامُ الْأَبِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَأَزْوَاجُهُ
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص 114: "ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرجه البيهقي في "الزهد" من حديث جابر، قال: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوم غزاة، فقال: قدمتم بخير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه" قال: فيه ضعف قلت - ابن حجر - هو من رواية عيسى ابن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عن ليث ابن أبي سليم، والثلاثة ضعفاء، وأورده النسائي في "الكنى" من قول إبراهيم بن أبي عبلة، أحد التابعين من أهل الشام. ورواه الخطيب البغدادي في التاريخ: 13 / 493، ونسبه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: 3 / 7 للبيهقي وقال: هذا إسناد فيه ضعف انظر كشف الخفاء: 1 / 511، ضعيف الجامع الصغير: 14 / 118، الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة للقاري ص 211 - 212.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 78 لابن أبي حاتم بلفظ: (الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم).
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".

أُمَّهَاتُهُمْ } (الْأَحْزَابِ: 6) ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ [لِوَالِدِهِ] (1) " (2) .
{ هُوَ سَمَّاكُمُ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاكُمُ { الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } يَعْنِي مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. { وَفِي هَذَا } أَيْ: فِي الْكِتَابِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "هُوَ" يَرْجِعُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَيْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِهِ، مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } (البَقَرَةِ: 127) ، { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ } يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ قَدْ بَلَّغَكُمْ، { وَتَكُونُوا } أَنْتُمْ، { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ، { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أَيْ: ثِقُوا بِاللَّهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ يَعْصِمَكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ (3) . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ادْعُوهُ لِيُثَبِّتَكُمْ عَلَى دِينِهِ. وَقِيلَ: الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، { هُوَ مَوْلَاكُمْ } [وَلِيُّكُمْ] (4) وَنَاصِرُكُمْ وَحَافِظُكُمْ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } النَّاصِرُ لَكُمْ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) قطعة من حديث أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة: 1 / 18 بلفظ: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)، والنسائي في الطهارة، باب: النهي عن الاستطابة بالروث: 1 / 38، وابن ماجه في الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروثة والرمة: 1 / 114 برقم (313)، والدارمي 11 / 172 - 173، وصححه ابن حبان برقم (128) ص (62)، وابن خزيمة: 1 / 44 والشافعي: 1 / 28، والمصنف في شرح السنة: 1 / 356 وقال هذا حديث صحيح.
(3) انظر زاد المسير 5 / 457.
(4) ساقط من "ب".

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) }
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أخبرنا عبد 30/أ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ صَاحِبُ أَيْلَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً -وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَزَلَ عَلَيْنَا يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً -فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، ثُمَّ قَرَأَ { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَلِيُّ ابن الْمَدِينِيِّ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَالُوا: "وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } "قَدْ" حَرْفُ تَأْكِيدٍ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: "قَدْ" تُقَرِّبُ الْمَاضِيَ مِنَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة المؤمنين: 9 / 16 - 17، والإمام أحمد: 1 / 34، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: 1 / 535، والمصنف في شرح السنة: 5 / 177 وقال: "هذا حديث حسن، ويونس صاحب أيلة: هو يونس بن يزيد الأيلي صاحب الزهري".

الْحَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَلَاحَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَجْرِيدِ ذِكْرِ الْفِعْلِ، "وَالْفَلَاحُ" النَّجَاةُ وَالْبَقَاءُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَعِدَ الْمُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَبَقُوا فِي الْجَنَّةِ. { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْخُشُوعِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: خَائِفُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُتَوَاضِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ.
وَالْخُشُوعُ قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ" (طه -108) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَنْ لَا يَعْرِفَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ مِنَ الْخُشُوعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَلِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: "هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ" (1) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَاسِمُ بْنُ بَكْرٍ الطَّيَالِسِيُّ بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَرْسُوسِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي ذَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ مَا كَانَ فِي صِلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ أَعْرَضَ عَنْهُ" (2) .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ السُّكُونُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ: هُوَ أَنْ لَا تَرْفَعَ بَصَرَكَ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِكَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَ: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } رَمَوْا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب: الالتفات في الصلاة: 2 / 234، والمصنف في شرح السنة: 3 / 251.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب : الالتفات في الصلاة: 1 / 429، والنسائي في السهو ، باب : التشديد في الالتفات في الصلاة: 3 / 8، وابن خزيمة في صحيحه: 1 / 244، والإمام أحمد: 5 / 172، والحاكم: 1 / 236 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الأحوص هذا مولى بني الليث تابعي من أهل المدينة، وثقه الزهري وروى عنه، وجرت بينه وبين سعد ابن إبراهيم مناظرة في معناه". والمصنف في شرح السنة: 3 / 252 وقال: "صالح بن أبي الأخضر، ضعيف يروي عن الزهري". وروى هذا الحديث عبد الله بن المبارك وغيره عن يونس عن الزهري قال المنذري: "وأبو الأحوص - هذا - لا يعرف له اسم، وهو مولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار، ولم يرو عنه الزهري. قال يحيى بن معين: ليس هو بشيء، وقال أبو أحمد الكرابيسي : ليس بالمتين عندهم". مختصر سنن أبي داود: 1 / 429 وقال: النووي في "الخلاصة": هو فيه جهالة، لكن الحديث لم يضعفه أبو داود فهو حسن عنده انظر: نصب الراية: 2 / 89.

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُرُوبَةَ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ"، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: "لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ" (1) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِكَ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ" (3) .
وَقِيلَ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا، وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ.
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ الشِّرْكِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: عَنِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَنْ كُلِّ بَاطِلٍ وَلَهْوٍ وَمَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقِيلَ: هُوَ مُعَارَضَةُ الْكَفَّارِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" (الفُرْقَانِ -72) ، أَيْ: إِذَا سَمِعُوا الْكَلَامَ الْقَبِيحَ أَكْرَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ. { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } أَيْ: لِلزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ مُؤَدُّونَ، فَعَبَّرَ عَنِ التَّأْدِيَةِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهَا فِعْلٌ. وَقِيلَ: الزَّكَاةُ هَاهُنَا هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، أَيْ: وَالَّذِينَ هُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فَاعِلُونَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في السهو، باب: رفع البصر إلى السماء في الصلاة: 2 / 233، والمصنف في شرح السنة: 3 / 258 .
(2) قال المناوي في "الفتح السماوي" (2 / 854): أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسند ضعيف من حديث أبي هريرة، وفيه سليمان بن عمرو وهو أبو داود النخعي أحد من اتهم بوضع الحديث. وانظر: إرواء الغليل: 2 / 92 - 93، سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 143 - 144.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: مسح الحصى في الصلاة: 1 / 443، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في كراهية مسح الحصى في الصلاة: 2 / 382، والنسائي في السهو، باب: النهي عن مسح الحصى في الصلاة: 3 / 6، وابن ماجه في الإقامة، باب: مسح الحصى برقم: (1027) 1 / 328، وابن حبان في المواقيت، باب: فيما ينهى عنه في الصلاة ص 131 من موارد الظمآن، والإمام أحمد: 5 / 150، والمصنف في شرح السنة: 3 / 158.

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)

{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) }
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الْفَرْجُ: اسْمٌ يَجْمَعُ سَوْأَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحِفْظُ الْفَرْجِ: التَّعَفُّفُ عَنِ الْحَرَامِ. { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ } أَيْ: مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَ"عَلَى" بِمَعْنَى "مِنْ". { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } { مَا } فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ، يَعْنِي أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، وَالْآيَةُ فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ" وَالْمَرْأَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِفَرْجِ مَمْلُوكِهَا. { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } يَعْنِي يَحْفَظُ فَرْجَهُ إِلَّا مِنَ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يُلَامُ فِيهِمَا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ دُونَ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَفِي حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ وَهُوَ عَلَى فِعْلِهِ مَلُومٌ. { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ } أَيِ: الْتَمَسَ وَطَلَبَ سِوَى الْأَزْوَاجِ وَالْوَلَائِدِ الْمَمْلُوكَةِ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } الظَّالِمُونَ الْمُتَجَاوِزُونَ مِنَ الْحَلَالِ إلى الحرام 30/ب وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ بِالْيَدِ حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْهُ فَقَالَ: مَكْرُوهٌ، سَمِعْتُ أَنَّ قَوْمًا يُحْشَرُونَ وَأَيْدِيهُمْ حُبَالَى فَأَظُنُّ أَنَّهُمْ هَؤُلَاءِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: عَذَّبَ اللَّهُ أُمَّةً كَانُوا يَعْبَثُونَ بِمَذَاكِيرِهِمْ. { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "لِأَمَانَتِهِمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَعَهْدِهِمْ" وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (النَّسَاءِ -57) ، { وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } حَافِظُونَ، أَيْ: يَحْفَظُونَ مَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي عَاقَدُوا النَّاسَ عَلَيْهَا، يَقُومُونَ بِالْوَفَاءِ بِهَا، وَالْأَمَانَاتُ تَخْتَلِفُ فَتَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ بَيْنَ الْعَبِيدِ كَالْوَدَائِعِ وَالصَّنَائِعِ فَعَلَى الْعَبْدِ الْوَفَاءُ بِجَمِيعِهَا. { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "صَلَاتِهِمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْآخَرُونَ صَلَوَاتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ. { يُحَافِظُونَ } أَيْ: يُدَاوِمُونَ عَلَى حِفْظِهَا وَيُرَاعُونَ أَوْقَاتَهَا، كَرَّرَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ كَمَا أَنَّ الْخُشُوعَ فِيهَا وَاجِبٌ. { أُولَئِكَ } أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ، { هُمُ الْوَارِثُونَ } يَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْجَنَّةِ.

الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وِرْثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ" (1) وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَبْنِي مَنْزِلَهُ الَّذِي لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ الَّذِي لَهُ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ وَيَبْنِي مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي النَّارِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْوِرَاثَةِ هُوَ أَنَّهُ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَنَالُونَهَا، كَمَا يَئُولُ أَمْرُ الْمِيرَاثِ إِلَى الْوَارِثِ.
{ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ } وَهُوَ أَعْلَى الْجَنَّةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ (2) { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا دَيُّوثٌ" (3) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } يَعْنِي: وَلَدَ آدَمَ، وَ"الْإِنْسَانُ" اسْمُ الْجِنْسِ، يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، { مِنْ سُلَالَةٍ } رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّلَالَةُ صَفْوَةُ الْمَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ يُسِيلُ مِنَ الظَّهْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النُّطْفَةَ سُلَالَةً، وَالْوَلَدَ سَلِيلًا وَسُلَالَةً، لِأَنَّهُمَا مَسْلُولَانِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: { مِنْ طِينٍ } يَعْنِي: طِينَ آدَمَ. وَالسُّلَالَةُ تَوَلَّدَتْ مِنْ طِينٍ خُلِقَ آدَمُ مِنْهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ نُطْفَةٍ سُلَّتْ مِنْ طِينٍ، وَالطِّينُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ هُوَ آدَمُ. وَقَوْلُهُ: "مِنْ سُلَالَةٍ: أَيْ: سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ. { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } يَعْنِي الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً، { فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } حَرِيزٍ، وَهُوَ الرَّحِمُ مُكّن [أَيْ قَدْ هُيِّئَ] (4) لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ إِلَى بُلُوغِ أَمَدِهَا.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزهد، باب: صفة الجنة: 2 / 1453 برقم (4341) وقال: في الزوائد، هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
(2) راجع فيما سبق ، تفسير سورة الكهف.
(3) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 47 مرسلا وأشار إلى تضعيفه بقوله: "هذا مرسل، وفيه إن ثبت دلالة على أن الكتب هاهنا بمعنى الخلق"، وعزاه في الكنز أيضا (6 / 131) للخرائطي في مساوئ الأخلاق وللديلمي في الفردوس.
(4) ساقط من "أ".

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) }
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ "عَظْمًا"، { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ } عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ذُو عِظَامٍ كَثِيرَةٍ. وَقِيلَ: بَيْنَ كُلِّ خَلْقَيْنِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أَيْ أَلْبَسْنَا، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ (1) . وَقَالَ قَتَادَةُ: نَبَاتُ الْأَسْنَانِ وَالشَّعَرِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ اسْتِوَاءُ الشَّبَابِ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ذَلِكَ تَصْرِيفُ أَحْوَالِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ مِنَ الِاسْتِهْلَالِ إِلَى الِارْتِضَاعِ، إِلَى الْقُعُودِ إِلَى الْقِيَامِ، إِلَى الْمَشْيِ إِلَى الْفِطَامِ، إِلَى أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ، وَيَتَقَلَّبَ فِي الْبِلَادِ إِلَى مَا بَعْدَهَا.
{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ } أَيْ: اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ وَالثَّنَاءَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } الْمُصَوِّرِينَ وَالْمُقَدِّرِينَ. وَ"الْخَلْقُ" فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الصَّانِعِينَ، يُقَالُ: رَجُلٌ خَالِقٌ أَيْ: صَانِعٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا جَمَعَ الْخَالِقِينَ لِأَنَّ عِيسَى كَانَ يَخْلُقُ كَمَا قَالَ: "إِنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ" (آلِ عِمْرَانَ -49) فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (2) . { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } وَالْمَيِّتُ -بِالتَّشْدِيدِ -وَالمَائِتُ الَّذِي لَمْ يَمُتْ بَعْدُ وَسَيَمُوتُ، وَالْمَيِّتُ -بِالتَّخْفِيفِ -: مَنْ مَاتَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّخْفِيفُ هَاهُنَا، كَقَوْلِهِ: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" (الزُّمَرِ -30) . { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } .
__________
(1) وهو ما رجحه الطبري في التفسير: (18 / 11) وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفها الله أنه كان بها من نطفة وعلقة ومضغة وعظم، وبنفخ الروح فيه يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحول أبواه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه.
(2) أخرج الطبري هذين القولين، ورجح قول مجاهد؛ لأن العرب تسمي كل صانع خالقا، ومنه قول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... بنات القوم يخلق ثم لا يفري
انظر : تفسير الطبري : 18 / 11 ، زاد المسير: 5 / 463 - 464.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) }

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)

{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) }
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ } أَيْ: سَبْعَ سَمَوَاتٍ، سُمِّيَتْ طَرَائِقَ لِتَطَارُقِهَا، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، يُقَالُ: طَارَقْتُ النَّعْلَ إِذَا جَعَلْتُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ طَرَائِقَ لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْمَلَائِكَةِ. { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } أَيْ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكُهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" (الحَجِّ -65) .
وَقِيلَ: مَا تَرَكْنَاهُمْ سُدَىً بِغَيْرِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَقِيلَ: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ أَيْ بَنَيْنَا فَوْقَهُمْ سَمَاءً أَطْلَعْنَا فِيهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ. { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } يَعْلَمُهُ اللَّهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ لِلْمَعِيشَةِ، { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } يُرِيدُ مَا يَبْقَى فِي الْغُدْرَانِ وَالْمُسْتَنْقَعَاتِ، يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فِي الصَّيْفِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ أَخْرَجْنَا مِنْهَا يَنَابِيعَ، فَمَاءُ الْأَرْضِ كُلُّهُ مِنَ السَّمَاءِ، { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } حَتَّى تَهْلَكُوا عَطَشًا وَتَهْلَكَ مَوَاشِيكُمْ وتخرب أراضيكم 31/أ وَفِي الْخَبَرِ: "أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ: سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَدِجْلَةُ، وَالْفُرَاتُ" (1) .
وَرَوَى مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: جَيْحُونَ، وَسَيَحْوُنَ، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتَ، وَالنِّيلَ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ، مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا، عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، اسْتَوْدَعَهَا اللَّهُ الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ"، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ، وَالْعِلْمَ كُلَّهُ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدِ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ، وَمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَتَابُوتَ مُوسَى بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ اَلْخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا" (2) .
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ بِالْإِجَازَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ، عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُقَاتِلٍ بْنِ حَيَّانَ (3) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر: 6 / 95 لابن أبي الدنيا عن ابن عطاف.
(2) عزاه السيوطي في الدر: 6 / 95 لابن مردويه والخطيب بسند ضعيف وانظر: البحر المحيط: 6 / 400.
(3) مسلمة بن علي الخشني متروك. انظر التقريب لابن حجر.

فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

{ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورٍ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ } أَيْ: بِالْمَاءِ، { جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا } فِي الْجَنَّاتِ، { فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } شِتَاءً وَصَيْفًا، وَخُصَّ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فَوَاكِهِ الْعَرَبِ. { وَشَجَرَةً } أَيْ: وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ شَجَرَةً { تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ } وَهِيَ الزَّيْتُونُ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو "سِينَاءَ" بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ وَفِي "سِينِينَ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَطُورِ سِينِينَ" (التَّينِ -2) قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ الْبَرَكَةُ، أَيْ: مِنْ جَبَلٍ مُبَارَكٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ الْحُسْنُ، أَيْ: مِنَ الْجَبَلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ الْحُسْنُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ الشَّجَرُ، أَيْ: جَبَلٌ ذُو شَجَرٍ. وَقِيلَ: هُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ الْمُلْتَفَّةُ بِالْأَشْجَارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَهُوَ سِينًا، وَسِينِينَ بِلُغَةِ النَّبَطِ. وَقِيلَ: هُوَ فَيْعَالُ مِنَ السَّنَاءِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى بَيْنَ مِصْرَ وَأَيْلَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَيْنَا اسْمُ حِجَارَةٍ بِعَيْنِهَا أُضِيفَ الْجَبَلُ إِلَيْهَا لِوُجُودِهَا عِنْدَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْجَبَلُ (1) .
{ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَيَعْقُوبُ "تُنْبِتُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ، فَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ التَّاءِ فَمَعْنَاهُ تَنْبُتُ تُثْمِرُ الدُّهْنَ وَهُوَ الزَّيْتُونُ. وَقِيلَ: تَنْبُتُ وَمَعَهَا الدُّهْنُ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ، اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، مَعْنَاهُ: تُنْبِتُ الدُّهْنَ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ ثَوْبَهُ وَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَبَتَ وَأَنْبَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... قَطِينًا لَهُمْ حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ (2)
أَيْ: نَبَتَ، { وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } الصِّبْغُ وَالصِّبَّاغُ: الْإِدَامُ الَّذِي يُلَوِّنُ الْخُبْزَ إِذَا غُمِسَ فِيهِ وَيَنْصَبِغُ، وَالْإِدَامُ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ، سَوَاءٌ يَنْصَبِغُ بِهِ الْخُبْزُ أَوْ لَا يَنْصَبِغُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: جَعَلَ
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 18 / 13 - 14 وقال مرجحا: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن سيناء اسم أضيف إليه الطور يعرف به ، كما قيل جبلا طيئ، فأضيفا إلى طيئ، ولو كان القول في ذلك كما قال من قال: معناه: جبل مبارك، أو كما قال: من قال: معناه حسن، لكان الطور منونا، وكان قوله سيناء، من نعته، على أن سيناء بمعنى: مبارك وحسن، غير معروف في كلام العرب، فيجعل ذلك من نعت الجبل، ولكن القول في ذلك إن شاء الله، كما قال ابن عباس من أنه جبل عرف بذلك، وأنه الجبل الذي نودي منه موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مع ذلك مبارك، لا أن معنى سيناء: معنى مبارك".
(2) انظر : "شرح ديوان زهير" ص (111)، "تفسير الطبري" 18 / 14 ، "لسان العرب" لابن منظور، مادة (نبت).

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)

اللَّهُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ أُدْمًا وَدُهْنًا، فَالْأُدُمُ: الزَّيْتُونُ، وَالدُّهْنُ: الزَّيْتُ، وَقَالَ: خَصَّ الطَّوْرُ بِالزَّيْتُونِ لِأَنَّ أَوَّلَ الزَّيْتُونِ نَبَتَ بِهَا. وَيُقَالُ: أَنَّ الزَّيْتُونَ أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الطُّوفَانِ.
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } أَيْ: آيَةً تَعْتَبِرُونَ بِهَا، { نُسْقِيكُمْ } قَرَأَ نَافِعٌ بِالنُّونِ [وَفَتْحِهَا] (1) وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ هَاهُنَا بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا، { مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } أَيْ: عَلَى الْإِبِلِ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } وَحِّدُوهُ، { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } مَعْبُودٍ سِوَاهُ، { أَفَلَا تَتَّقُونَ } أَفَلَا تَخَافُونَ عُقُوبَتَهُ إِذَا عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ. { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أَيْ: يَتَشَرَّفَ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ فَيَصِيرَ مَتْبُوعًا وَأَنْتُمْ لَهُ تَبَعٌ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ } أَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ، { لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً } يَعْنِي بِإِبْلَاغِ الْوَحْيِ . { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ نُوحٌ { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } وَقِيلَ: "مَا سَمِعْنَا بِهَذَا" أَيْ: بِإِرْسَالِ بَشَرٍ رَسُولًا. { إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أَيْ: جُنُونٌ، { فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } أَيْ: إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ. { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } أَيْ: أَعِنِّي بِإِهْلَاكِهِمْ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ.
__________
(1) ساقط من "ب".

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) }

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)

{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) }
{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا } أَدْخِلْ فِيهَا، يُقَالُ سَلَكْتُهُ فِي كَذَا وَأَسْلَكْتُهُ فِيهِ، { مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ } أَيْ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْهَلَاكِ.
{ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ } اعْتَدَلْتَ { أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أَيِ: الْكَافِرِينَ. { وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا } قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "مَنْزِلًا" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ يُرِيدُ مَوْضِعَ النُّزُولِ، قِيلَ: هُوَ السَّفِينَةُ بَعْدَ الرُّكُوبِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَرْضُ بَعْدَ النُّزُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ فِي السَّفِينَةِ، وَيُحْتَمَلُ بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "مُنْزَلًا" بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، أَيْ إِنْزَالًا فَالْبَرَكَةُ فِي السَّفِينَةِ النَّجَاةُ، وَفِي النُّزُولِ بَعْدَ الْخُرُوجِ كَثْرَةُ النَّسْلِ مِنْ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيِ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ أَمْرِ نُوحٍ وَالسَّفِينَةِ وَإِهْلَاكِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، { لِآيَاتٍ } لَدَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِهِ، { وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } وَقَدْ كُنَّا. وَقِيلَ: وَمَا كُنَّا إِلَّا مُبْتَلِينَ أَيْ: مُخْتَبِرِينَ إِيَّاهُمْ بِإِرْسَالِ نُوحٍ ووعظه وتذكيره 31/ب لِنَنْظُرَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ. { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ } مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ، { قَرْنًا آخَرِينَ } { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } يَعْنِي: هُودًا وَقَوْمَهُ. وَقِيلَ: صَالِحًا وَقَوْمَهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ }

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)

{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) }
{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ } أَيِ الْمَصِيرِ إِلَى الْآخِرَةِ، { وَأَتْرَفْنَاهُمْ } نَعَّمْنَاهُمْ وَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ، { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } أَيْ: مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ. { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } لَمَغْبُونُونَ. { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً وَأَعَادَ "أَنَّكُمْ" لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ؟ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ: "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا" (التَّوْبَةِ -63) . { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ كَلِمَةُ بُعْدٍ، أَيْ: بَعِيدٌ مَا تُوعِدُونَ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ" بِكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ فَمَنْ نَصَبَ جَعْلَهُ مِثْلَ أَيْنَ وَكَيْفَ، وَمَنْ رَفَعَ جَعَلَهُ مِثْلَ مُنْذُ وَقَطُّ وَحَيْثُ، وَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ مِثْلَ أَمْسِ وَهَؤُلَاءِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ بِالتَّاءِ، وَيُرْوَى عَنِ الْكِسَائِيِّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ. { إِنْ هِيَ } يَعْنُونَ الدُّنْيَا، { إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: نَحْيَا وَنَمُوتُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: يَمُوتُ الْآبَاءُ وَيَحْيَا الْأَبْنَاءُ. وَقِيلَ: يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَحْيَا قَوْمٌ. { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } بِمُنْشَرِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ. { إِنْ هُوَ } يَعْنِي الرَّسُولَ، { إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } بِمُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } .
{ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) }

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)

{ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) }
{ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ } أَيْ: عَنْ قَلِيلٍ، وَ"مَا" صِلَةٌ،

{ لَيُصْبِحُنَّ } لَيَصِيرُنَّ، { نَادِمِينَ } عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } يَعْنِي صَيْحَةَ الْعَذَابِ، { بِالْحَقِّ } قِيلَ: أَرَادَ بِالصَّيْحَةِ الْهَلَاكَ. وَقِيلَ: صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ صَيْحَةً فَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُهُمْ، { فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } وَهُوَ مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ حَشِيشٍ وَعِيدَانِ شَجَرٍ، مَعْنَاهُ: صَيَّرْنَاهُمْ هَلْكَى فَيَبِسُوا يَبَسَ الْغُثَاءِ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، { فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ } أَيْ: أَقْوَامًا آخَرِينَ. { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أَيْ: مَا تَسْبِقُ أُمَّةٌ أَجْلَهَا أَيْ: وَقْتَ هَلَاكِهَا، { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } وَمَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْ وَقْتِ هَلَاكِهِمْ. { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } أَيْ: مُتَرَادِفِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا غَيْرَ مُتَوَاصِلِينَ، لِأَنَّ بَيْنَ كُلِّ نَبِيِّينَ زَمَانًا طَوِيلًا وَهِيَ فَعَلَى مَنَ الْمُوَاتَرَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ وَاتَرْتُ الْخَبَرَ أَيْ أَتْبَعْتُ بَعْضَهُ بَعْضًا، وَبَيْنَ الْخَبْرَيْنِ [هُنَيْهَةٌ] (1) .
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِيهِ، فَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالتَّنْوِينِ، وَيَقِفُونَ بِالْأَلْفِ، وَلَا يُمِيلُهُ أَبُو عَمْرٍو، وَفِي الْوَقْفِ فِيهَا كَالْأَلِفِ فِي قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ زَيْدًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِلَا تَنْوِينٍ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِالْيَاءِ، وَيُمِيلُهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: غَضْبَى وَسَكْرَى، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ مِثْلُ شَتَّى، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ التَّاءُ الْأُولَى بَدْلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَأَصْلُهُ: "وَتْرَى" مِنَ الْمُوَاتَرَةِ وَالتَّوَاتُرِ، فَجُعِلَتِ الْوَاوُ تَاءً، مِثْلُ: التَّقْوَى وَالتُّكْلَانِ.
{ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا } بِالْهَلَاكِ، أَيْ: أَهْلَكْنَا بَعْضَهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أَيْ: سَمَرًا وَقَصَصًا، يَتَحَدَّثُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِأَمْرِهِمْ وَشَأْنِهِمْ، وَهِيَ
__________
(1) في "ب" مهلة.

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)

جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ حَدِيثٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا هُوَ فِي الشَّرِّ، وَأَمَّا فِي الْخَيْرِ فَلَا يُقَالُ جَعَلْتُهُمْ أَحَادِيثَ وَأُحْدُوثَةً، إِنَّمَا يُقَالُ صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا، { فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ }
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) }
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أَيْ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ مِنَ الْيَدِ وَالْعَصَا. وَغَيْرِهِمَا. { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا } تَعَظَّمُوا عَنِ الْإِيمَانِ، { وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } مُتَكَبِّرِينَ قَاهِرِينَ غَيْرَهُمْ بِالظُّلْمِ. { فَقَالُوا } يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونَ، { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } مُطِيعُونَ مُتَذَلِّلُونَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ دَانَ لِلْمَلِكِ: عَابِدًا لَهُ. { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ } بِالْغَرَقِ. { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } التَّوْرَاةَ، { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أَيْ لِكَيْ يَهْتَدِيَ بِهِ قَوْمُهُ. { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِنَا، وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ شَأْنُهُمَا آيَةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا" (الكَهْفِ -33) . { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ } الرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِيهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ دِمَشْقٌ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غُوطَةُ دِمَشْقَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ الرَّمَلَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَكَعْبٍ. وَقَالَ كَعْبٌ: هِيَ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مِصْرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ (1) . { ذَاتِ قَرَارٍ } أَيْ: مُسْتَوِيَةٍ مُنْبَسِطَةٍ وَاسِعَةٍ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا سَاكِنُوهَا. { وَمَعِينٍ } فَالْمَعِينُ الْمَاءُ الْجَارِي الظَّاهِرُ الَّذِي تَرَاهُ الْعُيُونُ، مَفْعُولٌ مَنْ عَانَهُ يُعِينُهُ إِذَا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ.
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 18 / 25 - 27 ثم قال مرجحا: "وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك: أنها مكان مرتفع ذو استواء، وماء ظاهر، وليس كذلك صفة الرملة، لأن الرملة لا ماء بها معين، والله تعالى ذكره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومعينط.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)

{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ } قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَةِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ عِيسَى. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أَيِ الحَلَالَاتِ، { وَاعْمَلُوا صَالِحًا } الصَّلَاحُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "وَإِنَّ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَخَفَّفَ ابْنُ عَامِرٍ النُّونَ وَجَعَلَ "إِنَّ" صِلَةً، مَجَازُهُ: وَهَذِهِ { أُمَّتُكُمْ } وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ النون على 32/أ مَعْنَى وَبِأَنَّ هَذَا، تَقْدِيرُهُ: بِأَنَّ هَذِهِ أَمَتُّكُمْ، أَيْ مِلَّتُكُمْ وَشَرِيعَتُكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، { أُمَّةً وَاحِدَةً } أَيْ مِلَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْإِسْلَامُ، { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } أَيْ: اتَّقُونِي لِهَذَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَأَمْرُكُمْ وَاحِدٌ، { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } فَاحْذَرُونِ. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ: اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ أُمَتُّكُمْ، أَيْ مِلَّتُكُمْ، أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقَوْنِ. { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ } دِينَهُمْ، { بَيْنَهُمْ } أَيْ: تَفَرَّقُوا فَصَارُوا فِرَقًا، يَهُودًا وَنَصَارَى وَمَجُوسًا، { زُبُرًا } أَيْ: فِرَقًا وَقِطَعًا مُخْتَلِفَةً، وَاحِدُهَا زَبُورٌ وَهُوَ الْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ، وَمِثْلُهُ الزُّبْرَةُ وَجَمْعُهَا زُبَرٌ، وَمِنْهُ: "زُبَرَ الْحَدِيدِ" (الكَهْفِ -96) . أَيْ: صَارُوا فِرَقًا كَزُبَرِ الْحَدِيدِ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ "زُبَرًا" بِفَتْحِ الْبَاءِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ "زُبُرًا" أَيْ: كُتُبًا، يَعْنِي دَانَ كُلُّ فَرِيقٍ بِكِتَابٍ غَيْرِ الْكِتَابِ الَّذِي دَانَ بِهِ الْآخَرُونَ. وَقِيلَ: جَعَلُوا كُتُبَهُمْ قِطَعًا مُخْتَلِفَةً، آمَنُوا بِالْبَعْضِ، وَكَفَرُوا بِالْبَعْضِ، وَحَرَّفُوا الْبَعْضَ، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ } بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ، { فَرِحُونَ } مُعْجَبُونَ وَمَسْرُورُونَ. { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، وَقِيلَ: عَمَايَتِهِمْ، وَقِيلَ: غَفْلَتِهُمْ { حَتَّى حِينٍ } إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ } مَا نُعْطِيهِمْ وَنَجْعَلُهُ مَدَدًا لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي الدُّنْيَا.

نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)

{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) }

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)

{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) }
{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } أي: نجعل لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَنُقَدِّمُهَا ثَوَابًا لِأَعْمَالِهِمْ لِمَرْضَاتِنَا عَنْهُمْ، { بَلْ لَا يَشْعُرُونَ } أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَاتِ فَقَالَ: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أَيْ: خَائِفُونَ، وَالْإِشْفَاقُ: الْخَوْفُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْ عِقَابِهِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمُؤْمِنُ مَنْ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقُ مَنْ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا (1) . { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يُصَدِّقُونَ. { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } . { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أَيْ: يُعْطُونَ مَا أُعْطُوا مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ "وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا" (2) أَيْ: يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ، { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْحَسَنُ: عَمِلُوا لِلَّهِ بِالطَّاعَاتِ [وَاجْتَهَدُوا فِيهَا] (3) وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أَهْوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصَّدِيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ" (4) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 32.
(2) أخرجه الطبري: 18 / 33.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة المؤمنون: 9 / 19 - 20 والإمام أحمد: 6 / 159، 206 ، والحاكم: 2 / 393 - 394 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والطبري: 18 / 34. وانظر: الدر المنثور: 6 / 105 ، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1 / 255 - 256.

أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)

{ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } يُبَادِرُونَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } أَيْ: إِلَيْهَا سَابِقُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لِمَا نُهُوا" أَيْ: إِلَى مَا نُهُوا، وَلِمَا قَالُوا وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سَبَقُوا الْأُمَمَ إِلَى الْخَيْرَاتِ. قَوْلُهُ: { وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } أَيْ: طَاقَتَهَا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ، { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ } وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، "يَنْطِقُ بِالْحَقِّ" يُبَيِّنُ بِالصِّدْقِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا إِلَّا مَا أَطَاقَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا عَمَلَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ وَيُبَيِّنُهُ. وَقِيلَ: هُوَ كَتْبُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الْحَفَظَةُ، { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْكُفَّارَ، فَقَالَ: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أَيْ: فِي غَفْلَةٍ وَجَهَالَةٍ، { مِنْ هَذَا } أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ، { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } أَيْ: لِلْكُفَّارِ أَعْمَالٌ خَبِيثَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا مَحْكُومَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، يَعْنِي مِنْ دُونِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ "إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ"، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا، فَيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ، لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا سِوَى مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } أَيْ: أَخَذْنَا أَغْنِيَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، { بِالْعَذَابِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْجُوعَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِّيِّ يُوسُفَ" (1) فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالْجِيَفَ. { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } يَضِجُّونَ وَيَجْزَعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ، وَأَصْلُ الْجَأْرِ: رَفَعُ الصَّوْتِ بِالتَّضَرُّعِ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة : 11 / 193 - 194، ومسلم في المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، برقم (675) 1 / 466 - 467.

لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)

{ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) }
{ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ } أَيْ لَا تَضِجُّوا، { إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ } لَا تُمْنَعُونَ مَنَّا وَلَا يَنْفَعُكُمْ تَضَرُّعُكُمْ. { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } تَرْجِعُونَ الْقَهْقَرَى تَتَأَخَّرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ. { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ، فَأَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ: مُسْتَكْبِرِينَ مُتَعَظِّمِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَتَعَظُّمُهُمْ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَجِيرَانُ بَيْتِهِ، فَلَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا أَحَدٌ، وَلَا نَخَافُ أَحَدًا، فَيَأْمَنُونَ فِيهِ وَسَائِرُ النَّاسِ فِي الْخَوْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: "مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ" أَيْ: بِالْقُرْآنِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ، { سَامِرًا } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَسْمَرُونَ بِاللَّيْلِ فِي مَجَالِسِهِمْ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَوَحَّدَ سَامِرًا وَهُوَ بِمَعْنَى السُّمَّارِ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ، أَرَادَ تَهْجُرُونَ لَيْلًا. وَقِيلَ: وَحَّدَ سَامِرًا، ومعناه الجمع 32/ب كَقَوْلِهِ: "ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا" (الحَجِّ -5) ، { تَهْجُرُونَ } قَرَأَ نَافِعٌ "تُهْجِرُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مِنَ الْإِهْجَارِ وَهُوَ الْإِفْحَاشُ فِي الْقَوْلِ، أَيْ: تُفْحِشُونَ وَتَقُولُونَ الْخَنَا، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "تَهْجُرُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: تُعْرِضُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَتَرْفُضُونَهَا: وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْهَجْرِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَبِيحُ، يُقَالُ هَجَرَ يَهْجُرُ هَجْرًا إِذَا قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ. وَقِيلَ +تَهْزَئُونَ وَتَقُولُونَ مَا لَا تَعْلَمُونَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هَجَرَ الرَّجُلُ فِي مَنَامِهِ إِذَا هَذَى. { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا } أَيْ: يَتَدَبَّرُوا، { الْقَوْلَ } يَعْنِي: مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَيَعْرِفُوا مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } فَأَنْكَرُوا، يُرِيدُ إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ كَذَلِكَ بَعَثْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: "أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ، يَعْنِي: جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا. { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ } مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَيْسَ قَدْ عَرَفُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، وَعَرَفُوا نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَوَفَاءَهُ بِالْعُهُودِ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

لَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ بَعْدَمَا عَرَفُوهُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ.
{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) }
{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } جُنُونٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، { بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ } يَعْنِي بِالصِّدْقِ وَالْقَوْلِ الَّذِي لَا تَخْفَى صِحَّتُهُ وَحُسْنُهُ عَلَى عَاقِلٍ، { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ } قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: "الْحَقُّ" هُوَ اللَّهُ، أَيْ: لَوِ اتَّبَعَ اللَّهُ مُرَادَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ، وَقِيلَ: لَوِ اتَّبَعَ مُرَادَهُمْ، فَسَمَّى لِنَفْسِهِ شَرِيكًا وَوَلَدًا كَمَا يَقُولُونَ: { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } وَقَالَ الْفرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْقُرْآنُ أَيْ: لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ مِنْ جَعْلِ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" (الْأَنْبِيَاءِ -22) .
{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } بِمَا يُذَكِّرُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: بِمَا فِيهِ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ" (الْأَنْبِيَاءِ -10) ، أَيْ: شَرَفُكُمْ، "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" (الزُّخْرُفِ -44) ، أَيْ: شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. { فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ } يَعْنِي عَنْ شَرَفِهِمْ، { مُعْرِضُونَ } { أَمْ تَسْأَلُهُمْ } عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، { خَرْجًا } أَجْرًا وَجُعْلًا { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أَيْ: مَا يُعْطِيكَ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ وَثَوَابِهِ خَيْرٌ، { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "خَرَاجًا" "فَخَرَاجُ" كِلَاهُمَا بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كِلَاهُمَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "خَرْجًا" بِغَيْرِ أَلِفٍ "فَخَرَاجُ" بِالْأَلِفِ. { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَهُوَ الْإِسْلَامُ. { وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ } أَيْ: عَنْ دِينِ الْحَقِّ، { لَنَاكِبُونَ } لَعَادِلُونَ مَائِلُونَ.

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)

{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) }
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ } قَحْطٍ وَجُدُوبَةٍ { لَلَجُّوا } تَمَادَوْا، { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَلَمْ يُنْزَعُوا عَنْهُ. { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِّيِّ يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمُ الْقَحْطُ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ: قَدْ قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنَّ يَكْشِفَ عَنَّا هَذَا الْقَحْطَ، فَدَعَا فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ } أَيْ: مَا خَضَعُوا وَمَا ذَلُّوا لِرَبِّهِمْ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ السُّكُونِ، { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أَيْ: لَمْ يَتَضَرَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بَلْ مَضَوْا عَلَى تَمَرُّدِهِمْ. { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْقَتْلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْتُ. وَقِيلَ: هُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ } أَيْ: أَنْشَأَ لَكُمُ الْأَسْمَاعَ { وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } لِتَسْمَعُوا وَتُبْصِرُوا وَتَعْقِلُوا، { قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } أَيْ: لَمْ تَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعَمَ. { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ } خَلَقَكُمْ، { فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تُبْعَثُونَ. { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أَيْ: تَدْبِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، يَتَعَاقَبَانِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } مَا تَرَوْنَ مِنْ صَنْعَةٍ فَتُعْتَبَرُونَ.
__________
(1) انظر الطبري: 18 / 45، أسباب النزول للواحدي ص 362 - 363 ، الدر المنثور: 6 / 111، الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي ص 100.

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)

{ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) }
{ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ } أَيْ: كَذَّبُوا كَمَا كَذَّبَ الْأَوَّلُونَ. { قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } لَمَحْشُورُونَ، قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ. { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا } الْوَعْدَ، { مِنْ قَبْلُ } أَيْ: وَعَدَ آبَاءَنَا قَوْمٌ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ فَلَمْ نَرَ لَهُ حَقِيقَةً، { إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ. { قُلْ } يَا مُحَمَّدُ مُجِيبًا لَهُمْ، يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، { لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا } مِنَ الْخَلْقِ، { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } خَالِقَهَا وَمَالِكَهَا. { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. { قُلْ } لَهُمْ إِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ: { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } فَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا ابْتِدَاءً يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } . { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } قَرَأَ الْعَامَّةُ "لِلَّهِ" وَمِثْلُهُ مَا بَعْدَهُ، فَجَعَلُوا الْجَوَابَ عَلَى الْمَعْنَى، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلرَّجُلِ: مَنْ مَوْلَاكَ؟ فَيَقُولُ: لِفُلَانٍ، أَيْ أَنَا لِفُلَانٍ وَهُوَ مَوْلَايَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِيهِمَا "اللَّهُ" وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْمَصَاحِفِ، مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ كَالْأَوَّلِ، { قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } تَحْذرُونَ. { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } الْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ، وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، { وَهُوَ يُجِيرُ } أَيْ: يُؤَمِّنُ مَنْ يَشَاءُ { وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ } أَيْ: لَا يُؤمَّنُ مَنْ أَخَافُهُ اللَّهُ، أَوْ يَمْنَعُ هُوَ مِنَ السُّوءِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قِيلَ: مَعْنَاهُ أَجِيبُوا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)

{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) }

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)

{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) }
{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أَيْ: تُخْدَعُونَ وَتُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يُخَيَّلُ لَكُمُ الْحَقُّ بَاطِلًا؟ { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ } بِالصِّدْقِ { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فِيمَا يَدَّعُونَ من الشريك 33/أ { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } أَيْ: مِنْ شَرِيكٍ، { إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ } أَيْ: تَفَرَّدَ بِمَا خَلَقَهُ فَلَمْ يَرْضَ أَنْ يُضَافَ خَلْقُهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ الْإِلَهَ الْآخَرَ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا خَلَقَ. { وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أَيْ: طَلَبَ بَعْضُهُمْ مُغَالَبَةَ بَعْضٍ كَفِعْلِ مُلُوكِ الدُّنْيَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ حَفْصٍ: "عَالِمُ" بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِجَرِّهَا عَلَى نَعْتِ اللَّهِ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ، { فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أَيْ: تَعَظَّمَ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ. قَوْلُهُ: { قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي } أَيْ: إِنْ أَرَيْتَنِي، { مَا يُوعَدُونَ } أَيْ: مَا أَوْعَدْتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. { رَبِّ } أَيْ: يَا رَبِّ، { فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أَيْ: لَا تُهْلِكْنِي بِهَلَاكِهِمْ. { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ } مِنَ الْعَذَابِ لَهُمْ، { لَقَادِرُونَ } { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أَيْ: ادْفَعْ بِالْخَلَّةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، هِيَ الصَّفْحُ وَالْإِعْرَاضُ وَالصَّبْرُ، { السَّيِّئَةَ } يَعْنِي أَذَاهُمْ، أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ، نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ (1) { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } يَكْذِبُونَ وَيَقُولُونَ مِنَ الشِّرْكِ.
__________
(1) تقدم في أكثر من موضع أن العلماء توسعوا في نسخ كثير من أيات الصبر والمسالمة والحسنى بآية السيف، والحق أنه لا نسخ في هذا انظر فيما سبق : 3 / 32 - 33 .

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)

{ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) }
{ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ } أَيْ: أَمْتَنِعُ وَأَعْتَصِمُ بِكَ، { مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:/ نَزَعَاتُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَسَاوِسُهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَفْخُهُمْ وَنَفْثُهُمْ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: دَفْعُهُمْ بِالْإِغْوَاءِ إِلَى الْمَعَاصِي، وَأَصْلُ الْهَمْزِ شِدَّةُ الدَّفْعِ. { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِي، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحُضُورَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا حَضَرَهُ يُوَسْوِسُهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ، فَقَالَ: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } وَلَمْ يَقِلِ ارْجِعْنِي، وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ وَحْدَهُ الرَّجْعَةَ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الْوَاحِدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: " { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجْرِ -9) ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ رَوْحَهُ ابْتِدَاءً بِخِطَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَسْأَلَةِ الْمَلَائِكَةِ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } أَيْ: ضَيَّعْتُ أَنْ أَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: أَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَلَا لِيَجْمَعَ الدُّنْيَا وَيَقْضِيَ الشَّهَوَاتِ، وَلَكِنْ تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَرَحِمَ اللَّهُ امَرِءًا عَمِلَ فِيمَا يَتَمَنَّاهُ الْكَافِرُ إِذَا رَأَى الْعَذَابَ،{ كَلَّا } كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ، أَيْ: لَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا،{ إِنَّهَا } يَعْنِي: سُؤَالَهُ الرَّجْعَةَ،{ كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } [وَلَا يَنَالُهَا] (1) { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } أَيْ أَمَامَهُمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَاجِزٌ، { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وَالْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَقِيَّةُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَبْرُ، وَهُمْ فِيهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ النَّفْخَةِ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا النَّفْخَةُ الْأُولَى "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ" (الزُّمَرِ -68) ، { فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } "ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ" (الزُّمَرِ -68) ، "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ" (الصَّافَّاتِ -27) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْصَبُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قَبْلَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَيَفْرَحُ الْمَرْءُ أَنْ [يَكُونُ لَهُ] (1) الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ" (2) .
وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهَا الثَّانِيَةُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لَا يَتَفَاخَرُونَ بِالْأَنْسَابِ يَوْمَئِذٍ كَمَا كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ سُؤَالَ تَوَاصُلٍ كَمَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ فِي الدُّنْيَا: مَنْ أَنْتَ وَمِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ أَنْتَ؟ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إِلَّا نَسَبِي وَسَبَبِي" (3) .
قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَبْقَى (4) يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبَبٌ وَلَا نَسَبٌ إِلَّا نَسَبُهُ وَسَبَبُهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ هَاهُنَا{ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ" (الصَّافَّاتِ -27) .
الْجَوَابُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ لِلْقِيَامَةِ أَحْوَالًا وَمُوَاطِنَ، فَفِي مَوْطِنٍ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ، فَيَشْغَلُهُمْ عِظَمُ الْأَمْرِ عَنِ التَّسَاؤُلِ فَلَا يَتَسَاءَلُونَ، وَفِي مَوْطِنٍ يَفِيقُونَ إِفَاقَةً فَيَتَسَاءَلُونَ (5) .
{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) }
{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
__________
(1) في "ب" قد وجب.
(2) أخرج الروايتين الطبري: 18 / 54.
(3) قطعة من حديث أخرجه الحاكم في المستدرك: 3 / 142 عن عمر رضي الله عنه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: منقطع، والطبراني : 3 / 37، قال الهيثمي: 4 / 272: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، والبيهقي: 7 / 114، وذكره ابن حجر في المطالب العالية: 4 / 177 ونسبه لابن أبي عمر، وقال البوصيري: رواته ثقات، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 117 للبزار والضياء في المختارة، وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 257.
(4) في "ب" لا ينفع.
(5) انظر مسائل الرازي وأجوبتها ص 238.

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) }

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)

{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) }
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } . { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } أَيْ: تَسْفَعُ، وَقِيلَ: تُحْرِقُ، { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } عَابِسُونَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، قَالَ: تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتَهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ" (1) وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْحَكَمِ ابن الْأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ: "يَعْظُمُ الْكَافِرُ فِي النَّارِ مَسِيرَةَ سَبْعِ لَيَالٍ، فَيَصِيرُ ضِرْسُهُ مِثْلَ أُحُدٍ، وَشِفَاهُهُمْ عِنْدَ سُرَرِهِمْ، سُودٌ زُرْقٌ خسر مقبوحون" (2) 33/ب قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، تُخَوَّفُونَ بِهَا، { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "شَقَاوَتُنَا" بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الشِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْنَا فَلَمْ نَهْتَدِ. { وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } عَنِ الْهُدَى. { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أَيْ: مِنَ النَّارِ، { فَإِنْ عُدْنَا } لِمَا تَكْرَهُ { فَإِنَّا ظَالِمُونَ } { قَالَ اخْسَئُوا } أَبْعِدُوا، { فِيهَا } كَمَا يُقَالُ لِلْكَلْبِ إِذَا طُرِدَ: اخْسَأْ، { وَلَا تُكَلِّمُونِ } فِي رَفْعِ الْعَذَابِ، فَإِنِّي لَا أَرْفَعُهُ عَنْكُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَيِسَ الْمَسَاكِينُ (3) مِنَ الْفَرَجِ، قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ آخِرُ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة المؤمنون: 9 / 20، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، والإمام أحمد: 3 / 88، والحاكم: 2 / 395 وصححه ووافقه الذهبي، وعزاه ابن حجر في الكافي الشاف صفحة (116) للبيهقي في الشعب من رواية أبي السمح عن الهيثم بن أبي سعيد، وعزاه السيوطي أيضا: 6 / 118 لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية. وانظر: الترغيب والترهيب: 4 / 486، تفسير ابن كثير: 3 / 258.
(2) انظر : كنز العمال: 14 / 529 - 530.
(3) في "ب" المشركون.

إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ ثُمَّ لَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّهِيقَ وَالزَّفِيرَ، وَيَصِيرُ لَهُمْ عُوَاءٌ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ لَا يَفْهَمُونَ وَلَا يُفْهَمُونَ، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ أَرْبَعِينَ عَامًا: (1) "يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ" (الزُّخْرُفِ -77) فَلَا يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ" (الزُّخْرُفِ -77) ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } فَيَدَعُهُمْ مِثْلَ عُمُرِ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } فَلَا يَنْبِسُ الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ إِنْ كَانَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا قِيلَ لَهُمُ: "اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ" انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ يَنْبَحُ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، وَأُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ.
{ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) }
{ إِنَّهُ } الْهَاءُ فِي "إِنَّهُ" عِمَادٌ وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمَجْهُولَةَ، { كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي } وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "سُخْرِيًّا" بِضَمِّ السِّينِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ ص، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهِمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى الضَّمِّ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ. قَالَ الْخَلِيلُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: بَحْرٌ لُجِّيٌّ، ولِجِّيٌّ بِضَمِّ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، مِثْلَ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ وَدِرِّيٍّ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْكَسْرُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ وَالِاسْتِعْبَادِ بِالْفِعْلِ، وَاتَّفَقُوا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ، { حَتَّى أَنْسَوْكُمْ } أَيْ: أَنْسَاكُمُ اشْتِغَالُكُمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَتَسْخِيرِهِمْ، { ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } نَظِيرُهُ: "إِنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ" (المُطَفِّفِينَ -29) قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَابٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَالْفُقَرَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ (2) . { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا } عَلَى أَذَاكُمْ وَاسْتِهْزَائِكُمْ فِي الدُّنْيَا، { أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "أَنَّهُمْ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِصَبْرِهِمُ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ.
__________
(1) أخرجه الحاكم : 2 / 395 وصححه ووافقه الذهبي، لكن بلفظ "يوما" بدل عام.
(2) انظر البحر المحيط: 6 / 423.

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)

{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) }
{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ" عَلَى الْأَمْرِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ : قُولُوا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْوَاحِدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمَاعَةَ، إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَّابُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: قُلْ كَمْ، عَلَى الْأَمْرِ، وَقَالَ "أَنْ" عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ جَوَابٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "قَالَ" فِيهِمَا جَمِيعًا، أَيْ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْبَعْثِ: كَمْ لَبِثْتُمْ؟ { فِي الْأَرْضِ } أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقُبُورِ { عَدَدَ سِنِينَ } { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } نَسُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعِظَمِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنَ الْعَذَابِ، { فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَيُحْصُونَهَا عَلَيْهِمْ. { قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ } أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا، { إِلَّا قَلِيلًا } سَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّ الْوَاحِدَ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَكُونُ قَلِيلًا فِي جَنْبِ مَا يَلْبَثُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ لُبْثَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقَبْرِ مُتَنَاهٍ، { لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قَدْرَ لَبْثِكُمْ فِي الدُّنْيَا . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } لَعِبًا وَبَاطِلًا لَا لِحِكْمَةٍ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَابِثِينَ. وَقِيلَ: لِلْعَبَثِ، أَيْ: لِتَلْعَبُوا وَتَعْبَثُوا كَمَا خَلَقْتُ الْبَهَائِمَ لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا عِقَابَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى" (القِيَامَةِ -36) ، وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْعِبَادَةِ وَإِقَامَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَ{ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } أَيْ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ لِلْجَزَاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ لَا "تَرْجِعُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ، عَنْ حَنَشٍ، أَنَّ رَجُلًا مُصَابًا مُرَّ بِهِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَقَاهُ فِي أُذُنَيْهِ: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِأَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَاذَا رَقَيْتَ فِي أُذُنِهِ"؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ" (1) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر : (6 / 122) للحكيم الترمذي، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص (298)، وأبي نعيم في الحلية 1 / 7، وابن مردويه . وفي إسناده: سلام بن رزين، لا يعرف وحديثه باطل. وذكره الذهبي في الميزان: (2 / 175) وقال: قال العقيلي : حدثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل قال. . . وساق الحديث: فقال أبي: هذا موضوع، هذا حديث الكذابين.

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) }
ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرِهِ: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } يَعْنِي السَّرِيرَ الْحَسَنَ. وَقِيلَ: الْمُرْتَفِعُ. { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ بِهِ وَلَا بَيِّنَةَ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي دَعْوَى الشِّرْكِ، { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ } جَزَاؤُهُ، { عِنْدَ رَبِّهِ } يُجَازِيهِ بِعَمَلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" (الغَاشَيَةِ -26) ، { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } لَا يَسْعَدُ مَنْ جَحَدَ وَكَذَّبَ. { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } .

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

سُورَةُ النُّورِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
{ سُورَةٌ } أَيْ: هَذِهِ سُورَةٌ، { أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: "وَفَرَّضْنَاهَا" بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: أَوْجَبْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَأَلْزَمْنَاكُمُ الْعَمَلَ بِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ، وَالْفَرْضُ: التَّقْدِيرُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ( الْبَقَرَةِ-237 ) أَيْ: قَدَّرْتُمْ، وَدَلِيلُ التَّخْفِيفِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ" (الْقَصَصِ-85 ) وَأَمَّا التشديد فمعناه: 34/أ وَفَصَّلْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْفَرْضِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ أَيْضًا، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ لِكَثْرَةٍ مَا فِيهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، أَيْ: أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. { وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وَاضِحَاتٍ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تَتَّعِظُونَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } أَرَادَ إِذَا كَانَا حُرَّيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ بِكْرَيْنِ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ "فَاجْلِدُوا": فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جِلْدَةٍ، يُقَالُ جَلَدَهُ إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ، كَمَا يُقَالُ رَأَسَهُ وَبَطَنَهُ، إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ وَبَطْنَهُ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَلْدِ لِئَلَّا يُبَرَّحَ وَلَا يُضْرَبُ
__________
(1) مدنية كلها بإجماع العلماء، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة النور بالمدينة، وأخرج عن ابن الزبير مثله. انظر: الدر المنثور: 6 / 124، زاد المسير: 3 / 6.

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

بِحَيْثُ يَبْلُغُ اللَّحْمَ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا (1) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (2) .
{ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } رَحْمَةٌ وَرِقَّةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "رَأَفَةٌ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ أَنَّهَا سَاكِنَةٌ لِمُجَاوِرَةِ قَوْلِهِ وَرَحْمَةً، وَالرَّأْفَةُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ، لَا يُنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ.
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدَ جَارِيَةً لَهُ زَنَتْ، فَقَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ ظَهْرَهَا وَرِجْلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَأْمُرْنِي بِقَتْلِهَا وَقَدْ ضَرَبْتُ فَأَوْجَعْتُ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَاهَا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُخَفِّفُوا الضَّرْبَ وَلَكِنْ أَوَجِعُوهُمَا ضَرْبًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: يُجْتَهَدُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَيُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُجْتَهَدُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُخَفَّفُ فِي الشُّرْبِ وَالْفِرْيَةِ.
{ فِي دِينِ اللَّهِ } أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
{ وَلْيَشْهَدْ } وَلْيَحْضُرْ، { عَذَابَهُمَا } حَدَّهُمَا إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمَا { طَائِفَةٌ } نَفَرٌ، { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ: أَقَلُّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: رَجُلَانِ فَصَاعِدًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ: أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا.
{ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ، إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَحُكْمِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ وَفِيهِمْ فُقَرَاءُ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا عَشَائِرَ، وَبِالْمَدِينَةِ نِسَاءٌ بَغَايَا يُكْرِينَ أَنْفُسَهُنَّ، وَهُنَّ يَوْمَئِذٍ أَخْصَبُ
__________
(1) أخرج البخاري في الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني: 5 / 255 عن زيد بن خالد رضي الله عنه، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مئة وتغريب عام".
(2) أخرج البخاري في الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني: 2 / 181-183.
(3) أخرجه الطبري: 18 / 67 وانظر: الدر المنثور: 6 / 125-126.

أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَرَغَبَ أُنَاسٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي نِكَاحِهِنَّ لِيُنْفِقْنَ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أَنْ يَتَزَوَّجُوا تِلْكَ الْبَغَايَا لِأَنَّهُنَّ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي نِسَاءٍ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، مِنْهُنَّ تِسْعٌ لَهُنَّ رَايَاتٌ كَرَايَاتِ الْبِيطَارِ يُعْرَفْنَ بِهَا، مِنْهُنَّ أُمُّ مَهْزُولٍ جَارِيَةُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَنْكِحُ الزَّانِيَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَّخِذُهَا مَأْكَلَةً، فَأَرَادَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نِكَاحَهُنَّ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ أُمِّ مَهْزُولٍ وَاشْتَرَطَتْ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ كَانَ يَحْمِلُ الْأَسَارَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتْ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَتَى مَكَّةَ دَعَتْهُ عَنَاقُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ مَرْثَدٌ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا، قَالَتْ: فَانْكِحْنِي، فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أنكح عناقا؟ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا، فَنَزَلَتْ: { وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ وَقَالَ لِي: لَا تَنْكِحْهَا (3) . فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَانَ التَّحْرِيمُ خَاصًّا فِي حَقِّ أُولَئِكَ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ هُوَ الْجِمَاعُ، وَمَعْنَاهُ: الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ، وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ. وَرِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: إِنْ جَامَعَهَا وَهُوَ مُسْتَحِلٌّ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنْ جَامَعَهَا وَهُوَ مُحَرِّمٌ فَهُوَ زَانٍ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُحَرِّمُ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ وَيَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجَ الزَّانِي بِالزَّانِيَةِ فَهُمَا زَانِيَانِ أَبَدًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الزَّانِي الْمَجْلُودُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً مَجْلُودَةً وَالزَّانِيَةُ الْمَجْلُودَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ مَجْلُودٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ، فَكَانَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ حَرَامًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ" فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ (4) .
__________
(1) قطعة من حديث عزاه السيوطي في الدر: (6 / 127) لابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 2 / 159 وانظر: أسباب النزول للواحدي ص 364-366، تفسير الطبري: 18 / 71.
(3) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: قوله تعالى "الزاني لا ينكح إلا زانية" 3 / 6، والترمذي في تفسير سورة النور: 9 / 21-23 وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والنسائي في النكاح، باب: تزويج الزانية 6 / 66-67 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وصححه الحاكم 2 / 166 وأقره الذهبي، والطبري: 18 / 71.
(4) ذكر هذه الأقوال الطبري: 18 / 74-75. ثم قال مرجحا: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عنى بالنكاح في هذه الموضع: الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات، وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان. فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله.

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)

وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ فَرَجٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبِيْدُ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَدْفَعُ يَدَ لَامِسٍ؟ قَالَ: طَلِّقْهَا، قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّهَا وَهِيَ جَمِيلَةٌ، قَالَ: اسْتَمْتِعْ بِهَا. وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ "فَأَمْسِكْهَا إِذًا" (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ رجلا وامرأة 34/ب فِي زِنًى وَحَرِصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى الْغُلَامُ (2) .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَفَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أَرَادَ بِالرَّمْيِ الْقَذْفَ بِالزِّنَا، وَكُلُّ مَنْ رَمَى مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً بِالزِّنَا، فَقَالَ لَهُ: زَنَيْتَ أَوْ يَا زَانِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ جَلْدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، إِنْ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَيُجْلَدُ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ، فَعَلَى الْقَاذِفِ التَّعْزِيرُ.
وَشَرَائِطُ الْإِحْصَانِ خَمْسَةٌ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِفَّةُ مِنَ الزِّنَى، حَتَّى أَنَّ مَنْ زَنَى مَرَّةً فِي أَوَّلِ بُلُوغِهِ ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ حَالَتُهُ وَامْتَدَّ عُمْرُهُ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَقَرَّ الْمَقْذُوفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ أَرْبَعَةً مِنَ الشُّهُودِ عَلَى زِنَاهُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، لِأَنَّ الْحَدَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْفِرْيَةِ وَقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهُ.
وَقَوْلُهُ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أَيْ: يَقْذِفُونَ بِالزِّنَا الْمُحْصَنَاتِ، يَعْنِي الْمُسْلِمَاتِ الْحَرَائِرَ الْعَفَائِفَ { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } يَشْهَدُونَ عَلَى زِنَاهُنَّ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أَيْ: اضْرِبُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًاوَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
__________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء: 3 / 5، والنسائي في النكاح، باب: تزويج الزانية: 6 / 67-68، وفي الطلاق، باب: ما جاء في الخلع: 6 / 170 وقال: "هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. وقال السندي في حواشيه على النسائي: "وقيل: هذا الحديث موضوع، ورد بأنه حسن صحيح، ورجال سنده رجال الصحيحين، فلا يلتفت إلى قول من حكم عليه بالوضع والله أعلم".
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 7 / 203-204، وسعيد بن منصور في السنن: 1 / 224، والبيهقي: 7 / 155.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) }
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قُبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَفِي حُكْمِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَاذِفَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَإِذَا تَابَ وَنَدِمَ عَلَى مَا قَالَ وَحَسُنَتْ حَالَتُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءً تَابَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ قَبْلَهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا"، وَقَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الشَّهَادَةِ وَإِلَى الْفِسْقِ، فَبَعْدَ التَّوْبَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْفِسْقِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ، وَقَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَشُرَيْحٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالُوا: بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يُحَدَّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ قَبْلُ أَنْ يُحَدَّ شَرٌّ مِنْهُ حِينَ يُحَدُّ، لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ، فَكَيْفَ يَرُدُّونَهَا فِي أَحْسَنِ حَالَيْهِ وَيَقْبَلُونَهَا فِي شَرِّ حَالَيْهِ. وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْكُلِّ.
وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ الْمَقْذُوفُ فَيَسْقُطَ، كَالْقَصَّاصِ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَبِلْتُمْ شَهَادَتَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ { أَبَدًا } ؟.
قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى قَذْفِهِ، لِأَنَّ أَبَدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُدَّتُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ. كَمَا يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ أَبَدًا: يُرَادُ مَا دَامَ كَافِرًا (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أَيْ: يَقْذِفُونَ نِسَاءَهُمْ، { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ } يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالُوا، { إِلَّا أَنْفُسُهُمْ } أَيْ: غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ، { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ" بِرَفْعِ الْعَيْنِ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ الَّتِي تَدْرَأُ الْحَدَّ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
__________
(1) انظر تفصيلا لهذه الأقوال مع الترجيح عند الطبري: 18 / 76-81.

وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)

{ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) }
{ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ "أَنْ" خَفِيفَةٌ وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ "لَعْنَةُ اللَّهِ" رَفْعٌ، ثُمَّ يَعْقُوبُ قَرَأَ "غَضَبُ" بِرَفْعٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ "غَضِبَ" بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتَحَ الْبَاءَ عَلَى الْمَاضِي "اللَّهُ" رَفَعٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "أَنَّ" بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا، "لعنة" نصب، و"غضب" بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى الِاسْمِ، "اللَّهِ" جَرٌّ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "وَالْخَامِسَةَ" الثَّانِيَةُ نَصْبٌ، أَيْ: وَيَشْهَدُ الشَّهَادَةَ الْخَامِسَةَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِي أَنْ كَالْأُولَى.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أخبره أن عويمر الْعِجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ، لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ، وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا"، فَقَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مَالِكٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ (1) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِ مَعْنَاهُ وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْإِلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جاءت به 35/أ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ [وُجُوهٌ] (2) فلا أحسب عويمر إِلَّا قَدْ كَذِبَ عَلَيْهَا" فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولَ اللَّهِ
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، باب ما جاء في اللعان برقم (34): 2 / 566-567، وأخرجه البخاري في الطلاق، باب: اللعان ومن طلق بعد اللعان: 9 / 446، وفي مواضع أخرى، ومسلم في أول باب اللعان، برقم: (1492) 2 / 1129-1130، والمصنف في شرح السنة: 9 / 250.
(2) لقد اشتهر بهذا اللفظ في كتب والأصول ما أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رجاله كلهم ثقات ولكن يوجد فيه انقطاع بين ابن عباس وعطاء وأشار إلى هذا البوصيري في الزوائد فقال: إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع وقد ورد بألفاظ أخرى يقوي بعضها بعضا. انظر إرواء الغليل للشيخ الألباني 1 / 123 والمعتبر في تخريج أحاديث المنهاج، والمختصر للزركشي ص 154.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمُرٍ (1) فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ"، فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا، فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ"؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِيَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ (2) ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ (3) ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ (4) ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ"، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ" (5) .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ أَتَيْتُ لَكَاعَ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أُهَيِّجُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتُ لَآتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ وَيَذْهَبَ، وَإِنْ قُلْتُ مَا رَأَيْتُ إِنَّ فِي ظَهْرِي لَثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَّا تَسْمَعُونَ مَا قَالَ سَيِّدُكُمْ"؟ قَالُوا: لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا بِكْرًا، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهَا حَقٌّ وَلَكِنْ عَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنَّ اللَّهَ يَأْبَى إِلَّا ذَلِكَ"، فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ حَدِيقَةٍ لَهُ، فَرَأَى رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِهِ يَزْنِي بِهَا، فَأَمْسَكَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: التلاعن في المسجد: 9 / 452-453، والمصنف في شرح السنة: 9 / 252.
(2) شديد سوادهما.
(3) تام الإليتين، عظيمهما.
(4) عظيمهما.
(5) أخرجه البخاري في تفسير سورة النور، باب: "ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين" 8 / 449 وفي مواضع أخرى، والمصنف في شرح السنة: 9 / 259-260.

يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي، رَأَيْتُ بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُ بِأُذُنَيَّ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَتَاهُ بِهِ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِكَ مِمَّا أَتَيْتُكَ بِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ وَمَا قُلْتُ إِلَّا حَقًّا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي فَرَجًا، فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِهِ، فَقَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ فَقَالُوا ابْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ، يُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّهُمْ لَكَذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَمْسَكَ أَصْحَابُهُ عَنْ كَلَامِهِ حِينَ عَرَفُوا أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ، حَتَّى فَرَغَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرَجًا" فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهَا، فَجَاءَتْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهَا فَكَذَّبَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَقَالَ هِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَدْ صَدَقْتُ وَمَا قُلْتُ إِلَّا حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا، فَقِيلَ لِهِلَالٍ: اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فَقَالَ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ: يَا هِلَالُ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْخَامِسَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعَذَابَ، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يُجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ: أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: اشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَقَالَ لَهَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَوَقَفَهَا: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ الْخَامِسَةَ مُوجِبَةٌ وَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً وَهَمَّتْ بِالِاعْتِرَافِ ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا (1) ، وَقَضَى بِأَنَّ الْوَلَدَ لَهَا وَلَا يُدْعَى لِأَبٍ وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ فِيهِ"، فَجَاءَتْ بِهِ غُلَامًا كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ، عَلَى الشَّبَهِ الْمَكْرُوهِ، وَكَانَ بَعْدُ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، لَا يَدْرِي مَنْ أَبُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَتْ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، إِنْ رَأَى رَجُلٌ مِنَّا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَأَخْبَرَ بِمَا رَأَى جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَسَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ فَاسِقًا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، فَكَيْفَ لَنَا بِالشُّهَدَاءِ وَنَحْنُ إِذَا الْتَمَسْنَا الشُّهَدَاءَ كَانَ الرَّجُلُ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهُ وَمَرَّ؟ وَكَانَ لِعَاصِمٍ هَذَا ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرٌ، وَلَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسِ بْنِ مِحْصَنٍ،
__________
(1) أخرجه مسلم في اللعان، برقم (1498): 2 / 1135، وأخرج بعضه المصنف في شرح السنة: 9 / 265.

فأتى عويمر 35/ب عَاصِمًا وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ شَرِيكَ بْنَ السَّمْحَاءِ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي خَوْلَةَ، فَاسْتَرْجَعَ عَاصِمٌ، وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْرَعَ مَا ابْتُلِيتُ بِالسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلْتُ فِي الْجُمُعَةِ الْمَاضِيَةِ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَأَخْبَرَهُ وَكَانَ عُوَيْمِرٌ وَخَوْلَةُ وَشَرِيكٌ كُلُّهُمْ بَنِي عَمِّ عَاصِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَقَالَ لِعُوَيْمِرٍ:"اتَّقِ اللَّهَ فِي زَوْجَتِكَ وَابْنَةِ عَمِّكَ وَلَا تَقْذِفْهَا بِالْبُهْتَانِ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ شَرِيكًا عَلَى بَطْنِهَا وَإِنِّي مَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنَّهَا حُبْلَى مِنْ غَيْرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ: "اتَّقِي اللَّهَ وَلَا تُخْبِرِي إِلَّا بِمَا صَنَعْتِ" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عُوَيْمِرًا رَجُلٌ غَيُورٌ، وَإِنَّهُ رَآنِي وَشَرِيكًا يُطِيلُ السَّمَرَ وَنَتَحَدَّثُ، فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى مَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَرِيكٍ: "مَا تَقُولُ"؟ فَقَالَ: مَا تَقُولُهُ الْمَرْأَةُ كَذِبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الْآيَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نُودِيَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ قَالَ لِعُوَيْمِرٍ: قُمْ، فَقَامَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ بِأَنَّ خَوْلَةَ لَزَانِيَةٌ وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ شَرِيكًا عَلَى بَطْنِهَا، وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ غَيْرِي وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي مَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ قَالَ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى عُوَيْمِرٍ -يَعْنِي نَفْسَهُ-إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا قَالَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْقُعُودِ، وَقَالَ لِخَوْلَةَ: قُومِي فَقَامَتْ، فَقَالَتْ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا أَنَا بِزَانِيَةٍ وَإِنَّ عُوَيْمِرًا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قَالَتْ فِي الثَّانِيَةِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا رَأَى شَرِيكًا عَلَى بَطْنِي وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قَالَتْ فِي الثَّالِثَةِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي حُبْلَى مِنْهُ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قَالَتْ فِي الرَّابِعَةِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ مَا رَآنِي قَطُّ عَلَى فَاحِشَةٍ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قَالَتْ فِي الْخَامِسَةِ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى خَوْلَةَ -تَعْنِي نَفْسَهَا-إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ لَوْلَا هَذِهِ الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي فِي أَمْرِهِمَا رَأْيٌ، ثُمَّ قَالَ: "تَحَيَّنُوا بِهَا الْوِلَادَةَ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ [أُصَيْهِبَ] (1) [أُثَيْبِجَ] (2) يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ فَهُوَ لِشَرِيكٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ (3) جَعْدًا جَمَالِيًّا (4) خَدَلَّجَ السَّاقِينَ (5) فَهُوَ لِغَيْرِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَجَاءَتْ بِأَشْبَهِ خَلْقِ اللَّهِ بِشَرِيكٍ (6) .
وَالْكَلَامُ فِي حُكْمِ الْآيَةِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَمُوجِبُهُ مُوجِبُ قَذْفَ الْأَجْنَبِيِّ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، أَوِ التَّعْزِيرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً، غَيْرَ أَنَّ الْمَخْرَجَ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ فَإِذَا قَذَفَ
__________
(1) الأصيهب: تصغير الأصهب، وهو الذي يعلوه صهبة، وهي كالشقرة، وفي "أ": "بأصهب" بدلا من "به أصيهب".
(2) الأثيبج: تصغير الأثبج، وهو الناتئ الثبج، والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر وفي "أ" جاءت العبارة: "أسلح أسحب".
(3) أورق: يميل لونه للون الرماد.
(4) جماليا: الجمالي: العظيم الخلق، شبه خلقه بخلق الجمل.
(5) الخدلج: العظيم الساقين.
(6) أخرجه الطبري مختصرًا: 18 / 84.

وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

أَجْنَبِيًّا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ أَرْبَعَةً مِنَ الشُّهُودِ عَلَى زِنَاهُ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ الْمَقْذُوفُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَفِي الزَّوْجَةِ إِذَا وَجَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ أَوْ لَاعَنَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، فَاللِّعَانُ فِي قَذْفِ الزَّوْجَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَى الْعَارِ، فَجَعَلَ اللَّهُ اللِّعَانَ حُجَّةً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: "فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ"، وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهَا أَوِ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا يَبْدَأُ فَيُقِيمُ الرَّجُلَ وَيُلَقِّنُهُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، فَيَقُولُ: قُلْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانٌةً بِالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَمَاهَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ رَمَاهَا بِجَمَاعَةٍ سَمَّاهُمْ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ كَمَا يُلَقِّنُهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ أَوْ حَمْلٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ يَقُولُ: وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ أَوِ الْحَمْلَ لَمِنَ الزِّنَا مَا هُوَ مِنِّي، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانٌةً، وَإِذَا أَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَلْقِينِ الْحَاكِمِ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً، فَإِذَا فَرَغَ الرَّجُلُ مِنَ اللِّعَانِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَانْتَفَى عَنْهُ النَّسَبُ وَسَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا، إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً تُرْجَمُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ كُلُّهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ.
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيَدْرَأُ } يَدْفَعُ، { عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وَأَرَادَ بِالْعَذَابِ الْحَدَّ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" أَيْ: حَدَّهُمَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أن الزوج إذ لَاعَنَ وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا بِلِعَانِهِ فَأَرَادَتْ إِسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهَا فَإِنَّهَا تُلَاعِنَ، فَتَقُومُ وَتَشْهَدُ بَعْدَ تَلْقِينِ الْحَاكِمِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ، وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ عَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ زَوْجِي مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ.
وَلَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهَا إِلَّا حَكَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهَا، وَلَوْ أَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً عَلَى زِنَاهَا فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهَا بِاللِّعَانِ. وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، بَلْ مُوجِبُهُ اللِّعَانُ، فَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ يُحْبِسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، فَإِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَتْ حَتَّى تُلَاعِنَ.

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

وَعِنْدَ الْآخَرِينَ اللِّعَانُ حُجَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ، وَالْقَاذِفُ إِذَا قَعَدَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِهِ لَا يُحْبَسُ بَلْ يُحَدُّ كَقَاذِفُ الْأَجْنَبِيِّ إِذَا قَعَدَ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُوجَبُ اللِّعَانِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ وَنُفِيُ النَّسَبِ، وَهُمَا لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا، وَقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ فُرْقَةُ فَسْخٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَتِلْكَ الْفُرْقَةُ مُتَأَبِّدَةٌ حَتَّى لَوْ كَذَّبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَا لَهُ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ ويلحقه الولد 36/أ وَلَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فُرْقَةُ اللِّعَانِ فُرْقَةُ طَلَاقٍ فَإِذَا كَذَّبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا. وَإِذَا أَتَى بِبَعْضِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا أَتَى بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ.
وَكُلُّ مَنْ صَحَّ يَمِينُهُ صَحَّ لِعَانُهُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَجْرِي اللِّعَانُ إِلَّا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا.
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ: "الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ" (الْمُجَادَلَةِ-2 ) ، ثُمَّ يَسْتَوِي الْحُرُّ وَالْعَبْدُ هُنَا فِي الظِّهَارِ، وَلَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ خَلِيفَتِهِ.
وَيُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءٍ: بِعَدَدِ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ. أَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُسْتَحَقَّةُ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا، وَأَمَّا الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ يُلَاعِنَ فِي أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَالزَّمَانِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَأَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَالتَّغْلِيظُ بِالْجَمْعِ مُسْتَحَبٌّ، حَتَّى لَوْ لَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَحْدَهُ [جَازَ] (1) ، وَهَلِ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِيهِ قَوْلَانِ.
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
قَوْلُهُ: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، يَعْنِي لَعَاجَلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُمْ وَدَفَعَ عَنْكُمُ الْحَدَّ بِاللِّعَانِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَرْجِعُ عَنِ الْمَعَاصِي بِالرَّحْمَةِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ مِنَ الْحُدُودِ.
__________
(1) ساقط من "أ".

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } الْآيَاتِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَاصٍّ وَعُبِيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةٌ مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ لَهُ اقْتِصَاصًا وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يَصْدُقُ بَعْضًا.
قَالُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ وَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلَيْ فَلَمَسَتْ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظِفَارٍ (1) قَدِ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ. قَالَتْ: وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللحم إنما يأكل الْعُلْقَةَ (2) مِنَ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ فَتَيَمَّمَتْ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي،
__________
(1) جزع: خرز معروف في سواده بياض كالعروق، قال ابن القطاع: هو واحد لا جمع له، وقال ابن سيده: هو جمع واحدة جزعة وهو بالفتح.
(2) ما يتبلغ به من العيش.

فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرَيْنَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَهُمْ نُزُولٌ.
قَالَتْ: فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الْإِفْكِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، قَالَ عُرْوَةُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا: لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ أَيْضًا إِلَّا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فِي نَاسٍ آخَرِينَ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ وَتَقُولُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ: فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ، وَكُنَّا نتأذى بالكنف 36/ب أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا.
قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ -وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أي هنتاه (1) أو لم تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ فَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَتْ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوِيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسَتَيْقَنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بِنْيَةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّ مَا كَانَتِ امْرَأَةً قَطُّ رَضِيَّةً (2) عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا. قَالَتْ فَقُلْتُ: سبحان الله أو لقد تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ
__________
(1) أي: حرف نداء للبعيد، وقد تستعمل للقريب حين ينزل منزلة البعيد، وهنتاه: بفتح الهاء وسكون النون وقد تفتح بعدها متناة وآخرها هاء ساكنة، وقد تضم: أي هذه، وقيل يلهى، كأنها نسبتها إلى قلة المعرفة بمكائد الناس .
(2) في "ب" وضيئة.

تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ [بِنَوْمٍ] (1) ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلَيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ، فَقَالَ: أَيْ بِرَيْرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ؟ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِضُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مِنْ يَوْمِهِ] (2) فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمَتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذُرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: وَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بِنْتُ عَمِّهِ مِنْ فَخْذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، قَالَتْ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتُ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عِبَادَةِ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلُنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَتْ: فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ [قَالَتْ وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ] (3) وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَذِنَتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي.
قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) زيادة من "ب".
(3) ساقط من "أ".

قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ فَاضَ (1) دَمْعِي حَتَّى مَا أَحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ، فَقَالَ أَبِي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ، فَقَالَتْ أُمِّي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرًا: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِي، فَوَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ حِينَ قَالَ: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ"(يُوسُفَ-18 ) ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَعْلَمُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ (2) فَأَخْذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرَ مِنْهُ الْعَرَقُ مِثْلَ الْجُمَّانِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللَّهِ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ، قَالَتْ: فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ إِلَيْهِ فَإِنِّي لَا أَحْمِدُ إِلَّا اللَّهَ، قَالَتْ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إن الذين جاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ" الْعَشْرَ الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إِلَى قَوْلِهِ { غَفُورٌ رَحِيمٌ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أبدا.
قالت 37/أ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمَتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ الَّتِي تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، قَالَتْ: وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثٍ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ. قَالَتْ:
__________
(1) في "ب": قلص.
(2) ساقط من "أ".

ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (1) .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِسْنَادٍ مِثْلِهِ، وَقَالَ: وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ (2) .
وَرَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَلَقَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتِي فَسَأَلَ عَنِّي خَادِمَتِي، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلِمَتُ عَلَيْهَا عَيْبًا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلُ خَمِيرَهَا أَوْ عَجِينَهَا، فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَابَهُ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عَلِمَتُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَفِيهِ قَالَتْ: وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُفِعَ عَنْهُ وَإِنِّي لَأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ فَقَالَ لِي أَبَوَايَ: قُومِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُهُ وَلَا أَحْمَدُ أَحَدًا وَلَكِنْ أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي بَرَّأَنِيَ لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ فَمَا أَنْكَرْتُمُوهُ وَلَا غَيَّرْتُمُوهُ (3) .
أَمَّا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } بِالْكَذِبِ، وَالْإِفْكُ: أَسْوَأُ الْكَذِبِ، سُمِّيَ إِفْكًا لِكَوْنِهِ مَصْرُوفًا عَنِ الْحَقِّ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَكَ الشَّيْءَ إِذَا قَلَبَهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَصَانَةِ وَالشَّرَفِ فَمَنْ رَمَاهَا بِالسُّوءِ قَلَبَ الْأَمْرَ عَنْ وَجْهِهِ، { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، زَوْجَةُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَغَيْرُهُمْ، { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّالَكُمْ } يَا عَائِشَةُ وَيَا صَفْوَانُ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِعَائِشَةَ وَلِأَبَوَيْهَا وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِصَفْوَانَ، يَعْنِي: لَا تَحْسَبُوا الْإِفْكَ شَرًّا لَكُمْ، { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لِأَنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُظْهِرُ بَرَاءَتَكُمْ.
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ } يَعْنِي مِنَ الْعُصْبَةِ الْكَاذِبَةِ { مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } أَيْ: جَزَاءُ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الذَّنْبِ عَلَى قَدْرِ مَا خَاضَ فِيهِ، { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } أَيْ: تَحَمَّلَ مُعْظَمَهُ فَبَدَأَ بِالْخَوْضِ فِيهِ، قَرَأَ يَعْقُوبُ "كُبْرَهُ" بِضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْكَسْرِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: قَامَ بِإِشَاعَةِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بن سَلُولَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب حديث الإفك: 7 / 431-435، وفي تفسير سورة النور: 8 / 452-455، وفي الشهادات: 5 / 269-272 وفي مواضع أخرى. وأخرجه مسلم في التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف برقم (2770): 4 / 2129-2136 وأخرج المصنف أوله في شرح السنة: 9 / 153.
(2) أخرجه مسلم في كتاب التفسير، سورة النور: 8 / 452-455.
(3) في رواية البخاري معلقا بصيغةالجزم، باب "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة.." 8 / 488، ومسلم في التوبة أيضا: 4 / 2137-2138.

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ } قَالَتْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بن سَلُولَ (1) ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ النَّارُ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ قَالَتْ: ثُمَّ رَكِبْتُ وَأَخَذَ صَفْوَانُ بِالزِّمَامِ فَمَرَرْنَا بِمَلَأٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا مُنْتَبَذِينِ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، رَئِيسُهُمْ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: عَائِشَةُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا نَجَتْ مِنْهُ وَمَا نَجَا مِنْهَا، وَقَالَ: امْرَأَةُ نَبِيِّكُمْ بَاتَتْ مَعَ رَجُلٍ حَتَّى أَصْبَحَتْ ثُمَّ جَاءَ يَقُودُ بِهَا (2) . وَشَرَعَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا حَسَّانُ، وَمِسْطَحٌ، وَحَمْنَةُ، فَهَمَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا كِبْرَهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُ شِعْرًا يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ، وَقَالَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ (3)
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ، قَالَ مَسْرُوقٌ فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَأْذَنِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى (4) ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ أَوْ يُهَاجِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) .
وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالَّذِينِ رَمَوْا عَائِشَةَ فَجُلِدُوا الْحَدَّ جَمِيعًا ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ (6) .
{ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَوْلَا } هَلَّا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ } بِإِخْوَانِهِمْ { خَيْرًا } قَالَ الْحَسَنُ: بِأَهْلِ دِينِهِمْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَا تَقْتُلُوا
__________
(1) انظر: البخاري 8 / 450، 452، صحيح مسلم: 4 / 2131.
(2) انظر: فتح الباري 8 / 461.
(3) الحصان: العفيفة، والرزان: الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش. وتزن: ترمى وتتهم. والريبة: التهمة والشك. وغرثى: جائعة، يريد لا تغتاب النساء، والغوافل: جمع غافلة، وهي التي غفل قلبها عن الشر.
(4) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (3 / 273): "ثم الأكثرون على أن المراد بذلك -الذي تولى كبر الإفك- إنما هو عبد الله بن أبي بن سلول -قبحه الله تعالى ولعنه- وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث. وقال ذلك: مجاهد وغير واحد. وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشعره...".
(5) أخرجه البخاري في التفسير، باب: "ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم" 8 / 485.
(6) انظر: فتح الباري: 8 / 479، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم: 3 / 263-264.

لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)

أَنْفُسَكُمْ" (النِّسَاءِ-29 ) "فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ "( النُّورِ-61 ) . { وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أَيْ كَذِبٌ بَيِّنٌ.
{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) }
{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } أَيْ: عَلَى مَا زَعَمُوا، { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِفَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِيرُونَ عِنْدَ اللَّهِ كَاذِبِينَ إِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ وَمَنْ كَذَبَ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَاذِبٌ سَوَاءٌ أَتَى بِالشُّهَدَاءِ أَوْ لَمْ يَأْتِ؟ قِيلَ: "عِنْدَ اللَّهِ" أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَذِّبُوهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَقِيلَ: هَذَا فِي حَقِّ عَائِشَةَ، وَمَعْنَاهُ: أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ فِي غَيْبِي وَعِلْمِي. { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ } خُضْتُمْ { فِيهِ } مِنَ الْإِفْكِ { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ: عَذَابٌ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، يَعْنِي: فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَذَابَ الدُّنْيَا مِنْ قَبْلُ، فَقَالَ تَعَالَى: "والذي تولى 37/ب كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، وَقَدْ أَصَابَهُ، فَإِنَّهُ جُلِدَ وَحُدَّ. وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَدَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحَ بْنَ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ (1) .
__________
(1) أخرج الترمذي عن عائشة قالت: "لما نزل عذري قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم". تفسير سورة النور: 9 / 37، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق". ووقع تسمية هؤلاء الثلاثة: حسان بن ثابت، ومسطح بن اثاثة، وحمنة بنت جحش عند أبي داود في الحدود، باب في حد القذف: 6 / 283، وعزاه المنذري للنسائي وقال: "وقد أسنده ابن إسحاق مرة، وأرسله أخرى". وأخرجه ابن ماجه في الحدود، باب حد القذف: 2 / 857. وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 272. وأخرج الطبراني عن سعيد بن جبير مثل حديث عائشة الذي ساقه المصنف، وقال الهيثمي: "وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد: 7 / 80. وانظر: فتح الباري: 9 / 481، تحفة الأحوذي: 9 / 37. وأخرج البزار وابن مردويه بسند حسن، عن أبي هريرة، وفيه: فحد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسطحا، وحمنة، وحسان. انظر: الدر المنثور: 6 / 146، وراجع: زاد المعاد: 3 / 263-264.

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } تَقُولُونَهُ، { بِأَلْسِنَتِكُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ بَلَغَنِي كَذَا وَكَذَا يَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّيًا، وَقَالَ الزُّجَاجُ: يُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ "تَلِقَوْنَهُ" بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفُ الْقَافِ مِنَ الْوَلَقِ وَهُوَ الْكَذِبُ، { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا } تَظُنُّونَ أَنَّهُ سَهْلٌ لَا إِثْمَ فِيهِ، { وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } فِي الْوِزْرِ. { وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ } هَذَا اللَّفْظُ هَاهُنَا مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ { هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أَيْ: كَذِبٌ عَظِيمٌ يَبْهَتُ وَيَتَحَيَّرُ مِنْ عَظَمَتِهِ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ أُمَّ أَيُّوبَ قَالَتْ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ: أَمَا بَلَغَكَ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (1) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَى وِفْقِ قَوْلِهِ. { يَعِظُكُمُ اللَّهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُحَرِّمُ اللَّهُ عَلَيْكُمُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَنْهَاكُمُ اللَّهُ. { أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } بِأَمْرِ عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ، { حَكِيمٌ } حَكَمَ بِبَرَاءَتِهِمَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } يَعْنِي: تَظْهَرَ، وَيَذِيعَ الزِّنَا، { فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا الْحَدُّ، وَفِي الْآخِرَةِ النَّارُ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } كَذِبَهُمْ وَبَرَاءَةَ عَائِشَةَ وَمَا خَاضُوا فِيهِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ { وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص (373)، وانظر الطبري: 18 / 96، والدر المنثور: 6 / 159، فتح الباري: 9 / 470.

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) }

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَّا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) }
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } جَوَابُ "لَوْلَا" مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَعَاجَلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِسْطَحًا، وَحَسَّانَ، وَحَمْنَةَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أَيْ: بِالْقَبَائِحِ مِنَ الْأَفْعَالِ، { وَالْمُنْكَرِ } مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا } قَالَ مُقَاتِلٌ: مَا صَلَحَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا طَهُرَ، { مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ } وَالْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْعِصْمَةِ مَا صَلَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا الْخِطَابُ لِلَّذِينِ خَاضُوا فِي الْإِفْكِ، وَمَعْنَاهُ: مَا طَهُرَ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ وَلَا صَلُحَ أَمْرُهُ بَعْدَ الَّذِي فَعَلَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، قَالَ: مَا قَبِلُ تَوْبَةَ أَحَدٍ مِنْكُمْ، { أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي } يُطَهِّرُ، { مَنْ يَشَاءُ } مِنَ الذَّنْبِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا يَأْتَلِ } أَيْ: وَلَا يَحْلِفْ، وَهُوَ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلْيَةِ وَهِيَ الْقَسَمُ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "يَتَأَلَّ" بِتَقْدِيمِ التَّاءِ وَتَأْخِيرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ يَتَفَعَّلُ مِنَ الْأَلْيَةِ. { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ { أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يَعْنِي مِسْطَحًا، وَكَانَ مِسْكِينًا مُهَاجِرًا بَدْرِيًّا ابْنَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، حَلِفَ (1) أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ، { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } عَنْهُمْ خَوْضَهُمْ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ، { أَلَا تُحِبُّونَ } يُخَاطِبُ أَبَا بَكْرٍ، { أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَلَمَّا قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَالَ: بَلَى أَنَا أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، وَرَجَّعَ
__________
(1) ساقط من "أ".

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)

إِلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَقْسَمَ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَتَصَدَّقُوا عَلَى رَجُلِ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِفْكِ وَلَا يَنْفَعُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْعَفَائِفَ، { الْغَافِلَاتِ } عَنِ الْفَوَاحِشِ، { الْمُؤْمِنَاتِ } وَالْغَافِلَةُ عَنِ الْفَاحِشَةِ أَيْ: لَا يَقَعُ فِي قَلْبِهَا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ وَكَانَتْ عَائِشَةُ كَذَلِكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } عُذِّبُوا بِالْحُدُودِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ. رُوِيَ عَنْ خَصِيفٍ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَنْ قَذْفَ مُؤْمِنَةً يَلْعَنُهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ فَقَالَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ خَاصَّةً (3) .
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِعَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنَاتِ. رُوِيَ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هَذِهِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ، وَمِنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً ثُمَّ قَرَأَ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إِلَى قَوْلِهِ: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فَجَعَلَ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُولَئِكَ تَوْبَةً (4) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ [ذَلِكَ] (5) حِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إِلَى قَوْلِهِ: { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ وَالتَّوْبَةَ (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير: باب: "لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم" 8 / 455، ومسلم في التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770): 4 / 2129-2136.
(2) أخرجه الطبري: 18 / 102-103.
(3) عزاه السيوطي: (6 / 164) لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني. قال الهيثمي (6 / 79): رواه الطبراني وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف.
(4) قال الهيثمي (6 / 80): "رواه الطبراني بأسانيد، وفي هذا الإسناد راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وهو أمثلها".
(5) في "ب" كذلك حتى.
(6) ذكر هذه الأقوال الطبري: 18 / 104-105 ثم قال مرجحا: "وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة والحكم بها عام في كل من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها".

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) }
{ يَوْمَ تَشْهَدُ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ لِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، { عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، { وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ } يُرْوَى أَنَّهُ { تُخْتَمُ } (1) الْأَفْوَاهُ فَتَتَكَلَّمُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا عَمِلَتْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَشْهَدُ أَلْسِنَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } جَزَاءَهُمُ الْوَاجِبَ. وَقِيلَ: حِسَابَهُمُ الْعَدْلَ. { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } يُبَيِّنُ لَهُمْ حَقِيقَةَ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَذَلِكَ أَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّينِ فَيَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ اللَّهَ هو الحق 38/أ الْمُبِينُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ لِلْخَبِيثَيْنِ مِنَ النَّاسِ. { وَالْخَبِيثُونَ } مِنَ النَّاسِ، { لِلْخَبِيثَاتِ } مِنَ الْقَوْلِ، [وَالْكَلَامِ] (2) ، { وَالطَّيِّبَاتُ } مِنَ الْقَوْلِ، { لِلطَّيِّبِينَ } مِنَ النَّاسِ ، { وَالطَّيِّبُونَ } مِنَ النَّاسِ، { لِلطَّيِّبَاتِ } مِنَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَبِيثَ مِنَ الْقَوْلِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْخَبِيثِ مِنَ النَّاسِ وَالطِّيبَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالطِّيبِ مِنَ النَّاسِ، فَعَائِشَةُ لَا يَلِيقُ بِهَا الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِأَنَّهَا طَيِّبَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَيُضَافُ إِلَيْهَا طَيِّبَاتُ الْكَلَامِ مِنَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ [وَمَا يَلِيقُ بِهَا] (3) .
وَقَالَ الزُّجَاجُ: مَعْنَاهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْخَبِيثَاتِ إِلَّا الْخَبِيثَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالطَّيِّبَاتِ إِلَّا الطَّيِّبَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا ذَمٌّ لِلَّذِينِ قَذَفُوا عَائِشَةَ، وَمَدْحٌ لِلَّذِينَ بَرَّؤُوهَا بِالطَّهَارَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْخِبِّيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [أَمْثَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَالشَّاكِّينَ فِي الدِّينِ] (4) ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ. يُرِيدُ عَائِشَةَ طَيَّبَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ الطَّيِّبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) في "ب": يختم على.
(2) زيادة من "ب".
(3) زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

{ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ } يَعْنِي: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ" (النِّسَاءِ-11 ) أَيْ: إِخْوَانٌ. وَقِيلَ: "أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ" يَعْنِي الطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبَاتِ مُنَزَّهُونَ، { مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } فَالْمَغْفِرَةُ هِيَ الْعَفْوُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ: الْجَنَّةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْتَخِرُ بِأَشْيَاءَ أُعْطِيَتْهَا لَمْ تُعْطَهَا امْرَأَةٌ غَيْرَهَا، مِنْهَا أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى بِصُورَتِهَا فِي سَرَقَةٍ (1) مِنْ حَرِيرٍ، وَقَالَ هَذِهِ زَوْجَتُكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بِصُورَتِهَا فِي رَاحَتِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَسَهُ فِي حِجْرِهَا، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ مَعَهَا فِي لِحَافِهِ، وَنَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا ابْنَةُ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِيقِهِ، وَخُلِقَتْ طَيِّبَةً، وَوُعِدَتْ مَغْفِرَةً وَرِزْقًا كَرِيمًا (2) .
وَكَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا رَوَى عَنْ عَائِشَةَ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِيقَةُ بِنْتُ الصَّدِيقِ حَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَرَّأَةُ مِنَ السَّمَاءِ (3) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }
قَوْلُهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } أَيْ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا [وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا] (4) وَيَقُولُ: تَسْتَأْنِسُوا خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ (5) . وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ أُبَيُّ ابْنُ كَعْبٍ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ تَسْتَأْنِسُوا وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْذَانِ. وَقِيلَ: الِاسْتِئْنَاسُ طَلَبُ الْأُنْسِ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ فِي الْبَيْتِ إِنْسَانٌ فَيُؤْذِنَهُمْ إِنِّي دَاخِلٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِبْصَارُ مِنْ قَوْلِهِ: آنَسْتُ نَارًا، أَيْ: أَبْصَرَتْ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ أَوْ يَتَنَحْنَحَ، يُؤْذِنُ أَهْلَ الْبَيْتِ.
وَجُمْلَةُ حُكْمِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ الْغَيْرِ إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ أَمِ السَّلَامَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ فَيَقُولُ: أَأَدْخُلُ سَلَامٌ
__________
(1) شقة حرير بيضاء، والجمع، سرق مثل: قصبة وقصب.
(2) هذه المناقب التي ذكرها المصنف لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ثابتة بأحاديث صحاح، انظرها في: جامع الأصول لابن الأثير: 9 / 132-143، كنز العمال: 12 / 133-138، الدر المنثور: 6 / 168-170.
(3) انظر: حلية الأولياء: 2 / 44.
(4) ساقط من "أ".
(5) انظر فيما سبق تعليقا: 3 / 309، 310.

عَلَيْكُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } أَيْ: تَسْتَأْذِنُوا، { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ فَيَقُولُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهَا: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ عَنْ كَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا فَأَمَرَ بَعْضُهُمُ الرَّجُلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُ (2) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى إِنْسَانٍ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَحُذَيْفَةُ: يَسْتَأْذِنُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَمِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَانُوا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ يَتَنَحْنَحُ وَيَتَحَرَّكُ أَدْنَى حَرَكَةٍ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُجَبْ فَلْيَرْجِعْ". قَالَ عُمَرُ: لَتَأْتِيَنَّ عَلَى مَا تَقُولُ بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا لَأَفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا وَكَذَا غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ أَوْعَدَهُ، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مُمْتَقِعًا لَوْنُهُ وَأَنَا فِي حَلْقَةٍ جَالِسٌ، فَقُلْنَا: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: سَلَّمْتُ عَلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَنَا خَبَرَهُ، فَهَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: نَعَمْ كُلُّنَا قَدْ سَمِعَهُ، قَالَ فَأَرْسَلُوا مَعَهُ رَجُلًا مِنْهُمْ حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ (3) .
وَرَوَاهُ بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَفِيهِ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" (4) . قَالَ الْحَسَنُ: الْأَوَّلُ إِعْلَامٌ وَالثَّانِي مُؤَامَرَةٌ، وَالثَّالِثُ اسْتِئْذَانٌ بِالرُّجُوعِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب: كيف الاستئذان: 8 / 56-57، والترمذي في الاستئذان، ما جاء في التسليم قبل الاستئذان: 7 / 490-491 وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن جريج. ورواه أبو عاصم عن ابن جريج مثل هذا" والإمام أحمد: 3 / 414، والمصنف في شرح السنة: 12 / 284.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 10 / 383، وذكره المصنف في شرح السنة: 12 / 284.
(3) انظر الرواية في الجامع للإمام معمر: 10 / 380 وهو عند الشيخين كما سيأتي في التعليقة التالية.
(4) أخرجه البخاري في الاستئذان، باب: التسليم والاستئذان ثلاثا: 11 / 26-27 وفي مواضع أخرى، ومسلم في الآداب، باب الاستئذان برقم (2153): 3 / 1694، والمصنف في شرح السنة: 12 / 280-281.

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا } أَيْ: إِنْ لَمْ تَجِدُوا فِي الْبُيُوتِ أَحَدًا يَأْذَنُ لَكُمْ فِي دُخُولِهَا فَلَا تَدْخُلُوهَا، { حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } يَعْنِي: إِذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ قَوْمٌ فَقَالُوا: ارْجِعْ فَلْيَرْجِعْ وَلَا يَقِفْ عَلَى الْبَابِ مُلَازِمًا، { هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } يَعْنِي: الرُّجُوعُ أَطْهَرُ وَأَصْلَحُ لَكُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلَا يَقْعُدْ على الباب 38/ب فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ، وَإِذَا حَضَرَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ وَقَعَدَ عَلَى الْبَابِ مُنْتَظَرًا جَازَ.
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْتِي بَابَ الْأَنْصَارِ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ فَيَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ حَتَّى يَخْرُجَ، وَلَا يَسْتَأْذِنُ، فَيَخْرُجَ الرَّجُلُ وَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ لَوْ أَخْبَرَتْنِي، فَيَقُولُ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَطْلُبَ الْعِلْمَ (1) وَإِذَا وَقَفَ فَلَا يَنْظُرْ مِنْ شَقِّ الْبَابِ إِذَا كَانَ الْبَابُ مَرْدُودًا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِتْرِ الْحُجْرَةِ وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى (2) ، فَقَالَ: "لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا يَنْظُرُنِي حَتَّى آتِيَهُ لَطَعَنْتُ بِالْمِدْرَى فِي عَيْنَيْهِ، وَهَلْ جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذَنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } مِنَ الدُّخُولِ بِالْإِذْنِ وَغَيْرِ الْإِذْنِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ قَالُوا: كَيْفَ بِالْبُيُوتِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَعَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ،
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر بسنده مطولا في جامع بيان العلم وفضله ص (140).
(2) تطلق على نوعين: أحدهما: صغير يتخذ من آبنوس أو عاج أو حديد يكون طول المسلة يتخذ لفرق الشعر فقط، وهو مستدير الرأس على هيئة نصل السيف. وثانيهما: كبير وهو عود مخروط من آبنوس أو غيره، وفي رأسه قطعة منحوتة في قدر الكف، ولها مثل الأصابع، أولاهن معوجة مثل حلقة الإبهام المستعمل للتسريح.
(3) أخرجه البخاري في الديات، باب: من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له: 12 / 243 ومسلم في الآداب باب تحريم النظر في بيت غيره برقم: (2156): 3 / 1698.
(4) أخرجه البخاري في الديات، باب: من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له: 12 / 243 ومسلم في الآداب باب تحريم النظر في بيت غيره برقم: (2158): 3 / 1699 والمصنف في شرح السنة: 10 / 254 والشافعي: 2 / 101.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) }
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } (1) ، أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، { فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } يَعْنِي مَنْفَعَةً لَكُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْخَانَاتُ وَالْبُيُوتُ وَالْمَنَازِلُ الْمَبْنِيَّةُ لِلسَّابِلَةِ ليأووا إليها ويؤوا أَمْتِعَتَهُمْ إِلَيْهَا، جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ، وَالْمَنْفَعَةُ فِيهَا بِالْنُزُولِ وَإِيوَاءِ الْمَتَاعِ وَالِاتِّقَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ بُيُوتُ التُّجَّارِ وَحَوَانِيتُهُمُ الَّتِي بِالْأَسْوَاقِ يَدْخُلُونَهَا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَيْسَ عَلَى حَوَانِيتِ السُّوقِ إِذْنٌ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا جَاءَ إِلَى حَانُوتِ السُّوقِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ ثُمَّ يَلِجُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ، وَالْمَتَاعُ هُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِيهَا مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ. وقيل: هي جمع الْبُيُوتِ الَّتِي لَا سَاكِنَ لَهَا لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِئَلَّا يُطَّلَعَ عَلَى عَوْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يُخَفْ ذَلِكَ فَلَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ (2) ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أَيْ: عَنْ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: "مِنْ" صِلَةٌ أَيْ: يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ ثَابِتٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِغَضِّ الْبَصَرِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَضُّ عَمَّا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِأَنْ يَغُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ، { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } عَمَّا لَا يَحِلُّ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ عَنِ الزِّنَا وَالْحَرَامِ، إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِتَارَ حَتَّى لَا يَقَعَ بَصَرُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، { ذَلِكَ } أَيْ: غَضُّ الْبَصَرِ وَحِفْظُ الْفَرْجِ، { أَزْكَى لَهُمْ } أَيْ: خَيْرٌ لَهُمْ وَأَطْهَرُ، { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: "يَا عَلَيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ" (3) .
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 375 وانظر: القرطبي: 12 / 213.
(2) ذكره هذه الأقوال الطبري: 18 / 113-116.
(3) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: ما يؤمر به من غض البصر: 3 / 70 والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في نظرة المفاجأة: 8 / 61 وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك، والدارمي في الرقاق باب: في حفظ السمع: 2 / 298 وصححه الحاكم: 2 / 194 على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والإمام أحمد: 5 / 353 ، 357 وذكره المصنف في شرح السنة: 9 / 23.

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: "اصْرِفْ بَصَرَكَ" (1) . أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَنْظُرِ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ" (2) .
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } عَمَّا لَا يَحِلُّ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } عَمَّنْ لَا يَحِلُّ. وَقِيلَ أَيْضًا: "يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" يَعْنِي: يَسْتُرْنَهَا حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ. وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةَ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخْلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ"؟ (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في الآداب، باب: نظرة الفجأة برقم: (2159): 3 / 1699 وذكره المصنف في شرح السنة: 9 / 23.
(2) أخرجه مسلم في الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات برقم: (338): 1 / 266 والمصنف في شرح السنة: 9 / 20.
(3) أخرجه أبو داود في اللباس، باب في قوله تعالى: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" 6 / 60-61 والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في احتجاب النساء من الرجال: 8 / 61-62 وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وعزاه المنذري للنسائي، وأخرجه الإمام أحمد: 6 / 296 وذكره المصنف في شرح السنة: 9 / 24.
وقال أبو داود: "هذا لأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة بنت قيس: "اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده"، وانظر: عون المعبود: 11 / 170.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أَيْ لَا يُظْهِرْنَ زِينَتَهُنَّ لِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَأَرَادَ بِهَا الزِّينَةَ الْخَفِيَّةَ، وَهُمَا زِينَتَانِ خَفِيَّةٌ وَظَاهِرَةٌ، فَالْخَفِيَّةُ: مِثْلُ الْخَلْخَالِ، وَالْخِضَابِ فِي الرِّجْلِ، وَالسُّوَارِ فِي الْمِعْصَمِ، وَالْقُرْطِ وَالْقَلَائِدِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا إِظْهَارُهَا، وَلَا لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ مِنَ الزِّينَةِ مَوْضِعُ الزِّينَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أَرَادَ بِهِ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الثِّيَابُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"(الْأَعْرَافِ-31 ) ، وَأَرَادَ بِهَا الثِّيَابَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَجْهُ وَالثِّيَابُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْخِضَابُ فِي الْكَفِّ.
فَمَا كَانَ مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ جَازَ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً وَشَهْوَةً، فَإِنْ خَافَ شَيْئًا مِنْهَا غَضَّ الْبَصَرَ، وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي هَذَا الْقَدْرِ أَنْ تُبْدِيَهُ الْمَرْأَةُ مِنْ بَدَنِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَتُؤْمَرُ بِكَشْفِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ يَلْزَمُهَا سَتْرُهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ } أَيْ: لِيُلْقِينَ بِمَقَانِعِهِنَّ، { عَلَى جُيُوبِهِنَّ } وَصُدُورِهِنَّ [لِيَسْتُرْنَ بِذَلِكَ شُعُورَهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ] (1) وَأَعْنَاقَهُنَّ وَأَقْرَاطَهُنَّ. قالت عائشة 39/أ رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا (2) .
{ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يَعْنِي: الزِّينَةَ الْخَفِيَّةَ الَّتِي لَمْ يُبَحْ لَهُنَّ كَشْفُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا لِلْأَجَانِبِ، وَهُوَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ { إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي لَا يَضَعْنَ الْجِلْبَابَ وَلَا الْخِمَارَ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ، أَيْ إِلَّا لِأَزْوَاجِهِنَّ، { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ } فَيَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري في التفسير، باب: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" 8 / 489.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ نِسَائِهِنَّ } أَرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى بَدَنِ الْمَرْأَةِ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ كَالرَّجُلِ الْمَحْرَمِ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَنْكَشِفَ لَهَا؟ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَنْكَشِفَ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "أَوْ نِسَائِهِنَّ" وَالْكَافِرَةُ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِنَا وَلِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فِي الدِّينِ، فَكَانَتْ أَبْعَدَ مِنَ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ. كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا، فَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ عَفِيفًا، وَأَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَدَنِ مَوْلَاتِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، كَالْمَحَارِمِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَرَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ" (2) . وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ مَعَهَا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِمَاءُ دُونَ الْعَبِيدِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ يَدَيِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْمُشْرِكَةُ أَمَةً لَهَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ "غَيْرَ" بِنَصْبِ الرَّاءِ عَلَى الْقَطْعِ لِأَنَّ "التَّابِعِينَ" مَعْرِفَةٌ وَ"غَيْرَ" نَكِرَةٌ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى "إِلَّا" فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ، مَعْنَاهُ: يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لِلتَّابِعِينَ إِلَّا ذَا الْإِرْبَةِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُنَّ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا إِرْبَةٍ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ عَلَى نَعْتِ "التَّابِعِينَ" وَالْإِرْبَةِ وَالْأَرَبِ: الْحَاجَةُ. وَالْمُرَادُ بِـ "التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ" هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَوْمَ لِيُصِيبُوا مِنْ فَضْلِ طَعَامِهِمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْأَحْمَقُ الْعِنِّينُ. وَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي لَا يَنْتَشِرُ وَلَا يَسْتَطِيعُ غِشْيَانَ النِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِيهِنَّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْمَعْتُوهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَجْبُوبُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُخَنَّثُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الشَّيْخُ الْهَرِمُ وَالْعِنِّينُ وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ وَنَحْوُهُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 121 وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 183 لسعيد بن منصور والبيهقي وابن المنذر.
(2) أخرجه أبو داود في اللباس، باب العبد ينظر إلى شعر مولاته: 6 / 59 قال المنذري: "في إسناده أبو جميع، سالم بن دينار الهجيمي البصري، قال ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة الرازي: مصري لين الحديث، وهو سالم بن أبي راشد". وأخرجه البيهقي: 7 / 95، وصححه الألباني في الإرواء: 6 / 206.

أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَيْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ وَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَدَخْلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعِتُ امْرَأَةً فَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَذَا" فَحَجَبُوهُ (1) { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أَرَادَ بِالطِّفْلِ الْأَطْفَالَ، يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، أَيْ: لَمْ يَكْشِفُوا عَنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لِلْجِمَاعِ فَيَطَّلِعُوا عَلَيْهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَعْرِفُوا الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الصِّغَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: لَمْ يُطِيقُوا أَمْرَ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ.
{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَشَتْ ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِهَا أَوْ يُتَبَيَّنَ خَلْخَالُهَا، فَنُهِيَتْ عَنْ ذَلِكَ.
{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا } مِنَ التَّقْصِيرِ الْوَاقِعِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقِيلَ: رَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، { أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "أَيُّهُ المؤمنون" و"يآيه السَّاحِرُ" وَ"أَيُّهُ الثَّقَلَانِ" بِضَمِّ الْهَاءِ فِيهِنَّ، وَيَقِفُ بِلَا أَلْفٍ عَلَى الْخَطِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَاءَاتِ عَلَى الْأَصْلِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْأَغَرَّ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى رَبِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيِّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكَشِّيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ، لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" مِائَةَ مَرَّةٍ (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس، باب إخراج المتشبهين بالنساء عن البيوت، عن أم سلمة: 10 / 333 ومسلم في السلام باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، برقم (2181): 4 / 1716 والمصنف في شرح السنة: 12 / 122.
(2) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2072): 4 / 2076 والمصنف في شرح السنة: 5 / 71.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار: 2 / 151 والترمذي في الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه: 9 / 393 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وابن ماجه في الأدب، باب الاستغفار، برقم (3814) والإمام أحمد في المسند: 2 / 21 وصححه ابن حبان برقم (2459) ص (609) من موارد الظمآن، وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب ص (251) وابن السني في عمل اليوم والليلة ص (179). وانظر: مجمع الزوائد: 2 / 113 سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2 / 89.

وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ الْعَوْرَاتِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَعَوْرَتُهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى سَائِرِ الْبَدَنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفُ فِتْنَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: الْفَخِذُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ وَإِنَّ ركبتي لتمس 39/ب فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ، لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْطَيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْش، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْمَرٍ وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَانِ، قَالَ: "يَا مَعْمَرُ غَطِّ فَخِذَيْكَ، فَإِنَّ الْفَخِذَيْنِ عَوْرَةٌ" (2) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ" (3)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: "وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ" (4) . أَمَّا الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً حُرَّةً: فَجَمِيعُ بَدَنِهَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ عَوْرَةٌ، وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً: فَعَوْرَتُهَا مِثْلُ عَوْرَةِ الرَّجُلِ، مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ: 1 / 479-480 وفي مواضع أخرى، ومسلم في الجهاد، باب غزوة خيبر، برقم (1365): 4 / 1426-1427. وذكره المصنف في شرح السنة: 9 / 21.
(2) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 2 / 285 والحاكم في المستدرك: 4 / 180 والإمام أحمد في المسند: 5 / 290. وعلقه البخاري: 1 / 479 وأخرجه المصنف في شرح السنة: 9 / 21.
قال الحافظ في الفتح: "وصله أحمد والمصنف في "التاريخ" والحاكم في "المستدرك"، كلهم من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير مولى محمد بن جحش عنه..". وصححه بشواهده الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة: 9 / 21-22.
(3) أخرجه الترمذي في الاستئذان، باب ما جاء أن الفخذ عورة: 8 / 78-79 وقال: "هذا حديث حسن، ما أرى إسناده بمتصل".
ورواه البخاري تعليقا: 1 / 478، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وحديث جرهد موصول عند مالك في الموطأ، والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه. وضعفه المصنف في التاريخ للاضطراب في سنده، وقد ذكرت كثيرا من طرقه في تغريق التعليق". وانظر: مشكل الآثار: 2 / 285-286، شرح معاني الآثار: 1 / 474.
(4) في الموضع السابق: 1 / 478.

إِلَى الرُّكْبَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَحَارِمُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. وَالْمَرْأَةُ فِي النَّظَرِ إِلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ كَهُوَ مَعَهَا. وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ، وَكَذَلِكَ هِيَ مِنْهُ إِلَّا نَفْسَ الْفَرَجِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَتِهَا كَالْأَمَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ فَلَا يَنْظُرَنَّ إِلَى مَا دُونُ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ" (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في اللباس: باب في قوله تعالى: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن": 6 / 61، والبيهقي في السنن: 3 / 226 و229، و7 / 94، والدارقطني: 1 / 230. وحسنه الألباني في الإرواء: 2 / 207. وذكره المصنف في شرح السنة: 9 / 25.

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)

{ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } "الْأَيَامَى": جَمْعُ أَيِّمٍ، وَهُوَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ [مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَيِّمٌ وَامْرَأَةٌ أَيِّمَةٌ، وَأَيِّمٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: زَوِّجُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ] (1) مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْ أَحْرَارِ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَهَذَا الْأَمْرُ أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ.
يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى النِّكَاحِ وَوَجَدَ أُهْبَةَ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكَاحِ يَكْسِرُ شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ، لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بن إبراهيم الإسفرايني، [أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الْبَجَلِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ] (2) عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغُضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (3) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَّى بِالسَّقْطِ" (4)
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في النكاح، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من استطاع الباءة فليتزوج": 9 / 106، ومسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه، برقم (1400): 2 / 1018-1019، والمصنف في شرح السنة: 9 / 3.
(4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": 6 / 173 عن سعيد بن أبي هلال مرسلا. قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (3 / 116): "أخرجه صاحب "مسند الفردوس" من طريق محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: .. والمحمدان ضعيفان، وذكر البيهقي عن الشافعي أنه ذكره بلاغا.
وفي الباب عن أبي أمامة أخرجه البيهقي.. وفيه محمد بن ثابت وهو ضعيف، وعن أنس صححه ابن حبان.. وعن حرملة بن النعمان أخرجه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" وابن قانع في "الصحابة"، وفي مسند ابن مسعود من "علل الدارقطني" نحوه، وعن عياض بن غنم أخرجه الحاكم، وإسناده ضعيف.. وذكر ألفاظهم. وانظر: كشف الخفاء: 1 / 380.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي، وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ" (1) . أَمَّا مَنْ لَا تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى النِّكَاحِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَالتَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ النِّكَاحِ [عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ النِّكَاحُ أَفْضَلُ] (2) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا كَرَّمَهُ فَقَالَ: "وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ"(آلِ عِمْرَانَ-39 ) ، وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْقَوَاعِدَ مِنَ النِّسَاءِ وَلَمْ يَنْدُبْهُنَّ إِلَى النِّكَاحِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَزْوِيجَ النِّسَاءِ الْأَيَامَى إِلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِهِ، كَمَا أَنَّ تَزْوِيجَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ إِلَى السَّادَاتِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَشُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَجَوَّزَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ دَنِيئَةً يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً فَلَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطٌ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ: مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" (3)
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق: 6 / 169، وسعيد بن منصور: 1 / 138 عن عبيد بن سعد مرفوعا، والبيهقي عن أبي هريرة: 7 / 78. قال الهيثمي في المجمع (4 / 252): "رواه أبو يعلى ورجاله ثقات إن كان عبيد بن سعد صحابيا وإلا فهو مرسل". وانظر: "المطالب العالية" لابن حجر: 2 / 36، "الكامل" لابن عدي: 7 / 2549.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) أخرجه أبو داود في النكاح، باب في الولي: 3 / 29، والترمذي في النكاح، باب ما جاء: لا نكاح إلا بولي: 4 / 226-227، وابن ماجه في النكاح برقم (1881): 1 / 605، وصححه الحاكم: 2 / 169، وابن حبان برقم (1243) ص (304)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 394.
قال الترمذي (4 / 229-234): "وحديث أبي موسى حديث فيه اختلاف.. وساق الاختلاف في إسناده ثم قال: ورواية هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نكاح إلا بولي" عندي أصح؛ لأن سماعهم من أبي إسحاق في أوقات مختلفة، وإن كان شعبة والثوري أحفظ وأثبت من جميع هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق هذا الحديث.." ثم قال: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نكاح إلا بولي" عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وغيرهم.
وهكذا روي عن بعض فقهاء التابعين أنهم قالوا: لا نكاح إلا بولي. منهم سعيد بن المسيب والحسن البصري، وشريح وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وبهذا يقول سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وعبد الله بن مبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وانظر: نصب الراية للزيلعي: 3 / 182-184.

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذَنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، ثَلَاثًا، فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ" (1)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قِيلَ: الْغِنَى هَاهُنَا: الْقَنَاعَةُ. وَقِيلَ: اجْتِمَاعُ الرِّزْقَيْنِ، رِزْقُ الزَّوْجِ وَرِزْقُ الزَّوْجَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ لِمَنِ ابْتَغَى الْغِنَى بِغَيْرِ النِّكَاحِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْغِنَيَّ بِالنِّكَاحِ وَبِالتَّفَرُّقِ فَقَالَ تَعَالَى: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ] (2) ، ، وَقَالَ تَعَالَى: "وإن يتفرقا يغني اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ"(النِّسَاءِ-130 ) .
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) }
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } أَيْ: لِيَطْلُبِ الْعِفَّةَ عَنِ الْحَرَامِ وَالزِّنَا الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا لَا يَنْكِحُونَ بِهِ لِلصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ، { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ: يُوَسِّعَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب في الولي: 3 / 26-27، والترمذي في النكاح: 4 / 227-229، وقال: "هذا حديث حسن، وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أيوب، وسفيان الثوري، وغير واحد من الحفاظ عن ابن جريج نحو هذا". وأخرجه ابن ماجه في النكاح برقم (1879): 1 / 605، وصححه الحاكم: 2 / 168 على شرط الشيخين، وابن حبان برقم (1248)، ص (305) من موارد الظمآن، والبيهقي: 7 / 105، 107، والمصنف في شرح السنة: 9 / 39.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } أَيْ: يَطْلُبُونَ الْمُكَاتَبَةَ، { مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ غُلَامًا لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى سَأَلَ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَاتَبَهُ حُوَيْطِبٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَدَّاهَا، وَقُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي الْحَرْبِ (1)
وَالْكِتَابَةُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا مِنَ الْمَالِ، وَيُسَمِّيَ مَالًا مَعْلُومًا، يُؤَدَّى ذَلِكَ فِي نَجْمَيْنِ أَوْ نُجُومٍ مَعْلُومَةٍ فِي كُلِّ نَجْمٍ كَذَا، فَإِذَا أَدَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَالْعَبْدُ يَقْبَلُ ذَلِكَ، فَإِذَا أَدَّى الْمَالَ عَتَقَ، ويصير العبد 40/أ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَإِذَا أُعْتِقَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ فَمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ، يَكُونُ لَهُ، وَيَتْبَعُهُ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي حَالِ الْكِتَابَةِ فِي الْعِتْقِ، وَإِذَا عَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ كَانَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَفْسِخَ كِتَابَتَهُ وَيَرُدَّهُ إِلَى الرِّقِّ، وَمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ، لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ [شَيْءٌ" (2) . وَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ] (3) دِرْهَمٌ" (4) .
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: { فَكَاتِبُوهُمْ } أَمْرُ إِيجَابٍ، يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ الَّذِي عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا إِذَا سَأَلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ، عَلَى قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ سَأَلَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَتَلَكَّأَ عَنْهُ فَشَكَا إِلَى عُمَرَ، فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ وَأَمَرَهُ بِالْكِتَابَةِ فَكَاتَبَهُ (5) . وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ. وَلَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ نَجْمَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جُوِّزَ إِرْفَاقًا بِالْعَبْدِ، وَمِنْ تَتِمَّةِ الْإِرْفَاقِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَالُ عَلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ عَلَى مَهَلٍ، فَيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، كَالدِّيَةِ فِي قَتْلِ
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (375)، الدر المنثور: 6 / 189، تفسير القرطبي: 12 / 184.
(2) أخرجه مالك في الموطأ موقوفا على ابن عمر، كتاب المكاتب، باب القضاء في المكاتب: 2 / 787، والمصنف في شرح السنة: 9 / 373.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) أخرجه أبو داود في العتاق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته..: 5 / 383. قال المنذري: وفيه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 9 / 372-373.
(5) أخرجه الطبري: 18 / 126، وعبد الرزاق في "المصنف": 8 / 372، وبمعناه عن قتادة عند البيهقي: 10 / 319، وعلقه البخاري: 5 / 184. وانظر: فتح الباري: 5 / 186-187.

الْخَطَأِ، وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ فَكَانَتْ عَلَيْهِمْ مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الْكِتَابَةَ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ وَحَالَّةً (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْخَيْرِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قُوَّةً عَلَى الْكَسْبِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنْ ترك خيرا" (لبقرة-180 ) أَيْ: مَالًا وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ لَهُ كَاتِبْنِي، قَالَ: أَلَكَ مَالٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: تُرِيدُ أَنْ تُطْعِمَنِي مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ، وَلَمْ يُكَاتِبْهُ (2) . قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ أَرَادَ بِهِ الْمَالَ لَقَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعُبَيْدَةُ: صِدْقًا وَأَمَانَةً (3) وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: مَالًا وَأَمَانَةً (4) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَظْهَرُ مَعَانِي الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ: الِاكْتِسَابُ مَعَ الْأَمَانَةِ، فَأُحِبُّ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ كِتَابَتِهِ إِذَا كَانَ هَكَذَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْجُورَبَذِيُّ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (5) . وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ: "إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا" أَيْ: أَقَامُوا الصَّلَاةَ (6) . وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بَالِغًا عَاقِلًا فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا تَصْحُ كِتَابَتُهُمَا لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ كِتَابَةَ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا خِطَابٌ لِلْمَوَالِي، يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَحُطَّ عَنْ مُكَاتَبِهِ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
__________
(1) في "أ": فعلله.
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": 8 / 374، والبيهقي: 10 / 320.
(3) أخرجه عبد الرزاق: 8 / 370، 371، والبيهقي: 10 / 318.
(4) انظر: مصنف عبد الرزاق: 8 / 370، والبيهقي: 10 / 318.
(5) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد، باب ما جاء في المجاهد والمكاتب والناكح..: 5 / 296، وقال: "هذا حديث حسن"، والنسائي في النكاح، باب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف: 6 / 61، وابن ماجه في العتق، باب المكاتب: 2 / 841-842، وصححه الحاكم: 2 / 160، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 9 / 7.
(6) أخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف: 8 / 371.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَحُطُّ عَنْهُ رُبُعَ مَالِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَلَيٍّ مَرْفُوعًا (1) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَحُطُّ عَنْهُ الثُّلُثَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ حَدٌّ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ مَا شَاءَ (2) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ نَافِعٌ: كَاتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ غُلَامًا لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوَضَعَ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ (3) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا كَاتَبَ مُكَاتَبَهُ لَمْ يَضَعْ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ أَوَّلِ نُجُومِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْجِزَ فَتَرْجِعَ إِلَيْهِ صَدَقَتُهُ، وَوَضَعَ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ مَا أَحَبَّ (4) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ. وَالْوُجُوبُ أَظْهَرُ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "وَآتَوْهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ" أَيْ سَهْمَهُمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَفِي الرِّقَابِ"(التَّوْبَةِ-60) وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (5) . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ حَثٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ عَلَى مَعُونَتِهِمْ (6)
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَدَاءِ النُّجُومِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ: فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَمُوتُ رَقِيقًا، وَتَرْتَفِعُ الْكِتَابَةُ سَوَاءٌ تَرَكَ مَالًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَرْتَفِعُ الْبَيْعُ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ كَانَ حُرًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، فَالزِّيَادَةُ لِأَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْمَالِ لِأَنَّ عِتْقَهُ مُعَلَّقٌ بِالْأَدَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ وَتَبِعَهُ الْأَوْلَادُ وَالِاكْتِسَابُ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: وَهِيَ أَنَّ الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى فَسْخَهَا مَا لَمْ يَعْجِزِ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ النُّجُومِ، [وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَيَعْتِقُ بِالْإِبْرَاءِ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق عن علي مرفوعا: 7 / 375، والبيهقي: 10 / 329، وأخرجه البيهقي من طريق آخر موقوفا وقال: هذا هو الصحيح موقوف، وكذلك عبد الرزاق: 7 / 376، والطبري: 18 / 131.
(2) انظر: الطبري: 18 / 131، المصنف لعبد الرزاق: 8 / 377.
(3) أخرجه الطبري: 18 / 131.
(4) أخرجه الطبري: 18 / 131، وعبد الرزاق: 8 / 377، والبيهقي: 3 / 330.
(5) أخرجه الطبري: 18 / 131-132 ورجح الطبري هذا القول وهو قول من قال: عني به إيتاءهم سهمهم من الصدقة المفروضة. انظر بالتفصيل: 18 / 132.
(6) أخرجه عبد الرزاق عن إبراهيم: 8 / 376-377.

عَنِ النُّجُومِ] (1) وَالْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ يَمْلِكُ الْمَوْلَى فَسْخَهَا قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ، [حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمَالَ] (2) بَعْدَ الْفَسْخِ لَا يَعْتِقُ وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَلَا يَعْتِقُ بِالْإِبْرَاءِ عَنِ النُّجُومِ، وَإِذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ بِأَدَاءِ الْمَالِ لَا يَثْبُتُ التَّرَاجُعُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، وَيَثْبُتُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، فَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِيمَةِ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مَالًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ الْمُنَافِقِ، كَانَتْ لَهُ جَارِيَتَانِ: مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ، وَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَا بِالضَّرِيبَةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يُؤَجِّرُونَ إِمَاءَهُمْ، فَلَمَّا جاء الإسلام 40/ب قَالَتْ مُعَاذَةُ لِمُسَيْكَةَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ، فَإِنْ يَكُ خَيْرًا فَقَدِ اسْتَكْثَرْنَا مِنْهُ، وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَقَدْ آنَ لَنَا أَنْ نَدَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (3) . وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَتْ إِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ يَوْمًا بِبُرْدٍ وَجَاءَتِ الْأُخْرَى بِدِينَارٍ، فَقَالَ لَهُمَا: ارْجِعَا فَازْنِيَا، قَالَتَا: وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَحَرَّمَ الزِّنَا، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَتَا إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ (4)
{ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ } إِمَاءَكُمْ { عَلَى الْبِغَاءِ } أَيْ: الزِّنَا { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } أَيْ: إِذَا أَرَدْنَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُنَّ عَلَى الزِّنَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"( آلِ عِمْرَانَ-139 ) ، [أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] (5) وَقِيلَ: شَرَطَ إِرَادَةَ التَّحَصُّنِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَإِذَا لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ بَغَتْ طَوْعًا، وَالتَّحَصُّنُ: التَّعَفُّفُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهَا: وَأَنْكَحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ.
{ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أَيْ: لِتَطْلُبُوا مِنْ أَمْوَالِ الدُّنْيَا، يُرِيدُ مِنْ كَسْبِهِنَّ وَبَيْعِ أَوْلَادِهِنَّ، { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يَعْنِي لِلْمُكْرَهَاتِ، وَالْوِزْرُ عَلَى الْمُكْرِهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: لَهُنَّ وَاللَّهِ لَهُنَّ وَاللَّهِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) عزاه الواحدي في أسباب النزول ص (377) للمفسرين، وساق روايات أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي كان يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئا.. وهو في صحيح مسلم.
(4) قاله مقاتل: انظر: أسباب النزول للواحدي ص 377-378.
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، { وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أَيْ: شَبَهًا مِنْ حَالِكُمْ بِحَالِهِمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، وَهَذَا تَخْوِيفٌ لَهُمْ أَنْ يَلْحَقَهُمْ مَا لَحِقَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُمْ بِنُورِهِ إِلَى الْحَقِّ يَهْتَدُونَ وَبِهُدَاهُ مِنَ الضَّلَالَةِ يَنْجُونَ. وَقَالَ الضحاك: منوّر السموات وَالْأَرْضِ، يُقَالُ: نَوَّرَ السَّمَاءَ بِالْمَلَائِكَةِ وَنَوَّرَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُدَبِّرُ الأمور في السموات وَالْأَرْضِ (1) وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو العالية: مزِّين السموات وَالْأَرْضِ، زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَزَيَّنَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَيُقَالُ: بِالنَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَنْوَارُ كُلُّهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: فَلَانٌ رَحْمَةٌ أَيْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ. وَقَدْ يُذْكَرُ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً ... فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجَمَالُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَثَلُ نُورِهِ } أَيْ: مَثَلَ نُورِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ، كَمَا قَالَ "فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ" (الزُّمَرِ-22 ) ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: "مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَثَلُ نُورِهِ الَّذِي أَعْطَى الْمُؤْمِنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِ، أَيْ: مَثَلُ نُورِ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَقْرَأُ: "مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ" وَهُوَ عَبْدٌ جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ، فِي صَدْرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَرَادَ بِالنُّورِ الْقُرْآنَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنُّورِ الطَّاعَةَ، سَمَّى طَاعَةَ اللَّهِ نُورًا وَأَضَافَ هَذِهِ الْأَنْوَارَ إِلَى نَفْسِهِ تَفْضِيلًا
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الثلاثة الطبري: 18 / 135 ورجح القول الأول الذي قال به ابن عباس رضي الله عنهما.

{ كَمِشْكَاةٍ } وَهِيَ الْكُوَّةُ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا فَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْفَذٌ فَهِيَ كُوَّةٌ. وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ حَبَشِيَّةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ (1) { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أَيْ: سِرَاجٌ، أَصْلُهُ مِنَ الضَّوْءِ، وَمِنْهُ الصُّبْحُ، وَمَعْنَاهُ: كَمِصْبَاحٍ فِي مِشْكَاةٍ، { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } يَعْنِي الْقِنْدِيلَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الزُّجَاجَةَ لِأَنَّ النُّورَ وَضَوْءَ النَّارِ فِيهَا أَبْيَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَضَوْءُهُ يَزِيدُ فِي الزُّجَاجِ، ثُمَّ وَصَفَ الزُّجَاجَةَ، فَقَالَ: { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } قرأ أبو عمر وَالْكِسَائِيُّ: "دِرِّيءٍ" بِكَسْرِ الدَّالِ وَالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ الدَّالِ وَالْهَمْزَةِ، فَمَنْ كَسَرَ الدَّالَ فَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الدَّرْءِ، وَهُوَ الدَّفْعُ، لِأَنَّ الْكَوْكَبَ يَدْفَعُ الشَّيَاطِينَ مِنَ السَّمَاءِ، وَشَبَّهَهُ بِحَالَةِ الدَّفْعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَضْوَأَ وَأَنْوَرَ وَيُقَالُ: هُوَ مِنْ دَرَأَ الْكَوْكَبَ إِذَا انْدَفَعَ مُنْقَبِضًا فَيَتَضَاعَفُ ضَوْءُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقِيلَ: "دُرِّيٍّ" أَيْ: طَالِعٍ، يُقَالُ: دَرَأَ النَّجْمُ إِذَا طَلَعَ وَارْتَفَعَ. وَيُقَالُ: دَرَأَ عَلَيْنَا فُلَانٌ أَيْ طَلَعَ وَظَهَرَ، فَأَمَّا رَفْعُ الدَّالِ مَعَ الْهَمْزَةِ كَمَا قَرَأَ حَمْزَةُ، قَالَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ: هُوَ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فُعِّيلٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَأَنَا أَرَى لَهَا وَجْهًا وَذَلِكَ أَنَّهَا دُرُّوءٌ عَلَى وَزْنِ فُعُّولٍ مِنْ دَرَاتُ، مِثْلُ سُبُّوحٍ وَقُدُّوسٍ، وَقَدِ اسْتَثْقَلُوا كَثْرَةَ الضَّمَّاتِ فَرَدُّوا بَعْضَهَا إِلَى الْكَسْرِ، كَمَا قَالُوا: عِتِيًّا وَهُوَ فُعُولٌ مِنْ عَتَوْتُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { دُرِّيُّ } بِضَمِّ الدَّالِّ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِلَا هَمْزٍ، أَيْ: شَدِيدُ الْإِنَارَةِ، نُسِبَ إِلَى الدُّرِ فِي صَفَائِهِ وَحُسْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكَوْكَبُ أَكْثَرَ ضَوْءًا مِنَ الدُّرِّ لَكِنَّهُ يَفْضُلُ الْكَوَاكِبَ بِضِيَائِهِ، كَمَا يَفْضُلُ الدُّرُّ، سَائِرَ الْحَبِّ. وَقِيلَ: الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ وَاحِدٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ، وَهِيَ زُحَلُ وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالزُّهَرَةُ، وَعُطَارِدُ. وَقِيلَ: شَبَّهَهُ بِالْكَوْكَبِ، وَلَمْ يُشَبِّهْهُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَلْحَقُهُمَا الْخُسُوفُ وَالْكَوَاكِبَ لَا يَلْحَقُهَا الْخُسُوفُ.
{ يُوقَدُ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: "تَوَقَّدَ" بِالتَّاءِ وَفَتِحِهَا وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ عَلَى الْمَاضِي، يَعْنِي الْمِصْبَاحَ، أَيْ: اتَّقَدَ، يُقَالُ تَوَقَّدَتِ النَّارُ أَيْ: اتَّقَدَتْ. وَقَرَأَ
__________
(1) قال الطبري: (18 / 140): "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدَّقوا بما فيه في قلوب المؤمنين، مثل مشكاةٍ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وذلك هو نظير الكوة التي في الحيطان التي لا منفذ لها، وذلك مثل القرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه، واستنارته بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه المبينات، ومواعظه فيها - بالكوكب الدري فقال: الزجاجة، ذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنها كوكب دري".

أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرَ حَفْصٍ "تُوقَدُ" بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْقَافِ خَفِيفًا، يَعْنِي الزُّجَاجَةَ أَيْ: نَارَ الزُّجَاجَةِ لِأَنَّ الزُّجَاجَةَ لَا تُوقَدُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا خَفِيفًا يَعْنِي الْمِصْبَاحَ، { مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أَيْ: مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } وَأَرَادَ بِالشَّجَرَةِ المباركة: الزيتونة 41/أ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْبَرَكَةِ، وَفِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، لِأَنَّ الزَّيْتَ يُسْرَجُ بِهِ، وَهُوَ أَضْوَأُ وَأَصْفَى الْأَدْهَانِ، وَهُوَ إِدَامٌ وَفَاكِهَةٌ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي اسْتِخْرَاجِهِ إِلَى إِعْصَارٍ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَسْتَخْرِجُهُ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّهُ مَصَحَّةٌ مِنَ الْبَاسُورِ" (1) ، وَهِيَ شَجَرَةٌ تُورِقُ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَاسِمُ بْنُ بَكْرٍ الطَّيَالِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أبو أمية الطرسوسي، أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَطَاءٍ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ بِابْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَسَدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي أَسْلَمَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } أَيْ: لَيْسَتْ شَرْقِيَّةً وَحْدَهَا حَتَّى لَا تُصِيبَهَا الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، وَلَا غَرْبِيَّةً وَحْدَهَا فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ بِالْغَدَاةِ إِذَا طَلَعَتْ، بَلْ هِيَ ضَاحِيَةُ الشَّمْسِ طُولَ النَّهَارِ، تُصِيبُهَا الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، فَتَكُونُ شَرْقِيَّةً وَغَرْبِيَّةً تَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَكُونُ زَيْتُهَا أَضْوَأَ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ لَيْسَ بِأَسْوَدَ وَلَا بِأَبْيَضَ، يُرِيدُ لَيْسَ بِأَسْوَدَ خَالِصٍ وَلَا بِأَبْيَضَ خَالِصٍ، بَلِ اجْتَمَعَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا الرُّمَّانُ لَيْسَ بِحُلْوٍ وَلَا حَامِضٍ، أَيِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْحَلَاوَةُ وَالْحُمُوضَةُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسِ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ، وَالْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَقْنَاةٍ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ وَلَا فِي مَضْحَاةٍ لَا يُصِيبُهَا الظِّلُّ، فَهِيَ لَا تَضُرُّهَا شَمْسٌ وَلَا ظِلٌّ.
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 17 / 281، وابن أبي حاتم في العلل: 2 / 279 وقال: "قال أبي: هذا كذب" وذكره الذهبي في الميزان: (3 / 40) في ترجمة عثمان بن صالح وهو علة هذا الحديث؛ لينَّة أحمد بن صالح. قال الهيثمي في "المجمع": (6 / 100): "رواه الطبراني، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح، ولكن ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمة عثمان عن أبي صالح ونقل عن أبي حاتم أنه كذاب". وزاد ابن حجر نسبته لأبي نعيم في الطب، والثعلبي، انظر: الكافي الشاف ص (119)، سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 228.
(2) أخرجه الترمذي في الأطعمة، باب ما جاء في أكل الزيت: 5 / 585-586 وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، إنما نعرفه من حديث عبد الله بن عيسى" وصححه الحاكم: 2 / 398، وأخرجه الدارمي في السنن: 2 / 28، والإمام أحمد في المسند: 3 / 497، والمصنف في شرح السنة: 11 / 311.
قال الألباني: "روي من حديث عمر، وأبي أسيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس.. وساق طرقه إليهم ثم قال: وجملة القول أن الحديث بمجموع طريقي عمر وطريق أبي سعيد يرتقي إلى درجة الحسن لغيره على أقل الأحوال. والله أعلم". انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1 / 354-357.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مُعْتَدِلَةٌ لَيْسَتْ فِي شَرْقٍ يَضُرُّهَا الْحَرُّ، وَلَا فِي غَرْبٍ يَضُرُّهَا الْبَرْدُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هِيَ شَامِيَّةٌ لِأَنَّ الشَّامَ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ أَشْجَارِ الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ (1) .
{ يَكَادُ زَيْتُهَا } دُهْنُهَا، { يُضِيءُ } مِنْ صَفَائِهُ { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أَيْ: قَبْلَ أَنْ تُصِيبَهُ النَّارُ، { نُورٌ عَلَى نُورٍ } يَعْنِي نُورُ الْمِصْبَاحِ عَلَى نُورِ الزُّجَاجَةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذَا التَّمْثِيلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَعَ هَذَا التَّمْثِيلُ لِنُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } فَقَالَ كَعْبٌ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ فِيهِ النُّبُوَّةُ، تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ هِيَ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، يَكَادُ نُورُ مُحَمَّدٍ وَأَمْرُهُ يَتَبَيَّنُ لِلنَّاسِ وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ كَمَا يَكَادُ ذَلِكَ الزَّيْتُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (2) . وَرَوَى سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ، وَالزُّجَاجَةُ: قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ، لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً: وَلَا يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ، تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ: إِبْرَاهِيمُ، نُورٌ عَلَى نُورٍ، قَلْبُ إِبْرَاهِيمَ، وَنُورٌ: قَلَبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "الْمِشْكَاةُ" إِبْرَاهِيمُ، وَ"الزُّجَاجَةُ": إِسْمَاعِيلُ وَ"الْمِصْبَاحُ": مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ سَمَّاهُ اللَّهُ مِصْبَاحًا كَمَا سَمَّاهُ سِرَاجًا فَقَالَ تَعَالَى: "وَسِرَاجًا مُنِيرًا" ( الْأَحْزَابِ-46 ) ، "تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" وَهِيَ إِبْرَاهِيمُ، سَمَّاهُ مُبَارَكَةً لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ صُلْبِهِ، "لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً" يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا لِأَنَّ الْيَهُودَ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى تُصَلِّي قِبَلَ الْمَشْرِقِ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، تَكَادُ مَحَاسِنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ "نُورٌ عَلَى نُورٍ": نَبِيٌّ مِنْ نَسْلِ نَبِيٍّ، نُورُ مُحَمَّدٍ عَلَى نُورِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَعَ هَذَا التَّمْثِيلُ لِنُورِ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ. رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: هَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، فَالْمِشْكَاةُ نَفْسُهُ وَالزُّجَاجَةُ صَدْرُهُ، وَالْمِصْبَاحُ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْقُرْآنِ
__________
(1) ذكر الطبري هذه الأقوال، ثم قال: "وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك، قول من قال: إنها شرقية غربية. وقال: ومعنى الكلام: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية. وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام؛ لأن الله إنما وصف الزيت يوقد على هذا المصباح بالصفاء والجودة، فإذا كان شجره شرقيا غربيا، كان زيته لا شك أجود وأصفى وأضوأ". تفسير الطبري: 18 / 142-143.
(2) عزاه السيوطي في "الدر": (6 / 198) لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) عزاه السيوطي في "الدر": (6 / 198) للطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)

فِي قَلْبِهِ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ وَهِيَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي الْتَفَّ بِهَا الشَّجَرُ خَضْرَاءُ نَاعِمَةٌ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ لَا إِذَا طَلَعَتْ وَلَا إِذَا غَرَبَتْ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ، قَدِ احْتَرَسَ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ فَهُوَ بَيْنُ أَرْبَعِ خِلَالٍ إِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِنِ ابْتُلِيَ صَبْرَ، وَإِنْ حَكَمَ عَدَلَ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ أَيْ: يَكَادُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْرِفُ الْحَقَّ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُ نُورٌ عَلَى نُورٍ. قَالَ أُبَيٌّ فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسَةِ أَنْوَارٍ: قَوْلُهُ نُورٌ، وَعَمَلُهُ نُورٌ، وَمَدْخَلُهُ نُورٌ، وَمَخْرَجُهُ نُورٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلُ نُورِ اللَّهِ وَهُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ الصَّافِي يُضِيءُ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ ازْدَادَ ضَوْءًا عَلَى ضَوْئِهِ، كَذَلِكَ يَكَادُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ هُدًى عَلَى هُدًى وَنُورًا عَلَى نُورٍ (2) قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَوْلُهُ { نُورٌ عَلَى نُورٍ } يَعْنِي: إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ وَعَمَلَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُورُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ (3) هَذَا مَثَلُ الْقُرْآنِ، فَالْمِصْبَاحُ هُوَ الْقُرْآنُ فَكَمَا يُسْتَضَاءُ بِالْمِصْبَاحِ يُهْتَدَى بِالْقُرْآنِ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَالْمِشْكَاةُ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ شَجَرَةُ الْوَحْيِ، "يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ" تَكَادُ حُجَّةُ الْقُرْآنِ تَتَّضِحُ وَإِنْ لَمْ يُقْرَأْ، نُورٌ عَلَى نُورٍ: يَعْنِي الْقُرْآنُ نُورٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِخَلْقِهِ مَعَ مَا أَقَامَ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ قَبِلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَازْدَادَ بِذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ (4)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نُورُ الْبَصِيرَةِ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَشْيَاءَ لِلنَّاسِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَتَسْهِيلًا لِسُبُلِ الْإِدْرَاكِ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) }
قَوْلُهُ: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ } أَيْ: ذَلِكَ الْمِصْبَاحُ فِي بُيُوتٍ. وَقِيلَ: يُوقَدُ فِي بُيُوتٍ، وَالْبُيُوتُ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وهي تضيء 41/ب لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ".
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 138، وانظر: الدر المنثور: 6 / 197.
(2) الطبري نفسه، الدر المنثور: 6 / 197.
(3) الطبري: 18 / 137.
(4) انظر ما سبق نقله عن الطبري في ترجيح أن ذلك مثل ضربه الله تعالى للقرآن في قلب أهل الإيمان به: ص (46).

وَرَوَى صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى" "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ"، قَالَ: إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ مَسَاجِدَ لَمْ يَبْنِهَا إِلَّا نَبِيٌّ: الْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ فَجَعَلَاهَا قِبْلَةً، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ بَنَاهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ بَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى بَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
قَوْلُهُ: { أَنْ تُرْفَعَ } قَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ تُبْنَى، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ من البيت" (لبقرة-127 ) ، قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ تُعَظَّمَ أَيْ لَا يُذْكَرَ فِيهِ الْخَنَا مِنَ الْقَوْلِ. { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ، { يُسَبِّحُ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ "يُسَبَّحُ" بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ" "وَالْآصَالِ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْبَاءِ، جَعَلُوا التَّسْبِيحَ فِعْلًا لِلرِّجَالِ، { يُسَبِّحُ لَهُ } أَيْ: يُصَلِّي، { لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } أَيْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِهِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ. فَالَّتِي تُؤَدَّى بِالْغَدَاةِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالَّتِي تُؤَدَّى بِالْآصَالِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ لِأَنَّ اسْمَ الْأَصِيلِ يَجْمَعُهُمَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ ابن الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْقِلٍ الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" (2) . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: التَّسْبِيحُ بِالْغُدُوِّ صَلَاةُ الضُّحَى (3) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمْعَانِ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ مَشَى إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ" (4)
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 203.
(2) أخرجه البخاري في المواقيت، باب فضل صلاة الفجر: 2 / 52، ومسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، برقم (635): 1 / 440، والمصنف في شرح السنة: 2 / 227.
(3) عزاه السيوطي في "الدر": (6 / 206) لابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة: 1 / 294. قال المنذري: "القاسم بن عبد الرحمن فيه مقال". والإمام أحمد: 5 / 268، والبيهقي في السنن: 3 / 49، والطبراني في الكبير: 8 / 150، 207، والمصنف في شرح السنة: 2 / 357، وانظر: نصب الراية: 3 / 151.

رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

{ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) }
{ رِجَالٌ } قِيلَ: خَصَّ الرِّجَالَ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، { لَا تُلْهِيهِمْ } لَا تُشْغِلُهُمْ، { تِجَارَةٌ } قِيلَ خَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ، وَأَرَادَ بِالتِّجَارَةِ الشِّرَاءَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ التِّجَارَةِ يَقَعُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْبَيْعَ بَعْدَ هَذَا، كَقَوْلِهِ: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً" ( الْجُمُعَةِ-11 ) يَعْنِي: الشِّرَاءَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلْبِ وَالْبَيْعِ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ. قَوْلُهُ: { وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } عَنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، { وَإِقَامِ } أَيْ: لِإِقَامَةِ، { الصَّلَاةِ } حَذَفَ الْهَاءَ وَأَرَادَ أَدَاءَهَا فِي وَقْتِهَا، لِأَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا لَا يَكُونُ مِنْ مُقِيمِي الصَّلَاةِ، وَأَعَادَ ذِكْرَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ حِفْظَ الْمَوَاقِيتِ. رَوَى سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ النَّاسُ وَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ } (1)
{ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } الْمَفْرُوضَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَضَرَ وَقْتُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لَمْ يَحْبِسُوهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } قِيلَ: تَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَتَنْفَتِحُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْأَغْطِيَةِ، وَقِيلَ: تَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ تَخْشَى الْهَلَاكَ وَتَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ، وَتَقَلُّبُ الْأَبْصَارِ مِنْ هَوْلِهِ أَيْ: نَاحِيَةَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ أَمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَمِنْ أَيْنَ يُؤْتُونَ الْكُتُبَ أَمْ من قبل الأيمان أم مِنْ قِبَلِ الشَّمَائِلِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ فِي الْجَوْفِ فَتَرْتَفِعُ إِلَى الْحَنْجَرَةِ فَلَا تَنْزِلُ وَلَا تَخْرُجُ، وَتَقَلُّبُ الْبَصَرِ شُخُوصُهُ مِنْ هَوْلِ الْأَمْرِ وَشِدَّتِهِ. { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } يُرِيدُ: أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسُنَ مَا عَمِلُوا، أَيْ بِأَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، يُرِيدُ: يَجْزِيهِمْ بِحَسَنَاتِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ لَا يَجْزِيهِمْ بِهَا، { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } مَا لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِأَعْمَالِهِمْ، { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ثُمَّ ضَرَبَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مَثَلًا فَقَالَ تَعَالَى:
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 146، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. انظر: الدر المنثور: 6 / 207.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } "السَّرَابُ" الشُّعَاعُ الَّذِي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي الْبَرَارِيِّ، يُشْبِهُ الْمَاءَ الْجَارِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَظُنُّهُ مَنْ رَآهُ مَاءً، فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ انْفَشَّ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا وَ"الْآلُ" مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ شُعَاعٌ يُرَى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِالْغَدَوَاتِ شِبْهُ الْمُلَاءَةِ يُرْفَعُ فِيهِ الشُّخُوصُ يُرَى فِيهِ الصَّغِيرُ كَبِيرًا وَالْقَصِيرُ طَوِيلًا وَ"الرَّقْرَاقُ" يَكُونُ بِالْعَشَايَا، وَهُوَ مَا تَرَقْرَقَ مِنَ السَّرَابِ، أَيْ جَاءَ وَذَهَبَ. وَ"الْقِيعَةُ": جَمْعُ الْقَاعِ وَهُوَ الْمُنْبَسِطُ الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِيهِ يَكُونُ السَّرَابُ، { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ } أَيْ: يَتَوَهَّمُهُ الْعَطْشَانُ، { مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ } أَيْ: جَاءَ مَا قَدْ رَأَى أَنَّهُ مَاءٌ. وَقِيلَ: جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ، { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَحَسِبَهُ كَذَلِكَ الْكَافِرُ يَحْسَبُ أَنَّ عَمَلَهُ نَافِعُهُ فَإِذَا أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَاحْتَاجَ إِلَى عَمَلِهِ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ أَغْنَى مِنْهُ شَيْئًا وَلَا نَفَعَهُ. { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ } أَيْ: عِنْدَ عَمَلِهِ، أَيْ: وَجَدَ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ. وَقِيلَ: قَدِمَ عَلَى اللَّهِ، { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } أَيْ جَزَاءَ عَمَلِهِ، { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { أَوْ كَظُلُمَاتٍ } وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، يَقُولُ: مَثَلُ أَعْمَالِهِمْ مِنْ فَسَادِهَا وَجَهَالَتِهِمْ فِيهَا كَظُلُمَاتٍ، { فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } وَهُوَ الْعَمِيقُ الْكَثِيرُ الْمَاءِ، وَلُجَّةُ الْبَحْرِ: مُعْظَمُهُ، { يَغْشَاهُ } يَعْلُوهُ، { مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ } مُتَرَاكِمٌ، { مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } 42/أ ، ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِرِوَايَةِ الْقَوَّاسِ: "سَحَابٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، { ظُلُمَاتٍ } بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ "أَوْ كَظُلُمَاتٍ". وَرَوَى أَبُو الْحَسَنِ الْبُرِّيُّ عَنْهُ: "سَحَابُ، ظُلُمَاتٍ" بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ"، كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، فَيَكُونُ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ "سَحَابٌ" ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } ظُلْمَةُ السَّحَابِ وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، أَيْ: ظُلْمَةُ الْمَوْجِ عَلَى ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ فَوْقَ الْمَوْجِ، وَظُلْمَةُ السَّحَابِ عَلَى ظُلْمَةِ الْمَوْجِ، وَأَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ أَعْمَالَ الْكَافِرِ وَبِالْبَحْرِ اللُّجِّيِّ قَلْبَهُ، وَبِالْمَوْجِ مَا يَغْشَى قَلْبَهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ، وَبِالسَّحَابِ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ عَلَى قَلْبِهِ.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)

قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الظُّلَمِ: فَكَلَامُهُ ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى الظُّلُمَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ (1) .
{ إِذَا أَخْرَجَ } يَعْنِي: النَّاظِرَ، { يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } يَعْنِي لَمْ يَقْرُبْ مِنْ أَنْ يَرَاهَا مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "يَكَدْ" صِلَةٌ، أَيْ: لَمْ يَرَهَا، [قَالَ الْمُبَرِّدُ: يَعْنِي لَمْ يَرَهَا] (2) إِلَّا بَعْدَ الْجُهْدِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا كِدْتُ أَرَاكَ مِنَ الظُّلْمَةِ وَقَدْ رَآهُ، وَلَكِنْ بَعْدَ يَأْسٍ وَشِدَّةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ رُؤْيَتِهَا وَلَمْ يَرَهَا، كَمَا يُقَالُ: كَادَ النَّعَامُ يَطِيرُ. { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ دِينًا وَإِيمَانًا فَلَا دِينَ لَهُ. وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا إِيمَانَ لَهُ وَلَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ كَانَ يَلْتَمِسُ الدِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَلْبَسُ الْمُسُوحَ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَفْرَ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ (3) .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَهُنَّ بِالْهَوَاءِ. قِيلَ خَصَّ الطَّيْرَ بِالذِّكْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَكُونُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } قَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّلَاةُ لِبَنِي آدَمَ، وَالتَّسْبِيحُ لِسَائِرِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: إِنَّ ضَرْبَ الْأَجْنِحَةِ صَلَاةُ الطَّيْرِ وَصَوْتَهُ تَسْبِيحُهُ. قَوْلُهُ: { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ } أَيْ: كُلُّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٍ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٍ مِنْهُمْ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَتَسْبِيحَهُ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } . { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي } يَعْنِي: يَسُوقُ بِأَمْرِهِ، { سَحَابًا } إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ، { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي: بجمع بَيْنَ قِطَعِ السَّحَابِ الْمُتَفَرِّقَةِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } مُتَرَاكِمًا بَعْضُهُ فَوْقَ
__________
(1) الطبري: 18 / 151.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) انظر: البحر المحيط: 6 / 460.

بَعْضٍ، { فَتَرَى الْوَدْقَ } يَعْنِي الْمَطَرَ، { يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } وَسَطِهِ وَهُوَ جَمْعُ الْخَلَلِ، كَالْجِبَالِ جَمْعِ الْجَبَلِ. { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } يَعْنِي: يُنَزِّلُ الْبَرَدَ، وَ"مِنْ" صِلَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ، أَيْ: مِقْدَارَ جِبَالٍ فِي الْكَثْرَةِ مِنَ الْبَرَدِ، وَ"مِنْ" فِي قَوْلِهِ "مِنْ جِبَالٍ" صِلَةٌ، أَيْ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ فِي السَّمَاءِ تِلْكَ الْجِبَالُ مِنْ بَرَدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ، وَمَفْعُولُ الْإِنْزَالِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدٌ، فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. قَالَ أَهْلُ النَّحْوِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى "مِنْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ "مِنَ السَّمَاءِ" لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى "مِنْ جِبَالٍ" لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ مَا يُنْزِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضُ تِلْكَ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "مِنْ بَرَدٍ" لِلتَّجْنِيسِ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِبَالَ مَنْ جِنْسِ الْبَرَدِ. { فَيُصِيبُ بِهِ } يَعْنِي بِالْبَرَدِ { مَنْ يَشَاءُ } فَيُهْلِكُ زُرُوعَهُ وَأَمْوَالَهُ، { وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } فَلَا يَضُرُّهُ، { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } يَعْنِي ضَوْءَ بَرْقِ السَّحَابِ، { يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } شِدَّةُ ضَوْئِهِ وَبَرِيقِهِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "يُذْهِبُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ.

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) }
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } يُصَرِّفُهُمَا فِي اخْتِلَافِهِمَا وَتَعَاقُبِهِمَا يَأْتِي بِاللَّيْلِ وَيَذْهَبُ بِالنَّهَارِ، وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ وَيَذْهَبُ بِاللَّيْلِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" (1) قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ } يَعْنِي فِي ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، { لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } يَعْنِي: دَلَالَةً لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة الجاثية: 8 / 574، ومسلم في الألفاظ من الأدب، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246): 4 / 1762.

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)

{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، "خَالِقُ كُلِّ" بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "خَلَقَ كُلَّ" عَلَى الْفِعْلِ، { مِنْ مَاءٍ } يَعْنِي: مِنْ نُطْفَةٍ، وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ حَيَوَانٍ يُشَاهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْجِنُّ، لِأَنَّا لَا نُشَاهِدُهُمْ. وَقِيلَ: أَصْلُ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَاءً ثُمَّ جَعَلَ بَعْضَهُ رِيحًا فَخَلَقَ مِنْهَا الْمَلَائِكَةَ، وَبَعْضَهُ نَارًا فَخَلَقَ مِنْهَا الْجِنَّ، وَبَعْضَهَا طِينًا فَخَلَقَ مِنْهَا آدَمَ، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كَالْحَيَّاتِ وَالْحِيتَانِ وَالدِّيدَانِ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } مِثْلُ بَنِي آدَمَ وَالطَّيْرِ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كَالْبَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مِثْلَ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا فِي الصُّورَةِ كَالَّتِي يَمْشِي عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِنَّمَا قَالَ: "مَنْ يَمْشِي" وَ"مَنْ" إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ يَعْقِلُ دُونَ مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْبَهَائِمِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ كُلَّ دَابَّةٍ، فَدَخْلَ فِيهِ النَّاسُ وَغَيْرُهُمْ، وَإِذَا جَمَعَ اللَّفْظُ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ تُجْعَلُ الْغَلَبَةُ لِمَنْ يَعْقِلُ. { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ } { لَقَدْ أَنْزَلْنَا } إِلَيْكَ، { آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا } يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهُ، { ثُمَّ يَتَوَلَّى } يُعْرِضُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، { فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِك } 42/ب ، ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَيَدْعُو إِلَى غَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بِشْرٍ الْمُنَافِقِ، كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ نَتَحَاكَمُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1)
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (378)، البحر المحيط: 6 / 467، القرطبي: 12 / 293، وراجع فيما سبق: 2 / 242-243. والقصة من رواية الكلبي وهو ضعيف.

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) }
وَقَالَ: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } الرَّسُولُ بِحُكْمِ اللَّهِ، { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } أَيْ عَنِ الْحُكْمِ. وَقِيلَ: عَنِ الْإِجَابَةِ. { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } مُطِيعِينَ مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْحَقُّ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ أَسْرَعُوا إِلَى حُكْمِهِ لِثِقَتِهِمْ بِأَنَّهُ كَمَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ يَحْكُمُ لَهُمْ أَيْضًا بِالْحَقِّ. { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا } أَيْ: شَكُّوا، هَذَا اسْتِفْهَامُ ذَمٍّ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ: هُمْ كَذَلِكَ، { أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أَيْ: بِظُلْمٍ، { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لِأَنْفُسِهِمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } هَذَا لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْخَبَرِ لَكِنَّهُ تَعْلِيمُ أَدَبِ الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا، وَنَصْبُ الْقَوْلِ عَلَى الْخَبَرِ وَاسْمُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أَيْ: سَمِعْنَا الدُّعَاءَ وَأَطَعْنَا بِالْإِجَابَةِ. { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فِيمَا سَاءَهُ وَسَرَّهُ { وَيَخْشَ اللَّهَ } عَلَى مَا عَمِلَ مِنَ الذُّنُوبِ. { وَيَتَّقْهِ } فِيمَا بَعْدَهُ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } النَّاجُونَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ "يَتَّقِهْ" سَاكِنَةَ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَقَالُونُ، كَمَا فِي نَظَائِرِهَا وَيُشْبِعُهَا الْبَاقُونَ كَسْرًا، وَقَرَأَ حَفْصٌ "يَتَّقْهِ" بِسُكُونِ الْقَافِ وَاخْتِلَاسِ الْهَاءِ، وَهَذِهِ اللُّغَةُ إِذَا سَقَطَتِ الْيَاءُ لِلْجَزْمِ يُسَكِّنُونَ مَا قَبْلَهَا، يَقُولُونَ: لَمْ أَشْتَرْ طَعَامًا بِسُكُونِ الرَّاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } جَهْدُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ، وَلَا حَلِفَ فَوْقَ

الْحَلِفِ بِاللَّهِ، { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَمَا كُنْتَ نَكُنْ مَعَكَ، لَئِنْ خَرَجْتَ خَرَجْنَا، وَإِنْ أَقَمْتَ أَقَمْنَا، وَإِنْ أَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ جَاهَدْنَا، فَقَالَ تَعَالَى: { قُلْ } لَهُمْ { لَا تُقْسِمُوا } لَا تَحْلِفُوا، وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ: { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أَيْ: هَذِهِ طَاعَةٌ بِالْقَوْلِ وَبِاللِّسَانِ دُونَ الِاعْتِقَادِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ أَيْ: أَمْرٌ عُرِفَ مِنْكُمْ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ وَتَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ أَفْضَلُ وَأَمْثَلُ مِنْ يَمِينٍ بِاللِّسَانِ لَا يُوَافِقُهَا الْفِعْلُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ. { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) }
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أَيْ: تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } يَعْنِي: عَلَى الرَّسُولِ مَا كُلِّفَ وَأُمِرَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، { وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } مِنَ الْإِجَابَةِ وَالطَّاعَةِ، { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } أَيْ: التَّبْلِيغُ الْبَيِّنُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْوَحْيِ عَشْرَ سِنِينَ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَأُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكَفَّارِ، وَكَانُوا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ خَائِفِينَ، ثُمَّ أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأُمِرُوا بِالْقِتَالِ وَهُمْ عَلَى خَوْفِهِمْ لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِلَاحَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ }
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 159-160 وعزاه السيوطي: (6 / 215) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم، قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (119-120): "ووصله الحاكم: 2 / 401، وابن مردويه"، وقال الهيثمي في المجمع (7 / 83): "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات". وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (379)، القرطبي: 12 / 297، الصحيح المسند من أسباب النزول للوادعي ص (108).

أَدْخَلَ اللَّامَ لِجَوَابِ الْيَمِينِ الْمُضْمَرَةِ، يَعْنِي: وَاللَّهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ، أَيْ: لَيُوَرِّثَنَّهُمْ أَرْضَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَجْعَلُهُمْ مُلُوكَهَا وَسَاسَتَهَا وَسُكَّانَهَا، { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "كَمَا اسْتُخْلِفَ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَعَدَ اللَّهُ". قَالَ قَتَادَةُ: { كَمَا اسْتَخْلَفَ } دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: "كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" أَيْ: بَنِي إِسْرَائِيلَ حَيْثُ أَهْلَكَ الْجَبَابِرَةَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } أَيْ: اخْتَارَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوَسِّعُ لَهُمْ فِي الْبِلَادِ حَتَّى يُمَلَّكُوهَا وَيُظْهِرَ دِينَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْدَالِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّبْدِيلِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالْإِبْدَالُ رَفْعُ الشَّيْءِ وَجَعْلُ غَيْرِهِ مكانه، { مِنْ بَعْدِخَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي } آمِنِينَ، { لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } فَأَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ، وَنَصَرَ أَوْلِيَاءَهُ، وَأَبْدَلَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ أَمْنًا وَبَسْطًا فِي الْأَرْضِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَى إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَى إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: "يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا"، قَالَ: "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ فَلَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ"، قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيْءٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ؟، "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى" قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: "كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، لَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مَنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ فَلَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَلَمْ أعطك مالا 43/أ وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ"، قَالَ عَدِيٌّ: سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اتَّقَوُا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"، قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ مِمَّنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيَّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مَلْءَ كَفِّهِ (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة: 6 / 610-611، والمصنف في شرح السنة: 15 / 31-33.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى خِلَافَةِ الصَّدِيقِ وَإِمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنِي حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ، مُلْكًا". ثُمَّ قَالَ: أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرًا، وَعُثْمَانَ اثْنَتَا عَشْرَ، وَعَلِيٍّ سِتَّةً. قَالَ عَلَيٌّ: قُلْتُ لِحَمَّادٍ: سَفِينَةُ، الْقَائِلُ، لِسَعِيدٍ أَمْسِكْ؟ قَالَ: نَعَمْ (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وجل: { وَمَنْ كَفَرَبَعْدَ ذَلِكَ } أَرَادَ بِهِ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } الْعَاصُونَ لِلَّهِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَجَحَدَ حَقَّهَا الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ غَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ وَأَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ حَتَّى صَارُوا يَقْتَتِلُونَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا إِخْوَانًا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيْدَرَةَ الْمَعْرُوفُ بِالطَّرَابُلُسِيِّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِي عُثْمَانَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَزَلْ مُحِيطَةً بِمَدِينَتِكُمْ هَذِهِ مُنْذُ قَدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى الْيَوْمَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَيَذْهَبُونَ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ لَا يَقْتُلُهُ رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ أَجْذَمَ لَا يَدَ لَهُ، وَإِنَّ سَيْفَ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مَغْمُودًا عَنْكُمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَيَسُلَّنَّهُ اللَّهُ ثُمَّ لَا يَغْمِدُهُ عَنْكُمْ، إِمَّا قَالَ: أَبَدًا، وَإِمَّا قَالَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَا قُتِلَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا قُتِلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَلَا خَلِيفَةٌ إِلَّا قُتِلَ بِهِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا (2)
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أَيْ: افْعَلُوهَا عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ. { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } قَرَأَ عَامِرٌ وَحَمْزَةُ "لَا يَحْسَبَنَّ" بِالْيَاءِ، أَيْ:
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة، باب في الخلفاء: 7 / 27 بلفظ: "ثم يؤتي الله الملك من يشاء.."، والترمذي في الفتن، باب ما جاء في الخلافة: 6 / 476-477،وقال: "هذا حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ولا نعرفه إلا من حديثه". وصححه ابن حبان ص (369) من موارد الظمآن، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 220، والمصنف في شرح السنة: 14 / 74-75.
(2) أخرجه عبد الرزاق في الجامع من "المصنف": 11 / 455، واختصره ابن سعد في الطبقات: 3 / 83.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ { مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، يَقُولُ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَّرُوا مُعْجِزِينِ فَائِتِينَ عَنَّا، { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ لِيَدْعُوَهُ، فَدَخَلَ فَرَأَى عُمَرَ بِحَالَةٍ كَرِهَ عُمَرُ رُؤْيَتَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ مَرْثَدٍ، كَانَ لَهَا غُلَامٌ كَبِيرٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ كَرِهَتْهُ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ خَدَمَنَا وَغِلْمَانَنَا يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي حَالٍ نَكْرَهُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (2) "يَا أَيُّهَا الذين آمنوا ليستأنذكم: اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ. { الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يَعْنِي: الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، { وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ } مِنَ الْأَحْرَارِ، لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُمُ الْأَطْفَالَ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، بَلِ الَّذِينَ عَرَفُوا أَمْرَ النِّسَاءِ وَلَكِنْ لَمْ يَبْلُغُوا.
{ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } أَيْ: لِيَسْتَأْذِنُوا فِي ثَلَاثِ أَوْقَاتٍ، { مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } يُرِيدُ الْمَقِيلَ، { وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ } وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهَا سَاعَاتُ الْخَلْوَةِ وَوَضْعِ الثِّيَابِ، فَرُبَّمَا يَبْدُو مِنَ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُحِبُّ أَنَّ يَرَاهُ أَحَدٌ، أَمَرَ الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلْيَسْتَأْذِنُوا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ { ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: "ثَلَاثَ" بِنَصْبِ الثَّاءِ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (380)، الكافي الشاف ص (120).
(2) عزاه السيوطي في "الدر": (6 / 217) لابن أبي حاتم، وذكره الواحدي في أسباب النزول ص (380). وانظر: الكافي الشاف ص (120)، وابن كثير: 3 / 304.

بِالرَّفْعِ، أَيْ: هَذِهِ الْأَوْقَاتُ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ عَوْرَاتٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَضَعُ فِيهَا ثِيَابَهُ فَتَبْدُو عَوْرَتَهُ، { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } جُنَاحٌ، { وَلَا عَلَيْهِمْ } يَعْنِي: عَلَى الْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ وَالصِّبْيَانِ، { جُنَاحٌ } فِي الدُّخُولِ عَلَيْكُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، { بَعْدَهُنَّ } أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، { طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ } أَيْ: الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ يَطُوفُونَ عَلَيْكُمْ فَيَتَرَدَّدُونَ وَيَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فِي أَشْغَالِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ، { بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أَيْ: يَطُوفُ، { بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ قَوْمٌ: مَنْسُوخٌ (1) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سُتُورٌ وَلَا حِجَابٌ (2) ، فَكَانَ الْخَدَمُ وَالْوَلَائِدُ يَدْخُلُونَ فَرُبَّمَا يَرَوْنَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحِبُّونَ، فَأُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ، وَقَدْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ وَاتَّخَذَ النَّاسُ السُّتُورَ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ أَغْنَى عَنِ الِاسْتِئْذَانِ (3) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا، قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (4) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ نُسِخَتْ، وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهِ النَّاسُ (5) .
__________
(1) حكى ذلك عن سعيد بن المسيب، وحكاه القرطبي أيضا عن سعيد بن جبير، وهو خلاف الرواية عنه. انظر: زاد المسير: 6 / 62، القرطبي: 12 / 302.
(2) في "الدر المنثور" و"القرطبي": (حجال) جمع (حَجَلَة) وهو بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار.
(3) عزاه السيوطي لأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي. وانظر: الدر المنثور: 6 / 219. قال القرطبي: (12 / 303): "هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحاري ونحوها".
(4) أخرجه الطبري: 18 / 162-163، ونسبه السيوطي: 6 / 319 للفريابي.
(5) أخرجه الطبري: 18 / 163.

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ } أَيْ: الِاحْتِلَامَ، يُرِيدُ الْأَحْرَارَ الَّذِينَ بَلَغُوا، { فَلْيَسْتَأْذِنُوا } أَيْ: يَسْتَأْذِنُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فِي الدخول عليكم، { كَمَااسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الْأَحْرَارِ وَالْكِبَارِ.

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

وَقِيلَ: يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى. { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } دَلَالَاتِهِ. وَقِيلَ: أَحْكَامُهُ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } بِأُمُورِ خَلْقِهِ، { حَكِيمٌ } بِمَا دَبَّرَ لَهُمْ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ، فإنما أنزلت 43/ب هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ (1) . وَسُئِلَ حُذَيْفَةُ: أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى وَالِدَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ لَمْ يَفْعَلْ رَأَى مِنْهَا مَا يَكْرَهُ (2) .
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } يَعْنِي اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ وَالْحَيْضِ مِنَ الْكِبَرِ، لَا يَلِدْنَ وَلَا يَحِضْنَ، وَاحِدَتُهَا "قَاعِدٌ" بِلَا هَاءٍ. وَقِيلَ: قَعَدْنَ عَنِ الْأَزْوَاجِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: { اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا } أَيْ: لَا يُرِدْنَ الرِّجَالَ لِكِبَرِهِنَّ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ قَاعِدًا إِذَا كَبُرَتْ، لِأَنَّهَا تُكْثِرُ الْقُعُودَ (3) . وَقَالَ رَبِيعَةُ الرَّأْيُ: هُنَّ الْعُجَّزُ، اللَّائِي إِذَا رَآهُنَّ الرِّجَالُ اسْتَقْذَرُوهُنَّ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِنْ جِمَالٍ، وَهِيَ مَحَلُّ الشَّهْوَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } عِنْدَ الرِّجَالِ، يَعْنِي: يَضَعْنَ بَعْضَ ثِيَابِهِنَّ، وَهِيَ الْجِلْبَابُ وَالرِّدَاءُ الَّذِي فَوْقَ الثِّيَابِ، وَالْقِنَاعِ الَّذِي فَوْقَ الْخِمَارِ، فَأَمَّا الْخِمَارُ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهُ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ"، { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ الْجِلْبَابِ، وَالرِّدَاءُ إِظْهَارُ زِينَتِهِنَّ، وَالتَّبَرُّجُ هُوَ أَنْ تُظْهِرَ الْمَرْأَةُ مِنْ مَحَاسِنِهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَتَنَزَّهَ عَنْهُ. { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ } فَلَا يُلْقِينَ الْجِلْبَابَ وَالرِّدَاءَ، { خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَىالْمَرِيضِ حَرَجٌ } الْآيَةَ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ"( النِّسَاءِ-29) ، تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ
__________
(1) الطبري: 18 / 165.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 4 / 398 وفيه آثار أخرى.
(3) قال ابن قتيبة في "غريب القرآن" (2 / 43) من "القرطين" لابن مطرف الكناني: ".. ولا أراها تسمت قاعدا إلا بالقعود، لأنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: "قاعد" بلا هاء، ليدل بحذف الهاء على أنه قعود كبر، كما قالوا: امرأة حامل، بلا هاء، ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل، وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها".

الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْعُمْيِ وَالْعُرْجِ، وَقَالُوا الطَّعَامَ أَفْضَلُ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ الطَّيِّبَ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنِ التَّنَاوُلِ فَلَا يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ "عَلَى" بِمَعْنَى "فِي" أَيْ: لَيْسَ فِي الْأَعْمَى، يَعْنِي: لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي مُؤَاكَلَةِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا كَانَ الْعُرْجَانُ وَالْعُمْيَانُ وَالْمَرْضَى يَتَنَزَّهُونَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْأَصِحَّاءِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَقَذَّرُونَ مِنْهُمْ وَيَكْرَهُونَ مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَيَقُولُ الْأَعْمَى: رُبَّمَا أَكَلَ أَكْثَرَ، وَيَقُولُ الْأَعْرَجُ: رُبَّمَا أَخَذَ مَكَانَ الِاثْنَيْنِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (2) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتِ الْآيَةُ تَرْخِيصًا لِهَؤُلَاءِ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الرَّجُلِ لِطَلَبِ الطَّعَامِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُطْعِمُهُمْ ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ أَوْ بَعْضِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَيَقُولُونَ ذَهَبَ بِنَا إِلَى بَيْتِ غَيْرِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (3) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ وَيَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ وَيَقُولُونَ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَا نَدْخُلُهَا
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 168، وذكره الواحدي ص (381)، وعزاه السيوطي: (6 / 224) أيضا لابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي. وانظر: مشكل القرآن لابن قتيبة ص (333).
(2) الطبري: 18 / 168، الواحدي ص (381).
(3) الطبري: 18 / 169، الواحدي ص (381)، وعزاه السيوطي: (6 / 223) لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وإبراهيم، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.

وَهُمْ غُيَّبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً لَهُمْ (1) قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لِهَؤُلَاءِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ. قَالَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: "وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ"، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ (2)
وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: "لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ" ( النِّسَاءِ-29 ) ، قَالُوا: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } (3) أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ. قِيلَ: أَرَادَ مِنْ أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمُ وَبَيْتُ الْمَرْأَةِ كَبَيْتِ الزَّوْجِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادَ مِنْ بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ، نَسَبُ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ إِلَى الْآبَاءِ (4) كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ" (5) ، { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنَيَ بِذَلِكَ وَكِيلَ الرَّجُلِ وَقَيِّمَهُ فِي ضَيْعَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ، لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ ضَيْعَتِهِ، وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَاشِيَتِهِ، وَلَا يَحْمِلُ وَلَا يَدَّخِرُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي فِي بُيُوتِ عَبِيدِكُمْ وَمَمَالِيكِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَنْزِلَ عَبْدِهِ وَالْمَفَاتِيحُ الْخَزَائِنُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ" ( الْأَنْعَامِ-59 ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَفْتَحُ بِهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ
__________
(1) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (381-382) وعزاه السيوطي لعبد بن حميد. وأخرجه البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة أيضا، وقال الهيثمي: "رجال البزار رجال الصحيح". انظر: الدر المنثور: 6 / 224، مجمع الزوائد: 7 / 83.
(2) انظر: الطبري 18 / 169، ولم يعزه للحسن، وإنما عزاه لابن زيد، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير: 6 / 64 عن الحسن وابن زيد.
(3) عزاه السيوطي لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس. انظر: الدر المنثور: 6 / 224.
(4) قال ابن قتيبة في "مشكل القرآن" ص (333-334): في الكلام على الآية الكريمة: "أراد: ولا على أنفسكم أن تأكوا من أموال عيالكم وأزواجكم".
وقال بعضهم: أراد أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء؛ لأن الأولاد كسبهم، وأموالهم كأموالهم. يدلك على هذا: أن الناس لا يتوقون أن يأكلوا من بيوتهم، وأن الله سبحانه عدد القربات وهم أبعد نسبا من الولد، ولم يذكر الولد".
(5) أخرجه ابن ماجه عن جابر، في التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، برقم (2291): 2 / 769، قال في الزوائد: "وإسناده صحيح، ورجاله ثقات على شرط البخاري"، والطبراني في الأوسط: 1 / 141، والطحاوي في مشكل الآثار: 2 / 230. ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مطولا رواه الإمام أحمد: 2 / 204، وأبو داود في البيوع، وابن ماجه في التجارات وابن الجارود في المنتقى. وانظر: الفتح السماوي للمناوي: 2 / 875-876 مع تعليق المحقق، إرواء الغليل: 3 / 323 و325، كشف الخفاء: 1 / 239-240.

الْمِفْتَاحَ فَهُوَ خَازِنٌ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْعَمَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعَامَهُ غَيْرَهُ يَقُومُ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَقَالَ قَوْمٌ: "مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ" مَا خَزَنْتُمُوهُ عِنْدَكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مِنْ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ مِمَّا أَحْرَزْتُمْ وَمَلَكْتُمْ.
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ } الصَّدِيقُ الَّذِي صَدَقَكَ فِي الْمَوَدَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَّفَ مَالِكَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ وَجَدَهُ مَجْهُودًا فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: تَحَرَّجْتُ أَنْ آكُلَ طَعَامَكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) . وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ يَرَيَانِ دُخُولَ الرَّجُلِ بَيْتَ صَدِيقِهِ وَالتَّحَرُّمَ بِطَعَامِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ مِنْهُ فِي الْأَكْلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا } مِنْ مَنَازِلَ هَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلْتُمُوهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَزَوَّدُوا وَتَحْمِلُوا.
قَوْلُهُ: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًاأَوْ أَشْتَاتًا } نَزَلَتْ فِي بَنِي لَيْثِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ حَتَّى يَجِدَ ضَيْفًا يَأْكُلُ مَعَهُ، فَرُبَّمَا قَعَدَ الرَّجُلُ وَالطَّعَامُ، بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ مَعَهُ الْإِبِلُ الْحُفَّلُ، فَلَا يَشْرَبُ مِنْ أَلْبَانِهَا حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُشَارِبُهُ، فَإِذَا أَمْسَى وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا أَكَلَ، هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَاكِ وَابْنِ جُرَيْجٍ (2) وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ الْغَنِيُّ يَدْخُلُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَصَدَاقَتِهِ فَيَدْعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَجَّنَّحُ، أَيْ: أَتَحَرَّجُ أَنْ آكُلَ مَعَكَ وَأَنَا غَنِيٌّ وَأَنْتَ فَقِيرٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (3) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ إِذَا نَزَلَ بهم ضيف 44/أ إِلَّا مَعَ ضَيْفِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شَاءُوا، جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ (4) .
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور: (6 / 225) من رواية الثعلبي عن ابن عباس.
(2) انظر: الطبري 18 / 172، أسباب النزول ص (382)، الدر المنثور: 6 / 225.
(3) الطبري: 18 / 172 .
(4) الطبري: 18 / 172، وزاد السيوطي نسبته لابن المنذر، وذكره الواحدي ص (382) عن عكرمة. وقال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرقين إذا أرادوا. وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يطعمون وحدانا، وبسبب غير ذلك. ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه، والصواب: التسليم لما دل عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يقم على صحته دليل".

{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أَيْ: يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، هَذَا فِي دُخُولِ الرَّجُلِ بَيْتَ نَفْسِهِ يُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَنْ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَاكِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ (1) . وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَتْ بَيْتًا لَا أَحَدَ فِيهِ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. حُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ (2) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ (4) { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } نُصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: تُحَيُّونَ أَنْفُسَكُمْ تَحِيَّةً، { مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْبَرَكَةَ وَالطِّيبَةَ هَاهُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 67.
(2) عزاه السيوطي : (6 / 228) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي.
(3) أخرجه الطبري: 18 / 174، وصححه الحاكم على شرط الشيخين: 2 / 401، وزاد السيوطي نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) قال الطبري: (18 / 175): "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فليسلم بعضكم على بعض..، لأن الله جل ثناؤه قال: "فإذا دخلتم بيوتا" ولم يخصص من ذلك بيتا دون بيت، وقال: "فسلموا على أنفسكم" يعني: بعضكم على بعض، فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض، أنه معني به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله: "فسلموا على أنفسكم" نظير قوله: "ولا تقتلوا أنفسكم"، وانظر: القرطبي 12 / 318.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ (62) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَاكَانُوا مَعَهُ } أَيْ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } يَجْمَعُهُمْ مِنْ حَرْبٍ حَضَرَتْ، أَوْ صَلَاةٍ أَوْ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ

لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

أَوْ تَشَاوُرٍ فِي أَمْرٍ نَزَلَ، { لَمْ يَذْهَبُوا } يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، لَمْ يَنْصَرِفُوا عَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، { حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَعَدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بِحِيَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَرَاهُ، فَيَعْرِفُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَامَ يَسْتَأْذِنُ، فَيَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِذْنُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: وَكَذَلِكَ كُلُّ أَمْرٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَلِلْإِمَامِ إِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْذَنْ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمَقَامِ، فَإِنْ حَدَثَ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمَقَامِ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحِيضُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ، أَوْ يَجْنُبُ رَجُلٌ، أَوْ يَعْرِضُ لَهُ مَرَضٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ. { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أَيْ: أَمَرَهُمْ، { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ } فِي الِانْصِرَافِ، مَعْنَاهُ إِنْ شِئْتَ فَأْذَنْ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَأْذَنْ، { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }
{ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَقُولُ احْذَرُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ إِذَا أَسْخَطْتُمُوهُ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُوجَبٌ لِنُزُولِ الْبَلَاءِ بِكُمْ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ (2) وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا تَدْعُوهُ بِاسْمِهِ كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا: يَا مُحَمَّدُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ فَخِّمُوهُ وَشَرِّفُوهُ، فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ (3) .
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ } أَيْ: يَخْرُجُونَ { مِنْكُمْ لِوَاذًا } أَيْ: يَسْتُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرُوغُ فِي خِيفَةٍ، فَيَذْهَبُ "وَاللِّوَاذُ" مَصْدَرُ لَاوَذَ يُلَاوِذُ، مُلَاوَذَةً، وَلِوَاذًا.
__________
(1) زاد المسير: 6 / 67-68.
(2) انظر: الطبري 17 / 177.
(3) وهو مروي أيضا عن ابن عباس. انظر: الطبري 17 / 177، الدر المنثور: 6 / 230. ونقل ابن كثير القولين في التفسير: 3 / 308. ورجح الطبري قول ابن عباس الأول، لأن الذي قبل ذلك نهي من الله للمؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطره إلى الدعاء عليهم، أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء".

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

قِيلَ: كَانَ هَذَا فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَنْصَرِفُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لِوَاذًا" أَيْ: يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْمَقَامُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتِمَاعُ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا يَلُوذُونَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي اسْتِتَارٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ } للتهديد بالمجازاة. { فَلْيَحْذَرِالَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أَيْ: أَمْرَهُ وَ"عَنْ" صِلَةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أَيْ لِئَلَّا تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَاءٌ فِي الدُّنْيَا، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَجِيعٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: عَذَابٌ أَلِيمٌ عَاجِلٌ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ عَظَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ:
{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) }
{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } مَلِكًا وَعَبِيدًا، { قَدْ يَعْلَمُ مَاأَنْتُمْ عَلَيْهِ } الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ أَيْ: يَعْلَمُ، وَ"قَدْ" صِلَةٌ { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } يَعْنِي: يَوْمَ الْبَعْثِ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَرَابِيسِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُنْزِلُوا النِّسَاءَ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْغَزْلَ، وَسُورَةَ النُّورِ" (1)
__________
(1) أخرجه الحاكم: 2 / 396 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" فتعقبه الذهبي فقال: بل موضوع، وآفته عبد الوهاب، قال أبو حاتم: كذاب". وقال الهيثمي في المجمع (4 / 93): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب". وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية". ونسبه السيوطي أيضا للبيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه، انظر: الدر المنثور: 6 / 124.

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)

سُورَةُ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) }
{ تَبَارَكَ } تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: مَجِيءُ الْبَرَكَةِ مِنْ قِبَلِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَظَّمَ، { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } أَيْ: الْقُرْآنَ، { عَلَى عَبْدِهِ } مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أَيْ: لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قِيلَ: النَّذِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ، { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ، وَقِيلَ: قَدَّرَ لِكُلِّ شَيْءٍ تَقْدِيرًا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ، فَجَرَتِ الْمَقَادِيرُ عَلَى مَا خَلَقَ.
__________
(1) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والجمهور، وحكي عن ابن عباس وقتادة في قول آخر عنهما أنها مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر" إلى قوله: "غفورا رحيما" (الفرقان 68-70). وقال الضحاك: مدنية إلا من أولها إلى قوله الآية الثالثة: "ولا نشورا" فهو مكي.
وقول الجمهور هو الراجح، ومكية السورة واضحة من موضوعها وأسلوبها، وهذا يتفق مع الرواية الراجحة. والله أعلم انظر: الدر المنثور: 6 / 234، القرطبي: 13 / 1، زاد المسير: 6 / 71، البحر المحيط: 6 / 480، المحرر الوجيز: 12 / 5.
(2) القول الأول حكاه الماوردي، ورجح الطبري أنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يكن في الحقيقة تعارض بين المعنيين، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينذر به العالمين، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله تعالى للعالمين. والله أعلم. انظر: الطبري 19 / 180، زاد المسير: 6 / 72.

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)

{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاتَّخَذُوا } يَعْنِي عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، { مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } أَيْ: دَفْعَ ضَرٍّ وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ، { وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً } أَيْ: إِمَاتَةً وَإِحْيَاءً، { وَلَا نُشُورًا } أَيْ: بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ. { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني: المشركين، 44/ب يَعْنِي: النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَأَصْحَابَهُ، { إِنَّ هَذَا } مَا هَذَا الْقُرْآنُ، { إِلَّا إِفْكٌ } كَذِبٌ، { افْتَرَاهُ } اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْيَهُودَ (1) . وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ عُبَيْدُ بْنُ الْخِضْرِ الْحَبَشِيُّ الْكَاهِنُ. وَقِيلَ: جَبْرٌ، وَيَسَارٌ، وَعَدَّاسُ بْنُ عُبَيْدٍ، كَانُوا بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَقَدْ جَاءُوا } يَعْنِي قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، { ظُلْمًا وَزُورًا } أَيْ: بِظُلْمٍ وَزُورٍ. فَلَمَّا حَذَفَ الْبَاءَ انْتُصِبَ، يَعْنِي جَاؤُوا شِرْكًا وَكَذِبًا بِنِسْبَتِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْإِفْكِ وَالِافْتِرَاءِ. { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } يَعْنِي النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ مِثْلَ حَدِيثِ رُسْتُمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ (2) "اكْتَتَبَهَا": انْتَسَخَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَبْرٍ، وَيَسَارٍ، وَعَدَّاسٍ، وَمَعْنَى "اكْتَتَبَ" يَعْنِي طَلَبَ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُبُ، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } يَعْنِي تُقْرَأُ عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهَا لَا لِيَكْتُبَهَا، { بُكْرَةً وَأَصِيلًا } غُدْوَةً وَعَشِيًّا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَيْهِمْ: { قُلْ أَنْزَلَهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ } يَعْنِي الغيب، { فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا }
__________
(1) حكاه الطبري، ولم يذكر غيره. وانظر سائر الأقوال في: البحر المحيط: 6 / 481، زاد المسير: 6 / 72-73.
(2) انظر: الطبري: 18 / 182، الدر المنثور: 6 / 236، المحرر الوجيز لابن عطية: 12 / 7.

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)

{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) }
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ } يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { يَأْكُلُ الطَّعَامَ } كَمَا نَأْكُلُ نَحْنُ، { وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } يَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَمْشِي، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَازَ عَنَّا بِالنُّبُوَّةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَسْتَ أَنْتَ بِمَلَكٍ وَلَا بِمَلِكِ، لِأَنَّكَ تَأْكُلُ وَالْمَلَكِ لَا يَأْكُلُ، وَلَسْتَ بِمَلِكٍ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَا يَتَسَوَّقُ، وَأَنْتَ تَتَسَوَّقُ وَتَتَبَذَّلُ. وَمَا قَالُوهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ أَكْلَهُ الطَّعَامَ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا، وَمَشْيَهُ فِي الْأَسْوَاقِ لِتَوَاضُعِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ صِفَةٌ لَهُ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُنَافِي النُّبُوَّةَ. { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } فَيُصَدِّقُهُ، { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } دَاعِيًا. { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أَيْ: يُنْزَلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ السَّمَاءِ يُنْفِقُهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّرَدُّدِ وَالتَّصَرُّفِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ، { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } بُسْتَانٌ، { يَأْكُلُ مِنْهَا } قَرَأَ حَمْزَةٌ وَالْكِسَائِيُّ: "نَأْكُلُ" بِالنُّونِ أَيْ: نَأْكُلُ نَحْنُ مِنْهَا، { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } مَخْدُوعًا. وَقِيلَ: مَصْرُوفًا عَنِ الْحَقِّ. { انْظُرْ } يَا مُحَمَّدُ، { كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } يَعْنِي الْأَشْبَاهَ، فَقَالُوا: مَسْحُورٌ، مُحْتَاجٌ، وَغَيْرُهُ، { فَضَلُّوا } عَنِ الْحَقِّ، { فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } إِلَى الْهُدَى وَمَخْرَجًا عَنِ الضَّلَالَةِ. { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } الَّذِي قَالُوا، أَوْ أَفْضَلَ مِنَ الْكَنْزِ وَالْبُسْتَانِ الَّذِي ذَكَرُوا، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَعْنِي خَيْرًا مِنَ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالتَّمَاسِ الْمَعَاشِ (1) . ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الْخَيْرَ فَقَالَ: { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } بُيُوتًا مُشَيَّدَةً، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ بَيْتٍ مُشَيَّدٍ قَصْرًا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "وَيَجْعَلُ" بِرَفْعِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِجَزْمِهَا عَلَى مَحَلُّ الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: "إِنْ شَاءَ جَعْلَ لَكَ".
__________
(1) ذكر الطبري القولين: (18 / 185) ورجح قول مجاهد الأول، لأن المشركين استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها، وأن لا يلقى إليه كنز، واستنكروا أن يمشي في الأسواق، وهو لله رسول، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير ما كان عند المشركين عظيما، لا مما كان منكرا عندهم.

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ الْكُشْمِيهَنِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُخْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَرْضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، وَقَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ" (1) .
حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرِ الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو ذَرٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّالِحَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الشَّيْخِ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مِعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ يَعْنِي الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِيَ جِبَالُ الذَّهَبِ، جَاءَنِي مَلَكٌ إِنَّ حُجْزَتَهُ لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ، فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا" قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا يَقُولُ: "آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ" (2) .
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه: 7 / 14، وقال: "هذا حديث حسن، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث ويكنى أبا عبد الملك".
وأخرجه ابن ماجه في الزهد، باب من لا يؤبه له: 2 / 1379، وقال في الزوائد: "إسناده ضعيف لضعف أيوب بن سليمان، وصدقه بن عبد الله متفق على تضعيفه". ورواه الإمام أحمد: 2 / 252 و5 / 254 وابن سعد في الطبقات: 1 / 381، وأبو نعيم في الحلية: 8 / 133.
(2) قال الهيثمي: (9 / 19): "رواه أبو يعلى وإسناده حسن"، وعبد الرزاق: 10 / 417، وأخرج القطعة الأولى منه الخطيب في تاريخ بغداد: 11/102، والثانية: "إنما أنا عبد.." أخرجها عبد الرزاق في الجامع عن معمر: 10 / 417، والإمام أحمد في الزهد ص (5)، والمصنف في شرح السنة: 13 / 248.

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)

{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } بِالْقِيَامَةِ، { وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } نَارًا مُسْتَعِرَةً. { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: مِنْ مَسِيرَةِ عَامٍ. وَقِيلَ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا". قَالُوا: وَهَلْ لَهَا مِنْ عَيْنَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَلَمْ تَسْتَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } (1)
__________
(1) عزاه السيوطي: 6 / 238 للطبراني وابن مردويه، وأخرجه الطبري بلفظ: "من يقول علي ما لم أقل.." 18 / 187.

وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)

وَقِيلَ إِذَا رَأَتْهُمْ زَبَانِيَتُهَا. { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا } غَلَيَانًا، كَالْغَضْبَانِ إِذَا غَلَى صَدْرُهُ مِنَ الْغَضَبِ. { وَزَفِيرًا } صَوْتًا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْمَعُ التَّغَيُّظَ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ رَأَوْا وَعَلِمُوا أَنَّ لَهَا تَغَيُّظًا وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
أَيْ وَحَامِلًا رُمْحًا (1) . وَقِيلَ: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا، أَيْ: صَوْتَ التَّغَيُّظِ مِنَ التَّلَهُّبِ وَالتَّوَقُّدِ، قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: تَزْفُرُ جَهَنَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَفْرَةً فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ.
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) }
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَضِيقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَضِيقُ الزُّجُّ (2) . فِي الرُّمْحِ، { مُقَرَّنِينَ } مُصَفَّدِينَ قَدْ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ. وَقِيلَ: مُقَرَّنِينَ مَعَ الشَّيَاطِينِ فِي السَّلَاسِلِ، { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْلًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هَلَاكًا، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجِبَيْهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ، وَهُمْ يُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ فَيُنَادُونَ: يَا ثُبُورَاهُ، وَيُنَادِي: يَا ثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ (3) { لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } 45/أ قِيلَ: أَيْ هَلَاكُكُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَدْعُوا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَادْعُوا أَدْعِيَةً كَثِيرَةً. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ أَذَلِكَ } يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا، { خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً } ثَوَابًا، { وَمَصِيرًا } مَرْجِعًا.
__________
(1) هذا أحد التخريجين، والثاني: تضمين "متقلدا" معنى "متسلحا"، فكذلك الآية، أي: سمعوا لها ورأوا تغيظا وزفيرا، أو ضمن معنى أدركوا، فيشمل التغيظ والزفير. انظر البحر المحيط: 6 / 485.
(2) الزج: حديدة في أسفل الرمح.
(3) أخرجه الطبري: 18 / 188، وعبد بن حميد في المنتخب ص (368)، والإمام أحمد في المسند: 3 / 152-153. وفي سنده علي بن زيد، وعزاه السيوطي لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث" بسند صحيح، عن أنس مرفوعا. انظر: الدر المنثور: 6 / 240، تفسير القرطبي: 13 / 8، ابن كثير: 3 / 312.

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) }
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا } مَطْلُوبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ قَالُوا: "رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ" (آلَ عِمْرَانَ-194) ، يَقُولُ: كَانَ أَعْطَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّةَ خُلْدٍ وَعْدًا، وَعَدَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا وَمَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الطَّلَبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: "رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ" (غَافِرِ-8 ) . { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَحَفْصٌ: "يَحْشُرُهُمْ" بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ، { وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ثُمَّ يُخَاطِبُهُمْ { فَيَقُولُ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } أَخْطَأُوا الطَّرِيقَ. { قَالُوا سُبْحَانَكَ } نَزَّهُوا اللَّهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ، { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } يَعْنِي: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُوَالِيَ أَعْدَاءَكَ، بَلْ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ. وَقِيلَ: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَتِنَا وَنَحْنُ نَعْبُدُكَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "أَنْ نُتَّخَذَ" بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، فَتَكُونُ "مِنْ" الثَّانِي صِلَةٌ. { وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } فِي الدُّنْيَا بِطُولِ الْعُمْرِ وَالصِّحَّةِ وَالنِّعْمَةِ، { حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ } تَرَكُوا الْمَوْعِظَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: تَرَكُوا ذِكْرَكَ وَغَفَلُوا عَنْهُ، { وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } يَعْنِي هَلْكَى غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءُ وَالْخِذْلَانُ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بَائِرٌ، وَقَوْمٌ بُورٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَوَارِ وَهُوَ الْكَسَادُ وَالْفَسَادُ، وَمِنْهُ بَوَارُ السِّلْعَةِ وَهُوَ كَسَادُهَا. وَقِيلَ هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ كَالزُّورِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكِّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } هَذَا خِطَابٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ، { بِمَا تَقُولُونَ } إِنَّهُمْ آلِهَةٌ، { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } قَرَأَ حَفْصٌ بِالتَّاءِ يَعْنِي الْعَابِدِينَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ يَعْنِي: الْآلِهَةُ.

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

{ صَرْفًا } يَعْنِي: صَرْفًا مِنَ الْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، { وَلَا نَصْرًا } يَعْنِي: وَلَا نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: وَلَا نَصْرَكُمْ أَيُّهَا الْعَابِدُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ. وَقِيلَ: "الصَّرْفُ": الْحِيلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: إِنَّهُ لِيَصْرِفَ، أَيْ: يَحْتَالُ، { وَمَنْ يَظْلِمْ } يُشْرِكْ، { مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا }
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } يَا مُحَمَّدُ، { إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا عَيَّرَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (1) . يَعْنِي: مَا أَنَا إِلَّا رَسُولٌ وَمَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ كَانُوا بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، { وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا قِيلَ لَهُمْ مِثْلَ هَذَا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ" (فُصِّلَتْ-43) .
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أَيْ بَلِيَّةً، فَالْغَنِيُّ فِتْنَةً لِلْفَقِيرِ، يَقُولُ الْفَقِيرَ: مَا لِي لَمْ أَكُنْ مَثَلَهُ؟ وَالصَّحِيحُ فِتْنَةً لِلْمَرِيضِ، وَالشَّرِيفُ فِتْنَةً لِلْوَضِيعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ جَعَلْتُ بَعْضَكُمْ بَلَاءً لِبَعْضٍ لِتَصْبِرُوا عَلَى مَا تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ، وَتَرَوْنَ مِنْ خِلَافِهِمْ، وَتَتْبَعُوا الْهُدَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْتِلَاءِ الشَّرِيفِ بِالْوَضِيعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيفَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ فَرَأَى الْوَضِيعَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَنِفَ، وَقَالَ: أُسْلِمُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ لَهُ عَلَيَّ السَّابِقَةَ وَالْفَضْلَ؟! فَيُقِيمُ عَلَى كُفْرِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ افْتِتَانُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ (2) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَبَا ذَرٍّ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارًا، وَبِلَالًا وَصُهَيْبًا، وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، وَذَوِيهِمْ، قَالُوا: نُسْلِمُ فَنَكُونُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟. وَقَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْتِلَاءِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ
__________
(1) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (383-384) مطولا، وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. انظر: الدر المنثور: 6 / 237.
(2) البحر المحيط: 6 / 491، وقال: والأولى أن قوله: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" يشمل معاني هذه الألفاظ كلها، لأن بين الجميع قدرا مشتركا.

الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا مِنْ مَوَالِينَا وَأَرَاذِلِنَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: { أَتَصْبِرُونَ } يَعْنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ وَالْأَذَى.
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } بِمَنْ صَبَرَ وَبِمَنْ جَزِعَ. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُبَلِّغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب لينظر إلى من هو أسفل منه: 11 / 322، ومسلم في الزهد برقم (2963): 14 / 292، والمصنف في شرح السنة 14 / 292 .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)

{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أَيْ: لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: "الرَّجَاءُ" بِمَعْنَى الْخَوْفِ، لُغَةُ تِهَامَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا" (نُوحٍ-13) ، أَيْ: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ } فَتُخْبِرُنَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } فَيُخْبِرُنَا بِذَلِكَ. { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا } أَيْ: تَعَظَّمُوا. { فِي أَنْفُسِهِمْ } بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، { وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } قَالَ مُجَاهِدٌ: "عَتَوْا" طَغَوْا فِي الْقَوْلِ وَ"الْعُتُّوُّ": أَشَدُّ الْكُفْرِ وَأَفْحَشُ الظُّلْمِ، وَعُتُوُّهُمْ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ. { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ } عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ. { لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } لِلْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ: لَا بُشْرَى لَكُمْ، هَكَذَا قَالَ عَطِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا بُشْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُجْرِمِينَ، أَيْ: لَا بِشَارَةَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، كَمَا يُبَشَّرُ الْمُؤْمِنُونَ. { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْ قُبُورِهِمْ قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ حرامًا محرمًا 45/ب عَلَيْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَكُمُ الْبُشْرَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا قَوْلُ الْكُفَّارِ لِلْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ رَأَوْا مَا يَكْرَهُونَ، قَالُوا حِجْرًا مَحْجُورًا، فَهُمْ يقولونه إذا عينوا الْمَلَائِكَةَ.

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي عَوْذًا مُعَاذًا، يَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (1) .
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) }
{ وَقَدِمْنَا } وَعَمَدْنَا، { إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أَيْ: بَاطِلًا لَا ثَوَابَ لَهُ، فَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَاخْتَلَفُوا فِي "الْهَبَاءِ"، قَالَ عَلَيٌّ" هُوَ مَا يُرَى فِي الْكُوَّةِ إِذَا وَقَعَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِيهَا كَالْغُبَارِ، وَلَا يَمَسُّ بِالْأَيْدِي، وَلَا يْرَى فِي الظِّلِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدِ، وَ"الْمَنْثُورُ": الْمُتَفَرِّقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ مَا تَسَفِّيهِ الرِّيَاحُ وَتَذْرِيهِ مِنَ التُّرَابِ وَحُطَامِ الشَّجَرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مَا يَسْطَعُ مِنْ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ عِنْدَ السَّيْرِ. وَقِيلَ: "الْهَبَاءُ الْمَنْثُورُ": مَا يُرَى فِي الْكُوَّةِ، وَ"الْهَبَاءُ الْمُنْبَثُّ": هُوَ مَا تُطَيِّرُهُ الرِّيَاحُ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ (2) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا } أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، { وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } مَوْضِعَ قَائِلَةٍ، يَعْنِي: أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَمُرُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا قَدْرَ النَّهَارِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى وَقْتِ الْقَائِلَةِ حَتَّى يَسْكُنُوا مَسَاكِنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقِيلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ، وَقَرَأَ "ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ" هَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ (3) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْحِسَابُ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي أَوَّلِهِ، وَقَالَ الْقَوْمُ حِينَ قَالُوا فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ.
__________
(1) ذكر الطبري هذه الأقوال واختار منها أن الملائكة يقولون للمجرمين: حجرا محجورا، حراما محرما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله. انظر: تفسير الطبري: 19 / 2-3.
(2) انظر هذه الأقوال في الطبري: 19 / 4-5، الدر المنثور: 6 / 246، زاد المسير: 6 / 83. وقال ابن كثير رحمه الله (3 / 315): "وحاصل هذه الأقوال: التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شيء، فلما عرضت على الملك الحَكَم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذا أنها لا شيء بالكلية، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح". وقال أيضا: "أخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين -من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم- شيء، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي؛ إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ".
(3) الطبري: 19 / 5.

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: "الْقَيْلُولَةُ" وَ"الْمَقِيلُ": الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفُ النَّهَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ نَوْمٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "وَأَحْسَنُ مَقِيلًا"، وَالْجَنَّةُ لَا نَوْمَ فِيهَا. وَيُرْوَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقْصَرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ (1) .
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } أَيْ: عَنِ الْغَمَامِ، الْبَاءُ وَعَنْ يَتَعَاقَبَانِ، كَمَا يُقَالُ: رَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ وَبِالْقَوْسِ، وَتَشَقَّقُ بِمَعْنَى تَتَشَقَّقُ، أَدْغَمُوا إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ هَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ "ق" بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: تَتَّشِقُ بِالْغَمَامِ، وَهُوَ غَمَامٌ أَبْيَضٌ رَقِيقٌ مِثْلُ الضَّبَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِيهِهِمْ. { وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَ"نُنْزِلُ" بِنُونَيْنِ خَفِيفٌ وَرَفْعُ اللَّامِ، "الْمَلَائِكَةَ" نَصْبٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا، وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ثُمَّ تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا، وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ وَأَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ يَزِيدُونَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يَنْزِلُ الْكَرُوبِيُّونَ ثُمَّ حَمَلَةُ الْعَرْشِ (2) . { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } أَيْ: [الْمُلْكُ] (3) الَّذِي هُوَ الْمُلْكُ الْحَقُّ حَقًّا مُلْكُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مُلْكَ يُقْضَى غَيْرُهُ. { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } شَدِيدًا، فَهَذَا الْخِطَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ عَسِيرًا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّهُ يُهَوِّنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِمْ أَخَفَّ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّوْهَا فِي الدُّنْيَا" (4) { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } أَرَادَ بِالظَّالِمِ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مَعِيطٍ، وَذَلِكَ أَنَّ عُقْبَةَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا إِلَيْهِ أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ ذَاتَ
__________
(1) أخرجه ابن جرير: 19 / 5 عن سعيد الصواف أنه بلغه أن يوم القيامة... إلخ.
(2) انظر: الطبري 19 / 6-7، الدر المنثور: 6 / 248-249، ابن كثير: 3 / 217.
(3) ساقط من "أ".
(4) رواه الإمام أحمد في المسند: 3 / 75، وقال الهيثمي في المجمع: (10 / 337): "رواه أحمد وأبو يعلى، وإسناده حسن على ضعف في رواية". فيه: دراج أبو السمح عن أبي الهيثم، وابن لهيعة، وفيهم ضعف. وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 317.

يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

يَوْمٍ مِنْ سَفَرٍ فَصَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا النَّاسَ وَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَرَّبَ الطَّعَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنَا بِآكِلٍ طَعَامَكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ" فَقَالَ عُقْبَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَعَامِهِ، وَكَانَ عُقْبَةُ صَدِيقًا لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ قَالَ لَهُ: يَا عُقْبَةُ صَبَأْتَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا صَبَأْتُ، وَلَكِنْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامِي إِلَّا أَنْ أَشْهَدَ لَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ، فَشَهِدَتُ لَهُ فَطَعَمَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَرْضَى عَنْكَ أَبَدًا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عُقْبَةُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا أَلْقَاكَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَّا عَلَوْتُ رَأْسَكَ بِالسَّيْفِ" فَقُتِلَ عُقْبَةُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. وَأَمَّا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَقَتْلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ بِيَدِهِ (1)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا بَزَقَ عُقْبَةُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ بُزَاقُهُ فِي وَجْهِهِ فَاحْتَرَقَ خَدَّاهُ، وَكَانَ أَثَرُ ذَلِكَ فِيهِ حَتَّى الْمَوْتِ (2) . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ (3) كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مَعِيطٍ خَلِيلَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَأَسْلَمَ عُقْبَةُ، فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ أَنْ بَايَعْتَ مُحَمَّدًا، فَكَفَرَ وَارْتَدَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ" يَعْنِي: عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مَعِيطِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ مَنَافٍ "عَلَى يَدَيْهِ" نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَأَوْبَقَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ بِطَاعَةِ خَلِيلِهِ الَّذِي صَدَّهُ عَنْ سَبِيلِ رَبِّهِ. قَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ حَتَّى تَبْلُغَ مِرْفَقَيْهِ ثُمَّ تَنْبُتَانِ، ثُمَّ يَأْكُلُ هَكَذَا، كُلَّمَا نَبَتَتْ يَدُهُ أَكَلَهَا تَحَسُّرًا عَلَى مَا فعل. { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ } فِي الدُّنْيَا، { مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } لَيْتَنِي اتَّبَعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّخَذْتُ مَعَهُ سَبِيلًا إِلَى الْهُدَى. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "يَا لَيْتَنِيَ اتَّخَذْتُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، والآخرون بإسكانها.
{ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا (29) }
{ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } يَعْنِي: أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ. { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ } عَنِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، { بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } يَعْنِي: الذَّكَرَ مَعَ الرَّسُولِ، { وَكَانَ الشَّيْطَانُ } وَهُوَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَكُلُّ مَنْ صَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَيْطَانٌ. { لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } أَيْ: تَارِكًا يَتْرُكُهُ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُتَحَابِّينَ اجْتَمَعَا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
__________
(1) أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في "الدلائل" بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. الدر المنثور: 6 / 250، الفتح السماوي للمناوي: 2 / 880، أسباب النزول للواحدي ص (385).
(2) أسباب النزول للواحدي ص (386)، القرطبي: 13 / 26.
(3) أسباب النزول ص (385)، الطبري: 19 / 8 باختصار.

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: 46/أ "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيَاةَ بْنِ شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التُّجِيبِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -قَالَ سَالِمٌ: أَوْ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ-أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ" (2) . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَسَّابٍ النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ الرَّمْلِيُّ، أَخْبَرَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ وَرْدَانٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ" (3) .
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) }
{ وَقَالَ الرَّسُولُ } يَعْنِي: وَيَقُولُ الرَّسُولُ فِي ذلك اليوم: { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } أَيْ: مَتْرُوكًا فَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ. وَقِيلَ: جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الْهَجْرِ وَهُوَ الْهَذَيَانُ، وَالْقَوِيُّ السَّيِّءُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ شِعْرٌ وَسِحْرٌ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح، باب المسك: 9 / 660، ومسلم في البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، برقم (2628): 4 / 2026، والمصنف في شرح السنة: 13 / 68.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب، باب من يؤمر أن يجالس: 7 / 185، وسكت عليه أبو داود والمنذري، والترمذي في الزهد: 7 / 76، وقال: "هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه"، والدارمي في الأطعمة: 2 / 103، وصححه الحاكم: 4 / 128، وابن حبان برقم (2049) من موارد الظمآن، وحسنه المصنف في شرح السنة: 13 / 68. وانظر: فيض القدير للمناوي: 6 / 405.
(3) أخرجه أبو داود في الأدب: 7 / 186، قال المنذري: "وفي إسناده موسى بن وردان، وقد ضعفه بعضهم، وقال بعضهم: لا بأس به، ورجح بعضهم في هذا الحديث الإرسال".
والترمذي في الزهد: 7 / 49 وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم: 4 / 171، وأخرجه الإمام أحمد: 2 / 303، و434، وذكره في المشكاة: 3 / 1397 وعزاه أيضا للبيهقي في "شعب الإيمان" وقال النووي: إسناده صحيح. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 70.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

وَقِيلَ: قَالَ الرَّسُولُ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُوَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ يَا رَبِّ: إِنَّ قُومِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا فَعَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ }
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) }

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

{ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) }
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا } يَعْنِي: كَمَا جَعَلَنَا لَكَ أَعْدَاءً مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ كَذَلِكَ جَعْلَنَا، { لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَكَ قَدْ لَقِيَتْ هَذَا مِنْ قَوْمِهِمْ، فَاصْبِرْ لِأَمْرِي كَمَا صَبَرُوا، فَإِنِّي نَاصِرُكَ وَهَادِيكَ، { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى وَالزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { كَذَلِكَ } فَعَلْتُ، { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ مُتَفَرِّقًا لِيَقْوَى بِهِ قَلْبُكَ فَتَعِيهِ وَتَحْفَظَهُ، فَإِنَّ الْكُتُبَ أُنْزِلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ يَكْتُبُونَ وَيَقْرَءُونَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَلِأَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ أُمُورٍ، فَفَرَّقْنَاهُ لِيَكُونَ أَوْعَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْسَرَ عَلَى الْعَامِلِ بِهِ. { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَّاهُ بَيَانًا، وَالتَّرْتِيلُ: التَّبْيِينُ فِي تَرَسُّلٍ وَتَثَبُّتٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ: فَرَّقْنَاهُ تَفْرِيقًا، آيَةً بَعْدَ آيَةٍ. { وَلَا يَأْتُونَكَ } يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، { بِمَثَلٍ } يَضْرِبُونَهُ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ { إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ } يَعْنِي بِمَا تَرُدُّ بِهِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَثَلِ وَتُبْطِلُهُ، فَسُمِّيَ مَا يُورِدُونَ مِنَ الشُّبَهِ مَثَلًا وَسُمِّي مَا يَدْفَعُ بِهِ الشُّبَهَ حَقًّا، { وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } أَيْ: بَيَانًا وَتَفْصِيلًا وَ"التَّفْسِيرُ": تَفْعِيلٌ، مِنَ الْفَسْرِ، وَهُوَ كَشْفُ مَا قَدْ غُطِّيَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَآلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: { الَّذِينَ } [أَيْ: هُمُ الَّذِينَ] (1) { يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ } فَيُسَاقُونَ وَيُجَرُّونَ، { إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا } أَيْ: مَكَانَةً وَمَنْزِلَةً، وَيُقَالُ: مَنْزِلًا وَمَصِيرًا، { وَأَضَلُّ سَبِيلًا } أَخْطَأُ طَرِيقًا.
__________
(1) ساقط من "أ".

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) }
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا } مُعِيَنًا وَظَهِيرًا . { فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } يَعْنِي الْقِبْطَ، { فَدَمَّرْنَاهُمْ } فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ، { تَدْمِيرًا } أَهْلَكْنَاهُمْ إِهْلَاكًا. { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } أَيْ: الرَّسُولَ، وَمَنْ كَذَبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. { أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } يَعْنِي: لِمَنْ بَعْدَهُمْ عِبْرَةٌ، { وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } فِي الْآخِرَةِ، { عَذَابًا أَلِيمًا } سِوَى مَا حَلَّ بِهِ مِنْ عَاجِلِ الْعَذَابِ. { وَعَادًا وَثَمُودَ } أَيْ: وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودَ، { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } اخْتَلَفُوا فِيهِمْ، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانُوا أَهْلَ بِئْرٍ قُعُودًا عَلَيْهَا، وَأَصْحَابَ مَوَاشِي، يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَوَجَّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ شُعَيْبًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ، وَفِي أَذَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَ الْبِئْرِ فِي مَنَازِلِهِمُ انْهَارَتِ الْبِئْرُ، فَخُسِفَ بِهِمْ وَبِدِيَارِهِمْ وَرِبَاعِهِمْ، فَهَلَكُوا جَمِيعًا. وَ"الرَّسُّ": الْبِئْرُ، وَكُلُّ رَكِيَّةٍ لَمْ تُطْوَ بِالْحِجَارَةِ وَالْآجُرِّ فَهُوَ رَسٌّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: "الرَّسُّ" بِئْرٌ بِفَلَجِ الْيَمَامَةِ، قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ بَقِيَّةُ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْبِئْرِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: "وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" (الْحَجِّ-45) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ لَهُمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَقَتَلُوهُ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: "الرَّسُّ": بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةَ قَتَلُوا فِيهَا حَبِيبًا النَّجَّارَ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ يس. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، [وَالرَّسُّ هُوَ الْأُخْدُودُ] (1) الَّذِي حَفَرُوهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ قَوْمٌ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي بِئْرٍ (2) . وَقِيلَ: الرَّسُّ الْمَعْدِنُ، وَجَمْعُهُ رِسَاسٌ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) لم يقم على هذه القوال في المعنى بأصحاب الرس دليل ثابت، ورجح الطبري أنهم أصحاب الأخدود، وبعض الأقوال السابقة مردودة بنصوص أخرى، والله أعلم. انظر: الطبري: 19 / 13-15، الدر المنثور: 6 / 256-257، زاد المسير: 6 / 90، البحر المحيط: 6 / 498-495، تفسير ابن كثير: 3 / 319-320.

وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)

{ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرًا بَيْنَ عَادٍ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ.
{ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) }
{ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ } أَيْ: الْأَشْبَاهُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ نُهْلِكْهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ { وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } أَيْ: أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَسَّرْنَا تَكْسِيرًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ كَسَّرْتُهُ وَفَتَّتُّهُ فَقَدْ تَبَّرْتُهُ. { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } يَعْنِي الْحِجَارَةَ، وَهِيَ قَرْيَاتُ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَانَتْ خَمْسُ قُرًى، فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَعًا مِنْهَا، وَنَجَتْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَصْغَرُهَا، وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ، { أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } إِذْ مَرُّوا بِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ فَيَعْتَبِرُوا وَيَتَذَكَّرُوا، لِأَنَّ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ كَانَتْ عَلَى طَرِيقِهِمْ عِنْدَ مَمَرِّهِمْ إِلَى الشَّامِ، { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ } 46/ب لَا يَخَافُونَ، { نُشُورًا } بَعْثًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ } يَعْنِي: مَا يَتَّخِذُونَكَ، { إِلَّا هُزُوًا } أَيْ: مَهْزُوءًا بِهِ، نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، كَانَ إِذْ مَرَّ بِأَصْحَابِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مُسْتَهْزِئًا: { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا } (1) ؟! { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا } أَيْ: قَدْ قَارَبَ أَنْ يُضِلَّنَا، { عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } أَيْ: لَوْ لَمْ نَصْبِرْ عَلَيْهَا لَصُرِفْنَا عَنْهَا، { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا } مَنْ أَخْطَأُ طَرِيقًا. { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا رَأَى حَجَرًا أَحْسَنَ مِنْهُ طَرَحَ الْأَوَّلَ وَأَخَذَ الْآخَرَ فَعَبَدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ مَنْ تَرَكَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَخَالِقَهُ ثُمَّ هَوِيَ حَجَرًا فَعَبَدَهُ مَا حَالُهُ عِنْدِي؟ { أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } أَيْ: حَافِظًا، يَقُولُ: أَفَأَنْتَ
__________
(1) ذكره في البحر المحيط: 6 / 500، والآية فيها إخبار عن استهزاء المشركين بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنقصهم له، وأبو جهل داخل في عموم أولئك المشركين.

عَلَيْهِ كَفِيلٌ تَحْفَظُهُ مِنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَعِبَادَةِ مَنْ يَهْوَى مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ أَيْ: لَسْتَ كَذَلِكَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ } مَا تَقُولُ سَمَاعَ طَالِبِ الْإِفْهَامِ، { أَوْ يَعْقِلُونَ } مَا يُعَايِنُونَ مِنَ الحجج والإعلام، { إِنْهُمْ } مَا هُمْ، { إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تَهْتَدِي لِمَرَاعِيهَا وَمَشَارِبِهَا وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا الَّذِينَ يَتَعَهَّدُونَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَا يَعْرِفُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَلَا يُطِيعُونَ رَبَّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ، وَلِأَنَّ الْأَنْعَامَ تَسْجُدُ وَتُسَبِّحُ لِلَّهِ وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَا يَفْعَلُونَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } مَعْنَاهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى مَدِّ رَبِّكَ الظِّلَّ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، جَعَلَهُ مَمْدُودًا لِأَنَّهُ ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ: "فِي ظِلِّ الْجَنَّةِ"، "وَظِلٍّ مَمْدُودٍ" (الْوَاقِعَةِ-30) إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَمْسٌ. { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } دَائِمًا ثَابِتًا لَا يَزُولُ وَلَا تُذْهِبُهُ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الظِّلُّ": مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ، وَهُوَ بِالْغَدَاةِ، وَ"الْفَيْءُ": مَا نَسَخَ الشَّمْسَ، وَهُوَ بَعْدُ الزَّوَالِ، سُمِّيَ فَيْئًا لِأَنَّهُ فَاءَ مِنْ جَانِبٍ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبٍ الْمَغْرِبِ، { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا } أَيْ: عَلَى الظِّلِّ. وَمَعْنَى دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ لَمَا عُرِفَ الظِّلُّ، وَلَوْلَا النُّورُ لَمَا عُرِفَتِ الظُّلْمَةُ، وَالْأَشْيَاءُ تُعَرَفُ بِأَضْدَادِهَا. { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ } يَعْنِي الظِّلَّ، { إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } بِالشَّمْسِ الَّتِي تَأْتِي عَلَيْهِ، وَ"الْقَبْضُ": جَمْعُ الْمُنْبَسِطِ مِنَ الشَّيْءِ، مَعْنَاهُ: أَنَّ الظِّلَّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَرْضِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَبَضَ اللَّهُ الظِّلَّ جُزْءًا فَجُزْءًا "قَبْضًا يَسِيرًا"، أَيْ: خَفِيًّا. { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا } أَيْ: سِتْرًا تَسْتَتِرُونَ بِهِ، يُرِيدُ أَنَّ ظُلْمَتَهُ تَغْشَى كُلَّ شَيْءٍ، كَاللِّبَاسِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى لَابِسِهُ، { وَالنَّوْمَ سُبَاتًا } رَاحَةً لِأَبْدَانِكُمْ وَقَطْعًا لِعَمَلِكُمْ، وَأَصْلُ "السَّبْتِ": الْقَطْعُ، وَالنَّائِمُ مَسْبُوتٌ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَحَرَكَتُهُ. { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } أَيْ: يَقِظَةً وَزَمَانًا، تَنْتَشِرُونَ فِيهِ لِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ، وَتَنْتَشِرُونَ لِأَشْغَالِكُمْ.

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)

{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) }
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } يَعْنِي الْمَطَرَ { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَهُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، كَالسَّحُورِ اسْمٌ لِمَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَالْفَطُورُ اسْمٌ لِمَا يُفْطَرُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (1) وَأَرَادَ بِهِ الْمُطَهِّرَ، فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: "وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" (الْأَنْفَالِ-11) ، فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ التَّطْهِيرَ يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ.
وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ "الطَّهُورَ" هُوَ الطَّاهِرُ، حَتَّى جَوَّزُوا إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، مِثْلَ الْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْمَرَقِ وَنَحْوِهَا (2) . وَلَوْ جَازَ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهَا لَجَازَ إِزَالَةُ الْحَدَثِ بِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ "الطَّهُورَ" مَا يَتَكَرَّرُ مِنْهُ التَّطْهِيرُ، كَالصَّبُورِ اسْمٌ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الصَّبْرُ، وَالشَّكُورُ اسْمٌ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الشُّكْرُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، حَتَّى جَوَّزَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْهُ مَرَّةً (3) . وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ هَلْ تَزُولُ طَهُورِيَّتَهُ؟ نَظَرٌ: إِنْ كَانَ الْوَاقِعُ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ، كَالطِّينِ وَالتُّرَابِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، لَا تَزُولُ، فَيَجُوزُ الطِّهَارَةُ بِهِ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ لِطُولِ الْمُكْثِ فِي قَرَارِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فِيهِ مَا لَا يُخَالِطُهُ، كَالدُّهْنِ يَصُبُّ فِيهِ فَيَتَرَوَّحُ الْمَاءُ
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ: 1 / 22، وأبو داود في باب الوضوء بماء البحر: 1 / 80، والترمذي في باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور: 1 / 224-225 وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في الطهارة: 1 / 50، 176، وابن ماجه في الوضوء بماء البحر: 1 / 136 ، 137 ، وصححه الحاكم: 1 / 140، وابن حبان برقم (119) وابن خزيمة: 1 / 59. والمصنف في شرح السنة: 2 / 55.
قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث صحيح. قال البيهقي: وإنما لم يخرجه البخاري ومسلم بن الحجاج في الصحيح لأجل اختلاف وقع في اسم سعيد بن سلمة والمغيرة ابن أبي بردة. انظر: تلخيص الحبير: 1 / 9.
(2) قال الجصاص في أحكام القرآن: (5 / 201) "الطهور، على وجه المبالغة في الوصف له بالطهارة وتطهير غيره، فهو طاهر مطهر، كما يقال: رجل ضروب وقتول، أي: يضرب ويقتل، وهو مبالغة في الوصف له بذلك".
(3) في المدونة: (1 / 4) "وقال مالك: لا يتوضأ بماء قد توضئ به مرة، قال: ولا خير فيه... قلت: فلو لم يجد رجل ماء إلا ما قد توضئ به مرة، أيتيمم أم يتوضأ بما قد توضئ به مرة؟ قال: يتوضأ بذلك الماء الذي قد توضئ به مرة أحب إلي إذا كان الذي توضأ به طاهرا".

بِرَائِحَتِهِ يَجُوزُ الطِّهَارَةُ بِهِ، لِأَنَّ تَغَيُّرَهُ لِلْمُجَاوِرَةِ لَا لِلْمُخَالَطَةِ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُمْكِنُ صَوْنُ الْمَاءِ مِنْهُ وَيُخَالِطُهُ كَالْخَلِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِمَا تَزُولُ [طَهُورِيَّتُهُ فَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، يَنْظُرُ: إِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ شَيْئًا طَاهِرًا لَا تَزُولُ] (1) طَهُورِيَّتُهُ، فَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ شَيْئًا نَجِسًا، يَنْظُرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَقَلَّ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ الْمَاءُ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَهُوَ طَاهِرٌ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ. وَالْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ، وَوَزْنُهُ خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنِ الْمُنِيبِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ وَمَا يَرِدُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ فَقَالَ: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَيْسَ يَحْمِلُ الْخَبَثَ" (2) وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْحَدُّ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ (3) .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِمَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَارِثِ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّاهِرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْمُوَجَّهِ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بن الفضل 47/أ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بئر يلقى في الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" (4) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب ما ينجس من الماء: 1 / 56، والترمذي في باب الماء لا ينجسه شيء: 1 / 215، والنسائي في باب التوقيت في الماء: 1 / 46، وابن ماجه في مقدار الماء الذي لا ينجس: 1 / 172، والدارمي في الوضوء: 1 / 187، وابن خزيمة 1 / 49، والشافعي في الأم: 1 / 4، والإمام أحمد: 2 / 27.
(3) انظر بالتفصيل: الأوسط في السنن والإجماع، لابن المنذر: 1 / 260 وما بعدها.
(4) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة: 1 / 73، والترمذي في باب ما جاء أن الماء طهور لا ينجسه شيء: 1 / 203-205 وقال هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد"، وأخرجه النسائي في باب ذكر بئر بضاعة: 1 / 174، وابن ماجه: 1 / 173، والشافعي: 1 / 12 من ترتيب المسند، والدارقطني: 1 / 13، والإمام أحمد: 3 / 31، 86، وصححه الحاكم.

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

{ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِنُحْيِيَ بِهِ } أَيْ: بِالْمَطَرِ، { بَلْدَةً مَيْتًا } وَلَمْ يَقُلْ: "مَيِّتَةً" لِأَنَّهُ رَجَعَ بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ وَالْمَكَانِ، { وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا } أَيْ: نُسْقِي مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ أَنْعَامًا، { وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } أَيْ: بَشَرًا كَثِيرًا، وَالْأَنَاسِيُّ: [جَمْعُ أُنْسِيُّ، وَقِيلَ] (1) جَمَعُ إِنْسَانٍ، وَأَصْلُهُ: "أَنَاسِينُ" مِثْلُ: بُسْتَانٍ وَبَسَاتِينٍ، فَجَعَلَ الْيَاءَ عِوَضًا عَنِ النُّونِ. { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } يَعْنِي: الْمَطَرَ، مَرَّةً بِبَلْدَةٍ وَمَرَّةً بِبَلَدٍ آخَرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِفُّهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (2) . وَهَذَا كَمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا السَّمَاءُ تُمْطِرُ فِيهَا يُصَرِّفُهُ اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ" (3) .
وَذِكْرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ وَبَلَّغُوا بِهِ وابن مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ سَنَةٍ بِأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ هَذِهِ الْأَرْزَاقَ، فَجَعَلَهَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فِي هَذَا الْقَطْرِ يَنْزِلُ مِنْهُ كُلُّ سَنَةٍ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، وَإِذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالْمَعَاصِي حَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِي وَالْبِحَارِ" (4) . وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ تَصْرِيفِ الْمَطَرِ تَصْرِيفُهُ وَابِلًا وَطَلًّا وَرَذَاذًا وَنَحْوَهَا. وَقِيلَ: التَّصْرِيفُ رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ.
{ لِيَذَّكَّرُوا } أَيْ: لِيَتَذَكَّرُوا وَيَتَفَكَّرُوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا } جُحُودًا، وَكُفْرَانُهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا مُطِرُوا قَالُوا مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ سَمَاءٍ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) صححه الحاكم في المستدرك: 2 / 403، وأخرجه الطبري: 19 / 22 من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه الطبري أيضا من رواية ابن مسعود موقوفا.
قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (122): ".. وفي الباب عن ابن مسعود، أخرجه العقيلي من رواية علي بن حميد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه. وقال: لا يتابع على رفعه. ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة، وقال: هذا أولى، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا". وانظر: الدر المنثور: 6 / 264، تفسير ابن كثير: 3 / 322.
(3) صححه الحاكم في المستدرك: 2 / 403، وأخرجه الطبري: 19 / 22 من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه الطبري أيضا من رواية ابن مسعود موقوفا.
قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (122): ".. وفي الباب عن ابن مسعود، أخرجه العقيلي من رواية علي بن حميد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه. وقال: لا يتابع على رفعه. ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة، وقال: هذا أولى، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا". وانظر: الدر المنثور: 6 / 264، تفسير ابن كثير: 3 / 322.
(4) صححه الحاكم في المستدرك: 2 / 403، وأخرجه الطبري: 19 / 22 من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه الطبري أيضا من رواية ابن مسعود موقوفا.
قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (122): ".. وفي الباب عن ابن مسعود، أخرجه العقيلي من رواية علي بن حميد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه. وقال: لا يتابع على رفعه. ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة، وقال: هذا أولى، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا". وانظر: الدر المنثور: 6 / 264، تفسير ابن كثير: 3 / 322.

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ" (1)
{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ، وَلَكِنْ بَعَثْنَاكَ إِلَى الْقُرَى كُلِّهَا، وَحَمَّلْنَاكَ ثِقَلَ النِّذَارَةِ جَمِيعِهَا، لِتَسْتَوْجِبَ بِصَبْرِكَ عَلَيْهِ مَا أَعْدَدْنَا لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ. { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ } فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ. { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } أَيْ: بِالْقُرْآنِ، { جِهَادًا كَبِيرًا } شَدِيدًا. { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } خَلَطَهُمَا وَأَفَاضَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَقِيلَ: أَرْسَلَهُمَا فِي مَجَارِيهِمَا وَخَلَاهُمَا كَمَا يُرْسَلُ الْخَيْلُ فِي الْمَرَجِ، وَأَصْلُ "الْمَرَجِ": الْخَلْطُ وَالْإِرْسَالُ، يُقَالُ: مَرَجْتُ الدَّابَّةَ وَأَمْرَجْتُهَا إِذَا أَرْسَلْتُهَا فِي الْمَرْعَى وَخَلَّيْتُهَا تَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ، { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } شَدِيدُ الْعُذُوبَةِ، وَ"الْفُرَاتُ": أَعْذَبُ الْمِيَاهِ، { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } شَدِيدُ الْمُلُوحَةِ. وَقِيلَ: أُجَاجٌ أَيْ: مُرٌّ { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا } أَيْ: حَاجِزًا بِقُدْرَتِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطُ الْعَذْبُ بِالْمِلْحِ وَلَا الْمِلْحُ بِالْعَذْبِ، { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } أَيْ: سِتْرًا مَمْنُوعًا فَلَا يَبْغِيَانِ، وَلَا يُفْسِدُ الْمِلْحُ الْعَذْبَ. { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ } مِنَ النُّطْفَةِ، { بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } أَيْ: جَعَلَهُ ذَا نَسَبٍ وَصِهْرٍ، قِيلَ: "النَّسَبُ" مَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ، وَ"الصِّهْرُ": مَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ، فَالنَّسَبُ مَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصِّهْرُ مَا لَا يُوجِبُهَا، وَقِيلَ: -وَهُوَ الصَّحِيحُ-: النَّسَبُ: مِنَ الْقَرَابَةِ، وَالصِّهْرُ: الْخُلْطَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُحَرِّمُ لِلنِّكَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ بِالنَّسَبِ سَبْعًا وَبِالسَّبَبِ سَبْعًا، فِي قَوْلِهِ (2) "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ" (النِّسَاءَ-23) ، { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا }
__________
(1) أخرجه مالك في الاستسقاء، باب الاستمطار بالنجوم: 1 / 192، والبخاري في الاستسقاء، باب قول الله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون": 2 / 522، وفي الصلاة والمغازي والتوحيد، ومسلم في الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بالنوء، برقم (71): 1 / 83-84، والمصنف في شرح السنة: 4 / 419.
(2) أخرجه مالك في الاستسقاء، باب الاستمطار بالنجوم: 1 / 192، والبخاري في الاستسقاء، باب قول الله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون": 2/522، وفي الصلاة والمغازي والتوحيد، ومسلم في الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بالنوء، برقم (71): 1 / 83-84، والمصنف في شرح السنة: 4 / 419.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) }
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، { مَا لَا يَنْفَعُهُمْ } إِنْ عَبَدُوهُ، { وَلَا يَضُرُّهُمْ } إِنْ تَرَكُوهُ، { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } أَيْ: مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ بِالْمَعَاصِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: يُعَاوِنُ الشَّيْطَانُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ لِأَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ مُعَاوَنَةٌ لِلشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا، أَيْ: هَيِّنًا ذَلِيلًا كَمَا يُقَالُ الرَّجُلُ: جَعَلَنِي بِظَهِيرٍ، أَيْ: جَعَلَنِي هَيِّنًا. وَيُقَالُ: ظَهِرْتُ بِهِ، إِذَا جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أَيْ: مُنْذِرًا. { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } عَلَى تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، { مِنْ أَجْرٍ } فَتَقُولُوا إِنَّمَا يَطْلُبُ مُحَمَّدٌ أَمْوَالُنَا بِمَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ فَلَا نَتَّبِعُهُ، { إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } هَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، مَجَازُهُ: لَكِنْ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي أَجْرًا وَلَكِنْ لَا أَمْنَعُ مِنْ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاتِّخَاذِ السَّبِيلِ إِلَى جَنَّتِهِ. { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } أَيْ: صَلِّ لَهُ شُكْرًا عَلَى نِعَمِهِ. وَقِيلَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } عَالِمًا فَيُجَازِيهِمْ بِهَا. { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } بِالرَّحْمَنِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ فَاسْأَلِ الْخَبِيرَ [بِذَلِكَ، يَعْنِي: بِمَا ذَكَرَ من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. وَقِيلَ:] (1) الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّهَا الإنسان لا ترجح فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا إِلَى غَيْرِي. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى "عَنْ"، أَيْ: فَاسْأَلْ عَنْهُ خَبِيرًا وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحِمْنَ الْيَمَامَةِ، يَعْنُونَ مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابَ، كَانُوا يُسَمُّونَهُ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ. { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "يَأْمُرُنَا" بِالْيَاءِ، أَيْ: لِمَا يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، أَيْ: لِمَا تَأْمُرُنَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، { وَزَادَهُمْ } يَعْنِي: زَادَهُمْ قَوْلُ الْقَائِلِ لَهُمْ: "اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ" { نُفُورًا } عَنِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ. قَوْلُهُ عز وجل 47/ب { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا } قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "الْبُرُوجُ": هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ، سُمِّيَتْ بُرُوجًا لِظُهُورِهَا، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: "بُرُوجًا" أَيْ: قُصُورًا فِيهَا الْحَرَسُ (1) كَمَا قَالَ: "وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ" (النِّسَاءِ-78) . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْبُرُوجُ الِاثْنَا عَشْرَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ، وَهِيَ الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ، فَالْحَمَلُ وَالْعَقْرَبُ بَيْتَا الْمِرِّيخِ، وَالثَّوْرُ وَالْمِيزَانُ بَيْتَا الزُّهَرَةِ، وَالْجَوْزَاءُ وَالسُّنْبُلَةُ بَيْتًا عُطَارِدِ، وَالسَّرَطَانُ بَيْتُ الْقَمَرِ، وَالْأَسَدُ بَيْتُ الشَّمْسِ، وَالْقَوْسُ وَالْحُوتُ بَيْتَا الْمُشْتَرَى، وَالْجَدْيُ وَالدَّلْوُ بَيْتَا زُحَلَ، وَهَذِهِ الْبُرُوجُ مَقْسُومَةٌ عَلَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ فَيَكُونُ نَصِيبُ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ بُرُوجٍ تُسَمَّى الْمُثَلَّثَاتُ، فَالْحَمَلُ وَالْأَسَدُ وَالْقَوْسُ مُثَلَّثَةٌ نَارِيَّةٌ، وَالثَّوْرُ وَالسُّنْبُلَةُ وَالْجَدْيُ مُثَلَّثَةٌ أَرْضِيَّةٌ، وَالْجَوْزَاءُ وَالْمِيزَانُ وَالدَّلْوُ مُثَلَّثَةٌ هَوَائِيَّةٌ، وَالسَّرَطَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحُوتُ مُثَلَّثَةٌ مَائِيَّةٌ.
{ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } يَعْنِي الشَّمْسَ، كَمَا قَالَ: "وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا" (نُوحٍ-16) ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "سُرُجًا" بِالْجَمْعِ، يَعْنِي النُّجُومَ. { وَقَمَرًا مُنِيرًا } وَالْقَمَرُ قَدْ دَخَلَ فِي "السُّرُجِ" عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِنَوْعِ فَضِيلَةٍ، كما قال: "فيها فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ" (الرَّحْمُنِ-68) ، خَصَّ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي الْفَاكِهَةِ. { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } اخْتَلَفُوا فِيهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي خَلَفًا وَعِوَضًا، يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَمَنْ فَاتَهُ عَمَلُهُ فِي أَحَدِهِمَا قَضَاهُ فِي الْآخَرِ.
__________
(1) ذكر القولين الطبري: 19 / 29-30، ورجح أن البروج هي قصور في السماء، لأن ذلك في كلام العرب، كما في قوله تعالى: "ولو كنتم في بروج مشيدة". وقول الأخطلكأنها برج رومي يشيده ... بان بجص وآجر وأحجار
يعني بالبرج: القصر.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)

قَالَ شَقِيقٌ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: أَدْرِكْ مَا فَاتَكَ مِنْ لَيْلَتِكَ فِي نَهَارِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَكَّرَ (1) . [قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي جَعْلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفًا لِصَاحِبِهِ فَجَعَلَ هَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَبْيَضُ (2) . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ] (3) يَعْنِي يَخْلُفُ أَحَدَهُمَا صَاحِبَهُ إِذَا ذَهَبَ أَحَدُهُمَا جَاءَ الْآخَرُ فَهُمَا يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (4) . { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ } قَرَأَ حَمْزَةُ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَالْكَافِ وَضَمِّهَا مِنَ الذِّكْرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهِمَا أَيْ: يَتَذَكَّرَ وَيَتَّعِظَ { أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ: شُكْرَ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِيهِمَا.
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } أَيْ: أَفَاضِلُ الْعِبَادِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّفْضِيلِ، وَإِلَّا فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ. { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } أَيْ: بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مُتَوَاضِعِينَ غَيْرَ أَشِرِينَ وَلَا مَرِحِينَ، وَلَا مُتَكَبِّرِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عُلَمَاءٌ وَحُكَمَاءٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يُسَفِّهُونَ، وَإِنْ سُفِّهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا، وَ"الْهَوْنُ" فِي اللُّغَةِ: والرفق وَاللِّينُ (5) . { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ } يَعْنِي السُّفَهَاءُ بِمَا يَكْرَهُونَ، { قَالُوا سَلَامًا } قَالَ مُجَاهِدٌ: سَدَادًا مِنَ الْقَوْلِ (6) . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: قُولًا يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ جَهَلَ عَلَيْهِمْ جَاهِلٌ حَلُمُوا وَلَمْ يَجْهَلُوا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ السَّلَامُ الْمَعْرُوفُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: مَعْنَاهُ سَلَّمُوا عَلَيْهِمْ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ" (الْقَصَصِ-55) . قَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (7) . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا وَصْفُ نَهَارِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } قَالَ: هَذَا وَصْفُ لَيْلِهِمْ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 19 / 30، والجصاص في أحكام القرآن: 5 / 212.
(2) الطبري: 19 / 31، الجصاص: 5 / 212.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) الطبري: 19 / 31، الجصاص: 5 / 212.
(5) انظر هذه الأقوال في: الطبري 19 / 33-34.
(6) ورجحه الطبري: 19 / 34، والأقوال الآتية لا تنافي ذلك.
(7) ورجحه الطبري: 3 / 32-33.

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

{ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ } يُقَالُ لِمَنْ أَدْرَكَ اللَّيْلَ: بَاتَ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، يُقَالُ: بَاتَ فُلَانٌ قَلِقًا، وَالْمَعْنَى: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ بِاللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ، { سُجَّدًا } عَلَى وُجُوهِهِمْ، { وَقِيَامًا } عَلَى أَقْدَامِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ بَاتَ لِلَّهِ سَاجِدًا وَقَائِمًا (1) . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ" (2) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } أَيْ: مُلِحًّا دَائِمًا، لَازِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ مَنْ عُذِّبَ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْغَرِيمُ لِطَلَبِهِ حَقَّهُ وَإِلْحَاحِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: سَأَلَ اللَّهُ الْكُفَّارَ ثَمَنَ نِعَمِهِ فَلَمْ يُؤَدُّوا فَأَغْرَمَهُمْ فِيهِ، فَبَقُوا فِي النَّارِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلَّا جَهَنَّمَ. وَ"الْغَرَامُ": الشَّرُّ اللَّازِمُ، وَقِيلَ: "غَرَامًا" هَلَاكًا. { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أَيْ: بِئْسَ مَوْضِعُ قَرَارٍ وَإِقَامَةٍ. { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ "يَقَتِّرُوا" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ التاء، وكلها بلغات صَحِيحَةٌ. يُقَالُ: أُقَتِّرُ وَقَتَّرَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَتَّرَ يُقَتِّرُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الْإِسْرَافُ": النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَإِنْ قَلَّتْ، وَ"الْإِقْتَارُ": مَنَعُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَلَمْ يُمْسِكُوا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ (3) .
__________
(1) انظر: مجمع الزوائد: 2 / 231.
(2) أخرجه مسلم في المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم (656): 1 / 454، والمصنف في شرح السنة: 2 / 231.
(3) انظر:الطبري 19 / 37، الجصاص: 5 / 213، القرطبي: 13 / 72-73.

وَقَالَ قَوْمٌ: "الْإِسْرَافُ": مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّبْذِيرِ، وَ"الْإِقْتَارُ": التَّقْصِيرُ عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: لَا يُجِيعُهُمْ وَلَا يُعَرِّيهِمْ وَلَا يُنْفِقُ نَفَقَةً يَقُولُ النَّاسُ قَدْ أَسْرَفَ (1) . { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } قَصْدًا وَسَطًا بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، حَسَنَةً بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ. قَالَ يزيد بن 48/أ أَبِي حَبِيبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلتَّنَعُّمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا لِلْجَمَالِ، وَلَكِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَسُدُّ عَنْهُمُ الْجُوعَ وَيُقَوِّيهِمْ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَمِنَ الثِّيَابِ مَا يَسْتُرُ عَوَرَاتِهِمْ وَيُكِنُّهُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ (2) . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَفَى سَرَفًا أَنْ لَا يَشْتَهِيَ الرَّجُلُ شَيْئًا إِلَّا اشْتَرَاهُ فَأَكَلَهُ (3)
__________
(1) الطبري: 19 / 37-38، القرطبي: 13 / 73، قال الطبري: "والصواب من القول في ذلك، قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحد الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به. والقوام: بين ذلك...".
(2) أخرجه عنه الطبري: 19 / 38، وانظر القرطبي: 13 / 73.
(3) أخرجه عبد الرزاق في التفسير عن ابن عيينة عن رجل عن الحسن عن عمر بن الخطاب، وهذا منقطع من طريقه، رواه الثعلبي، وأحمد في الزهد عن إسماعيل عن يونس عن الحسن كذلك، وراه ابن ماجه وأبو يعلى والبيهقي في الشعب من طريق نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس رضي الله عنه مرفوعا. والأول أصح". انظر: الكافي الشاف لابن حجر ص (122).

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)

{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } الْآيَةَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: قَالَ يَعْلَى وَهُوَ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الذي تقول وتدعوا إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ" (1) . { وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } ونزل: "قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" (الزُّمَرِ-53) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، سورة الفرقان: 8 / 494، ومسلم في الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله برقم (122): 1 / 113، وفي التفسير، برقم (19): 4 / 2318، وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (386).

يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قَالَ" ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ"، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا" (1) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أَيْ: شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، { يَلْقَ أَثَامًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا يُرِيدُ جَزَاءَ الْإِثْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الْآثَامُ": الْعُقُوبَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْآثَامُ": وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (2) وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ: "الْغَيُّ وَالْآثَامُ بئران يسيل فيها صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ" (3) .
{ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) }
{ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ "يُضَاعَفُ" وَ"يَخْلُدُ" بِرَفْعِ الْفَاءِ وَالدَّالِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَشَدَّدَ بن عَامِرٍ: "يُضَعِّفُ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِجَزْمِ الْفَاءِ وَالدَّالِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا } قَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَآمَنَ بِرَبِّهِ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَمَّالُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَتَيْنِ: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ: { إِلَّا مَنْ تَابَ } فَمًا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ كَفَرَحِهِ بِهَا وَفَرَحِهِ بِـ: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ" (4) ( الْفَتْحِ 1 -2 )
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة الفرقان، باب "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر": 8 / 492.
(2) انظر: الطبري 19 / 44-45، وهو أيضا قول مجاهد وعكرمة، وانظر: الزهد للإمام هناد: 1 / 369 مع تعليق المحقق.
(3) أخرجه الطبري من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مطولا: 19 / 44-45.
(4) قال الهيثمي في المجمع: (7 / 84): "رواه الطبراني من رواية علي بن زيد عن يوسف بن مهران، وقد وثقا وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات. وله حديث في الصحيح غير هذا". وزاد السيوطي نسبته لابن المنذر وابن مردويه. الدر المنثور: 6 / 279.==

13.   معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)

وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

{ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحُسْنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَاكُ: يُبَدِّلُهُمُ اللَّهُ بِقَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ فِي الشِّرْكِ مَحَاسِنَ الْأَعْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُبَدِّلُهُمْ بِالشِّرْكِ إِيمَانًا، وَبِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِالزِّنَا عِفَّةً وَإِحْصَانًا (1) . وَقَالَ قَوْمٌ: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الْإِسْلَامِ حَسَنَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَكْحُولٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ خِرِّيتٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لِأَعْلَمُ آخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ لَهُ عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مُقِرٌّ لَا يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمَلِهَا حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ إِنَّ لِي ذُنُوبًا ما أراها ها هنا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ (3) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِالنَّدَمِ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يُثْبِتُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا } قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا فِي التَّوْبَةِ عَنْ غَيْرِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، يَعْنِي: مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَعَمِلَ صَالِحًا، أَيْ: أَدَّى الْفَرَائِضَ مِمَّنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَزْنِ، { فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ } أَيْ: يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، { مَتَابًا } حَسَنًا يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ قَتَلَ وَزَنَى، فَالتَّوْبَةُ الْأُولَى وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَمَنْ تَابَ" رُجُوعٌ عَنِ الشِّرْكِ، وَالثَّانِي رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ لِلْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ.
__________
(1) انظر: الطبري: 19 / 46-47.
(2) أخرجه الطبري: 19 / 47 عن سعيد، وقال: "وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، قول من تأوله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم: أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى.. لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القبح، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى، فيجب -إن فعل ذلك كذلك- أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام، ومعاصيه كلها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجا".
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم (190): 1 / 177، والمصنف في شرح السنة: 15 / 192.

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا فِي التَّوْبَةِ عَنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ. وَمَعْنَاهُ: وَمَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ وَعَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَتُبْ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: { يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ } خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: لِيَتُبْ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَوْبَتَهُ وَمَصِيرَهُ إِلَى اللَّهِ.
{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) }
{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالَ الضَّحَّاكُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي الشِّرْكَ (1) . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ: يَعْنِي شَهَادَةَ الزُّورِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَجْلِدُ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَيَسْخَمُ وَجْهَهُ، وَيَطُوفُ بِهِ فِي السُّوقِ (2) . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَعْنِي الْكَذِبَ (3) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أَعْيَادَ الْمُشْرِكِينَ (4) . وَقِيلَ: النَّوْحُ (5) قَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسَاعِدُونَ أهل الباطل 48/ب عَلَى بَاطِلِهِمْ (6) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَشْهَدُونَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ (7) . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ" (8) . وَأَصْلُ "الزُّورِ" تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ (9)
__________
(1) أخرجه الطبري: 19 / 48، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك. الدر المنثور: 6 / 378.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 8 / 326 و327، والبيهقي في السنن: 10 / 142.
(3) الطبري: 19 / 49، الدر المنثور: 6 / 282.
(4) وهو ما رواه الخطيب عن ابن عباس. الدر المنثور: 6 / 282.
(5) وهو مروي عن الحسن. الدر المنثور: 6 / 283.
(6) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، كما في الدر: 6 / 283.
(7) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، كما في الدر: 6 / 283.
(8) رواه البيهقي في السنن موقوفا على ابن مسعود: 10 / 223، ورواه في الشعب مرفوعا عن جابر، وروى عبد الرزاق القطعة الأولى منه عن إبراهيم في المصنف: 11 / 4. قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4 / 199): رواه أبو داود بدون التشبيه، والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعا، وفيه شيخ لم يسم، ورواه البيهقي أيضا موقوفا، وفي الباب عن أبي هريرة رواه ابن عدي، وقال ابن طاهر: أصح الأسانيد في ذبك أنه من قول إبراهيم"، وعزاه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1355 لابن أبي الدنيا في ذم الملاهي بإسناد ضعيف. وانظر: الفوائد المجموعة للشوكاني ص (254)، كشف الخفاء: 2 / 103.
(9) قال الطبري عقب ذلك: (19 / 49): "والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل. ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظن سامعه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من الباطل، لا شركا، ولا غناء ولا كذبا ولا غيره، وكل ما لزمه اسم الزور، لأن الله عم في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل".

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا سَمِعُوا مِنَ الْكُفَّارِ الشَّتْمَ وَالْأَذَى أَعْرَضُوا وَصَفَحُوا، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ" (الْقَصَصِ-55) ، قَالَ السُّدِّيُّ: وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ (1) قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: "اللَّغْوُ": الْمَعَاصِي كُلُّهَا، يَعْنِي إِذَا مَرُّوا بِمَجْلِسِ اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ مَرُّوا كِرَامًا مُسْرِعِينَ مُعْرِضِينَ. يُقَالُ: تَكَّرَمَ فَلَانٌ عَمَّا يَشِينُهُ إِذَا تَنَزَّهَ وَأَكْرَمَ نَفْسَهُ عَنْهُ (2) .
{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }
{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا } لَمْ يَقَعُوا وَلَمْ يَسْقُطُوا، { عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } كَأَنَّهُمْ صُمٌّ عُمْيٌ، بَلْ يَسْمَعُونَ مَا يُذَكَّرُونَ بِهِ فَيَفْهَمُونَهُ وَيَرَوْنَ الْحَقَّ فِيهِ فَيَتَّبِعُونَهُ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ (3) لَمْ يَتَغَافَلُوا عَنْهَا، كَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوهَا وَعُمْيٌ لَمْ يَرَوْهَا. { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا } قَرَأَ بِغَيْرِ أَلِفٍ: أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ عَلَى الْجَمْعِ، { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أَيْ: أَوْلَادًا أَبْرَارًا أَتْقِيَاءَ، يَقُولُونَ اجْعَلْهُمْ صَالِحِينَ فَتَقَرَّ أَعْيُنُنَا بِذَلِكَ. قَالَ الْقُرَظِيُّ: لَيْسَ شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ مُطِيعِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَوَحَّدَ الْقُرَّةَ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَأَذَّى مِنَ الْحَرِّ وَتَسْتَرْوِحُ إِلَى الْبَرْدِ، وَتُذْكَرُ قُرَّةُ الْعَيْنِ عِنْدَ السُّرُورِ، وَسُخْنَةُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْحُزْنِ، وَيُقَالُ: دَمْعُ الْعَيْنِ عِنْدَ السُّرُورِ بَارِدٌ، وَعِنْدَ الْحُزْنِ حَارٌّ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَى قُرَّةِ الْأَعْيُنِ: أَنْ يُصَادِفَ قَلْبُهُ مَنْ يَرْضَاهُ، فَتَقَرُّ عَيْنُهُ بِهِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ. { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } أَيْ: أَئِمَّةً يَقْتَدُونَ فِي الْخَيْرِ بِنَا، وَلَمْ يَقُلْ: أَئِمَّةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الشُّعَرَاءِ-16) ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَئِمَّةً كَقَوْلِهِ: "فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي" (الشُّعَرَاءِ-77) ، أَيْ: أَعْدَاءٌ، وَيُقَالُ: أَمِيرُنَا هَؤُلَاءِ، أَيْ: أُمَرَاؤُنَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، يُقَالُ: أَمَّ إِمَامًا، كَمَا يُقَالُ: قَامَ قِيَامًا، وَصَامَ صِيَامًا. قَالَ الْحَسَنُ: نَقْتَدِي بِالْمُتَّقِينَ وَيَقْتَدِي بِنَا الْمُتَّقُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْعَلْنَا أَئِمَّةً هُدَاةً، كَمَا قَالَ: "وجعلناهم أئمة يهتدون بِأَمْرِنَا" (السَّجْدَةِ-24) ، وَلَا تَجْعَلْنَا أَئِمَّةَ ضَلَالَةٍ كَمَا قَالَ: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" (الْقَصَصِ-41) ، وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، يَعْنِي: وَاجْعَلِ الْمُتَّقِينَ لَنَا إِمَامًا، وَاجْعَلْنَا مُؤْتَمِّينَ مُقْتَدِينَ بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
__________
(1) قال الطبري عقب ذلك: 3 / 32-33. "والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل. ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظن سامعه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من الباطل، لا شركا، ولا غناء ولا كذبا ولا غيره، وكل ما لزمه اسم الزور، لأن الله عم في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل".
(2) انظر تأويل الطبري وترجيحه أيضا: 19 / 50.
(3) انظر: القرطين لابن مطرف: 2 / 51-52.

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) }
{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ } أَيْ: يُثَابُونَ، { الْغُرْفَةَ } أَيْ: الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَ"الْغُرْفَةُ": كُلُّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ عَالٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ غُرَفَ الدُّرِّ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ فِي الْجَنَّةِ، { بِمَا صَبَرُوا } عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: عَنِ الشَّهَوَاتِ { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، كَمَا قَالَ: "فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" (مَرْيَمَ-59) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ كَمَا قَالَ: "وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الْإِنْسَانِ-11) ، وَقَوْلُهُ: { تَحِيَّةً } أَيْ مُلْكًا، وَقِيلَ: بَقَاءً دَائِمًا، { وَسَلَامًا } أَيْ: يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ، وَيُرْسِلُ الرَّبُّ إِلَيْهِمْ بِالسَّلَامِ. وَقِيلَ: "سَلَامًا" أَيْ: سَلَامَةً مِنَ الْآفَاتِ. { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أَيْ: مَوْضِعَ قَرَارٍ وَإِقَامَةٍ. { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: أَيْ: مَا يَصْنَعُ وَمَا يَفْعَلُ بِكُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا أَيْ: لَمْ أَعُدَّهُ، فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، مَجَازُهُ: أَيُّ وَزْنٍ وَأَيُّ مِقْدَارٍ لَكُمْ عِنْدَهُ، { لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } إِيَّاهُ، وَقِيلَ: لَوْلَا إِيمَانُكُمْ، وَقِيلَ: لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ، وَقِيلَ: لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا آمَنْتُمْ ظَهَرَ لَكُمْ قَدْرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهَا: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِخَلْقِكُمْ رَبِّي لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ وَطَاعَتُكُمْ إِيَّاهُ يَعْنِي إِنَّهُ خَلَقَكُمْ لِعِبَادَتِهِ، كَمَا قَالَ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذَّارِيَاتِ-56) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: "قُلْ مَا يَعْبَأُ" مَا يُبَالِي بِمَغْفِرَتِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ مَعَهُ آلِهَةً، أَوْ مَا يَفْعَلُ بِعَذَابِكُمْ لَوْلَا شِرْكُكُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ" (النِّسَاءِ-147) . وَقِيلَ: مَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُ فِي الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ" (الْعَنْكَبُوتِ-65) ، وَقَالَ: "فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ" (الْأَنْعَامِ-42) . وَقِيلَ: "قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ" يَقُولُ: مَا خَلَقْتُكُمْ وَلِي إِلَيْكُمْ حَاجَةٌ إِلَّا أَنْ تَسْأَلُونِي فَأُعْطِيَكُمْ وَتَسْتَغْفِرُونِي فَأَغْفِرَ لَكُمْ.
{ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، يُخَاطِبُ أَهْلَ مَكَّةَ، يَعْنِي: إِنِ اللَّهَ دَعَاكُمْ بِالرَّسُولِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ فَقَدْ كَذَّبْتُمُ الرَّسُولَ وَلَمْ تُجِيبُوهُ. { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } هَذَا تَهْدِيدُهُ لَهُمْ، أَيْ: يَكُونُ تَكْذِيبُكُمْ لِزَامًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْتًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَلَاكًا وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قِتَالًا. وَالْمَعْنَى: يَكُونُ

التَّكْذِيبُ لَازِمًا لِمَنْ كَذَّبَ، فَلَا يُعْطَى التَّوْبَةَ حَتَّى يُجَازَى بِعَمَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (1) عَذَابًا دَائِمًا لَازِمًا وَهَلَاكًا مُقِيمًا يُلْحِقُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَاتَّصَلَ بِهِمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، لَازِمًا لَهُمْ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ" (2) { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } وَقِيلَ: اللِّزَامُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 19 / 56-57.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة الفرقان، باب: "فسوف يكون لزاما": 8 / 496، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب الدخان، برقم (2798): 4 / 2157.

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آخَرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"أُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ [اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ]"
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) }
{ طسم } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: طسم، وطس، وحم، ويس بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى التَّفْخِيمِ، وَأَظْهَرَ النُّونَ فِي يس عِنْدَ الْمِيمِ فِي "طسم": أَبُو جَعْفَرٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَخْفَاهَا الْآخَرُونَ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "طسم" عَجَزَتِ الْعُلَمَاءُ عَنْ تَفْسِيرِهَا. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَسَمٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اسْمٌ لِلسُّورَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: أَقْسَمَ اللَّهُ (1) بِطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ (2) .
__________
(1) لفظ الجلالة ساقط من "أ".
(2) تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، انظر فيما سبق: 1 / 58-59، وساق الحافظ ابن كثير الأقوال في الحروف المقطعة وخلاف العلماء في تفسيرها والحكمة التي اقتضت إيرادها، واستبعد ما لا يساعده الدليل، وقال: "وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية". انظر: تفسير ابن كثير: 1 / 36-39.

لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)

{ تِلْكَ } أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ، { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ }
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) }
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } قَاتِلٌ نَفْسَكَ، { أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } أَيْ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَذَلِكَ حِينَ كَذَّبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَ يَحْرِصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. { إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } قَالَ قَتَادَةُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ آيَةً يَذِلُّونَ بِهَا، فَلَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عُنُقَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لِأَرَاهُمْ أَمْرًا مِنْ أَمْرِهِ، لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَهُ مَعْصِيَةً.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { خَاضِعِينَ } وَلَمْ يَقُلْ خَاضِعَةً وَهِيَ صِفَةُ الْأَعْنَاقِ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ: أَحُدُهَا: أَرَادَ أَصْحَابَ الْأَعْنَاقِ، فَحَذَفَ الْأَصْحَابَ وَأَقَامَ الْأَعْنَاقَ مَقَامَهُمْ، لِأَنَّ الْأَعْنَاقَ إِذَا خَضَعَتْ فَأَرْبَابُهَا خَاضِعُونَ، فَجَعَلَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِلْأَعْنَاقِ، ثُمَّ جَعَلَ خَاضِعِينَ لِلرِّجَالِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: رَدَّ الْخُضُوعَ عَلَى الْمُضْمَرِ الَّذِي أَضَافَ الْأَعْنَاقَ إِلَيْهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: ذَكَرَ الصِّفَةَ لِمُجَاوَرَتِهَا الْمُذَكَّرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ "هُمْ" عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَذْكِيرِ الْمُؤَنَّثِ إِذَا أَضَافُوهُ إِلَى مُذَكَّرٍ، وَتَأْنِيثِ الْمُذَكَّرِ إِذَا أَضَافُوهُ إِلَى مُؤَنَّثٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ فَظَلُّوا خَاضِعِينَ فَعَبَّرَ بِالْعُنُقِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، كَقَوْلِهِ: "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ" (الْحَجِّ-10) وَ"أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" (الْإِسْرَاءِ-13) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْأَعْنَاقِ الرُّؤَسَاءَ وَالْكُبَرَاءَ، أَيْ: فَظَلَّتْ كُبَرَاؤُهُمْ خَاضِعِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَعْنَاقِ الْجَمَاعَاتِ، يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ عُنُقًا عُنُقًا، أَيْ: جَمَاعَاتٍ وَطَوَائِفَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ خَاضِعِينَ على وفاق رؤوس الْآَيِ لِيَكُونَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ (1) .
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري (19 / 62): "وأولى الأقوال في ذلك وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك: أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء. وأن يكون قوله "خاضعين" مذكرا، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق، فيكون ذلك نظير قو جرير: أرى مرَّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
وذلك أن قوله: مر، لو أسقط من الكلام لأدى ما بقي من الكلام عنه لم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه، وكذلك لو أسقطت الأعناق من قوله: "فظلت أعناقهم"، لأدى ما بقي من الكلام عنها، وذلك أن الرجال إذا ذلوا، فقد ذلت رقابهم، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا".

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) }
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ } وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ، { مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } أَيْ: مُحْدَثٍ إِنْزَالُهُ، فَهُوَ مُحْدَثٌ فِي التَّنْزِيلِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ شَيْءٍ فَهُوَ أَحْدَثُ مِنَ الْأَوَّلِ، { إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أَيْ: عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ. { فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ } أَيْ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ، { أَنْبَاءُ } أَخْبَارُ وَعَوَاقِبُ، { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } صِنْفٍ وَضَرْبٍ، { كَرِيمٍ } حَسَنٍ مِنَ النَّبَاتِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، يُقَالُ: نَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ إِذَا طَابَ حَمْلُهَا، وَنَاقَةٌ كَرِيمَةٌ إِذَا كَثُرَ لَبَنُهَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمِنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ (1) { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْتُ، { لَآيَةً } دَلَالَةً عَلَى وُجُودِي وَتَوْحِيدِي وَكَمَالِ قُدْرَتِي، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } مُصَدِّقِينَ، أَيْ: سَبْقَ عِلْمِي فِيهِمْ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: "كَانَ" هَاهُنَا صِلَةٌ، مَجَازُهُ: وَمَا أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } الْعَزِيزُ بِالنِّقْمَةِ مِنْ أَعْدَائِهِ، { الرَّحِيمُ } ذُو الرَّحْمَةِ بِأَوْلِيَائِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى حِينَ رَأَى الشَّجَرَةَ وَالنَّارَ، { أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يَعْنِي: الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَظَلَمُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاسْتِعْبَادِهِمْ وَسَوْمِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ.
__________
(1) أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. الدر المنثور: 6 / 289.

قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) }
{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } أَلَّا يَصْرِفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. { قَالَ } يَعْنِي مُوسَى، { رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } { وَيَضِيقُ صَدْرِي } مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ، { وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي } قَالَ: هَذَا لِلْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى لِسَانِهِ، قَرَأَ يَعْقُوبُ "وَيَضِيقَ"، "وَلَا يَنْطَلِقَ" بِنَصْبِ الْقَافَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَأَنْ يَضِيقَ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِرَفْعِهِمَا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: "إِنِّي أَخَافُ"، { فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } لِيُؤَازِرَنِي وَيُظَاهِرَنِي عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } أَيْ: دَعْوَى ذَنْبٍ، وَهُوَ قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ، { فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } أَيْ: يَقْتُلُونَنِي بِهِ. { قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى، { كَلًّا } أَيْ: لَنْ يَقْتُلُوكَ، { فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } سَامِعُونَ مَا يَقُولُونَ، ذَكَرَ "مَعَكُمْ" بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُمَا اثْنَانِ، أَجْرَاهُمَا مَجْرَى الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَعَكُمَا وَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسْمَعُ مَا يُجِيبُكُمْ فِرْعَوْنُ. { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَلَمْ يَقُلْ: رَسُولَا رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ الرِّسَالَةَ، أَيْ: أَنَا ذُو رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ: لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا بُحْثُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ (1)
أَيْ: بِالرِّسَالَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بِمَعْنَى الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا رَسُولِي وَوَكِيلِي وَهَذَانِ وَهَؤُلَاءِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ" (الْكَهْفِ-50) ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) { أَنْ أَرْسِلْ } أَيْ: بِأَنْ أَرْسِلْ، { مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } إِلَى فِلَسْطِينَ، وَلَا تَسْتَعْبِدْهُمْ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ اسْتَعْبَدَهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى مِصْرَ وَهَارُونُ بِهَا فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ.
__________
(1) البيت هذا لكثير عزة، وقد استشهد به الطبري: 19 / 65، وأبو عبيدة: 2 / 84، وابن منظور في اللسان، مادة "رسل".
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 8.

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)

وَفِي الْقِصَّةِ (1) أَنْ مُوسَى رَجَعَ إِلَى مِصْرَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَفِي يَدِهِ عَصَا، وَالْمِكْتَلُ مُعَلَّقٌ فِي رَأْسِ الْعَصَا، وَفِيهِ زَادُهُ، فَدَخَلَ دَارَ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ هَارُونَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَرْسَلَنِي إِلَيْكَ حِينَ تَدْعُو فِرْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ، فخرجت أمهما 49/ب وَصَاحَتْ وَقَالَتْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ يَطْلُبُكَ لِيَقْتُلَكَ فَلَوْ ذَهَبْتُمَا إِلَيْهِ قَتَلَكُمَا فَلَمْ يَمْتَنِعْ مُوسَى لِقَوْلِهَا، وَذَهَبَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ لَيْلًا وَدَقَّا الْبَابَ، ففزع البوَّابون وقال مَنْ بِالْبَابِ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ اطَّلَعَ الْبَوَّابُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ مُوسَى: أَنَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَذَهَبَ الْبَوَّابُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَالَ: إِنَّ مَجْنُونًا بِالْبَابِ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَتُرِكَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَعَاهُمَا. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا انْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَدَخْلَ الْبَوَّابُ فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ: هَاهُنَا إِنْسَانٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَأَدَّيَا رِسَالَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَعَرَفَ فِرْعَوْنُ مُوسَى؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ فِي بَيْتِهِ.
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) }
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 292.

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)

{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) }
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } صَبِيًّا، { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } وَهُوَ ثَلَاثُونَ سَنَةً. { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } يَعْنِي: قَتْلَ الْقِبْطِيِّ، { وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِإِلَهِكَ وَكُنْتَ عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ"، أَيْ: مِنَ الْجَاحِدِينَ لِنِعْمَتِي وَحَقِّ تَرْبِيَتِي، يَقُولُ رَبَّيْنَاكَ فِينَا فَكَافَأْتَنَا أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا نَفْسًا، وَكَفَرْتَ بِنِعْمَتِنَا. وَهَذَا رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا الْكُفْرُ بِالرُّبُوبِيَّةِ (1) . { قَالَ } مُوسَى، { فَعَلْتُهَا إِذًا } أَيْ: فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ حِينَئِذٍ، { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أَيْ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، أَيْ لَمْ يَأْتِنِي مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ (2) . وَقِيلَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُخْطِئِينَ.
__________
(1) وهو ما رجحه الطبري: 19 / 66، فتأويل الكلام إذن: وقتلت الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا عليك، وإحساننا إليك في قتلك إياه. وقد قيل: معنى ذلك: وأنت الآن من الكافرين لنعمتي عليك، وتربيتي إياك.
(2) اعتمده الطبري ولم يذكر غيره: 19 / 67.

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) }
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } إِلَى مَدْيَنَ، { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا } يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ، { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا: فَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ. فَمَنْ قَالَ هُوَ إِقْرَارٌ، قَالَ عَدَّهَا مُوسَى نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِ حَيْثُ رَبَّاهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ كَمَا قَتَلَ سَائِرَ غِلْمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَسْتَعْبِدْهُ كَمَا اسْتَعْبَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَجَازُهُ: بَلَى وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَلِيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَرَكْتَنِي فَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي. وَمَنْ قَالَ: هُوَ إِنْكَارٌ قَالَ قَوْلُهُ: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ" هُوَ عَلَى طَرِيقِ (1) الاستفهام، أي: أو تلك نِعْمَةٌ؟ حُذِفَ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ: "أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ-34) ؟ قَالَ الشَّاعِرُ (2) تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَوْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا يَضُرُّكَ لَوْ تَنْتَظِرْ?
أَيْ: أَتَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَمْ أَنْسَ يومَ الرَّحِيلِ وِفقَتَها ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلُهَا وَالرِّكَابُ وَاقِفَةٌ ... تَتْرُكُنِي هَكَذَا وَتَنْطَلِقُ?
أَيْ: أَتَتْرُكُنِي، يَقُولُ: تَمُنُّ عَلَيَّ أَنْ رَبَّيْتَنِي، وَتَنْسَى جِنَايَتَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاسْتِعْبَادِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْقَبِيحَةِ؟. أَوْ يُرِيدُ: كَيْفَ تَمُنُّ عَلَيَّ بِالتَّرْبِيَةِ وَقَدِ اسْتَعْبَدْتَ قَوْمِي، وَمَنْ أُهِينَ قَوْمُهُ ذُلَّ، فَتَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَحْبَطَ إِحْسَانَكَ إِلَيَّ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَمُنُّ عَلَيَّ بِالتَّرْبِيَةِ. وَقَوْلُهُ: { أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أَيْ: بِاسْتِعْبَادِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتْلِكَ أَوْلَادَهُمْ، دُفِعْتُ إِلَيْكَ حَتَّى رَبَّيْتَنِي وَكَفَلْتَنِي وَلَوْ لَمْ تَسْتَعْبِدْهُمْ وَتَقْتُلْهُمْ كَانَ لِي مِنْ أَهْلِي مَنْ يُرَبِّينِي وَلَمْ يُلْقُونِي فِي الْيَمِّ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ؟ قَوْلُهُ: { عَبَّدْتَ } أَيْ: اتَّخَذْتَهُمْ عَبِيدًا، يُقَالُ: عَبَّدْتُ فُلَانًا، وَأَعْبَدْتُهُ، وَتَعَبَّدْتُهُ، وَاسْتَعْبَدْتُهُ، أَيْ: اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا.
__________
(1) ساقط من"ب".
(2) هو امرؤ القيس، والبيت في الطبري: 16 / 69.

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) }
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُهُ إِلَيَّ؟ يَسْتَوْصِفُهُ إِلَهَهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ بِـ "مَا"، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ جِنْسِ الشَّيْءِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِنْسِيَّةِ، فَأَجَابَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذِكْرِ أَفْعَالِهِ الَّتِي يَعْجِزُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا. { قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } إِنَّهُ خَالِقُهُمَا. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَيْ كَمَا تُوقِنُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُعَايِنُونَهَا فَأَيْقِنُوا أَنَّ إِلَهَ الْخَلْقِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا قَالَ مُوسَى ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِرْعَوْنُ فِي جَوَابِ مُوسَى. { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ } مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عباس: كانوا خمس مائة رَجُلٍ عَلَيْهِمُ الْأَسْوِرَةُ، قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ اسْتِبْعَادًا لِقَوْلِ مُوسَى: { أَلَا تَسْتَمِعُونَ } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُلُوكُهُمْ. فَزَادَهُمْ مُوسَى فِي الْبَيَانِ. { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { قَالَ } يَعْنِي: فِرْعَوْنَ: { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا نَعْقِلُهُ وَلَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُونَ لَيْسَ بِعَاقِلٍ، فَزَادَ مُوسَى فِي الْبَيَانِ: { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } { قَالَ } فِرْعَوْنُ -حِينَ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ وَانْقَطَعَ عَنِ الْجَوَابِ-تَكَبُّرًا عَنِ الْحَقِّ: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } مِنَ الْمَحْبُوسِينَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ سِجْنُهُ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الرَّجُلَ فَيَطْرَحُهُ فِي مَكَانٍ وَحْدَهُ فَرْدًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبَصِرُ فِيهِ شَيْئًا، يَهْوِي بِهِ فِي الْأَرْضِ. { قَالَ } لَهُ مُوسَى حِينَ تَوَعَّدَهُ بِالسِّجْنِ: { أَوَلَوْ جِئْتُكَ } أَيْ: وَإِنْ جِئْتُكَ، { بِشَيْءٍ مُبِينٍ } بِآيَةٍ مُبِينَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِنْ أَتَيْتُكَ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُوسَى لِأَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ السُّكُونَ إِلَى الْإِنْصَافِ وَالْإِجَابَةَ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ.

قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

{ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) }

لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)

{ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) }
{ قَالَ } لَهُ فِرْعَوْنُ، { فَأْتِ بِهِ } فَإِنَّا لَنْ نَسْجُنَكَ حِينَئِذٍ، { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } فَقَالَ: وَهَلْ غَيَّرَهَا؟. { وَنَزَعَ } مُوسَى ، { يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } { قَالَ } فِرْعَوْنُ { لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكِمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } ؟ { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } . { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } . { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَافَقَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ السَّبْتِ، فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ. { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ } 50/أ لِتَنْظُرُوا إِلَى مَا يَفْعَلُ الْفَرِيقَانِ وَلِمَنْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ؟ { لَعَلَّنَا } لِكَيْ، { نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } لِمُوسَى، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَرَادُوا بِالسَّحَرَةِ مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا. { فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } . { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } . { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } .

فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)

{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) }
{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } . { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } . { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } . { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } . { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } . { قَالُوا لَا ضَيْرَ } لَا ضَرَرَ، { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا. { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } يَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِيَحُولُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى: أَنِ اجْمَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّ أَرْبَعَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ اذْبَحُوا أَوْلَادَ الضَّأْنِ، فَاضْرِبُوا بِدِمَائِهَا عَلَى أَبْوَابِكُمْ، فَإِنِّي سَآمُرُ الْمَلَائِكَةَ فَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا عَلَى بَابِهِ دَمٌ، وَسَآمُرُهَا فَتَقْتُلُ أَبْكَارَ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ اخْبِزُوا خُبْزًا فَطِيرًا فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لَكُمْ ثُمَّ أَسْرِ بِعِبَادِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْبَحْرِ، فَيَأْتِيَكَ أَمْرِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ فِرْعَوْنُ: هَذَا عَمَلُ مُوسَى وَقَوْمِهِ، قَتَلُوا أَبْكَارَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخَذُوا أَمْوَالَنَا. فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِ أَلْفَ أَلْفٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ مَلِكٍ مُسَوَّرٍ مَعَ كُلِّ مَلِكٍ أَلْفٌ، وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي الْكُرْسِيِّ الْعَظِيمِ (1) .
__________
(1) انظر: الطبري: 19 / 76، الدر المنثور: 6 / 294.

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)

{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) }
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } يَحْشُرُونَ النَّاسَ يَعْنِي: الشُّرَطَ لِيَجْمَعُوا السَّحَرَةَ. وَقِيلَ: حَتَّى يَجْمَعُوا لَهُ الْجَيْشَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَلْفُ مَدِينَةٍ وَاثْنَا عَشْرَةَ أَلْفَ قَرْيَةٍ. وَقَالَ لَهُمْ: { إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ } عِصَابَةٌ { قَلِيلُونَ } وَالشِّرْذِمَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ غَيْرِ الْكَثِيرِ، وَجَمْعُهَا شَرَاذِمُ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَتِ الشِّرْذِمَةُ الَّذِينَ قَلَّلَهُمْ فِرْعَوْنُ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانُوا سِتَّمِائَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ. (1) . { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } يُقَالُ: غَاظَهُ وَأَغَاظَهُ وَغَيَّظَهُ إِذَا أَغْضَبَهُ، وَالْغَيْظُ وَالْغَضَبُ وَاحِدٌ، يَقُولُ: أَغْضَبُونَا بِمُخَالَفَتِهِمْ دِينَنَا وَقَتْلِهِمْ أَبْكَارَنَا وَذَهَابِهِمْ بِأَمْوَالِنَا الَّتِي اسْتَعَارُوهَا، وَخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِنَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَّا. { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ: "حَذِرُونَ" وَ"فَرِهِينَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "حَاذِرُونَ" وَ"فَارِهِينَ" بِالْأَلِفِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: حَاذِرُونَ، أَيْ: مُؤْدُونَ وَمُقْوُونَ، أَيْ: ذَوُو أَدَاةٍ وَقُوَّةٍ مُسْتَعِدُّونَ شَاكُونَ فِي السلاح (2) ومعنى "حذرون" أَيْ: خَائِفُونَ شَرَّهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: "الْحَاذِرُ": الْمُسْتَعِدُّ، وَ"الْحَذِرُ": الْمُتَيَقِّظُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "الْحَاذِرُ": الَّذِي يَحْذَرُكَ الْآنَ، وَ"الْحَذِرُ": الْمُخَوِّفُ. وَكَذَلِكَ لَا تَلْقَاهُ إِلَّا حَذِرًا، وَالْحَذَرُ: اجْتِنَابُ الشَّيْءِ خَوْفًا مِنْهُ. { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ } وَفِي الْقِصَّةِ: الْبَسَاتِينُ كَانَتْ مُمْتَدَّةً عَلَى حَافَّتَيِ النِّيلِ، { وَعُيُونٍ } أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ. { وَكُنُوزٍ } يَعْنِي الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهَا كُنُوزًا لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا، وَمَا لَمْ يُعْطَ حَقُّ اللَّهِ مِنْهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، قِيلَ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ غُلَامٍ، كُلُّ غُلَامٍ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ، فِي عُنُقِ كُلِّ فَرَسٍ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } أَيْ: مَجْلِسٍ حَسَنٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ مَجَالِسَ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ الَّتِي كَانَتْ تَحُفُّهَا الْأَتْبَاعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ
__________
(1) الطبري: 19 / 76، زاد المسير: 6 / 125، معاني القرآن للنحاس: 5 / 79.
(2) انظر: معاني القرآن للنحاس: 5 / 80.

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)

بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الْمَنَابِرُ (1) . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ يَجْلِسُ عَلَيْهَا الْأَشْرَافُ عَلَيْهِمُ الْأَقْبِيَةُ مِنَ الدِّيبَاجِ مَخُوصَةٌ بِالذَّهَبِ.
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) }
__________
(1) معاني القرآن الكريم للنحاس: 5 / 82، الدر المنثور: 6 / 298.

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)

{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) }
{ كَذَلِكَ } كَمَا وَصَفْنَا، { وَأَوْرَثْنَاهَا } بِهَلَاكِهِمْ، { بَنِي إِسْرَائِيلَ } وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إلى مصر بعدما أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَأَعْطَاهُمْ جَمِيعَ مَا كَانَ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَسَاكِنِ. { فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } أَيْ: لَحِقُوهُمْ فِي وَقْتِ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، وَهُوَ إِضَاءَتُهَا، أَيْ: أَدْرَكَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَأَصْحَابَهُ وَقْتَ شُرُوقِ الشَّمْسِ. { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } أَيْ: تَقَابَلَا بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ صَاحِبَهُ، وَكَسَرَ حَمْزَةُ الرَّاءَ مِنْ "تَرَاءَى" وَفَتَحَهَا الْآخَرُونَ. { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } أَيْ: سَيُدْرِكُنَا قَوْمُ فِرْعَوْنَ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. { قَالَ } مُوسَى ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ: { كَلًّا } لَنْ يُدْرِكُونَا، { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ. { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ } أَيْ: فَضَرَبَهُ "فَانْفَلَقَ" فَانْشَقَّ، { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ } قِطْعَةٌ مِنَ الْمَاءِ، { كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } كَالْجَبَلِ الضَّخْمِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ (1) لَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ هَاجَتِ الرِّيحُ، وَالْبَحْرُ يَرْمِي بِمَوْجٍ مِثْلِ الْجِبَالِ، فَقَالَ يُوشَعُ: يَا مُكَلِّمَ اللَّهِ أَيْنَ أُمِرْتَ فَقَدْ غَشِيَنَا فِرْعَوْنُ وَالْبَحْرُ أَمَامَنَا؟ قَالَ مُوسَى: هَاهُنَا، فَخَاضَ يُوشَعُ الْمَاءَ وَجَازَ الْبَحْرَ، مَا يُوَارِي حَافِرَ دَابَّتِهِ الْمَاءُ. وَقَالَ الَّذِي يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: يَا مُكَلِّمَ اللَّهِ أَيْنَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: هَاهُنَا، فَكَبَحَ فَرَسَهُ بِلِجَامِهِ حَتَّى طَارَ الزَّبَدُ مِنْ شِدْقَيْهِ، ثُمَّ أُقْحَمَهُ الْبَحْرُ، فَارْتَسَبَ فِي الْمَاءِ، وَذَهَبَ الْقَوْمُ يَصْنَعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَجَعَلَ مُوسَى لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ، فَإِذَا الرَّجُلُ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ لَمْ يَبْتَلَّ سَرْجُهُ وَلَا لِبْدُهُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 19 / 80.

وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)

{ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) }
50/ب { وَأَزْلَفْنَا } يَعْنِي: وَقَرَّبْنَا { ثَمَّ الْآخَرِينَ } يَعْنِي: قَوْمَ فِرْعَوْنَ، يَقُولُ: قَدَّمْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَرَّبْنَاهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "وَأَزْلَفْنَا": جَمَعْنَا، وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ أَيْ: لَيْلَةُ الْجَمْعِ. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ يَسُوقُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ سِيَاقَةً مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَ يَزَعُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ زَعَةً مِنْ هَذَا (1) . { وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ } . { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الْبَحْرُ سَاكِنًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا ضَرَبَهُ مُوسَى بِالْعَصَا اضْطَرَبَ فَجَعَلَ يَمُدُّ وَيَجْزُرُ. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قِيلَ: لَمْ يَكُنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَحَزْبِيلُ الْمُؤْمِنُ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ نَاقُوسَا الَّتِي دَلَّتْ عَلَى عِظَامِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } الْعَزِيزُ فِي الِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَنْجَاهُمْ. قَوْلُهُ: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } . قَوْلُهُ: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } أَيُّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ؟. { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أَيْ: نُقِيمُ عَلَى عِبَادَتِهَا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا قَالَ: { فَنَظَلُّ } لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِالنَّهَارِ، دُونَ اللَّيْلِ، يُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَ بِالنَّهَارِ. { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } أَيْ: هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ، { إِذْ تَدْعُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْمَعُونَ لَكُمْ. { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ } قِيلَ بِالرِّزْقِ، { أَوْ يَضُرُّونَ } إِنْ تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهَا.
__________
(1) أخرجه ابن عبد الحكم وعبد بن حميد عن مجاهد: انظر: الدر المنثور: 6 / 304.

قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)

{ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) }
{ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } مَعْنَاهُ: إِنَّهَا لَا تَسْمَعُ قَوْلًا وَلَا تَجْلِبُ نَفْعًا، وَلَا تَدْفَعُ ضَرًّا، لَكِنِ اقْتَدَيْنَا بِآبَائِنَا. فِيهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ. { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } الْأَوَّلُونَ. { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } أَيْ: أَعْدَاءٌ لِي، وَوَحَّدَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ لَكُمْ عَدُوٌّ لِي. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَصَفَ الْأَصْنَامَ بِالْعَدَاوَةِ وَهِيَ جَمَادَاتٌ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لَوْ عَبَدْتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) كَمَا قَالَ تَعَالَى: "سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا" (مَرْيَمَ-82) . وَقَالَ الْفَرَّاءُ (2) هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَرَادَ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ عَادَيْتَهُ فَقَدْ عَادَاكَ. وَقِيلَ: "فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي" عَلَى مَعْنَى إِنِّي لَا أَتَوَلَّاهُمْ وَلَا أَطْلُبُ مِنْ جِهَتِهِمْ نَفْعًا، كَمَا لَا يُتَوَلَّى الْعَدُوُّ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْ جِهَتِهِ النَّفْعُ.
قَوْلُهُ: { إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَلِيِّي (3) . وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كُلُّ مَنْ تَعْبُدُونَ أَعْدَائِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (4) . وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مَعْبُودٍ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَإِنِّي أَعْبُدُهُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ عَبَدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ وَصَفَ مَعْبُودَهُ فَقَالَ: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } أَيْ: يُرْشِدُنِي إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ. { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي: يرزقني ويغذني بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهُوَ رَازِقِي وَمِنْ عِنْدِهِ رِزْقِي.
__________
(1) جعله النحاس من أصح ما قيل في معنى الآية. معاني القرآن: 5 / 87، الطبري: 19 / 84.
(2) معاني القرآن للفراء: 2 / 281، ورده أبو حيان في البحر: 7 / 24.
(3) وهو قول أكثر النحويين: انظر: البحر المحيط: 7 / 24، معاني القرآن للنحاس: 5 / 86، زاد المسير: 6 / 128.
(4) قاله ابن زيد، زاد المسير: 6 / 128.

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)

{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) }

وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)

{ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) }
{ وَإِذَا مَرِضْتُ } أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ وَالشِّفَاءُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ، اسْتِعْمَالًا لِحُسْنِ الْأَدَبِ كَمَا قَالَ الْخَضِرُ: "فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا" (الْكَهْفِ-79) ، وَقَالَ: "فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا" (الْكَهْفِ-82 ) . { فَهُوَ يَشْفِينِ } أَيْ: يُبْرِئُنِي مِنَ الْمَرَضِ. { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } أَدْخَلَ "ثُمَّ" هَاهُنَا لِلتَّرَاخِي، أَيْ: يُمِيتُنِي فِي الدُّنْيَا وَيُحْيِينِي فِي الْآخِرَةِ. { وَالَّذِي أَطْمَعُ } أَيْ: أَرْجُو، { أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } أَيْ: خَطَايَايَ يَوْمَ الْحِسَابِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُهُ: "إِنِّي سَقِيمٌ"، وَقَوْلُهُ: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا"، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: "هَذِهِ أُخْتِي"، وَزَادَ الْحَسَنُ وَقَوْلُهُ لِلْكَوَاكِبِ: "هَذَا رَبِّي". وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ابْنُ جُدْعَانَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: "لَا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا، رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" (1) وَهَذَا كُلُّهُ احْتِجَاجٌ مَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، وَإِخْبَارٌ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ مَنْ لَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ. { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْرِفَةُ حُدُودِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: النُّبُوَّةُ (2) { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } بِمَنْ قَبْلِي مِنَ النَّبِيِّينَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ. { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } أَيْ: ثَنَاءً حَسَنًا، وَذِكْرًا جَمِيلًا وَقَبُولًا عَامًّا فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَجِيءُ بَعْدِي، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، فَجُعِلَ كُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: وُضِعَ اللِّسَانُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ بِهِ. { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } أَيْ: مِمَّنْ تُعْطِيهِ جَنَّةَ النَّعِيمِ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل، برقم (214): 1 / 196.
(2) اعتمده الطبري ولم يذكر غيره، وهو مروي أيضا عن ابن عباس وانظر الأقوال في: زاد المسير: 6 / 130.

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)

{ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) }
{ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } وَقَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أنه عدو الله، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ. { وَلَا تُخْزِنِي } لَا تَفْضَحْنِي، { يَوْمَ يُبْعَثُونَ } { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أَيْ: خَالِصٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ (1) فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مَرِيضٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" (الْبَقَرَةِ-10) ، قَالَ ابْنُ عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: هُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ عَلَى السُّنَّةِ (2) . { وَأُزْلِفَتِ } قَرَّبَتْ { الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } { وَبُرِّزَتِ } أَظْهَرَتْ، { الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } لِلْكَافِرِينَ. { وَقِيلَ لَهُمْ } يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ } يمنعونكم 51/أ مِنَ الْعَذَابِ، { أَوْ يَنْتَصِرُونَ } لِأَنْفُسِهِمْ. { فَكُبْكِبُوا فِيهَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دُهْوِرُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قُذِفُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أُلْقُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ. { هُمْ وَالْغَاوُونَ } يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ، قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَفَرَةُ الْجِنِّ. { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } وَهُمْ أَتْبَاعُهُ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَيُقَالُ: ذُرِّيَّتُهُ. { قَالُوا } أَيْ: قَالَ الْغَاوُونَ لِلشَّيَاطِينِ وَالْمَعْبُودِينَ، { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } مَعَ الْمَعْبُودِينَ وَيُجَادِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
__________
(1) انظر: الطبري: 19 / 87، معاني القرآن للنحاس: 5 / 88.
(2) نقل ذلك كله ابن كثير في تفسيره: 3 / 341. وانظر: زاد المسير: 6 / 130.

تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)

{ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) }
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } . { إِذْ نُسَوِّيكُمْ } نَعْدِلُكُمْ، { بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } فَنَعْبُدُكُمْ. { وَمَا أَضَلَّنَا } أَيْ: مَا دَعَانَا إِلَى الضَّلَالِ، { إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الشَّيَاطِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا أَوَّلُونَا الَّذِينَ اقْتَدَيْنَا بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ: يَعْنِي: إِبْلِيسَ، وَابْنَ آدَمَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ قَابِيلُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَأَنْوَاعَ الْمَعَاصِي. { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } أَيْ: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. { وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أَيْ: قَرِيبٍ يَشْفَعُ لَنَا، يَقُولُهُ الْكُفَّارُ حِينَ تُشَفَّعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالصَّدِيقُ هُوَ الصَّادِقُ فِي الْمَوَدَّةِ بِشَرْطِ الدِّينِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْيَقْطِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَزِيدُ الْعَقِيلِيُّ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنِ الرَّجُلَ لَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ مَا فَعَلَ صَدِيقِي فَلَانٌ، وَصَدِيقُهُ فِي الْجَحِيمِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ مَنْ بَقِيَ: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ" (1) قَالَ الْحَسَنُ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ لَهُمْ شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً }أَيْ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا، { فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، فَاللَّهُ عَزِيزٌ، وَهُوَ فِي وَصْفِ عِزَّتِهِ رَحِيمٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } وَ{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } وَ{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ } وَإِنَّمَا
__________
(1) ذكر القرطبي في التفسير: 13 / 118، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وغيرها، وساقه المصنف بإسناده من طريق الثعلبي، وفيه جهالة من سمع ابا الزبير.

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)

أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ وَاحِدٌ؟ قَالَ: إِنِ الْآخَرَ جَاءَ بِمَا جَاءَ الْأَوَّلُ، فَإِذَا كَذَّبُوا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ.
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) }

قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)

{ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) }
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ } فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ. { نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ } { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } عَلَى الْوَحْيِ. { فَاتَّقُوا اللَّهَ } بِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، { وَأَطِيعُونِ } فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ } ثَوَابِيَ، { إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } . { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } قَرَأَ يَعْقُوبُ: "وَأَتْبَاعُكَ الْأَرْذَلُونَ" السَّفَلَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّاغَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْحَاكَةُ وَالْأَسَاكِفَةُ. { قَالَ } نُوحٌ، { وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أَيْ: مَا أَعْلَمُ أَعْمَالَهُمْ وَصَنَائِعَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ دَنَاءَةِ مَكَاسِبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ إِنَّمَا كُلِّفْتُ أَنْ أَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلِي مِنْهُمْ ظَاهِرُ أَمْرِهِمْ. { إِنْ حِسَابُهُمْ } مَا حِسَابُهُمْ، { إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَا عِبْتُمُوهُمْ بِصَنَائِعِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الصِّنَاعَاتُ لَا تَضُرُّ فِي الدِّيَانَاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَيْ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ وَيُضِلُّكُمْ وَيُوَفِّقُهُمْ وَيَخْذُلُكُمْ. { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } . { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ } عَمَّا تَقُولُ، { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: مِنَ الْمَقْتُولِينَ بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مِنَ الْمَشْتُومِينَ.

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)

{ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) }
{ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ } فَاحْكُمْ، { بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا } حُكْمًا، { وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } الْمُوَقَّرِ الْمَمْلُوءِ مِنَ النَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ كُلِّهَا. { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } أَيْ: أَغْرَقْنَا بَعْدَ إِنْجَاءِ نُوحٍ، وَأَهْلِهِ: مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ } يَعْنِي فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، { أَلَّا تَتَّقُونَ } { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } عَلَى الرِّسَالَةِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَمِينٌ فِيكُمْ قَبْلَ الرسالة، فكيف تتهموني الْيَوْمَ؟. { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ } قَالَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: بِكُلِّ شَرَفٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنَّهُ الْمَنْظَرَةُ. { آيَةً } أَيْ: عَلَامَةً، { تَعْبَثُونَ } بِمَنْ مَرَّ بِالطَّرِيقِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْنُونَ الْمَوَاضِعَ الْمُرْتَفِعَةَ لِيُشْرِفُوا عَلَى الْمَارَّةِ وَالسَّابِلَةِ فَيَسْخَرُوا مِنْهُمْ وَيَعْبَثُوا بِهِمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ: هَذَا فِي بُرُوجِ الْحَمَامِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هُودٌ اتِّخَاذَهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: { تَعْبَثُونَ } أَيْ: تَلْعَبُونَ، وَهُمْ كَانُوا

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)

يَلْعَبُونَ بِالْحَمَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ (1)
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) }
__________
(1) انظر هذه الأقوال في الطبري: 19 / 93-94، زاد المسير: 6 / 135-136، وقال ابن كثير: (3 / 342): "اختلف المفسرون في "الريع" بما حاصله: أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا، ولهذا قال: "أتبنون بكل ريع آية" أي: معلما بناء مشهورا، "تعبثون" أي: وإنما تفعلون ذلك عبثا، لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك، لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان، في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة ".

إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)

{ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) }
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْنِيَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُصُورًا مُشَيَّدَةً. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّهَا الْحُصُونُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَآخِذُ الْمَاءِ، يَعْنِي الْحِيَاضَ، وَاحِدَتُهَا مَصْنَعَةٌ (1) { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أَيْ: كَأَنَّكُمْ تَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَوْثِقُونَ الْمَصَانِعَ كَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ. { وَإِذَا بَطَشْتُمْ } أَخَذْتُمْ وَسَطَوْتُمْ، { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } قَتْلًا بِالسَّيْفِ وَضَرْبًا بِالسَّوْطِ، "وَالْجَبَّارُ": الَّذِي يَقْتُلُ وَيَضْرِبُ عَلَى الْغَضَبِ. { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } . { وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } أَيْ: أَعْطَاكُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا تَعْلَمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعْطَاهُمْ فَقَالَ: { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ } { وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أَيْ: بساتين وأنهار. 51/ب { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ عَصَيْتُمُونِي، { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا } أَيْ: مُسْتَوٍ عِنْدَنَا، { أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } الْوَعْظُ كَلَامٌ يُلِينُ الْقَلْبَ بِذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَهَيْتَنَا أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ النَّاهِينَ لَنَا. { إِنْ هَذَا } مَا هَذَا، { إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ: "خَلْقُ" بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، أَيْ: اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ وَكَذِبُهُمْ دَلِيلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ
__________
(1) قال الطبري: (19 / 95-96): "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن المصانع جمع مصنعة، والعرب تسمي كل بناء مصنعة، وجائز أن يكون ذلك البناء كان قصورا، وحصونا مشيدة، وجائز أن يكون كان مآخذ للماء، ولا خبر يقطع العذر بأي ذلك كان، ولا هو مما يدرك من جهة العقل. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله: إنهم كانوا يتخذون مصانع".

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)

تَعَالَى: "وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا"( الْعَنْكَبُوتِ-17 ) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "خُلُقُ" بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، أَيْ: عَادَةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ مَا عَاشُوا ثُمَّ يَمُوتُونَ وَلَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ.
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) }
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا } أَيْ: فِي الدُّنْيَا { آمِنِينَ } مِنَ الْعَذَابِ. { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا } ثَمَرُهَا، يُرِيدُ مَا يَطْلُعُ مِنْهَا مِنَ الثَّمَرِ، { هَضِيمٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطِيفٌ، وَمِنْهُ: هَضِيمُ الْكَشْحِ، إِذَا كَانَ لَطِيفًا. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْهُ: يَانِعٌ نَضِيجٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اللَّيِّنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّخْوُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُتَهَشِّمٌ مُتَفَتِّتٌ إِذَا مُسَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا دَامَ رَطْبًا فَهُوَ هَضِيمٌ، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ هَشِيمٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: قَدْ رَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا [حَتَّى هَضَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا] (1) أَيْ: كَسَرَهُ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ الْمُنْضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي وِعَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْهَضِيمُ هُوَ الدَّاخِلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ مِنَ النُّضْجِ وَالنُّعُومَةِ. وَقِيلَ: هَضِيمٌ أَيْ: هَاضِمٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ. وَكُلُّ هَذَا لِلَطَافَتِهِ (2) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ذكر هذه الأقوال؛ الطبري: 19 / 99-100، ابن الجوزي: 6 / 138، القرطبي: 13 / 128، وفي الآية أقوال أخرى، قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: "الهضيم": هو المتكسر من لينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتحيفه، فكذلك الهضم في الطلع، إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمس الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضا، وأصله مفعول صرف إلى فعيل".

وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) }
{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } وَقُرِئَ: "فَرِهِينَ" قِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ (1) . وَقِيلَ: فارهين أي: حادقين بِنَحْتِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ فَرِهَ الرَّجُلُ فَرَاهَةً فَهُوَ فَارِهٌ، وَمَنْ قَرَأَ "فَرِهِينَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ (2) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَاعِمِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَرِهِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: مُعْجَبِينَ بِصَنِيعِكُمْ، قَالَ السُّدِّيُّ: مُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَرِحِينَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ فَرِحِينِ. وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْحَاءِ مِثْلَ: مَدَحْتُهُ وَمَدَهْتُهُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِينَ (3) . { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ. { الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } بِالْمَعَاصِي، { وَلَا يُصْلِحُونَ } لَا يُطِيعُونَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمَسْحُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ، أَيْ: مِمَّنْ سُحِرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الْمُعَلَّلِينَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، يُقَالُ: سَحَرَهُ، أَيْ: عَلَّلَهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، يُرِيدُ: إِنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَلَسْتَ بَمَلَكٍ، بَلْ: { مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ } عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُ، { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْنَا. { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ } حَظٌّ وَنَصِيبٌ مِنَ الْمَاءِ، { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ }
__________
(1) ذهب إليه أبو عبيدة في "مجاز القرآن": 2 / 98.
(2) قال أبو جعفر النحاس في "معاني القرآن": (5 / 97): "وهذا أعرفها في اللغة، وهو قول أبي عمرو، وأبي عبيدة، فكأن الهاء مبدلة من حاء، لأنهما من حروف الحلق".
(3) قال الطبري بعد أن عرض الأقوال في تفسير القراءتين: (19 / 101) "والصواب أنهما قراءتان معروفتان، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما، في علماء القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ (فارهين): حاذقين بنحتها، متخيرين لمواضع نحتها، كيسين، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ (فارهين): مرحين أشرين، وقد يجوز أن يكون معنى: فاره وفره، واحدا..".

وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

{ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) }

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) }
{ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } بِعَقْرٍ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ } عَلَى عَقْرِهَا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ. { فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي جِمَاعَ الرِّجَالِ. { مِنَ الْعَالَمِينَ } يَعْنِي مِنْ بَنِي آدَمَ. { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَكْتُمْ أَقْبَالَ النِّسَاءِ إِلَى أَدْبَارِ الرِّجَالِ، { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } مُعْتَدُونَ، مُجَاوِزُونَ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ. { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } مِنْ قَرْيَتِنَا. { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } مِنَ الْعَمَلِ الْخَبِيثِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ } وَهِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، بَقِيَتْ فِي الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ.

ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)

{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) }

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

{ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) }
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } أَيْ: أَهْلَكْنَاكُمْ. { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: الْكِبْرِيتُ وَالنَّارُ. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَرَأَ الْعِرَاقِيُّونَ: "الْآيْكَةِ" هَاهُنَا وَفِي "ص" بِالْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "لَيْكَةَ" بِفَتْحِ اللَّامِ وَالتَّاءِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، جَعَلُوهَا اسْمَ الْبَلَدِ، وَهُوَ لَا يَنْصَرِفُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سُورَةِ "الْحِجْرِ" وَ"ق" أَنَّهُمَا مَهْمُوزَانِ مَكْسُورَانِ، وَالْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ. { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } وَلَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فِي النَّسَبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ قَالَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. { أَلَّا تَتَّقُونَ } { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَإِنَّمَا كَانَتْ دَعْوَةُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى صيغة واحدة لا تفاقهم عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ في العبادة 52/أ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } النَّاقِصِينَ لِحُقُوقِ النَّاسِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ } الْخَلِيقَةَ، { الْأَوَّلِينَ } يَعْنِي: الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ، يُقَالُ: جُبِلَ أَيْ: خُلِقَ.
{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) }
{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أَيْ: مِنْ نُقْصَانِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَلَيْسَ الْعَذَابُ إِلَيَّ وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الدَّعْوَةُ. { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْأَسْرَابَ فَإِذَا دَخَلُوهَا وَجَدُوهَا أَشَدَّ حَرًّا فَخَرَجُوا، فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ، وَهِيَ الظُّلَّةُ، فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَاحْتَرَقُوا، ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنَّهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ. { لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: "نَزَلَ" خَفِيفٌ، "الرُّوحُ الْأَمِينُ" بِرَفْعِ الْحَاءِ وَالنُّونِ، أَيْ" نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالنُّونِ أَيْ: نَزَّلَ اللَّهُ بِهِ جِبْرِيلَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ". { عَلَى قَلْبِكَ } يَا مُحَمَّدُ حَتَّى وَعَيْتَهُ، { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } الْمُخَوِّفِينَ. { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِلِسَانِ قُرَيْشٍ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهِ] (1) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)

{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) }
{ وَإِنَّهُ } أَيْ: ذِكْرُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ، { لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً } [قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "تَكُنْ" بِالتَّاءِ "آيَةٌ" بِالرَّفْعِ، جَعَلَ الْآيَةَ اسْمًا وَخَبَرُهُ: { أَنْ يَعْلَمَهُ } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، "آيَةً" ] (1) نَصْبٌ ، جَعَلُوا الْآيَةَ خَبَرَ يكن، معناه: أو لم يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ (2) عِلْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ آيَةً، أَيْ: عَلَامَةً وَدَلَالَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا يُخْبِرُونَ بِوُجُودِ ذِكْرِهِ فِي كُتُبِهِمْ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ (3) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى الْيَهُودِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَزَمَانُهُ، وَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ يَعْلَمَهُ } يعني: يعلم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } قَالَ عَطِيَّةُ: كَانُوا خَمْسَةً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَابْنُ يَامِينَ، وَثَعْلَبَةُ، وَأَسَدٌ، وَأُسَيْدٌ (5) . { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ } جَمْعُ الْأَعْجَمِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ وَلَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فِي النَّسَبِ، وَالْعَجَمِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ اللِّسَانِ. { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ } بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ، { مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } وَقَالُوا: مَا نَفْقَهُ قَوْلَكَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ" (فُصِّلَتْ-44) ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ لَمَا آمَنُوا بِهِ أَنَفَةً مِنِ اتِّبَاعِهِ. { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: أَدْخَلْنَا الشِّرْكَ وَالتَّكْذِيبَ { فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ }
__________
(1) ما بين القوسين من "أ".
(2) في "ب": المتكبرين.
(3) وهو مروي عن مجاهد: انظر: الدر المنثور: 6 / 322، الطبري: 19 / 113.
(4) انظر: زاد المسير 6 / 145.
(5) نسبه السيوطي في الدر (6 / 323) لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)

{ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) }

مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)

{ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) }
{ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ } أَيْ: بِالْقُرْآنِ، { حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } يَعْنِي: عِنْدَ الْمَوْتِ. { فَيَأْتِيَهُمْ } يَعْنِي: الْعَذَابَ، { بَغْتَةً } فَجْأَةً، { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } بِهِ فِي الدُّنْيَا. { فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ } أَيْ: لِنُؤْمِنَ وَنُصَدِّقَ، يَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ وَالنَّظِرَةَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَوْعَدَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَذَابِ، قَالُوا: إِلَى مَتَى تُوعِدُنَا بِالْعَذَابِ؟ مَتَى هَذَا الْعَذَابُ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } كَثِيرَةً فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، وَلَمْ نُهْلِكْهُمْ. { ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ } يَعْنِي: بِالْعَذَابِ. { مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } بِهِ فِي تِلْكَ السِّنِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَإِنْ طَالَ تَمَتُّعُهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا فَإِذَا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ طُولُ التَّمَتُّعِ شَيْئًا، وَيَكُونُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي نَعِيمٍ قَطُّ. { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ } رُسُلٌ يُنْذِرُونَهُمْ. { ذِكْرَى } مَحَلُّهَا نَصْبٌ، أَيْ: يُنْذِرُونَهُمْ، تَذْكِرَةً، وَقِيلَ: رَفْعٌ أَيْ: تِلْكَ ذِكْرَى، { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } فِي تَعْذِيبِهِمْ حَيْثُ قَدَّمْنَا الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ. { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ يُلْقُونَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: "وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ"، أَيْ: بِالْقُرْآنِ، الشَّيَاطِينُ. { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ } أَنْ يُنَزَّلُوا بِالْقُرْآنِ، { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ذَلِكَ. { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ } أَيْ: عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ، { لَمَعْزُولُونَ } أَيْ: مَحْجُوبُونَ بِالشُّهُبِ مَرْجُومُونَ. { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُحَذِّرُ

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)

بِهِ غَيْرَهُ، يَقُولُ: أَنْتَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيَّ وَلَوِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَعَذَّبْتُكَ.
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) }
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الْأَقْرَبِينَ فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الْأَمْرِ أَرَى مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عَلَيْهَا جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِلَّا تَفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ يُعَذِّبْكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَاجْعَلْ عَلَيْهِ رِجْلَ شَاةٍ، وَامْلَأْ لَنَا عُسًّا مِنْ لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ". قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَهُ، فيهم أعمامه 52/ب أَبُو طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ دَعَانِي بِالطَّعَامِ الَّذِي صَنَعْتُهُ فَجِئْتُ بِهِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَذْبَةً مِنَ اللَّحْمِ، فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، ثُمَّ قَالَ: "خُذُوا بِاسْمِ اللَّهِ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ حَاجَةٌ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ الْقَوْمَ" فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ. فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ: سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْغَدُ: "يَا عَلِيُّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ مِنَ الْقَوْمِ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، فَعُدَّ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ اجْمَعْهُمْ"، فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ فَدَعَانِي بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُوازِرُنِي عَلَى أَمْرِي هَذَا؟ وَيَكُونُ أَخِي وَوَصِيِّيْ وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، فَقُلْتُ -وَأَنَا أَحْدَثُهُمْ سِنًّا-أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا أَخِي وَوَصِيِّيْ وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا"، فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ، وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِعَلِيٍّ وَتُطِيعَ (1) .
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والبيهقي في "الدلائل" من طريقه من رواية ابن عباس. وأخرجه البزار وأبو نعيم في الدلائل من طريق عباد بن عبد الله الأسدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
انظر: الكافي الشاف ص (123)، وراجع تفسير ابن كثير: 3 / 315-352 فقد قال: تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، وهو متروك كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعفه الأئمة رحمهم الله.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا نَزَلَتْ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } "وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ يَا صَاحِبَاهُ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مَنْ صَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ"؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ" فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا، ثُمَّ قَامَ: فَنَزَلَتْ "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ" هَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ يَوْمَئِذٍ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيِّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } صَعِدَ النَّبِيُّ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: "يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ -لِبُطُونِ قُرَيْشٍ-حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ"، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أغنى عنه مالك وَمَا كَسَبَ" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة "تبت": 8 / 737، وفي الجنائز وفي سورة الشعراء وسبأ، وأخرجه مسلم في الإيمان، باب قوله تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، برقم (208): 1 / 193-194، والمصنف في شرح السنة: 13 / 327. قال النووي في شرح صحيح مسلم (3 / 82) عند قوله "ورهطك منهم المخلصين": "هو بفتح اللام، فظاهر هذه العبارة أن قوله: ورهطك منهم المخلصين، كان قرآنا أنزل ثم نسخت تلاوته، ولم تقع هذه الزيادة في روايات البخاري". قلت: بل هي في رواية البخاري في الموضع السابق من التفسير: 8 / 737 من رواية أبي أسامة عن الأعمش. وقال ابن حجر: "هذه الزيادة وصلها الطبري من وجه آخر عن عمرو بن مرة أنه كان يقرؤها كذلك. قال القرطبي: لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها، ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن؟! والجواب عن ذلك: أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، فقوله: "وأنذر عشيرتك" عام فيمن آمن منهم ومن لم يؤمن، ثم عطف عليه الرهط المخلصين تنويها بهم وتأكيدا".
انظر: فتح الباري: 8 / 502، تفسير القرطبي: 13 / 143. وأما قراءة "وقد تب" كما في الرواية، فقال عنها ابن حجر في الفتح: (8 / 503): "وليست هذه القرءاة فيما نقل القراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا لا قارئا، ويؤيده قوله في هذا السياق: "يومئذ" فإنه يشعر بأنه كان لا يستمر على قراءتها كذلك، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده". وقال البدر العيني في عمدة القاري: (20 / 7): وقوله: "ورهطك منهم المخلصين" إما تفسير لقوله: "عشيرتك" وإما قراءة شاذة رواها. قال الإسماعيلي: قرأها ابن عباس".
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة الشعراء، باب: "وأنذر عشيرتك الأقربين": 8 / 501، وفي سورة تبت: 8 / 737، ومسلم في الإيمان : 1 / 194، ولم يذكر الأعمش نزول الآية في الرواية.

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)

{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عبد الرحمن، أنا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنِي جَدِّي أَبُو سَهْلِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، وَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُخَوِّفَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إِنَّهُمْ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِيَ حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ فِي الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ، فَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ نُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نُمْدِدْكَ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، ثُمَّ قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: إِمَامٌ مُقْسِطٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ غَنِيٌّ مُتَصَدِّقٌ، وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تبعٌ لا يتبعون بِذَلِكَ أَهْلًا وَلَا مَالًا وَرَجُلٌ إِنْ أَصْبَحَ أَصْبَحَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكِ وَمَالِكَ، وَرَجُلٌ لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ -وَإِنْ دَقَّ-إِلَّا ذَهَبَ بِهِ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَاحِشُ. قَالَ: وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ" (2) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة "تبت": 8 / 501-502، وفي الوصايا وفي الأنبياء، ومسلم في الإيمان: 1 / 192-193، والمصنف في شرح السنة: 13 / 329.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ضمن روايته لكتاب "الجامع" للإمام معمر بن راشد: 11 / 120-121، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865): 4 / 2197-2198، والمصنف في شرح السنة: 14 / 407-408.

فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

{ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) }
{ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } مِنَ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ . { وَتَوَكَّلْ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّامِ: "فَتَوَكَّلْ" بِالْفَاءِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْوَاوِ "وَتَوَكَّلْ"، { عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } لِيَكْفِيَكَ كَيْدَ الْأَعْدَاءِ. { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } إلى صلاتك، 53/أ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي يَرَاكَ أَيْنَمَا كُنْتَ. وَقِيلَ: حِينَ تَقُومُ لِدُعَائِهِمْ. { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } أَيْ: يَرَى تَقَلُّبَكَ فِي صَلَاتِكَ فِي حَالِ قِيَامِكَ وَرُكُوعِكَ وَسُجُودِكَ وَقُعُودِكَ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي السَّاجِدِينَ أَيْ: فِي الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: أَيْ مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْجَمَاعَةِ، يَقُولُ: يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَحْدَكَ لِلصَّلَاةِ وَيَرَاكَ إِذَا صَلَّيْتَ مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَرَى تَقَلُّبَ بَصَرِكَ فِي الْمُصَلِّينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبْصِرُ مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يُبْصِرُ مِنْ أَمَامِهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي" (1) وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ" أَيْ: تَصَرُّفَكَ وَذَهَابَكَ وَمَجِيئَكَ فِي أَصْحَابِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي وَتَصَرُّفَكَ فِي أَحْوَالِكَ، كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِكَ. وَالسَّاجِدُونَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَادَ تَقَلُّبَكَ فِي أَصْلَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (2) . { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب العمل في الصلاة: 1 / 167، والبخاري في الصلاة، باب عظة الإمام في إتمام الصلاة: 1 / 514، ومسلم في الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة، برقم (424): 1 / 319، والمصنف في شرح السنة: 13 / 289.
(2) ذكر هذه الأقوال: الطبري: 19 / 123-125، السيوطي: 6 / 331-332، ابن الجوزي: 6 / 148-149. ورجح الطبري أن أولى الأقول في تفسير الآية أنه: يرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك، حين تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه.

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)

{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) }
{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } أُخْبِرُكُمْ، { عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: تَنَزَّلَ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ، ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: { تَنَزَّلُ } أَيْ: تَتَنَزَّلُ، { عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ } كَذَّابٍ، { أَثِيمٍ } فَاجِرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْكَهَنَةُ، يَسْتَرِقُ الْجِنُّ السَّمْعَ ثُمَّ يُلْقُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ. وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يُلْقُونَ السَّمْعَ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ } أَيْ: يَسْتَمِعُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسْتَقِرِّينَ، فَيُلْقُونَ إِلَى الْكَهَنَةِ، { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } لِأَنَّهُمْ يَخْلِطُونَ بِهِ كَذِبًا كَثِيرًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ شُعَرَاءَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ أَسْمَاءَهُمْ، فَقَالَ: مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَمُشَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ. وَأَبُو عَزَّةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، تَكَلَّمُوا بِالْكَذِبِ وَبِالْبَاطِلِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ. وَقَالُوا الشِّعْرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِمْ يَسْتَمِعُونَ أَشْعَارَهُمْ حِينَ يَهْجُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمْ وَذَلِكَ (1) . قَوْلُهُ: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } هم الرواة الذين يروون هجاء [النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و(2) المسلمين. وقال قتادة ومجاهد: الغاوون هم الشياطين. وقال الضحاك: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدهما من الأنصار والآخر من قَوْمٍ آخَرِينَ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهِيَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) . { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ } [مِنْ أَوْدِيَةِ الْكَلَامِ] (4) { يَهِيمُونَ } جَائِرُونَ وَعَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ حَائِدُونَ، وَالْهَائِمُ: الذَّاهِبُ عَلَى وَجْهِهِ لَا مَقْصِدَ لَهُ.
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 150.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) الطبري: 19 / 127، وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ (1) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي كُلِّ فَنٍّ يَفْتِنُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَمْدَحُونَ بِالْبَاطِلِ وَيَسْتَمِعُونَ وَيَهْجُونَ بِالْبَاطِلِ (2) فَالْوَادِي مَثَلٌ لِفُنُونِ الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ: أَنَا فِي وَادٍ وَأَنْتَ فِي وَادٍ. وَقِيلَ: "فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ" أَيْ: عَلَى كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ يَصُوغُونَ الْقَوَافِيَ.
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) }
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } أَيْ: يَكْذِبُونَ فِي شِعْرِهِمْ، يَقُولُونَ: فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، وَهُمْ كَذَبَةٌ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" (3) ثُمَّ اسْتَثْنَى شُعَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجِيبُونَ شُعَرَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَهْجُونَ شُعَرَاءَ الْكُفَّارِ، وَيُنَافِحُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما يجوز من الشعر: 10 / 537 تعليقا ووصله الطبري: 19 / 128.
(2) الطبري: 19 / 128.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن: 10 / 548، ومسلم في كتاب الشعر برقم (2257): 4 / 1769، والمصنف في شرح السنة: 12 / 380.
(4) أخرجه عبد الرزاق في كتاب الجامع: 11 / 263، وصححه ابن حبان ص (494) من موارد الظمآن، والبيهقي في السنن: 10 / 239، والإمام أحمد في المسند: 3 / 456، 460، 6 / 387. والمصنف في شرح السنة: 12 / 378، وعزاه ابن حجر في الكافي الشاف ص (123) والمناوي في الفتح السماوي: 2 / 889 لابن سعد في الطبقات، وعزاه في المطالب العالية: 3 / 354، 355 لأبي يعلى. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (1631).

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَابْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمُ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ" (1) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: "اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ -الْمَعْنَى وَاحِدٌ-قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 53/ب يَضَعُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، مَا يُنَافِحُ أَوْ يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ" (3) . أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر: 8 / 138-140، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه، وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث أيضا عن معمر عن الزهري في غير هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة في عمرة القضاء، وكعب بن مالك بين يديه. وهذا أصح عند بعض أهل الحديث؛ لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وإنما كانت عمرة القضاء بعد ذلك"، وأخرجه أيضا في كتابه المفرد الشمائل المحمدية ص (145)، وأخرجه النسائي في المناسك، باب إنشاد الشعر في الحرم.. 2 / 25-26، وأبو نعيم في الحلية: 6 / 292، والمصنف في شرح السنة: 12 / 374، وانظر: فتح الباري: 7 / 502، سلسة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (593).
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: 6 / 304، وفي المغازي: 7 / 416، وفي الأدب: 10 / 546، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل حسان برقم (2486): 4 / 1933، والمصنف في شرح السنة: 12 / 377.
(3) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر: 8 / 137، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وأخرجه في الشمائل ص (147)، وصححه الحاكم: 3 / 487، والمصنف في شرح السنة: 12 / 377. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 3 / 177.

حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ"، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: "اهْجُهُمْ"، فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ حَسَّانُ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ، فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يُخَلِّصَ لَكَ نَسَبِي"، فَأَتَاهُ حَسَّانُ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَلَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُسِلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِحَسَّانَ: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "هاجهم حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى"، قَالَ حَسَّانُ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعَنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةٌ" (2) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: الشِّعْرُ كَلَامٌ، فَمِنْهُ حَسَنٌ، وَمِنْهُ قَبِيحٌ، فَخُذِ الْحَسَنَ وَدَعِ الْقَبِيحَ (3) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَشْعَرَ الثَّلَاثَةِ (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل حسان برقم (2490): 4 / 1935-1938، والمصنف في شرح السنة: 10 / 25.
(2) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز: 10 / 537، والمصنف في شرح السنة: 12 / 369.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 13 / 150.
(4) انظر المصنف لابن أبي شيبة: 8 / 698.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَسْتَنْشِدُهُ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ دَعَا عُمَرَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ فَاسْتَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ الَّتِي قَالَهَا فَقَالَ: أَمِنَ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ ... غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ
فَأَنْشَدَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقَصِيدَةَ إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ سَبْعِينَ بَيْتًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعَادَ الْقَصِيدَةَ جَمِيعَهَا، وَكَانَ حَفِظَهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } أَيْ: لَمْ يَشْغَلْهُمُ الشِّعْرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قَالَ مُقَاتِلٌ: انْتَصَرُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ بَدَءُوا بِالْهِجَاءِ. ثُمَّ أَوْعَدَ شُعَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أَشْرَكُوا وَهَجَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) { أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } أَيَّ مَرْجِعٍ يُرْجَعُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِلَى جَهَنَّمَ وَالسَّعِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) .
__________
(1) وقيل المراد بهم أهل مكة، وقيل: الذين ظلموا من المشركين، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم. انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 356.
(2) قطعة من حديث تقدم تخريجه، أخرجه البخاري في النكاح: 9 / 104، ومسلم في النكاح أيضا: 2 / 1020.

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)

سُورَةُ النَّمْلِ مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) }
{ طس } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ (1) . { تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ } أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، { وَكِتَابٌ مُبِينٌ } أَيْ: وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ. { هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي: هُوَ هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ بِالْجَنَّةِ. { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (2) . { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } الْقَبِيحَةَ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً، { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا مُتَحَيِّرِينَ. { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ } شِدَّةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بِبَدْرٍ، { وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ } لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَصَارُوا إِلَى النَّارِ.
__________
(1) انظر الدر المنثور: 1 / 58-59، والطبري: 1 / 205-224 بتحقيق محمود شاكر، ابن كثير: 1 / 36-39.
(2) انظر الدر المنثور: 1 / 62-63.

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) }
{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ } أَيْ: تُؤْتَى الْقُرْآنَ وَتُلَقَّنُ (1) { مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أَيْ: وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ } أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ (2) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ فِي مَسِيرِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ: { إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } [أَيْ: أَبْصَرْتُ نَارًا] (3) . { سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أَيْ: امْكُثُوا مَكَانَكُمْ، سَآتِيكُمْ بِخَبَرٍ عَنِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ الطَّرِيقَ، { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "بِشِهَابٍ" بِالتَّنْوِينِ، جَعَلُوا الْقَبَسَ نَعْتًا لِلشِّهَابِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَهُوَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشِّهَابَ وَالْقَبَسَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ نَارٌ، وَلَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ نَارٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّهَابُ هُوَ شَيْءٌ ذُو نُورٍ، مِثْلَ الْعَمُودِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ أَبِيضَ ذِي نُورٍ شِهَابًا، وَالْقَبَسُ: الْقِطْعَةُ مِنَ النَّارِ، { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } تَسْتَدْفِئُونَ مِنَ الْبَرْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الشِّتَاءِ. { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } أَيْ: بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النَّارِ أَوْ مَنْ فِي النَّارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَارَكَهُ اللَّهُ وَبَارَكَ فِيهِ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَرَكَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَالْمَلَائِكَةِ، مَعْنَاهُ: بُورِكَ فِي مَنْ طَلَبَ النَّارَ، وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، { وَمَنْ حَوْلَهَا } وهم الملائكة 54/أ الَّذِينَ حَوْلَ النَّارِ، وَمَعْنَاهُ: بُورِكَ فِيكَ يَا مُوسَى وَفِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَوْلَ النَّارِ، وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى بِالْبَرَكَةِ، كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّارِ النُّورُ، ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نَارًا، وَ"مَنْ فِي النَّارِ" هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي رَآهُ مُوسَى كَانَ فِيهِ مَلَائِكَةٌ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ،
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".

يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

وَ"مَنْ حَوْلَهَا" هُوَ مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا. وَقِيلَ: "مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا" جَمِيعًا الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: "مَنْ فِي النَّارِ" مُوسَى وَ"مَنْ حَوْلَهَا" الْمَلَائِكَةُ، وَمُوسَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّارِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ فُلَانٌ الْمَنْزِلَ، إِذَا قَرُبَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ بَعْدُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ بُورِكَتِ النَّارُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقْرَأُ: أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَ"مَنْ" قَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ" (النُّورِ-45) ، وَ"مَا" قَدْ يَكُونُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ "جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ" (ص-11) ، وَمَعْنَاهُ: بُورِكَ فِي النَّارِ وَفِيمَنْ حَوْلَهَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَسَمَّى النَّارَ مُبَارَكَةً كَمَا سَمَّى الْبُقْعَةَ مُبَارَكَةً فَقَالَ: "فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: { بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ } يَعْنِي قُدِّسَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهُوَ اللَّهُ، عَنَى بِهِ نَفْسَهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَادَى مُوسَى مِنْهَا وَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ جِهَتِهَا (1) كَمَا رُوِيَ: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: "جَاءَ اللَّهُ مِنْ سَيْنَاءَ، وَأَشْرَفَ مِنْ سَاعِينَ، وَاسْتَعْلَى مِنْ جِبَالِ فَارَانَ" (2) فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ: بَعْثَةُ مُوسَى مِنْهَا، وَمِنْ سَاعِينَ بَعْثَةُ الْمَسِيحِ مِنْهَا، وَمِنْ جِبَالِ فَارَانَ بَعْثَةُ الْمُصْطَفَى مِنْهَا، وَفَارَانُ مَكَّةُ (3) . قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ نُورُهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ النَّارُ بِعَيْنِهَا، وَالنَّارُ إِحْدَى حُجُبِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مَنْ خَلْقِهِ" (4) ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ مَنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَيْبٍ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ. { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) }
ثُمَّ تَعَرَّفَ إِلَى مُوسَى بِصِفَاتِهِ، فَقَالَ: { يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ { إِنَّهُ } عِمَادٌ، وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَقِيلَ: هِيَ
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 19 / 133-135، وأبو جعفر النحاس في معاني القرآن: 5 / 116، والسيوطي في الدر المنثور: 6 / 341، والقرطبي: 13 / 158-159.
(2) النص في العهد العتيق، سفر التثنية ص (355) طبع الكاثوليكية. وبلفظ "ساعير" بدلا من "ساعين" فيه، وفي النصوص التي نقلت عنه.
(3) انظر بالتفصيل هذه البشارة ومدلولها ومطابقتها لما جاء في القرآن الكريم: الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، تأليف عثمان جمعة ص (81-83) والمراجع المشار إليها.
(4) قطعة من حديث أبي موسى أخرجه مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام، برقم (179) 1 / 161، والمصنف في شرح السنة: 1 / 173.

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)

كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، أَيِ: الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ، أَيْ: الْمَعْبُودُ أَنَا (1)
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) }
ثُمَّ أَرَى مُوسَى آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تَتَحَرَّكُ، { كَأَنَّهَا جَانٌّ } وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يَكْثُرُ اضْطِرَابُهَا، { وَلَّى مُدْبِرًا } هَرَبَ مِنَ الْخَوْفِ، { وَلَمْ يُعَقِّبْ } لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ: عَقِبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } يُرِيدُ إِذَا آمَّنْتُهُمْ لَا يَخَافُونَ، أَمَّا الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فَلَا يُفَارِقُهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ" (2) . وَقَوْلُهُ: { إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، قِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ خَافَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَابَ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: إِنَّمَا أَخَفْتُكَ لِقَتْلِكَ النَّفْسَ. وَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُخِيفُ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ إِلَّا بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَخَافَهُ حَتَّى يَتُوبَ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا وَتَنَاهَى الْخَبَرُ عَنِ الرُّسُلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: { إِلَّا مَنْ ظَلَمَ } ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرُ عَنْ حَالِ مَنْ ظَلَمَ مِنَ النَّاسِ كَافَّةً. وَفِي الْآيَةِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ هَذَا بِاسْتِثْنَاءٍ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الظُّلْمُ، بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَتْرُوكِ فِي الْكَلَامِ، مَعْنَاهُ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ تَابَ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، مَعْنَاهُ (4) لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَخَافُ، فَإِنْ تَابَ وَبَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَعْنِي يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَيُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْهُ (5) .
__________
(1) راجع: التبيان للعكبري: 2 / 1005، زاد المسير: 7 / 156.
(2) قطعة من حديث رواه البخاري في النكاح، باب الترغيب في النكاح 9 / 104، ومسلم في الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة برقم (1108) 2 / 779 بلفظ "أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له".
(3) هذا القول هو الذي رجحه الطبري: 19 / 137.
(4) ساقط من "أ".
(5) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله معتمدا هذا القول (3 / 358): "هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل سيئ ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه، كما قال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى)، وقال تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه..) الآية. والآيات في هذا كثيرة جدا". وكذلك رجحه أبو حيان في البحر المحيط.

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)

وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: "إِلَّا" هَاهُنَا بِمَعْنَى: "وَلَا" (1) يَعْنِي: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وَلَا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حَسَنًا بَعْدَ سُوءٍ، يَقُولُ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وَلَا الْمُذْنِبُونَ التَّائِبُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" (الْبَقَرَةِ-150) ، يَعْنِي: وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا (2)
{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) }
__________
(1) في الطبري والنحاس وغيرهما: (بمعنى الواو).
(2) وهذا القول حكاه الفراء عن بعض النحويين ولم يرضه، وقال النحاس: "وذا ليس بجيد في العربية"، وقال أبو حيان: "وهذا ليس بشيء؛ لأن معنى "إلا" مباين لمعنى "الواو" مباينة كثيرة، إذ الواو للإدخال و"إلا" للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موضع الآخر". انظر: معاني القرآن للنحاس: 5 / 117، البحر المحيط: 7 / 57، زاد المسير: 6 / 157.

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)

{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) }
ثُمَّ أَرَاهُ اللَّهُ آيَةً أُخْرَى فَقَالَ: { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } وَالْجَيْبُ حَيْثُ جِيبَ مِنَ الْقَمِيصِ، أَيْ: قُطِعَ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَتْ عَلَيْهِ مُدَرَّعَةٌ مِنْ صُوفٍ لَا كُمَّ لَهَا وَلَا أَزْرَارَ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا، فَإِذَا هِيَ تَبْرُقُ مِثْلَ الْبَرْقِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } يَقُولُ هَذِهِ آيَةٌ مَعَ تِسْعِ آيَاتٍ أَنْتَ مُرْسَلٌ بِهِنَّ، { إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } بَيِّنَةً وَاضِحَةً يُبْصَرُ بِهَا، { قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } ظَاهِرٌ. { وَجَحَدُوا بِهَا } أَيْ: أَنْكَرُوا الْآيَاتِ وَلَمْ يُقِرُّوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } أَيْ: عَلِمُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: { ظُلْمًا وَعُلُوًّا } أَيْ: شِرْكًا وَتَكَبُّرًا عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا } أَيْ: عِلْمَ الْقَضَاءِ وَمَنْطِقَ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ وَتَسْخِيرَ الشَّيَاطِينِ وَتَسْبِيحَ الْجِبَالِ، { وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا } بِالنُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ وَتَسْخِيرِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ { عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ }

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) }
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } 54/ب نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ وَمُلْكَهُ دُونَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ (1) وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَأُعْطِيَ سُلَيْمَانُ مَا أُعْطِيَ دَاوُدُ مِنَ الْمُلْكِ، وَزِيدَ لَهُ تَسْخِيرُ الرِّيحِ وَتَسْخِيرُ الشَّيَاطِينِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ سُلَيْمَانُ أَعْظَمَ مُلْكًا مِنْ دَاوُدَ وَأَقْضَى مِنْهُ، وَكَانَ دَاوُدُ أَشَدَّ تَعَبُّدًا مِنْ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ شَاكِرًا لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى.
{ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } سَمَّى صَوْتَ الطَّيْرِ مَنْطِقًا لِحُصُولِ الْفَهْمِ مِنْهُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ (2) صَاحَ وَرَشَانُ عِنْدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ، وَصَاحَتْ فَاخِتَةٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ: لَيْتَ ذَا الْخَلْقَ لَمْ يخلقوا، وصاح طاووس، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَصَاحَ هُدْهُدٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ، وَصَاحَ صُرَدٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يَا مُذْنِبِينَ، قَالَ: وَصَاحَتْ طُوطَى، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهَا تَقُولُ: كُلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ وَكُلُّ حَدِيدٍ بَالٍ، وَصَاحَ خُطَّافٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: قَدِّمُوا خَيْرًا تَجِدُوهُ، وَهَدَرَتْ حَمَامَةٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهَا تَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى مِلْءَ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَصَاحَ قُمْرِيٌّ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، قَالَ: وَالْغُرَابُ يَدْعُو عَلَى الْعَشَّارِ، وَالْحِدَأَةُ تَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا اللَّهُ، وَالْقَطَاةُ تَقُولُ: مَنْ سَكَتَ سَلِمَ، وَالْبَبَّغَاءُ تَقُولُ: وَيْلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ، وَالضِّفْدَعُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْقُدُّوسِ، وَالْبَازِي يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ وَبِحَمْدِهِ، وَالضِّفْدَعَةُ تَقُولُ: سُبْحَانَ الْمَذْكُورِ بِكُلِّ لِسَانٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: صَاحَ دُرَّاجٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
__________
(1) وليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود.. والأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقه". انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 359.
(2) هذه الروايات عن كعب وغيره وهذه التفصيلات في كلام الطير مما ذكره المصنف رحمه الله، متلقاة من أهل الكتاب كرواية كعب هذه، ولا يتوقف فهم الآية عليها، وليس فيها نص صحيح مرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والبحث في هذا مما لا طائل تحته. والله أعلم.

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)

وَعَنْ فَرَقَدٍ السَّبَخِيِّ قَالَ مَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَى بُلْبُلٍ فَوْقَ شَجَرٍ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ وَيُمِيلُ ذَنَبَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذَا الْبُلْبُلُ؟ فَقَالُوا اللَّهُ وَنَبِيُّهُ أَعْلَمُ، قَالَ يَقُولُ: أَكَلْتُ نِصْفَ تَمْرَةٍ فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ. وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّا سَائِلُوكَ عَنْ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ أَخْبَرْتَنَا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا، قَالَ: سَلُوا تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلُوا تَعَنُّتًا، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا يَقُولُ الْقُنْبَرُ فِي صَفِيرِهِ، وَالِدَيْكُ فِي صَقِيعِهِ، وَالضِّفْدَعُ فِي نَقِيقِهِ، وَالْحِمَارُ فِي نَهِيقِهِ، وَالْفَرَسُ فِي صَهِيلِهِ، وَمَاذَا يَقُولُ الزَّرْزُورُ وَالدُّرَّاجُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الْقُنْبَرُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مُبْغِضِي مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا الدِّيكُ فَيَقُولُ: اذْكُرُوا اللَّهَ يَا غَافِلِينَ، وَأَمَّا الضِّفْدَعُ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ الْمَعْبُودِ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَأَمَّا الْحِمَارُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنِ الْعَشَّارَ، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَيَقُولُ: إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ سَبُوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَأَمَّا الزَّرْزُورُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ قُوتَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ يَا رَازِقُ، وَأَمَّا الدُّرَّاجُ فَيَقُولُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، قَالَ: فَأَسْلَمَ الْيَهُودُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا صَاحَ النَّسْرُ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، عِشْ مَا شِئْتَ آخِرُهُ الْمَوْتُ، وَإِذَا صَاحَ الْعُقَابُ قَالَ: فِي الْبُعْدِ مِنَ النَّاسِ أُنْسٌ، وَإِذَا صَاحَ الْقُنْبَرُ قَالَ: إِلَهِي الْعَنْ مُبْغِضِي آلِ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا صَاحَ الْخُطَّافُ، قَرَأَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَمُدُّ الضَّالِّينَ كَمَا يَمُدُّ الْقَارِئُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } يُؤْتَى الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ وَتَسْخِيرَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالرِّيَاحِ، { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } الزِّيَادَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى مَا أَعْطَى غَيْرَنَا. وَرُوِى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَلَكَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، مَلَكَ جَمِيعَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ (1) وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ مَنْطِقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي زَمَانِهِ صُنِعَتِ الصَّنَائِعُ الْعَجِيبَةُ (2) .
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ } فِي مَسِيرِهِ لَهُ، { فَهُمْ يُوزَعُونَ } فَهُمْ يَكُفُّونَ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ عَلَى كُلِّ صَفٍّ مِنْ جُنُودِهِ وزعة ترد [أولها عَلَى أُخْرَاهَا] (3) لِئَلَّا يَتَقَدَّمُوا فِي الْمَسِيرِ، وَالْوَازِعُ الْحَابِسُ، وَهُوَ النَّقِيبُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُوزَعُونَ يُسَاقُونَ،
__________
(1) في هامش نسخة "أ": قوله: ملك جميع أهل الدنيا.. فيه نظر، لأنه عليه السلام ما علم بلقيس ولا ملكها إلا من الهدهد بعدما أخبره به، إلا أن نقول: ملك بعد ذلك الزمان والله أعلم.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2 / 588، عن جعفر بن محمد، وقال الذهبي: هذا باطل.
(3) في "ب": أولها على آخرها.

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)

وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُوقَفُونَ. وَقِيلَ: يُجْمَعُونَ. وَأَصْلُ الْوَزْعِ الْكَفُّ وَالْمَنْعُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كَانَ مُعَسْكَرُ سُلَيْمَانَ مِائَةَ فَرْسَخٍ، خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهَا لِلْإِنْسِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْجِنِّ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْوَحْشِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلطَّيْرِ، وَكَانَ لَهُ أَلْفُ بَيْتٍ مِنْ قَوَارِيرَ عَلَى الخشب، فيها ثلثمائة صَرِيحَةٍ (1) وَسَبْعُمِائَةٍ سِرِّيَّةٍ فَيَأْمُرُ الرِّيحَ الْعَاصِفَ فَتَرْفَعُهُ، وَيَأْمُرُ الرُّخَاءَ فَتَسِيرُ بِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَسِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: إِنِّي قَدْ زِدْتُ فِي مُلْكِكَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَتْ بِهِ الرِّيحُ، فَأَخْبَرَتْكَ (2) .
{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ } رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا رَكِبَ حَمَلَ أَهْلَهُ وَخَدَمَهُ وَحَشَمَهُ، وَقَدِ اتَّخَذَ مَطَابِخَ وَمَخَابِزَ (3) يَحْمِلُ فِيهَا تَنَانِيرَ الْحَدِيدِ وَقُدُورَ عِظَامٍ، يَسَعُ كُلُّ قِدْرٍ عَشَرَ جَزَائِرَ وَقَدِ اتَّخَذَ مَيَادِينَ لِلدَّوَابِّ أَمَامَهُ، فَيَطْبُخُ الطَّبَّاخُونَ، وَيَخْبِزُ الْخَبَّازُونَ، وَتَجْرِي الدَّوَابُّ بَيْنَ يَدَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرِّيحُ تَهْوِي بِهِمْ، فَسَارَ مِنِ اصْطَخْرَ إِلَى الْيَمَنِ فَسَلَكَ مَدِينَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: هَذِهِ دَارُ هِجْرَةِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَطُوبَى لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَرَأَى حَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامًا تُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَلَمَّا جَاوَزَ سُلَيْمَانُ الْبَيْتَ بكى البيت، 55/أ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَبْكَانِي أَنَّ هَذَا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَقَوْمٌ مِنْ أَوْلِيَائِكَ مَرُّوا عَلَيَّ فَلَمْ يَهْبِطُوا وَلَمْ يُصَلُّوا عِنْدِي، وَالْأَصْنَامُ تُعْبَدُ حَوْلِي مِنْ دُونِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ لَا تَبْكِ، فَإِنِّي سَوْفَ أَمَلَؤُكَ وُجُوهًا سُجَّدًا، وَأُنْزِلُ فِيكَ قُرْآنًا جَدِيدًا وَأَبْعَثُ مِنْكَ نَبِيًّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحَبَّ أَنْبِيَائِي إِلَيَّ، وَأَجْعَلُ فِيكَ عُمَّارًا مِنْ خَلْقِي يَعْبُدُونَنِي، وَأَفْرِضُ عَلَى عِبَادِي فَرِيضَةً يَذِفُّونَ إِلَيْكَ ذَفِيفَ النُّسُورِ إِلَى وَكْرِهَا، وَيَحِنُّونَ إِلَيْكَ حَنِينَ النَّاقَةِ إِلَى وَلَدِهَا وَالْحَمَامَةِ إِلَى بَيْضَتِهَا، وَأُطَهِّرُكَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَةِ الشَّيَاطِينِ (4) ثُمَّ مَضَى سُلَيْمَانُ حَتَّى مَرَّ بِوَادِي السَّدِيرِ وَادٍ مِنَ الطَّائِفِ، فَأَتَى عَلَى وَادِي النَّمْلِ، هَكَذَا قَالَ كَعْبٌ: إِنَّهُ وَادٍ بِالطَّائِفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ أَرْضٌ بِالشَّامِ. وَقِيلَ: وَادٍ كَانَ يَسْكُنُهُ الْجِنُّ، وَأُولَئِكَ النَّمْلُ مَرَاكِبُهُمْ (5)
__________
(1) بمعنى منكوحة.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك عن محمد بن كعب قال: بلغنا أن سليمان.. 2 / 589 وهو ضعيف.
(3) ساقط من "أ".
(4) هذه الرواية وامثالها من الإسرائيليات التي كان يحدث بها وهب وكعب، وليس في ذلك نص صحيح تقوم به الحجة.
(5) قال الحافظ ابن كثير: (3 / 360): "ومن قال من المفسرين إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها".

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

وَقَالَ نَوْفٌ الْحِمْيَرِيُّ: كَانَ نَمْلُ ذَلِكَ الْوَادِي أَمْثَالَ الذُّبَابِ (1) . وَقِيلَ: كَالْبَخَاتِيِّ. وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ النَّمْلُ الصَّغِيرُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَتْ تِلْكَ النَّمْلَةُ ذَاتَ جَنَاحَيْنِ. وَقِيلَ: كَانَتْ نَمْلَةً عَرْجَاءَ فَنَادَتْ: { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } وَلَمْ تَقُلْ: ادْخُلْنَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لَهُمْ قَوْلًا كَالْآدَمِيِّينَ خُوطِبُوا بِخِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ } لَا يَكْسَرَنَّكُمْ، { سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } وَالْحَطْمُ الْكَسْرُ، { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فَسَمِعَ سُلَيْمَانُ قَوْلَهَا، وَكَانَ لَا يَتَكَلَّمُ خَلْقٌ إِلَّا حَمَلَتِ الرِّيحُ ذَلِكَ فَأَلْقَتْهُ فِي مَسَامِعَ سُلَيْمَانَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ كَلَامَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ اسْمُ تِلْكَ النَّمْلَةِ طَاحِيَةُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ اسْمُهَا جَرْمَى (2) . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْحَطْمُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ وَكَانَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُ سُلَيْمَانَ وَجُنُودَهَ عَلَى بِسَاطٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قِيلَ: كَانَ جُنُودُهُ رُكْبَانًا وَفِيهِمْ مُشَاةٌ عَلَى الْأَرْضِ تُطْوَى لَهُمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ تَسْخِيرِ اللَّهِ الرِّيحَ لِسُلَيْمَانَ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: عَلِمَ النَّمْلُ أَنَّ سُلَيْمَانَ نَبِيٌّ لَيْسَ فِيهِ جَبْرِيَّةٌ وَلَا ظُلْمٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّكُمْ لَوْ لَمْ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ وَطَؤُوكُمْ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِكُمْ. وَيُرْوَى أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا بَلَغَ وَادِي النَّمْلِ حَبَسَ جُنُودَهُ حَتَّى دَخَلَ النَّمْلُ بُيُوتَهُمْ.
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا } قَالَ الزَّجَاجُ: أَكْثَرُ ضَحِكِ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ. وَقَوْلُهُ { ضَاحِكًا } أَيْ: مُتَبَسِّمًا. قِيلَ: كَانَ أَوَّلَهُ التَّبَسُّمُ وَآخِرَهُ الضَّحِكُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهَبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ،
__________
(1) قال ابن كثير في الموضع نفسه: "هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت، وإنما هو بالباء الموحدة، وذلك تصحيف، والله أعلم. والغرض: أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكا من ذلك، وهذا أمر عظيم جدا.
(2) لا طائل من البحث في صفات هذه النملة واسمها، ولا خبر في ذلك عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصار إليه، وحسبنا ما أخبرنا الله تعالى به من كلام النملة وفهم سليمان له وما في ذلك من دلالة. والله أعلم. وانظر: البداية والنهاية لابن كثير: 2 / 19.

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)

حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ (1) . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ ضَحِكُ سُلَيْمَانَ مِنْ قَوْلِ النَّمْلَةِ تَعَجُّبًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَا لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ تَعَجَّبَ وَضَحِكَ، ثُمَّ حَمِدَ سُلَيْمَانُ رَبَّهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أَلْهِمْنِي، { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } أَيْ: أَدْخِلْنِي فِي جُمْلَتِهِمْ، وَأَثْبِتِ اسْمِى مَعَ أَسْمَائِهِمْ وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ. وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } أَيْ: طَلَبَهَا وَبَحَثَ عَنْهَا، وَالتَّفَقُّدُ: طَلَبُ مَا فُقِدَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: طَلَبَ مَا فَقَدَ مِنَ الطَّيْرِ، { فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ } أَيْ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ؟. تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا لِي أَرَاكَ كَئِيبًا؟ أَيْ: مَالَكَ؟ وَالْهُدْهُدُ: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ. وَكَانَ سَبَبُ تَفَقُّدِهِ الْهُدْهُدَ وَسُؤَالِهِ عَنْهُ، قِيلَ: إِخْلَالُهُ بِالنَّوْبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا يُظِلُّهُ وَجُنْدَهُ الطَّيْرُ مِنَ الشَّمْسِ، فَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ مِنْ مَوْضِعِ الْهُدْهُدِ، فَنَظَرَ فَرَآهُ خَالِيًا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ دَلِيلَ سُلَيْمَانَ عَلَى الْمَاءِ وَكَانَ يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْمَاءِ وَيَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ، كَمَا يُرَى فِي الزُّجَاجَةِ، وَيَعْرِفُ قُرْبَهُ وَبُعْدَهُ فَيَنْقُرُ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَجِيءُ الشَّيَاطِينُ فَيَسْلَخُونَهُ وَيَسْتَخْرِجُونَ الْمَاءَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا قَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ: يَا وَصَّافُ انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا يَضَعُ الْفَخَّ وَيَحْثُو عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَيَجِيءُ الْهُدْهُدُ وَلَا يُبْصِرُ الْفَخَّ حَتَّى يَقَعَ فِي عُنُقِهِ،
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: "فلما روأه عارضا مستقبل أوديتهم": 8 / 578، ومسلم في صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح، برقم (899): 2 / 616-617، وذكره المصنف في مصابيح السنة: 1 / 1073.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب، باب في بشاشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 10 / 124،وقال: "هذا حديث غريب". وقد روي عن يزيد ابن أبي حبيب عن عبد الله بن الحارث بن جزء مثل هذا". واخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 190، وذكره المصنف في مصابيح السنة برقم (3686).

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيَحُكَ إِنَّ الْقَدَرَ إِذَا جَاءَ حَالَ دُونَ الْبَصَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ ذَهَبَ اللُّبُّ وَعَمِيَ الْبَصَرُ (1) . فَنَزَلَ سُلَيْمَانُ مَنْزِلًا فَاحْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ فَطَلَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا، فَتَفَقَّدَ الْهُدْهُدَ لِيَدُلَّ عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ، عَلَى تَقْرِيرِ أَنَّهُ مَعَ جُنُودِهِ، وَهُوَ لَا يَرَاهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الشَّكُّ فِي غَيْبَتِهِ، فَقَالَ: { أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } يَعْنِي أَكَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ؟ وَالْمِيمُ صِلَةٌ، وَقِيلَ: "أَمْ" بِمَعْنَى "بَلْ"، ثُمَّ أَوْعَدَهُ عَلَى غَيْبَتِهِ، فَقَالَ: { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا }
{ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) }
{ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُ بِهِ، فَأَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَذَنَبَهُ وَيُلْقِيَهُ فِي الشَّمْسِ مُمَعِطًا، لَا يَمْتَنِعُ مِنَ النَّمْلِ وَلَا مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ (2) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ حَيَّانَ: لَأَطْلِينَّهُ بِالْقَطْرَانِ وَلَأُشَمِّسَنَّهُ. وَقِيلَ: لَأُودِعَنَّهُ الْقَفَصَ. وَقِيلَ: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ. وَقِيلَ: لَأَحْبِسَنَّهُ مَعَ ضِدِّهِ. { أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ } لَأَقْطَعَنَّ حلقه، { أَوْ لَيَأْتِيَنِّني بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ فِي غَيْبَتِهِ، وَعُذْرٍ ظَاهِرٍ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: «لَيَأْتِيَنَّنِي» بنونين، الأولى 55/ب مُشَدَّدَةٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ.
وَكَانَ سَبَبُ غَيْبَةِ الْهُدْهُدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ (3) أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَرْضِ الْحَرَمِ، فَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ، وَاسْتَصْحَبَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ مَا بَلَغَ مُعَسْكَرَهُ مِائَةَ فَرْسَخٍ، فَحَمَلَهُمُ الرِّيحُ، فَلَمَّا وَافَى الْحَرَمَ أَقَامَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، وَكَانَ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بِمَقَامِهِ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ آلَافِ نَاقَةٍ وَيَذْبَحُ خَمْسَةَ آلَافِ ثَوْرٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ شَاةٍ (4) وَقَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ: إِنَّ هَذَا مَكَانٌ يَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ عَرَبِيٌّ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، يُعْطَى النَّصْرَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ نَاوَأَهُ، وَتَبْلُغُ هَيْبَتُهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. قَالُوا فَبِأَيِّ دِينٍ يَدِينُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: يَدِينُ بِدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ وَآمَنَ بِهِ، فَقَالُوا: كَمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُرُوجِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ مِقْدَارُ أَلْفِ عَامٍ فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ، قَالَ: فَأَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى قَضَى نُسُكَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ صَبَاحًا، وَسَارَ نَحْوَ الْيَمَنِ فَوَافَى صَنْعَاءَ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَرَأَى أَرْضًا حَسْنَاءَ تَزْهُو خُضْرَتُهَا فَأَحَبَّ
__________
(1) أخرجه الحاكم: 2 / 405-406 وصححه على شرط الشيخين، والطبري: 19 / 144، وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وانظر: الدر المنثور: 6 / 348.
(2) اعتمد الطبري هذا القول ولم يذكر غيره: 19 / 146، وانظر: الدر المنثور: 6 / 349-350، تفسير ابن كثير: 3 / 361.
(3) ما ذكره المصنف عن العلماء ظاهر أنه من الأخبار التي لا سند لها وهي بهذه التفصيلات غريبة.
(4) في "ب": كبش.

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

النُّزُولَ بِهَا لِيُصَلِّيَ وَيَتَغَدَّى، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ الْهُدْهُدَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالنِّزُولِ فَارْتَفِعَ نَحْوَ السَّمَاءِ فَانْظُرْ إِلَى طُولِ الدُّنْيَا وَعَرْضِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَرَأَى بُسْتَانًا لِبِلْقِيسَ، فَمَالَ إِلَى الْخُضْرَةِ فَوَقْعَ فِيهِ فَإِذَا هُوَ بِهُدْهُدٍ فَهَبَطَ عَلَيْهِ، وَكَانَ اسْمُ هُدْهُدِ سُلَيْمَانَ "يَعْفُورُ" وَاسْمُ هُدْهُدِ الْيَمَنِ "عِنْفِيرُ"، فَقَالَ عِنْفِيرُ الْيَمَنِ لِيَعْفُورِ سُلَيْمَانَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَتْ وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَقْبَلْتُ مِنَ الشَّامِ مَعَ صَاحِبِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ. فَقَالَ: وَمَنْ سُلَيْمَانُ؟ قَالَ مَلِكُ الْجِنَّ وَالْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ وَالطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ وَالرِّيَاحِ، فَمِنْ أَيْنَ أَنْتِ؟ قَالَ: أَنَا مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، قَالَ: وَمَنْ مَلِكُهَا؟ قَالَ: امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا بِلْقِيسُ، وَإِنَّ لِصَاحِبِكُمْ مُلْكًا عَظِيمًا وَلَكِنْ لَيْسَ مُلْكُ بِلْقِيسَ دُونَهُ، فَإِنَّهَا مَلِكَةُ الْيَمَنِ كُلِّهَا، وَتَحْتَ يَدِهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ (1) قَائِدٍ، تَحْتَ يَدِ كُلِّ قَائِدٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَهَلْ أَنْتَ مُنْطَلِقٌ مَعِي حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى مُلْكِهَا؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَتَفَقَّدَنِي سُلَيْمَانُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ، قَالَ الْهُدْهُدُ الْيَمَانِيُّ: إِنْ صَاحَبَكَ يَسُرُّهُ أَنْ تَأْتِيَهُ بِخَبَرِ هَذِهِ الْمَلِكَةِ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ وَنَظَرَ إِلَى بِلْقِيسَ وَمُلْكِهَا، وَمَا رَجَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ إِلَّا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ. قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ سُلَيْمَانُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَكَانَ نَزَلَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَسَأَلَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ عَنِ الْمَاءِ فَلَمْ يَعْلَمُوا، فَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ، فَفَقَدَ الْهُدْهُدَ، فَدَعَا عَرِّيفَ الطَّيْرِ -وَهُوَ النَّسْرُ-فَسَأَلَهُ عَنِ الْهُدْهُدِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْمَلِكَ، مَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ، وَمَا أَرْسَلْتُهُ مَكَانًا، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ، وَقَالَ: { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } الْآيَةَ. ثُمَّ دَعَا الْعُقَابَ سَيِّدَ الطَّيْرِ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْهُدْهُدِ السَّاعَةَ، فَرَفَعَ الْعُقَابُ نَفْسَهُ دُونَ السَّمَاءِ حَتَّى الْتَزَقَ بِالْهَوَاءِ فَنَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ ثُمَّ الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا هُوَ بِالْهُدْهُدِ مُقْبِلًا مِنْ نَحْوِ الْيَمَنِ، فَانْقَضَّ الْعُقَابُ نَحْوَهُ يُرِيدُهُ، فَلَمَّا رَأَى الْهُدْهُدُ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْعُقَابَ يَقْصِدُهُ بِسُوءٍ فَنَاشَدَهُ، فَقَالَ: بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي قَوَّاكَ وَأَقْدَرَكَ عَلَيَّ إِلَّا رَحِمْتَنِي وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِي بِسُوءٍ، قَالَ: فَوَلَّى عَنْهُ الْعُقَابُ، وَقَالَ لَهُ: وَيْلُكُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ حَلَفَ أَنْ يُعَذِّبَكَ أَوْ يَذْبَحَكَ، ثُمَّ طَارَا مُتَوَجِّهِينَ نَحْوَ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمُعَسْكَرِ تَلَقَّاهُ النَّسْرُ وَالطَّيْرُ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْلُكَ أَيْنَ غِبْتَ فِي يَوْمِكَ هَذَا؟ وَلَقَدْ تَوَعَّدَكَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأَخْبَرَاهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ الْهُدْهُدُ: أَوَمَا اسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ"، قَالَ: فَنَجَوْتُ إِذًا، ثُمَّ طَارَ الْعُقَابُ وَالْهُدْهُدُ حَتَّى أَتَيَا سُلَيْمَانَ وَكَانَ قَاعِدًا عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَقَالَ الْعُقَابُ قَدْ أَتَيْتُكَ بِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَلَمَّا قَرُبَ الْهُدْهُدُ رَفَعَ رَأَسَهُ وَأَرْخَى ذَنَبَهُ وَجَنَاحَيْهِ يَجُرُّهُمَا عَلَى الْأَرْضِ تَوَاضُعًا لِسُلَيْمَانَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَمَدَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ لَأُعَذِّبَنَّكَ عَذَابًا شَدِيدًا، فَقَالَ الْهُدْهُدُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اذْكُرْ وُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا سَمِعَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ ارْتَعَدَ وَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ عَنِّي؟ فَقَالَ الْهُدْهُدُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ }
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) }
__________
(1) ساقط من "أ".

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)

{ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) }
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } قَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ: { فَمَكَثَ } بِفَتْحِ الْكَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، { غَيْرَ بَعِيدٍ } أَيْ: غَيْرَ طَوِيلٍ، { فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } وَالْإِحَاطَةُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، يَقُولُ: عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْ، وَبَلَغْتُ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ أَنْتَ وَلَا جُنُودُكَ، { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ "سَبَأٍ" [وَ"لِسَبَأٍ" فِي سُورَةِ سَبَأٍ، مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْقَوَّاصُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ] (1) سَاكِنَةً بِلَا هَمْزَةٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِجْرَاءِ، فَمَنْ لَمْ يَجُرَّهُ جَعَلَهُ اسْمَ الْبَلَدِ، وَمَنْ أَجْرَاهُ جَعَلَهُ اسْمَ رَجُلٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ سَبَأٍ فَقَالَ: "كَانَ رَجُلًا لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْبَنِينَ تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ" (2) . { بِنَبَإٍ } بِخَبَرٍ، { يَقِينٍ } فَقَالَ سُلَيْمَانُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } وَكَانَ اسْمُهَا بِلْقِيسَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، مِنْ نَسْلِ يَعْرِبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، قَدْ وُلِدَ لَهُ أَرْبَعُونَ مَلِكًا هُوَ آخِرُهُمْ، وَكَانَ يَمْلِكُ أَرْضَ الْيَمَنِ كُلَّهَا، وَكَانَ يَقُولُ لِمُلُوكِ الْأَطْرَافِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ كُفُؤًا لِي، وَأَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَ فِيهِمْ، فَزَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا رَيْحَانَةُ بِنْتُ السَّكَنِ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسَ، [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهَا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ إِحْدَى أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًا (3) . فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بِلْقِيسَ] (4) طَمِعَتْ فِي الْمُلْكِ فَطَلَبَتْ مِنْ قَوْمِهَا أَنْ يُبَايِعُوهَا فَأَطَاعَهَا قَوْمٌ وَعَصَاهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا وَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ، كُلُّ فِرْقَةٍ اسْتَوْلَتْ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي مَلَّكُوهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَتَّى كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى حَرَمِ رَعِيَّتِهِ وَيَفْجُرُ بِهِنَّ، فَأَرَادَ قَوْمُهُ خَلْعَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ بِلْقِيسُ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة سبأ: 9 / 88-89، وقال: هذا حديث غريب حسن، واختصره أبو داود في الحروف والقراءات: 6 / 8، عن فروة بن مسيك، وأخرجه الطبري في التفسير: 22 / 76-77، والإمام أحمد في المسند: 1 / 317، وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم والحاكم وصححه من حديث ابن عباس، وله روايات في بعضها ضعف ينجبر بتعدد الطرق. انظر: فتح الباري: 8 / 535، مجمع الزوائد: 7 / 94، تفسير ابن كثير: 3 / 531-532، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ترجمة "فروة بن مسيك": 5 / 369 حيث أشار إلى الحديث وقال: "أخرجه ابن سعد، وأبو داود والترمذي، وابن السكن مطولا ومختصرا"، زاد المسير: 6 / 165 مع حاشية المحقق.
(3) أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ في "العظمة"، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي هريرة مرفوعا. قال ابن كثير: "هذا حديث غريب وفي سنده ضعف"، انظر: الدر المنثور: 6 / 351، البداية والنهاية لابن كثير: 2 / 21.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)

أَدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ فأرسلت إليه 56/أ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَأَجَابَهَا الْمَلِكُ، وَقَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَبْتَدِئَكِ بِالْخِطْبَةِ إِلَّا الْيَأْسُ مِنْكِ، فَقَالَتْ لَا أَرْغَبُ عَنْكَ، كُفُؤٌ كَرِيمٌ، فَاجْمَعْ رِجَالَ قَوْمِي وَاخْطُبْنِي إِلَيْهِمْ، فَجَمَعَهُمْ وَخَطَبَهَا إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَا نَرَاهَا تَفْعَلُ هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا ابْتَدَأَتْنِي فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلَهَا فَجَاؤُوهَا، فَذَكَرُوا لَهَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ أَحْبَبْتُ الْوَلَدَ. فَزَوَّجُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا زُفَّتْ إِلَيْهِ خَرَجَتْ فِي أُنَاسٍ كَثِيرٍ مِنْ حَشَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ جَزَّتْ رَأْسَهُ وَانْصَرَفَتْ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى مَنْزِلِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ رَأَوْا الْمَلِكَ قَتِيلًا وَرَأْسُهُ مَنْصُوبٌ عَلَى بَابِ دَارِهَا، فَعَلِمُوا أَنَّ تِلْكَ الْمُنَاكَحَةَ كَانَتْ مَكْرًا وَخَدِيعَةً مِنْهَا، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهَا وَقَالُوا: أَنْتِ بِهَذَا الْمُلْكِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِكِ، فَمَلَّكُوهَا (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً" (2) . قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ مِنَ الْآلَةِ وَالْعِدَّةِ، { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } سَرِيرٌ ضَخْمٌ كَانَ مَضْرُوبًا مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ وَالزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ، وَقَوَائِمُهُ مِنَ الْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ، وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ بَابٌ مُغْلَقٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَرْشُ بِلْقِيسَ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا: وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُهُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ (3) ثَمَانِينَ ذِرَاعًا. وَقِيلَ: كَانَ طُولُهُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا وَارْتِفَاعُهُ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا.
{ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) }
__________
(1) أشار الحافظ ابن كثير إلى هذه القصة وعزاها للثعلبي وغيره. انظر: البداية والنهاية: 2 / 21.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب كتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كسرى وقيصر: 8 / 126، والمصنف في شرح السنة: 10 / 76. وقال: "اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمام ولا قاضيا، لأن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد، والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عن القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة، والإمامة والقضاء من كمال الولايات، فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال..".
(3) في "ب": الهواء.

{ أَلَّا يَسْجُدُوا } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ: "أَلَا يَسْجُدُوا" بِالتَّخْفِيفِ، وَإِذَا وَقَفُوا يَقِفُونَ "أَلَا يَا": أَلَا يَا ثُمَّ يَبْتَدِئُونَ: "اسْجُدُوا"، عَلَى مَعْنَى: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، وَجَعَلُوهُ أَمْرًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفًا، وَحَذَفُوا هَؤُلَاءِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ "يَا" عَلَيْهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ: أَلَا يَا ارْحَمُونَا، يُرِيدُونَ أَلَا يَا قَوْمُ، وَقَالَ الْأَخْطَلُ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ ... وَإِنْ كَانَ حَيَّانَا عِدَا آخِرَ الدَّهْرِ (1)
يُرِيدُ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ "أَلَا" كَلَامًا مُعْتَرِضًا مِنْ غَيْرِ الْقِصَّةِ، إِمَّا مِنَ الْهُدْهُدِ، وَإِمَّا مِنْ سُلَيْمَانَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفٌ يَعْنِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْجُدُوا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "أَلَّا يَسْجُدُوا" بِالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ لِئَلَّا يَسْجُدُوا، { لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ } أَيْ: الْخَفِيَّ المخبَّأ، { فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } أَيْ: مَا خَبَّأَتْ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: خَبْءُ السَّمَاءِ: الْمَطَرُ، وَخَبْءُ الْأَرْضِ: النَّبَاتُ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "يَخْرُجُ الخبء من السموات وَالْأَرْضِ"، وَ"مِنْ" وَ"فِي" يَتَعَاقَبَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَأَسْتَخْرِجَنَّ الْعِلْمَ فِيكُمْ، يُرِيدُ: مِنْكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى "الْخَبْءَ" الْغَيْبُ، يُرِيدُ: يعلم غيب السموات وَالْأَرْضِ. { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: بِالتَّاءِ فِيهِمَا، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ خِطَابٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِي بِتَخْفِيفِ أَلَا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لَا غَيْرُهُ. وَعَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأٍ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فَهُوَ صَغِيرٌ حَقِيرٌ فِي جَنْبِ عَرْشِهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَمَّ هَاهُنَا كَلَامُ الْهُدْهُدِ، فَلَمَّا فَرَغَ الْهُدْهُدُ مِنْ كَلَامِهِ. { قَالَ } سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ: { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ } فِيمَا أَخْبَرْتَ، { أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ؟ فَدَلَّهُمُ الْهُدْهُدُ عَلَى الْمَاءِ، فَاحْتَفَرُوا الرَّكَايَا (2) وَرُوِيَ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ، ثُمَّ كَتَبَ سُلَيْمَانُ كِتَابًا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ إِلَى بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى،
__________
(1) البيت في لسان العرب مادة (عدا)، واستشهد به الطبري أيضا: 19 / 149.
(2) الركايا: جمع ركية، وهي البئر.

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)

أَمَّا بَعْدُ: فَلَا تَعْلُوَا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَزِدْ سُلَيْمَانُ عَلَى مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ كَانَتْ تَكْتُبُ جُمَلًا لَا يُطِيلُونَ وَلَا يُكْثِرُونَ. فَلَمَّا كَتَبَ الْكِتَابَ طَبَعَهُ بِالْمِسْكِ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ. فَقَالَ لِلْهُدْهُدِ { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ }
{ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) }
( { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: سَاكِنَةَ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ وَقَالُونُ كَسْرًا، [وَالْآخَرُونَ بِالْإِشْبَاعِ كَسْرًا]، { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } تَنَحَّ عَنْهُمْ فَكُنْ قَرِيبًا مِنْهُمْ، { فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } يَرُدُّونَ مِنَ الْجَوَابِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهَا: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، أَيْ: انْصَرِفْ إِلَيَّ، فَأَخَذَ الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ فَأَتَى بِهِ إِلَى بِلْقِيسَ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا "مَأْرِبُ" مِنْ صَنْعَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَوَافَاهَا فِي قَصْرِهَا وَقَدْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ، وَكَانَتْ إِذَا رَقَدَتْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَأَخَذَتِ الْمَفَاتِيحَ فَوَضَعَتْهَا تَحْتَ رَأْسِهَا، فَأَتَاهَا الْهُدْهُدُ وَهِيَ نَائِمَةٌ مُسْتَلْقِيَةٌ عَلَى قَفَاهَا، فَأَلْقَى الْكِتَابَ عَلَى نَحْرِهَا، هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَمَلَ الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ بِمِنْقَارِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَحَوْلَهَا الْقَادَةُ وَالْجُنُودُ فَرَفْرَفَ سَاعَةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى رَفَعَتِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا فَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي حِجْرِهَا.
وَقَالَ ابْنُ مُنَبِّهٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ لَهَا كُوَّةٌ مُسْتَقْبِلَةَ الشَّمْسِ تَقَعُ الشَّمْسُ فِيهَا حِينَ تَطْلُعُ، فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهَا سَجَدَتْ لَهَا، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ الْكُوَّةَ فَسَدَّهَا بِجَنَاحَيْهِ فَارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَعَلَمْ، فَلَمَّا اسْتَبْطَأَتِ الشَّمْسَ قَامَتْ تَنْظُرُ، فَرَمَى بِالصَّحِيفَةِ إِلَيْهَا، فَأَخَذَتْ بِلْقِيسُ الْكِتَابَ، وَكَانَتْ قَارِئَةً، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَاتَمَ أُرْعِدَتْ وَخَضَعَتْ لِأَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَانَ فِي خَاتَمِهِ، وَعَرَفَتْ أَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ الْكِتَابَ إِلَيْهَا أَعْظَمُ مُلْكًا مِنْهَا، فَقَرَأَتِ الْكِتَابَ، وَتَأَخَّرَ الْهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَاءَتْ حَتَّى قَعَدَتْ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهَا وَجَمَعَتِ الْمَلَأَ مِنْ قَوْمِهَا، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَائِدٍ مَعَ كُلِّ قَائِدٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مَعَ بِلْقِيسَ مِائَةُ أَلْفٍ [قَيْلٍ، مَعَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفٍ] وَالْقَيْلُ الْمَلِكُ دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: كان أهل 56/ب مشورتها ثلثمائة وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، قَالَ: فَجَاءُوا وَأَخَذُوا مجالسهم (1) . { قَالَتْ } هم بِلْقِيسُ: { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ } وَهُمْ أَشْرَافُ النَّاسِ وَكُبَرَاؤُهُمْ { إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }
__________
(1) انظر الأقوال السالفة في الدر المنثور: 6 / 353-354.

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ: سَمَّتْهُ كَرِيمًا لِأَنَّهُ كَانَ مَخْتُومًا. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتَمُهُ" (1) وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: "كِتَابٌ كَرِيمٌ" أَيْ: حَسَنٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، وَقَالَ: حَسَنٌ مَا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "كَرِيمٌ"، أَيْ: شَرِيفٌ لِشَرَفِ صَاحِبِهِ، وَقِيلَ: سَمَّتْهُ كَرِيمًا لِأَنَّهُ كَانَ مُصَدَّرًا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) ثُمَّ بَيَّنَتْ مِمَّنِ الْكِتَابُ فَقَالَتْ: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ }
{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) }
{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ } وَبَيَّنَتِ الْمَكْتُوبَ فَقَالَتْ: { وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: لَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ. وَقِيلَ: لَا تَتَعَظَّمُوا وَلَا تَتَرَفَّعُوا عَلَيَّ. مَعْنَاهُ: لَا تَمْتَنِعُوا مِنَ الْإِجَابَةِ، فَإِنَّ تَرْكَ الْإِجَابَةِ مِنَ الْعُلُوِّ وَالتَّكَبُّرِ، { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ. قِيلَ: هُوَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ. { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } أَشِيرُوا عَلَيَّ فِيمَا عَرَضَ لِي، وَأَجِيبُونِي فِيمَا أُشَاوِرُكُمْ فِيهِ، { مَا كُنْتُ قَاطِعَةً } قَاضِيَةً وَفَاصِلَةً، { أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } [أَيْ: تَحْضُرُونِ] (3) . { قَالُوا } مُجِيبِينَ لَهَا: { نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ } فِي الْقِتَالِ، { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } عِنْدَ الْحَرْبِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادُوا بِالْقُوَّةِ كَثْرَةَ الْعَدَدِ، وَبِالْبَأْسِ الشَّدِيدِ الشَّجَاعَةَ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ مِنْهُمْ بِالْقِتَالِ إِنْ أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالُوا: { وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ } أَيَّتُهَا الْمَلِكَةُ فِي الْقِتَالِ وَتَرْكِهِ، { فَانْظُرِي } مِنَ الرَّأْيِ، { مَاذَا تَأْمُرِينَ } تَجِدِينَا لِأَمْرِكِ مُطِيعِينَ. { قَالَتْ } بِلْقِيسُ مُجِيبَةً لَهُمْ عَنِ التَّعْرِيضِ لِلْقِتَالِ: { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً } عَنْوَةً،
__________
(1) رواه الطبراني في "الأوسط" من رواية محمد بن مروان، وهو السدي الصغير، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، واخرجه القضاعي في مسند البيهقي. ومحمد بن مروان متروك. انظر: الكافي الشاف ص (125)، مجمع الزوائد: 8 / 99.
(2) أخرج هذه الأقوال الطبري في التفسير: 19 / 153.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

{ أَفْسَدُوهَا } خَرَّبُوهَا، { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أَيْ: أَهَانُوا أَشْرَافَهَا وَكُبَرَاءَهَا، كَيْ يَسْتَقِيمَ لَهُمُ الْأَمْرُ، تُحَذِّرُهُمْ مَسِيرَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِمْ وَدُخُولَهُ بِلَادَهُمْ، وَتَنَاهَى الْخَبَرُ عَنْهَا هَاهُنَا، فَصَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَهَا فَقَالَ: { وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } أَيْ: كَمَا قَالَتْ هِيَ يَفْعَلُونَ.
{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) }
ثُمَّ قَالَتْ: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } وَالْهَدِيَّةُ هِيَ: الْعَطِيَّةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُلَاطَفَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ بِلْقِيسَ كَانَتِ امْرَأَةً لَبِيبَةً قَدْ سَيِسَتْ وَسَاسَتْ، فَقَالَتْ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهَا: إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ: إِلَى سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ، بِهَدِيَّةٍ أُصَانِعُهُ بِهَا عَنْ مُلْكِي وَأَخْتَبِرُهُ بِهَا أَمَلِكٌ هُوَ أَمْ نَبِيٌّ؟ فَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا قَبِلَ الْهَدِيَّةَ وَانْصَرَفَ، وَإِنْ كَانَ نَبيًا لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ وَلَمْ يُرْضِهِ مِنَّا إِلَّا أَنْ نَتَّبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } [فَأَهْدَتْ إِلَيْهِ] (1) وُصَفَاءَ وَوَصَائِفَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (2) أَلْبَسَتْهُمْ لِبَاسًا وَاحِدًا كَيْ لَا يُعْرَفَ ذَكَرٌ مِنْ أُنْثَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أُلْبِسَ الْغِلْمَانُ لِبَاسَ الْجَوَارِي وَأُلْبِسَ الْجَوَارِي لِبَاسَ الْغِلْمَانِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِائَةُ وَصِيفٍ وَمِائَةُ وَصِيفَةٍ (3) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: [وَمُقَاتِلٌ] (4) مِائَتَا غُلَامٍ وَمِائَتَا جَارِيَةٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِلَبِنَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي حَرِيرٍ وَدِيبَاجٍ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: أَهْدَتْ إِلَيْهِ صَفَائِحَ مِنَ الذَّهَبِ فِي أَوْعِيَةِ الدِّيبَاجِ. وَقِيلَ: كَانَتْ أَرْبَعَ لَبِنَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَقَالَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ: عَمَدَتْ بِلْقِيسُ إِلَى خَمْسِمِائَةِ غُلَامٍ وَخَمْسِمِائَةِ جَارِيَةٍ، فَأَلْبَسَتِ الْغِلْمَانَ لِبَاسَ الْجَوَارِي، وَجَعَلَتْ فِي سَوَاعِدِهِمْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي أَعْنَاقِهِمْ أَطْوَاقًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِي آذَانِهِمْ أَقْرَاطًا وَشُنُوفًا مُرَصَّعَاتٍ بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ، وَأَلْبَسَتِ الْجَوَارِيَ لِبَاسَ الْغِلْمَانِ؛ الْأَقْبِيَةَ وَالْمَنَاطِقَ، وَحَمَلَتِ الْجَوَارِيَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَمَكَةٍ (5) وَالْغِلْمَانَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ بِرْذَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فَرَسٍ لِجَامٌ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ وَغَوَاشِيهَا مِنَ الدِّيبَاجِ الْمُلَوَّنِ، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ لَبِنَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَخَمْسَمِائَةِ لَبِنَةٍ مِنْ فِضَّةٍ،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) بعد أن عرض ابن كثير لهذه الروايات التي ساقها البغوي قال: (3 / 364) "والله أعلم أكان ذلك أم لا؟ وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات"، وقال الشيخ محمد أبو شهبة ص (252): وأي ملك في الدنيا يتسع لفرش تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة؟!! وفي رواية وهب ما يدل على الأصل الذي جاءت منه هذه المرويات، وأن من روى ذلك من السف فإنما أخذه عن مسلمة أهل الكتاب وما كان أجدر كتب التفسير أن تنزه عن مثل هذا اللغو والخرافات التي تدسست إلى الرواية الإسلامية فأساءت إليها.
(3) الوصيفة: الجارية.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) أنثى البغال.

وَتَاجًا مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ الْمُرْتَفِعِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ وَالْعُودَ الْأَلَنْجُوجَ، وَعَمَدَتْ إِلَى حُقَّةٍ فَجَعَلَتْ فِيهَا دُرَّةً ثَمِينَةً غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ وَخَرَزَةً جَزِعِيَّةً مَثْقُوبَةً مُعْوَجَّةَ الثُّقْبِ، وَدَعَتْ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهَا يُقَالُ لَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَضَمَّتْ إِلَيْهِ، رِجَالًا مِنْ قَوْمِهَا أَصْحَابَ رَأْيٍ وَعَقْلٍ، وَكَتَبَتْ مَعَهُ كِتَابًا بِنُسْخَةِ الْهَدِيَّةِ، وَقَالَتْ فِيهِ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَمَيِّزْ بَيْنَ الْوَصَائِفِ وَالْوُصَفَاءِ، وَأَخْبِرْ بِمَا فِي الْحُقَّةِ قَبْلَ أَنْ تَفْتَحَهَا، وَاثْقُبِ الدُّرَّ ثَقْبًا مُسْتَوِيًا، وَأَدْخِلْ خَيْطًا فِي الْخَرَزَةِ الْمَثْقُوبَةِ مِنْ غَيْرِ عِلَاجِ إِنْسٍ وَلَا جِنٍّ. وَأَمَرَتْ بِلْقِيسُ الْغِلْمَانَ، فَقَالَتْ: إِذَا كَلَّمَكُمْ سُلَيْمَانُ فَكَلَّمُوهُ بِكَلَامِ تَأْنِيثٍ وَتَخْنِيثٍ يُشْبِهُ كَلَامَ النِّسَاءِ، وَأَمَرَتِ الْجَوَارِيَ أَنْ يُكَلِّمْنَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ يُشْبِهُ كَلَامَ الرِّجَالِ.
ثُمَّ قَالَتْ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَإِنْ نَظَرَ إِلَيْكَ نَظَرَ غَضَبٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَا يَهُولَنَّكَ مَنْظَرُهُ، فَإِنَّا أَعَزُّ مِنْهُ، وَإِنْ رَأَيْتَ الرَّجُلَ بَشَّاشًا لَطِيفًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ فَتَفَهَّمْ قَوْلَهُ، وَرُدَّ الْجَوَابَ. فَانْطَلَقَ الرَّسُولُ بِالْهَدَايَا، وَأَقْبَلَ الْهُدْهُدُ مُسْرِعًا إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ كُلَّهُ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الْجِنَّ أَنْ يَضْرِبُوا لَبِنَاتِ الذَّهَبِ وَلَبِنَاتِ الْفِضَّةِ فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبْسُطُوا مِنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَى تِسْعَةِ فَرَاسِخَ مَيْدَانًا وَاحِدًا بِلَبِنَاتِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ يَجْعَلُوا حَوْلَ الْمَيْدَانِ حَائِطًا، شُرُفُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ الدَّوَابِّ أَحْسِنُ مِمَّا رَأَيْتُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا رَأَيْنَا دَوَابًّا فِي بَحْرِ كَذَا وَكَذَا مُنَطَّقَةً مُخْتَلِفَةٌ أَلْوَانُهَا لَهَا أَجْنِحَةٌ وَأَعْرَافٌ وَنَوَاصٍ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَا السَّاعَةَ، فَأَتَوْا بِهَا، فَقَالَ: شَدُّوهَا عَنْ يَمِينِ الْمَيْدَانِ وَعَنْ يَسَارِهِ عَلَى لَبِنَاتِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَلْقُوا لَهَا عَلُوفَتَهَا فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْجِنِّ: عَلَيَّ بِأَوْلَادِكُمْ، فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَقَامَهُمْ عَلَى يَمِينِ الْمَيْدَانِ وَيَسَارِهِ، ثُمَّ قَعَدَ سُلَيْمَانُ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى سَرِيرِهِ، وَوُضِعَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ كُرْسِيٍّ عَنْ يَمِينِهِ وَمَثَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ، وَأَمْرَ الشَّيَاطِينَ أَنْ يَصْطَفُّوا صُفُوفًا فَرَاسِخَ، وَأَمْرَ الْإِنْسَ فَاصْطَفَوْا فَرَاسِخَ وَأَمْرَ الْوُحُوشَ وَالسِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ وَالطَّيْرَ، فَاصْطَفَوْا فَرَاسِخَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ من الميدان 57/أ وَنَظَرُوا إِلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَرَأَوُا الدَّوَابَّ الَّتِي لَمْ تَرَ أَعْيُنُهُمْ مِثْلَهَا تَرُوثُ عَلَى لَبِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، تَقَاصَرَتْ أَنْفُسُهُمْ وَرَمَوْا بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْهَدَايَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ [أَنَّ سُلَيْمَانَ] (1) لَمَّا أَمَرَ بِفَرْشِ الْمَيْدَانِ بِلَبِنَاتِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا عَلَى طَرِيقِهِمْ مَوْضِعًا عَلَى قَدْرِ مَوْضِعِ اللَّبِنَاتِ الَّتِي مَعَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الرُّسُلُ مَوْضِعَ اللَّبِنَاتِ خَالِيًا وَكُلَّ الْأَرْضِ مَفْرُوشَةً خَافُوا أَنْ يُتَّهَمُوا بِذَلِكَ فَطَرَحُوا مَا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَلَمَّا رَأَوُا الشَّيَاطِينَ نَظَرُوا إِلَى مَنْظَرٍ عَجِيبٍ، فَفَزِعُوا، فَقَالَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ: جُوزُوا فَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، فَكَانُوا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

يَمُرُّونَ عَلَى كُرْدُوسٍ كُرْدُوسٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وَالْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ وَالْوُحُوشِ، حَتَّى وَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْ سُلَيْمَانَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ نَظَرًا حَسَنًا بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَقَالَ: مَا وَرَاءَكُمْ؟ فَأَخْبَرَهُ رَئِيسُ الْقَوْمِ بِمَا جَاؤُوا لَهُ، وَأَعْطَاهُ كِتَابَ الْمَلِكَةِ، فَنَظَرَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ الْحُقَّةُ؟ فَأَتَى بِهَا فَحَرَّكَهَا، وَجَاءَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا فِي الْحُقَّةِ، فَقَالَ: إِنْ فِيهَا دُرَّةً ثَمِينَةً غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ، وَجَزِعَةً مَثْقُوبَةً مُعْوَجَّةَ الثُّقْبِ، فَقَالَ الرَّسُولُ: صَدَقْتَ، فَاثْقُبِ الدُّرَّةَ، وَأَدْخِلِ الْخَيْطَ فِي الْخَرَزَةِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مِنْ لِي بِثُقْبِهَا فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ ثُمَّ الْجِنَّ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَ الشَّيَاطِينَ، فَقَالُوا: نُرْسِلُ إِلَى الْأَرَضَةِ فَجَاءَتِ الْأَرَضَةُ فَأَخَذَتْ شَعْرَةً فِي فِيهَا فَدَخَلَتْ فِيهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: مَا حَاجَتُكِ؟ فَقَالَتْ: تُصَيِّرُ رِزْقِي فِي الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لَكِ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَتْ دُودَةٌ تَكُونُ فِي الصَّفْصَافِ فَقَالَتْ: أَنَا أُدْخِلُ الْخَيْطَ فِي الثُّقْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ رِزْقِي فِي الصَّفْصَافِ، فَجَعَلَ لَهَا ذَلِكَ، فَأَخَذَتِ الْخَيْطَ بِفِيهَا وَدَخَلَتِ الثُّقْبَ وَخَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ لِهَذِهِ الْخَرَزَةِ فَيَسْلُكُهَا فِي الْخَيْطِ؟ فَقَالَتْ دُودَةٌ بَيْضَاءُ أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَتِ الدُّودَةُ الْخَيْطَ فِي فِيهَا وَدَخَلَتِ الثُّقْبَ حَتَّى خَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا حَاجَتُكِ؟ فَقَالَتْ: تَجْعَلُ رِزْقِي فِي الْفَوَاكِهِ، قَالَ: لَكِ ذَلِكَ، ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَ الْجَوَارِي وَالْغِلْمَانِ، بِأَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَغْسِلُوا وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ، فَجَعَلَتِ الْجَارِيَةُ تَأْخُذُ الْمَاءَ مِنَ الْآنِيَةِ بِإِحْدَى يَدَيْهَا ثُمَّ تَجْعَلُهُ عَلَى الْيَدِ الْأُخْرَى ثُمَّ تَضْرِبُ بِهِ الْوَجْهَ، وَالْغُلَامُ كَمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْآنِيَةِ يَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ، وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى بَطْنِ سَاعِدِهَا، وَالْغُلَامُ عَلَى ظَهْرِ السَّاعِدِ، وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ تَصُبُّ الْمَاءَ صَبًّا وَكَانَ الْغُلَامُ يَحْدُرُ الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ حَدْرًا، فَمَيَّزَ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَدَّ سُلَيْمَانُ الْهَدِيَّةَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ }

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)

{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) }
{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ: " أَتُمِدُّونِّي " بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِنُونَيْنِ خَفِيفَيْنِ، وَيُثْبِتُ الْيَاءَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ، وَالْآخَرُونَ يَحْذِفُونَهَا، { فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ } أَعْطَانِيَ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدِّينِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ، { خَيْرٌ } أَفْضَلُ، { مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } لِأَنَّكُمْ أَهْلُ مُفَاخَرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَمُكَاثَرَةٍ بِهَا، تَفْرَحُونَ بِإِهْدَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْرَحُ بِهَا، وَلَيْسَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَاجَتِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَكَّنَنِي فِيهَا وَأَعْطَانِي مِنْهَا مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَكْرَمَنِي بِالدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو وَأَمِيرِ الْوَفْدِ: { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ }

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)

{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) }
{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ } بِالْهَدِيَّةِ، { فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ } لَا طَاقَةَ لَهُمْ، { بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا } أَيْ: مِنْ أَرْضِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَهِيَ سَبَأٌ، { أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } ذَلِيلُونَ إِنْ لَمْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ: فَلَمَّا رَجَعَتْ رُسُلُ بِلْقِيسَ إِلَيْهَا مِنْ عِنْدِ سُلَيْمَانَ، قَالَتْ: قَدْ عَرَفْتُ -وَاللَّهِ-مَا هَذَا بِمَلِكٍ وَمَا لَنَا بِهِ طَاقَةٌ، فَبَعَثَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي حَتَّى أَنْظُرَ مَا أَمَرُكَ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ دِينِكَ، ثُمَّ أَمَرَتْ بِعَرْشِهَا فَجُعِلَ فِي آخِرِ سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فِي آخِرِ قَصْرٍ مِنْ سَبْعَةِ قُصُورٍ لَهَا، ثُمَّ أُغْلِقَتْ دُونَهُ الْأَبْوَابُ، وَوَكَّلَتْ بِهِ حُرَّاسًا يَحْفَظُونَهُ، ثُمَّ قَالَتْ لِمَنْ خَلَّفَتْ عَلَى سُلْطَانِهَا: احْتَفِظَ بِمَا قِبَلَكَ وَسَرِيرِ مُلْكِي، لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَرَيَنَّهُ حَتَّى آتِيَكَ، ثُمَّ أَمَرَتْ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهَا يُؤَذِّنُهُمْ بِالرَّحِيلِ، وَشَخَصَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَيْلٍ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ قَيْلٍ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ سُلَيْمَانُ رَجُلًا مَهِيبًا لَا يُبْتَدَأُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْهُ، فَخَرَجَ يَوْمًا فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَرَأَى رَهْجًا قَرِيبًا مِنْهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِلْقِيسُ وَقَدْ نَزَلَتْ مِنَّا بِهَذَا الْمَكَانِ، وَكَانَ عَلَى مَسِيرَةِ فَرْسَخٍ مِنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ قَدْرَ فَرَسَخٍ، فَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ حِينَئِذٍ عَلَى جُنُودِهِ. { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أَيْ: مُؤْمِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَائِعِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ سُلَيْمَانُ بِإِحْضَارِ عَرْشِهَا، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لِأَنَّ سُلَيْمَانَ عَلِمَ أَنَّهَا إِنْ أَسْلَمَتْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَالُهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ سَرِيرَهَا قَبْلَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ بِإِسْلَامِهَا (1) . وَقِيلَ: لِيُرِيَهَا قُدْرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِظَمَ سُلْطَانِهِ فِي مُعْجِزَةٍ يَأْتِي بِهَا فِي عَرْشِهَا (2) .
__________
(1) رواه الطبري (19 / 160) عن قتادة.
(2) وهو ما رجحه الطبري: (19 / 161) قال: ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته، ويعرفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلفته في بيت في جوف أبيات، بعضها في جوف بعض، مغلق مقفل عليها، فأخرجه الله من ذلك كله بغير فتح أغلاق وأقفال، حتى أوصله إلى وليه من خلقه، وسلمه إليه، فكان لها في ذلك أعظم حجة، على حقيقة ما دعاها إليه سليمان، وعلى صدق سليمان فيما أعلمها من نبوته". وانظر: القرطبي: 13 / 202، ابن كثير: 3 / 364، زاد المسير: 6 / 173.

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

وَقَالَ قَتَادَةُ: لِأَنَّهُ أَعْجَبَتْهُ صِفَتُهُ لَمَّا وَصَفَهُ الْهُدْهُدُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَرَاهُ (1) . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ بِتَنْكِيرِهِ وَتَغْيِيرِهِ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ عَقْلَهَا (2) .
{ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) }
{ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ } وَهُوَ الْمَارِدُ الْقَوِيُّ، قَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُ كُوذَى (3) وَقِيلَ: ذَكْوَانُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعِفْرِيتُ الدَّاهِيَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْخَبِيثُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْغَلِيظُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، وَقِيلَ: هُوَ صَخْرَةُ الْجِنِّيِّ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ جَبَلٍ يَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ، { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } أَيْ: مِنْ مَجْلِسِكَ الَّذِي تَقْضِي فِيهِ، [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ لَهُ كُلَّ غَدَاةٍ مَجْلِسٌ يَقْضِي فِيهِ] (4) إِلَى مُنْتَهَى النَّهَارِ، { وَإِنِّي عَلَيْهِ } أَيْ: عَلَى حَمْلِهِ، { لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أُرِيدُ أَسْرَعَ من هذا. فـ { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } 57/ب وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ (5) هُوَ جِبْرِيلُ. وَقِيلَ: هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ آصف بن برخيا، وَكَانَ صَدِيقًا يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ، وَمُقَاتِلٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ آصَفَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ حِينَ صَلَّى: مُدَّ عَيْنَيْكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ طَرْفُكَ، فَمَدَّ سُلَيْمَانُ عَيْنَيْهِ، فَنَظَرَ نَحْوَ الْيَمِينِ، وَدَعَا آصَفُ فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَحَمَلُوا السَّرِيرَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ يَخُدُّونَ بِهِ خَدًّا حَتَّى انْخَرَقَتِ الْأَرْضُ بِالسَّرِيرِ بَيْنَ يَدَيْ سُلَيْمَانَ.
__________
(1) ذكره القرطبي عن قتادة أيضا، انظر: 13 / 203.
(2) أخرجه الطبري: 19 / 160-161، وانظر: القرطبي: 13 / 203، زاد المسير: 6 / 173، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا.
(3) في الطبري عن وهب قال: اسمه كوزن، وليس في ذلك خبر صحيح عن المعصوم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا فائدة من البحث في معرفة هذا الاسم والله أعلم.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) انظر هذه الأقوال في: الطبري: 19 / 162-163، الدر المنثور: 6 / 360-361، زاد المسير: 6 / 175، ابن كثير: 3 / 365.

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَرَّ آصَفُ سَاجِدًا وَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فَغَابَ عَرْشُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى نَبَعَ عِنْدَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْمَسَافَةُ مِقْدَارَ شَهْرَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الدُّعَاءِ [الَّذِي دَعَا بِهِ] (1) آصَفُ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: دُعَاءُ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ: يَا إِلَهَنَا وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ائْتِنِي بِعَرْشِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّمَا هُوَ سُلَيْمَانُ، قَالَ لَهُ عَالِمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَفَهْمًا: { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قَالَ سُلَيْمَانُ: هَاتِ، قَالَ: أَنْتَ النَّبِيُّ ابْنُ النَّبِيِّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَوْجَهَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْكَ، فَإِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ وَطَلَبْتَ إِلَيْهِ كَانَ عِنْدَكَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَجِيءَ بِالْعَرْشِ فِي الْوَقْتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ أَقْصَى مَنْ تَرَى، وَهُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ مَنْ كَانَ مِنْكَ عَلَى مَدِّ بَصَرِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الشَّخْصُ مِنْ مَدِّ الْبَصَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي إِدَامَةَ النَّظَرِ حَتَّى يَرْتَدَّ الطَّرْفُ خَاسِئًا. وَقَالَ وَهَبٌ: تَمُدُّ عَيْنَيْكَ فَلَا يَنْتَهِي طَرْفُكَ إِلَى مَدَاهُ، حَتَّى أُمَثِّلَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، { فَلَمَّا رَآهُ } يَعْنِي: رَأَى (2) سُلَيْمَانُ الْعَرْشَ، { مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ } مَحْمُولًا إِلَيْهِ مِنْ مَأْرِبَ إِلَى (3) الشَّامِ فِي قَدْرِ ارْتِدَادِ (4) الطَّرْفِ، { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ } نِعْمَتَهُ، { أَمْ أَكْفُرُ } [فَلَا أَشْكُرُهَا] (5) { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أَيْ: يُعُودُ نَفْعُ شُكْرِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْجِبَ بِهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَدَوَامَهَا، لِأَنَّ الشُّكْرَ قَيْدُ النِّعْمَةِ الْمَوْجُودَةِ وَصَيْدُ النِّعْمَةِ الْمَفْقُودَةِ، { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } عَنْ شكره، { كَرِيمٌ } بإفضال عَلَى مَنْ يَكْفُرُ نِعَمَهُ.
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } يَقُولُ: غَيَّرُوا سَرِيرَهَا إِلَى حَالٍ تُنْكِرُهُ إِذَا رَأَتْهُ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وَيُنْقَصَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَأَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْجَوْهَرِ الْأَحْمَرِ أَخْضَرَ وَمَكَانَ الْأَخْضَرِ أَحْمَرَ، { نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي } إِلَى عَرْشِهَا فَتَعْرِفُهُ، { أَمْ تَكُونُ مِنَ } الْجَاهِلِينَ، { الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ } إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ سُلَيْمَانُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ وَهْبٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".
(4) في "أ": إمداد.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".

فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)

وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الشَّيَاطِينَ خَافَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا سُلَيْمَانُ فَتُفْشِي إِلَيْهِ أَسْرَارَ الْجِنِّ وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهَا كَانَتْ جِنِّيَّةً، وَإِذَا وَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ تَسْخِيرِ سُلَيْمَانَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَسَاؤُا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا لِيُزَهِّدُوهُ فِيهَا، وَقَالُوا: إِنَّ فِي عَقْلِهَا شَيْئًا وَإِنَّ رِجْلَهَا كَحَافِرِ الْحِمَارِ وَأَنَّهَا شَعْرَاءُ السَّاقَيْنِ فَأَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا بِتَنْكِيرِ عَرْشِهَا وَيَنْظُرَ إِلَى قَدَمَيْهَا بِبِنَاءِ الصَّرْحِ (1) .
{ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) }
{ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: عَرَفَتْهُ لَكِنَّهَا شَبَّهَتْ عَلَيْهِمْ كَمَا شَبَّهُوا عَلَيْهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ حَكِيمَةً لَمْ تَقُلْ: نَعَمْ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكْذِبَ، وَلَمْ تَقُلْ: لَا خَوْفًا مِنَ التَّكْذِيبِ، قَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ، فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ كَمَالَ عَقْلِهَا حَيْثُ لَمَّ تُقِرَّ وَلَمْ تُنْكِرْ. وَقِيلَ اشْتَبَهَ عَلَيْهَا أَمْرُ الْعَرْشِ، لِأَنَّهَا تَرَكَتْهُ فِي بَيْتٍ خَلْفَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مُغَلَّقَةً وَالْمَفَاتِيحُ مَعَهَا، وَقِيلَ لَهَا: فَإِنَّهُ عَرْشُكِ فَمَا أَغْنَى عَنْكِ إِغْلَاقُ الْأَبْوَابِ، فَقَالَ: { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ } بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَمْرِ الْهَدِيَّةِ وَالرُّسُلِ، { مِنْ قَبْلِهَا } مِنْ قَبْلِ الْآيَةِ فِي الْعَرْشِ { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } مُنْقَادِينَ طَائِعِينَ لِأَمْرِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ قَوْلُهُ: "وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا" قَالَهُ سُلَيْمَانُ، يَقُولُ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ (2) . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِإِسْلَامِهَا وَمَجِيئِهَا طَائِعَةً مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ طَائِعِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أَيْ: مَنَعَهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُوَ الشَّمْسُ، أَنْ تُعْبَدَ اللَّهَ، أَيْ: صَدَّهَا عِبَادَةُ الشَّمْسِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ " مَا " فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ (3) .
__________
(1) هذه الروايات من الإسرائيليات المكذوبة على أنبياء الله تعالى، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، بعد أن ذكر بعض المرويات في ذلك (3 / 367): "والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة".
(2) أخرجه الطبري: 19 / 167 وهو قول سعيد بن جبير، واستحسنه ابن كثير: 3 / 366، وأيده بأنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح.
(3) انظر: الطبري 19 / 167، الدر المنثور: 6 / 362.

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ [صَدَّهَا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا نُقْصَانُ عَقْلِهَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ: إِنَّ فِي عَقْلِهَا شَيْئًا، بَلْ كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ] (1) . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَصَدَّهَا سُلَيْمَانُ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: مَنَعَهَا ذَلِكَ وَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَيَكُونُ مَحَلُّ "مَا" نَصَبًا. { إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ } هَذَا اسْتِئْنَافٌ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، فَنَشَأَتْ بَيْنَهُمْ وَلَمْ تَعْرِفْ إِلَّا عِبَادَةَ الشَّمْسِ.
{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَدَمَيْهَا وَسَاقَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهَا كَشْفَهَا، لَمَّا قَالَتِ الشَّيَاطِينُ: إِنَّ رِجْلَيْهَا كَحَافِرِ الْحِمَارِ، وَهِيَ شَعْرَاءُ السَّاقَيْنِ، أَمَرَ الشَّيَاطِينِ فَبَنَوْا لَهُ صَرْحًا أَيْ: قَصْرًا مِنْ زُجَاجٍ، وَقِيلَ بَيْتًا مِنْ زُجَاجٍ كَأَنَّهُ الْمَاءُ بَيَاضًا، وَقِيلَ: الصَّرْحُ صَحْنُ الدَّارِ، وَأَجْرَى تَحْتَهُ الْمَاءَ، وَأَلْقَى فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ دَوَابَّ الْبَحْرِ السَّمَكِ وَالضَّفَادِعِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ وَضَعَ سَرِيرَهُ فِي صَدْرِهِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَقِيلَ: اتَّخَذَ صَحْنًا مِنْ قَوَارِيرَ وَجَعَلَ تَحْتَهَا تَمَاثِيلَ مِنَ الْحِيتَانِ وَالضَّفَادِعِ، فَكَانَ الْوَاحِدُ إِذَا رَآهُ ظَنَّهُ مَاءً. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَنَى الصَّرْحَ لِيَخْتَبِرَ فَهْمَهَا كَمَا فَعَلَتْ هِيَ بِالْوُصَفَاءِ وَالْوَصَائِفِ (2) فَلَمَّا جَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ دَعَا بِلْقِيسَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ.
__________
(1) جاءت العبارة في "ب" هكذا: وصدها هذا عن عبادة الله ما كانت تعبد من دون الله.
(2) راجع ما نقلناه عن ابن كثير تعليقا على هذه الروايات آنفا. وقال الطبري: (19 / 169): "وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين؛ الذي قاله وهب، والذي قاله محمد بن كعب القرظي، ليختبر عقلها وينظر إلى ساقها وقدمها، ليعرف صحة ما قيل فيها".
والحق أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- أراد ببنائه الصرح: أن يريها عظمة ملكه وسلطانه، وأن الله -سبحانه وتعالى- أعطاه من الملك، ومن أسباب العمران والحضارة ما لم يعطها، فضلا عن النبوة التي هي فوق الملك، والتي دونها أية نعمة، وحاشا لسليمان -عليه السلام- وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكما يوافق حكمه -أي الله، فأوتيه- أن يتحايل هذا التحايل، حتى ينظر إلى ما حرم الله عليه، وهما ساقاها، وهو أجل من ذلك وأسمى.
ولولا أنها رأت من سليمان ما كان عليه من الدين المتين، والخلق الرفيع، لما أذعنت إليه لما دعاها إلى الله الواحد الحق، ولما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب والشمس، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. انظر: الإسرائيليات والموضوعات للشيخ محمد أبو شهبة ص: 249-250.

{ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } 58/أ وَهِيَ مُعْظَمُ الْمَاءِ، { وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } لِتَخُوضَهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَنَظَرَ سُلَيْمَانُ فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ قَدَمًا وَسَاقًا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ شَعْرَاءَ السَّاقَيْنِ، فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ ذَلِكَ صَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهُ وَنَادَاهَا (1) { قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ } مُمَلَّسٌ مُسْتَوٍ، { مِنْ قَوَارِيرَ } وَلَيْسَ بِمَاءٍ، ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ دَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْ حَالَ الْعَرْشِ وَالصَّرْحَ فَأَجَابَتْ، وَ{ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } بِالْكَفْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا رَأَتِ السَّرِيرَ وَالصَّرْحَ عَلِمَتْ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ مِنَ اللَّهِ فَقَالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بِعِبَادَةِ غَيْرِكَ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أَيْ: أَخْلَصْتُ لَهُ التَّوْحِيدَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا بَلَغَتِ الصَّرْحَ وَظَنَّتْهُ لُجَّةً، قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: إِنَّ سُلَيْمَانَ يُرِيدُ أَنْ يُغْرِقَنِي، وَكَانَ الْقَتْلُ عَلَيَّ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا، فَقَوْلُهَا: "ظَلَمْتُ نَفْسِي" تَعْنِي بِذَلِكَ الظَّنَّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا، قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ: هَلْ تَزَوَّجَهَا سُلَيْمَانُ؟ قَالَ: انْتَهَى أَمْرُهَا إِلَى قَوْلِهَا: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَعْنِي: لَا عِلْمَ لَنَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزَوَّجَهَا، وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَرِهَ مَا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ شَعْرِ سَاقَيْهَا، فَسَأَلَ الْإِنْسَ: مَا يُذْهِبُ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُوسَى، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَمْ تَمَسَّنِي حَدِيدَةٌ قَطُّ، فِكَرِهَ سُلَيْمَانُ الْمُوسَى، وَقَالَ: إِنَّهَا تَقْطَعُ سَاقَيْهَا، فَسَأَلَ الْجِنَّ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي، ثُمَّ سَأَلَ الشَّيَاطِينَ فَقَالُوا: إِنَّا نَحْتَالُ لَكَ حِيلَةً حَتَّى تَكُونَ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ، فَاتَّخَذُوا النُّوْرَةَ وَالْحَمَّامَ، فَكَانَتِ النُّوْرَةُ وَالْحَمَّامَاتُ مِنْ يَوْمَئِذٍ (2) فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا سُلَيْمَانُ أَحَبَّهَا حُبًّا شَدِيدًا، وَأَقَرَّهَا عَلَى مُلْكِهَا، وَأَمَرَ الْجِنَّ فَابْتَنَوْا لَهَا بِأَرْضِ الْيَمَنِ ثَلَاثَةَ حُصُونٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا ارْتِفَاعًا وَحُسْنًا، وَهِيَ: سَلْحِينُ، وَبَيْنُونُ، وَعَمْدَانُ. ثُمَّ كَانَ سُلَيْمَانُ يَزُورُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ رَدَّهَا إِلَى مُلْكِهَا وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَبْتَكِرُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْيَمَنِ، وَمِنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ، وَوَلَدَتْ لَهُ فِيمَا ذُكِرَ وَرُوِيَ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ بِلْقِيسَ لَمَّا أَسْلَمَتْ قَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: اخْتَارِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِكِ أُزَوِّجُكِهِ، قَالَتْ: وَمِثْلِي يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَنْكِحُ الرِّجَالَ وَقَدْ كَانَ لِي فِي قَوْمِي مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ مَا كَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تُحَرِّمِي مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكِ، فَقَالَتْ: زَوِّجْنِي إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ ذَا تُبَّعٍ مَلِكَ هَمَذَانَ فَزَوَّجُهُ إِيَّاهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى الْيَمَنِ، وَسَلَّطَ زَوْجَهَا ذَا تُبَّعٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَدَعَا زَوْبَعَةَ أَمِيرَ جِنِّ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اعْمَلْ لِذِي تُبَّعٍ مَا
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) هذا وأمثاله من مفتريات يهود الذين يصورون الأنبياء وكأنهم لا هم لهم إلا اللذة والاحتيال لإزالة شعر الساقين إظهارا للمحاسن وإرواء للشهوة. وقد روى ابن أبي شيبة أثرا في ذلك، قال عنه ابن كثير: (3 / 367) "هو منكر غريب جدا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم، والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم..".

اسْتَعْمَلَكَ فِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا مَلِكًا يَعْمَلُ لَهُ فِيهَا مَا أَرَادَ حَتَّى مَاتَ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا أَنْ حَالَ الْحَوْلُ، وَتَبَيَّنَتِ الْجِنُّ مَوْتَ سُلَيْمَانَ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَسَلَكَ تِهَامَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي جَوْفِ الْيَمَنِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ إِنَّ الْمَلِكَ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتَفَرَّقُوا، وَانْقَضَى مُلْكُ ذِي تُبَّعٍ، وَمُلْكُ بِلْقِيسَ مَعَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ (1) . وَقِيلَ: إِنَّ الْمُلْكَ وَصَلَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
__________
(1) انظر ما سبق نقلا عن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعليقا على هذه المرويات.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ } [أَيْ: أَنِ] (1) { اعْبُدُوا اللَّهَ } وَحْدَهُ، { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ } [مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ] (2) { يَخْتَصِمُونَ } فِي الدِّينِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَاخْتِصَامُهُمْ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ"، إِلَى قَوْلِهِ: "يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ المرسلين" (الأعراف-75-77) . فـ { قَالَ } لَهُمْ صَالِحٌ، { يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ } بِالْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَةِ، { قَبْلَ الْحَسَنَةِ } الْعَافِيَةِ وَالرَّحْمَةِ، { لَوْلَا } هَلَّا { تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ } بِالتَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِكُمْ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { قَالُوا اطَّيَّرْنَا } أَيْ: تَشَاءَمْنَا، وَأَصْلُهُ: تَطَيَّرْنَا، { بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } قِيلَ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقُحِطُوا، فَقَالُوا: أَصَابَنَا هَذَا الضُّرُّ وَالشِّدَّةُ مِنْ شُؤْمِكَ وَشُؤْمِ أَصْحَابِكَ. { قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أَيْ: مَا يُصِيبُكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْكُمْ، سُمِّيَ طَائِرًا لِسُرْعَةِ نُزُولِهِ بِالْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَسْرَعُ مِنْ قَضَاءٍ مَحْتُومٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشُّؤْمُ أَتَاكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِكُفْرِكُمْ. وَقِيلَ: طَائِرُكُمْ أَيْ: عَمَلُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، سُمِّي طَائِرًا لِسُرْعَةِ صُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ. { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُخْتَبَرُونَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً" (الْأَنْبِيَاءِ-35) ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: تُعَذَّبُونَ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ } يَعْنِي: مَدِينَةَ ثَمُودَ، وَهِيَ الْحِجْرُ، { تِسْعَةُ رَهْطٍ } مِنْ أَبْنَاءِ أَشْرَافِهِمْ، { يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } وَهُمُ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ، وَهُمْ غُوَاةُ قَوْمِ صَالِحٍ، وَرَأْسُهُمْ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى عَقْرَهَا، كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي. قَالُوا { تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ } تَحَالَفُوا، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيْ: احْلِفُوا بِاللَّهِ أَيُّهَا الْقَوْمُ. وَمَوْضِعُ "تَقَاسَمُوا" جُزِمَ عَلَى الْأَمْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: مَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، يَعْنِي: أَنَّهُمْ تَحَالَفُوا وَتَوَاثَقُوا، تَقْدِيرُهُ: قَالُوا مُتَقَاسِمِينَ بِاللَّهِ، { لَنُبَيِّتَنَّهُ } أَيْ: لِنَقْتُلَنَّهُ بَيَاتًا أَيْ: لَيْلًا { وَأَهْلَهُ } أَيْ: وَقَوْمَهُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "لَتُبَيِّتُنَّهُ" وَ"لَتَقُولُنَّ" بِالتَّاءِ فِيهِمَا وَضَمِّ لَامِ الْفِعْلِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ فِيهِمَا وَفَتَحِ لَامِ الْفِعْلِ، { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } أَيْ: لِوَلِيِّ دَمِهِ، { مَا شَهِدْنَا } مَا حَضَرْنَا، { مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أَيْ: إِهْلَاكَهُمْ، وَلَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ، وَمَنْ فَتَحَ الْمِيمَ فَمَعْنَاهُ هَلَاكُ أَهْلِهِ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فِي قَوْلِنَا مَا شَهِدْنَا ذَلِكَ. { وَمَكَرُوا مَكْرًا } غَدَرُوا غَدْرًا حِينَ قَصَدُوا تَبْيِيتَ صَالِحٍ وَالْفَتْكَ بِهِ، { وَمَكَرْنَا مَكْرًا } جَزَيْنَاهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ بِتَعْجِيلِ عُقُوبَتِهِمْ، { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ "أَنَّا" بِفَتْحِ الْأَلِفِ رَدًّا عَلَى الْعَاقِبَةِ، أَيْ: كَانَتِ الْعَاقِبَةُ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، وقرأ الآخرون: 58/ب "إِنَّا" بالكسر على الاسئناف، { دَمَّرْنَاهُمْ } أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمُ التِّسْعَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَلَاكِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَى دَارِ صَالِحٍ يَحْرُسُونَهُ، فَأَتَى التِّسْعَةُ دَارَ صَالِحٍ شَاهِرِينَ سُيُوفَهُمْ، فَرَمَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ يَرَوْنَ الْحِجَارَةَ وَلَا يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، فَقَتَلَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلُوا فِي سَفْحِ جَبَلٍ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَأْتُوا دَارَ صَالِحٍ، فَجَثَمَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ فَأَهْلَكَهُمْ. { وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالصَّيْحَةِ.
{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) }

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59) }
{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: خَالِيَةً، { بِمَا ظَلَمُوا } أَيْ: بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ،

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } لَعِبْرَةً، { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قُدْرَتَنَا. { وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } يُقَالُ: كَانَ النَّاجُونَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } وَهِيَ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ، { وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } أَيْ: تَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَكَانُوا لَا يَسْتَتِرُونَ عُتُوًّا مِنْهُمْ. { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ. { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا } قَضَيْنَا عَلَيْهَا وَجَعَلْنَاهَا بِتَقْدِيرِنَا، { مِنَ الْغَابِرِينَ } أَيِ: الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ. { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا } وَهُوَ الْحِجَارَةُ، { فَسَاءَ } فَبِئْسَ، { مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } هَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى هَلَاكِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ. { وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } قَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ (1) دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) . وَقِيلَ: هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ (4) { آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ: { يُشْرِكُونَ } بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، يُخَاطِبُ أَهْلَ مَكَّةَ، وَفِيهِ إِلْزَامُ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَلَاكِ الْكُفَّارِ، يَقُولُ: آللَّهُ خَيْرٌ لِمَنْ عَبَدَهُ، أَمِ الْأَصْنَامُ لِمَنْ عَبَدَهَا؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ نَجَّى مَنْ عَبَدَهَ مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْأَصْنَامُ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا عَنْ عَابِدِيهَا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ.
{ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) }
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } مَعْنَاهُ آلِهَتُكُمْ خَيْرٌ أَمِ الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ، { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } يَعْنِي الْمَطَرَ، { فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ } ؟ بَسَاتِينَ جَمْعُ حَدِيقَةٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ الْمُحَاطُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَلَيْسَ بِحَدِيقَةٍ، { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أَيْ: مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَالْبَهْجَةُ: الْحُسْنُ يَبْتَهِجُ بِهِ مَنْ يَرَاهُ، { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا } أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا. { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: هَلْ مَعَهُ مَعْبُودٌ سِوَاهُ أَعَانَهُ عَلَى صُنْعِهِ؟ بَلْ لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ. { بَلْ هُمْ قَوْمٌ } يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، { يَعْدِلُونَ } يُشْرِكُونَ. { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا } لَا تَمِيدُ بِأَهْلِهَا، { وَجَعَلَ خِلَالَهَا } وَسَطَهَا (5) { أَنْهَارًا } تَطْرُدُ بِالْمِيَاهِ، { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } جِبَالًا ثَوَابِتَ، { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ } الْعَذْبِ وَالْمَالِحِ، { حَاجِزًا }
__________
(1) وهو مروي عن عبد الرحمن بن زيد، ورواه أبو صالح عن ابن عباس. انظر: زاد المسير: 6 / 184، ابن كثير: 3 / 370.
(2) رواه الطبري عن ابن عباس وسفيان الثوري وهو رواية السدي. قال ابن كثير: ولا منافاة بينهما، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعه بعد ذكره لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد، وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر، أن يحمدوه على جميع أفعاله، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار. انظر: الطبري: 20 / 2، زاد المسير: 6 / 185، الدر المنثور: 6 / 370 تفسير ابن كثير: 3 / 370، معاني القرآن للنحاس: 5 / 143.
(3) انظر: زاد المسير: 6 / 185 فقد عزاه لابن السائب.
(4) فيما روى عطاء عن ابن عباس: أنهم الذين وحدوا الله وآمنوا به. انظر: زاد المسير: 6 / 185.
(5) ساقط من "أ".

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

مَانِعًا لِئَلَّا يَخْتَلِطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } تَوْحِيدَ رَبِّهِ وَسُلْطَانَهُ.
{ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) }

أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)

{ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) }
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ } الْمَكْرُوبَ الْمَجْهُودَ، { إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } الضُّرَّ (1) { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } سُكَّانَهَا يُهْلِكُ قَرْنًا وَيُنْشِئُ آخَرَ. وَقِيلَ: يَجْعَلُ أَوْلَادَكُمْ خُلَفَاءَكُمْ وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الْجِنِّ فِي الْأَرْضِ. { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ (2) . { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } إِذَا سَافَرْتُمْ، { وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أَيْ: قُدَّامَ الْمَطَرِ، { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } { أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } بَعْدَ الْمَوْتِ، { وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ الْمَطَرَ وَمِنَ الْأَرْضِ النَّبَاتَ. { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } حُجَّتَكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنَّ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ (3) { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }
__________
(1) ينبه الله تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل، كما قال تعالى: "وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه"، وقال تعالى: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" وهكذا قال هاهنا: "أمن يجب المضطر إذا دعاه"، أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟!. انظر: تفسير ابن كثير: (3 / 371-372) وقد ساق جملة أحاديث في هذا المعنى.
(2) أي: أإله مع الله يقدر على ذلك؟ أو أإله مع الله بعد هذا؟ وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شرك له؟ "قليلا ما تذكرون"، أي: ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم. انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 372.
(3) راجع تفسير ابن كثير: 3 / 373-374، عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي تأليف عثمان جمعة ضميرية ص (78-81) و(86-91).

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) }
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: "أَدْرَكَ" عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ أَيْ: بَلَغَ وَلَحِقَ، كَمَا يُقَالُ: أَدْرَكَهُ عِلْمِي إِذَا لَحِقَهُ وَبَلَغَهُ، يُرِيدُ: مَا جَهِلُوا فِي الدُّنْيَا وَسَقَطَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ عَلِمُوهُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُدْرِكُ عِلْمَهُمْ، { فِي الْآخِرَةِ } وَيَعْلَمُونَهَا إِذَا عَايَنُوهَا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ عِلْمُهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ عَلِمُوا فِي الْآخِرَةِ حِينَ عَايَنُوهَا مَا شَكُّوا وَعَمُوا عَنْهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُهُ: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } يَعْنِي: هُمُ الْيَوْمَ فِي شَكٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقَرَأَ الآخرون: "بل أدراك" مَوْصُولًا مُشَدَّدًا مَعَ أَلْفٍ بَعْدَ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: تَدَارَكَ وَتَتَابَعَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَلَاحَقَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اجْتَمَعَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهَا كَائِنَةٌ، وَهُمْ فِي شَكٍّ فِي وَقْتِهِمْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، مَعْنَاهُ: هَلْ تَدَارَكَ وَتَتَابَعَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ؟ أَيْ: لَمْ يَتَتَابَعْ وَضَلَّ وَغَابَ عِلْمُهُمْ بِهِ فَلَمْ يَبْلُغُوهُ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ، لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ ضَرْبًا مِنَ الْجَحْدِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ "بَلَى" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، "أَدَّارَكَ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: لَمْ يُدْرَكْ، وَفِي حَرْفِ أُبَي "أم تدرك عِلْمُهُمْ"، وَالْعَرَبُ تَضَعُ "بَلْ" مَوْضِعَ "أَمْ" وَ"أَمْ" مَوْضِعَ "بَلْ" (1) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِذَا بُعِثُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْتَوِي عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَا وُعِدُوا فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنْ كَانَتْ عُلُومُهُمْ مُخْتَلِفَةً فِي الدُّنْيَا. وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَنَّ مَعْنَى "بَلْ" هَاهُنَا: "لَوْ" وَمَعْنَاهُ: لَوْ أَدْرَكُوا فِي الدُّنْيَا مَا أَدْرَكُوا في الآخرة 59/أ لَمْ يَشُكُّوا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } بَلْ هُمُ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ مِنَ السَّاعَةِ. { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } جَمْعُ عم، وهو الأعمى الْقَلْبِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ هُمْ جَهَلَةٌ بِهَا. { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ } مِنْ قُبُورِنَا أَحْيَاءً، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: "إِذَا" غَيْرَ مُسْتَفْهِمٍ، "أَئِنَّا" بِالِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: "أَإِذَا" بِهَمْزَتَيْنِ، ["أَإِنَّنَا" بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِاسْتِفْهَامِهَا. { لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا } أَيْ: هَذَا الْبَعْثَ،] (2) { نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ،
__________
(1) انظر في المعاني والقراءات السابقة. الطبري: 20 / 6-8.
(2) ما بين القوسين من "أ".

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)

وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ { إِنْ هَذَا } مَا هَذَا، { إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أَحَادِيثُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الَّتِي كَتَبُوهَا.
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) }
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَ مَكَّةَ. { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ } أَيْ: دَنَا وَقُرْبَ، { لَكُمْ } وَقِيلَ: تَبِعَكُمْ، وَالْمَعْنَى: رَدِفَكُمْ، أَدْخَلَ اللَّامَ كَمَا أَدْخَلَ فِي قَوْلِهِ "لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" (الْأَعْرَافِ-154) ، قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، كَمَا تَقُولُ: نَقَدْتُهُ مِائَةً، وَنَقَدْتُ لَهُ { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } مِنَ الْعَذَابِ، فَحَلَّ بِهِمْ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ لَمْ يُعَجِّلْ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ } ذَلِكَ. { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } مَا تُخْفِي (1) { صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ } أَيْ: جُمْلَةٍ غَائِبَةٍ مِنْ مَكْتُومِ سِرٍّ، وَخُفِيِّ أَمْرٍ، وَشَيْءٍ غَائِبٍ، { فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أَيْ: يُبَيِّنُ لَهُمْ، { أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَصَارُوا أَحْزَابًا يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ عَلَى
__________
(1) ساقط من "أ".

بَعْضٍ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

{ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) }
{ وَإِنَّهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي } يَفْصِلُ (1) { بَيْنَهُمْ } أَيْ: بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { بِحُكْمِهِ } الْحَقِّ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الْمَنِيعُ فَلَا يُرَدُّ لَهُ أَمْرٌ، { الْعَلِيمُ } بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } الْبَيِّنِ. { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } يَعْنِي الْكُفَّارَ، { وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "لَا يَسْمَعُ" بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ "الصُّمُّ" رُفِعَ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ الْمِيمِ، "الصُّمَّ" نُصِبَ. { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } مَعْرِضِيْنَ. فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } وَإِذَا كَانُوا صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ (2) سَوَاءٌ وَلَّوْا أَوْ لَمْ يُوَلُّوا؟. قيل ذكره: عل سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: الْأَصَمُّ إِذَا كَانَ حَاضِرًا فَقَدْ يَسْمَعُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَيَفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ، فَإِذَا وَلَّى لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَفْهَمْ. قَالَ قَتَادَةُ: الْأَصَمُّ إِذَا وَلَّى مُدْبِرًا ثُمَّ نَادَيْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَسْمَعُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لِفَرْطِ إِعْرَاضِهِمْ عَمَّا يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ كَالْمَيِّتِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِسْمَاعِهِ، وَالْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ. { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ } قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: "تَهْدِي" بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا عَلَى الْفِعْلِ "الْعُمْيَ" بِنَصْبِ الْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي الرُّومِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِهَادِي بِالْبَاءِ عَلَى الِاسْمِ، "الْعُمْيِ" بِكَسْرِ الْيَاءِ، { عَنْ ضَلَالَتِهِمْ } أَيْ: مَا أَنْتَ بِمُرْشِدٍ مَنْ أَعْمَاهُ اللَّهُ عَنِ الهدى وأعمى قلب عَنِ الْإِيمَانِ، { إِنْ تُسْمِعُ } مَا تُسْمِعُ، { إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } إِلَّا مَنْ يُصَدِّقُ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، { فَهُمْ مُسْلِمُونَ } مُخْلِصُونَ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ } وَجَبَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } وَاخْتَلَفُوا فِي كَلَامِهَا، فَقَالَ السُّدِّيُّ: تُكَلِّمُهُمْ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَانِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَامُهَا أَنْ تَقُولَ لِوَاحِدٍ: هَذَا مُؤْمِنٌ، وَتَقُولَ لِآخَرَ: هَذَا كَافِرٌ (1) . وَقِيلَ كَلَامُهَا مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ تَكَلُّمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَتَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ، تُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ.
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "أَنَّ النَّاسَ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ، أَيْ: بِأَنَّ النَّاسَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ قَبْلَ خُرُوجِهَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَلِكَ حِينَ لَا يُؤْمَرُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يُنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ (2) . وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَاصِمُ الْجَحْدَرَيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: "تَكْلِمُهُمْ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مِنَ "الْكَلْمِ" وَهُوَ الْجُرْحُ. قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "تُكَلِّمُهُمْ أَوْ تَكْلِمُهُمُ"؟ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ تَفْعَلُ، تُكَلِّمُ الْمُؤْمِنَ، وَتَكْلِمُ الْكَافِرَ (3) . أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ" (4) . أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا
__________
(1) ذكر أبو حيان القولين في البحر المحيط: 7 / 97.
(2) الطبري: 20 / 14، الدر المنثور: 6 / 377 موقوفا، وروي مرفوعا عند ابن مردويه.
(3) واستحسنه ابن كثير: (3 / 375) قال: وهو قول حسن ولا منافاة والله أعلم. وانظر: الدر المنثور: 6 / 378.
(4) أخرجه مسلم في الفتن، باب في بقية أحاديث الدجال، برقم (2947): 4 / 2267، والمصنف في شرح السنة: 15 / 44.

مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَأَيُّهُمَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى أَثْرِهَا قَرِيبًا" (1) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خُرْجَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْقَرِيُّ، عَنْ طَلْحَةَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَكُونُ لِلدَّابَّةِ ثَلَاثُ خُرُجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ، فَتَخْرُجُ خُرُوجًا بِأَقْصَى الْيَمَنِ فَيَفْشُو ذكرها بالبادية 59/ب وَلَا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ"، يَعْنِي مَكَّةَ، "ثُمَّ تَمْكُثُ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجَةً أُخْرَى قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ، فَيَفْشُو ذِكْرُهَا بِالْبَادِيَةِ، وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ -يَعْنِي مَكَّةَ-فَبَيْنَمَا النَّاسُ يَوْمًا فِي أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ عَلَى اللَّهِ حُرْمَةً وَأَكْرَمِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ -يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ-لَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تَدْنُو وَتَدْنُو" كَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَمَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَى بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ عَنْ يَمِينِ الْخَارِجِ فِي وَسَطٍ مِنْ ذَلِكَ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا وَثَبَتَتْ لَهَا عِصَابَةٌ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللَّهَ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ فَمَرَّتْ بِهِمْ فَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِهِمْ حَتَّى تركتها كأنها الكوكب الدُّرِّيَّةُ، ثُمَّ وَلَّتْ فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ وَلَا يُعْجِزُهَا هَارِبٌ، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَقُومُ فَيَتَعَوَّذُ مِنْهَا بِالصَّلَاةِ فَتَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلَانُ الْآنَ تُصَلِّي؟ فَيُقْبِلُ عَلَيْهَا بِوَجْهِهِ فَتَسِمُهُ فِي وَجْهِهِ، فَيَتَجَاوَرُ النَّاسُ فِي دِيَارِهِمْ، وَيَصْطَحِبُونَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْأَمْوَالِ، يُعْرَفُ الْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَالُ لِلْمُؤْمِنِ: يَا مُؤْمِنُ، وَيُقَالُ لِلْكَافِرِ: يَا كَافِرُ" (2)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ بن أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَوْسِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَتَجْلُو وَجْهَ المؤمن بالعصا وتحطم (3) أَنْفَ الْكَافِرِ
__________
(1) أخرجه مسلم في الفتن، باب خروج الدجال (2941): 4 / 2260، والمصنف في شرح السنة: 15 / 93.
(2) أخرجه الطبري في التفسير 20 / 14-15 موقوفا، ورفعه الحاكم: 4 / 484، قال الذهبي: "وفيه طلحة بن عمرو، ضعفوه وتركه أحمد"، وقال في الميزان: (2 / 340-342): "ضعفه ابن معين وغيره، وقال البخاري وابن المديني: ليس بشيء". وأخرجه الطيالسي في المسند ص (144)، وعزاه الهيثمي في المجمع (8 / 7) للطبراني، وزاد السيوطي في الدر (6 / 381) نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث"، وانظر: الفتح السماوي، 2 / 891-892.
(3) في "أ" تختم.

بِالْخَاتَمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخِوَانِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ وَيَقُولُ هَذَا يَا كَافِرُ" (1) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَيْسَتْ بِدَابَّةٍ لَهَا ذَنَبٌ، وَلَكِنْ لَهَا لِحْيَةٌ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ رَجُلٌ (2) وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا دَابَّةٌ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: رَأْسُهَا رَأْسُ الثَّوْرِ وَعَيْنُهَا عَيْنُ الْخِنْزِيرِ، وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ، وَقَرْنُهَا قَرْنُ أَيِّلٍ، وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ، وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمِرٍ، وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرٍّ (3) وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ، وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ، بَيْنَ كُلِّ مَفْصِلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا، وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا نَكَتَتْهُ فِي مَسْجِدِهِ بِعَصَا مُوسَى نُكْتَةً بَيْضَاءَ يُضِيءُ بِهَا وَجْهُهُ، وَلَا يَبْقَى كَافِرٌ إِلَّا نَكَتَتْ وَجْهَهُ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ فَيَسْوَدُّ بِهَا وَجْهُهُ، حَتَّى إِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ: بِكَمْ يَا مُؤْمِنُ؟ بِكَمْ يَا كَافِرُ؟ ثُمَّ تَقُولُ لَهُمُ الدَّابَّةُ: يَا فُلَانُ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَا فُلَانُ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ } الْآيَةَ (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ صَدْعٍ فِي الصَّفَا كَجَرْيِ الْفَرَسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَا خَرَجَ ثُلُثُهَا (5) . وَبِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي [عِصَامُ بْنُ دَاوُدَ] (6) بْنِ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَخْرُجُ؟ قَالَ: "مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً عَلَى اللَّهِ، بَيْنَمَا عِيسَى يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ إِذْ تَضْرِبُ الْأَرْضُ تَحْتَهُمْ، وَتَنْشَقُّ الصَّفَا مِمَّا يَلِي الْمَشْعَرِ، وَتَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنَ الصَّفَا أَوَّلَ مَا يَبْدُرُ مِنْهَا رَأْسُهَا مُلَمَّعَةً ذَاتَ وَبَرٍ وَرِيشٍ، لَنْ يُدْرِكَهَا
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة النمل: 9 / 44 وقال: "هذا حديث حسن"، وابن ماجه في الفتن، باب دابة الأرض: 2 / 1351-1352 والحاكم في المستدرك: 4 / 485-486 وسكت عنه الذهبي، ورواه الإمام أحمد: 2 / 295، والطبري في التفسير: 20 / 16. وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
(2) انظر: ابن كثير 3 / 377، القرطبي: 13 / 236 وروي عنه غير هذا، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال: قيل لعلي بن أبي طالب: إن ناسا يزعمون أنك دابة الأرض، فقال: والله إن لدابة الأرض ريشا وزغبا، ومالي ريش ولا زغب، وإن لها لحافر، ومالي من حافر. انظر: الدر المنثور: 6 / 382.
(3) في "أ": بقر.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، انظر: الدر المنثور 6 / 383.
(5) أخرجه الطبري: 20 / 14، وعزاه السيوطي (6 / 382) لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(6) في "أ": عاصم بن رواد.

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)

طَالِبٌ وَلَنْ يَفُوتَهَا هَارِبٌ، تُسَمِّي النَّاسَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتَتْرُكُ وَجْهَهُ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَتَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُؤْمِنٌ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَنْكُتُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، وَتَكْتُبُ بين عينيه كافرا" (1) . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَرَعَ الصَّفَا بِعَصَاهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَالَ: إِنَّ الدَّابَّةَ لَتَسْمَعُ قَرْعَ عَصَايَ هَذِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ شِعْبٍ فَيَمَسُّ رَأْسُهَا فِي السَّحَابِ وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْضِ مَا خَرَجَتَا، فَتَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ يُصَلِّي فَتَقُولُ: مَا الصَّلَاةُ مِنْ حَاجَتِكَ، فَتَخْطِمُهُ (2) .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ لَيْلَةَ جَمْعِ، والناس يَسِيرُونَ إِلَى مِنًى. وَعَنْ سُهَيْلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بِئْسَ الشِّعْبُ شِعْبُ أَجْيَادٍ"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قِيلَ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "تَخْرُجُ مِنْهُ الدَّابَّةُ فَتَصْرُخُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ يَسْمَعُهَا مَنْ بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ" (3) وَقَالَ وَهْبٌ: وَجْهُهَا وَجْهُ رَجُلٍ وَسَائِرُ خَلْقِهَا كَخَلْقِ الطَّيْرِ، فَتُخْبِرُ مَنْ رَآهَا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ لَا يُوقِنُونَ (4) .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا } أَيْ: مِنْ كُلِّ قَرْنٍ جَمَاعَةً، { مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا } وَلَيْسَ "مِنْ" هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ يُحْشَرُونَ، { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا ثُمَّ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ. { حَتَّى إِذَا جَاءُوا } يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { قَالَ } اللَّهُ لَهُمْ: { أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا } وَلَمْ تَعْرِفُوهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا، { أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } حِينَ لَمَّ تُفَكِّرُوا فِيهَا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَكَذَّبْتُمْ
__________
(1) أخرجه الطبري: 20 / 15، وقد تقدم الحديث نفسه من رواية حذيفة بن أسيد، قال الحافظ ابن كثير: (3 / 376): "رواه ابن جرير من طريقين عن حذيفة بن أسيد موقوفا، والله أعلم. ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعا، وأن ذلك في زمان عيسى ابن مريم وهو يطوف. ولكن إسناده لا يصح". وانظر: مجمع الزوائد: 8 / 7.
(2) أخرجه الطبري: 20 / 16، وعزاه السيوطي (6 / 383) لنعيم بن حماد في "الفتن" عن عمرو بن العاص.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 15 / 181، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث" والطبراني في "الأوسط". وفيه رباح بن عبيد الله بن عمر، وهو ضعيف. انظر: الدر المنثور: 6 / 382، مجمع الزوائد: 8 / 7.
(4) ويلاحظ في الروايات الآنفة أن فيها تعارضا واختلافا وضعفا في كثير منها، ولذلك قال أبو حيان في "البحر المحيط" (6 / 96-97): "واختلفوا في ماهيتها -الدابة- وشكلها، ومحل خروجها، وعدد خروجها، ومقدار ما تخرج منها، وما تفعل بالناس، وما الذي تخرج به اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا، ويكذب بعضه بعضا، ويكذب بعضه بعضا، فأطرحنا ذكره، لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله".

وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)

بِآيَاتِي غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِهَا، وَلَمْ تُفَكِّرُوا فِي صِحَّتِهَا بَلْ كَذَبْتُمْ بِهَا جَاهِلِينَ؟
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) }
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ } وَجَبَ الْعَذَابُ، { عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا } بِمَا أَشْرَكُوا، { فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ } قَالَ قَتَادَةُ: كَيْفَ يَنْطِقُونَ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ" (الْمُرْسَلَاتِ-36) ، وَقِيلَ: لَا يَنْطِقُونَ لِأَنَّ أَفْوَاهَهُمْ مَخْتُومَةٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا } خَلَقْنَا (1) { اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } مضيا (2) يُبْصَرُ فِيهِ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يُصَدِّقُونَ فَيَعْتَبِرُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } وَالصُّورُ قَرْنٌ ينفخ فيه 60/أ إِسْرَافِيلُ، وَقَالَ الحسن: الصور هي الْقَرْنُ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَهُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ تُجْمَعُ فِي الْقَرْنِ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ فَتَذْهَبُ الْأَرْوَاحُ إِلَى الْأَجْسَادِ فَتَحْيَا الْأَجْسَادُ. وَقَوْلُهُ: { فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: فَصَعِقَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: "فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ" (الزُّمَرِ-68) ، أَيْ: مَاتُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُلْقَى عَلَيْهِمُ الْفَزَعُ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَقِيلَ: يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ [فِي الصُّورِ] (3) . ثَلَاثَ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةَ الْفَزَعِ، وَنَفْخَةَ الصَّعْقِ، وَنَفْخَةَ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (4) . قَوْلُهُ: { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ قَوْلِهِ: { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ (5) .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الشُّهَدَاءُ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَا يَصِلُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) روى الطبري في ذلك حديثا مطولا مرفوعا: 20 / 19.
(5) عزاه السيوطي في الدر (7 / 249) لأبي يعلى، والدارقطني في "الأفراد"، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث".

الْفَزَعُ إِلَيْهِمْ (1) . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: "الشُّهَدَاءُ ثَنِيَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (2) أَيِ: الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَمَلَكَ الْمَوْتِ، فَلَا يَبْقِى بَعْدَ النَّفْخَةِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ يَقْبِضُ اللَّهُ رُوحَ مِيكَائِيلَ، ثُمَّ رُوحَ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ رُوحَ مَلَكِ الْمَوْتِ، ثُمَّ رُوحَ جِبْرِيلَ فَيَكُونُ آخِرُهُمْ مُوتًا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (3) .
وَيُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِمَلِكِ الْمَوْتِ: خُذْ نَفْسَ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ بَقِيَ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ؟ فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ رَبِّي تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: خُذْ نَفْسَ مِيكَائِيلَ، فَيَأْخُذُ نَفْسَهُ، فَيَقَعُ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، فَيَقُولُ: مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ رَبِّي تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: مُتْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، فَيَمُوتُ، فَيَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَجْهُكَ الْبَاقِي الدَّائِمُ وَجِبْرِيلُ الْمَيِّتُ الْفَانِي، قَالَ: فَيَقُولُ يَا جِبْرِيلُ لَا بُدَّ مِنْ مَوْتِكَ، فَيَقَعُ سَاجِدًا يُخْفِقُ بِجَنَاحَيْهِ فَيُرْوَى أَنَّ فَضْلَ خَلْقِهِ عَلَى فَضْلِ مِيكَائِيلَ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ عَلَى ظَرْبٍ مِنَ الظِّرَابِ (4) . وَيُرْوَى أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ (5) فَيَقْبِضُ رُوحَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، ثُمَّ أَرْوَاحَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، ثُمَّ رُوحَ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ رُوحَ مَلَكِ الْمَوْتِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أدري أكان من اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبَلِي؟ وَمَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ" (6)
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 7 / 250، زاد المسير: 6 / 195.
(2) عزاه السيوطي (7 / 250) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد، عن أبي هريرة موقوفا. وهو مروي أيضا عن سعيد بن جبير، انظر أيضا: معاني القرآن للنحاس: 5 / 149.
(3) انظر: زاد المسير: 6 / 195، الدر المنثور: 7 / 250.
(4) رواه الفريابي، وعبد بن حميد، وأبو نصر السجزي في "الإبانة" وابن مردويه عن أنس. انظر: الدر المنثور: 7 / 250.
(5) استثناء حملة العرش مروي عن عكرمة في الدر المنثور: 7 / 251.
(6) أخرجه البخاري في مواضع كثيرة منها، تفسير سورة الزمر، وفي الأنبياء، ومسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام، برقم (2373): 4 / 1843-1844، والمصنف في شرح السنة: 15 / 105. وقال: "هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من أوجه عن أبي هريرة".

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)

قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ رِضْوَانُ، وَالْحَوَرُ، وَمَالِكٌ، وَالزَّبَانِيَةُ. وَقِيلَ: عَقَارِبُ النَّارِ وَحَيَّاتُهَا (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَكُلٌّ } أَيْ: الَّذِينَ أُحْيُوا بَعْدَ الْمَوْتِ، { أَتَوْهُ } قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "أَتَوْهُ" مَقْصُورًا بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ، أَيْ: جَاءُوهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْمَدِّ وَضَمِّ التَّاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا" (مَرْيَمَ-95) ، { دَاخِرِينَ } صَاغِرِينَ.
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) }
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير": 6 / 195 عن ابن شاقلا من الحنابلة، ونقل القرطبي: (13 / 241) وأبو حيان: (7 / 100) عن بعض العلماء أن الصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل، والله أعلم. والذي اعتمده الطبري وابن كثير أن المراد بهم الشهداء، لأحاديث أخرى وردت في ذلك، إذ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)

{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } قَائِمَةً (1) وَاقِفَةً، { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أَيْ: تَسِيرُ سَيْرَ السَّحَابِ حَتَّى تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ. فَتَسْتَوِي بِهَا وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَظِيمٍ وَكُلَّ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقْصُرُ عَنْهُ الْبَصَرُ لِكَثْرَتِهِ وَبُعْدِ مَا بَيْنَ أَطْرَافِهِ فَهُوَ فِي حُسْبَانِ النَّاظِرِ وَاقِفٌ وَهُوَ سَائِرٌ، كَذَلِكَ سَيْرُ الْجِبَالِ لَا يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعَظَمَتِهَا، كَمَا أَنَّ سَيْرَ السَّحَابِ لَا يُرَى لِعِظَمِهِ وَهُوَ سَائِرٌ، { صُنْعَ اللَّهِ } نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، { الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أَيْ: أَحْكَمَ، { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَحْلِفُ وَلَا يَسْتَثْنِي: أَنَّ الْحَسَنَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بالإخلاص. وقيل: هل كَلُّ طَاعَةٍ (2) { فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمِنْهَا يَصِلُ الْخَيْرُ إِلَيْهِ، يَعْنِي: لَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَسَنَةِ خَيْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ (3) وَالْأَمْنُ مِنَ الْعَذَابِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ فَلَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا يَعْنِي: رِضْوَانَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: "وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ" (التَّوْبَةِ-72) ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: "فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا" يَعْنِي:
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) انظر: الطبري: 20 / 22-23. ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن كلمة التوحيد "شهادة أن لا إله إلا الله" هي كلمة الإخلاص، ولا طاعة إلا بإخلاص. والله أعلم.
(3) ساقط من "أ".

وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

الْأَضْعَافَ، أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا فَصَاعِدًا (1) وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّ لِلْأَضْعَافِ خَصَائِصٌ، مِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ يُسْأَلُ عَنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَنِ الْأَضْعَافِ، وَمِنْهَا: أَنَّ لِلشَّيْطَانِ سَبِيلًا إِلَى عَمَلِهِ وَلَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى الْأَضْعَافِ، وَلَا مَطْمَعَ لِلْخُصُومِ فِي الْأَضْعَافِ، وَلِأَنَّ الْحَسَنَةَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ وَالتَّضْعِيفَ كَمَا يَلِيقُ بِكَرَمِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. { وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "مِنْ فَزَعٍ" بِالتَّنْوِينِ "يَوْمَئِذٍ" بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِضَافَةِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْأَمْنَ مِنْ جَمِيعِ فَزَعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَبِالتَّنْوِينِ كَأَنَّهُ فَزَعٌ دُونَ فَزَعٍ، وَيَفْتَحُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمِيمَ مِنْ يَوْمَئِذٍ.
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) }
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ } يَعْنِي الشِّرْكَ، { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } يَعْنِي أُلْقُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، يُقَالُ: كَبَبْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَلْقَيْتُهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَانْكَبَّ وَأَكَبَّ، وَتَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا أُمِرْتُ } يَقُولُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ ، { أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ } يَعْنِي: مَكَّةَ، { الَّذِي حَرَّمَهَا } جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا آمِنًا، لَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُظْلَمُ فِيهَا أَحَدٌ، وَلَا يُصَادُ صيدها، ولا 60/ب يُخْتَلَى خَلَاهَا، { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } خَلْقًا وَمِلْكًا، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } لِلَّهِ. { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } يَعْنِي: وَأُمِرْتُ أن أَتْلُوَ الْقُرْآنَ، { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } أَيْ: نَفْعُ اهْتِدَائِهِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، { وَمَنْ ضَلَّ } عَنِ الْإِيمَانِ وَأَخْطَأَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، { فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ } مِنَ الْمُخَوِّفِينَ فَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ. نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (2) . { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } عَلَى نِعَمِهِ، { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ، مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَضَرْبِ
__________
(1) راجع فيما سبق تفسير سورة الأنعام: 3 / 210-211.
(2) راجع فيما سبق: 1 / 32-33 تعليق (1).

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ["سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ" (الْأَنْبِيَاءِ-37) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ] (1) سَيُرِيْكُمْ آيَاتِهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ" (فُصِّلَتْ-53) ، { فَتَعْرِفُونَهَا } يَعْنِي: تَعْرِفُونَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وَعَدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } إِلَى قَوْلِهِ: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } وفيهالا آيَةٌ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (2) . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) }
{ طسم }
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } بِالصِّدْقِ { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ.
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا } اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَعَظَّمَ { فِي الْأَرْضِ } أَرْضِ مِصْرَ { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّسْخِيرِ { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ: بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ فَسَّرَ الِاسْتِضْعَافَ فَقَالَ: { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } سَمَّى هَذَا اسْتِضْعَافًا لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا وَضَعُفُوا عَنْ دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: الدر المنثور: 6 / 389، زاد المسير: 6 / 200.

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)

{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) }

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) }
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ } يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ، { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } قَادَةً فِي الْخَيْرِ يُقْتَدَى بِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وُلَاةً وَمُلُوكًا، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا" (الْمَائِدَةِ-20) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ. { وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } يَعْنِي: أَمْلَاكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ يَخْلُفُونَهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ.
{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } نُوَطِّنَ لَهُمْ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَنَجْعَلَهَا لَهُمْ مَكَانًا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا } قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "وَيَرَى" بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا، { فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا } مَرْفُوعَاتٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَضَمِّهَا، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَصْبِ الْيَاءِ وَنَصْبِ مَا بَعْدَهُ، بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، { مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } وَالْحَذَرُ هُوَ التَّوَقِّي مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّ هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْهُ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ.
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى } وَحْيَ إِلْهَامٍ لَا وَحْيَ نُبُوَّةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: قَذَفْنَا فِي قَلْبِهَا (1) ، وَأُمُّ مُوسَى يُوخَابِذُ بِنْتُ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، { أَنْ أَرْضِعِيهِ } وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، قِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي حِجْرِهَا، وَهُوَ لَا يَبْكِي وَلَا يَتَحَرَّكُ (2) ، { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } يَعْنِي: مِنَ الذَّبْحِ، { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ، وَأَرَادَ هَاهُنَا النِّيلَ، { وَلَا تَخَافِي } قِيلَ: لَا تَخَافِي عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّيْعَةِ، { وَلَا تَحْزَنِي } عَلَى فِرَاقِهِ، { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } رَوَى عَطَاءٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (3) .
__________
(1) انظر: الطبري: 20 / 29-30.
(2) قال الإمام الطبري (20 / 30): "وأولى قيل قيل في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم، وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه، وأي ذلك كان، فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه، ولا خبر قامت به حجة، ولا فطرة في العقل لبيان أي ذلك كان من أي، فأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال جل ثناؤه. واليم الذي أمرت أن تلقيه فيه هو النيل".
(3) رواية الضحاك عن ابن عباس منقطعة، لأنه لم يسمع من ابن عباس شيئا.

إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَثُرُوا بِمِصْرَ، اسْتَطَالُوا عَلَى النَّاسِ، وَعَمِلُوا بِالْمَعَاصِي، وَلَمْ يَأْمُرُوا بالمعروف ولم ينهو عَنِ الْمُنْكَرِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقِبْطَ فَاسْتَضْعَفُوهُمْ إِلَى أَنْ أَنْجَاهُمْ عَلَى يَدِ نَبِيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا تَقَارَبَتْ وِلَادَتُهَا، وَكَانَتْ قَابِلَةٌ مِنَ الْقَوَابِلِ الَّتِي وَكَّلَهُنَّ فِرْعَوْنُ بِحُبَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُصَافِيَةً لِأُمِّ مُوسَى، فَلَمَّا ضَرَبَ بِهَا الطَّلْقُ أَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: قَدْ نَزَلَ بِي مَا نَزَلَ، فَلْيَنْفَعْنِي حُبُّكِ إِيَّايَ الْيَوْمَ، قَالَتْ: فَعَالَجَتْ قُبَالَتَهَا، فَلَمَّا أَنْ وَقَعَ مُوسَى بِالْأَرْضِ هَالَهَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْ مُوسَى، فَارْتَعَشَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنْهَا، وَدَخَلَ حُبُّ مُوسَى قَلْبَهَا. ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: يَا هَذَا مَا جِئْتُ إِلَيْكِ حِينَ دَعَوْتِنِي إِلَّا وَمِنْ رَأْيِي قَتْلُ مَوْلُودِكِ، وَلَكِنْ وَجَدْتُ لِابْنِكِ هَذَا حُبًّا مَا وَجَدْتُ حُبَّ شَيْءٍ مِثْلَ حُبِّهِ، فَاحْفَظِي ابْنَكِ فَإِنِّي أَرَاهُ هُوَ عَدُوُّنَا، فَلَّمَا خَرَجَتِ الْقَابِلَةُ مِنْ عِنْدِهَا أَبْصَرَهَا بَعْضُ الْعُيُونِ، فَجَاءُوا إِلَى بَابِهَا لِيَدْخُلُوا عَلَى أُمِّ مُوسَى، فَقَالَتْ أُخْتُهُ يَا أُمَّاهُ هَذَا الْحَرَسُ (1) بِالْبَابِ، فَلَفَّتْ مُوسَى فِي خِرْقَةٍ، فَوَضَعَتْهُ فِي التَّنُّورِ وَهُوَ مَسْجُورٌ، وَطَاشَ عَقْلُهَا، فَلَمْ تَعْقِلْ مَا تَصْنَعُ.
قَالَ: فَدَخَلُوا فَإِذَا التَّنُّورُ مَسْجُورٌ، وَرَأَوْا أُمَّ مُوسَى لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهَا لَوْنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا لَبَنٌ، فَقَالُوا لَهَا: مَا أَدْخَلَ عَلَيْكِ الْقَابِلَةَ؟ قَالَتْ: هِيَ مُصَافِيَةٌ لِي فَدَخَلَتْ عَلَيَّ زَائِرَةً، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَرَجَعَ إِلَيْهَا عَقْلُهَا فَقَالَتْ لِأُخْتِ مُوسَى: فَأَيْنَ الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ لَا أَدْرِي، فَسَمِعَتْ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنَ التَّنُّورِ فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّارَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَاحْتَمَلَتْهُ (2) قَالَ: ثُمَّ إِنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا رَأَتْ إِلْحَاحَ فِرْعَوْنَ فِي طَلَبِ الْوِلْدَانِ خَافَتْ عَلَى ابْنِهَا، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي نَفْسِهَا أَنْ تَتَّخِذَ لَهُ تَابُوتًا ثُمَّ تَقْذِفَ التَّابُوتَ فِي الْيَمِّ وَهُوَ النِّيلُ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى رَجُلٍ نَجَّارٍ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَاشْتَرَتْ مِنْهُ تَابُوتًا صَغِيرًا، فَقَالَ لَهَا النَّجَّارُ: مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا التَّابُوتِ؟ قَالَتْ: ابْنٌ لِي أُخَبِّئُهُ فِي التَّابُوتِ، وَكَرِهَتِ الْكَذِبَ، قَالَ وَلَمْ تَقُلْ: أَخْشَى عَلَيْهِ كَيْدَ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا اشْتَرَتِ التَّابُوتَ وَحَمَلَتْهُ وَانْطَلَقَتْ بِهِ انْطَلَقَ النَّجَّارُ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيُخْبِرَهُمْ بِأَمْرِ أُمِّ مُوسَى، فَلَمَّا هَمَّ بِالْكَلَامِ أَمْسَكَ اللَّهُ لِسَانَهُ فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ، وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ فَلَمْ يَدْرِ الْأُمَنَاءُ مَا يَقُولُ، فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ قَالَ كَبِيرُهُمْ: اضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَلَمَّا انْتَهَى النَّجَّارُ إِلَى مَوْضِعِهِ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَتَكَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَيْضًا يُرِيدُ الْأُمَنَاءَ فَأَتَاهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ فَأَخَذَ اللَّهُ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ وَلَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا، فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَوَقَعَ فِي وَادٍ يَهْوِي فِيهِ حَيْرَانَ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ رَدَّ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ يحفظه حيث 61/أ مَا كَانَ، فَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ فَرَدَّ عَلَيْهِ لِسَانَهَ وَبَصَرَهُ فَخَرَّ لِلَّهِ (3)
__________
(1) في "أ": الحارس.
(2) ذكره القرطبي أيضا عن وهب، وهو فيما يظهر متلقى عن أخبار أهل الكتاب، فإن وهبا أدخل في التفسير كثيرا من مروياتهم كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله.
(3) ساقط من "أ".

سَاجِدًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ دُلَّنِي عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ، فَدَلَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنَ الْوَادِي فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى كَتَمَتْ أَمْرَهَا جَمِيعَ النَّاسِ، فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَبَلِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ سَتَرَهُ اللَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَمُنَّ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي يُولَدُ فِيهَا بَعَثَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِنَّ فَفَتَّشْنَ النِّسَاءَ تَفْتِيشًا لَمْ يُفَتَّشْنَ قَبْلَ ذَلِكَ مَثْلَهُ (1) ، وَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى (2) فَلَمْ يَنْتَأْ بَطْنُهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ لَبَنُهَا، وَكَانَتِ الْقَوَابِلُ لَا تَتَعَرَّضُ لَهَا، فَلَّمَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا وَلَدَتْهُ وَلَا رَقِيبَ عَلَيْهَا وَلَا قَابِلَةَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ مَرْيَمُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا "أَنْ أَرَضِعَيْهِ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ" الْآيَةَ، فَكَتَمَتْهُ أُمُّهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ تُرْضِعُهُ فِي حِجْرِهَا، لَا يَبْكِي وَلَا يَتَحَرَّكُ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ عَمِلَتْ تَابُوتًا لَهُ مُطْبَقًا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ لَيْلًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ لِفِرْعَوْنَ يَوْمَئِذٍ بِنْتٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُ حَاجَاتٍ تَرْفَعُهَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وَكَانَ بِهَا بَرَصٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ جَمَعَ لَهَا أَطِبَّاءَ مِصْرَ وَالسَّحَرَةَ فَنَظَرُوا فِي أَمْرِهَا، فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَبْرَأُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ، يُوجَدُ فِيهِ شَبَهُ الْإِنْسَانِ فَيُؤْخَذُ مِنْ رِيقِهِ فَيُلَطَّخُ بِهِ بِرَصُهَا فَتَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَسَاعَةِ كَذَا حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ غَدَا فِرْعَوْنُ إِلَى مَجْلِسٍ كَانَ عَلَى شَفِيرِ النِّيلِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَأَقْبَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ فِي جَوَارِيهَا حَتَّى جَلَسَتْ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ مَعَ جَوَارِيهَا تُلَاعِبُهُنَّ وَتَنْضَحُ الْمَاءَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ، إِذْ أَقْبَلَ النِّيلُ بِالتَّابُوتِ تَضْرِبُهُ الْأَمْوَاجُ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ فِي الْبَحْرِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالشَّجَرَةِ ايِتُونِي بِهِ، فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّفُنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَالَجُوا فَتْحَ الْبَابِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَعَالَجُوا كَسْرَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَدَنَتْ آسِيَةُ فَرَأَتْ فِي جَوْفِ التَّابُوتِ نُورًا لَمْ يَرَهُ غَيْرُهَا فَعَالَجَتْهُ فَفَتَحَتِ الْبَابَ فَإِذَا هِيَ بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ فِي مَهْدِهِ، وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ رِزْقَهُ فِي إِبْهَامِهِ يَمُصُّهُ لَبَنًا، فَأَلْقَى اللَّهُ لِمُوسَى الْمَحَبَّةَ فِي قَلْبِ آسِيَةَ، وَأَحَبَّهُ فِرْعَوْنُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا أَخْرَجُوا الصَّبِيَّ مِنَ التَّابُوتِ عَمَدَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَا كَانَ يَسِيلُ مِنْ رِيقِهِ فَلَطَّخَتْ بِهِ بَرَصَهَا فَبَرَأَتْ، فَقَبَّلَتْهُ وَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّا نَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْلُودَ الَّذِي تُحَذِّرُ مِنْهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ هَذَا، رُمِيَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَرَقًا مِنْكَ فَاقْتُلْهُ، فَهَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ، قَالَتْ آسِيَةُ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَكَانَتْ لَا تَلِدُ، فَاسْتَوْهَبَتْ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ فَوَهَبَهُ لَهَا، وَقَالَ فِرْعَوْنُ أَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ قَالَ فِرْعَوْنُ يَوْمَئِذٍ هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي كَمَا هُوَ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

لَكِ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا" (1) ، فَقِيلَ لِآسِيَةَ سَمِّيهِ فَقَالَتْ: سَمَّيْتُهُ مُوسَى لِأَنَّا وَجَدْنَاهُ فِي الْمَاءِ وَالشَّجَرِ فَمُو هُوَ الْمَاءُ، وَسِي هُوَ الشَّجَرُ (2) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ }
{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) }
{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } وَالِالْتِقَاطُ هُوَ وُجُودُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَلَامَ الصَّيْرُورَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وَلَكِنْ صَارَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "حُزْنًا" بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } عَاصِينَ (3) . آثِمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ } قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا وُضِعَ التَّابُوتُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ فَتَحُوهُ فَوَجَدَ فِيهِ مُوسَى فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَغَاظَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: كَيْفَ أَخْطَأَ هَذَا الْغُلَامَ الذَّبْحُ؟ وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَنْكَحَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ النِّسَاءِ وَمِنْ بَنَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَانَتْ أُمًّا لِلْمَسَاكِينِ تَرْحَمُهُمْ وَتَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ وَتُعْطِيهِمْ، قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ إِلَى جَنْبِهِ: هَذَا الْوَلِيدُ أَكْبَرُ مِنِ ابْنِ سَنَةٍ وَإِنَّمَا أَمَرْتَ أَنْ يُذْبَحَ الْوِلْدَانُ لِهَذِهِ السَّنَةِ فَدَعْهُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِي وَذَلِكَ، { لَا تَقْتُلُوهُ } وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ أَتَانَا مَنْ أَرْضٍ أُخْرَى لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أَنَّ هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَاسْتَحْيَاهُ فِرْعَوْنُ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّتَهُ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: عَسَى أَنْ يَنْفَعَكِ فَأَمَّا أَنَا فَلَا أُرِيدُ نَفْعَهُ، قَالَ وَهْبٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ فِي مُوسَى كَمَا قَالَتْ آسِيَةُ: عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، لَنَفَعَهُ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ أَبَى، لِلشَّقَاءِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) انظر: الطبري: 20 / 32، مجمع الزوائد: 7 / 56 وما بعدها وقد تقدم تخريج حديث الفتون في تفسير سورة طه. وهذا قطعة منه.
(2) في "أ": البحر.
(3) ساقط من "أ".
(4) انظر: الطبري: 20 / 34.

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)

{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا } أَيْ: خَالِيًا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَهَمِّهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ (1) . وَقَالَ الْحَسَنُ: "فَارِغًا" أَيْ: نَاسِيًا لِلْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا حِينَ أَمَرَهَا أَنْ تُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ وَلَا تَخَافُ وَلَا تَحْزَنُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي عَهَدَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا وَيَجْعَلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: كَرِهْتِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ وَلَدَكِ فَيَكُونَ لَكِ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ وَتَوَلَّيْتِ أَنْتِ قَتْلَهُ فَأَلْقَيْتِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَغْرَقْتِهِ، وَلَمَّا أَتَاهَا الْخَبَرُ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ أَصَابَهُ فِي النِّيلِ قَالَتْ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِ عَدُوِّهِ الَّذِي فَرَرْتُ مِنْهُ، فَأَنْسَاهَا عَظِيمُ الْبَلَاءِ مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "فَارِغًا" أَيْ: فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ، لِعِلْمِهَا بِصِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ الْقُتَيْبِيُّ هَذَا، وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: "إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا"؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } قِيلَ الْهَاءُ فِي "بِهِ" رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى، أَيْ: كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أَنَّهُ ابْنُهَا من شدة 61/ب وَجْدِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَادَتْ تَقُولُ: وَابْنَاهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا رَأَتِ التَّابُوتَ يَرْفَعُهُ مَوْجٌ وَيَضَعُهُ آخَرُ خَشِيَتْ عَلَيْهِ الْغَرَقَ فَكَادَتْ تَصِيحُ مِنْ شَفَقَتِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَادَتْ تُظْهِرُ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَذَلِكَ حِينَ سَمِعَتِ النَّاسَ يَقُولُونَ لِمُوسَى بَعْدَمَا شَبَّ: مُوسَى بْنُ فِرْعَوْنَ، فَشَقَّ عَلَيْهَا فَكَادَتْ تَقُولُ: بَلْ هُوَ ابْنِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْوَحْيِ أَيْ: كَادَتْ تُبْدِي بِالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا (2) . { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } بِالْعِصْمَةِ وَالصَّبْرِ وَالتَّثْبِيتِ، { لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الْمُصَدِّقِينَ لِوَعْدِ اللَّهِ حِينَ قَالَ لَهَا: { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ }
{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ } أَيْ: لِمَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى: { قُصِّيهِ } اتْبَعِي أَثَرَهُ حَتَّى تَعْلَمِي خَبَرَهُ، { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } أَيْ: عَنْ بُعْدٍ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي جَانِبًا وتنظر اختلاسا تري أَنَّهَا لَا تَنْظُرُهُ،
__________
(1) انظر الدر المنثور: 6 / 394-395، وهو ما رجحه الطبري: 20 / 37.
(2) ذكر هذه الأقوال الطبري: 20 / 37-38، ثم قال: "والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين ذكرنا قولهم أنهم قالوا: إن كادت لتقول: يا بنياه! لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، وأنه عقيب قوله: "وأصبح فؤاد أم موسى فارغا" فلأن يكون لو لم يكن ممن ذكرنا في ذلك إجماع على ذلك من ذكر موسى، لقربه منه، أشبه من أن يكون من ذكر الوحي..".

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

{ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أَنَّهَا أُخْتُهُ وَأَنَّهَا تَرْقُبُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ امرأة فرعون كل هَمُّهَا مِنَ الدُّنْيَا أَنْ تَجِدَ لَهُ مُرْضِعَةً، فَكُلَّمَا أَتَوْا بِمُرْضِعَةٍ لَمْ يَأْخُذْ ثَدْيَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ }
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) }

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) }
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحْرِيمِ الْمَنْعُ، وَالْمَرَاضِعُ: جَمْعُ الْمُرْضِعِ، { مِنْ قَبْلُ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ أُمِّ مُوسَى، فَلَمَّا رَأَتْ أُخْتُ مُوسَى الَّتِي أَرْسَلَتْهَا أُمُّهُ فِي طَلَبِهِ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُمْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ؟ وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى مَكَثَ ثَمَانِ لَيَالٍ لَا يَقْبَلُ ثَدْيًا وَيَصِيحُ وَهُمْ فِي طَلَبِ مُرْضِعَةٍ لَهُ.
{ فَقَالَتْ } يَعْنِي أُخْتَ مُوسَى، { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ } أَيْ: يَضْمَنُونَهُ (1) { لَكُمْ } وَيُرْضِعُونَهُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ قَدْ قُتِلَ وَلَدُهَا فَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهَا أَنْ تَجِدَ صَغِيرًا تُرْضِعُهُ، { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ، وَهُوَ تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ شَوَائِبِ الْفَسَادِ، قَالُوا: نَعَمْ فَأْتِيْنَا بِهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا قَالَتْ أُخْتُ مُوسَى: "وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ" أَخَذُوهَا وَقَالُوا: إِنَّكِ قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلَامَ فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ. فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُهُ، وَقُلْتُ هُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّمَا قُلْتُ هَذَا رَغْبَةً فِي سُرُورِ الْمَلِكِ وَاتِّصَالِنَا بِهِ. وَقِيلَ إِنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ" قَالُوا لَهَا: مَنْ؟ قَالَتْ: أُمِّي قَالُوا: وَلِأُمِّكِ ابْنٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَارُونُ، وَكَانَ هَارُونُ وُلِدَ فِي سَنَةٍ لَا يُقَتَّلُ فِيهَا، قَالُوا: صَدَقْتِ، فَأْتِينَا بِهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا وَأَخْبَرَتْهَا بِحَالِ ابْنِهَا، وَجَاءَتْ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَجَدَ الصَّبِيُّ رِيحَ أُمِّهُ قَبِلَ ثَدْيَهَا، وَجَعَلَ يَمُصُّهُ حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا يُعْطُونَهَا كُلَّ يَوْمٍ دِينَارًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا }
{ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بِرَدِّ مُوسَى إِلَيْهَا، { وَلَا تَحْزَنْ } أَيْ: وَلِئَلَّا تَحْزَنَ، { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } بِرَدِّهِ إِلَيْهَا، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهَا رَدَّهُ إِلَيْهَا.
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَشُدُّ مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً. [قَالَ مُجَاهِدٌ
__________
(1) في "أ": يضمونه.

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

وَغَيْرُهُ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، { وَاسْتَوَى } أَيْ: بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً] (1) ، وَرَوَاهُ (2) سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: اسْتَوَى انْتَهَى شَبَابُهُ { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أَيِ: الْفِقْهَ وَالْعَقْلَ وَالْعِلْمَ فِي الدِّينِ، فَعَلِمَ مُوسَى وَحَكَمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيًّا، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ } يَعْنِي: دَخَلَ مُوسَى الْمَدِينَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَدِينَةُ "مَنْفَ" مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ قَرْيَةَ "حَابِينَ" عَلَى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ. وَقِيلَ: مَدِينَةُ "عَيْنِ الشَّمْسِ" (3) ، { عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } وَقْتَ الْقَائِلَةِ وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْقَيْلُولَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: دَخَلَهَا فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ؛ قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُسَمَّى ابْنُ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ وَيَلْبَسُ مِثْلَ مَلَابِسِهِ، فَرَكِبَ فِرْعَوْنُ يَوْمًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى قِيلَ لَهُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ رَكِبَ، فَرَكِبَ فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ بِأَرْضِ "مَنْفَ" فَدَخَلَهَا نِصْفَ النَّهَارِ، وَلَيْسَ فِي طَرَفِهَا أَحَدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ لِمُوسَى شِيعَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ، فَلَمَّا عَرَفَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ رَأَى فِرَاقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَخَالَفَهُمْ فِي دِينِهِ حَتَّى ذُكِرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَخَافُوهُ وَخَافَهُمْ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُ قَرْيَةً إلا خائفا مستخيفا، فَدَخَلَهَا يَوْمًا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا عَلَا مُوسَى فِرْعَوْنَ بِالْعَصَا فِي صِغَرِهِ، فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ قَتْلَهُ، قَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ صَغِيرٌ، فَتَرَكَ قَتْلَهُ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مَدِينَتِهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَبُرَ وَبَلَغَ أَشُدَّهُ فَدَخْلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، يَعْنِي: عَنْ ذِكْرِ مُوسَى، أَيْ: مِنْ بَعْدِ نِسْيَانِهِمْ خَبَرَهُ وَأَمْرَهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ (4) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "ب": وهذه رواية.
(3) في "أ": عين شمس.
(4) أخرج هذه الأقوال الطبري: 20 / 43-44، ثم قال: "وأولى الأقوال في الصحة بذلك أن يقال كما قال جل ثناؤه: (ولما بلغ أشده واستوى.. ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها)": أي حسبنا هذا، إذ لم يرد نص صحيح في سبب دخوله عليه السلام المدينة على حين غفلة من أهلها.

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: "حِينِ غَفْلَةٍ" كَانَ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ قَدِ اشْتَغَلُوا بِلَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ. { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ } يَخْتَصِمَانِ وَيَتَنَازَعَانِ، { هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ } بَنِي إِسْرَائِيلَ، { وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } مِنَ الْقِبْطِ، قِيلَ: الَّذِي كَانَ مِنْ شِيعَتِهِ السَّامِرِيُّ، وَالَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ مِنَ الْقِبْطِ، قِيلَ: طَبَّاخُ فِرْعَوْنَ اسْمُهُ فَلْيَثُونُ. وَقِيلَ: "هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ. وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ" أَيْ: هَذَا مُؤْمِنٌ وَهَذَا كَافِرٌ، وَكَانَ الْقِبْطِيُّ يُسَخِّرُ الْإِسْرَائِيلِيَّ لِيَحْمِلَ الْحَطَبَ إِلَى الْمَطْبَخِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَلَغَ مُوسَى أَشُدَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمٍ حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ عَزُّوا بِمَكَانِ مُوسَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْهُمْ، فوجد موسى رجلان يَقْتَتِلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْآخَرُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، فَغَضِبَ مُوسَى وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَةَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الرَّضَاعَةِ مِنْ أُمِّ مُوسَى، فَقَالَ لِلْفِرْعَوْنِيِّ: خَلِّ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُهُ لِيَحْمِلَ الْحَطَبَ إِلَى مَطْبَخِ أَبِيكَ، فَنَازَعَهُ، فقال الفرعوني 62/أ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْمِلَهُ عَلَيْكَ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ أُوتِيَ بَسْطَةً فِي الْخَلْقِ وَشِدَّةً فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ، { فَوَكَزَهُ مُوسَى } وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فَلَكَزَهُ مُوسَى"، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْكَفِّ. وَقِيلَ: "الْوَكْزُ" الضَّرْبُ في الصدر و"اللكز" فِي الظَّهْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الدَّفْعُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَكْزُ الدَّفْعُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: عَقَدَ مُوسَى ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ وَضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ، { فَقَضَى عَلَيْهِ } أَيْ: فَقَتَلَهُ وَفَرَغَ مِنْ أَمْرِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَرَغْتَ مِنْهُ فَقَدْ قَضَيْتَهُ وَقَضَيْتَ عَلَيْهِ، فَنَدِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْقَتْلَ، فَدَفَنَهُ فِي الرَّمْلِ، { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } أَيْ: بَيِّنُ الضَّلَالَةِ.
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) }
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ، { فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } بِالْمَغْفِرَةِ، { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا } عَوْنًا، { لِلْمُجْرِمِينَ } قَالَ

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ الَّذِي أَعَانَهُ مُوسَى كَانَ كَافِرًا، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، قَالَ قَتَادَةُ: لَنْ أُعِينَ بَعْدَهَا عَلَى خَطِيئَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي.
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) }
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ } أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا الْقِبْطِيَّ، { خَائِفًا } مِنْ قَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ، { يَتَرَقَّبُ } يَنْتَظِرُ سُوءًا، وَالتَّرَقُّبُ: انْتِظَارُ الْمَكْرُوهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْخَذُ بِهِ، { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } يَسْتَغِيثُهُ وَيَصِيحُ بِهِ مِنْ بُعْدٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُتِيَ فِرْعَوْنُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا مِنَّا رَجُلًا فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا، فَقَالَ: ابْغُوا لِي قَاتِلَهُ وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقْضِيَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ بَيِّنَةً إِذْ مَرَّ مُوسَى مِنَ الْغَدِ فَرَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ فِرْعَوْنِيًّا فَاسْتَغَاثَهُ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَصَادَفَ مُوسَى، وَقَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْسِ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، { قَالَ لَهُ مُوسَى } لِلْإِسْرَائِيلِيِّ: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ قَاتَلْتَ بِالْأَمْسِ رَجُلًا فَقَتَلْتُهُ بِسَبَبِكِ، وَتُقَاتِلُ الْيَوْمَ آخَرَ وَتَسْتَغِيثُنِي عَلَيْهِ؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ مُوسَى لِلْفِرْعَوْنِيِّ: إِنَّكَ لَغَوِيُّ مُبِينٌ بِظُلْمِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ.
{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا } وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى أَدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ (1) بِالْإِسْرَائِيلِيِّ فَمَدَّ يَدَهُ لِيَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَظَنَّ الْإِسْرَائِيلِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ لِمَا رَأَى مِنْ غَضَبِهِ وَسَمِعَ قَوْلَهُ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، { قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ } مَا تُرِيدُ، { إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ } بِالْقَتْلِ ظُلْمًا، { وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } فَلَمَّا سَمِعَ الْقِبْطِيُّ مَا قَالَ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلِمَ أن موسى هوالذي قَتَلَ ذَلِكَ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَانْطَلَقَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ مُوسَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِقَتْلِ مُوسَى أَخَذُوا الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ.
{ وَجَاءَ رَجُلٌ } مِنْ شِيعَةِ مُوسَى، { مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ } أَيْ: مِنْ آخِرِهَا، قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: اسْمُهُ "حَزْبِيلُ" مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ "شَمْعُونُ"، وَقِيلَ: "شَمْعَانُ"، { يَسْعَى }
__________
(1) في "أ": الرأفة.

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)

أَيْ: يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ، فَأَخَذَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتَّى سَبَقَ إِلَى موسى فأخبره وأنذروه حَتَّى أَخَذَ طَرِيقًا آخَرَ، { قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } يَعْنِي: أَشْرَافَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ، { لِيَقْتُلُوكَ } قَالَ الزَّجَّاجُ: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَتْلِكَ، { فَاخْرُجْ } مِنَ الْمَدِينَةِ، { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } فِي الْأَمْرِ لَكَ بِالْخُرُوجِ.
{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) }

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) }
{ فَخَرَجَ مِنْهَا } مُوسَى، { خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } أَيْ: يَنْتَظِرُ الطَّلَبَ، { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } الْكَافِرِينَ، وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ بَعْثَ فِي طَلَبِهِ حِينَ أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ فَقَالَ ارْكَبُوا ثَنَيَاتِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ الطَّرِيقُ.
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ } أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، يُقَالُ: دَارُهُ تِلْقَاءَ دَارِ فُلَانٍ، إذا كانت محاذيتها، وَأَصْلُهُ مِنَ اللِّقَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّذِي تِلْقَاءَ مَدْيَنَ فِيهَا، وَمَدْيَنُ هُوَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سُمِّيَتِ الْبَلْدَةُ بِاسْمِهِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، { قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفِ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا قَبْلُ، فَلَّمَا دَعَا جَاءَهُ مَلِكٌ بِيَدِهِ عَنَزَةٌ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَدْيَنَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: خَرَجَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ وَالْبَقْلُ، حَتَّى يَرَى خُضْرَتَهُ فِي بَطْنِهِ، وَمَا وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ حَتَّى وَقْعَ خُفُّ قَدَمَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } جَمَاعَةً { مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } مَوَاشِيَهُمْ، { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ } يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ، { امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ } يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمُ الْبِئْرُ، قَالَ الْحَسَنُ: تَكُفَّانِ الْغَنَمَ عَنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِأَغْنَامِ النَّاسِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَكُفَّانِ النَّاسَ عَنْ أَغْنَامِهِمَا. وَقِيلَ: تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا

عَنْ أَنْ تَشِذَّ وَتَذْهَبَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُهَا، لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: { قَالَ } يَعْنِي: مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ، { مَا خَطْبُكُمَا } مَا شَأْنُكُمَا لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟ { قَالَتَا لَا نَسْقِي } أَغْنَامَنَا، { حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ: "يَصْدُرَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الدَّالِ عَلَى اللُّزُومِ، أَيْ: حَتَّى يَرْجِعَ الرِّعَاءُ عَنِ الْمَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيَهُمْ عَنِ الْمَاءِ، وَ"الرِّعَاءُ" جَمْعُ رَاعٍ، مِثَلَ: تَاجِرٍ وَتُجَّارٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ، لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهُمْ فِي الْحَوْضِ.
{ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِ أَبِيهِمَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ، والضحاك، والسدي 62/ب وَالْحَسَنُ: هُوَ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ يَثْرُونُ (1) بْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، وَكَانَ شُعَيْبٌ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ، فَدُفِنَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَزَمْزَمَ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِمَّنْ آمَنَ بِشُعَيْبٍ (2) قَالُوا: فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهَمَا رَحِمَهُمَا فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ.
__________
(1) قال ابن كثير: إن هذا موجود في كتب بني إسرائيل.
(2) قال الطبري رحمه الله (20 / 62): "وهذا مما لا يدرك علمه إلا بخير، ولا خبر بذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه..". وبعد أن ذكر ابن كثير الآراء السالفة قال: (3 / 385-386): "وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه: (وما قوم لوط منكم ببعيد) وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو -والله أعلم- احتراز من هذا الإشكال، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب: أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده".
ولذلك قال الأستاذ سيد قطب في "الظلال" (5 / 2687) تعليق (1) -طبعة دار الشروق- "... وأنا الآن أميل إلى ترجيح أنه ليس هو -شعيب- وإنما هو شيخ آخر من مدين. والذي يحمل على هذا الترجيح: أن هذا الرجل شيخ كبير. وشعيب شهد مهلك قومه، المكذبين له، ولم يبق معه إلا المؤمنون به، فلو كان هو شعيب -النبي- بين بقية قومه المؤمنين، ما سقوا قبل بنتي نبيهم الشيخ الكبير. فليس هذا سلوك قوم مؤمنين، ولا معاملتهم لنبيهم وبناته من أول جيل!. يضاف إلى هذا: أن القرآن لم يذكر شيئا عن تعليمه لموسى صهره، ولو كان شعيبا النبي سمعنا صوت النبوة في شيء من هذا مع موسى وقد عاش معه عشر سنوات".

فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ مُوسَى زَاحَمَ الْقَوْمَ وَنَحَّاهُمْ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، فَسَقَى غَنَمَ الْمَرْأَتَيْنِ. وَيُرْوَى: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَجَعُوا بِأَغْنَامِهِمْ غَطَّوْا رَأْسَ الْبِئْرِ بِحَجَرٍ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا عَشَرَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ مُوسَى وَرَفَعَ الْحَجَرَ وَحْدَهُ، وَسَقَى غَنَمَ الْمَرْأَتَيْنِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَزَعَ ذَنُوبًا وَاحِدًا وَدَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ، فَرَوَى مِنْهُ جَمِيعُ الْغَنَمِ (1) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ }
{ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) }
{ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ } طَعَامٍ، { فَقِيرٌ } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللَّامُ بِمَعْنَى "إِلَى"، يُقَالُ: هُوَ فَقِيرٌ لَهُ، وَفَقِيرٌ إِلَيْهِ، يَقُولُ: إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ، أَيْ: طَعَامٍ، فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى فِلْقَةَ خُبْزٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ. قَالَ الْبَاقِرُ: لَقَدْ قَالَهَا وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ قَالَ مُوسَى: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } وَهُوَ أَكْرَمُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وَلَقَدِ افْتَقَرَ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا سَأَلَهُ إِلَّا الْخُبْزَ (2) . قَالُوا: فَلَمَّا رَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعًا قَبْلَ النَّاسِ وَأَغْنَامُهُمَا حُفَّلٌ بِطَانٌ، قَالَ لَهُمَا: مَا أَعَجَلَكُمَا؟ قَالَتَا: وَجَدْنَا رَجُلًا صَالِحًا رَحِمَنَا فَسَقَى لَنَا أَغْنَامَنَا، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: اذْهَبِي فَادْعِيهِ لِي.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ مِنَ النِّسَاءِ (3) خَرَّاجَةً وَلَّاجَةً، وَلَكِنْ جَاءَتْ مُسْتَتِرَةً قَدْ وَضَعَتْ كُمَّ دِرْعِهَا عَلَى وَجْهِهَا اسْتِحْيَاءً، { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } قَالَ أَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ
__________
(1) أخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في "المصنف"، وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم -وصححه- عن عمر ابن الخطاب رضي عنه أثرا في ذلك ، وساقه ابن كثير مختصرا. انظر: المصنف: 11 / 530-531، المستدرك: 2 / 407، الطبري: 20 / 64، الدر المنثور: 6 / 405، وابن كثير: 3 / 385، وليس في شيء من الروايات التي ساقها المفسرون أي: حديث مرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دلائل قوة موسى عليه السلام، كرفع الحجر الذي يغطي البئر، وكان لا يرفعه -فيما قالوا- إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل... إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم موسى وسقى للمرأتين أو سقى لهما مع الرعاء.
ولا حاجة لما رواه كثير من المفسرين عن دلائل أمانته من قوله للفتاة: امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها.. فهذا كله تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها، وموسى -عليه السلام- عفيف النظر، نظيف الحس، وهي كذلك، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف، فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع!. انظر: في ظلال القرآن: 5 / 2687-2688.
(2) انظر هذه الروايات في الدر المنثور: 6 / 406-407، والله أعلم بهذا كله، فليس في شيء منها خبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(3) السلفع من النساء: الجريئة على الرجال، السليطة.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)

دِينَارٍ: لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مُوسَى أَرَادَ أَنْ لَا يَذْهَبَ، وَلَكِنْ كَانَ جَائِعًا فَلَمْ يَجِدْ بُدًا مِنَ الذَّهَابِ، فَمَشَتِ الْمَرْأَةُ وَمَشَى مُوسَى خَلْفَهَا، فَكَانَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ ثَوْبَهَا فَتَصِفُ رِدْفَهَا، فَكَرِهُ مُوسَى أَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهَا: امْشِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ إِنْ أَخْطَأْتُ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلِمَا دَخَلَ عَلَى شُعَيْبٍ إِذَا هُوَ بِالْعَشَاءِ مُهَيَّأً، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا شَابُّ فَتَعَشَّ، فَقَالَ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ، فَقَالَ شُعَيْبٌ: وَلِمَ ذَاكَ أَلَسْتَ بِجَائِعٍ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِوَضًا لِمَا سَقَيْتُ لَهُمَا، وَإِنَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَطْلُبُ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَا وَاللَّهِ يَا شَابُّ، وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي، نُقْرِي الضَّيْفَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، فَجَلَسَ مُوسَى وَأَكَلَ (1) .
{ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } يَعْنِي: أَمْرَهُ أَجْمَعَ مِنْ قَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ وَقَصْدِ فِرْعَوْنَ قَتْلَهُ، { قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ سُلْطَانٌ عَلَى مَدْيَنَ.
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) }
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } اتَّخِذْهُ أَجِيرًا لِيَرْعَى أَغْنَامَنَا، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } يَعْنِي: خَيْرَ مَنِ اسْتَعْمَلْتَ مَنْ قَوِيَ عَلَى الْعَمَلِ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِقُوَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ؟ قَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ: فَإِنَّهُ رَفَعَ حَجَرًا مِنْ رَأْسِ الْبِئْرِ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا عَشَرَةٌ. وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَمَّا أَمَانَتُهُ: فَإِنَّهُ قَالَ لِي امْشِي خَلْفِي حَتَّى لَا تَصِفَ الرِّيحُ بَدَنَكِ.
{ قَالَ } شُعَيْبٌ عِنْدَ ذَلِكَ: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } وَاسْمُهَا "صَفُّورَةُ" وَ"لَيَا" فِي قَوْلِ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "صَفُّورَةُ" وَ"شَرْقًا" وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْكُبْرَى "صَفْرَاءُ" وَالصُّغْرَى "صُفَيْرَاءُ". وَقِيلَ زَوَّجَهُ الْكُبْرَى. وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ زَوَّجَهُ الصُّغْرَى مِنْهُمَا وَاسْمُهَا
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر (6 / 407) لابن عساكر عن أبي حازم، وما انفرد به ابن عساكر من الرواية فهو ضعيف، قال السيوطي في مقدمة زوائد الجامع الصغير: كل ما عزي لابن عدي في الكامل والخطيب في التاريخ والعقيلي في الضعفاء وابن عساكر.. فهو ضعيف.

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

"صَفُّورَةُ"، وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ لِطَلَبِ مُوسَى (1) ، { عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } يَعْنِي: أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لِي ثَمَانِ سِنِينَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي: تَجْعَلُ ثَوَابِي مِنْ تَزْوِيجِهَا أَنْ تَرْعَى غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، تَقُولُ الْعَرَبَ: آجَرَكَ اللَّهُ بِأَجْرِكَ أَيْ: أَثَابَكَ، وَالْحِجَجُ: السُّنُونَ، وَاحِدَتُهَا حِجَّةٌ، { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } أَيْ: إِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرَ سِنِينَ فَذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْكَ وَتَبَرُّعٌ، لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكَ، { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَ عَلَيْكَ } أَيْ: أُلْزِمَكَ تَمَامَ الْعَشْرِ إِلَّا أَنْ تَتَبَرَّعَ { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } قَالَ عُمَرُ: يَعْنِي: فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْوَفَاءِ بِمَا قُلْتَ.
{ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) }
{ قَالَ } مُوسَى، { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } يَعْنِي: هَذَا الشَّرْطُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَمَا شَرَطْتَ عَلَيَّ فَلَكَ وَمَا شَرَطْتَ مِنْ تَزْوِيجِ إِحْدَاهُمَا فَلِي (2) ، وَالْأَمْرُ بَيْنَنَا، تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ: { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } يَعْنِي: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ: وَ"مَا" صِلَةٌ، "قَضَيْتُ": أَتْمَمْتُ وَفَرَغْتُ مِنْهُ، الثَّمَانِ أَوِ الْعَشْرِ، { فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ } لَا ظُلْمَ عَلَيَّ بِأَنْ أُطَالَبَ بِأَكْثَرَ مِنْهُمَا، { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: شَهِيدٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيْرَةِ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدُمَ عَلَى خَيْرِ الْعَرَبِ (3) فَأَسْأَلُهُ، فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ فَعَلَ (4) وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: إِذَا سُئِلْتَ أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَبَرَّهُمَا، وَإِذَا سُئِلَتَ: فَأَيُّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ، فَقَالَتْ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، فَتَزَوَّجَ أَصْغَرَهُمَا وَقَضَى أَوْفَاهُمَا (5) .
__________
(1) انظر: الدر المنثور 6 / 408، زاد المسير: 6 / 216-217، ابن كثير: 3 / 386، وليس في شيء من الأحاديث تعيين اسم الصغرى والكبرى. وسيأتي حديث أبي ذر مرفوعا في أنه تزوج الصغرى.
(2) في "أ": علي.
(3) في البخاري: حبر العرب.
(4) أخرجه البخاري في الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد: 5 / 289-290. والمراد بقوله: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اتصف بذلك ولم يرد شخصا بعينه.
(5) أخرجه الطبراني في الأوسط: 2 / 19، والخطيب في تاريخ بغداد: 2 / 128.
قال الهيثمي: (8 / 203): "رواه الطبراني في الصغير والأوسط، والبزار باختصار، وفي إسناد الطبراني عويد بن أبي عمران الجوني ضعفه ابن معين وغيره، ووثقه ابن حبان، وبقية رجال الطبراني ثقات" وانظر: 7 / 88 أيضا وساقه ابن كثير (3 / 387) من رواية البزار الذي قال: "لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد" وفي إسناده "عويد.." ومن حديثه رواه ابن أبي حاتم وفيه زيادة غريبة.

وَقَالَ وَهْبٌ: أَنْكَحَهُ الْكُبْرَى (1) . وَرُوِيَ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا: بَكَى شُعَيْبٌ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مِنْ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] (2) حَتَّى عُمِيَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى عُمِيَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى عُمِيَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: مَا هَذَا الْبُكَاءُ؟ أَشَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ خَوْفًا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ شَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، فَأَوْحَى الله إليه 63/أ إِنْ يَكُنْ ذَلِكَ فَهَنِيئًا لَكَ لِقَائِي [يَا شُعَيْبُ] (3) ، لِذَلِكَ أَخْدَمْتُكَ مُوسَى كَلِيمَيَ (4) .
وَلَمَّا تَعَاقَدَا هَذَا الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا أَمَرَ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ أَنْ تُعْطِيَ مُوسَى عَصًا يَدْفَعُ بِهَا السِّبَاعَ عَنْ غَنَمِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعَصَا؛ قَالَ عِكْرِمَةُ: خَرَجَ بِهَا آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَخَذَهَا جِبْرِيلُ بَعْدَ مَوْتِ آدَمَ فَكَانَتْ مَعَهُ حَتَّى لَقِيَ بِهَا مُوسَى لَيْلًا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ (5) . وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، حَمَلَهَا آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثَهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَكَانَ لَا يَأْخُذُهَا غَيْرُ نَبِيٍّ إِلَّا أَكَلَتْهُ، فَصَارَتْ مِنْ آدَمَ إِلَى نُوحٍ، ثُمَّ إِلَى إِبْرَاهِيمَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى شُعَيْبٍ، فَكَانَتْ عَصَا الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُ فَأَعْطَاهَا مُوسَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ تِلْكَ الْعَصَا اسْتَوْدَعَهَا إِيَّاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَأَمَرَ ابْنَتَهُ أَنْ تَأْتِيَهُ بِعَصَا فَدَخَلَتْ فَأَخَذَتِ الْعَصَا فَأَتَتْهُ بِهَا، فَلَمَّا رَآهَا شُعَيْبٌ قَالَ لَهَا: رُدِّي هَذِهِ الْعَصَا، وَأْتِيهِ بِغَيْرِهَا، فَأَلْقَتْهَا وَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَهَا فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهَا إِلَّا هِيَ، حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَعْطَاهَا مُوسَى
__________
(1) لم يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث في أيهما تزوج، الصغرى أم الكبرى، وحسبنا ما جاء في كتاب الله تعالى من أنه أراد أن ينكحه إحدى ابنتيه، ولو كان في معرفة اسمها فائدة لسماها الله تعالى في كتابه. والله أعلم.
(2) ليست في المخطوطتين، وأثبتها من "تاريخ بغداد" حيث ساق الخطيب بسنده عن شداد بن أوس مرفوعا.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: 6 / 315. وعزاه المتقي في كنز العمال: 11 / 498-499 للخطيب وابن عساكر عن شداد بن أوس، وقال: "وفيه إسماعيل بن علي بن الحسن بن بندار بن المثنى الإستراباذي الواعظ، أبو سعيد، قال الخطيب: لم يكن موثوقا به في الرواية، والحديث منكر. وقال الذهبي في الميزان (1 / 329): هذا حديث باطل لا أصل له. وقال ابن عساكر: رواه الواحدي عن ابن الفتح محمد بن علي الكوفي عن علي بن الحسن بن بندار كما رواه ابنه إسماعيل عنه، فقد برئ من عهدته، والخطيب إنما ذكره لأنه حمل فيه على إسماعيل". وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية": (1 / 49)، والألباني في "الضعيفة": (2 / 425) وقال: "ضعيف جدا".
(5) أخرجه الطبري عن عكرمة: 20 / 67.

فَأَخْرَجَهَا مُوسَى مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ نَدِمَ وَقَالَ: كَانَتْ وَدِيعَةً، فَذَهَبَ فِي أَثَرِهِ، وَطَلَبَ أَنْ يَرُدَّ الْعَصَا فَأَبَى مُوسَى أَنْ يُعْطِيَهُ. وَقَالَ: هِيَ عَصَايَ، فَرَضِيَا أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا أَوَّلَ رَجُلٍ يَلْقَاهُمَا، فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَحَكَمَ أَنْ يَطْرَحَ الْعَصَا فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ، فَطَرَحَ مُوسَى الْعَصَا فَعَالَجَهَا الشَّيْخُ لِيَأْخُذَهَا فَلَمْ يُطِقْهَا، فَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا فَتَرَكَهَا لَهُ الشَّيْخُ (1) .
ثُمَّ إِنَّ مُوسَى لَمَّا أَتَمَّ الْأَجَلَ وَسَلَّمَ شُعَيْبٌ، ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، قَالَ مُوسَى لِلْمَرْأَةِ: اطْلُبِي مِنْ أَبِيكِ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا بَعْضَ الْغَنَمِ، فَطَلَبَتْ مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ شُعَيْبٌ: لَكُمَا كُلُّ مَا وَلَدَتْ هَذَا الْعَامَ عَلَى غَيْرِ شِيَتِهَا (2) . وَقِيلَ: أَرَادَ شُعَيْبٌ أَنْ يُجَازِيَ مُوسَى عَلَى حُسْنِ رَعِيَّتِهِ إِكْرَامًا لَهُ وَصِلَةً لِابْنَتِهِ، فَقَالَ لَهُ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنَ الْجَدَايَا الَّتِي تَضَعُهَا أَغْنَامِي هَذِهِ السَّنَةَ كُلَّ أَبْلَقَ وَبَلْقَاءَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى فِي الْمَنَامِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْمَاءَ الَّذِي فِي مُسْتَقَى الْأَغْنَامِ قَالَ: فَضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ الْمَاءَ ثُمَّ سَقَى الْأَغْنَامَ مِنْهُ فَمَا أَخْطَأَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا إِلَّا وَضَعَتْ حَمْلَهَا مَا بَيْنَ أَبْلَقَ وَبَلْقَاءَ فَعَلِمَ شُعَيْبٌ أَنَّ ذَلِكَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى وَامْرَأَتِهِ فَوَفَّى لَهُ شَرَطَهُ وَسَلَّمَ الْأَغْنَامَ إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) أخرجه الطبري عن السدي: 20 / 66-67. وليس في شيء من الروايات خبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان هذه العصا، ولا فائدة من البحث في مثل هذه الأمور.
(2) ذكر الهيثمي في ذلك حديثا رواه البراز والطبراني وقال: في إسناده ابن لهيعة وفيه ضعف، وقد يحسن حديثه. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 87-88، تفسير ابن كثير: 3 / 387-388 وقال: منار هذا الحديث على ابن لهيعة المصري، وفي حفظه سوء، وأخشى أن يكون رفعه خطأ، والله أعلم.
(3) ذكر الهيثمي في ذلك حديثا رواه البراز والطبراني وقال: في إسناده ابن لهيعة وفيه ضعف، وقد يحسن حديثه. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 87-88، تفسير ابن كثير: 3 / 387-388 وقال: منار هذا الحديث على ابن لهيعة المصري، وفي حفظه سوء، وأخشى أن يكون رفعه خطأ، والله أعلم.

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ } يَعْنِي أَتَمَّهُ وَفَرَغَ مِنْهُ، { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ مَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ صِهْرِهِ عَشْرًا آخَرَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ عِشْرِينَ سَنَةً (1) ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى مِصْرَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ إِلَى جَانِبِ مِصْرَ، { آنَسَ } يَعْنِي: أَبْصَرَ، { مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا } وَكَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، شَدِيدَةِ الْبَرْدِ وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ، { قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ }
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير: (3 / 388): "وهذا القول لم أره لغيره، وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، فالله أعلم". وانظر الطبري: 20 / 69، الدر المنثور: 6 / 411.

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

عَنِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ، { أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ } يَعْنِي: قِطْعَةً وَشُعْلَةً مِنَ النَّارِ. وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ، قَرَأَ عَاصِمٌ: "جَذْوَةٍ" بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ الْعُودُ الَّذِي قَدِ احْتَرَقَ بَعْضُهُ، وَجَمْعُهَا "جِذَىً" (1) { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } تَسْتَدْفِئُونَ.
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) }
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ } مِنْ جَانِبِ الْوَادِي الَّذِي عَنْ يَمِينِ مُوسَى، { فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } لِمُوسَى، جَعَلَهَا اللَّهُ مُبَارَكَةً لِأَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى هُنَاكَ وَبَعَثَهُ نَبِيًّا. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ الْمُقَدَّسَةَ، { مِنَ الشَّجَرَةِ } مِنْ نَاحِيَةِ الشَّجَرَةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ سَمُرَةً خَضْرَاءَ تَبْرُقُ (2) ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ عَوْسَجَةً (3) . قَالَ وَهْبٌ مِنَ الْعُلَّيْقِ (4) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا الْعُنَّابُ (5) ، { أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تَتَحَرَّكُ، { كَأَنَّهَا جَانٌّ } وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ سُرْعَةِ حَرَكَتِهَا، { وَلَّى مُدْبِرًا } هَارِبًا مِنْهَا، { وَلَمْ يُعَقِّبْ } لَمْ يَرْجِعْ، فَنُودِيَ: { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ }
{ اسْلُكْ } أَدْخِلَ { يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } بَرَصٍ، فَخَرَجَتْ وَلَهَا شُعَاعٌ كَضَوْءِ الشَّمْسِ، { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَالشَّامِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَيَفْتَحُ الرَّاءَ حَفْصٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهِمَا، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنَى الْخَوْفِ
__________
(1) وانظر: لسان العرب، مادة (جذا)، الطبري: 20 / 69-70.
(2) في الطبري: شجرة سمراء خضراء ترف. والسمرة: شجرة من العضاه، جيد الخشب.
(3) شجرة من فصيلة الباذنجيات، شائكة الأغصان.
(4) نبات شائك معرش من فصيلة الورديات، ثمره أحمر وربما كان أصفر، وله نوى صلب مستدير.
(5) وكأن تحديد جنس الشجرة مأخوذ من أهل الكتاب. انظر: الطبري: 20 / 71، ابن كثير: 3 / 389.

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا هَلَكَ أَمْرُ يَدِكَ وَمَا تَرَى مِنْ شُعَاعِهَا فَأَدْخِلْهَا فِي جَيْبِكَ تَعُدْ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى. "وَالْجَنَاحُ": الْيَدُ كُلُّهَا. وَقِيلَ: هُوَ الْعَضُدُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضُمَّ يَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ (1) فَيَذْهَبَ عَنْهُ مَا نَالَهُ مِنَ الْخَوْفِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْحَيَّةِ، وَقَالَ: مَا مِنْ خَائِفٍ بَعْدَ مُوسَى إِلَّا إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ زَالَ خَوْفُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلٌّ مَنْ فَزِعَ فَضَمَّ جَنَاحَيْهِ إِلَيْهِ ذَهَبَ عَنْهُ الْفَزَعُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ ضَمِّ الْجَنَاحِ: السُّكُونُ، أَيْ: سَكِّنْ رَوْعَكَ وَاخْفِضْ عَلَيْكَ جَانِبَكَ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْخَائِفِ أَنْ يَضْطَرِبَ قَلْبُهُ وَيَرْتَعِدَ بَدَنُهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" (الْإِسْرَاءِ-24) ، يُرِيدُ الرِّفْقَ، وَقَوْلُهُ: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (الشُّعَرَاءِ-215) ، أَيْ: ارْفُقْ بِهِمْ وَأَلِنْ جَانِبَكَ لَهُمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِالْجَنَاحِ الْعَصَا، مَعْنَاهُ: اضْمُمْ إِلَيْكَ عَصَاكَ. وَقِيلَ: "الرَّهْبُ" الْكُمُّ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَعْرَابِ يَقُولُ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهْبِكَ، أَيْ: فِي كُمِّكَ، مَعْنَاهُ: اضْمُمْ إِلَيْكَ يَدَكَ وَأَخْرِجْهَا مِنَ الْكُمِّ، لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ الْعَصَا وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ. { فَذَانِكَ } يَعْنِي: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، { بُرْهَانَانِ } آيَتَانِ، { مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) }
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ }
{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِلْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي لِسَانِهِ مِنْ وَضْعِ الْجَمْرَةِ فِي فِيهِ (2) ، { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا } عَوْنًا، يُقَالُ رَدَأْتُهُ أَيْ: أَعَنْتُهُ، قَرَأَ نَافِعٌ { رِدًا } بِفَتْحِ الدَّالِ
__________
(1) في "أ" عضده.
(2) تقدم ذلك في حديث الفتون في سورة (طه)، وفي هذه السورة، وهو في الدر المنثور: 5 / 569-579، وذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: 1 / 300-307 وقال: هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي، وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يزيد بن هارون. والأشبه -والله أعلم- أنه موقوف، وكونه مرفوعا فيه نظر، وغالبه متلقى من الإسرائيليات، وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام، وفي بعض ما فيه نظر، ونكارة، والأغلب أنه كلام كعب الأحبار. وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك. والله أعلم.

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ مَهْمُوزًا، { يُصَدِّقُنِي } قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الحال، أي: رداءً مُصَدِّقًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ وَالتَّصْدِيقِ لِهَارُونَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: لكي يصدقني 63/ب فِرْعَوْنُ، { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ.
{ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) }

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) }
{ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أَيْ: نُقَوِّيكَ بِأَخِيكَ، وَكَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } حُجَّةً وَبُرْهَانًا، { فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا } أَيْ: لَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِقَتْلٍ وَلَا سُوءٍ لِمَكَانِ آيَاتِنَا، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا بِآيَاتِنَا بِمَا نُعْطِيكُمَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا، { أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } أَيْ: لَكُمَا وَلِأَتْبَاعِكُمَا الْغَلَبَةُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } وَاضِحَاتٍ، { قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى } مُخْتَلَقٌ، { وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا } بِالَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ، { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ }
{ وَقَالَ مُوسَى } قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، { رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ } بِالْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ، { وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } الْعُقْبَى الْمَحْمُودَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أَيِ: الْكَافِرُونَ.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ } فَاطْبُخْ لِي الْآجُرَّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الْآجُرِّ وَبَنَى بِهِ، { فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا } قَصْرًا عَالِيًا، وَقِيلَ: مَنَارَةً، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ (1) لَمَّا أَمَرَ فِرْعَوْنُ وَزِيرَهُ هَامَانَ بِبِنَاءِ الصَّرْحِ، جَمَعَ هَامَانُ الْعُمَّالَ وَالْفَعَلَةَ
__________
(1) في "ب": السير.

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

حَتَّى اجْتَمَعَ خَمْسُونَ أَلْفَ بَنَّاءٍ سِوَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُجَرَاءِ، وَمَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ وَالْجِصَّ وَيَنْجُرُ الْخَشَبَ وَيَضْرِبُ الْمَسَامِيرَ، فَرَفَعُوهُ وَشَيَّدُوهُ حَتَّى ارْتَفَعَ ارْتِفَاعًا لَمْ يَبْلُغْهُ بُنْيَانُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَفْتِنَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ ارْتَقَى فِرْعَوْنُ فَوْقَهُ وَأَمَرَ بِنَشَّابَةٍ فَرَمَى بِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَرُدَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ مُلَطَّخَةٌ دَمًا، فَقَالَ قَدْ قَتَلْتُ إِلَهَ مُوسَى، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَصْعَدُ عَلَى الْبَرَاذِينِ، فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ جُنَحَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَضَرَبَهُ بِجَنَاحِهِ فَقَطَعَهُ ثَلَاثَ قِطَعٍ فَوَقَعَتْ قِطْعَةٌ مِنْهَا عَلَى عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ فَقَتَلَتْ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ رَجُلٍ، وَوَقَعَتْ قِطْعَةٌ فِي الْبَحْرِ وَقِطْعَةٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَمِلَ فِيهِ بِشَيْءٍ إِلَّا هَلَكَ (1) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَقِفُ عَلَى حَالِهِ، { وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ } يَعْنِي مُوسَى، { مِنَ الْكَاذِبِينَ } فِي زَعْمِهِ أَنَّ لِلْأَرْضِ وَالْخَلْقِ إِلَهًا غَيْرِي، وَأَنَّهُ رَسُولُهُ.
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) }
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } قَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: "يَرْجِعُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، [وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ] (2) .
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ } فَأَلْقَيْنَاهُمْ، { فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ }
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } قَادَةً وَرُؤَسَاءَ، { يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } لَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْعَذَابِ.
{ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } خِزْيًا وَعَذَابًا، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } الْمُبْعَدِينَ (3) الْمَلْعُونِينَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الْمُهْلَكِينَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مِنَ
__________
(1) ذكره الطبري مختصرا عن السدي: 20 / 78، والقرطبي: 13 / 289 وقال مشيرا إلى تضعيف هذا القول: "والله أعلم بصحة ذلك".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) في "أ": المعذبين.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

الْمُشَوَّهِينَ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، يُقَالُ: قَبَحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ: إِذَا جَعَلَهُ قَبِيحًا، وَيُقَالُ: قَبَّحَهُ قُبْحًا، وَقُبُوحًا، إِذَا أَبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) }

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى } يَعْنِي: قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى، { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أَيْ: لِيُبْصِرُوا بِذَلِكَ الْكِتَابَ وَيَهْتَدُوا بِهِ، { وَهُدًى } الضَّلَالَةِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، { وَرَحْمَةً } لِمَنْ آمَنَ بِهِ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْبَصَائِرِ.
{ وَمَا كُنْتَ } يَا مُحَمَّدُ (1) ، { بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } يَعْنِي: بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِجَانِبِ الْوَادِي الْغَرْبِيِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ حَيْثُ نَاجَى مُوسَى رَبَّهُ، { إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ } يَعْنِي عَهِدْنَا إِلَيْهِ وَأَحْكَمْنَا الْأَمْرَ مَعَهُ بِالرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، { وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } الْحَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَقَامَ فَتَذْكُرُهُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِكَ.
{ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا } خَلَقْنَا أُمَمًا بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } أَيْ: طَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمُهْلَةُ فَنَسُوا عَهْدَ اللَّهِ وَتَرَكُوا أَمْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَهِدَ إِلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ عُهُودًا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَخُلِّفَتِ الْقُرُونَ بَعْدَ الْقُرُونِ نَسُوا تِلْكَ الْعُهُودَ وَتَرَكُوا الْوَفَاءَ بِهَا. { وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا } مُقِيمًا، { فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } كَمَقَامِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ فِيهِمْ، { تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } تُذَكِّرُهُمْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَمْ تَشْهَدْ أَهْلَ مَدْيَنَ فَتَقْرَأْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ، { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ رَسُولًا وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِيهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ، فَتَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَلِمْتَهَا وَلَمْ تُخْبِرْهُمْ بِهَا.
__________
(1) ساقط من "أ".

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهُمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) }
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ } بِنَاحِيَةِ الْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، { إِذْ نَادَيْنَا } قِيلَ: إِذْ نَادَيْنَا مُوسَى: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ (1) . وَقَالَ وَهْبٌ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَرِنِي مُحَمَّدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ نَادَيْتُ أُمَّتَهُ وَأَسْمَعْتُكَ صَوْتَهُمْ، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ (2) وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: وَنَادَى يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ قَدْ أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي (3) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ-، قَالَ اللَّهُ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَعَفْوِي سَبَقَ عِقَابِيَ، قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلُونِي وَقَدْ أَجَبْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِي، وَقَدْ غَفَرَتُ لَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعْصُونِي، مَنْ جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدِي وَرَسُولِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ (4) . قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أَيْ: وَلَكِنْ رَحِمْنَاكَ رَحْمَةً بِإِرْسَالِكَ وَالْوَحْيِ إِلَيْكَ وَإِطْلَاعِكَ عَلَى الْأَخْبَارِ الغائبة عنك 64/أ ، { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ } يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
{ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ } عُقُوبَةٌ وَنِقْمَةٌ، { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ،
__________
(1) قال ابن الجوزي في زاد المسير: (إذ نادينا) موسى وكلمناه، هذا قول الأكثرين. (6 / 226).
(2) ذكره القرطبي: 13 / 292، وتقدم في موضع سابق أن هذا من الأخبار المتلقاة عن أهل الكتاب مما أدخله وهب وغيره في مرويات التفسير، والله أعلم.
(3) أخرجه النسائي في التفسير من سننه عن أبي زرعة عن أبي هريرة. قال ابن كثير: (3 / 392): "وهكذا رواه ابن جرير: (20 / 81) وابن أبي حاتم من حديث جماعة عن حمزة، وهو ابن حبيب الزيات، عن الأعمش، ورواه ابن جرير (20 / 81) من حديث وكيع ويحيى بن عيسى عن الأعمش عن على بن مدرك عن أبي زرعة وهو ابن عمرو بن جرير أنه قال ذلك من كلامه. والله أعلم". وزاد السيوطي في الدر (6 / 418) نسبته للفريابي والحاكم -وصححه-، وابن مردويه، وأبي نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أبي هريرة.
(4) عزاه السيوطي لابن مردويه عن ابن عباس. انظر: الدر المنثور 6 / 418.

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

{ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا } هَلَّا { أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَجَوَابُ "لَوْلَا" مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، يَعْنِي: لَوْلَا أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِتَرْكِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ بِكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمَا بَعَثْنَاكَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَلَكِنْ بَعَثْنَاكَ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
{ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) }
{ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا } يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { قَالُوا } يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، { لَوْلَا } هَلَّا { أُوتِيَ } مُحَمَّدٌ، { مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } [مِنَ الْآيَاتِ كَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالْعَصَا وَقِيلَ: مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى] (1) كِتَابًا جُمْلَةً وَاحِدَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أَيْ: فَقَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مُوسَى كَمَا كَفَرُوا بِآيَاتِ مُحَمَّدٍ { قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "سِحْرَانِ"، أَيِ: التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ: "تَظَاهَرَا" يَعْنِي: كُلُّ سِحْرٍ يُقَوِّي الْآخَرَ، نَسَبَ التَّظَاهُرَ إِلَى السِّحْرَيْنِ عَلَى الِاتِّسَاعِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ تِلْكَ حِينَ بَعَثُوا إِلَى رُءُوسِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ نَعْتَهُ فِي كِتَابِهِمِ التَّوْرَاةِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِقَوْلِ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: سِحْرَانِ تَظَاهَرَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "سَاحِرَانِ" يَعْنُونَ مُحَمَّدًا وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّظَاهُرِ بِالنَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْكُتُبِ، { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ }
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ، { فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } يَعْنِي: مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، { أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ } أَيْ: لَمْ يَأْتُوا بِمَا طَلَبْتَ، { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) }
{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَيِّنًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْزَلْنَا آيَاتِ الْقُرْآنِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ قَتَادَةُ: وَصَّلَ لَهُمُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، يَعْنِي كَيْفَ صَنَعَ بِمَنْ مَضَى. قَالَ مُقَاتِلٌ: بَيِّنًا لِكَفَّارِ مَكَّةَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَيْفَ عُذِّبُوا (1) بِتَكْذِيبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَصَّلْنَا لَهُمْ خَبَرَ الدُّنْيَا بِخَبَرِ الْآخِرَةِ (2) حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوا الْآخِرَةَ فِي الدُّنْيَا، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ } مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، { هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ؛ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ (3) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ هُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ وَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) . [وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرٍ مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (5) ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخَصَاصَةِ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ لَنَا أَمْوَالًا [فَإِنْ أَذِنْتَ لَنَا انْصَرَفْنَا] (6) وَجِئْنَا بِأَمْوَالِنَا فَوَاسَيْنَا الْمُسْلِمِينَ بِهَا [فَأَذِنَ لَهُمْ، فَانْصَرَفُوا فَأَتَوْا بِأَمْوَالِهِمْ، فَوَاسَوْا بِهَا الْمُسْلِمِينَ] (7) ، فَنَزَلَ فِيهِمْ: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (8) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَمَانِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَرْبَعُونَ مِنْ نَجْرَانَ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الشَّامِ (9) . ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ }
__________
(1) في "أ" : كيف عدوا.
(2) في "ب": خير الدنيا بخير الآخرة.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي. انظر: الدر المنثور: 6 / 426، زاد المسير: 6 / 229، البحر المحيط: 7 / 125.
(4) انظر الدر المنثور: 2 / 87.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(7) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(8) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، انظر: الدر المنثور: 6 / 427. وأخرج الطبراني نحوه مطولا عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند فيه من لا يعرف. انظر: أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين ص (721) في أسباب نزول سورة الحديد.
(9) انظر: زاد المسير 6 / 229، تفسير ابن كثير: 3 / 394-395، وراجع فيما سبق: 2 / 85-87. والله أعلم أي ذلك كان. "وأيا كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع، يعلمونه ولا ينكرونه، كي يقفهم وجها لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن، وتطمئن إليه، وترى فيه الحق، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب. ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء، وتحتمل في سبيل الحق الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء". انظر: في ظلال القرآن: 5 / 2700-2701.

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) }
{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا } وَذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ مُسْلِمِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ حَقٌ.
{ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ } لِإِيمَانِهِمْ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَبِالْكِتَابِ الْآخِرِ، { بِمَا صَبَرُوا } عَلَى دِينِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَسْلَمُوا فَأُوذُوا (1) أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبَدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنُصْحَ سَيِّدِهِ" (2) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَدْفَعُونَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الشِّرْكَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَدْفَعُونَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَذَى وَالشَّتْمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ (3) ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فِي الطَّاعَةِ.
{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } الْقَبِيحَ مِنَ الْقَوْلِ، { أَعْرَضُوا عَنْهُ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسُبُّونَ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ: تَبًّا لَكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُمْ وَلَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر: 6 / 427 لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2) أخرجه البخاري في العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله: 1 / 90، ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جميع الناس، برقم (97): 1 / 134، والمصنف في شرح السنة: 1 / 53.
(3) انظر فيما سبق: سورة الرعد، الآية (22).

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

{ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ، { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ سَلَامُ التَّحِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ سَلَامُ الْمُتَارَكَةِ، مَعْنَاهُ: سَلِمْتُمْ مِنَّا لَا نُعَارِضُكُمْ بِالشَّتْمِ وَالْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ، { لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أَيْ: دِينَ الْجَاهِلِينَ، يَعْنِي: لَا نُحِبُّ دِينَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا نُرِيدُ أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ (1) .
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أَيْ: أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: أَحْبَبْتَهُ لِقَرَابَتِهِ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: لِمَنْ قُدِّرَ لَهُ الْهُدَى، نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنِّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
{ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } مَكَّةَ، نَزَلَتْ فِي الْحَرْثِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ عَلَى دِينِكَ خِفْنَا أَنْ تُخْرِجَنَا الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا مَكَّةَ (3) . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: { نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } 64/ب ، وَالِاخْتِطَافُ: الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا } وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ حَيْثُ كَانُوا، لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمَنُ فِيهِ الظِّبَاءُ مِنَ الذِّئَابِ وَالْحَمَامُ مِنَ الْحِدَأَةِ، { يُجْبَى } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ: "تُجْبَى" بِالتَّاءِ لِأَجْلِ الثَّمَرَاتِ، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِلْحَائِلِ بَيْنَ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ وَالْفِعْلِ، أَيْ: يُجْلَبُ وَيُجْمَعُ، { إِلَيْهِ } يُقَالُ: جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ: جَمَعْتُهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يُحْمَلُ إِلَى الْحَرَمِ، { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أَنَّ مَا يَقُولُهُ حَقٌ.
__________
(1) راجع فيما سبق: 3 / 32 تعليق (1).
(2) أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت... برقم (24): 1 / 55، وأخرجه البخاري مطولا بلفظ آخر في التفسير: 8 / 506. وانظر: الدر المنثور 6 / 428، أسباب النزول للواحدي ص (390).
(3) عزاه السيوطي في الدر (6 / 430) للنسائي وابن المنذر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وانظر: المحرر الوجيز: 12 / 177.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) }

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ } [أَيْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ] (1) ، { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أَيْ: فِي مَعِيشَتِهَا، أَيْ: أَشَرَّتْ وَطَغَتْ، قَالَ عَطَاءٌ: عَاشُوا فِي الْبَطَرِ فَأَكَلُوا رِزْقَ اللَّهِ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ، { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُونَ وَمَارُّ الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً، مَعْنَاهُ: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا سُكُونًا قَلِيلًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَمْ يُعَمَّرْ مِنْهَا إِلَّا أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا خَرَابٌ، { وَكُنَّا نَحْنُ، الْوَارِثِينَ } "إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا" (مَرْيَمَ-40) .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى } أي: القرى الكافر أَهْلُهَا، { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا } يَعْنِي: فِي أَكْبَرِهَا وَأَعْظَمِهَا رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ، وَخَصَّ الْأَعْظَمَ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ فِيهَا، لِأَنَّ الرَّسُولَ يُبْعَثُ إِلَى الْأَشْرَافِ، وَالْأَشْرَافُ يَسْكُنُونَ الْمَدَائِنَ، وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ أُمُّ مَا حَوْلَهَا، { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } قَالَ مُقَاتِلٌ: يُخْبِرُهُمُ الرَّسُولُ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } مُشْرِكُونَ، يُرِيدُ: أَهْلَكْتُهُمْ بِظُلْمِهِمْ.
{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } تَتَمَتَّعُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ ثُمَّ هِيَ إِلَى فَنَاءٍ وَانْقِضَاءٍ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أَنَّ الْبَاقِيَ خَيْرٌ مِنَ الْفَانِي. قَرَأَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: "تَعْقِلُونَ" بِالتَّاءِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّاءِ وَالْيَاءِ.
{ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا } أَيِ الْجَنَّةَ { فَهُوَ لَاقِيهِ } مُصِيبُهُ وَمُدْرِكُهُ وَصَائِرٌ إِلَيْهُ { كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } النَّارَ، قَالَ
__________
(1) ساقط من "أ".

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)

قَتَادَةُ: يَعْنِي الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي جَهْلٍ (1) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعْلَيٍّ، وَأَبِي جَهْلٍ (2) . وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ (3) .
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) }
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ شُرَكَائِي.
{ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَهُمْ رُءُوسُ الضَّلَالَةِ، { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا } أَيْ: دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْغَيِّ، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } مِنْهُمْ { مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } بَرِئَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَصَارُوا أَعْدَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" (الزُّخْرُفِ-67) .
{ وَقِيلَ } لِلْكُفَّارِ: { ادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ } أَيِ: الْأَصْنَامَ لِتُخَلِّصَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } يُجِيبُوهُمْ، { وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } وَجَوَابُ "لَوْ" مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا مَا رَأَوُا الْعَذَابَ.
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } أَيْ: يَسْأَلُ اللَّهُ الْكُفَّارَ، { فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }
__________
(1) أخرجه الطبري: 20 / 97، وذكره الواحدي في الأسباب ص (391) دون سند ولم ينسبه لأحد، المحرر الوجيز: 12 / 178.
(2) أخرجه الطبري: 20 / 97، والواحدي (391) عن مجاهد.
(3) أسباب النزول للواحدي ص (391). ونقل القرطبي عن القشيري قال: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم. وقال الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى، وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله، وله في الآخرة الجنة". تفسير القرطبي: 13 / 303. وكذلك ذهب ابن كثير (3 / 397) إلى أنها عامة، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه وهو في الدرجات، وذاك في الدركات فقال: "ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين" وقال تعالى: "ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون".

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) }
{ فَعَمِيَتْ } خَفِيَتْ وَاشْتَبَهَتْ { عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ } أَيِ: الْأَخْبَارُ وَالْأَعْذَارُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُجَجُ، { يَوْمَئِذٍ } فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ، { فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ } لَا يُجِيبُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَحْتَجُّونَ، وَقِيلَ: يَسْكُتُونَ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
{ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } السُّعَدَاءِ النَّاجِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالُوا: "لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"، يَعْنِي: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، أَوْ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ (1) ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الرُّسُلَ بِاخْتِيَارِهِمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } قِيلَ: "مَا" لِلْإِثْبَاتِ، مَعْنَاهُ: وَيَخْتَارُ اللَّهُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، أَيْ: يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ وَالْخَيْرُ (2) . وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّفْيِ (3) أَيْ: لَيْسَ إِلَيْهِمُ الِاخْتِيَارُ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ" (الْأَحْزَابِ-36) ، "وَالْخِيَرَةُ": اسْمٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ يُقَامُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْمُخْتَارِ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: مُحَمَّدٌ خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } يُظْهِرُونَ.
{ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ } يَحْمَدُهُ أَوْلِيَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْمَدُونَهُ فِي الْآخِرَةِ فِي الْجَنَّةِ، { وَلَهُ الْحُكْمُ } فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
__________
(1) انظر أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين ص (288-289).
(2) وهو ترجيح الطبري: 20 / 100-101، وانظر: البحر المحيط: 7 / 129.
(3) ورجح هذا: النحاس في معاني القرآن: 5 / 194، قال الحافظ ابن كثير: (3 / 398): "والصحيح أنها نافية كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره أيضا. فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا قال: "سبحان الله وتعالى عما يشركون" أي: من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئا".

حَكَمَ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَلِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِالشَّقَاءِ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } أَخْبِرُونِي (1) يَا أَهْلَ مَكَّةَ { إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا } دَائِمًا، { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } لَا نَهَارَ مَعَهُ، { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ } بِنَهَارٍ تَطْلُبُونَ فِيهِ الْمَعِيشَةَ، { أَفَلَا تَسْمَعُونَ } سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ، عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } لا دليل فِيهِ، { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ.
{ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أَيْ: فِي اللَّيْلِ، { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } بِالنَّهَارِ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نِعَمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } كَرَّرَ ذِكْرَ النِّدَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ.
{ وَنَزَعْنَا } أَخْرَجْنَا، { مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } يَعْنِي: رَسُولَهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ" (النِّسَاءِ-41) ، { فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } حُجَّتَكُمْ بِأَنَّ مَعِيَ شَرِيكًا. { فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ } التَّوْحِيدَ، { لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } فِي الدُّنْيَا.
__________
(1) ساقط من "أ".

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } كَانَ ابْنُ عَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَارُونُ بن يصهر 65/أ بْنُ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ قَارُونُ عَمَّ مُوسَى، كَانَ أَخَا عِمْرَانَ، وَهُمَا ابْنَا يَصْهَرَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْرَأَ لِلتَّوْرَاةِ مِنْ قَارُونَ، وَلَكِنَّهُ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، { فَبَغَى عَلَيْهِمْ } قِيلَ: كَانَ عَامِلًا لِفِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَبْغِي عَلَيْهِمْ وَيَظْلِمُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَى عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَغَى عَلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: زَادَ فِي طُولِ ثِيَابِهِ شِبْرًا، وَرُّوِينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ" (1) وَقِيلَ: بَغَى عَلَيْهِمْ بِالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ. { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } هِيَ جَمْعُ مِفْتَحٍ وَهُوَ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ الْبَابُ، هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: مَفَاتِحُهُ: خَزَائِنُهُ، كَمَا قَالَ: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ" (الْأَنْعَامِ-59) ، أَيْ: خَزَائِنُهُ، { لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } أَيْ: لَتُثْقِلُهُمْ، وَتَمِيلُ بِهِمْ إِذَا حَمَلُوهَا لِثِقَلِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، تَقْدِيرُهُ: مَا إِنَّ الْعُصْبَةَ لَتَنُوءُ بِهَا، يُقَالُ: نَاءَ فَلَانٌ بِكَذَا إِذَا نَهَضَ بِهِ مُثْقَلًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْعُصْبَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَقِيلَ: سَبْعُونَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ مَفَاتِحَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ. وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ قَارُونَ وَقْرُ سِتِّينَ بَغْلًا مَا يَزِيدُ مِنْهَا مِفْتَاحٌ عَلَى أُصْبُعٍ لِكُلِّ مِفْتَاحٍ كَنْزٌ (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس، باب من جر إزاره: 10 / 254، ومسلم في اللباس، باب تحريم جر الثوب.. برقم (2085) 3 / 1652، والمصنف في شرح السنة: 12 / 9.
(2) المحرر الوجيز لابن عطية: 12 / 186.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

وَيُقَالُ: كَانَ قَارُونُ أَيْنَمَا ذَهَبَ يَحْمِلُ مَعَهُ مَفَاتِيحَ كُنُوزِهِ، وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ جَعَلَهَا مِنْ خَشَبٍ، فَثَقُلَتْ فَجَعَلَهَا مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ عَلَى طُولِ الْأَصَابِعِ، وَكَانَتْ تُحَمَّلُ مَعَهُ إِذَا رَكِبَ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا (1) . { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } قَالَ لِقَارُونَ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: { لَا تَفْرَحْ } لَا تَبْطَرُ وَلَا تَأْشَرُ وَلَا تَمْرَحُ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ، الْفَرِحِينَ } الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينِ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ.
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) }
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } اطْلُبْ فِيمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنِّعْمَةِ وَالْجَنَّةِ وَهُوَ أَنْ تَقُومَ بِشُكْرِ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ وَتُنْفِقَهُ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، { وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: لَا تَتْرُكُ أَنْ تَعْمَلَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ نَصِيبِ الْإِنْسَانِ مِنَ الدُّنْيَا أَنْ يَعْمَلَ لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَنْسَ صِحَّتَكَ وَقُوَّتَكَ وَشَبَابَكَ وَغِنَاكَ أَنْ تَطْلُبَ بِهَا الْآخِرَةَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَزِيدَ حَاتِمُ بْنُ مَحْبُوبٍ الشَّامِيُّ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: وَهُوَ يَعِظُهُ: "اغْتَنَمَ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ" الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ (2) . قال الحسن: أمر أَنْ يُقَدِّمَ الْفَضْلَ وَيُمْسِكَ مَا يُغْنِيهِ، قَالَ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"، قَالَ: قُوتَكَ وَقُوتَ أَهْلِكَ.
{ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [أَيْ: أَحْسِنُ بِطَاعَةِ اللَّهِ] (3) كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بِنِعْمَتِهِ.
__________
(1) انظر الأقوال السالفة كلها في: الطبري 20 / 105-110، الدر المنثور: 6 / 437-438. وهي أقوال كثيرة متضاربة ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم أي ذلك كان.
(2) أخرجه مرسلا - كما قال المصنف: أبو نعيم في حلية الأولياء: 4 / 148، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل ص (218) بتحقيق الألباني، وابن أبي شيبة في المصنف: 13 / 223 ووصله الحاكم في المستدرك عن ابن عباس وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي: 4 / 306، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 224، وابن المبارك في الزهد ص (2) بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون. انظر: فتح الباري: 11 / 235.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَقِيلَ: أحسن إلى النار كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، { وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ طَلَبَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) }
{ قَالَ } يَعْنِي قَارُونَ، { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أَيْ: عَلَى فَضْلٍ وَخَيْرٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي فَرَآنِي أَهْلًا لِذَلِكَ، فَفَضَّلَنِي بِهَذَا الْمَالِ عَلَيْكُمْ كَمَا فَضَّلَنِي بِغَيْرِهِ. قِيلَ: هُوَ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ مُوسَى يَعْلَمُ الْكِيمْيَاءَ فَعَلَّمَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ ثُلُثَ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَعَلَّمَ كَالِبَ بْنَ يُوقَنَّا ثُلُثَهُ وَعَلَّمَ قَارُونَ ثُلُثَهُ، فَخَدَعَهُمَا قَارُونُ حَتَّى أَضَافَ عِلْمَهُمَا إِلَى عِلْمِهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُ أَمْوَالِهِ (1) . وَقِيلَ: "عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي" بِالتَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ } الْكَافِرَةِ، { مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } لِلْأَمْوَالِ، { وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ، الْمُجْرِمُونَ } قَالَ قَتَادَةُ: يَدْخُلُونَ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سُؤَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي لَا يَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ اسْتِعْلَامٍ وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ.
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: خَرَجَ هُوَ وَقَوْمُهُ فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ وَصُفْرٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي سَبْعِينَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ. [قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى بَرَاذِينَ بِيضٍ عَلَيْهَا سُرُجُ الْأُرْجُوَانِ] (2) قال مُقَاتِلٌ: خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذَهَبٍ عَلَيْهِ الْأُرْجُوَانُ، وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى دَوَابِّهِمِ الأرجوان، ومعه ثلثمائة جَارِيَةٍ بِيضٍ عَلَيْهِنَّ الْحُلِيُّ وَالثِّيَابُ الْحُمْرُ، وَهُنَّ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهُبِ، { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } مِنَ الْمَالِ.
__________
(1) وهذا القول ضعيف لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل لأن قلب الأعيان لا يقدر عليها أحد إلا الله عز وجل: انظر بالتفصيل: تفسير ابن كثير: 3 / 400.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) }
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْأَحْبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أُوتُوا الْعِلْمَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ، قَالُوا لِلَّذِينِ تَمَنَّوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ فِي الدُّنْيَا: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ } يَعْنِي مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ خَيْرٌ { لِمَنْ آمَنَ } وَصَدَّقَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، { وَعَمِلَ صَالِحًا } مِمَّا أُوتِيَ قَارُونُ فِي الدُّنْيَا، { وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُؤْتَاهَا، يَعْنِي الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ لَا يُعْطَاهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: لَا يُؤْتَى هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: "وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ" إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنْ زِينَةِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ: كَانَ قَارُونُ أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَأَقْرَأَهُمْ لِلتَّوْرَاةِ وأجملهم وأغناهم 65/ب وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَبَغَى وَطَغَى، وَكَانَ أَوَّلَ طُغْيَانِهِ وَعِصْيَانِهِ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ أَنْ يَعْقِلُوا فِي أَرْدِيَتِهِمْ خُيُوطًا أَرْبَعَةً فِي كُلِّ طَرَفٍ خَيْطًا أَزْرَقَ كلون السماء، يذكرون بِهِ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهَا، وَيَعْلَمُونَ أَنِّي مَنْزِّلٌ مِنْهَا كَلَامِي، فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَفَلَا تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ كُلَّهَا خُضْرًا فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُحَقِّرُ هَذِهِ الْخُيُوطَ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى إِنَّ الصَّغِيرَ مِنْ أَمْرِي لَيْسَ بِصَغِيرٍ فَإِذَا هُمْ لَمْ يُطِيعُونِي فِي الْأَمْرِ الصَّغِيرِ لَمْ يُطِيعُونِي فِي الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، [فَدَعَاهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُعَلِّقُوا فِي أَرْدِيَتِكُمْ خُيُوطًا خُضْرًا كَلَوْنِ السَّمَاءِ لِكَيْ تَذْكُرُوا رَبَّكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَفَعَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى، وَاسْتَكْبَرَ قَارُونُ فَلَمْ يُطِعْهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا الْأَرْبَابُ، بِعَبِيدِهِمْ لِكَيْ يَتَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا بَدْءَ عِصْيَانِهِ وَبَغْيِهِ فَلَمَّا قَطَعَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ جُعِلَتِ الْحُبُوَرَةُ لِهَارُونَ، وَهِيَ رِيَاسَةُ الْمَذْبَحِ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْتُونَ بِهَدْيِهِمْ إِلَى هَارُونَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ، فَوَجَدَ قَارُونُ من ذلك مِنْ نَفْسِهِ وَأَتَى مُوسَى فَقَالَ: يَا مُوسَى لَكَ الرِّسَالَةُ وَلِهَارُونَ الْحُبُوَرَةُ، وَلَسْتُ، فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَا أَقْرَأُ التَّوْرَاةَ، لَا صَبْرَ لِي عَلَى هَذَا. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: مَا أَنَا جَعَلْتُهَا فِي هَارُونَ بَلِ اللَّهُ جَعَلَهَا لَهُ. فَقَالَ قَارُونُ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ حَتَّى تُرِيَنِي بَيَانَهُ، فَجَمَعَ مُوسَى رُؤَسَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: هَاتُوا عِصِيَّكُمْ، فَحَزَمَهَا وَأَلْقَاهَا فِي قُبَّتِهِ الَّتِي كَانَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، فَجَعَلُوا يَحْرُسُونَ عِصِيَّهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَأَصْبَحَتْ عَصَا هَارُونَ قَدِ اهْتَزَّ لَهَا وَرَقٌ أَخْضَرُ وَكَانَتْ مِنْ شَجَرِ اللَّوْزِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا قَارُونُ تَرَى هَذَا؟ فَقَالَ قَارُونُ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنَ السِّحْرِ، وَاعْتَزَلَ قَارُونُ، مُوسَى بِأَتْبَاعِهِ، وَجَعَلَ مُوسَى يُدَارِيهِ لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ يُؤْذِيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا يَزِيدُ إِلَّا عُتُوًّا وَتَجَبُّرًا وَمُعَادَاةً لِمُوسَى، حَتَّى بَنَى دَارًا وَجَعَلَ بَابَهَا مِنَ الذَّهَبِ، وَضَرَبَ عَلَى جُدْرَانِهَا صَفَائِحَ الذَّهَبِ، وَكَانَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَغْدُونَ إِلَيْهِ وَيَرُوحُونَ فَيُطْعِمُهُمُ الطَّعَامَ وَيُحْدِّثُونَهُ وَيُضَاحِكُونَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مُوسَى أَتَاهُ قَارُونُ فَصَالَحَهُ عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ عَلَى دِينَارٍ، وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى دِرْهَمٍ، وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ شَاةٍ عَلَى شَاةٍ، وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَحَسَبَهُ فَوَجَدَهُ كَثِيرًا فَلَمْ تَسْمَحْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ، فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ مُوسَى قَدْ أَمَرَكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ فَأَطَعْتُمُوهُ، وَهُوَ الْآنَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ، فَقَالُوا: أَنْتَ كَبِيرُنَا فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تَجِيئُوا بِفُلَانَةٍ الْبَغْيِّ، فَنَجْعَلُ لَهَا جُعْلًا حَتَّى تَقْذِفَ مُوسَى بِنَفْسِهَا، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ وَرَفَضُوهُ، فَدَعَوْهَا فَجَعَلَ لَهَا قَارُونُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ طَسْتًا مِنْ ذَهَبٍ، وَقِيلَ: قَالَ لَهَا إِنِّي أُمَوِّلُكِ وَأَخْلِطُكِ بِنِسَائِي عَلَى أَنْ تَقْذِفِي مُوسَى بِنَفْسِكِ غَدًا إِذَا حَضَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَمَعَ قَارُونُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ أَتَى مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَكَ فَتَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُوسَى وَهُمْ فِي بَرَاحٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَامَ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَا يَدَهُ، وَمَنِ افْتَرَى جَلَدْنَاهُ ثَمَانِينَ، وَمَنْ زَنَا وَلَيْسَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَمِنْ زَنَا وَلَهُ امْرَأَةٌ رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ، فَقَالَ لَهُ قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ، أَنَا، قَالَ: فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةٍ قَالَ: ادْعُوهَا فَإِنْ قَالَتْ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قَالَ لَهَا مُوسَى: يَا فُلَانَةُ أَنَا فَعَلْتُ بِكِ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ وَعَظَّمَ عَلَيْهَا، وَسَأَلَهَا بِالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِلَّا صَدَقَتْ، فَتَدَارَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوْفِيقِ فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: أُحْدِثُ الْيَوْمَ تَوْبَةً أَفْضَلُ مِنْ أَنْ أُؤْذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لَا كَذَبُوا وَلَكِنْ جَعَلَ لِي قَارُونُ جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا يَبْكِي وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ، رَسُولَكَ فَاغْضَبْ لِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنِّي أَمَرْتُ، الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ، فَمُرْهَا بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ مُوسَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَى قَارُونَ كَمَا بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْنَ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَلْيَثْبُتْ مَكَانَهُ وَمَنْ كَانَ مَعِيَ فَلْيَعْتَزِلْ، فَاعْتَزَلُوا وَلَمْ يَبْقَ مَعَ قَارُونَ إِلَّا رَجُلَانِ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتِ الْأَرْضُ بِأَقْدَامِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ عَلَى سَرِيرِهِ وَفَرْشِهِ فَأَخَذَتْهُ حَتَّى غَيَّبَتْ سَرِيرَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

إِلَى الرُّكَبِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَوْسَاطِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ (1) خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَارُونُ وَأَصْحَابُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَتَضَرَّعُونَ (2) إِلَى مُوسَى، وَيُنَاشِدُهُ قَارُونُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ نَاشَدَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى مَا أَغْلَظَ قَلْبَكَ اسْتَغَاثَ بِكَ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَمْ تُغِثْهُ، أَمَّا وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوِ اسْتَغَاثَ بِي مَرَّةً لَأَغَثْتُهُ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: لَا أَجْعَلُ الْأَرْضَ بَعْدَكَ طَوْعًا لِأَحَدٍ (3) . قَالَ قَتَادَةُ: خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةَ رَجُلٍ لَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَأَصْبَحَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا دَعَا عَلَى قَارُونَ لِيَسْتَبِدَّ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ وَأَمْوَالِهِ فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى مُوسَى حَتَّى خَسَفَ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ وَأَمْوَالِهِ الْأَرْضَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ } جَمَاعَةٍ، { يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يَمْنَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ، { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } الْمُمْتَنِعِينَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ.
{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) }
{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ } صَارَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَالِ وَالزِّينَةِ يَتَنَدَّمُونَ عَلَى ذَلِكَ التَّمَنِّي، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنِ الصَّيْرُورَةِ بِأَضْحَى وَأَمْسَى وَأَصْبَحَ، تَقُولُ: أَصْبَحَ فُلَانٌ عَالَمًا (4) ، وَأَضْحَى مُعْدِمًا، وَأَمْسَى حَزِينًا، { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ } اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَلَمْ تَرَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ كلمة تقرير 66/أ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَمَا تَرَى إِلَى صُنْعِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعِ أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَيْنَ ابْنُكَ؟ فَقَالَ: وَيْكَأَنَّهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ، يَعْنِي: أَمَا تَرَيْنَهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ كَلِمَةُ ابْتِدَاءٍ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ. وَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ بِمَنْزِلَةِ أَلَا وَقَالَ قُطْرُبٌ: "وَيْكَ" بِمَعْنَى وَيْلَكَ، حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ، كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: وَلَقَدْ شَفَى وَأَبْرَأَ سَقَمَهَا ... قَوْلُ الْفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
(5)
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره (3 / 402) وفي البداية والنهاية (1 / 309-311) هلاك قارون بسبب دعوة موسى واختلاف العلماء في سبب ذلك، ثم قال: وقد ذكر هنا كثير من المفسرين إسرائيليات كثيرة غريبة ضربنا عنها صفحًا وتركناها قصدا. وفي هذا إشارة إلى مصدر الروايات التي ساقها البغوي رحمه الله.
(4) في "ب": غانما.
(5) البيت لعنترة من شواهد الفراء والطبري.

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

أَيْ: وَيْلُكَ، وَ"أَنَّ" مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: "وَيْ" مَفْصُولَةٌ مِنْ "كَأَنَّ" وَمَعْنَاهَا التَّعَجُّبُ، كَمَا تَقُولُ: وَيْ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ! وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ تَنَدَّمُوا فَقَالُوا: وَيْ! مُتَنَدِّمِينَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ أَظُنُّ ذَلِكَ وَأُقَدِّرُهُ، كَمَا تَقُولُ كَأَنَّ: الْفَرَجَ قَدْ أَتَاكَ أَيْ أَظُنُّ ذَلِكَ وَأُقَدِّرُهُ، { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أَيْ: يُوَسِّعُ وَيُضَيِّقُ، { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } قَرَأَ حَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالسِّينِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ، { وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) }

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)

{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: "عُلُوًّا" وَاسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ وَتَهَاوُنًا بِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ تَطْلُبُوا الشَّرَفَ وَالْعِزَّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ التواضع من الولادة وَأَهْلِ الْقُدْرَةِ (1) ، { وَلَا فَسَادًا } قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي. { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أَيِ: الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللَّهِ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ.
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } . قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } أَيْ: أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَ عَطَاءٌ: أَوْجَبَ عَلَيْكَ الْعَمَلَ بِالْقُرْآنِ، { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَعَادُ الرَّجُلِ: بَلَدُهُ، لِأَنَّهُ
__________
(1) أخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن علي رضي الله عنه، انظر: الدر المنثور: 6 / 444.
(2) أخرجه البخاري: 8 / 509-510.

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)

يَنْصَرِفُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى بَلَدِهِ (1) ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْغَارِ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ سَارَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ الطَّلَبِ، فَلَمَّا أَمِنَ وَرَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ نَزَلَ الْجُحْفَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَعَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ اشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: أَتَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } (2) ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْجُحْفَةِ لَيْسَتْ بِمَكِّيَّةٍ وَلَا مَدَنِيَّةٍ (3) .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ" إِلَى الْمَوْتِ (4) . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ: إِلَى الْقِيَامَةِ (5) . وَقِيلَ: إِلَى الْجَنَّةِ (6) . { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى } [أَيْ: يَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى] (7) ، وَهَذَا جَوَابٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ لَمَّا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَفِي ضَلَالٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَهُمْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى، يَعْنِي نَفْسَهُ، { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، وَمَعْنَاهُ: أَعْلَمُ بِالْفَرِيقَيْنِ.
{ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ } أَيْ: يُوحَى إِلَيْكَ الْقُرْآنُ، { إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، مَعْنَاهُ: لَكِنَّ رَبَّكَ رَحِمَكَ فَأَعْطَاكَ الْقُرْآنَ، { فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ } أَيْ: مُعِينًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ حِينَ دُعِيَ إِلَى دِينِ آبَائِهِ فَذَكَرَ اللَّهُ نِعَمَهُ وَنَهَاهُ عَنْ مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ.
__________
(1) (إلى بلده) ساقط من "ب". وعبارة ابن قتيبة في "المشكل" ص (425): ... "لأنه يتصرف في البلاد، ويضرب في الأرض ثم يعود إلى بلده..." وهي أوضح وأصح مما نقله المصنف رحمه الله.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم.
(3) قال ابن كثير: (3 / 404) "وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكيا، والله أعلم".
(4) أخرجه الطبري: 20 / 125، وابن أبي حاتم. قال الحافظ في الفتح: (8 / 510): وإسناده لا بأس به.
(5) أخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد قال: "يحييك يوم القيامة" وأما الحسن والزهري فقالا: هو يوم القيامة، وروى ابن أبي يعلى من طريق أبي جعفر محمد بن علي قال: سألت أبا سعيد عن هذه الآية؟ فقال: معاده آخرته، وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف. انظر: فتح الباري: 8 / 510.
(6) رواه الطبري: 20 / 124 وإسناده ضعيف كما في الموضع السابق من الفتح.
(7) ما بين القوسين ساقط من "ب".

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

{ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) }
{ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْخِطَابُ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ دِينِهِ، أَيْ: لَا تُظَاهِرُوا الْكُفَّارَ وَلَا تُوَافِقُوهُمْ.
{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } أَيْ: إِلَّا هُوَ، وَقِيلَ: إِلَّا مُلْكَهُ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، { لَهُ الْحُكْمُ } أَيْ: فَصَلُ الْقَضَاءِ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تُرَدُّونَ (1) فِي الْآخِرَةِ فَيُجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
__________
(1) ساقط من "أ".

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)

سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) }
{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ } [أَظَنَّ النَّاسُ] (2) ، { أَنْ يُتْرَكُوا } بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ، { أَنْ يَقُولُوا } [أَيْ: بِأَنْ يَقُولُوا] (3) ، { آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } لَا يُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؟ كلا لنختبرنهم ليبَّين الْمُخَلِصَ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارٌ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى تُهَاجِرُوا، فَخَرَجُوا عَامِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (4) .
__________
(1) سورة العنكبوت مكية كلها وذلك مروي عن ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وقتادة، وعطاء، وجابر بن زيد، ومقاتل. وفي رواية عن ابن عباس أنها مدنية. وقال هبة الله بن سلامة: نزل من أولها إلى رأس العشر بمكة، وباقيها بالمدينة، وفي الرويات بالعكس: أن الآيات الأولى مدنية، وذلك لذكر "الجهاد" فيها، وذكر "المنافقين".. والراجح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص -كما سيجيء- وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك يرجح الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير، لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة، أي: جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر المنافقين، فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس. والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام، انظر: الدر المنثور: 6 / 449، زاد المسير: 7 / 253، البحر المحيط: 7 / 139، تفسير القرطبي: 13 / 323، في ظلال القرآن: 5 / 2718، فيما سيأتي تفسير الآية (11) من السورة.
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "ب".
(4) عزاه السيوطي في الدر: (6 / 449) لعبد بن حميد، وابن جرير الطبري، 20 / 129، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وذكره الواحدي في الأسباب ص (393). قال ابن عطية في "المحرر الوجيز": (12 / 199). "وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة، فهي بمعناها باقية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبرنا أيضا كل موضع، ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن، ولكن التي تشبه نازلة المؤمنين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر".

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ: سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَغَيْرَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي مِهْجَعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ، كَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مِهْجَعٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ"، فَجَزِعَ أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ (2) . وَقِيلَ: "وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَسَائِرَ الشَّرَائِعِ، فَشَقَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ عَزَّاهُمْ فَقَالَ: { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) }
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَابْتُلِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِفِرْعَوْنَ فَكَانَ يَسُومُهُمْ سوء العذاب 66/ب ، { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا، { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الصَّادِقِينَ مِنَ الْكَاذِبِينَ حَتَّى يُوجِدَ مَعْلُومَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ. وَقِيلَ: لَيَمِيزَنَّ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (الْأَنْفَالِ-38) .
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } يَعْنِي الشِّرْكَ، { أَنْ يَسْبِقُونَا } يُعْجِزُونَا وَيَفُوتُونَا، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } بِئْسَ مَا حَكَمُوا حِينَ ظَنُّوا ذَلِكَ.
__________
(1) أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج عن ابن عمير وغيره. وأخرجه أيضا ابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر. انظر: الدر المنثور: 6 / 450، زاد المسير: 6 / 254.
(2) ذكره الواحدي في الأسباب ص (393)، وقال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" ص (127): "ذكره الثعلبي عن مقاتل.." ثم قال: "وسنده إلى مقاتل في أول كتابه. وفي "الدلائل" لابن أبي شيبة من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: "أول من استشهد يوم بدر مهجع مولى عمر".

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)

{ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) }

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) }
{ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَمُقَاتِلٌ: مَنْ كَانَ يَخْشَى الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ. وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ يَطْمَعُ فِي ثَوَابِ اللَّهِ، { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } يَعْنِي: مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكَائِنٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ أَوْ يَأْمُلُهُ فَلْيَسْتَعِدَّ لَهُ، وَلْيَعْمَلْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، كَمَا قَالَ: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا" الْآيَةَ (الْكَهْفِ-110) ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
{ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } له ثوابه، و"الجهاد": هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ. { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } لَنُبْطِلَنَّهَا، يعني: حتى تصبر بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، وَالتَّكْفِيرُ: إِذْهَابُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } أَيْ: بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: نُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلُوا وَأَحْسَنَ، كَمَا قَالَ: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا" (الْأَنْعَامِ-160) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } أَيْ: بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا، مَعْنَاهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ بِوَالِدَيْهِ مَا يَحْسُنُ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ( الْآيَةُ 15)، وَالْأَحْقَافِ( الْآيَةُ 15 ) فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ، وَأُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ -لَمَّا أَسْلَمَ، وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَحْدَثْتَ؟ وَاللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ، أَوْ أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِذَلِكَ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ. ثُمَّ إِنَّهَا مَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ [وَلَمْ

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)

تَسْتَظِلَّ] (1) ، فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهَدَتْ، ثُمَّ مَكَثَتْ يَوْمًا آخَرَ لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ، فَجَاءَ سَعْدٌ إِلَيْهَا وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي، فَلَمَّا أَيِسَتْ مِنْهُ أَكَلَتْ وَشَرِبَتْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ بِالْبِرِّ بِوَالِدَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَأَنْ لَا يُطِيعُهُمَا فِي الشِّرْكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } (2) . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" (3) . ثُمَّ أَوْعَدَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ فَقَالَ: { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أُخْبِرُكُمْ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ وَسَيِّئِهَا فَأُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) }
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَقِيلَ: فِي مَدْخَلِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ } أَصَابَهُ بَلَاءٌ مِنَ النَّاسِ افْتَتَنَ، { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } أَيْ: جَعَلَ أَذَى النَّاسِ وَعَذَابَهُمْ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: جَزِعَ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَأَطَاعَ النَّاسَ كَمَا يُطِيعُ اللَّهَ مَنْ يَخَافُ عَذَابَهُ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالَا هُوَ الْمُنَافِقُ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الدِّينِ وَكَفَرَ. { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ } أَيْ: فَتْحٌ وَدَوْلَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، { لَيَقُولُنَّ } يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } عَلَى عَدُوِّكُمْ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا أُكْرِهْنَا حَتَّى قُلْنَا مَا قُلْنَا، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ:
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ذكره الواحدي ص (394) والثعلبي، والواقدي هكذا بغير سند، والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص بغير هذا السياق، في كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، برقم (1748): 4 / 1877. وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول للوادعي ص (113).
(3) أخرجه المصنف في شرح السنة: 10 / 44 من رواية النواس بن سمعان، والطبراني في الكبير، وأخرجه الطيالسي ص (115) والإمام أحمد: 5 / 66 وصححه الحاكم: 3 / 443 من رواية عمران بن حصين، وأخرجه الإمام أحمد من رواية ابن مسعود أيضا.

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

{ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } مِنَ الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ.
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) }
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } صَدَقُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، { وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } بِتَرْكِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ مِنَ النَّاسِ أَوْ مُصِيبَةٌ فِي أَنْفُسِهِمِ افْتَتَنُوا (1) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بَدْرٍ (2) ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ" (النِّسَاءِ-97) . وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ رَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَّةَ (3) . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَاتُ الْعَشْرُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَاهُنَا مدنية، وباقي السور مَكِّيَّةٌ (4) .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا } قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مِنْ قَوْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ومقاتل: قاله أو سُفْيَانَ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قُرَيْشٍ، "اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا": دِينَنَا وَمِلَّةَ آبَائِنَا، وَنَحْنُ الْكُفَلَاءُ بِكُلِّ تَبِعَةٍ مِنَ اللَّهِ تُصِيبُكُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أَوْزَارَكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَفْظُهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ جَزَاءٌ (5) مَجَازُهُ: إِنِ اتَّبَعْتُمْ سَبِيلَنَا حَمَلْنَا خطاياكم، كقوله: "فليقله الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ" (طه-39) . وَقِيلَ: هُوَ جَزْمٌ عَلَى الْأَمْرِ، كَأَنَّهُمْ أَمَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فِيمَا قَالُوا مِنْ حَمْلِ خَطَايَاهُمْ.
__________
(1) ذكره الواحدي في الأسباب ص (395)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: (6 / 452) للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) انظر: الطبري: 20 / 123، أسباب النزول للواحدي ص (396).
(3) انظر: الطبري: 20 / 133.
(4) معاني القرآن للنحاس: 5 / 214، ورواه الطبري أيضا عن قتادة في الموضع السابق، وراجع فيما سبق تعليق (1) في أول السورة ص (231).
(5) قال في معاني القرآن (2 / 314): هو أمر فيه تأويل الجزاء، وأنشد بيت دثار بن شيبان النمري: فقلت ادعي وأدع فإن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان
.

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)

{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) }

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) }
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أَوْزَارَ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ، { وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } أَيْ: أَوْزَارَ مَنْ أَضَلُّوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ أَوْزَارِهِمْ. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ" (النَّحْلِ-25) . { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } فَغَرِقُوا، { وَهُمْ ظَالِمُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُشْرِكُونَ.
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } يَعْنِي مِنَ الْغَرَقِ، { وَجَعَلْنَاهَا } يَعْنِي السَّفِينَةَ { آيَةً } أَيْ: عِبْرَةً، { لِلْعَالَمِينَ } فَإِنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْجُودِيِّ مُدَّةً مَدِيدَةً. وَقِيلَ: جَعَلْنَا عُقُوبَتَهُمْ لِلْغَرَقِ عِبْرَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: 67/أ بُعِثَ نُوحٌ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشُوا، وَكَانَ عُمْرُهُ أَلْفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِبْرَاهِيمَ } أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } أَطِيعُوا اللَّهَ وَخَافُوهُ، { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا } أَصْنَامًا، { وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } تَقُولُونَ كَذِبًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَصْنَعُونَ أَصْنَامًا بِأَيْدِكُمْ فَتُسَمُّونَهَا آلِهَةً، { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا } لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَرْزُقُوكُمْ، { فَابْتَغُوا } فَاطْلُبُوا، { عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

{ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) }
{ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ فَأُهْلِكُوا، { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }
{ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ } كَيْفَ يَخْلُقُهُمُ ابْتِدَاءً نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً { ثُمَّ يُعِيدُهُ } فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } فَانْظُرُوا إِلَى دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَيْفَ بَدَأَ خَلْقَهُمْ، { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ } أَيْ: ثُمَّ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهَا يُنْشِئُهَا نَشْأَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَمَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ إِحْدَاثُهَا مُبْدِءًا لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِنْشَاؤُهَا مُعِيدًا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: { النَّشَأَةَ } بِفَتْحِ الشِّينِ مَمْدُودَةً حَيْثُ وَقَعَتْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ الشِّينِ مَقْصُورَةً نَظِيرُهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّآفَةُ. { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
{ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } تُرَدُّونَ.
{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ: "وَلَا فِي السَّمَاءِ" وَالْخِطَابُ مَعَ الْآدَمِيِّينَ وَهُمْ لَيْسُوا فِي السَّمَاءِ؟.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَلَا مَنْ فِي السَّمَاءِ بِمُعْجِزٍ، كَقَوْلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أَرَادَ: مَنْ يَمْدَحُهُ وَمَنْ يَنْصُرُهُ، فَأَضْمَرَ "مَنْ"، يُرِيدُ: لَا يُعْجِزُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَهْلُ السَّمَاءِ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ فِيهَا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: مَا يَفُوتُنِي فَلَانٌ هَاهُنَا وَلَا بِالْبَصْرَةِ، أَيْ: وَلَا بِالْبَصْرَةِ لَوْ كَانَ بِهَا، { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } أَيْ: مِنْ وَلِيٍّ يَمْنَعُكُمْ مِنِّي وَلَا نَصِيْرٍ يَنْصُرُكُمْ مِنْ عَذَابِي.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) }

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) }
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ } بِالْقُرْآنِ وَبِالْبَعْثِ، { أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي } جَنَّتِي، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي تَذْكِيرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَتَحْذِيرِهِمْ، وَهِيَ مُعْتَرَضَةٌ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ }
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ } وَجَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يُصَدِّقُونَ.
{ وَقَالَ } يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: "مَوَدَّةُ" رَفْعًا بِلَا تَنْوِينٍ، "بَيْنِكُمْ" خَفْضًا بِالْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا هِيَ مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ، { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ثُمَّ تَنْقَطِعُ وَلَا تَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَنَصَبَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "مَوَدَّةَ" مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ بِوُقُوعِ الِاتِّخَاذِ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "مَوَدَّةً" مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً "بَيْنَكُمْ" بِالنَّصْبِ، مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ هَذِهِ الْأَوْثَانَ مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَتَوَارَدُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَتَتَوَاصَلُونَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا. { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } تَتَبَرَّأُ الْأَوْثَانُ مِنْ عَابِدِيهَا، وَتَتَبَرَّأُ الْقَادَةُ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَتَلْعَنُ الْقَادَةَ، { وَمَأْوَاكُمُ } جَمِيعًا الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، { النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } يَعْنِي: صَدَّقُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ، { وَقَالَ } يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } فَهَاجَرَ مِنْ كُوثَى، وَهُوَ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، إِلَى حَرَّانَ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ لُوطٌ وَامْرَأَتُهُ سَارَّةُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) }
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ نَسْلِهِ، { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } وَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْوَلَدُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ: هُوَ أَنَّهُ رَأَى مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ، { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } أَيْ: فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلَ آدَمَ وَنُوحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: "أَئِنَّكُمْ" بِالِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةِ، { لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } وَهِيَ إِتْيَانُ الرِّجَالِ، { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ }
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بِمَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسَافِرِينَ، فَتَرَكَ النَّاسُ الْمَمَرَّ بِهِمْ. وَقِيلَ: تَقْطَعُونَ سَبِيلَ النَّسْلِ بِإِيثَارِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } النَّادِي، وَالنَّدَى، وَالْمُنْتَدَى: مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي لِأُمِّي أَبُو الْحَسَنِ الْمَحْمُودِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّ بِشْرَ بْنَ مُعَاذٍ حَدَّثَهُمْ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ [عَنْ أُمِّ هَانِئٍ] (1) قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } قُلْتُ: مَا الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ؟ قَالَ: "كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطُّرُقِ وَيَسْخَرُونَ بِهِمْ" (2) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة العنكبوت: 9 / 49-50 وقال: "هذا حديث حسن، إنما نعرفه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك" وصححه الحاكم على شرط الشيخين: 2 / 409، ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد: 6 / 341 والطبري: 20 / 145.
قال السيوطي في الدر (6 / 460): "أخرجه الفريابي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت"، وابن جرير، وابن المنذر، وابن ابي حاتم، والشاشي في مسنده، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب"، وابن عساكر".

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

وَيُرْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَعِنْدَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَصْعَةٌ فِيهِ حَصًى فَإِذَا مَرَّ بِهِمْ عَابِرُ سَبِيلٍ حَذَفُوهُ فَأَيُّهُمْ أَصَابَهُ كَانَ أَوْلَى بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مَا معه وينكحه 67/ب وَيُغَرِّمُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَلَهُمْ قَاضٍ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ (1) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ يُجَامِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَجَالِسِهِمْ (2) . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: كَانَ يَبْزُقُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ قَوْمِ لُوطٍ مَضْغُ الْعِلْكِ وَتَطْرِيفُ الْأَصَابِعِ بِالْحِنَّاءِ، وَحَلُّ الْإِزَارِ، وَالصَّفِيرُ، وَالْحَذْفُ، وَاللُّوَاطِيَّةُ (3) ، { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْقَبَائِحِ، { إِلَّا أَنْ قَالُوا } لَهُ اسْتِهْزَاءً: { ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِنَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ.
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) }
__________
(1) انظر: معاني القرآن للنحاس: 5 / 223،الدر المنثور: 6 / 461، زاد المسير: 6 / 269.
(2) عزاه السيوطي (6 / 461) للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق".
(3) وهو مروي أيضا عن ابن عباس ومجاهد. وانظر الدر المنثور: 6 / 461، زاد المسير: 6 / 269. وقال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (3 / 412): أي: يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها، لا ينكر بعضهم على بعض شيئا من ذلك" ثم ذكر القوال في معنى هذا المنكر. ورجح الطبري (20 / 146) قول من قال: معناه: وتحذفون في مجالسكم المارة بكم، وتسخرون منهم، لما ذكر من الرواية بذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أم هانئ.

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)

{ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) }
{ قَالَ } لُوطٌ: { رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } بِتَحْقِيقِ قَوْلِي فِي الْعَذَابِ.
{ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } مِنَ اللَّهِ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، { قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } يَعْنِي قَوْمَ لُوطٍ،وَالْقَرْيَةُ سَدُومُ، { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ }
{ قَالَ } إِبْرَاهِيمُ لِلرُّسُلِ: { إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا } يَعْنِي: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ (1) { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ }
__________
(1) في "ب": الرسل، وهم الملائكة.

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ:" { لَنُنْجِيَنَّهُ } بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، { وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أَيِ: الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ.
{ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) }
{ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا } ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، { سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ } بِمَجِيئِهِمْ { ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ } قَوْمِكَ عَلَيْنَا، { وَلَا تَحْزَنْ } بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ: "مُنْجُوكَ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ.
{ إِنَّا مُنْزِلُونَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، { عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا } عَذَابًا، { مِنَ السَّمَاءِ } قَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَسْفُ وَالْحَصْبُ، { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
{ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا } مِنْ قَرْيَاتِ لُوطٍ، { آيَةً بَيِّنَةً } عِبْرَةً ظَاهِرَةً، { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يَتَدَبَّرُونَ الْآيَاتِ تَدَبُّرَ ذَوِي الْعُقُولِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ: آثَارُ مَنَازِلِهِمُ الْخَرِبَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا أَبْقَاهَا اللَّهُ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ ظُهُورُ الْمَاءِ الْأَسْوَدِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ (1) .
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } أَيْ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، { فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ } أَيْ: وَاخْشَوْا، { وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
__________
(1) جائز أن تكون هذه الآية هذا أو ذاك ولا نص في ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الطبري رحمه الله (20 / 149): "يقول تعالى ذكره: ولقد أبقينا من فعلتنا التي فعلنا بهم آية، يقول: عبرة بينة وعظة واعظة لقوم يعقلون عن الله حججه، ويتفكرون في مواعظه، وتلك الآية البينة هي عندي: عفو آثارهم ودروس معالمهم".

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

{ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) }

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) }
{ وَعَادٍ وَثَمُودَ } أَيْ: وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودًا، { وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ } يَا أَهْلَ مَكَّةَ، { مِنْ مَسَاكِنِهِمْ } مَنَازِلِهِمْ بِالْحِجْرِ وَالْيَمَنِ، { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ { وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: كَانُوا مُعْجَبِينَ فِي دِينِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ (1) ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مُسْتَبْصِرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا عُقَلَاءَ ذَوِي بَصَائِرَ (2) .
{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } أَيْ: أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ، { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } بِالدَّلَالَاتِ، { فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } أَيْ: فَائِتِينَ مِنْ عَذَابِنَا.
{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } قوم لوط، و"الحاصب": الرِّيحُ الَّتِي تَحْمِلُ الحصباء، وهي الحصاه الصِّغَارُ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } يَعْنِي ثَمُودَ، { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ } يَعْنِي قَارُونَ وَأَصْحَابَهُ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } يَعْنِي: قَوْمَ نُوحٍ، وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (3) .
__________
(1) وهو ما رجحه الطبري: 20 / 150.
(2) معاني القرآن: 2 / 213 ورجحه القرطبي أيضا: 13 / 344.
(3) يقول تعالى ذكره: ولم يكن الله ليهلك هؤلاء الأمم -الذين أهلكهم- بذنوب غيرهم، فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق، بل إنما أهلكهم بذنوبهم، وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، مع تتابع إحسانه عليهم، وكثرة أياديه عندهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتصرفهم في نعم ربهم، وتقلبهم في آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم. تفسير الطبري: 20 / 152.

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) }
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ } يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، يَرْجُونَ نَصْرَهَا وَنَفْعَهَا، { كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا } لِنَفْسِهَا تَأْوِي إِلَيْهِ، وَإِنَّ بَيْتَهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْوَهَاءِ، لَا يَدْفَعُ عَنْهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا، وَكَذَلِكَ الأوثان لا تمللك لعباديها نَفْعًا وَلَا ضَرًّا. { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَعَاصِمٌ: "يَدْعُونَ" بِالْيَاءِ لِذِكْرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ } الْأَشْبَاهُ وَالْمَثَلُ: كَلَامٌ سَائِرٌ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الْآخِرِ بِالْأَوَّلِ، يُرِيدُ: أَمْثَالَ الْقُرْآنِ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا أَحْوَالَ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَحْوَالِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، { نَضْرِبُهَا } نُبَيِّنُهَا، { لِلنَّاسِ } قَالَ مُقَاتِلٌ: لِكُفَّارِ مَكَّةَ، { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } أَيْ: مَا يَعْقِلُ الْأَمْثَالَ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بَرْزَةَ، أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } قَالَ: "الْعَالِمُ مَنْ عَقِلَ عَنِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبَ سَخَطَهُ" (1) .
__________
(1) أخرجه داود بن المحبر في كتاب "العقل"، ومن طريقه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (بغية الباحث برقم 1030) من حديث جابر، والثعلبي والبغوي في التفسير، والواحدي من طريق الحارث. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" وابن عراق في "تنزيه الشريعة عن الأخبار الشنيعة والموضوعة". وذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (3 / 215) في أحاديث من كتاب العقل لداود بن المحبر وقال: أودعها الحارث ابن أبي أسامة في مسنده، وهي موضوعة كلها، لا يثبت منها شيء. انظر: الكافي الشاف ص (127)، المطالب العالية: 3 / 213 و214 و216، الفتح السماوي للمناوي: 2 / 896-897، تنزيه الشريعة لابن عراق: 1 / 214.

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

{ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أَيْ: للحق وإظهار لِلْحَقِّ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } فِي خَلْقِهَا، { لَآيَةً } لَدَلَالَةً { لِلْمُؤْمِنِينَ } عَلَى قُدْرَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ.
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } الْفَحْشَاءُ: مَا قُبِّحَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْمُنْكَرُ: مَا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهَى وَمُزْدَجَرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ صَلَاتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَصَلَاتُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ (2) . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا يَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ إِلَّا رَكِبَهُ، فَوُصِفَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالُهُ فَقَالَ: "إِنَّ صَلَاتَهُ تَنْهَاهُ يَوْمًا"
__________
(1) أثر ابن مسعود أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وأخرجه أحمد في الزهد. وأما أثر ابن عباس فأخرجه الطبري: 20 / 155 والطبراني في الكبير من رواية العلاء بن المسيب عن ابن عباس موقوفا، ورواه الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ليث بن أبي سليم عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وليث بن أبي سليم ثقة ولكنه مدلس. قال ابن حجر: وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" وفي إسناده محمد بن الحسن البصري. قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، يروي عن مالك ما لا أصل له فالأثر ضعيف مرفوعا، صحيح موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه.
انظر: مجمع الزوائد: 2 / 258، الكافي الشاف ص (127-128)، سلسلة الأحاديث الضعيفة: 2 / 414-415 برقم (985)، الدر المنثور: 6 / 464، و465، تفسير ابن كثير: 3 / 415-416. هذا، ومن شأن الصلاة عندما يقيمها المسلم ويؤدي فرضها وحدودها كما ينبغي، ويتدبر فيها وفيما يتلوه من القرآن أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة، والصلاة تشغل كل بدن المصلي، فإذا دخل في صلاته وخشع وأخبت لربه واذكر أنه واقف بين يديه وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها، وإن حصل أو بدر منه شيء يخالف ذلك فصلاته لن تزيده بعدا عن الله ومن يصلي خير ممن لا يصلي، انظر: تفسير القرطبي: 13 / 348.
(2) أخرجه الطبري عن الحسن موقوفا: 20 / 155، ومن طريق أخرى مرفوعا مرسلا، وعن قتادة موقوفا من كلامه. قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف (128): أخرجه عبد الرزاق والطبري والبيهقي في "الشعب" من مرسل الحسن. انظر: الدر المنثور: 6 / 466.

فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَابَ وَحَسُنَ حَالُهُ (1) . وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مَا دَامَ فِيهَا (2) .
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالصَّلَاةِ الْقُرْآنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ" (الْإِسْرَاءِ-110) ، أَيْ: بقراءتك، وأراد 68/أ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ، فَالْقُرْآنُ يَنْهَاهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (3) . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، قَالَ: "سَتَنْهَاهُ قِرَاءَتُهُ" (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَلَانَا يُصَلِّي بِالنَّهَارِ وَيَسْرِقُ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: "إِنَّ صَلَاتَهُ لَتَرْدَعُهُ" (5) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ: ذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ الْحُسَيْنُ بْنُ صَفْوَانَ الْبَرْدَعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" ص (128): لم أجده، وقال الولي العراقي: لم أقف عليه. (الفتح السماوي: 2 / 897). وهذه العبارة إذا صدرت، وأمثالها، من أحد الحفاظ المعروفين ولم يتعقبه أحد من الحفاظ بعده، فهي كافية في الحكم على الحديث بالوضع. انظر مقدمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لكتاب "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" للقاري ص (25-27).
(2) نقل ابن كثير هذا القول عن حماد بن أبي سليمان: 3 / 416، ونقل معناه مطولا عن ابن عون، وهو قول الكلبي وابن جريج كما في البحر المحيط: 7 / 153 والمحرر الوجيز: 12 / 226. ورد ابن عطية هذا القول فقال: وهذه عجمة، وأين هذا مما رواه أنس بن مالك (كما في التعليق السابق).
(3) أخرجه الطبري عن ابن عمر: 20 / 154، ورجح القول الأول: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإن قال قائل: وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إن لم يكن معنيا بها ما يتلى فيها؟.
قيل: تنهى من كان فيها، فتحول بينه وبين إتيان الفواحش، لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بالمنكر، ولذلك قال ابن مسعود: من لم يطع صلاته لم يزدد من الله إلا بعدا، وذلك أن طاعته لها: إقامته إياها بحدودها، وفي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والمنكر.
(4) رواه البزار من طريق زياد البكائي، وأبو يعلى من طريق أبي إسحاق الفزاري، كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر. قال البزار: اختلف فيه على الأعمش، فقيل: عنه أيضا عن أبي سفيان عن جابر. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. انظر: الكافي الشاف ص (128)، مجمع الزوائد: 2 / 258، الفتح السماوي 2 / 897-898.
(5) أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة: 2 / 447 بلفظ "... سينهاه ما يقول"، والبزار، وإسحاق، وأبو يعلى كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال الهيثمي: رجال الصحيح. انظر: الكافي الشاف ص (128)، المجمع 2 / 258، الفتح السماوي: 2 / 897.

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ أَبُو عَلِيٍّ الضَّرِيرُ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ، عن أبي تجربة، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُنْبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ"؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ، الْعِبَادِ أَفْضَلُ، دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ أَوْ يَخْتَضِبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُ اللَّهَ كَثِيرًا أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً" (2) . وَرُوِّينَا أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (3) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ الْعَيْشِيُّ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي:(ابْنَ زُرَيْعٍ) ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب خير الأعمال: 9 / 317-318، وقال: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مثل هذا بهذا الإسناد، وروى بعضهم عنه فأرسله. وأخرجه ابن ماجه في الأدب، باب فضل الذكر، برقم (3790): 2 / 1245،وصححه الحاكم في المستدرك: 1 / 496، ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ: 1 / 211 موقوفا على أبي الدرداء، والإمام أحمد في المسند: 6 / 477، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 5 / 16. وقال: "هذا حديث حسن". وانظر: الدر المنثور: 6 / 467، مجمع الزوائد: 10 / 73.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات: 9 / 315-316، وقال: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث دراج"، والإمام أحمد: 3 / 75، والمصنف في شرح السنة: 5 / 17 وأشار المنذري في الترغيب إلى تضعيفه وقال: ورواه البيهقي مختصرا: 2 / 396، وفيه ابن لهيعة وقد اختلط، ودراج في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.
(3) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن بسر في الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر: 9 / 314-315 وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم في المستدرك: 1 / 495 ووافقه الذهبي، وابن حبان ص (576) من موارد الظمآن، والإمام أحمد في المسند: 4 / 188، 190، وأبو نعيم في الحلية: 6 / 111، والمصنف في شرح السنة: 5 / 16 وإسناده صحيح.

فَقَالَ: "سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ"، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعَتُ الْأَغَرَّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" (2) . وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" أَيْ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذَكْرِكُمْ إِيَّاهُ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (4) ، وَيُرْوَى ذَلِكَ مَرْفُوعًا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) . وَقَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ"، قَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ مَعْصِيَةٌ. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (1676): 4 / 2062.
(2) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على قراءة القرآن، برقم (2700): 4 / 2074، والمصنف في شرح السنة: 5 / 10-11.
(3) عزاه السيوطي: (6 / 466) للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم -وصححه- والبيهقي في "شعب الإيمان". وهو أيضا قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم ورجح ابن عطية (12 / 227-228) أن المعنى: ولذكر الله أكبر، على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر. فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يبفعل في غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذكر مراقب...
(4) انظر: الدر المنثور: 6 / 467.
(5) عزاه السيوطي لابن السني، وابن مردويه، والديلمي 6 / 466، وما عزاه للديلمي مشعر بالضعف.

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ } لَا تُخَاصِمُوهُمْ، { إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أَيْ: بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ بِآيَاتِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُجَجِهِ وَأَرَادَ مَنْ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أَيْ: أَبَوْا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَنَصَبُوا الْحَرْبَ، فَجَادِلُوهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ،

وَمَجَازُ الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوكُمْ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ ظَالِمٌ بِالْكُفْرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: صَارَتْ مَنْسُوخَةً (1) بِقَوْلِهِ: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (التَّوْبَةِ-29) . { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ } يُرِيدُ إِذَا أَخْبَرَكُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ الْجِزْيَةَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ فَلَا تُجَادِلُوهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ.
{ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ" (2) . أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا العذافري، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَبَا نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ"، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّهَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تَصْدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ" (3) .
__________
(1) انظر فيما سبق: 3 / 32، تعليق (1)، زاد المسير: 6 / 277، ورجح الطبري (21 / 2-3) أن الآية محكمة غير منسوخة، إذ لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها: 13 / 516، والمصنف في شرح السنة: 1 / 268. وانظر: الدر المنثور: 6 / 469.
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 11 / 110، وأبو داود في العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب: 5 / 245، وصححه ابن حبان ص (58) من موارد الظمآن، وأخرجه الطبراني في الكبير: 22 / 349-351، والبيهقي في السنن: 2 / 10، والإمام أحمد في المسند: 4 / 136، وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، وإسحاق.
وأصله في البخاري مختصرا من حديث أبي هريرة (التعليق السابق) وانظر: الكافي الشاف ص (128)، الفتح السماوي: 2 / 898-899، الدر المنثور: 6 / 469. هذا، وللإمام الحافظ ابن كثير كلمات بشأن الإسرائليات والحديث عن أهل الكتاب منثورة في تفسيره، وقد جمعها الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة مختصره "عمدة التفسير": (1 / 14-19) ينبغي مراجعتها.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَذَلِكَ } أَيْ: كَمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْهِمُ الْكُتُبَ، { أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ، { وَمِنْ هَؤُلَاءِ } يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ } وَهُمْ مُؤْمِنُوا أَهْلِ مَكَّةَ { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ } 68/ب ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، فَجَحَدُوا. قَالَ قَتَادَةُ: الْجُحُودُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ.
{ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو } يَا مُحَمَّدُ، { مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ } قبل ما أنزل إِلَيْكَ الْكِتَابَ، { وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } وَلَا تَكْتُبُهُ، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ قَبْلَ الْوَحْيِ، { إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } يَعْنِي لَوْ كُنْتَ تَكْتُبُ أَوْ تَقْرَأُ الْكُتُبَ قَبْلَ الْوَحْيِ لَشَكَّ الْمُبْطِلُونَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَقْرَؤُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَيَنْسَخُهُ مِنْهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْمُبْطِلُونَ" هُمُ الْيَهُودُ، وَمَعْنَاهُ: إِذًا لَشَكُّوا فِيكَ وَاتَّهَمُوكَ، وَقَالُوا إِنَّ الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ النَّعْتِ (1) .
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير: (3 / 418): "أي: قد لبثت في قومك يا محمد -من قبل أن تأتي بهذا القرآن- عمرا لا تقرأ كتابا، ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم، يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب. وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالي: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.." الآية. وهكذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائما إلى يوم القيامة لا يحسن الكتابة، ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
ومن زعم من متأخري الفقهاء -كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه- أنه عليه الصلاة والسلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله... فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي وتبرءوا منه.. وإنما أراد الرجل -أعني الباجي- فيما يظهر عنه: أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخبارا عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: "ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن". وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. وانظر أيضا: "الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر" تأليف أحمد بن حجر آل بن علي. وراجع فيما سبق: 3 / 288، المحرر الوجيز لابن عطية: 12 / 231.

بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) }
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْقُرْآنَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، { فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ حَمَلُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَتَادَةُ: بَلْ هُوَ -يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ذُو آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي كُتُبِهِمْ (1) ، { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ }
{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ } كَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: "آيَةٌ" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ" لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } الْقَادِرِ عَلَى إِرْسَالِهَا إِذَا شَاءَ أَرْسَلَهَا، { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أُنْذِرُ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ بِالنَّارِ، وَلَيْسَ إِنْزَالُ الْآيَاتِ بِيَدِي.
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } هَذَا الْجَوَابُ لِقَوْلِهِ: "لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ" قَالَ: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [يَعْنِي: أَوَلَمَ يَكْفِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] (2) ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، { لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أَيْ: تَذْكِيرًا وَعِظَةً لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهِ.
{ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا } أَنِّي رَسُولُهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ كِتَابُهُ، { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، { وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
__________
(1) ذكر الطبري القولين (21 / 5-6) ورجح قول من قال: عنى بذلك: بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا، ولا تخطه بيمينك -آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.
لأن قوله تعالى: "بل هو آيات بينات..." بين خبرين من إخبار الله عن رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبرا عن الكتاب الذي قد انقضى الخبر عنه قبل.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) }
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ (1) { وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا وَعَدْتُكَ أَنِّي لَا أُعَذِّبُ قَوْمَكَ وَلَا أَسْتَأْصِلُهُمْ وَأُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: "بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ" (الْقَمَرِ-46) ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُدَّةُ أَعْمَارِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ، وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ، { لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ } يَعْنِي: الْعَذَابَ وَقِيلَ الْأَجَلُ، { بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } بِإِتْيَانِهِ.
{ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } أَعَادَهُ تَأْكِيدًا، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } جَامِعَةٌ لَهُمْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ منهم إلا بدخلها.
{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يَعْنِي: إِذَا غَشِيَهُمُ الْعَذَابُ أَحَاطَتْ بِهِمْ جَهَنَّمُ، كَمَا قَالَ: "لهم من جنهم مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ" (الْأَعْرَافِ-41) ، { وَيَقُولُ ذُوقُوا } قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: "وَيَقُولُ" بِالْيَاءِ، أَيْ: وَيَقُولُ لَهُمُ الْمُوَكَّلُ بِعَذَابِهِمْ: ذُوقُوا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِأَمْرِهِ نُسِبَ إِلَيْهِ، { مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أَيْ: جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي ضُعَفَاءِ مُسْلِمِي مَكَّةَ، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ فِي ضِيقٍ بِمَكَّةَ مِنْ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ فَاخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ، إِنَّ أَرْضِيَ -يَعْنِي الْمَدِينَةَ-وَاسِعَةٌ آمِنَةٌ (2) . قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ أَرْضِيَ الْمَدِينَةَ وَاسِعَةٌ فَهَاجِرُوا وَجَاهِدُوا فِيهَا (3) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا عُمِلَ فِي أَرْضٍ بِالْمَعَاصِي فَاخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا أُمِرْتُمْ بِالْمَعَاصِي فَاهْرُبُوا فَإِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يُعْمَلُ فِيهَا
__________
(1) انظر فيما سبق: 3 / 351.
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 157، القرطبي: 13 / 357، زاد المسير: 6 / 281.
(3) أخرجه الطبري: 21 / 9.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

بِالْمَعَاصِي وَلَا يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى حَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ (1) . وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ، وَقَالُوا: نَخْشَى، إِنْ هَاجَرْنَا، مِنَ الْجُوعِ وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ" أَيْ: رِزْقِي لَكُمْ وَاسِعٌ فَاخْرُجُوا (2) .
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) }
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } خَوَّفَهُمْ بِالْمَوْتِ لِيُهَوِّنَ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةَ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مَيِّتٌ أَيْنَمَا كَانَ فَلَا تُقِيمُوا بِدَارِ الشِّرْكِ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } فَنَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: "يُرْجَعُونَ بِالْيَاءِ".
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالثَّاءِ سَاكِنَةً مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، يُقَالُ: ثَوَى الرَّجُلُ إِذَا أَقَامَ، وَأَثْوَيْتُهُ: إِذَا أَنْزَلْتُهُ مَنْزِلًا يُقِيمُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا، أَيْ: لَنُنْزِلَنَّهُمْ، { مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا } عَلَالِيَ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
{ الَّذِينَ صَبَرُوا } عَلَى الشَّدَائِدِ وَلَمْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ لِشِدَّةٍ لَحِقَتْهُمْ، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يَعْتَمِدُونَ.
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَقَدْ آذَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ: "هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ"، فَقَالُوا: كَيْفَ نَخْرُجُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لَنَا بِهَا دَارٌ وَلَا مَالٌ، فَمَنْ يُطْعِمُنَا بِهَا وَيَسْقِينَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ } (3) ذَاتِ حَاجَةٍ إِلَى غِذَاءٍ، { لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أَيْ: لَا تَرْفَعُ رِزْقَهَا مَعَهَا وَلَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ مِثْلَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ، { اللَّهُ، يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ }
__________
(1) الطبري: 21 / 9، الدر المنثور: 6 / 474، زاد المسير: 6 / 281.
(2) أخرجه الطبري عنه: 21 / 10، ورجح القول الأول، لدلالة قوله تعالى: "فإياي فاعبدون" على ذلك، وأن ذلك هو أظهر معنييه، وذلك أن الأرض إذا وصفها بسعة، فالغالب من وصفه إياها بذلك أنها لا تضيق جميعها على من ضاق عليه منها موضع، لا أنه وصفها بكثرة الخير والخصيب.
(3) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس دون سند: 6 / 282، والقرطبي: 13 / 360، وفيه الحديث الضعيف الآتي.

حَيْثُ كُنْتُمْ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ: لَا نَجِدُ مَا نُنْفِقُ بِالْمَدِينَةِ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ: وَكَأَيْنٍ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، قَالَ: لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ. قَالَ سُفْيَانُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يُخَبِّأُ إِلَّا الْإِنْسَانُ وَالْفَأْرَةُ وَالنَّمْلَةُ (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّقَّاقُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زُرَارَةَ الرَّقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَطُوفِ الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بن أبي 69/أ رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) يَلْقُطُ الرُّطَبَ بِيَدِهِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ: كُلْ يَا ابْنَ عُمَرَ، قُلْتُ: لَا أَشْتَهِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَكِنِّي أَشْتَهِيهِ، وَهَذِهِ صُبْحٌ رَابِعَةٌ مُنْذُ لَمْ أُطْعَمْ طَعَامًا وَلَمْ أَجِدْهُ، فَقُلْتُ إِنَّا لِلَّهِ، اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ لَوْ سَأَلْتُ رُبِّيَ لَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَلَكِنْ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا عَمَّرْتَ وَبَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ وَيَضْعُفُ الْيَقِينُ، فَنَزَلَتْ (3) { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ (4) .
__________
(1) انظر هذه الأقوال في: الطبري: 21 / 11، الدر المنثور: 6 / 475.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) عزاه السيوطي: (6 / 475) لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر بسند ضعيف. وأخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (396-397). قال الحافظ ابن كثير: (3 / 421): "هذا حديث غريب، وأبو العطوف الجزري ضعيف". وقال القرطبي: (13 / 360): "وهذا ضعيف، يضعفه أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم، (اتفق البخاري ومسلم عليه) وكانت الصحابة يفعلون ذلك، وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين". وقال الشوكاني في "فتح القدير" (4 / 213): "وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة. وفي إسناده أبو العطوف الجزري وهو ضعيف".
(4) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في معيشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهله: 7 / 26، وقال: "هذا حديث غريب. وقد روى هذا غير جعفر بن سليمان عن ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا"، وصححه ابن حبان برقم (2139) ص (525) من موارد الظمآن. والمصنف في شرح السنة: 13 / 253، وقال المناوي في "فيض القدير" (5 / 183): وسند الحديث جيد. ولا ينافي هذا الحديث ما سبق من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدخر لعياله قوت سنة، فهو كان لا يدخر لنفسه صلى الله عليه وإنما كان يدخر لغيره كأهله، أو يملكهم ذلك ويقسمه لهم أسوة بغيرهم فيما كان يقسم للمسلمين مما أفاء الله عليه. والله أعلم.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

وَرُّوِينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" (1) . أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ حَمْدُوَيْهِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا زُبَيْدُ الْيَامِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَإِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ قَدْ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ" (2) وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ زُبَيْدٍ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (3) .
{ اللَّهُ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (4) .
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقِيلَ: قُلِ الْحَمْدُ لله على
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا: 7 / 8، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في الزهد، باب التوكل واليقين، برقم (4164): 2 / 1394، وصححه الحاكم في المستدرك: 4 / 318، وأخرجه الإمام أحمد: 1 / 30، 52، والمصنف في شرح السنة: 14 / 301.
(2) أخرجه الحاكم: 2 / 4، والمصنف في شرح السنة: 14 / 303-304، وعزاه في المشكاة: (3 / 1458) للبيهقي في شعب الإيمان وله شواهد من حديث جابر والمطلب ساقها المصنف في شرح السنة والحاكم في المستدرك، فيتقوى الحديث بها.
(3) أي: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له. الطبري: 21 / 11.
(4) يقول تعالى ذكره: الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه، ويضيق فيقتر لمن يشاء منهم، يقول: فأرزاقكم وقسمتها بينكم ايها الناس بيدي دون كل أحد سواي، أبسط لمن شئت منها، وأقتر على من شئت... (إن الله بكل شيء عليم) يقول: إن الله عليم بمصالحكم، ومنهم لا يصلح له إلا البسط في الرزق، ومن لا يصلح له إلا التقتير عليه، وهو عالم بذلك. الطبري: 21 / 12.

إقراراهم لُزُومَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } يُنْكِرُونَ التَّوْحِيدَ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

{ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } اللَّهْوُ هُوَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، سُمِّيَتْ بِهِمَا لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ. { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أَيْ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْبَاقِيَةُ، وَ"الْحَيَوَانُ": بِمَعْنَى الْحَيَاةِ، أَيْ: فِيهَا الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ، { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَنَاءَ الدُّنْيَا وَبَقَاءَ الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ } وَخَافُوا الْغَرَقَ، { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَتَرَكُوا الْأَصْنَامَ، { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ عِنَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ يُقِرُّونَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى كَشْفِهَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ، فَإِذَا زَالَتْ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رَكِبُوا الْبَحْرَ حَمَلُوا مَعَهُمُ الْأَصْنَامَ فَإِذَا اشْتَدَّتْ بِهِمُ الرِّيحُ أَلْقَوْهَا فِي الْبَحْرِ وَقَالُوا يَا رب يَا رب.
{ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } هَذَا لَامُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، كَقَوْلِهِ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" (فُصِّلَتْ-40) ، أَيْ: لِيَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ، { وَلِيَتَمَتَّعُوا } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سَاكِنَةَ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "لِيَكْفُرُوا"، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وَقِيلَ: مَنْ كَسَرَ اللَّامَ جَعَلَهَا لَامَ كَيْ وَكَذَلِكَ فِي لِيَكْفُرُوا، وَالْمَعْنَى لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ إِلَّا الْكُفْرُ وَالتَّمَتُّعُ بِمَا يَتَمَتَّعُونَ به في العالجة مِنْ غَيْرِ نَصِيبٍ فِي الْآخِرَةِ.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } يَعْنِي الْعَرَبَ، يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ، { أَفَبِالْبَاطِلِ } بِالْأَصْنَامِ وَالشَّيْطَانِ، { يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ } بِمُحَمَّدٍ وَالْإِسْلَامِ، { يَكْفُرُونَ }

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) }
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } فَزَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالْفَوَاحِشِ، { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ } بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، { لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، مَعْنَاهُ: أَمَا لِهَذَا الْكَافِرِ الْمُكَذِّبِ مَأْوًى فِي جَهَنَّمَ.
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ لِنُصْرَةِ دِينِنَا، { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } لَنُثَبِّتَنَّهُمْ عَلَى مَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَنَزِيدَنَّهُمْ هُدَىً كَمَا قَالَ: "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى" (مريم-76) ، وقيل: لنوقفنهم لِإِصَابَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمَةُ هِيَ الَّتِي يُوصَلُ بِهَا إِلَى رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَانْظُرُوا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ (1) الثُّغُورِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وَقِيلَ: الْمُجَاهَدَةُ هِيَ الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ مُخَالَفَةُ الْهَوَى. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي إِقَامَةِ السُّنَّةِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ الْجَنَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَاعَتِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ ثَوَابِنَا. { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ فِي دُنْيَاهُمْ وَبِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ فِي عُقْبَاهُمْ.
__________
(1) ساقط من "أ".

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

سُورَةُ الرُّومِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) }
{ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى -مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ:-أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ قِتَالٌ، وَكَانَ (2) الْمُشْرِكُونَ يَوَدُّونَ أَنْ تَغْلِبَ فَارِسُ الرُّومَ، لِأَنَّ أَهْلَ فَارِسَ كَانُوا مَجُوسًا أُمِّيِّينَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوَدُّونَ غَلَبَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ، فَبَعَثَ كِسْرَى جَيْشًا إِلَى الرُّومِ واستعمل عليها 69/ب رَجُلًا يُقَالُ لَهُ شَهْرَيَرَازُ، وَبَعْثَ قَيْصَرُ جَيْشًا إِلَى فَارِسَ واستعمل عليهم رجل يُدْعَى يَحْفَسُ، فَالْتَقَيَا بِأَذْرِعَاتَ وَبُصْرَى، وَهِيَ أَدْنَى الشَّامِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَغَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ، فبلغ ذلك المسلمون بِمَكَّةَ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَفَرِحَ بِهِ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مَنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مَنْ أَهْلِ الرُّومِ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لَنَظْهَرَنَّ عَلَيْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَقَالَ: فَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ، فَلَا تَفْرَحُوا فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرُنَّ عَلَى فَارِسَ [عَلَى مَا] (3) أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا، فَقَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ فَقَالَ: كَذَبْتَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَقَالَ: اجْعَلْ بَيْنَنَا أَجَلًا أُنَاحِبُكَ عَلَيْهِ -وَالْمُنَاحَبَةُ: الْمُرَاهَنَةُ-عَلَى عَشْرِ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرِ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غَرِمْتَ فَفَعَلُوا وَجَعَلُوا الْأَجَلَ ثَلَاثَ سِنِينَ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعِ، فَزَايِدْهُ فِي الْخَطَرِ وَمَادِّهِ فِي الْأَجَلِ، فَخَرَجَ
__________
(1) مكية بالإجماع دون خلاف. انظر: الدر المنثور: 6 / 478، المحرر الوجيز: 12 / 241. زاد المسير: 6 / 286، القرطبي: 14 / 1.
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".

أَبُو بَكْرٍ وَلَقِيَ أُبَيًّا، فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ قَالَ: لَا فَتَعَالَ أُزَايِدُكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادُّكَ فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قَلُوصٍ [وَمِائَةُ قَلُوصٍ] (1) إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، وَقِيلَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، قَالَ قَدْ فَعَلْتُ: فَلَمَّا خَشِيَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَنْ يَخْرُجَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ مَكَّةَ أَتَاهُ فَلَزِمَهُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ فَأَقِمْ لِي كَفِيلًا فَكَفَلَ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَرَادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَنْ يخرج إلى حد أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَلَزِمَهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَفِيلًا فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ ثُمَّ رَجَعَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَمَاتَ بِمَكَّةَ مِنْ جِرَاحَتِهِ الَّتِي جَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَارَزَهُ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ سَبْعِ سِنِينَ مِنْ مُنَاحَبَتِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ تَمْضِ تِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي عَقَدُوا الْمُنَاحَبَةَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَفِيهَا صَاحِبُ، قِمَارِهِمْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَالْمُسْلِمُونَ وَصَاحِبُ قِمَارِهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ، حَتَّى غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ وَرَبَطُوا خُيُولَهُمْ بِالْمَدَائِنِ وَبَنُو الرُّومِيَّةَ فَقَمِرَ أَبُو بَكْرٍ أُبَيًّا وَأَخَذَ مَالَ الْخَطَرِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَجَاءَ بِهِ يَحْمِلُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَصَدَّقْ بِهِ".
وَكَانَ سَبَبُ غَلَبَةِ الرُّومِ فَارِسًا -عَلَى مَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ-: أَنْ شَهْرَيَرَازَ بَعْدَمَا غُلِبَتِ الرُّومُ لَمْ يَزَلْ يَطَؤُهُمْ وَيُخَرِّبُ مَدَائِنَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْخَلِيجَ، فَبَيْنَا أَخُوهُ فَرْخَانُ جَالِسٌ ذَاتَ يَوْمٍ يَشْرَبُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى، فَبَلَغَتْ كَلِمَتُهُ كِسْرَى، فَكَتَبَ إِلَى شَهْرَيَرَازَ: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِ فَرْخَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ مِثْلَ فَرْخَانَ، إِنَّ لَهُ نِكَايَةً وَصَوْتًا فِي الْعَدُوِّ، فَلَا تَفْعَلْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ فِي رِجَالِ فَارِسَ خَلَفًا مِنْهُ، فَعَجِّلْ بِرَأْسِهِ، فَرَاجَعَهُ فَغَضِبَ كِسْرَى وَلَمْ يَجُبْهُ، وَبَعَثَ بَرِيدًا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ أَنِّي قَدْ نَزَعْتُ عَنْكُمْ شَهْرَيَرَازَ وَاسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ فَرْخَانَ الْمَلِكَ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى الْبَرِيدِ صَحِيفَةً صَغِيرَةً أَمَرَهُ فِيهَا بِقَتْلِ شَهْرَيَرَازَ، وَقَالَ: إِذَا وَلَّى فَرْخَانَ الْمُلْكَ وَانْقَادَ لَهُ أَخُوهُ فَأَعْطِهِ، فَلَمَّا قَرَأَ شَهْرَيَرَازُ الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ فَرْخَانُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّحِيفَةَ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِشَهْرَيَرَازَ، فَقَدَّمَهُ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ، فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي. قَالَ: نَعَمْ، فَدَعَا بِالسَّفَطِ فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَ صَحَائِفَ، وَقَالَ: كُلُّ هَذَا رَاجَعْتُ فِيكَ كِسْرَى، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي بِكِتَابٍ وَاحِدٍ؟ فَرَدَّ الْمُلْكَ إِلَى أَخِيهِ، وَكَتَبَ شَهْرَيَرَازُ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً لَا تَحْمِلُهَا الْبُرُدُ، وَلَا تُبَلِّغُهَا الصُّحُفُ، فَالْقَنِي، وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا فِي خَمْسِينَ رُومِيًا، فَإِنِّي أَلْقَاكَ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا. فَأَقْبَلَ قَيْصَرُ فِي خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ رُومِيٍّ، وَجَعَلَ يَضَعُ الْعُيُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الطُّرُقِ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ بِهِ، حَتَّى أَتَاهُ عُيُونُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا ثُمَّ بَسَطَ لَهُمَا فَالْتَقَيَا فِي قُبَّةِ دِيبَاجٍ ضُرِبَتْ لَهُمَا، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِكِّينٌ، فَدَعَوَا بِتُرْجُمَانَ بَيْنَهُمَا،
__________
(1) ساقط من "أ".

فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

فَقَالَ شَهْرَيَرَازُ: إِنَّ الَّذِينَ خَرَّبُوا مَدَائِنَكَ أَنَا وَأَخِي بِكَيْدِنَا وَشَجَاعَتِنَا، وَإِنَّ كِسْرَى حَسَدَنَا وَأَرَادَ أَنْ أَقْتُلَ أَخِي فَأَبَيْتُ، ثُمَّ أَمَرَ أَخِي أَنْ يَقْتُلَنِي، فَقَدْ خَلَعْنَاهُ جَمِيعًا فَنَحْنُ نُقَاتِلُهُ مَعَكَ. قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمَا، ثُمَّ أَشَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ أَنَّ السِّرَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ فَشَا، فَقَتَلَا التُّرْجُمَانَ مَعًا بِسِكِّينِهِمَا، فَأُدِيلَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاتَّبَعُوهُمْ يُقَتِّلُونَهُمْ، وَمَاتَ كِسْرَى وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَفَرِحَ وَمَنْ مَعَهُ (1) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } أَيْ: أَقْرَبِ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ أَذَرِعَاتُ وَكَسْكَرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْضُ الْجَزِيرَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأُرْدُنُ وَفِلَسْطِينُ. { وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ } أَيْ: الرُّومُ مِنْ بَعْدِ غَلَبَةِ فَارِسَ إِيَّاهُمْ، وَالْغَلَبُ وَالْغَلَبَةُ لُغَتَانِ، { سَيَغْلِبُونَ } فَارِسًا.
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) }
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ } وَالْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى السَّبْعِ، [وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعِ] (2) وَقِيلَ: مَا دُونُ الْعَشَرَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: "غَلَبَتْ" بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ، "سَيُغْلَبُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَالُوا: نَزَلَتْ حِينَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَلَبَةِ الرُّومِ فَارِسًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: الم غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إِلَيْكُمْ، وَهُمْ مِنْ بعد غلبهم سيغلبهم، يَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. وَعِنْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ فِي جِهَادِ الرُّومِ (3) . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ دَوْلَةِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ وَمِنْ بَعْدِهَا، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ لَهُمُ الْغَلَبَةُ فَهُوَ بأمر الله 70/أ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } { بِنَصْرِ اللَّهِ } الرُّومَ عَلَى فَارِسَ. قَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِهِمْ عَلَى
__________
(1) هذه السياقات التي ذكها المفسرون عن الشعبي وعكرمة وعطاء، ذكرها ابن كثير في التفسير (3 / 424-425) قال: ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال.. وساق جملة ما نقله البغوي عن المفسرين.. ثم قال: "فهذا سياق غريب وبناء عجيب". وجملة القصة وسبب النزول وردا بروايات متعددة ثابتة، فقد أخرجها الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم. وانظر: الدر المنثور: 6 / 479-483، أسباب النزول ص (398)، الطبري: 21 / 16-19.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) انظر: الطبري: 21 / 21، المحرر الوجيز: 12 / 241.

الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، { يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ } الْغَالِبُ، { الرَّحِيمُ } بِالْمُؤْمِنِينَ.

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

{ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) }
{ وَعْدَ اللَّهِ } نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، { لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يَعْنِي: أَمَرَ مَعَاشِهِمْ، كَيْفَ يَكْتَسِبُونَ وَيَتَّجِرُونَ، وَمَتَى يَغْرِسُونَ وَيَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ، وَكَيْفَ يَبْنُونَ وَيَعِيشُونَ، قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أَحَدَهُمْ لِيَنْقُرُ الدِّرْهَمَ بِطَرَفِ ظُفْرِهِ فَيَذْكُرُ وَزْنَهُ وَلَا يُخْطِئُ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي (1) { وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } سَاهُونَ عَنْهَا جَاهِلُونَ بِهَا، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْمَلُونَ لَهَا. { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } أَيْ: لِلْحَقِّ، وَقِيلَ: لِإِقَامَةِ الْحَقِّ، { وَأَجَلٍ مُسَمًّى } أَيْ: لوقت معلوم إذ انْتَهَتْ إِلَيْهِ فَنِيَتْ، وَهُوَ الْقِيَامَةُ، { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أَوَلَمَ يُسَافِرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى مَصَارِعِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ فَيَعْتَبِرُوا { كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ } حَرَثُوهَا وَقَلَّبُوهَا لِلزِّرَاعَةِ، { وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } [أَيْ: أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا] (2) أَهْلُ مَكَّةَ، قِيلَ: قَالَ
__________
(1) أخرجه عنه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. الدر المنثور: 6 / 484.
(2) ساقط من "أ".

ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)

ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ مَكَّةَ حَرْثٌ، { وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } فَلَمْ يُؤْمِنُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } بِنَقْصِ حُقُوقِهِمْ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ.
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) }
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا } أَيْ: أَسَاؤُوا الْعَمَلَ، { السُّوْأَى } يَعْنِي: الْخَلَّةَ الَّتِي تَسُوؤُهُمْ وَهِيَ النَّارُ، وَقِيلَ: "السُّوأَى" اسْمٌ لِجَهَنَّمَ، كَمَا أَنَّ "الْحُسْنَى" اسْمٌ لِلْجَنَّةِ (1) ، { أَنْ كَذَّبُوا } أَيْ: لِأَنْ كَذَّبُوا. وَقِيلَ تَفْسِيرُ "السُّوأَى" مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "أَنْ كَذَّبُوا" يَعْنِي: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُسِيئِينَ التَّكْذِيبُ حَمَّلَهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ عَلَى أَنْ كَذَّبُوا، { أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ: "عَاقِبَةُ" بِالرَّفْعِ، أَيْ: ثُمَّ كَانَ آخِرُ أَمْرِهِمُ السُّوءَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى خَبَرِ كَانَ، تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ كَانَ السُّوأَى عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أَيْ: يَخْلُقُهُمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَحْيَاءً، وَلَمْ يَقُلْ: يُعِيدُهُمْ، رَدَّهُ إِلَى الْخَلْقِ، { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: "يُرْجَعُونَ" بِالْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ. { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } قَالَ قَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ: يَيْأَسُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَنْقَطِعُ كَلَامُهُمْ وَحَجَّتُهُمْ (2) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَفْتَضِحُونَ. { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ } جَاحِدِينَ مُتَبَرِّئِينَ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهَا وَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ. { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أَيْ: يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَتَفَرَّقُونَ بَعْدَ الْحِسَابِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَلَا يَجْتَمِعُونَ أَبَدًا.
__________
(1) انظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 322، المحرر الوجيز: 12 / 248.
(2) في معاني القرآن: 3 / 322:... وحججهم.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) }

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) }
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ } وَهِيَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِي غَايَةِ النَّضَارَةِ، { يُحْبَرُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يُنَعَّمُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُسَرُّونَ. وَ"الْحَبْرَةُ": السُّرُورُ. وَقِيلَ: "الْحَبْرَةُ" فِي اللُّغَةِ: كُلُّ نِعْمَةٍ حَسَنَةٍ، وَالتَّحْبِيرُ التَّحْسِينُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: "تُحْبَرُونَ" هُوَ السَّمَاعُ فِي الْجَنَّةِ (1) . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا أَخَذَ فِي السَّمَاعِ لَمْ يَبْقَ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا وَرَدَّتْ، وَقَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْ إِسْرَافِيلَ، فَإِذَا أَخَذَ فِي السَّمَاعِ قَطَعَ عَلَى أَهْلِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ صَلَاتَهُمْ وَتَسْبِيحَهُمْ. { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ } أَيْ: الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ } أَيْ: سَبِّحُوا اللَّهَ، وَمَعْنَاهُ: صَلُّوا لِلَّهِ، { حِينَ تُمْسُونَ } أَيْ: تَدْخُلُونَ فِي الْمَسَاءِ، وَهُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } أَيْ: تَدْخُلُونَ فِي الصَّبَاحِ، وَهُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ. { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يحمده أهل السموات وَالْأَرْضِ وَيُصَلُّونَ لَهُ، { وَعَشِيًّا } أَيْ: صَلُّوا لِلَّهِ عَشِيًا، يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ، { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } تَدْخُلُونَ فِي الظَّهِيرَةِ، وَهُوَ صَلَاةُ الظُّهْرِ. قَالَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ: جَمَعَتِ الْآيَةُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَمَوَاقِيتَهَا (2) . أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
__________
(1) الطبري: 21 / 27-28، الدر المنثور: 6 / 486، المحرر الوجيز: 12 / 249، زاد المسير: 6 / 293.
(2) أخرجه الطبري: 21 / 29، وصححه الحاكم: 2 / 411 ، والطبراني في الكبير: 10 / 304، وزاد السيوطي نسبته لعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم: 6 / 488.

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" (1) . أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادَيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ، حَدَّثَنَا السُّرِّيُّ، بْنُ خُزَيْمَةَ الْأَبْيُورْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ سُمَّيٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، أَخْبَرَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ" (3)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ قَالَ: سَمِعَتُ كُرَيْبًا أبا رشدين 70/ب يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ غَدَاةٍ مِنْ عِنْدِهَا، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةُ فَحَوَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ، وَكْرِهَ أَنْ يُقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ، فَخَرَجَ وَهِيَ فِي الْمَسْجِدِ (4) ، وَرَجَعَ بَعْدَمَا تَعَالَى النَّهَارُ، فَقَالَ: مَا زِلْتِ فِي مَجْلِسِكِ هَذَا مُنْذُ خَرَجْتُ، بَعْدُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتُ، بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِكَلِمَاتِكِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَاءَ نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ" (5) .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }
__________
(1) أخرجه الإمام في الموطأ: 1 / 209-210، والبخاري في الدعوات، باب فضل التسبيح: 11 / 206، ومسلم في الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح برقم (2691): 4 / 2071، والمصنف في شرح السنة: 5 / 40.
(2) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء برقم (2692): 4 / 2071، والمصنف في شرح السنة: 5 / 42.
(3) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم: 11 / 566، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الموضع السابق، برقم (2694): 4 / 2072، والمصنف في شرح السنة: 5 / 42.
(4) في صحيح مسلم. "مسجدها". وهو موضع صلاتها.
(5) أخرجه مسلم في كتاب الزهد ، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام برقم (3005 ( 4 / 2299.

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "تَخْرُجُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) }
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أَيْ: خَلَقَ أَصْلَكُمْ يَعْنِي آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، { ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } تَنْبَسِطُونَ فِي الْأَرْضِ. { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } قِيلَ: مِنْ جِنْسِكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ (1) ، { لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ فَهُمَا يَتَوَادَّانِ وَيَتَرَاحَمَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ } يَعْنِي: اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، { وَأَلْوَانِكُمْ } أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَأَحْمَرَ، وَأَنْتُمْ وَلَدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } قَرَأَ حَفْصٌ: { لِلْعَالِمِينَ } (2) بِكَسْرِ اللَّامِ. { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ: مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بِالنَّهَارِ، أَيْ: تَصَرُّفُكُمْ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَاعْتِبَارٍ.
__________
(1) تقدم فيما سبق أنه ليس هناك نص صحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك. والله أعلم.
(2) في الأصل ضبطت بفتح اللام على ما اختاره المصنف.

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) }
{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا } لِلْمُسَافِرِ مِنَ الصَّوَاعِقِ، { وَطَمَعًا } لِلْمُقِيمِ فِي الْمَطَرِ. { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ } يَعْنِي بِالْمَطَرِ (1) { الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أَيْ: بَعْدَ يَبَسِهَا
__________
(1) ساقط من "أ".

وَجُدُوبَتِهَا، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَامَتَا عَلَى غَيْرِ عَمَدٍ بِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: يَدُومُ قِيَامُهَا بِأَمْرِهِ (1) { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْقُبُورِ، { إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } مِنْهَا، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ مِنَ الْأَرْضِ. { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } مُطِيعُونَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا خَاصٌ لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُطِيعًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلٌّ لَهُ مُطِيعُونَ فِي الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ وَالْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَإِنْ عَصَوْا فِي الْعِبَادَةِ (2) . { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } يَخْلُقُهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْبَعْثِ، { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ: أَيْ: هُوَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ وَمَا شَيْءٌ عَلَيْهِ بِعَزِيزٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ يَجِيءُ أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ؟ إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ (3)
أَيْ: عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: "وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ": أَيْ: أَيْسَرُ (4) ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ ضَرَبِ الْمَثَلِ،
__________
(1) أي: تثبت، كقوله تعالى: "وإذا أظلم عليهم قاموا"، وهذا كثير، قاله ابن عطية: 12 / 253، وانظر: معاني القرآن للنحاس: 5 / 254.
(2) انظر شرحا لهذا في: المحرر الوجيز: 12 / 254-255.
(3) البيت في ديوان الفرزدق ص (714) وهو من شواهد الطبري: 21 / 37، وأبي عبيدة: 2 / 121.وانظر المحرر الوجيز: 12 / 255، معاني القرآن للنحاس: 5 / 256، وهو ترجيح الطبري.
(4) قال الفراء: 2 / 324 تعقيبا على قول مجاهد: "ولا أشتهي ذلك. والقول فيه أنه مثل ضربه الله، فقال: أتكفرون بالبعث؟ فابتداء خلقكم من لا شيء أشد، فالإنشاءة من شيء عندكم يا أهل الكفر ينبغي أن تكون أهون عليه. ثم قال: (وله المثل الأعلى)، فهذا شاهد أنه مثل ضربه الله" وهذا بمعنى ما فسره المصنف من قول مجاهد. والله أعلم.

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

أَيْ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ عَلَى مَا يَقَعُ فِي عُقُولِكُمْ، فَإِنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَنَّ الْإِعَادَةَ تَكُونُ أَهْوَنَ مِنَ الْإِنْشَاءِ، أَيْ: الِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ (1) وَقِيلَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى الْخَلْقِ، يَقُومُونَ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكُونُ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا نُطَفًا، ثُمَّ عَلَقًا ثُمَّ مُضَغًا إِلَى أَنْ يَصِيرُوا رِجَالًا وَنِسَاءً، وَهَذَا مَعْنَى رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) . { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } أَيِ: الصِّفَةُ العليا { فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (3) ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } فِي مُلْكِهِ، { الْحَكِيمُ } فِي خَلْقِهِ.
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) }
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أَيْ: بَيَّنَ لَكُمْ شَبَهًا بِحَالِكُمُ وَذَلِكَ الْمَثَلُ مِنْ أَنْفُسِكُمُ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَثَلَ فَقَالَ: { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أَيْ: عَبِيدُكُمْ وَإِمَائِكُمْ، { مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } مِنَ الْمَالِ، { فَأَنْتُمْ } وَهُمْ { فِيهِ سَوَاءٌ } أَيْ: هَلْ يُشَارِكُكُمْ عَبِيدُكُمْ فِي أَمْوَالِكُمُ الَّتِي أَعْطَيْنَاكُمْ؛ { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ: تَخَافُونَ أَنْ يُشَارِكُوكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَيُقَاسِمُوكُمْ كَمَا يَخَافُ الْحُرُّ شَرِيكَهُ الْحُرَّ فِي الْمَالِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ فِيهِ بِأَمْرٍ دُونَهُ، وَكَمَا يَخَافُ الرَّجُلُ شَرِيكَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِذَا لَمْ تَخَافُوا هَذَا مِنْ مَالِيكِكُمْ وَلَمْ تَرْضَوْا ذَلِكَ لِأَنْفُسِكُمْ، فَكَيْفَ رَضِيتُمْ أَنْ تَكُونَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا شُرَكَائِي وَهُمْ عَبِيدِي؟ (4) .
__________
(1) أي: خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحكمهم. انظر: زاد المسير: 6 / 298، المحرر الوجيز: 12 / 256.
(2) معاني القرآن للفراء: 2 / 324، والنحاس: 5 / 255.
(3) انظر: الطبري 19 / 38، الدر المنثور: 6 / 491، ابن كثير: 3 / 432.
(4) انظر: زاد المسير 6 / 299، المحرر الوجيز: 12 / 256-257.

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "أَنْفُسَكُمْ"، أَيْ: أَمْثَالَكُمْ مِنَ الْأَحْرَارِ كَقَوْلِهِ: "ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا" (النُّورِ-12) ، أَيْ: بِأَمْثَالِهِمْ. { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يَنْظُرُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ بِعُقُولِهِمْ.
{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) }
{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، { أَهْوَاءَهُمْ } فِي الشِّرْكِ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } جَهْلًا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، { فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } [أَيْ: أَضَلَّهُ اللَّهُ] (1) { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } مَانِعِينَ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } أَيْ: أَخْلِصْ دِينَكَ لِلَّهِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ: إِقَامَةُ الدِّينِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَدِّدْ عَمَلَكَ. وَالْوَجْهُ مَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَدِينُهُ وَعَمَلُهُ مِمَّا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ لِتَسْدِيدِهِ (2) ، { حَنِيفًا } مَائِلًا مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، { فِطْرَةَ اللَّهِ } دِينَ اللَّهِ، وَهُوَ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: إِلْزَمْ فِطْرَةَ اللَّهِ، { الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أَيْ: خَلَقَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ: الدِّينُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ (3) . وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَهُمُ الَّذِينَ فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُولَدُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تجدعونها؟، قالوا 71/أ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" (4) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) زاد المسير: 6 / 300، ابن كثير: 3 / 433.
(3) انظر: الطبري 21 / 40، ابن كثير: 3 / 433.
(4) أخرجه البخاري في القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين: 7 / 493، وروى جزءا منه في الجنائز وفي التفسير: ومسلم في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.. برقم (2658): 4 / 2048، والمصنف في شرح السنة: 1 / 154.وانظر: صحيفة همام بن منبه تحقيق د. رفعت فوزي عبد المطلب ص (259-260).

وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَزَادَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (1) . قَوْلُهُ: "مَنْ يُولَدُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ" يَعْنِي عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: "أَلَسْتُ، بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى" (الْأَعْرَافِ-172) ، وَكُلُّ مَوْلُودٍ فِي الْعَالَمِ عَلَى ذَلِكَ الإقرار، وهو الحنفية الَّتِي وَقَعَتِ الْخِلْقَةُ عَلَيْهَا وَإِنْ عَبَدَ غَيْرَهُ، قَالَ تَعَالَى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ" (الزُّخْرُفِ-87) ، وَقَالُوا: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى" (الزُّمَرِ-3) ، وَلَكِنْ لَا عِبْرَةَ بِالْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمَأْمُورُ بِهِ الْمُكْتَسَبُ بِالْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: "فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ"؟ فَهُوَ مَعَ وُجُودِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ فِيهِ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ" (2) . وَيُحْكَى مَعْنَى هَذَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (3) .
وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ إِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى فِطْرَتِهِ، أَيْ: عَلَى خِلْقَتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ صَائِرٌ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهَا، وَعَامِلٌ فِي الدُّنْيَا بِالْعَمَلِ الْمُشَاكِلِ لَهَا، فَمِنْ أَمَارَاتِ الشَّقَاوَةِ لِلطِّفْلِ أَنْ يُولَدَ بَيْنَ يَهُودِيَّيْنِ أَوْ نَصْرَانِيَّيْنِ، فَيَحْمِلَانِهِ -لِشَقَائِهِ-عَلَى اعْتِقَادِ دِينِهِمَا (4) . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ فِي مَبْدَأِ الْخِلْقَةِ [عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ عَلَى الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ] (5) وَالطَّبْعِ الْمُتَهَيِّئِ لِقَبُولِ الدِّينِ، فَلَوْ تُرِكَ عَلَيْهَا لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا، لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ مَوْجُودٌ حُسْنُهُ فِي الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ مَنْ يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِ لِآفَةٍ مِنْ آفَاتِ النُّشُوءِ وَالتَّقْلِيدِ، فَلَوْ سَلِمَ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ لَمْ يَعْتَقِدْ غَيْرَهُ... ثُمَّ يَتَمَثَّلُ بِأَوْلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ وَالْمَيْلِ إِلَى أَدْيَانِهِمْ فَيَزِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْمَحَجَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ. ذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي كِتَابِهِ (6) .
__________
(1) البخاري في الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، 3 / 219.
(2) قطعة من حديث عياض بن حمار المجاشعي، أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865): 4 / 2197.
(3) انظر: شرح السنة: 1 / 157-158، معالم السنن للخطابي: 7 / 83.
(4) شرح السنة: 1 / 159، معالم السنن للخطابي: 7 / 84-85.
(5) في معالم السنن للخطابي: (7 / 88) (.. وأصل الجبلة على الفطرة السليمة).
(6) معالم السنن: 7 / 83-88. وانظر في هذا المبحث: فتح الباري: 3 / 248-251، تفسير ابن كثير: 3 / 433-434، تفسير القرطبي: 14 / 25-30، شفاء العليل لابن القيم ص 568 وما بعدها، تعليق ابن القيم على سنن أبي داود -مع معالم السنن- : 7 / 81-87، صحيفة همام بن منبه ص (260-267)، وراجع فيما سبق: 3 / 298-299.

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

قَوْلُهُ: { لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } فَمَنْ حَمَلَ الْفِطْرَةَ عَلَى الدِّينِ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا تَبْدِيلَ لِدِينِ اللَّهِ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ: لَا تُبَدِّلُوا دِينَ اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: مَعْنَى الْآيَةِ الْزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، أَيْ دِينَ اللَّهِ، وَاتَّبِعُوهُ وَلَا تُبَدِّلُوا التَّوْحِيدَ بِالشِّرْكِ (1) { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } الْمُسْتَقِيمُ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَقِيلَ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيْ: مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ لَا يَتَبَدَّلُ، فَلَا يَصِيرُ السَّعِيدُ شَقِيًّا وَلَا الشَّقِيُّ سَعِيدًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ تَحْرِيمُ إِخْصَاءِ الْبَهَائِمِ (2) .
{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) }
__________
(1) المحرر الوجيز: 12 / 259، الدر: 6 / 493، القرطبي: 14 / 31.
(2) انظر: الطبري 21 / 41-42، القرطبي: 14 / 31.

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)

{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) }
{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } أَيْ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ مَعَهُ فِيهَا الْأُمَّةُ، كَمَا قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ" (الطَّلَاقِ-1) ، { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } أَيْ: رَاجِعِينَ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ مُقْبِلِينَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، { وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } أَيْ: صَارُوا فِرَقًا مُخْتَلِفَةً وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (1) . وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (2) ، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أَيْ: رَاضُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ } قَحْطٌ وَشِدَّةٌ، { دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } مُقْبِلِينَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً } خِصْبًا وَنِعْمَةً { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } ثُمَّ خَاطَبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذَا خِطَابَ تَهْدِيدٍ فَقَالَ: { فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } حَالَكُمْ فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1) رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة. انظر الطبري: 21 / 42، الدر: 6 / 495، المحرر الوجيز: 12 / 259.
(2) وهو قول عائشة وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم. القرطبي: 14 / 32.

أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

{ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهُمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) }
{ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حُجَّةً وَعُذْرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كِتَابًا، { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } يَنْطِقُ، { بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } أَيْ: يَنْطِقُ بِشِرْكِهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ. { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً } أَيْ: الْخِصْبَ وَكَثْرَةَ الْمَطَرِ، { فَرِحُوا بِهَا } يَعْنِي فَرَحَ الْبَطَرِ { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أَيِ: الْجَدْبُ وَقِلَّةُ الْمَطَرِ وَيُقَالُ: الْخَوْفُ وَالْبَلَاءُ { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } السَّيِّئَاتِ، { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } يَيْأَسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا خِلَافُ وَصْفِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَشْكُرُ اللَّهَ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَيَرْجُو رَبَّهُ عِنْدَ الشِّدَّةِ. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } الْبِرَّ وَالصِّلَةَ، { وَالْمِسْكِينَ } وَحَقُّهُ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، { وَابْنَ السَّبِيلِ } يَعْنِي: الْمُسَافِرَ، وَقِيلَ: هُوَ الضَّعِيفُ، { ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } يَطْلُبُونَ ثَوَابَ اللَّهِ بِمَا يَعْمَلُونَ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "أَتَيْتُمْ" مَقْصُورًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْمَدِّ، أَيْ: أَعْطَيْتُمْ، وَمَنْ قَصَرَ فَمَعْنَاهُ: مَا جِئْتُمْ مِنْ رِبًا، وَمَجِيئُوهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِعْطَاءِ كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُ خَطَئًا، وَأَتَيْتُ صَوَابًا، فَهُوَ يؤول في معنى إِلَى قَوْلِ مَنْ مدّ. { لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَيَعْقُوبُ: "لِتُرْبُوا" بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ: لِتُرْبُوا أَنْتُمْ وَتَصِيرُوا ذَوِي زِيَادَةٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَنَصْبِ الْوَاوِ وَجَعَلُوا الْفِعْلَ لِلرِّبَا لِقَوْلِهِ: { فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، أَيْ: فِي اخْتِطَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَاجْتِذَابِهَا.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي غيره العطية ليثيب أَكْثَرَ مِنْهَا فَهَذَا جَائِزٌ حَلَالٌ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ"، وَكَانَ هَذَا حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ" (الْمُدَّثِّرِ-6 ) ، أَيْ: لَا تُعْطِ وَتَطْلُبْ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ (1) . وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي صَدِيقَهُ أَوْ قَرِيبَهُ لِيُكْثِرَ مَالَهُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ (2) . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَلْتَزِقُ بِالرَّجُلِ فَيَخْدِمُهُ وَيُسَافِرُ مَعَهُ فَيَجْعَلُ لَهُ رِبْحَ مَالِهِ الْتِمَاسَ عَوْنِهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى (3) .
{ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ } أَعْطَيْتُمْ مِنْ صَدَقَةٍ { تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } يُضَاعَفُ لَهُمُ الثَّوَابُ فَيُعْطَوْنَ بِالْحَسَنَةِ عشر أمثالها 71/ب فَالْمُضْعِفُ ذُو الْأَضْعَافِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: الْقَوْمُ مَهْزُولُونَ وَمَسْمُونُونَ: إِذَا هَزَلَتْ أَوْ سَمِنَتْ إِبِلُهُمْ (4) .
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) }
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (5) .
__________
(1) انظر الطبري: 21 / 46-47، الدر المنثور: 6 / 495-496، القرطبي: 14 / 36-37، المحرر الوجيز: 12 / 263.
(2) الطبري: 21 / 47 وهو مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) زاد المسير: 6 / 304 قال ابن عطية: وهو قريب من التفسير الأول.
(4) في معاني القرآن للفراء: (2 / 325): تقول العرب: أصبحتم مسمنين معطشين إذا عطشت إبلهم أو سمنت.
(5) يقول الله تعالى ذكره للمشركين به، معرفهم قبح فعلهم، وخبث صنيعهم: الله -أيها القوم- الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم وخولكم، ولم تكونوا تملكون قبل ذلك، ثم هو يميتكم من بعد أن خلقكم أحياء، ثم يحييكم من بعد مماتكم لبعث القيامة.
وقوله: "هل من شركائكم..." هل من آلهتكم وأوثانكم التي تجعلونها لله في عبادتكم إياه شركاء من يفعل من ذلكم من شيء، فيخلق أو يرزق، أو يميت أو ينشر. وهذا من الله: تقريع لهؤلاء المشركين. وإنما معنى الكلام أن شركاءهم لا تفعل شيئا من ذلك، فكيف يعبد من دون الله ما لا يفعل شيئا من ذلك. ثم برأ نفسه -تعالى ذكره- عن الفرية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه -بزعمهم أن آلهتهم له شركاء- فقال جل ثناؤه: "سبحانه" أي: تنزيها وتبرئة. "وتعالى" يقول: وعلوا له. "عما يشركون" يقول: عن شرك هؤلاء المشركين به. انظر: الطبري: 21 / 48.

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } يَعْنِي: قَحْطَ الْمَطَرِ وَقِلَّةَ النَّبَاتِ، وَأَرَادَ بِالْبَرِّ الْبَوَادِيَ وَالْمَفَاوِزَ، وَبِالْبَحْرِ الْمَدَائِنَ وَالْقُرَى الَّتِي هِيَ عَلَى الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمِصْرَ بَحْرًا، تَقُولُ: أَجْدَبَ الْبَرُّ وَانْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْبَحْرِ (1) ، { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } أَيْ: بِشُؤْمِ ذُنُوبِهِمْ، وَقَالَ عَطِيَّةُ وَغَيْرُهُ: "الْبَرُّ" ظَهْرُ الْأَرْضِ مِنَ الْأَمْصَارِ وَغَيْرِهَا، وَ"الْبَحْرُ" هُوَ الْبَحْرُ الْمَعْرُوفُ، وَقِلَّةُ الْمَطَرِ كَمَا تُؤَثِّرُ الْبَرِّ تُؤَثِّرُ فِي الْبَحْرِ فَتَخْلُوا أَجْوَافُ الْأَصْدَافِ لِأَنَّ الصَّدَفَ إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ يَرْتَفِعُ إِلَى وَجْهِ الْبَحْرِ وَيَفْتَحُ فَاهُ فَمَا يَقَعُ فِي فِيهِ مِنَ الْمَطَرِ صَارَ لُؤْلُؤًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ: الْفَسَادُ فِي البر: قتل أحدا بني آدَمَ أَخَاهُ، وَفِي الْبَحْرِ: غَصْبُ الْمَلِكِ الْجَائِرِ السَّفِينَةَ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتِ الْأَرْضُ خَضِرَةً مُونِقَةً لَا يَأْتِي ابْنُ، آدَمَ شَجَرَةً إِلَّا وَجَدَ عَلَيْهَا ثَمَرَةً، وَكَانَ مَاءُ الْبَحْرِ عَذْبًا وَكَانَ لَا يَقْصِدُ الْأَسَدُ، الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، فَلَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ وهابيل اقْشَعَرَّتِ الْأَرْضُ وَشَاكَتِ الْأَشْجَارُ وَصَارَ مَاءُ الْبَحْرِ مِلْحًا زُعَافًا وَقَصَدَ الْحَيَوَانُ بَعْضُهَا بَعْضًا (2) قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَضَلَالَةً، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ رَاجِعُونَ مِنَ النَّاسِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الْمَعَاصِي، يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ (3) .
{ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } أَيْ: عُقُوبَةَ بَعْضِ الَّذِي عَمِلُوا مِنَ الذُّنُوبِ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عَنِ الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ.
__________
(1) معاني القرآن للفراء: 2 / 325.
(2) قال الطبري (21 / 50): "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الله تعالى ذكره، أخبر أن الفساد قد ظهر في البر والبحر عند العرب في الأرض والقفار، والبحر بحران: بحر ملح، وبحر عذب، فهما جميعا عندهم بحر، ولم يخصص -جل ثناؤه- الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر، عذبا كان أو ملحا. وإذا كان ذلك كذلك، دخل القرى التي على الأنهار والبحار". وقال ابن عطية: (12 / 265): وظهور الفساد فيما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا، وحدوث فتن، وتغلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر.. وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة، مستقيمة الأعمال، إلا يدفع الله عنها هذه. والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد كان الظلم عم الأرض برا وبحرا، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم (مصدر أذنب) لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى".
(3) البحر المحيط: 7 / 176.

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق