14. معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ
يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ
صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ
فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ
حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) }
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلُ } لِتَرَوْا مَنَازِلَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً، { كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ } أَيْ: كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَأُهْلِكُوا
بِكُفْرِهِمْ. { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ
دِينُ الْإِسْلَامِ { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ
اللَّهِ } يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ مِنَ
اللَّهِ، { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي: يتقرفون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ
وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. { مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أَيْ: وَبَالُ
كُفْرِهِ، { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } يُوَطِّئُونَ
الْمَضَاجِعَ وَيُسَوُّونَهَا فِي الْقُبُورِ. { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: لِيُثِيبَهُمُ اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ، { إِنَّهُ
لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ، { وَلِيُذِيقَكُمْ
مِنْ رَحْمَتِهِ } نِعْمَةَ، الْمَطَرِ وَهِيَ الْخِصْبُ، { وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } بِهَذِهِ الرِّيَاحِ، { بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ } لِتَطْلُبُوا مِنْ رِزْقِهِ بِالتِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ، {
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ } بِالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ، {
فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } عَذَّبْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ ،
{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَإِنْجَاؤُهُمْ مِنَ
الْعَذَابِ، فَفِي هَذَا تَبْشِيرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالظَّفَرِ فِي الْعَاقِبَةِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ:
أَنْجَاهُمْ مَعَ الرُّسُلِ مِنْ عَذَابِ الْأُمَمِ.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو شَيْخٍ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُوسَى
بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سَلِيمٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ
أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ
عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ
جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ "وَكَانَ
حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (1) .
{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي
السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) }
{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } أَيْ: يَنْشُرُهُ، {
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ } مَسِيرَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ
وَأَكْثَرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، { وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا } قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً {
فَتَرَى الْوَدْقَ } الْمَطَرَ، { يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } وَسَطِهِ، { فَإِذَا
أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ } أَيْ: بِالْوَدْقِ، { مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ } يَفْرَحُونَ بِالْمَطَرِ. { وَإِنْ كَانُوا } وَقَدْ كَانُوا، {
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } أَيْ
آيِسِينَ، وَقِيلَ: "وَإِنْ كَانُوا"، أَيْ: وَمَا كَانُوا إِلَّا
مُبْلِسِينَ، وَأَعَادَ قَوْلَهُ: "مِنْ قَبْلِهِ" تَأْكِيدًا (2) .
وَقِيلَ: الْأُولَى تَرْجِعُ إِلَى إِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَالثَّانِيَةُ إِلَى
إِنْشَاءِ السَّحَابِ (3) . وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لِمُبْلِسِينَ، غَيْرَ مُكَرَّرٍ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في الذب عن المسلم: 6 / 58، وقال:
"هذا حديث حسن". والطبراني في الكبير: 24 / 175-176. قال ابن حجر:
"ورواه إسحاق والطبراني وأبو يعلى وابن عدي من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت
يزيد نحوه مرفوعا، وإسناده ضعيف، واختلف فيه على شهر بن حوشب، فقال القداح عنه:
هكذا، وقال ليث: عنه عن أبي هريرة، أخرجه ابن مردويه". انظر الكافي الشاف ص
(129)، الفتح السماوي: 2 / 907-908، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 5 / 290-295.
(2) رجحه الطبري: 21 / 54، وانظر: المحرر الوجيز: 12 / 269، زاد المسير: 6 / 309.
(3) قال ابن الأنباري: والمعنى من قبل نزول المطر، من قبل المطر، وهذا مثلما يقول
القائل: آتيك من قبل أن تتكلم، من قبل أن تطمئن في مجلسك. فلا تنكر عليه الإعادة،
لاختلاف الشيئين". انظر: زاد المسير: 6 / 309، الطبري: 21 / 54.
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) }
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
{
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ
يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ
ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
(53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ
قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) }
{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } هَكَذَا قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ،
وَالْبَصْرَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ (1) . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: { إِلَى آثَارِ
رَحْمَةِ اللَّهِ } عَلَى الْجَمْعِ، أَرَادَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ: الْمَطَرَ،
أَيِ: انْظُرْ إِلَى حُسْنِ تَأْثِيرِهِ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَثَرُ
رَحْمَةِ اللَّهِ أَيْ: نِعْمَتُهُ وَهُوَ النَّبْتُ، { كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى } يَعْنِي: إِنَّ ذلك الذي يحي
الْأَرْضَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } {
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } بَارِدَةً مُضِرَّةً فَأَفْسَدَتِ الزَّرْعَ، {
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا } أَيْ: رَأَوُا النَّبْتَ وَالزَّرْعَ مُصْفَرًّا بَعْدَ
الْخُضْرَةِ، { لَظَلُّوا } لَصَارُوا، { مِنْ بَعْدِهِ } أَيْ: مِنْ بَعْدِ
اصْفِرَارِ الزَّرْعِ، { يَكْفُرُونَ } يَجْحَدُونَ مَا سَلَفَ مِنَ النِّعْمَةِ،
يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ عِنْدَ الْخِصْبِ، وَلَوْ أَرْسَلْتُ عَذَابًا
عَلَى زَرْعِهِمْ جَحَدُوا سَالِفَ نِعْمَتِي. { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ
الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا
أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ
بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } (2) . { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ
} قُرِئَ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا، فَالضَّمُّ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْفَتْحُ
لُغَةُ تَمِيمٍ، وَمَعْنَى "مِنْ ضَعْفٍ"، أَيْ: مِنْ نُطْفَةٍ، يُرِيدُ
مِنْ ذِي ضَعْفٍ، أَيْ: مِنْ مَاءٍ ذِي ضَعْفٍ كَمَا قَالَ
__________
(1) إشارة إلى أن المصنف رحمه الله قدم الأفراد "أثر" وهي المثبتة في
المخطوطة. وقد تكرر مثل هذا، وسيأتي أيضا.
(2) يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجدائها، ولا تبلغ كلامك
الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مدبرون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن
الحق وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله، فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات أصوات
الأحياء إذا شاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ولهذا قال
تعالى: "إن تسمع من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون" أي: خاضعون مستجيبون
مطيعون، فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه وهذا حال المؤمنين، والأول مثل
الكافرين". انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 439.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
تَعَالَى:
"أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ" (الْمُرْسَلَاتِ-20) ، {
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } بَعْدَ ضَعْفِ الطُّفُولِيَّةِ
شَبَابًا، وَهُوَ وَقْتُ الْقُوَّةِ، { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا
} هَرَمًا، { وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } الضَّعْفَ وَالْقُوَّةَ
وَالشَّبَابَ وَالشَّيْبَةَ، { وَهُوَ الْعَلِيمُ } بِتَدْبِيرِ خَلْقِهُ، {
الْقَدِيرُ } عَلَى مَا يَشَاءُ.
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ
سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ
فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) }
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ } يَحْلِفُ
الْمُشْرِكُونَ، { مَا لَبِثُوا } فِي الدُّنْيَا، { غَيْرَ سَاعَةٍ } إِلَّا
سَاعَةً، اسْتَقَلُّوا أَجَلَ الدُّنْيَا لَمَّا عَايَنُوا الْآخِرَةَ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَا لَبِثُوا فِي قُبُورِهِمْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَمَا
قَالَ: "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" (الْأَحْقَافِ-35) . { كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ }
يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ:
كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَمَا كَذَبُوا فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا
بَعْثَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَفْضَحَهُمْ فَحَلَفُوا عَلَى
شَيْءٍ تَبَيَّنَ لِأَهْلِ الْجَمْعِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيهِ (1) ، وَكَانَ ذَلِكَ
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَبِقَدَرِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "يُؤْفَكُونَ"،
أَيْ: يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ إِنْكَارَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ فَقَالَ: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أَيْ: فِيمَا كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ مِنَ اللُّبْثِ فِي الْقُبُورِ (2) .
وَقِيلَ: "فِي كِتَابِ اللَّهِ" أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ (3) ، وَقَالَ
قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ. وَقَالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ إِلَى
يَوْمِ الْبَعْثِ، يَعْنِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ كِتَابَ اللَّهِ (4) ،
وَقَرَأُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمٍ
يُبْعَثُونَ" (الْمُؤْمِنُونَ-100) ، أَيْ: قَالُوا لِلْمُنْكِرِينَ: لَقَدْ
لَبِثْتُمْ، { إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } الَّذِي
كُنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا، { وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
} وُقُوعَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَنْفَعُكُمُ الْعِلْمُ بِهِ الْآنَ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) زاد المسير: 6 / 311، معاني القرآن للفراء: 2 / 326.
(2) الطبري: 21 / 58، زاد المسير: 6 / 312.
(3) البحر المحيط: 7 / 180.
(4) نقل الطبري عن قتادة غير هذا فقال: وتأويلها: وقال الذين أوتوا الإيمان
والعلم: لقد لبثتم في كتاب الله. ورد ذلك ابن عطية فقال: ولا يحتاج إلى هذا، بل
ذكر العلم يتضمن الإيمان، ولا يصف الله بعلم من لم يعلم كل ما يوجب الإيمان، ثم
ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيها عليه وتشريفا لأمره، فنبه على مكان الإيمان وخصه
بالذكر تشريفا. انظر: الطبري: 21 / 57، المحرر الوجيز: 12 / 272.
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ }
{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ
كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) }
{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ } يَعْنِي
عُذْرَهُمْ، { وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعُتْبَى
وَالرُّجُوعُ فِي الْآخِرَةِ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: { لَا يَنْفَعُ }
بِالْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي "حم" الْمُؤْمِنِ [وَوَافَقَ نَافِعٌ فِي
"حم" الْمُؤْمِنِ] (1) ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا. {
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ
جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُبْطِلُونَ } مَا أَنْتُمْ إِلَّا عَلَى بَاطِلٍ. { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } تَوْحِيدَ اللَّهِ. { فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } فِي نُصْرَتِكَ وَإِظْهَارِكَ عَلَى عَدُوِّكَ { وَلَا
يَسْتَخِفَّنَّكَ } لَا يَسْتَجْهِلَنَّكَ، مَعْنَاهُ: لَا يَحْمِلَنَّكَ
الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ عَلَى الْجَهْلِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي الْغَيِّ. وَقِيلَ:
لَا يَسْتَخِفَّنَّ رَأْيَكَ وَحِلْمَكَ، { الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }
بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
سُورَةُ
لُقْمَانَ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً
لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا
هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) }
{ الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً } قَرَأَ حَمْزَةُ:
"وَرَحْمَةٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: هُوَ هُدَىً
وَرَحْمَةٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ { لِلْمُحْسِنِينَ }
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ }
الْآيَةَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ كَانَ يَتَّجِرُ فَيَأْتِي الْحِيْرَةَ وَيَشْتَرِي
أَخْبَارَ الْعَجَمِ وَيُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، وَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا
يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ
رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ وَأَخْبَارِ الْأَكَاسِرَةِ، فَيَسْتَمْلِحُونَ
__________
(1) أخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: أنزلت سورة لقمان بمكة. وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: سورة لقمان نزلت بمكة سوى ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة (ولو أن ما في
الأرض من شجرة أقلام) إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج النسائي وابن ماجه عن البراء
رضي الله عنه قال: كنا نصلي خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر،
ونسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. وانظر: الدر المنثور 6 / 503.
حَدِيثَهُ
وَيَتْرُكُونَ اسْتِمَاعَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي شِرَاءَ الْقِيَانِ وَالْمُغَنِّيِّينَ (2) ، وَوَجْهُ
الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: مَنْ يَشْتَرِي [ذَاتَ لَهْوِ أَوْ] ذَا
لَهْوِ الْحَدِيثِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حجر، أخبرنا مشعل بْنُ
مِلْحَانِ الطَّائِيُّ، عَنْ مُطَّرِحِ بْنِ يزيد، عن عبد اللَّهِ بْنِ زُحَرٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا يَحِلُّ تَعْلِيمُ المغنيات ولا يبعهن وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ"،
وَفِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ"، وَمَا مِنْ
رَجُلٍ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَيْطَانَيْنِ:
أَحَدُهُمَا عَلَى هَذَا الْمَنْكِبِ، وَالْآخَرُ عَلَى هَذَا الْمَنْكِبِ، فَلَا
يَزَالَانِ يَضْرِبَانِهِ بِأَرْجُلِهِمَا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْكُتُ
(3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْقَفَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُرُوجِرْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
غَالِبِ بْنِ تَمَامٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ هِشَامٍ هُوَ
ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَهَى عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ وَكَسْبِ الزَّمَّارَةِ" (4) . قَالَ مَكْحُولٌ: مَنِ اشْتَرَى
جَارِيَةً ضَرَّابَةً لِيُمْسِكَهَا لِغِنَائِهَا وَضَرْبِهَا مُقِيمًا عَلَيْهِ
حَتَّى يَمُوتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ" الْآيَةَ (5) . وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: "لَهْوُ الْحَدِيثِ" هُوَ الْغِنَاءُ،
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: { يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ }
أَيْ: يَسْتَبْدِلُ وَيَخْتَارُ الْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى
الْقُرْآنِ، قَالَ أَبُو الصِّبَاءِ الْبَكْرِيُّ سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ
الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ،
يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (6) .
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (400).
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (400).
(3) أخرجه ابن ماجه: التجارات، باب: ما لا يحل بيعه برقم: (2168) 2 / 733، والإمام
أحمد: 5 / 252، والطبري: 21 / 60، وأخرجه بنحوه الترمذي: في التفسير: 9 / 54-55،
وقال: (هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي
بن يزيد يضعف في الحديث، قاله محمد بن إسماعيل.
(4) أخرجه البيهقي: 6 / 126، والخطيب في تاريخ بغداد: 7 / 369، 8 / 304 والمصنف في
شرح السنة: 8 / 23.
(5) انظر: الدر المنثور: 6 / 505.
(6) أخرجه الطبري: 21 / 61.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ (1) ،
وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَأْخُذُونَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ يَخْرِقُونَ الدُّفُوفَ.
وَقِيلَ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا (2) . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ
الطَّبْلُ (3) وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُوَ الشِّرْكُ (4) . وَقَالَ قَتَادَةُ:
هُوَ كُلُّ لَهْوٍ وَلَعِبٍ (5) . { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ } أَيْ: يَفْعَلُهُ عَنْ جَهْلٍ. قَالَ قَتَادَةُ: بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ
الضَّلَالَةِ أَنْ يَخْتَارَ حَدِيثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } أَيْ: يَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا. قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ: {
وَيَتَّخِذَهَا } بنصب الدال عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: "لِيُضِلَّ"،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "يَشْتَرِي".
{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ
السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) }
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } {
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ } {
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } حَسَنٍ.
__________
(1) أخرجه البيهقي: 10 / 223، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 6 / 505 نسبته لابن
أبي الدنيا.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 506 لابن أبي الدنيا والبيهقي.
(3) أخرجه الطبري: 21 / 63.
(4) أخرجه الطبري : 21 / 63.
(5) وهو ما رجحه الطبري: 21 / 63 إذ قال: (عنى به كل ما كان من الحديث ملهبا عن
سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله تعالى عم بقوله: (لهو
الحديث) ولم يخصص بعضا دون بعض فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدل على خصوصه، والغناء
والشرك من ذلك).
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ
الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) }
{ هَذَا } يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْتُ مِمَّا تُعَايِنُونَ، { خَلْقُ اللَّهِ
فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي
تَعْبُدُونَهَا، { بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } قوله
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
(12) }
تَعَالَى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } يَعْنِي: الْعَقْلَ
وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ. قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ نَاعُورَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَارِخَ
وَهُوَ آزَرُ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ ابْنَ أُخْتِ أَيُّوبَ (1) ، وَقَالَ
[مُقَاتِلٌ: ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَةِ أَيُّوبَ (2) ] (3) . قَالَ
الْوَاقِدَيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ (4) .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا،
إِلَّا عِكْرِمَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا. وَتَفَرَّدَ
بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُيِّرَ لُقْمَانُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ
وَالْحِكْمَةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ (5) . وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا
نِصْفَ النَّهَارِ فَنُودِيَ: يَا لُقْمَانُ، هَلْ لَكَ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ؟ فَأَجَابَ
الصَّوْتَ فَقَالَ: إِنْ خَيَّرَنِي رَبِّي قَبِلْتُ الْعَافِيَةَ، وَلَمْ
أَقْبَلِ الْبَلَاءَ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَيَّ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، فَإِنِّي
أَعْلَمُ إِنْ فَعَلَ بِي ذَلِكَ أَعَانَنِي وَعَصَمَنِي، فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ بِصَوْتٍ لَا يَرَاهُمْ: لِمَ يَا لُقْمَانُ؟ قَالَ: لِأَنَّ
الْحَاكِمَ بِأَشَدِّ الْمَنَازِلِ وَأَكْدَرِهَا، يَغْشَاهَا الظُّلْمُ مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَعْدِلَ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْجُوَ، وَإِنْ أَخْطَأَ
أَخْطَأَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ، وَمَنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلًا خَيْرٌ مِنْ
أَنْ يَكُونَ
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 186.
(2) انظر البحر المحيط: 7 / 186.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) انظر البحر المحيط: 7 / 186.
(5) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: 3 / 444: (اختلف السلف في لقمان هل كان نبيا
أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين، الأكثرون على الثاني، (يعني أنه لم يكن
نبيا) ثم ذكر بعض الآثار، منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبيا، ومنها ما هو مشعر
بذلك، وفي بعضها ما يشعر أنه كان عبدا قد مسه الرق، فقال: وكونه عبدا قد مسه الرق
ينافي كونه نبيا، لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، قال: ولهذا كان جمهور السلف
على أنه لم يكن نبيا، قال: وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة إن صح السند إليه قال:
فإنه رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة،
قال: كان لقمان نبيا، قال: وجابر هذا، هو ابن يزيد الجعفي، وهو ضعيف، والله أعلم.
ثم قال ابن كثير: والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (ولقد
آتينا لقمان الحكمة) أي: الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيا، ولم يوح إليه) أ.هـ.
فهذا يدل على أنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا.
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
شريفًا،
ومن يخير الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ تَفْتِنُهُ الدُّنْيَا وَلَا يُصِيبُ
الْآخِرَةَ. فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ حُسْنِ مَنْطِقِهِ، فَنَامَ نَوْمَةً
فَأُعْطِيَ الْحِكْمَةَ، فَانْتَبَهَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَا، ثُمَّ نُودِيَ
دَاوُدُ بَعْدَهُ فَقَبِلَهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَا اشْتَرَطَ لُقْمَانُ، فَهَوَى
فِي الْخَطِيئَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ
لُقْمَانُ يُؤَازِرُهُ بِحِكْمَتِهِ (1) . وَعَنْ خَالِدٍ الرَّبَعِيِّ قَالَ:
كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا (2) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ: كَانَ خَيَّاطًا (3) . وَقِيلَ: كَانَ رَاعِيَ غَنَمٍ. فَرُوِيَ
أَنَّهُ لَقِيَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ فَقَالَ: أَلَسْتَ
فُلَانًا الرَّاعِيَ فَبِمَ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ؟ قَالَ: بِصِدْقِ الْحَدِيثِ،
وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكِ مَا لَا يَعْنِينِي (4) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ مشقق الْقَدَمَيْنِ (5) . قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) }
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ } وَاسْمُهُ أَنْعَمُ، وَيُقَالُ: مِشْكَمٌ، {
وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يَا بُنَيْ لَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ"
بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَفَتَحَهَا حَفْصٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، "يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا" بِفَتْحِ الْيَاءِ حَفْصٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ،
"يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ"، بِفَتْحِ الْيَاءِ الْبَزِّيُّ عَنِ
ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ، وَبِإِسْكَانِهَا الْقَوَّاسُ، وَالْبَاقُونَ
بِكَسْرِهَا. { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةً عَلَى مَشَقَّةٍ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ تَوَالَى عَلَيْهَا الضَّعْفُ
وَالْمَشَقَّةُ. وَيُقَالُ: الْحَمْلُ ضَعْفٌ، وَالطَّلْقُ ضَعْفٌ، وَالْوَضْعُ ضَعْفٌ.
{ وَفِصَالُهُ } أَيْ: فِطَامُهُ، { فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } الْمَرْجِعُ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ
شَكَرَ اللَّهَ، وَمَنْ دَعَا لِلْوَالِدَيْنِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فَقَدْ شَكَرَ الْوَالِدَيْنِ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 510-511 للحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
والعزو إليه مؤذن بالضعف.
(2) أخرجه الطبري: 21 / 67-68.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 510 لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن
المنذر.
(4) انظر: الطبري 21 / 68، والدر المنثور: 6 / 512.
(5) أخرجه الطبري: 21 / 67.
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ
أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) }
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } أَيْ: بِالْمَعْرُوفِ،
وَهُوَ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْعِشْرَةُ الْجَمِيلَةُ، { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } أَيْ: دِينَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَى طَاعَتِي، وَهُوَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ عَطَاءٌ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ أَتَاهُ
عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَّقْتَ هَذَا الرَّجُلَ
وَآمَنْتَ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ صَادِقٌ، فَآمِنُوا بِهِ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْلَمُوا،
فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ سَابِقَةُ الْإِسْلَامِ. أَسْلَمُوا بِإِرْشَادِ أَبِي بَكْرٍ
(1) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ }
يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَاصٍ وَأُمِّهِ، وَقَدْ مَضَتِ الْقِصَّةُ وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ
فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ. { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ } الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهَا" رَاجِعَةٌ إِلَى
الْخَطِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ لُقْمَانَ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنْ
عَمِلْتُ الْخَطِيئَةَ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ كَيْفَ يَعْلَمُهَا اللَّهُ؟
فَقَالَ: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } قَالَ قَتَادَةُ: تَكُنْ فِي جَبَلٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فِي صَخْرَةٍ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَهِيَ الَّتِي تُكْتَبُ
فِيهَا أَعْمَالُ الْفُجَّارِ (2) ، وَخُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا. قَالَ
السُّدِّيُّ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ -وَهُوَ النُّونُ الَّذِي
ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ "ن وَالْقَلَمِ"
-وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ
مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ،
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 250-252، الواحدي في أسباب النزول ص 401.
(2) انظر: ابن كثير: 3 / 447 وقد قال معقبا: (كأنه متلقي من الإسرائليات التي لا
تصدق ولا تكذب)، البحر المحط: 7 / 188.
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وَهِيَ
الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي
الْأَرْضِ، وَالصَّخْرَةُ عَلَى الرِّيحِ (1) { أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي
الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } بِاسْتِخْرَاجِهَا، {
خَبِيرٌ } عَالَمٌ بِمَكَانِهَا، قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ
الْإِحَاطَةُ بِالْأَشْيَاءِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ
إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا لُقْمَانُ فَانْشَقَّتْ
مَرَارَتُهُ مِنْ هيبتها فمات.
{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) }
{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } يَعْنِي مِنَ الْأَذَى، { إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } يُرِيدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ
عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الْأَذَى فِيهِمَا، مِنَ الْأُمُورِ
الْوَاجِبَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، أَوْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي
يُعْزَمُ عَلَيْهَا لِوُجُوبِهَا. { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ:
"وَلَا تُصَعِّرْ" بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "تُصَاعِرْ" بِالْأَلْفِ، يُقَالُ: صَعَّرَ وَجْهَهُ
وَصَاعَرَ: إِذَا مَالَ وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا، وَرَجُلٌ أَصَعَرُ: أَيْ: مَائِلُ
الْعُنُقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرْ فَتُحَقِّرَ النَّاسَ
وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ
الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِحْنَةً فَتَلْقَاهُ فَيُعْرِضُ عَنْكَ
بِوَجْهِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الَّذِي إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ لَوَى
عُنُقَهُ تَكْبُّرًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: وَلَا
تَحْتَقِرِ الفقراء ليكن 73/أ الفقر وَالْغَنِيُّ عِنْدَكَ سَوَاءً، { وَلَا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } خُيَلَاءَ { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ، كُلَّ
مُخْتَالٍ } فِي مَشْيِهِ { فَخُورٍ } عَلَى النَّاسِ. { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ }
أَيْ: لِيَكُنْ مَشْيُكَ قَصْدًا لَا تَخَيُّلًا وَلَا إِسْرَاعًا. وَقَالَ
عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ: "يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْنًا" (الْفُرْقَانِ-63) ، { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } انْقُصْ
مِنْ صَوْتِكَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اخْفِضْ صَوْتَكَ { إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْوَاتِ } أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ، { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } أَوَّلُهُ زَفِيرٌ
وَآخِرُهُ شَهِيقٌ، وَهُمَا صَوْتُ أَهْلِ النَّارِ.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 188، الدر المنثور: 6 / 522-523.
وَقَالَ
مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } قَالَ: صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ
تَسْبِيحٌ لِلَّهِ إِلَّا الْحِمَارَ (1) . وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ فِي
قَوْلِهِ: { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } قَالَ: هِيَ
الْعَطْسَةُ الْقَبِيحَةُ الْمُنْكَرَةُ. قَالَ وَهْبٌ: تَكَلَّمَ لُقْمَانُ
بِاثْنَى عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْحِكْمَةِ، أَدْخَلَهَا النَّاسُ فِي كلامهم
وقضاياهم وحكمه: قَالَ خَالِدٌ الرَّبَعِيُّ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا
فَدَفَعَ مَوْلَاهُ إِلَيْهِ شَاةً وَقَالَ: اذْبَحْهَا وَائْتِنِي بِأَطْيَبِ
مُضْغَتَيْنِ مِنْهَا، فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ
شَاةً أُخْرَى، وَقَالَ: اذْبَحْهَا وَائْتِنِي بِأَخْبَثِ مُضْغَتَيْنِ مِنْهَا
فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، فَسَأَلَهُ مَوْلَاهُ، فَقَالَ: لَيْسَ
شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا
(2) .
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 323.
(2) أخرجه الطبري: 21 / 67-68، والإمام أحمد في الزهد ص 49، وابن أبي شيبة: 13 /
214.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ
(20) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ } أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، {
نِعَمَهُ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ:
"نِعَمَهُ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْجَمْعِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ مُنَوَّنَةً عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ
أَيْضًا كَقَوْلِهِ: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا"
(إِبْرَاهِيمَ-14) ، { ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } قَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ: الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَالْبَاطِنَةُ:
مَا سَتَرَ عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يُعَجِّلْ عَلَيْكَ بِالنِّقْمَةِ (1)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الظَّاهِرَةُ: حُسْنُ الصُّورَةِ وَتَسْوِيَةُ الْأَعْضَاءِ،
وَالْبَاطِنَةُ: الْمَعْرِفَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الظَّاهِرَةُ: تَسْوِيَةُ
الْخَلْقِ، وَالرِّزْقُ، وَالْإِسْلَامُ. وَالْبَاطِنَةُ: مَا سَتَرَ مِنَ
الذُّنُوبِ (2) . وَقَالَ الرَّبِيعُ: الظَّاهِرَةُ بِالْجَوَارِحِ،
وَالْبَاطِنَةُ: بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ،
وَالْبَاطِنَةُ: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: تَمَامُ
الرِّزْقِ وَالْبَاطِنَةُ: حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الظَّاهِرَةُ:
تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ، وَالْبَاطِنَةُ: الشَّفَاعَةُ.
__________
(1) رواه البيهقي في الشعب: 8 / 419 بإسنادين ضعيفين.
(2) رواه البيهقي في الشعب: 8 / 418، وابن أبي الدنيا في الشكر ص: 109 بإسناد
ضعيف.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الظَّاهِرَةُ: ظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ،
وَالْبَاطِنَةُ: الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: الْإِمْدَادُ
بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْبَاطِنَةُ: إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الظَّاهِرَةُ: اتِّبَاعُ الرَّسُولِ،
وَالْبَاطِنَةُ: مَحَبَّتُهُ. { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ } نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأُبَيِّ بْنِ
خَلَفٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَأَشْبَاهِهِمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّهِ وَفِي صِفَاتِهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ (1) ، { وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَوَلَوْ
كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } وَجَوَابُ
"لَوْ" مَحْذُوفٌ، وَمَجَازُهُ: يَدْعُوهُمْ فَيَتَّبِعُونَهُ، يَعْنِي:
يَتَّبِعُونَ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ
السَّعِيرِ. { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ } يَعْنِي: لِلَّهِ، أَيْ:
يُخْلِصْ دِينَهُ لِلَّهِ، وَيُفَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، { وَهُوَ مُحْسِنٌ
} فِي عَمَلِهِ، { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أَيْ: اعْتَصَمَ
بِالْعَهْدِ الْأَوْثَقِ الَّذِي لَا يَخَافُ انْقِطَاعَهُ، { وَإِلَى اللَّهِ
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } { وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ } { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا } أَيْ: نُمْهِلُهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا
بِنَعِيمِ الدُّنْيَا قَلِيلًا إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، { ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ } ثُمَّ نُلْجِئُهُمْ وَنَرُدُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، { إِلَى
عَذَابٍ غَلِيظٍ } عَذَابُ النَّارِ. { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 6 / 351.
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) }
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } الْآيَةَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ،
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ"،
إِلَى قَوْلِهِ: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"
(الْإِسْرَاءِ-85) ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُوا: يَا
مُحَمَّدُ، بَلَغَنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ: "وَمَا أُوتِيتُمْ من العلم
إلى قَلِيلًا" أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ، قَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُوَا فِيمَا جَاءَكَ
أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ
قَلِيلٌ وَقَدْ آتَاكُمُ اللَّهُ مَا إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ"،
قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَزْعُمُ هَذَا وَأَنْتَ تَقُولُ: "وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" (الْبَقَرَةِ-269) ،
فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا عِلْمٌ قَلِيلٌ وَخَيْرٌ كَثِيرٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ وَمَا يَأْتِي
بِهِ مُحَمَّدٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ فَيَنْقَطِعَ، فَنَزَلَتْ: { وَلَوْ
أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } (2) ، أَيْ: بُرِيَتْ
أَقْلَامًا، { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ:
"وَالْبَحْرَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "مَا"،
وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ { يَمُدُّهُ } أَيْ: يَزِيدُهُ، وَيَنْصَبُّ
فِيهِ { مِنْ بَعْدِهِ } خَلْفِهِ، { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ } وَفِي الْآيَةِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ
مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
يُكْتَبُ بِهَا كَلَامُ اللَّهِ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ. { إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
مَدَنِيَّةٌ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مَكِّيَّةٌ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أَمَرَ
الْيَهُودُ وَفْدَ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُوا لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بَعْدُ بِمَكَّةَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 81، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 526 لابن إسحاق
وابن أبي حاتم، والوحدي في أسباب النزول ص: 401-402 إذ قال: (قال المفسرون: سألت
اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الروح فأنزل الله بمكة
"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"
فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أتاه أحبار
اليهود...).
(2) أخرجه الطبري: 21 / 81، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 528 لعبد الرزاق
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة ولأبي نصر السجزي في الإبانة.
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) }
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
(32) }
{ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [يَعْنِي كَخَلْقِ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] (1) وَبَعْثِهَا لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، { إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أَيْ: ذَلِكَ
الَّذِي ذَكَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، { وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ }
يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، { لِيُرِيَكُمْ مِنْ
آيَاتِهِ } عَجَائِبِهِ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ } عَلَى
أمر الله 73/ب { شَكُورٍ } لِنِعَمِهِ. { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ }
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَالْجِبَالِ. وَقَالَ الكلبي: كالسحاب. والظل جَمْعُ الظُّلَّةِ
شَبَّهَ بِهَا الْمَوْجَ فِي كَثْرَتِهَا وَارْتِفَاعِهَا، وَجَعَلَ الْمَوْجَ،
وَهُوَ وَاحِدٌ، كَالظُّلَلِ وَهِيَ جَمْعٌ، لِأَنَّ الْمَوْجَ يَأْتِي مِنْهُ
شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } أَيْ: عَدْلٌ مُوفٍ فِي
الْبَرِّ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ لَهُ،
يَعْنِي: ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
نَزَلَتْ
فِي عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهِلٍ هَرَبَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى الْبَحْرِ
فَجَاءَهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْ هَذَا
لَأَرْجِعَنَّ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَأَضَعَنَّ
يَدِيَ فِي يَدِهِ، فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ إِلَى مَكَّةَ
فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (1) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
فِي الْقَوْلِ مُضْمِرٌ لِلْكُفْرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُقْتَصِدٌ فِي
الْقَوْلِ، أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ أَشَدَّ قَوْلًا
وَأَغْلَى فِي الِافْتِرَاءِ مِنْ بَعْضٍ، { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا
كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } وَالْخَتْرُ أَسْوَأُ الْغَدْرِ.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي
وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي } لَا
يَقْضِي وَلَا يُغْنِي، { وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ }
مُغْنٍ { عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ امْرِئٍ يُهِمُّهُ
نَفْسُهُ، { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْمَعْصِيَةَ وَيَتَمَنَّى
الْمَغْفِرَةَ. { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي
الْوَارِثِ (2) بْنِ عَمْرِو، بْنِ حَارِثَةَ، بْنِ مُحَارِبِ، ابْنِ حَفْصَةَ،
مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ وَوَقْتِهَا وَقَالَ: إِنَّ أَرْضَنَا أَجْدَبَتْ
فَمَتَى
__________
(1) قال ابن حجر في الإصابة: 4 / 538-539 (وقد أخرج قصة مجيئه موصولة الدارقطني،
والحاكم، وابن مردويه، من طريق أسباط بن نصر، عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه،
قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس
إلا أربعة نفر وامرأتين، فذكر الحديث، وفيه: وأما عكرمة فركب البحر فأصابهم عاصف،
فقال أصحاب السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم هاهنا شيئا. فقال عكرمة:
والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره، اللهم إن لك علي
عهدا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا أضع يدي في يده، فلا أجدنه إلا عفوا
كريما. فقال: فجاء فأسلم.
(2) في المخطوطتين (الوارث بن عمرو)، وفي الدر المنثور: 6 / 530 (الوارث من بني
مازن بن حفصة)، وفي البحر المحيط: 7 / 194 (الحارث بن عمارة المحاربي) وفي تفسير
الكشاف: 3 / 217 (الحارث بن عمرو بن حارثة بن محارب)، وفي تفسير القرطبي: 14 / 83
عن مقاتل (الوارث بن عمرو بن حارثة).
يَنْزِلُ
الْغَيْثُ؟ وَتَرَكْتُ، امْرَأَتِي حُبْلَى، فَمَتَى تَلِدُ؟ وَقَدْ عَلِمَتُ
أَيْنَ وُلِدْتُ فَبِأَيِّ أَرْضٍ أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
(1) { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ
مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِ أَرْضٍ تَمُوتُ } وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "بِأَيَّةِ
أَرْضٍ"، وَالْمَشْهُورُ: "بِأَيِّ أَرْضٍ" لِأَنَّ الْأَرْضَ
لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّأْنِيثِ شَيْءٌ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْمَكَانَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيٌ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَاعِدَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السَّاعَةِ،
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ" (2) .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
__________
(1) الواحدي في أسباب النزول ص 402.
(2) أخرجه البخاري: في الاستسقاء، باب: لا يدري متى يجيء المطر إلا الله: 2 / 524،
والمصنف في شرح السنة: 4 / 422.
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
سُورَةُ
السَّجْدَةِ
مَكِّيَّةٌ (1) ، قَالَ عَطَاءٌ : إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ
"أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا" [إِلَى آخر ثلاث آيان] (2) (3) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا
مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا
شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) }
{ الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ
مُقَاتِلٌ: لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. { أَمْ
يَقُولُونَ } بَلْ يَقُولُونَ { افْتَرَاهُ } وَقِيلَ الْمِيمُ صِلَةٌ، أَيْ:
أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ. وَقِيلَ: "أَمْ"
بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ،
مَجَازُهُ فَهَلْ يُؤْمِنُونَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: { بَلْ
هُوَ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا
أَتَاهُمْ } أَيْ: لَمْ يَأْتِهِمْ، { مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ } قَالَ
قَتَادَةُ: كَانُوا أُمَّةً أُمِّيَّةً لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ قَبِلَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ:
ذَلِكَ فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمَا (5) { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا
تَتَذَكَّرُونَ }
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 534 لابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت (ألم) السجدة بمكة.
(2) أخرجه النحاس في معاني القرآن الكريم عن ابن عباس: ص 297.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الطبري: 21 / 90.
(5) انظر: البحر المحيط: 7 / 197.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) }
{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } أَيْ: يُحْكِمُ الْأَمْرَ وَيُنْزِلُ الْقَضَاءَ
وَالْقَدَرَ، { مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ } وَقِيلَ: يُنْزِلُ الْوَحْيَ
مَعَ جِبْرِيلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، { ثُمَّ يَعْرُجُ } يَصْعَدُ، {
إِلَيْهِ } جِبْرِيلُ بِالْأَمْرِ، { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ } أَيْ: فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَقَدْرِ
مَسِيرَةِ أَلْفِ سَنَةٍ، خمسمائة نزوله، وخسمائة صُعُودُهُ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، يَقُولُ: لَوْ سَارَ فِيهِ أَحَدٌ
مِنْ بَنِي آدَمَ لَمْ يَقْطَعْهُ إِلَّا فِي أَلْفِ سَنَةٍ، وَالْمَلَائِكَةُ
يَقْطَعُونَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، هَذَا فِي وَصْفِ عُرُوجِ الْمَلَكِ مِنَ
الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"
(الْمَعَارِجِ-4) ، أَرَادَ مُدَّةَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْأَرْضِ إِلَى سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى الَّتِي هِيَ مَقَامُ جِبْرِيلَ، يَسِيرُ جِبْرِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ
الَّذِينَ مَعَهُ مَنْ أَهْلِ مَقَامِهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي
يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. هَذَا كُلُّهُ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ
وَالضَّحَّاكِ (1) وَقَوْلُهُ: "إِلَيْهِ" أَيْ: إِلَى اللَّهِ.
وَقِيلَ: عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، أَيْ: إِلَى مَكَانِ الْمَلَكِ الَّذِي
أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْرُجَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلْفُ سَنَةٍ [وَخَمْسُونَ أَلْفَ] (2) سَنَةٍ كُلُّهَا فِي
الْقِيَامَةِ، يَكُونُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَطْوَلَ وَعَلَى بَعْضِهِمْ أَقْصَرَ،
مَعْنَاهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مُدَّةَ أَيَّامِ
الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْرُجُ أَيْ: يَرْجِعُ الْأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ إِلَيْهِ
بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا، وَانْقِطَاعِ أَمْرِ الْأُمَرَاءِ وَحُكْمِ
الْحُكَّامِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: "خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" فَإِنَّهُ
أَرَادَ عَلَى الْكَافِرِ يَجْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَيْهِ مِقْدَارَ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ دُونَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ: "أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَقَدْرِ صَلَاةٍ
مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا فِي الدُّنْيَا" (3) . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ
التَّيْمِيُّ: لَا يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِلَّا كَمَا بَيْنَ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ (4) .
__________
(1) انظر: الطبري: 21 / 91.
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرج الإمام أحمد: 3 / 75 عن أبي سعيد الخدري: "والذي نفسي بيده إنه
ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" وبهذا
النص أخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 129 وقال الشيخ الأرناؤوط وفيه ابن لهيعة
سيئ الحفظ، ودراج أبو السمح في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف، وحسنه الهيثمي في مجمع
الزوائد: 10 / 337 على ضعف في رواية.
(4) أورده الحاكم: 1 / 84 بلفظ: "يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر
والعصر".
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
وَيَجُوزُ
أَنَّ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ وَمَشَقَّتِهِ. وَقَالَ
ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَيْرُوزَ مَوْلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ ابْنُ فَيْرُوزَ عَنْ
هَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَيَّامٌ سَمَّاهَا اللَّهُ لَا أَدْرِي مَا هِيَ وَأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ (1) .
{ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي
الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ
كَافِرُونَ (10) }
{ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } يَعْنِي: ذَلِكَ الَّذِي صَنَعَ مَا
ذَكَرَهُ من خلق السموات والأرض 74/أ عَالِمُ مَا غَابَ عَنِ الْخَلْقِ وَمَا
حَضَرَ، { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }
قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: " خَلَقَهُ " بِفَتْحِ اللَّامِ
عَلَى الْفِعْلِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِهَا، أَيْ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ
شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتْقَنَهُ وَأَحْكَمَهُ. قَالَ قَتَادَةُ:
حَسَّنَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلِمَ كَيْفَ يَخْلُقُ كُلَّ شَيْءٍ، مِنْ
قَوْلِكَ: فُلَانٌ يُحْسِنُ كَذَا إِذَا كَانَ يَعْلَمُهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ كُلَّ
حَيَوَانٍ عَلَى صُورَتِهِ لَمْ يَخْلُقِ الْبَعْضَ عَلَى صُورَةِ الْبَعْضِ،
فَكُلُّ حَيَوَانٍ كَامِلٌ فِي خَلْقِهِ حُسْنٌ، وَكُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ
مُقَدَّرٌ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ مَعَاشُهُ. { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ
طِينٍ } يَعْنِي آدَمَ. { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } يَعْنِي ذُرِّيَّتَهُ، { مِنْ
سُلَالَةٍ } نُطْفَةٍ، سُمِّيَتْ سُلَالَةً لِأَنَّهَا تُسَلُّ مِنَ الْإِنْسَانِ
{ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } أَيْ: ضَعِيفٍ وَهُوَ نُطْفَةُ الرَّجُلِ. { ثُمَّ
سَوَّاهُ } ثُمَّ سَوَّى خَلْقَهُ، { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } ثُمَّ عَادَ
إِلَى ذُرِّيَّتِهِ، فَقَالَ: { وَجَعَلَ لَكُمْ } بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ نُطَفًا،
{ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } يَعْنِي:
لَا تَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَتُوَحِّدُونَهُ. { وَقَالُوا } يَعْنِي
مُنْكِرِي الْبَعْثِ، { أَئِذَا ضَلَلْنَا } هَلَكْنَا، { فِي الْأَرْضِ }
وَصِرْنَا تُرَابًا، وَأَصْلُهُ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 537-538 لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي
مليكة.
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
مِنْ
قَوْلِهِمْ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا ذَهَبَ، { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ } اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { بَلْ هُمْ
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } أَيْ: بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ (11) }
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) }
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ } يَقْبِضُ أَرْوَاحَكُمْ، { مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ } أَيْ: وُكِّلَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَهُوَ عِزْرَائِيلُ،
وَالتَّوَفِّي اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ
حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جُعِلَتْ لَهُ الدُّنْيَا مِثْلَ رَاحَةِ الْيَدِ
يَأْخُذُ مِنْهَا صَاحِبُهَا مَا أَحَبَّ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، فَهُوَ يَقْبِضُ
أَنْفُسَ الْخَلْقِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَهُ أَعْوَانٌ
مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ (1) . وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِنَّ خُطْوَةَ مَلَكِ الْمَوْتِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
(2) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جُعِلَتْ لَهُ الْأَرْضُ مِثْلَ طَسْتٍ يَتَنَاوَلُ
مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ (3) . وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ
عَلَى مِعْرَاجٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَنْزِعُ أَعْوَانُهُ رُوحَ
الْإِنْسَانِ فَإِذَا بَلَغَ ثَغْرَهُ نَحْرُهُ قَبَضَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ.
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: إِنَّ لِمَلَكِ
الْمَوْتِ حَرْبَةً تَبْلُغُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَهُوَ
يَتَصَفَّحُ وُجُوهَ النَّاسِ، فَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَمَلَكُ
الْمَوْتِ يَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا رَأَى
إِنْسَانًا قَدِ انْقَضَى أَجَلُهُ ضَرَبَ رَأَسَهُ بِتِلْكَ الْحَرْبَةِ،
وَقَالَ: الْآنَ يُزَارُ بِكَ عَسْكَرُ الْأَمْوَاتِ. قَوْلُهُ: { ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أَيْ: تَصِيرُونَ إِلَيْهِ أَحْيَاءً فَيَجْزِيكُمْ
بِأَعْمَالِكُمْ. { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ } الْمُشْرِكُونَ، {
نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } مُطَأْطِؤُ رُءُوسِهِمْ، { عِنْدَ رَبِّهِمْ } حَيَاءً
وَنَدَمًا، { رَبَّنَا } أَيْ: يَقُولُونَ رَبَّنَا، { أَبْصَرْنَا } مَا كُنَّا
بِهِ مُكَذِّبِينَ، { وَسَمِعْنَا } مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا أَتَتْنَا بِهِ
رُسُلُكَ. وَقِيلَ: أَبْصَرْنَا مَعَاصِيَنَا وَسَمْعَنَا مَا قِيلَ فِينَا، {
فَارْجِعْنَا } فَأَرْدُدْنَا إِلَى الدُّنْيَا، { نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ
} وَجَوَابُ لَوْ مُضْمَرٌ مَجَازُهُ لَرَأَيْتَ الْعَجَبَ.
__________
(1) انظر: الطبري: 21 / 541.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 543 لأبي الشيخ عن ابن عباس موقوفا.
(3) أخرجه الطبري: 21 / 97-98.
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا
بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ
الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) }
{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } رُشْدَهَا وَتَوْفِيقَهَا
لِلْإِيمَانِ، { وَلَكِنْ حَقَّ } وَجَبَ، { الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَهُوَ قَوْلُهُ لِإِبْلِيسَ:
"لَأَمْلَأَنَّ جهنم منك ومن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" (ص-85) .
ثُمَّ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ -وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا دَخَلُوا النَّارَ
قَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ-: { فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا } أَيْ: تَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، { إِنَّا نَسِينَاكُمْ
} تَرَكْنَاكُمْ، { وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ
بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا } وُعِظُوا بِهَا، { خَرُّوا سُجَّدًا
} سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ، { وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ }
قِيلَ: صَلُّوا بِأَمْرِ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: قَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ
وَبِحَمْدِهِ، { وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } عَنِ الْإِيمَانِ وَالسُّجُودِ
لَهُ. { تَتَجَافَى } تَرْتَفِعُ وَتَنْبُو، { جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }
جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُضْطَجَعُ عَلَيْهِ، يَعْنِي
الْفُرُشَ، وَهُمُ الْمُتَهَجِّدُونَ بِاللَّيْلِ، اللَّذَيْنِ يَقُومُونَ
لِلصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ قَالَ أَنَسٌ: نَزَلَتْ فِينَا
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ فَلَا نَرْجِعُ إِلَى
رِحَالِنَا حَتَّى نُصَلِّيَ الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1) .
وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُصَلُّونَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ
إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَازِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ، وَقَالَا هِيَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ (3) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ
لَتَحُفُّ بِالَّذِينِ يُصَلُّونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَهِيَ
صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 546 لابن مردويه، وذكره الواحدي في أسباب
النزول ص 404 .
(2) أخرجه الطبري: 21 / 100، وانظر الدر المنثور: 6 / 546.
(3) أخرجه البيهقي: 3 / 19، وقد عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 546 أيضا لمحمد
بن نصر.
وَقَالَ
عَطَاءٌ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ: هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْفَجْرَ
فِي جَمَاعَةٍ.
وَرُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ،
[وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ] (1) (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ صَالِحٍ
السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ
لَاسْتَهَمُّوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ،
وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ
حَبْوًا" (3) .
وَأَشْهُرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَجَمَاعَةٍ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مُعَاذِ
بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سَفَرِنَا فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَهُوَ يَسِيرُ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ
النَّارِ، قَالَ: "قَدْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لِيَسِيرٌ
عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ
شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ،
وَتَحْجُّ الْبَيْتَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ
الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ
الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، ثُمَّ قرأ: "تتجافى 74/ب جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضَاجِعِ" حَتَّى بَلَغَ "جَزَاءً بما كانوا يعلمون"،
ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ
سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "رَأْسُ الْأَمْرِ
الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ. ثُمَّ
قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لمؤاخذون بما تتكلم بِهِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ
يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه مسلم في المساجد، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة برقم: (656) 1 /
454، والمصنف في شرح السنة:2 / 231.
(3) أخرجه البخاري في الجماعة، باب:فضل التهجير إلى الظهر: 2 / 139، ومسلم في
الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها برقم: (437) 1 / 325، والمصنف في شرح السنة: 2
/ 230.
النَّاسَ
فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا
حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" (1) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرياني، أخبرنا حمد بْنُ
زَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي
مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي
إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ
اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى
رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ
وَلِحَافِهُ من بين حبه وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ"، فَيَقُولُ اللَّهُ
لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ من
بين حبه وَأَهْلِهِ إِلَى صِلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقًا مِمَّا
عِنْدِي، وَرَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْهَزَمَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ،
فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الِانْهِزَامِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ
فَقَاتَلَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ، [فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ:
"انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقًا مِمَّا
عِنْدِي حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ"] (3) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة: 7 / 362-365 وقال: (هذا
حديث حسن صحيح)، والنسائي في التفسير: 2 / 156-158، وابن ماجه في الفتن، باب: كف
اللسان في الفتنة برقم: (3973)، وعبد الرزاق في المصنف: 11 / 194، وعبد بن حميد في
المنتخب من المسند برقم: (112) ص 68-69، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر
الصلاة: 1 / 220، وأخرجه الحاكم مطولا: 2 / 412-413 وصححه على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي. قال ابن رجب: وله طرق عن معاذ كلها ضعيفة ص (255) لكن الحديث بمجموع طرقه
ورواياته يرتقي إلى درجة الصحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني: 3 /
115.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: 9 / 536، والبيهقي في السنن: 2 / 502، والحاكم: 1 / 308 وصححه على شرط
البخاري، ووافقه الذهبي، والمصنف في شرح السنة: 4 / 34. قال الهيثمي في مجمع
الزوائد: 2 / 251: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد الله بن صالح كاتب
الليث، قال عبد الملك بن شعيب: ابن الليث ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة،
وأخرجه الطبراني في الكبير عن سلمان الفارسي، وفيه عبد الرحمن بن سليمان، وثقه
دحيم وابن حبان وابن عدي، وضعفه أبو داود وأبو حاتم . وقد حسن الألباني الحديث في
إرواء الغليل: 2 / 199 / 202، وانظر: الترغيب والترهيب: 1 / 216.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 416، وابن حبان في موارد الظمآن برقم (643) ص (168)،
والمصنف في شرح السنة: 4 / 42-43، ولفقرات الحديث شواهد عند أبي داود في فضل
الثبات في الغزو، وعند الهيثمي في مجمع الزوائد: 2 / 255.
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
أَخْبَرَنَا
أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ
الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ"
(1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَارُ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ ابْنِ
مُعَانِقٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى
ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ
لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ،
وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ
بْنُ أَبِي سِنَانٍ، أَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ
يَذْكُرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: "إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ" يَعْنِي بِذَلِكَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، قَالَ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو
كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا
قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ
بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ (3)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: خَوْفًا مِنَ النَّارِ وَطَمَعًا فِي الْجَنَّةِ، { وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ.
وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ.
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) }
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ:
"أُخْفِي لَهُمْ" سَاكِنَةَ الْيَاءِ، أَيْ: أَنَا أُخْفِي لَهُمْ
وَمِنْ حُجَّتِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ "نُخْفِي" بِالنُّونِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. { مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } مِمَّا تَقَرُّ بِهِ
أَعْيُنُهُمْ، { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
__________
(1) أخرجه الترمذي في الصلاة ، باب: ما جاء في فضل صلاة الليل: 2 / 516 وقال: (
حديث أبي هريرة حديث حسن)، وأخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل صوم المحرم برقم:
(1163) 2 / 821 والمصنف في شرح السنة: 4 / 35.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (كتاب الجامع للإمام معمر) 11 / 418-419 ومن طريقه
أخرجه الإمام أحمد: 5 / 343، وصححه ابن حبان برقم: (641) ص 168، والطبراني في
الكبير: 3 / 342 قال الهيثمي في المجمع: 2 / 254 (رجاله ثقات) والمصنف في شرح
السنة: 4 / 40-41، وله شاهد عند الحاكم: 1 / 321 من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه
ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه البخاري في التهجد، باب: فضل من تعار من الليل فصلى: 3 / 39 .
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ
عَنِ الْأَعْمَشِ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ
وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا بَلْهَ مَا
أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ"، ثُمَّ قَرَأَ: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذَا مِمَّا لَا تَفْسِيرَ لَهُ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: أَخْفَوْا أَعْمَالَهُمْ فَأَخْفَى اللَّهُ ثَوَابَهُمْ.
{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ
لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا
يَسْتَوُونَ } نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ
عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَخِي عُثْمَانَ لِأُمِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ
بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَكَلَامٌ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ
لَعَلِيٍّ اسْكُتْ فَإِنَّكَ صَبِيٌّ وَأَنَا وَاللَّهُ أَبْسَطُ مِنْكَ لِسَانًا،
وَأَحَدُّ مِنْكَ سِنَانًا، وَأَشْجَعُ مِنْكَ جَنَانًا، وَأَمْلَأُ مِنْكَ
حَشْوًا فِي الْكَتِيبَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ فَاسِقٌ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا
لَا يَسْتَوُونَ } (1) وَلَمْ يَقُلْ: لَا يَسْتَوِيَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
مُؤْمِنًا وَاحِدًا وَفَاسِقًا وَاحِدًا، بَلْ أَرَادَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ
وَجَمِيعَ الْفَاسِقِينَ. { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى } الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ، {
نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ
لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 107، والواحدي في أسباب النزول ص 405-406، والسيوطي في
الدر المنثور: 6 / 553.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ
وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) }
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ }
أَيْ: سِوَى الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قَالَ أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ: "الْعَذَابِ
الْأَدْنَى" مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَأَسْقَامِهَا، وَهُوَ رِوَايَةُ
الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) . وَقَالَ
عِكْرِمَةُ عَنْهُ: الْحُدُودُ (2) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْجُوعُ سَبْعَ سِنِينَ
بِمَكَّةَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ وَالْكِلَابَ (3) . وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: هُوَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ (4) وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ
وَالسُّدِّيِّ، { دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } يَعْنِي: عَذَابَ الْآخِرَةِ، {
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إِلَى الْإِيمَانِ، يَعْنِي: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ
بَعْدَ بَدْرٍ وَبَعْدَ الْقَحْطِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ } يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، { مُنْتَقِمُونَ } { وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } يَعْنِي: فَلَا
تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ:
وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَمِّ
نَبِيِّكُمْ -يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ-عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي مُوسَى رَجُلًا آدَمَ
طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا
مَرْبُوعًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ والبياض، سبط 75/أ
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 109 ، والسيوطي في الدر المنثور: 6 / 554.
(2) أخرجه الطبري: 21 / 109، والسيوطي في الدر المنثور: 6 / 554.
(3) ذكره القرطبي: 14 / 107.
(4) أخرجه الطبري: 21 / 109، والسيوطي في الدر المنثور: 6 / 554 والحاكم: 2 / 414.
قال الإمام الطبري بعد أن ساق هذه الأقوال: (أولى في ذلك أن يقال: إن الله وعد
هؤلاء الفسقة المكذبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى أن يذيقموه دون العذاب
الأكبر، والعذاب: هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدة من مجاعة، أوقتل ،
أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكره، إذ
وعدهم ذلك أن يعذبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل
والجوع والشدائد والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم.
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
الرَّأْسِ،
وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ
اللَّهُ إِيَّاهُ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُؤَذِّنُ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُونُسَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَبِيبٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ
التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ رَأَيْتُ مُوسَى يُصَلِّي
فِي قَبْرِهِ" (2) .
وَرُوِّينَا فِي الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ
وَمُرَاجَعَتِهِ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ (3) .
قَالَ السُّدِّيُ: "فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ"، أَيْ:
مِنْ تَلَقِّي مُوسَى كِتَابَ اللَّهِ بِالرِّضَا وَالْقَبُولِ.
{ وَجَعَلْنَاهُ } يَعْنِي: الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
مُوسَى، { هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ }
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ
زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) }
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ } يَعْنِي: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، { أَئِمَّةً }
قَادَةً فِي الْخَيْرِ يُقْتَدَى بِهِمْ، يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ
كَانُوا فِيهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، { يَهْدُونَ }
يَدْعُونَ، { بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ،
بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَيْ: لِصَبْرِهِمْ، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: حِينَ صَبَرُوا عَلَى
دِينِهِمْ وَعَلَى الْبَلَاءِ مِنْ عَدُّوهُمْ بِمِصْرَ، { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ } { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ } يَقْضِي، { بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } { أَوَلَمْ يَهْدِ } لَمْ
يَتَبَيَّنْ، { لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ
يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ }
آيات الله وعظائه فَيَتَّعِظُونَ بِهَا . { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ
الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ } أَيْ: الْيَابِسَةِ الْغَلِيظَةِ الَّتِي
لَا نَبَاتَ فِيهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: هِيَ أَرْضُ بَابِينِ، { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ
أَنْعَامُهُمْ }
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق ، باب: إذا قال أحدكم آمين: 6 / 314، ومسلم في
الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم: (165)
1 / 151.
(2) أخرجه مسلم في الفضائل ، باب: من فضائل موسى عليه السلام برقم: (2375) 4 /
1845، والمصنف في شرح السنة 13 / 351.
(3) انظر: فيما تقدم أول سورة الإسراء.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
[مِنَ
الْعُشْبِ وَالتِّبْنِ] (1) { وَأَنْفُسُهُمْ } مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَقْوَاتِ، {
أَفَلَا يُبْصِرُونَ }
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
(29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) }
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قِيلَ: أَرَادَ
بِيَوْمِ الْفَتْحِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي فِيهِ الْحُكْمُ بَيْنَ
الْعِبَادِ، قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْكُفَّارِ: إِنْ لَنَا يَوْمًا نَتَنَعَّمُ فِيهِ وَنَسْتَرِيحُ
وَيُحْكَمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَقَالُوا اسْتِهْزَاءً: مَتَى هَذَا
الْفَتْحُ (2) ؟ أَيْ: الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي
فَتْحَ مَكَّةَ (3) .وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّ أَصْحَابَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ
نَاصِرُنَا وَمُظْهِرُنَا عَلَيْكُمْ، فَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ (4) . {
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِيمَانُهُمْ } وَمَنْ حَمَلَ الْفَتْحَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ أَوِ الْقَتْلِ
يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ
إِذَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَقُتِلُوا، { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } لَا
يُمْهَلُونَ لِيَتُوبُوا وَيَعْتَذِرُوا. { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ، { وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ }
قِيلَ: انْتَظِرْ مَوْعِدِي لَكَ بِالنَّصْرِ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بِكَ
حَوَادِثَ الزَّمَانِ. وَقِيلَ: انْتَظِرْ عَذَابَنَا فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ
مُنْتَظِرُونَ ذَلِكَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ { آلَمَ تَنْزِيلُ } وَ{
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } (5) .
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 21 / 116، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 557 لابن أبي
حاتم.
(3) انظر: الطبري 21 / 116.
(4) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: 3 / 456 (ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح
مكة فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسلام الطلقاء، وقد كانوا قريبا من ألفين، ولو كان المراد فتح
مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: " قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا
إيمانهم ولا هم ينظرون" وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل.
(5) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الفجر: 2 / 377 وفي سجود
القرآن، باب: سجدة تنزيل السجدة" ومسلم في الجمعة ، باب: ما يقرأ في الجمعة
برقم: (880) 2 / 599 والمصنف في شرح السنة: 3 / 81.
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا
حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ:
"تَبَارَكَ" وَ"آلم تَنْزِيلُ" (1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب: ما جاء في سورة الملك: 8 / 201-202،
والدارمي: 2 / 455، والإمام أحمد: 3 / 340، والحاكم: 2 / 412، وصححه الشيخ
الألباني في الصحيحة: 2 / 129، والمصنف في شرح السنة: 4 / 472.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
سُورَةُ
الْأَحْزَابِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي الْأَعْوَرِ وَعَمْرِو بْنِ
سُفْيَانَ السُّلَمِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَنَزَلُوا
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ [بْنِ سَلُولٍ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ] (2)
بَعْدَ قِتَالِ أُحُدٍ، وَقَدْ أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوهُ، فَقَامَ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ، فَقَالُوا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا، اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَقُلْ:
إِنَّ لَهَا شَفَاعَةٌ لِمَنْ عَبَدَهَا، وَنَدَعُكَ وَرَبَّكَ، فَشَقَّ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لَنَا فِي قَتْلِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ
الْأَمَانَ، فَقَالَ عُمَرُ: اخْرُجُوا فِي لَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ
الْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } (3) أَيْ: دُمْ عَلَى التَّقْوَى،
كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ قائم: قم ها هنا، أَيِ: اثْبُتْ قَائِمًا.
وَقِيلَ الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ (4) .وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ اتَّقِ اللَّهَ
وَلَا تَنْقُضِ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ.
__________
(1) قال النحاس في معاني القرآن الكريم ص 317 (قال ابن عباس: وهي مدنية)، وعزاه
السيوطي في الدر المنثور: 6 / 558 أيضا لابن الضريس، وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول ص 407 دون إسناد، ونقله القرطبي: 14 / 114
بصيغة التمريض عن الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم، وانظر معاني القرآن
للفراء: 2 / 334 .
(4) انظر: البحر المحيط 7 / 210، زاد المسير: 6 / 348.
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ } مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ،
وَعِكْرِمَةَ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ، { وَالْمُنَافِقِينَ } مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ،
وَطُعْمَةَ { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا } بِخَلْقِهِ، قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَهُمْ، { حَكِيمًا } فِيمَا دَبَّرَهُ لَهُمْ.
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ
أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) }
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "يَعْمَلُونَ خَبِيرًا"
وَ"يَعْمَلُونَ بَصِيرًا" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ غَيْرُهُ
بِالتَّاءِ. { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ثِقْ بِاللَّهِ، { وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا } حَافِظًا لَكَ، وَقِيلَ: كَفِيلًا بِرِزْقِكَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نَزَلَتْ فِي أَبِي
مَعْمَرٍ، جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْفِهْرِيِّ، وَكَانَ رَجُلًا لَبِيبًا حَافِظًا
لِمَا يَسْمَعُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا حَفِظَ أَبُو مَعْمَرٍ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ إِلَّا وَلَهُ قَلْبَانِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ لِي قَلْبَيْنِ
أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَفْضَلَ مِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا
هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ انْهَزَمَ أَبُو مَعْمَرٍ فِيهِمْ،
فَلَقِيَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَإِحْدَى نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ، وَالْأُخْرَى فِي
رِجْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مَعْمَرٍ مَا حَالُ النَّاسِ؟ قَالَ
انْهَزَمُوا، قَالَ: فَمَا لك إحدى 75/ب نَعْلَيْكَ فِي يَدِكَ وَالْأُخْرَى فِي
رِجْلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: مَا شَعَرْتُ إِلَّا أَنَّهُمَا فِي رِجْلِي،
فَعَلِمُوا يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ لَمَا نَسِيَ نَعْلَهُ
فِي يَدِهِ (1) .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِلْمُظَاهِرِ مِنِ امْرَأَتِهِ وَلِلْمُتَبَنِّي وَلَدَ غَيْرِهِ، يَقُولُ:
فَكَمَا لَا يَكُونُ لِرَجُلٍ قَلْبَانِ كَذَلِكَ لَا تكون امرأة للمظاهر أُمَّهُ
حَتَّى تَكُونَ أُمَّانِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ ابْنَ رَجُلَيْنِ (2)
.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 407-408 دون إسناد، وانظر: البحر المحيط: 7 /
211، زاد المسير: 6 / 349.
(2) انظر: الطبري: 21 / 119، ثم قال مرجحا: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب
قوله من قال: ذلك تكذيب من الله تعالى قوله من قال لرجل في جوفه قلبان يعقل بهما ،
على النحو الذي روي عن ابن عباس، وجائز أن يكون ذلك تكذيبا من الله لمن وصف رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وان يكون تكذيبا لمن سمى القرشي
الذي ذكر أنه سمى ذا القلبين من دهيه، وأي الأمرين كان فهو نفي من الله عن خلقه من
الرجال أن يكونوا بتلك الصفة". وانظر: معاني القرآن الكريم للنحاس ص 318-320.
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{
وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ }
قَرَأَ أَهْلُ الشام والكوفة: "اللاتي" ها هنا وَفِي سُورَةِ الطَّلَاقِ
بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَيَعْقُوبَ بِغَيْرِ
يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ، وَكُلُّهَا
لُغَاتٌ مَعْرُوفَةٌ، "تُظَاهِرُونَ" قَرَأَ عَاصِمٌ بِالْأَلِفِ
وَضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ (1) الْهَاءِ مُخَفَّفًا، [وَقَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ مُخَفَّفًا] (2) وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا
وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ بَيْنَهُمَا.
وَصُورَةُ الظِّهَارِ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ نِسَاءَكُمُ اللَّائِي
تَقُولُونَ لَهُنَّ هَذَا فِي التَّحْرِيمِ كَأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَكِنَّهُ
مُنْكَرٌ وَزُورٌ، وَفِيهِ كَفَّارَةٌ نَذْكُرُهَا [إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى]
(3) فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ.
{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ } يَعْنِي: مَنْ تَبَنَّيْتُمُوهُ { أَبْنَاءَكُمْ
} فِيهِ نَسْخُ التَّبَنِّي، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ
يَتَبَنَّى الرَّجُلَ فَيَجْعَلُهُ كَالِابْنِ الْمَوْلُودِ لَهُ، يَدْعُوهُ
النَّاسُ إِلَيْهِ، وَيَرِثُ مِيرَاثَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْكَلْبِيَّ،
وَتَبَنَّاهُ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَمْزَةَ بْنِ عَبَدِ
الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَ
الْمُنَافِقُونَ تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأَةَ ابْنِهِ وَهُوَ يَنْهَى النَّاسَ
عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَنَسَخَ التَّبَنِّي (4) {
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } لَا حَقِيقَةَ لَهُ يَعْنِي قَوْلَهُمْ
زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِّعَاءُ نَسَبٍ لَا
حَقِيقَةَ لَهُ، { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } أَيْ: قَوْلُهُ الْحَقُّ، {
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أَيْ: يُرْشِدُ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ.
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا
آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) }
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمُ } الَّذِينَ وَلَدُوهُمْ، { هُوَ أَقْسَطُ } أَعْدَلُ،
{ عِنْدَ اللَّهِ } أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا
كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ (5) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ما بين الأقواس ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 408 دون إسناد.
(5) أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحزاب، باب: " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند
الله" 8 / 517، ومسلم في فضائل الصحابة باب: فضائل زيد بن حارثة برقم: (2425)
4 / 1884.
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا
آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ] (1) { فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ } إِنْ كَانُوا مُحَرَّرِينَ وَلَيْسُوا بِبَنِيكُمْ، أَيْ:
سَمُّوهُمْ بِأَسْمَاءِ إِخْوَانِكُمْ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ:
"مَوَالِيكُمْ" أَيْ: أَوْلِيَاءُكُمْ فِي الدِّينِ، { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } قَبْلَ النَّهْيِ فَنَسَبْتُمُوهُ إِلَى
غَيْرِ أَبِيهِ، { وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى
غَيْرِ آبَائِهِمْ بَعْدَ النَّهْيِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: "فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ" أَنْ تَدْعُوهُ لِغَيْرِ
أَبِيهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَمَحَلُّ "مَا" فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا تَعَمَّدَتْ" خَفْضٌ رَدًّا عَلَى
"مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ "فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ"
مَجَازُهُ: وَلَكِنْ فِيمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ
عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا، وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَبَا بَكْرَةَ وَكَانَ قَدْ
تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ، فَجَاءَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ
يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامُّ" (2) .
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
} يَعْنِي مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبِ
طَاعَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: يَعْنِي إِذَا دَعَاهُمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى
شَيْءٍ كَانَتْ طَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى
بِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ (3) . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا قَضَى فِيهِمْ، كَمَا أَنْتَ
أَوْلَى بِعَبْدِكَ فِيمَا قَضَيْتَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَوْلَى بِهِمْ فِي
الْحَمْلِ عَلَى الْجِهَادِ وَبَذْلِ النَّفْسِ دُونَهُ.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة الطائف: 8 / 45، ومسلم في الإيمان، باب:
بيان حال إيمان من يرغب عن أبيه وهو يعلم برقم: (63) 1 / 80، والمصنف في شرح
السنة: 9 / 272.
(3) انظر: زاد المسير: 6 / 352.
وَقِيلَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إِلَى الْجِهَادِ
فَيَقُولُ قَوْمٌ: نَذْهَبُ فَنَسْتَأْذِنُ مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الواحد عبد الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى
بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" ، اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ { النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ
مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا
فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ:
"وَأَزْوَاجُهُ وَأُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ" وَهُنَّ
أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَعْظِيمِ حَقِّهِنَّ وَتَحْرِيمِ نكاحهن على
التأييد، لَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَالْخَلْوَةِ بِهِنَّ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ
فِي حَقِّهِنَّ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ" (الْأَحْزَابِ-53) ، وَلَا يُقَالُ لِبَنَاتِهِنَّ هُنَّ أَخَوَاتُ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَا لِأِخْوَانِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ هُمْ أَخْوَالُ
الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَاتُهُمْ (2) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَزَوَّجَ الزُّبَيْرُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ،
وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَقُلْ هِيَ خَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ
(3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُنَّ هَلْ كُنَّ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ؟
قِيلَ: كُنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَمِيعًا.
وَقِيلَ كُنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النِّسَاءِ، رَوَى الشَّعْبِيُّ
عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
قَالَتْ يَا أُمَّهْ! فَقَالَتْ لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ إِنَّمَا أَنَا أَمُّ
رِجَالِكُمْ (4) فَبَانَ بِهَذَا مَعْنَى هَذِهِ الْأُمُومَةِ تَحْرِيمُ
نِكَاحِهِنَّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ } يَعْنِي: فِي الْمِيرَاثِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ
الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: آخَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُؤَاخِي
بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الْآخَرُ دُونَ عَصَبَتِهِ،
حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } (5) 76/أ فِي حُكْمِ اللَّهِ، { مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } الَّذِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الاستقراض، باب: الصلاة على من ترك دَينًا 5 / 61، ومسلم في
الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته برقم: (1619) 3 / 1238 بمعناه، والمصنف في شرح
السنة: 8 / 324.
(2) انظر القرطبي: 14 / 123.
(3) انظر القرطبي: 14 / 123.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 567 لابن سعد وابن المنذر والبيهقي في
سننه، وانظر الكافي الشاف ص 132.
(5) انظر: ابن كثير في التفسير: 3 / 469، القرطبي: 14 / 123-124.
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، { وَالْمُهَاجِرِينَ } يَعْنِي ذَوِي
الْقَرَابَاتِ، بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ مِنْ أَنْ يَرِثَ
بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُوَارَثَةَ
بِالْمُؤَاخَاةِ وَالْهِجْرَةِ وَصَارَتْ بِالْقَرَابَةِ.
قَوْلُهُ: { إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أَرَادَ
بِالْمَعْرُوفِ الْوَصِيَّةَ [لِلَّذِينِ يَتَوَلَّوْنَهُ مِنَ الْمُعَاقِدَيْنِ،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَسَخَ التَّوَارُثَ بِالْحَلِفِ وَالْهِجْرَةِ
أَبَاحَ أَنْ يُوصِيَ الرَّجُلُ لِمَنْ يَتَوَلَّاهُ بِمَا أَحَبَّ مِنْ ثُلُثِهِ]
(1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمَعْرُوفِ النُّصْرَةَ وَحِفْظَ الْحُرْمَةِ
لِحَقِّ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْآيَةِ إِثْبَاتَ الْمِيرَاثِ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ،
يَعْنِي: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، أَيْ: لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ
وَالْكَافِرِ وَلَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَغَيْرِ الْمُهَاجِرِ إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا، أَيْ: إِلَّا أَنْ تُوصُوا لِذَوِي
قَرَابَاتِكُمْ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ،
وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ (2) .
{ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أَيْ: كَانَ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ
أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ مَسْطُورًا مَكْتُوبًا. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: فِي التَّوْرَاةِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ذكر هذه الأقوال الطبري: 21 / 124 ثم قال مرجحا: "وأولى الأقوال في ذلك
عندي بالصواب أن يقال: معنى ذلك إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار،
معروفا من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم، وما أشبه ذلك، لأن كل ذلك من المعروف
الذي حدث الله عليه عباده. وإنما اخترت هذا القول وقلت: هو أولى بالصواب من قيل من
قال: عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك، لأن القريب من المشرك، وإن كان ذا نسب
فليس بالمولى، وذلك لأن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك وقد نهى الله
المؤمنين أن يتخذوا منهم وليا بقول: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء"
وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء ثم يصفهم جل ثناؤه بأنهم هم أولياء).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا
غَلِيظًا (7) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ }
عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا حَمَلُوا وَأَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُبَشِّرَ
بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَخَذَ مِيثَاقَهَمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا
اللَّهَ وَيَدْعُوا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَيُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَيَنْصَحُوا لِقَوْمِهِمْ، { وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } خَصَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ
النَّبِيِّينَ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وَأُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَقَدَّمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ لِمَا:
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَدِيثِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُقْرِئُ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ السَّاعِدِيُّ، أَخْبَرَنَا
هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي،
أَخْبَرَنَا سَعِيدُ -يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ-عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي
الْبَعْثِ" (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } فَبَدَأَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَهُمْ.
{ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } عَهْدًا شَدِيدًا عَلَى الْوَفَاءِ
بِمَا حُمِّلُوا.
{ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) }
{ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ } يَقُولُ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
[لِكَيْ نَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، يَعْنِي النَّبِيِّينَ عَنْ
تَبْلِيغِهِمِ] (2) الرِّسَالَةَ. وَالْحِكْمَةُ فِي سُؤَالِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ
أَنَّهُمْ صَادِقُونَ، تَبْكِيتُ (3) مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ عَمَلِهِمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ بِأَفْوَاهِهِمْ عَنْ صِدْقِهِمْ فِي
قُلُوبِهِمْ. { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا } قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
} وَذَلِكَ حِينَ حُوصِرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، { إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ } يَعْنِي
الْأَحْزَابَ، وَهُمْ قُرَيْشٌ، وَغَطَفَانُ، وَيَهُودُ قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ،
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا } وَهِيَ الصَّبَا، قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَتِ
الْجَنُوبُ لِلشَّمَالِ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ انْطَلِقِي نَنْصُرْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ الشَّمَالُ إِنَّ الْحَرَّةَ
لَا تَسْرِي بِاللَّيْلِ، وَكَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ
الصَّبَا (4)
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 125، وعزاه ابن كثير في التفسير: 3 / 470 لابن أبي حاتم،
وقال: (سعيد بن بشير فيه ضعف، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا، وهو
أشبه، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا. والله أعلم).
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) في "ب" بتكذيب.
(4) انظر: القرطبي: 14 / 143-144.
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا آدَمُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا،
وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَلَمْ
تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ رِيحًا بَارِدَةً فَقَلَعَتِ الْأَوْتَادَ، وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ
الْفَسَاطِيطِ، وَأَطْفَأَتِ النِّيرَانَ، وَأَكْفَأَتِ الْقُدُورَ، وَجَالَتِ
الْخَيْلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَكَثُرَ تَكْبِيرُ الْمَلَائِكَةِ فِي جَوَانِبَ
عَسْكَرِهِمْ حَتَّى كَانَ سَيِّدُ كُلِّ حَيٍّ يَقُولُ: يَا بَنِي فُلَانٍ
هَلُمَّ إِلَيَّ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ،
لِمَا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الرُّعْبِ فَانْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ
قِتَالٍ.
{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ
فِي بَعْضٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ، مِنْهُمْ سَلَامُ بْنُ أَبِي
الْحُقَيْقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي
الْحُقَيْقِ، وَهَوْدَةُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبِي عَمَّارٍ الْوَائِلِيُّ، فِي نَفَرٍ
مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَنَفَرٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَهُمُ الَّذِينَ حَزَّبُوا
الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجُوا
حَتَّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ
إِنَّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ
فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، فَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟ قَالُوا: بَلْ
دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُمْ، قَالَ:
فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ"،
إِلَى قَوْلِهِ: "وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا" (النِّسَاءِ 51-55) .
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ سَرَّهُمْ مَا قَالُوا وَنَشِطُوا لِمَا
دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَجْمَعُوا لِذَلِكَ، ثُمَّ
خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنَ الْيَهُودِ حَتَّى جَاءُوا غَطَفَانَ مِنْ قَيْسِ
غَيْلَانَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ
مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَدْ بَايَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ،
فَأَجَابُوهُمْ.
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ، وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ
غَطَفَانُ، وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فِي
فَزَارَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ فِي بَنِي
مُرَّةَ، وَمَسْعُودُ بْنُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (نصرت بالصبا) 2 / 52، ومسلم في الاستسقاء، باب: في ريح الصبا والدبور،
برقم (900) 2 / 617، والمصنف في شرح السنة: 4 / 387.
والصَّبَا: ريح، ومهبها المستوي أن تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار.
والدَّبَور: الريح التي تقابل الصبا، وقال النووي: هي الريح الغربية.
رُخَيْلَةَ
بْنِ نُوَيْرَةَ بْنِ طَرِيفٍ فِيمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ من أشجع 76/ب
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِمَا اجْتَمَعُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْخَنْدَقِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَكَانَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ
سَلْمَانُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ حُرُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِفَارِسَ إِذَا
حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا عَلَيْهَا، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَحْكَمُوهُ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ
عَامَ الْأَحْزَابِ ثُمَّ قَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، قَالَ:
فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَكَانَ
رَجُلًا قَوِيًّا، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَ
الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ" (2) .
قَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ: كُنْتُ أَنَا وَسَلْمَانُ وَحُذَيْفَةُ وَالنُّعْمَانُ
بْنُ مُقَرِّنٍ الْمَازِنِيُّ وَسِتَّةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَرْبَعِينَ
ذِرَاعًا فَحَفَرْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا تَحْتَ ذِي نَابٍ أَخْرَجَ اللَّهُ فِي
بَطْنِ الخندق صخرة مرورة كَسَرَتْ حَدِيدَنَا وَشَقَّتْ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا:
يَا سَلْمَانُ ارْقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَخْبِرْهُ خَبَرَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا فَإِنَّ
الْمَعْدِلَ قَرِيبٌ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا فِيهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّا لَا
نُحِبُّ أَنْ نُجَاوِزَ خَطَّهُ، قَالَ: فَرَقِيَ سَلْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ضَارِبٌ عَلَيْهِ قُبَّةً تُرْكِيَّةً،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَتْ صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ مَرْوَةٌ مِنْ بَطْنِ
الْخَنْدَقِ فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا وَشَقَّتْ عَلَيْنَا حَتَّى مَا يَحِيكُ فِيهَا
قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، فَمُرْنَا فِيهَا بِأَمْرِكَ، فَإِنَّا لَا نُحِبُّ أَنْ
نُجَاوِزَ خَطَّكَ، فَهَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ سَلْمَانَ الْخَنْدَقَ وَالتِّسْعَةُ عَلَى شَقِّ الْخَنْدَقِ، فَأَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ مِنْ سَلْمَانَ
فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً صَدَّعَهَا وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ
لَابَّتَيْهَا -يَعْنِي الْمَدِينَةَ-حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ
بَيْتٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبيرا
فَتْحٍ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِيَةَ وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ
لَابَّتَيْهَا حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ بَيْتٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَ فَتْحٍ وَكَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَسَرَهَا، وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا
حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ بَيْتٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَ فَتْحٍ، وَكَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ بِيَدِ سَلْمَانَ وَرَقِيَ، فَقَالَ
__________
(1) رواه ابن إسحاق في السيرة عن ابن هشام: 3 / 214 وما بعدها، وأخرجه الطبري: 21
/ 129-131 .
(2) أخرجه الطبري: 21 / 133-134 ، والحاكم: 3 / 598 وسكت عنه، وقال الذهبي: سنده
ضعيف، والطبراني: 6 / 261. وانظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس: 1 / 558، قال الهيثمي
في مجمع الزوائد: 6 / 130 رواه الطبراني، وفيه كثير بن عبد الله المزني، وقد ضعفه
الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات.
سَلْمَانُ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ شَيْئًا مَا
رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ مَا يَقُولُ
سَلْمَانُ"؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "ضَرَبْتُ
ضَرْبَتِي الْأُولَى فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ
الْحَيْرَةِ وَمَدَائِنَ كِسْرَى كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، فَأَخْبَرَنِي
جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي
الثَّانِيَةَ فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ
الْحَيْرَةِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، فَأَخْبَرَنِي
جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي
الثَّالِثَةَ فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ
صَنْعَاءَ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، فَأَبْشِرُوا"،
فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ مُوْعِدَ صِدْقٍ،
وَعَدَنَا النَّصْرَ بَعْدَ الْحَصْرِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَا
تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَعِدُكُمْ وَيُمَنِّيكُمُ الْبَاطِلَ وَيُخْبِرُكُمْ
أَنَّهُ يُبْصِرُ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيْرَةِ وَمَدَائِنَ كِسْرَى،
وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ وَأَنْتُمْ إِنَّمَا تَحْفُرُونَ الْخَنْدَقَ مِنَ
الْفَرَقِ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبَرَّزُوا؟ قَالَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ:
"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ" (1) الْآيَةَ (آلِ عِمْرَانَ-26) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ،
عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ
يَعْمَلُونَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ
وَالْجُوعِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ،
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ"، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِيْنَا أَبَدًا
(2)
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ -أَوِ اغْبَرَّ-وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ
لَوْلَا مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ: أَبَيْنَا أَبَيْنَا (3) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 134، قال الهيثمي في المجمع: 6 / 131: رواه الطبراني
بإسنادين في أحدهما حيي بن عبد الله وثقه ابن معين وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال
الصحيح، وانظر: سيرة ابن هشام: 3 / 214-219.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة الخندق: 7 / 392 والمصنف في شرح السنة:
14 / 4.
(3) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة الخندق: 7 / 399، ومسلم في الجهاد والسير،
باب: عزوة الأحزاب برقم (1803) 3 / 1430-1431 ، والمصنف في شرح السنة: 14 / 4-5.
رَجَعْنَا
إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ
بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُوْمَةَ مِنَ الْجُرُفِ وَالْغَابَةِ (1) فِي
عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ
نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا
ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ
عَسْكَرُهُ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ. وَأَمَرَ بِالنِّسَاءِ
وَالذَّرَارِي فَرُفِعُوا فِي الْآطَامِ.
وَخَرَجَ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ حَتَّى
أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ، صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ
وَعَهْدِهِمْ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
77/أ عَلَى قَوْمِهِ وَعَاهَدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ
بْنِ أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونَهُ حِصْنَهُ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ
يَفْتَحَ لَهُ، فَنَادَاهُ حُيَيُّ: يَا كَعْبُ افْتَحْ لِي، فَقَالَ: وَيْحَكَ
يَا حُيَيُّ إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْؤُومٌ وَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا،
فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا وَفَاءً
وَصِدْقًا. قَالَ: وَيْحَكَ افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ،
قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إِلَّا عَلَى جَشِيشَتِكَ أَنْ آكُلَ
مَعَكَ مِنْهَا، فَأَحْفَظَ الرَّجُلَ، فَفَتْحَ لَهُ، فَقَالَ:وَيْحَكَ يَا
كَعْبُ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍّ، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى
قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ
رُومَةَ، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ
بِذَنَبِ نَقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، قَدْ عَاهَدُونِي وَعَاقَدُونِي أَنْ لَا
يَبْرَحُوا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ لَهُ كَعْبُ
بْنُ أَسَدٍ: جِئْتَنِي وَاللَّهِ بَذُلِّ الدَّهْرِ وَبِجَهَامٍ قَدْ هُرَاقَ
مَاؤُهُ بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَدَعْنِي وَمُحَمَّدًا وَمَا
أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا صِدْقًا وَوَفَاءً،
فَلَمْ يَزَلْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ بِكَعْبٍ يَفْتِلُهُ فِي الذِّرْوَةِ
وَالْغَارِبِ حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ مِنَ اللَّهِ عَهْدًا
وَمِيثَاقًا. لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا
أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ، فَنَقَضَ
كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ وَتَبَرَّأَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْخَبَرُ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، أَحَدَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَوْسِ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَحَدَ بَنِي سَاعِدَةَ،
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَمَعَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ،
أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا، أَحَقٌّ
مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ
__________
(1) في سيرة ابن هشام: 3 / 220 (زغابة) قال أبو ذر: "كذا وقع هنا بالزاء
مفتوحة، ورغابة بالراء المفتوحة هو الجيد، وكذلك رواه الوقشي".
حَقًّا
فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ،
وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهُرُوا بِهِ
جَهْرًا لِلنَّاسِ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوَهُمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ
مَا بَلَغَهُمْ مِنْهُمْ، وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَا عَقْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ولا عهد، فشاتمتهم
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَشَاتَمُوهُ، وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حِدَّةٌ، فَقَالَ لَهُ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: دَعْ عَنْكَ مُشَاتَمَتَهُمْ فَإِنَّ مَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنَ الْمُشَاتَمَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدٌ وَسَعْدٌ وَمَنْ
مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمُوا
عَلَيْهِ وَقَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَةُ، لِغَدْرِ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ
بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَصْحَابِ
الرَّجِيعِ: خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ.
وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ عَدُوُّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ
ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى قَالَ مُعَتِّبُ
بْنُ قُشَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ
نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ
إِلَى الْغَائِطِ، مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا، وَحَتَّى
قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ قَيْظِيٍّ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَذَلِكَ عَلَى مَلَأٍ مِنْ
رِجَالِ قَوْمِهِ، فَائْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى دِيَارِنَا فَإِنَّهَا
خَارِجَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ.
فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ
الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ،
وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ حَرْبٌ إِلَّا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ وَالْحَصَى.
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى النَّاسِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حَفْصٍ، وَإِلَى الْحَارِثِ
بْنِ عُمَرَ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ
الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ
الصُّلْحُ، حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ، فَذَكَرَ
ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،
وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَشِيءٌ أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ أَمْرٌ
تُحِبُّهُ فَتَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: لَا بَلْ [شَيْءٌ
أَصْنَعُهُ] (1) لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ
الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كل جانب،
فأدرت أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى شِرْكٍ
بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ،
وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً وَاحِدَةً إِلَّا قِرًى
أَوْ بَيْعًا، فَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَأَعَزَّنَا بِكَ
نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! مَالَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لَا
نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ،
[فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) فَأَنْتَ
وَذَاكَ. فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ، فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابَةِ،
ثُمَّ قَالَ: لِيُجْهِدُوا عَلَيْنَا.
__________
(1) غير وارد في المخطوطتين وقد أخذ من السيرة ولا يتم المعنى إلا به.
(2) ساقط من "ب".
فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ،
وَعَدُوُّهُمْ مُحَاصِرُوهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ
فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، أَخُو بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي
وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَضِرَارُ بْنُ
الْخَطَّابِ، وَمِرْدَاسٌ أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، قَدْ تَلَبَّسُوا
لِلْقِتَالِ وَخَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ وَمَرُّوا عَلَى بَنِي كِنَانَةَ
فَقَالُوا: تَهَيَّئُوا لِلْحَرْبِ يَا بَنِي كِنَانَةَ، فَسَتَعْلَمُونَ
الْيَوْمَ مَنِ الْفُرْسَانُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَ الْخَنْدَقِ حَتَّى
وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ
لِمَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا.
ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا فَضَرَبُوا خُيُولَهُمْ
فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ
وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ الَّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ،
وَأَقْبَلَتِ الْفُرْسَانُ تُعْنِقُ نَحْوَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ
وُدٍّ وَقَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، [فَلَمْ
يَشْهَدْ أُحُدًا] (1) فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلَمًا
لِيُرَى مَكَانُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ، قَالَ لَهُ عَلِيُّ: يَا
عَمْرُو إِنَّكَ كُنْتَ تُعَاهِدُ اللَّهَ أَنْ لَا يَدْعُوكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ
إِلَى إِحْدَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْتَ مِنْهُ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: أَجَلْ،
فَقَالَ له علي 77/ب بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ
وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، قَالَ:
فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى الْبِرَازِ (2) قال: ولِمَ يا ابن أَخِي، فَوَاللَّهِ
مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، قَالَ عَلِيٌّ: وَلَكِنِّي وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ
أَقْتُلَكَ، فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ،
فَعَقَرَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَنَاوَلَا
وَتَجَاوَلَا فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، فَخَرَجَتْ خَيْلُهُ مُنْهَزِمَةً حَتَّى
اقْتَحَمَتْ مِنَ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً، وَقُتِلَ مَعَ عَمْرٍو رَجُلَانِ:
مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ،
أَصَابَهُ سَهْمٌ، فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ
فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ قَتْلُهُ أَحْسَنُ
مِنْ هَذِهِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى جَسَدِهِ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَثَمَنِهِ، فَشَأْنُكُمْ بِهِ،
فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي حِصْنِ
بَنِي حَارِثَةَ، وَكَانَ مِنْ أَحْرَزِ حُصُونِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَنَا فِي الْحِصْنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ
عَلَيْنَا الْحِجَابُ، فَمَرَّ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ
مُقَلَّصَةٌ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلُّهَا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ
وَهُوَ يَقُولُ: لَبِّثْ قليلا ندركِ الْهَيْجَا حَمَلْ ... لَا بَأْسَ
بِالْمَوْتِ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: الْحَقْ يَا بُنَيَّ فَقَدْ وَاللَّهِ أَجَزْتَ، قَالَتْ
عَائِشَةُ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أَمَّ سَعْدٍ وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب": النزال.
دِرْعَ
سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا هِيَ، قَالَتْ: وَخِفْتُ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ
السَّهْمُ مِنْهُ، قَالَتْ: فَرُمِيَ سَعْدٌ يَوْمَئِذَ بِسَهْمٍ، وَقُطِعَ مِنْهُ
الْأَكْحَلُ، رَمَاهُ خَبَّابُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ، أَحَدُ بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ
الْعَرِقَةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالَ
سَعْدٌ: اللَّهُمَّ أَنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا
فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ
مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ
وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً وَلَا
تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قريظة وكانوا خلفاءه وَمَوَالِيَهُ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ (1) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ قَالَ: كَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فِي فَارِعِ، حِصْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَتْ: وَكَانَ
حَسَّانُ مَعَنَا فِيهِ، مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، قَالَتْ صَفِيَّةُ:
فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ مِنَ اليهود فجعل (2) يطيف بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ
بَنُو قُرَيْظَةَ، فَقَطَعَتْ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنَّا،
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي
نُحُورِ عَدُوِّهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصَرِفُوا إلينا عنهم، إذا
أَتَانَا آتٍ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ كما
ترى، يطيف بِالْحِصْنِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى
عَوْرَاتِنَا مَنْ وَرَاءِنَا مِنْ يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ (3) فَانْزِلْ إِلَيْهِ
فَاقْتُلْهُ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا، قَالَتْ: فَلَمَّا قَالَ
لِي ذَلِكَ وَلَمْ أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا اعْتَجَرْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ عَمُودًا،
ثُمَّ نَزَلْتُ مِنَ الْحِصْنِ إِلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى
قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهُ رَجَعْتُ إِلَى الْحِصْنِ، فَقُلْتُ: يَا
حَسَّانُ انْزِلْ إِلَيْهِ فَاسْلُبْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ سَلْبِهِ
إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ، قَالَ: مَا لِي بِسَلْبِهِ مِنْ حَاجَةٍ يَا بِنْتَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ (4) .
قَالُوا: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ
لِتَظَاهُرِ عَدُوِّهِمْ وَإِتْيَانِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرٍ مِنْ غَطَفَانَ أَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
قَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا
شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ،
فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي
قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا
بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا: صَدَقْتَ لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ:
إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ
عَلَيْهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَهَيْئَتِكُمْ، الْبَلَدُ
بَلَدُكُمْ بِهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ وَنِسَاؤُكُمُ
__________
(1) انظر الرواية بتمامها في السيرة لابن هشام: 3 / 219-227.
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".
(4) انظر: سيرة ابن هشام: 3 / 228-230.
لَا
تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَتَحَوَّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا
وَغَطَفَانَ، أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بَعِيدَةٌ، إِنْ
رَأَوْا نُهْزَةً وَغَنِيمَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحِقُوا
بِبِلَادِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ بِبَلَدِكُمْ
لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ
حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ
ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَكُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ.
قَالُوا: لَقَدْ أَشَرْتَ بِرَأْيٍ وَنُصْحٍ.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ
وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ عَرَفْتُمْ
وُدِّي إِيَّاكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ رَأَيْتُ أَنَّ
حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُبْلِغَكُمْ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ، قَالُوا:
نَفْعَلُ، قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا
صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ: أَنْ
قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ عَنَّا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ
الْقَبِيلَتَيْنِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، رِجَالًا من أشرافهم فنعطيكم
فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ
يَلْتَمِسُونَ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ
رَجُلًا وَاحِدًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، أَنْتُمْ
أَصْلِي وَعَشِيرَتِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاكُمْ تَتَّهِمُونِي،
قالوا: صدقت، 78/أ قَالَ: فَاكْتُمُوا عَلَيَّ، قَالُوا: نَفْعَلُ، ثُمَّ قَالَ
لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ، فَلَمَّا
كَانَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ
وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي
نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ
مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَاغْدُوَا لِلْقِتَالِ حَتَّى
نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ بَنُو
قُرَيْظَةَ لَهُمْ: إِنَّ الْيَوْمَ السَّبْتَ، وَهُوَ يَوْمٌ لَا نَعْمَلُ فِيهِ
شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا فَأَصَابَهُ مَا لَمْ
يَخْفَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِينِ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى
تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا
حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إِنْ ضَرَسَتْكُمُ الْحَرْبُ
وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تَسِيرُوا إِلَى بِلَادِكُمْ
وَتَتْرُكُونَا، وَالرَّجُلَ فِي بَلَدِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْ
مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِالَّذِي قَالَتْ بَنُو
قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ أَنَّ الَّذِي
حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقُّ، فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ
رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا،
فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ حِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِهَذَا: إِنَّ
الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقُّ، مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ
إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ
غَيْرُ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلُّوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ
الرَّجُلِ فِي بِلَادِكُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا
وَاللَّهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا، فَأَبَوْا
عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ (1) وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ
قُدُورَهُمْ وَتَطْرَحُ آنِيَتَهُمْ.
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 3 / 231-233.
فَلَمَّا
انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اخْتَلَفَ
مِنْ أَمْرِهِمْ دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ
لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلًا.
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَا قَالَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُمُوهُ، قال نعم يا ابن أَخِي، قَالَ: كَيْفَ كُنْتُمْ
تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نُجْهَدُ، فَقَالَ الْفَتَى:
وَاللَّهُ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ
وَلَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا وَلَخَدَمْنَاهُ، وَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا،
فقال حذيفة: يا ابن أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ
فَيَذْهَبُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَيَأْتِينَا بِخَبَرِهِمْ أَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ؟ فَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ
إِلَيْنَا فَقَالَ مِثْلَهُ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، وَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ ثُمَّ
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوِيًّا مِنَ
اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ
مَا فَعَلَ الْقَوْمُ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، فَمَا قَامَ
رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، فَلَمَّا
لَمَّ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ يَا حُذَيْفَةُ، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌ مِنَ الْقِيَامِ إِلَيْهِ حِينَ
دَعَانِي، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقُمْتُ حَتَّى آتِيَهُ،
وَإِنَّ جَنْبَيَّ لَيَضْطَرِبَانِ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَوَجْهِي، ثُمَّ قَالَ:
ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِخَبَرِهِمْ وَلَا تُحْدِثَنَّ
شَيْئًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ
وَمِنْ تَحْتِهِ فَأَخَذْتُ سَهْمِي، وَشَدَدْتُ عَلَيَّ سِلَاحِي، ثُمَّ
انْطَلَقْتُ أَمْشِي نَحْوَهُمْ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ، فَذَهَبْتُ
فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا
لِلَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا
وَلَا بِنَاءً، وَأَبُو سُفْيَانَ قَاعِدٌ يَصْطَلِي، فَأَخَذْتُ سَهْمًا
فَوَضَعْتُهُ فِي كَبِدِ قَوْسِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ
لَأَصَبْتُهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ، فَرَدَدْتُ سَهْمِي فِي
كِنَانَتِي. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَا تَفْعَلُ الرِّيحُ وَجُنُودُ
اللَّهِ بِهِمْ، لَا تُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً، قَامَ
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ
جَلِيسِهِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ هُوَ، فَأَخَذْتُ بِيَدِ جَلِيسِي فَقُلْتُ مَنْ
أَنْتَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا تَعْرِفُنِي أَنَا فُلَانُ ابن فُلَانٍ،
فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا
أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ
وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا مِنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ،
وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مرتحل، ثم
قال إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ
بِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ وَسَمِعَتْ
غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ.
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَأَنِّي أَمْشِي فِي حَمَّامٍ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا
سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ فِي سَوَادِ
اللَّيْلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ وَفَرَغْتُ قَرَرْتُ وَذَهَبَ عَنِّي
الدِّفَاءُ .
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
فَأَدْنَانِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَأَنَامَنِي عِنْدَ
رِجْلَيْهِ، وَأَلْقَى عَلَيَّ طَرَفَ ثَوْبِهِ، وَأَلْزَقَ صَدْرِي بِبَطْنِ
قَدَمَيْهِ فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ:
قُمْ يَا نَوْمَانُ (1) .
{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
(11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ } أَيْ: مِنْ فَوْقِ
الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَهُمْ أَسَدٌ، وَغَطَفَانُ، وَعَلَيْهِمْ
مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي
أَلْفٍ مِنْ غَطَفَانَ، وَمَعَهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ فِي
بَنِي أَسَدٍ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ، { وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ } يَعْنِي: مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ،
وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ، عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي
قُرَيْشٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ
السُّلَمِيُّ مِنْ قِبَلِ الْخَنْدَقِ.
وَكَانَ الَّذِي جَرَّ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ -فِيمَا قِيلَ-إِجْلَاءُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ.
{ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ } مالت وشخصت 78/ب مِنَ الرُّعْبِ، وَقِيلَ:
مَالَتْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى عَدُوِّهَا، { وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } فَزَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحُلُوقَ
مِنَ الْفَزَعِ، وَالْحَنْجَرَةُ: جَوْفُ الْحُلْقُومِ، وَهَذَا عَلَى
التَّمْثِيلِ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ
أَنَّهُمْ جَبُنُوا وَسَبِيلُ الْجَبَانِ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَنْ تَنْتَفِخَ
رِئَتُهُ فَإِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ رَفَعَتِ الْقَلْبَ إِلَى الْحَنْجَرَةِ،
وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْجَبَانِ: انْتَفَخَ سَحْرُهُ.
{ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } أَيْ: اخْتَلَفَتِ الظُّنُونُ؛ فَظَنَّ
الْمُنَافِقُونَ اسْتِئْصَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ عَنْهُمْ، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ
لَهُمْ.
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَأَبُو بَكْرٍ: "الظَّنُونَا"
وَ"الرَّسُولَا" وَ"السَّبِيلَا" بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ
وَصْلًا وَوَقْفًا، لِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَرَأَ أَهْلُ
الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ بِغَيْرِ الْأَلْفِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ دُونَ الوصل لموافقة رؤس الْآيِ.
{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ } أَيْ: عِنْدَ ذَلِكَ اخْتُبِرَ الْمُؤْمِنُونَ، بِالْحَصْرِ
وَالْقِتَالِ، لِيَتَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُنَافِقِ، { وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالًا شَدِيدًا } حُرِّكُوا حَرَكَةً شَدِيدَةً.
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد باب: غزو الأحزاب برقم (1788): 3 / 1414-1415.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا
أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا
ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا
(14) }
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ } مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }
شَكٌّ وَضَعْفُ اعْتِقَادٍ: { مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا
} وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ النِّفَاقِ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ فَتْحَ قُصُورِ الشَّامِ
وَفَارِسَ وَأَحَدُنَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَ رَحْلَهُ، هَذَا وَاللَّهِ
الْغُرُورُ. { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ } أَيْ: مِنَ الْمُنَافِقِينَ،
وَهُمْ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يَعْنِي
الْمَدِينَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "يَثْرِبُ": اسْمُ أَرْضٍ، وَمَدِينَةُ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَى أَنْ تُسَمَّى الْمَدِينَةُ يَثْرِبَ، وَقَالَ: "هِيَ طَابَةُ"،
كَأَنَّهُ كَرِهَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ (1) .
{ لَا مُقَامَ لَكُمْ } قَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، أي: لا مكانه
لَكُمْ تَنْزِلُونَ وَتُقِيمُونَ فِيهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيُّ، وَحَفْصٌ: بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: لَا إِقَامَةَ لَكُمْ، {
فَارْجِعُوا } ؛ إِلَى مَنَازِلِكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: عَنِ الْقِتَالِ إِلَى مَسَاكِنِكُمْ.
{ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ } وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو
سَلَمَةَ، { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أَيْ: خَالِيَةٌ ضَائِعَةٌ، وَهُوَ
مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ نَخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقَ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ
الْعُطَارِدِيُّ "عَوِرَةٌ" بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ: قَصِيرَةَ
الْجُدْرَانِ يَسْهُلُ دُخُولُ السُّرَّاقِ عَلَيْهَا، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ
فَقَالَ: { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } أَيْ: مَا
يُرِيدُونَ إِلَّا الْفِرَارَ. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } أَيْ: لَوْ
دُخِلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ، يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْجُيُوشَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ قِتَالَهُمْ، وَهُمُ الْأَحْزَابُ، { مِنْ أَقْطَارِهَا } جَوَانِبِهَا
وَنَوَاحِيهَا جَمْعُ قُطْرٍ، { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ } أَيْ: الشِّرْكَ.
__________
(1) روى مسلم في الجهاد: 2 / 1007 من حديث جابر بن سمرة مرفوعا: "إن الله
طابة"، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص (104) عن شعبة عن سماك بلفظ:
" كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها النبي صلى الله علبيه وسلم طيبة"
وأخرجه أبو هوانه. وانظر: فتح الباري: 4 / 88-89.
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{
لَآتَوْهَا } لَأَعْطَوْهَا، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ لَأَتَوْهَا مَقْصُورًا،
أَيْ: لَجَاؤُوهَا وَفَعَلُوهَا وَرَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، { وَمَا
تَلَبَّثُوا بِهَا } أَيْ: مَا احْتَبَسُوا عَنِ الْفِتْنَةِ، { إِلَّا يَسِيرًا }
وَلَأَسْرَعُوا الْإِجَابَةَ إِلَى الشِّرْكِ طَيِّبَةً بِهِ أَنْفُسُهُمْ، هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْفَرَّاءُ: وَمَا أَقَامُوا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ
إِعْطَاءِ الْكُفْرِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلَكُوا (1) .
{ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ
وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) }
__________
(1) ذكره الفراء في معاني القرآن: 2 / 337.
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ
وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) }
{ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ غَزْوَةِ
الْخَنْدَقِ، { لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ } مِنْ عَدُوِّهِمْ أَيْ: لَا
يَنْهَزِمُونَ، قَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، هَمُّوا
يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يَفْشَلُوا مَعَ بَنِي سَلَمَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِمْ مَا
نَزَلَ عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ نَاسٌ كَانُوا قَدْ غَابُوا عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ
[وَرَأَوْا مَا أَعْطَى اللَّهُ أَهْلَ بَدْرٍ] (2) مِنَ الْكَرَامَةِ
وَالْفَضِيلَةِ قَالُوا: لَئِنْ أَشْهَدَنَا اللَّهُ قِتَالًا لَنُقَاتِلَنَّ،
فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ (3) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا بَايَعُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَالُوا:
أَشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ
أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ، قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ
فَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَكُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا
وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ، قَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ. فَذَلِكَ
عَهْدُهُمْ (4) .
وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِمُرْضِيٍّ، لِأَنَّ الَّذِينَ بَايَعُوا لَيْلَةَ
الْعَقَبَةِ كَانُوا سَبْعِينَ نَفَرًا، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ شَاكٌّ وَلَا مَنْ
يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ فِي قَوْمٍ عَاهَدُوا
اللَّهَ أَنْ يُقَاتِلُوا وَلَا يَفِرُّوا، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ.
{ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } عَنْهُ. { قُلْ } لَهُمْ، { لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } الَّذِي
كُتِبَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ مِنْ حَضَرَ أَجَلُهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، { وَإِذًا لَا
تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } أَيْ: لَا تُمَتَّعُونَ بَعْدَ الْفِرَارِ إِلَّا
مُدَّةَ آجَالِكُمْ وَهِيَ قَلِيلٌ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 137.
(2) ما بين القوسين ساقط من"أ".
(3) أخرجه الطبري: 21 / 137، وانظر: زاد المسير: 6 / 363، البحر المحيط: 7 / 219.
(4) ذكره القرطبي: 14 / 150، وانظر: زاد المسير: 6 / 363، البحر المحيط: 7 / 219.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ
أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا
وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ
لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا
(18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا
ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ
أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرًا (19) }
{ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ } أَيْ: يَمْنَعُكُمْ مِنْ
عَذَابِهِ، { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا } هَزِيمَةً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ
رَحْمَةً } نُصْرَةً، { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا }
أَيْ: قَرِيبًا يَنْفَعُهُمْ، { وَلَا نَصِيرًا } أَيْ: نَاصِرًا يَمْنَعُهُمْ. {
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } أَيْ: الْمُثَبِّطِينَ
لِلنَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } أَيْ: ارْجِعُوا إِلَيْنَا،
وَدَعُوا مُحَمَّدًا، فَلَا تَشْهَدُوا مَعَهُ الْحَرْبَ، فَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكُمُ
الْهَلَاكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يُثَبِّطُونَ
أَنْصَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ
لِإِخْوَانِهِمْ: مَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا أَكْلَةُ رَأْسٍ، وَلَوْ
كَانُوا لَحْمًا لَالْتَهَمَهُمْ، أَيِ: ابْتَلَعَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ
وَأَصْحَابُهُ، دَعُوا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ هَالِكٌ (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ
أَرْسَلَتْ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَقَالُوا: مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَى
قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ بِيَدِ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ
قَدَرُوا عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ لَمْ يَسْتَبْقُوا مِنْكُمْ أَحَدًا،
وَإِنَّا نُشْفِقُ عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَجِيرَانُنَا هَلُمُّوا
إِلَيْنَا، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ يَعُوقُونَهُمْ وَيُخَوِّفُونَهُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ
مَعَهُ، وَقَالُوا: لَئِنْ قَدَرُوا عَلَيْكُمْ لَمْ يَسْتَبْقُوا مِنْكُمْ
أَحَدًا مَا تَرْجُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ مَا عِنْدَهُ خَيْرٌ، مَا هُوَ إِلَّا أن
يقتلنا ها هنا، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا، يَعْنِي الْيَهُودَ، فَلَمْ
يَزْدَدِ الْمُؤْمِنُونَ بِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا
(2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } 79/أ الْحَرْبَ { إِلَّا
قَلِيلًا } رِيَاءً وَسُمْعَةً مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
الْقَلِيلُ لِلَّهِ لَكَانَ كَثِيرًا . { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بُخَلَاءَ
بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالنُّصْرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بُخَلَاءٌ
عِنْدَ الْغَنِيمَةِ، وَصْفَهُمُ اللَّهُ بِالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، فَقَالَ: {
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
} في الرؤوس مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُبْنِ { كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ } أَيْ: كَدَوَرَانِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ،
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 139.
(2) انظر: زاد المسير: 6 / 365.
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
وَذَلِكَ
أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ غَشِيَهُ أَسْبَابُهُ يَذْهَبُ عَقْلُهُ وَيَشْخَصُ
بَصَرُهُ، فَلَا يَطْرِفُ، { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ } آذَوْكُمْ
وَرَمَوْكُمْ فِي حَالِ الْأَمْنِ، { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ذَرِبَةٍ، جَمْعُ
حَدِيدٍ. يُقَالُ لِلْخَطِيبِ الْفَصِيحِ الذَّرِبِ اللِّسَانِ: مِسْلَقٌ
وَمِصْلَقٌ وَسَلَّاقٌ وَصَلَّاقٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سلقوكم أي: عضدوكم
وَتَنَاوَلُوكُمْ بِالنَّقْصِ وَالْغِيبَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَسَطُوا
أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، يَقُولُونَ أَعْطُونَا
فَإِنَّا قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمُ الْقِتَالَ، فَلَسْتُمْ أَحَقَّ بِالْغَنِيمَةِ
مِنَّا (1) فَهُمْ عِنْدَ الْغَنِيمَةِ أَشَحُّ قَوْمٍ وَعِنْدَ الْبَأْسِ
أَجْبَنُ قَوْمٍ، { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } أَيْ: عِنْدَ الْغَنِيمَةِ
يُشَاحُّونَ الْمُؤْمِنِينَ، { أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ } قَالَ مُقَاتِلٌ: أَبْطَلَ اللَّهُ جِهَادَهُمْ، { وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا
لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ
كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) }
{ يَحْسَبُونَ } يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، { الْأَحْزَابَ } يَعْنِي:
قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ وَالْيَهُودَ، { لَمْ يَذْهَبُوا } لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ
قِتَالِهِمْ جُبْنًا وَفَرَقًا وَقَدِ انْصَرَفُوا، { وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ
} أَيْ: يَرْجِعُوا إِلَيْهِ لِلْقِتَالِ بَعْدَ الذَّهَابِ، { يَوَدُّوا لَوْ
أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ } أَيْ يَتَمَنَّوْا لَوْ كَانُوا فِي
بَادِيَةِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُبْنِ، يُقَالُ: بَدَا يَبْدُو
بَدَاوَةً، إِذَا خَرَجَ إِلَى الْبَادِيَةِ، { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ }
أَخْبَارِكُمْ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمَرُكُمْ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ:
"يَسَّاءَلُونَ" مُشَدَّدَةً مَمْدُودَةً، أَيْ: يَتَسَاءَلُونَ، {
وَلَوْ كَانُوا } يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، { فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا
إِلَّا قَلِيلًا } تَعْذِيرًا، أَيْ: يُقَاتِلُونَ قَلِيلًا يُقِيمُونَ بِهِ
عُذْرَهُمْ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَاتَلْنَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا قَلِيلًا
أَيْ: رَمْيًا بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً مِنْ
غَيْرِ احْتِسَابٍ (2) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قَرَأَ عَاصِمٌ: "أُسْوَةٌ" حَيْثُ
كَانَ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمْ لُغَتَانِ، أَيْ:
قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، [وَهِيَ فُعْلَةٌ مِنَ الِائْتِسَاءِ] (3) كَالْقُدْوَةِ مِنَ
الِاقْتِدَاءِ، اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، أَيْ: بِهِ اقْتِدَاءٌ حَسَنٌ
إِنْ تَنْصُرُوا دِينَ اللَّهِ وَتُؤَازِرُوا
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 366.
(2) انظر: زاد المسير: 6 / 367.
(3) في "أ" (والأسوة من الائتساء).
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
الرَّسُولَ
وَلَا تَتَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَتَصْبِرُوا عَلَى مَا يُصِيبُكُمْ كَمَا فَعَلَ
هُوَ إِذْ كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ وَجُرِحَ وَجْهُهُ، وَقُتِلَ عَمُّهُ وَأُوذِيَ
بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَذَى، فَوَاسَاكُمْ مَعَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَافْعَلُوا
أَنْتُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ، { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ } بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: "لَكُمْ" وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ
تَعْمِيمٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: أَنَّ الْأُسْوَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَرْجُو ثَوَابَ الله. وقال مقال: يَخْشَى اللَّهَ (1) { وَالْيَوْمَ الْآخِرَ }
أَيْ: يَخْشَى يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي فِيهِ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ، { وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيرًا } فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا
إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) }
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 368.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
}
ثُمَّ وَصَفَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ لِقَاءِ الْأَحْزَابِ فَقَالَ: {
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا } تَسْلِيمًا لِأَمْرِ
اللَّهِ وَتَصْدِيقًا لِوَعْدِهِ: { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ" إِلَى قَوْلِهِ:
"أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (الْبَقَرَةِ-214) ، فَالْآيَةُ
تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَلْحَقُهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَلَاءِ،
فَلَمَّا رَأَوُا الْأَحْزَابَ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ قَالُوا: هَذَا
مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، { وَمَا
زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [أَيْ: تَصْدِيقًا لِلَّهِ
وَتَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ] (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } أَيْ: قَامُوا
بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَوَفَّوْا بِهِ، { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ } أَيْ: فَرَغَ مِنْ نَذْرِهِ، وَوَفَّى بِعَهْدِهِ، فَصَبْرَ عَلَى
الْجِهَادِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ، وَالنَّحْبُ: النَّذْرُ، وَالنَّحْبُ: الْمَوْتُ
أَيْضًا، قَالَ مُقَاتِلٌ: "قَضَى نَحْبَهُ"، يَعْنِي: أَجْلَهُ
فَقُتِلَ عَلَى الْوَفَاءِ، [يَعْنِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهُ. وَقِيلَ:
"قَضَى نَحْبَهُ" أَيْ: بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْوَفَاءِ] (2)
بِالْعَهْدِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: نَحَبَ فُلَانٌ فِي سَيْرِهِ يومه وليلته أجمع،
إِذَا مَدَّ فَلَمْ يَنْزِلْ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } الشَّهَادَةَ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "أ".
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: "فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ" مَنِ
اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ (1) "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ"
يَعْنِي: مَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ أَحَدَ
الْأَمْرَيْنِ؛ إِمَّا الشَّهَادَةَ أَوِ النَّصْرَ (2) { وَمَا بَدَّلُوا }
عَهْدَهُمْ { تَبْدِيلًا }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ
الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ
أَنَسًا \ح \ وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا زِيَادٌ،
حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ
النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ
قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ أَشْهَدَنِيَ اللَّهُ قِتَالَ
الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَّمَا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ
وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا
صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ-وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ
-يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ-ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،
فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ
رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدُ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً
بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ
قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا
أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَظُنُّ أَوْ نَرَى أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ
الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ:
هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا
مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكَلْ مَنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ
عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ
إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ،
وَإِذَا وَضَعْنَاهُ على رجليه 79/ب خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ
وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخَرِ، قَالَ: وَمَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ
ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِ بِهَا" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التَّيْمِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ أَبِي نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيْدَرَةَ
الْأَطْرَابُلُسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجَوْهَرِيُّ
__________
(1) في ابن هشام: 3 / 248: "من قضى نحبه" أي: فرغ من عمله، ورجع إلى
ربه، كمن استشهد يوم بدر وأحد .
(2) انظر سيرة ابن هشام: 3 / 248-249.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب قوله الله عز وجل: "من المؤمنين رجال صدقوا
ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا": 6
/ 21 ، ومسلم في الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد برقم (1903): 3 / 1512.
(4) أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة أحد 7 / 354، والمصنف في شرح السنة: 5 /
319.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
بِأَنْطَاكِيَةَ،
أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ،
عَنْ أَبِي نُصْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ:
"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
أَخْبَرَنَا وَكِيعُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ
طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ (2) .
{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ
إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا
(26) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أَيْ
جَزَاءَ صِدْقِهِمْ، وَصِدْقُهُمْ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، { وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فَيَهْدِيهِمْ إِلَى
الْإِيمَانِ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا } مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، { بِغَيْظِهِمْ } لَمْ يَشْفِ
صُدُورَهُمْ بِنَيْلِ مَا أَرَادُوا، { لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا } ظَفَرًا، {
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بِالْمَلَائِكَةِ وَالرِّيحِ، {
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [قَوِيًّا فِي مُلْكِهِ عَزِيزًا] (3) فِي
انْتِقَامِهِ. { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ }
أَيْ: عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، {
مِنْ صَيَاصِيهِمْ } حُصُونِهِمْ وَمَعَاقِلِهِمْ، وَاحِدُهَا صِيصِيَةٌ،
[وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَرْنِ وَلِشَوْكَةِ الدِّيكِ وَالْحَاكَّةِ صِيصِيَةٌ] (4)
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب: 10 / 242 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا
من حديث الصلت بن دينار، وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وضعفه وتكلموا
في صالح بن موسى"، وابن ماجه في المقدمة برقم: (125) 1 / 46 لكن بلفظ: (أن
طلحة مر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: شهيد يمشي على وجه
الأرض)، والمصنف في شرح السنة: 4 / 120.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا": 7
/ 359، والمصنف في شرح السنة: 14 / 121.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب".
أَصْبَحَ
مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي انْصَرَفَ الْأَحْزَابُ فِيهَا رَاجِعِينَ إِلَى
بِلَادِهِمْ وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُؤْمِنُونَ عَنِ الْخَنْدَقِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ
فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنِ اسْتَبْرَقٍ عَلَى بَغْلَةٍ
عَلَيْهَا رِحَالَةٌ (1) وَعَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَهِيَ تَغْسِلُ
رأسه وقد غلست شِقَّهُ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مَا وَضَعَتِ
الْمَلَائِكَةُ السِّلَاحَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمَا رَجَعْتُ الْآنَ
إِلَّا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الْغُبَارُ عَلَى وَجْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَفَرَسِهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ
الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِهِ وَعَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ
بِالسَّيْرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَانْهَدْ (2) إِلَيْهِمْ (3) فَإِنِّي قَدْ
قَطَعْتُ أَوْتَارَهُمْ، وَفَتَحْتُ أَبْوَابَهُمْ وَتَرَكْتُهُمْ فِي زِلْزَالٍ
وَبِلْبَالٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا
فَأَذَّنَ: أَنَّ مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلَا يُصَلِّينَ الْعَصْرَ إِلَّا
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَايَتِهِ
إِلَيْهِمْ، وَابْتَدَرَهَا النَّاسُ فَسَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه حثى إِذَا
دَنَا مِنَ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهَا مَقَالَةً قَبِيحَةً لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا
عَلَيْكَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَخَابِثِ، قَالَ: لِمَ، أَظُنُّكَ
سَمِعْتَ لِي مِنْهُمْ أَذَىً؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَوْ
قَدْ رَأَوْنِي لَمْ يَقُولُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
حُصُونِهِمْ قَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ هَلْ أَخْزَاكُمُ
اللَّهُ وَأَنْزَلَ بِكُمْ نقمته؟. قالوا: يل أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْتَ
جَهُولًا.
وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالصَّوْرَيْنِ
(4) قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ
أَحَدٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ بِنَا دَحْيَةُ بْنُ
خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ عَلَيْهَا
قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ذَاكَ جِبْرِيلُ بُعِثَ إِلَى
بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي
قُلُوبِهِمْ.
فَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي
قُرَيْظَةَ نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ مِنْ آبَارِهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ،
فَتَلَاحَقَ بِهِ النَّاسُ فَأَتَاهُ رِجَالٌ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ وَلَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ"، فَصَلُّوا الْعَصْرَ بِهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَمَا
عَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ
__________
(1) الرحالة: السرج.
(2) انهض إليهم، ونهد القوم لعدوهم إذا صمدوا له وشرعوا في قتاله.
(3) انظر البخاري: 7 / 407، شرح السنة: 14 / 10-11.
(4) موضع قرب المدينة.
وَلَا
عَنَّفَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ
وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ لَيْلَةً حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
وَكَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فِي حِصْنِهِمْ
حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَفَاءً لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا
كَانَ عَاهَدَهُ.
فَلَمَّا أَيْقَنُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزَهُمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: يَا
مَعْشَرَ يَهُودَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ
وَإِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا ثَلَاثًا فَخُذُوا أَيَّهَا شِئْتُمْ،
قَالُوا: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: نُتَابِعُ هَذَا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ
فَوَاللَّهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَأَنَّهُ الَّذِي
تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، فَتَأْمَنُوا عَلَى دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ
وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، قَالُوا: لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ
أَبَدًا وَلَا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ هَذِهِ
فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا ثُمَّ نَخْرُجْ إِلَى مُحَمَّدٍ
رِجَالًا مُصَلَتِينَ بِالسُّيُوفِ وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا ثِقَلًا يُهِمُّنَا
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ نَهْلَكْ نَهْلَكْ
وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا شَيْئًا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَظْهَرْ
فَلَعَمْرِي لَنَتَّخِذَنَّ النِّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، فَقَالُوا: نَقْتُلُ
هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ فَمَا خَيْرٌ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ؟ قَالَ: فَإِنْ
أَبَيْتُمْ هَذِهِ فَإِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ السَّبْتِ وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ
يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمِنُوا فِيهَا فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا
أَنَّ نَصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غِرَّةً. قَالُوا: أَنُفْسِدُ
سَبْتَنَا وَنُحَدِثُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحْدَثَ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؟
أَمَّا من قد عملت فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْمَسْخِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ؟
فَقَالَ: مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً
فِي الدَّهْرِ حَازِمًا؟ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ
عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ
الْأَوْسِ نَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِنَا فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ
الرِّجَالُ وَهَشَّ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ
فَرَقَّ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ
مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، [قَالُوا: مَاذَا يَفْعَلُ بِنَا إِذَا نَزَلْنَا] (1)
؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ:
فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ ولم يأت 80/أ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ارْتَبَطَ فِي
الْمَسْجِدِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عَمَدِهِ، وَقَالَ: لَا أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى
يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ، وَعَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَطَأَ
أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا، وَلَا يَرَانِي اللَّهُ فِي بَلَدٍ خُنْتُ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ أَبَدًا، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُ وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ (2) قَالَ: أَمَا لَوْ
جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ فَمَا أَنَا
بِالَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ تَوْبَةَ أَبِي لُبَابَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ
أُمُّ سَلَمَةَ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَضْحَكُ فَقُلْتُ مِمَّا تَضْحَكُ يَا رَسُولَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) زيادة من "ب".
اللَّهِ
أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ، فَقُلْتُ: إِلَّا
أُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ بَلَى إِنْ شِئْتِ، فَقَامَتْ
عَلَى بَابِ حُجْرَتِهَا وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ،
فَقَالَتْ يَا أَبَا لُبَابَةَ أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَ
فَثَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَكُونَ
رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجًا إِلَى الصُّبْحِ
أَطْلَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَأُسَيْدَ بْنَ
شُعْبَةَ، وَأُسَيْدَ بْنَ عُبَيْدٍ وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ لَيْسُوا
مِنْ قُرَيْظَةَ وَلَا النَّضِيرِ نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ هُمْ بَنُو عَمِّ
الْقَوْمِ أَسْلَمُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بَنُو
قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى الْقُرَظِيُّ فَمَرَّ
بِحَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا رَآهُ
قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ سُعْدَى، وَكَانَ عَمْرُو قَدْ أَبَى أَنْ
يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدٍ أَبَدًا، فَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي عَثَرَاتِ
الْكِرَامِ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى بَاتَ فِي
مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ
تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَا يَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَ مِنْ أَرْضِ
اللَّهِ، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُهُ،
فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ قَدْ نَجَّاهُ اللَّهُ بِوَفَائِهِ (1) . وَبَعْضُ النَّاسِ
يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُوْثِقَ بِرُمَّةٍ فِيمَنْ أُوْثِقَ مِنْ بَنِي
قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَصْبَحَتْ رُمَّتُهُ مُلْقَاةً لَا يَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ
فَتَوَاثَبَتِ الْأَوْسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ مَوَالِينَا
دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي الْخَزْرَجِ، بِالْأَمْسِ مَا
قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ حاصر بني قنيقاع وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ،
فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَسَأَلَهُمْ إِيَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ
بْنِ سَلُولٍ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْأَوْسُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَّا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ
الْأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيكُمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟" قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
فَذَاكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَدْ جَعَلَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْمَةِ امْرَأَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ فِي مَسْجِدِهِ، وَكَانَتْ تُدَاوِي
الْجَرْحَى، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ ضَيْعَةٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السَّهْمُ بِالْخَنْدَقِ اجْعَلُوهُ فِي
خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتَّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا حَكَّمَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَتَاهُ قَوْمُهُ
فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّأُوا لَهُ بِوِسَادَةٍ مَنْ أَدَمٍ،
وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ يَا أَبَا عَمْرٍو أَحْسِنْ فِي
مَوَالِيكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا
وَلَّاكَ ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: قَدْ
آنَ لِسَعْدٍ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَرَجَعَ بَعْضُ
مَنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ قَوْمِهُ إِلَى دَارِ بَنِي الْأَشْهَلِ فَنَعَى لَهُمْ
رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ
كَلِمَتِهِ الَّتِي سَمِعَ مِنْهُ فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ
فَأَنْزِلُوهُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَلَّاكَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ
فِيهِمْ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنَّ
الْحُكْمَ فِيهَا مَا حَكَمْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وعلى من ها هنا فِي
النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
[وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2)
إِجْلَالًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نَعَمْ، قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الرِّجَالُ
وَتُقَسَّمَ الْأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذَّرَارِي وَالنِّسَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: "لَقَدْ حَكَمْتَ
فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ" (3) ثُمَّ
اسْتُنْزِلُوا فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ
الَّتِي هِيَ سُوقُهَا الْيَوْمَ، فَخَنْدَقَ بِهَا خَنْدَقًا ثُمَّ بَعَثَ
إِلَيْهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، يَخْرُجُ بِهِمْ
إِلَيْهِ أَرْسَالًا وَفِيهِمْ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ
بْنُ أَسَدٍ رَئِيسُ الْقَوْمِ، وَهُمْ سِتُّمِائَةٍ أَوْ سَبْعُمِائَةٍ،
وَالْمُكْثِرُ لَهُمْ يَقُولُ كَانُوا بَيْنَ ثَمَانِمِائَةٍ إِلَى تِسْعِمِائَةٍ،
وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالًا يَا كَعْبُ مَا تَرَى مَا
يَصْنَعُ بِنَا فَقَالَ كَعْبُ: أَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ أَلَا
تَرَوْنَ الدَّاعِيَ لَا يَنْزِعُ وَإِنَّ مَنْ يُذْهَبُ بِهِ مِنْكُمْ لَا
يَرْجِعُ، هُوَ وَاللَّهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى
فَرَغَ مِنْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَى حُيَيُّ
بْنُ أَخْطَبَ عَدُوُّ اللَّهِ عَلَيْهِ حُلَّةٌ تُفَّاحِيَّةٌ قَدْ شَقَّقَهَا عَلَيْهِ
مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ كَمَوْضِعِ الْأُنْمُلَةِ أنملة أنملة لئلا يسلبها
مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ مَا لُمْتُ
نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ يُخْذَلُ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ
اللَّهِ كِتَابٍ وَقَدَرٍ وَمَلْحَمَةٍ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ
جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً قَالَتْ
وَاللَّهِ إِنَّهَا لَعِنْدِي تَتَحَدَّثُ مَعِي وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا،
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقْتُلُ رِجَالَهُمْ
بِالسُّيُوفِ إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فلانة قالت: 80/ب أَنَا
وَاللَّهِ قُلْتُ: وَيْلَكِ مَالَكِ؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ:
حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا فَضُرِبَ عُنُقُهَا، وَكَانَتْ
عَائِشَةُ تَقُولُ: مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا طِيبَ نَفْسٍ وَكَثْرَةَ ضَحِكٍ،
وَقَدْ عَرَفَتْ إِنَّهَا تُقْتَلُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ اسْمُ تِلْكَ
الْمَرْأَةِ شَبَابَةُ، امْرَأَةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ وَكَانَتْ قَتَلَتْ
خَلَّادَ بْنَ سُوِيدٍ، رَمَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَضُرِبَ عُنُقُهَا بِخَلَّادِ بْنِ سُوِيدٍ (4)
قَالَ: وَكَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَضْرِبَانِ أَعْنَاقَ بَنِي قُرَيْظَةَ،
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ هُنَالِكَ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 21 / 152، وانظر: ابن هشام: 3 / 238-239.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه الطبري: 21 / 153، وأخرجه الشيخان في صحيحهما بلفظ: (لقد حكمت فيهم بحكم
الملك)، وبهذا اللفظ المصنف في شرح السنة 11 / 91-92، وانظر: الكافي الشاف:
ص(133)، ابن هشلم 3 / 239-240 فقد أورده عن علقمة بن وقاص الليثي مرسلا.
(4) أخرجه الطبري: 21 / 153-154، وابن إسحاق: 3 / 242.
وَرَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ بَاطَا
الْقُرَظِيَّ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ قَدْ مَنَّ عَلَى
ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بُعَاثٍ، أَخَذَهُ
فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَجَاءَهُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ وَهُوَ
شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ:
وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْزِيَكَ
بِيَدِكَ عِنْدِي، قَالَ: إِنَّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ، قَالَ: ثُمَّ
أَتَى ثَابِتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَتْ لِلزُّبَيْرِ عِنْدِي يَدٌ وَلَهُ عَلَيَّ مِنَّةٌ،
وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا فَهَبْ لِي دَمَهُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هُوَ لَكَ" فَأَتَاهُ
فَقَالَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
وَهَبَ لِي دَمَكَ، قَالَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ فَمَا
يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ، فَأَتَى ثَابِتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلُهُ وَمَالُهُ؟ قَالَ هُمْ لَكَ
فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْطَانِي امْرَأَتَكَ وَوَلَدَكَ فَهُمْ لَكَ، قَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ
بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَأَتَى ثَابِتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَالُهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: هُوَ لَكَ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَانِي مَالَكَ فَهُوَ لَكَ، فَقَالَ:
أَيْ ثَابِتُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِمَنْ كَانَ وَجْهُهُ مِرْآةً صِينِيَّةً
تَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيِّ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: قُتِلَ، قَالَ:
فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ:
قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمِنَا إِذَا شَدَدْنَا وَحَامِيْنَا إِذَا كَرَرْنَا
عَزَالُ بْنُ شَمْوَئِيلَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ
يَعْنِي بَنِي كَعْبِ ابْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ؟ قَالَ:
ذَهَبُوا وَقُتِلُوا، قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِيَدِي عِنْدَكَ يَا ثَابِتُ
إِلَّا مَا أَلْحَقَتْنِي بِالْقَوْمِ، فَوَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ
هَؤُلَاءِ خَيْرٌ، فَمَا أَنَا بِصَابِرٍ لِلَّهِ فَتْرَةَ دَلْوٍ نَضَحَ حَتَّى
أَلْقَى الْأَحِبَّةَ فَقَدَّمَهُ ثَابِتٌ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ
أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ قَوْلُهُ أَلْقَى الْأَحِبَّةَ، قَالَ: يَلْقَاهُمْ
وَاللَّهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا أَبَدًا (1) .
قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ
بِقَتْلِ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ (2) ثُمَّ قَسَّمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ
وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأُعْلِمَ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ سَهْمَانِ الْخَيْلِ وَسَهْمَانِ الرِّجَالِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا
الْخُمُسَ، فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ
وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ وَلِلرَّاجِلِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ سَهْمٌ، وَكَانَتِ
الْخَيْلُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَكَانَ أَوَّلَ فَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ
السَّهْمَانِ، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ أَخَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِسَبَايَا
مِنْ سَبَايَا بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَجْدٍ فَابْتَاعَ لَهُمْ بِهِمْ خَيْلًا
وَسِلَاحًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ
اصْطَفَى لِنَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ خَنَانَةَ
إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، فَكَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ،
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ
عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ بَلْ تَتْرُكُنِي
__________
(1) انظر: ابن هشام: 3 / 242-243.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 2 / 76-77 عن عطية بن سعد القرظي.
فِي
مِلْكِكَ فَهُوَ أَخَفُّ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ فَتَرَكَهَا وَقَدْ كَانَتْ حِينَ
سَبَاهَا كَرِهَتِ الْإِسْلَامَ وَأَبَتْ إِلَّا الْيَهُودِيَّةَ، فَعَزَلَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ
بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ وَقْعَ
نَعْلَيْنِ خَلْفَهُ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَثَعْلَبَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُبَشِّرُنِي
بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَسْلَمَتْ
رَيْحَانَةُ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ (1) .
فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ جُرْحُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا بَعْدَ أَنْ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ مَا حَكَمَ
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَوْمٌ أَحَبَّ
إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ
كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِكَ شَيْئًا فَأَبْقِنِي
لَهَا وَإِنْ كُنْتَ قَدْ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي
إِلَيْكَ، فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ فَرَجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْمَتِهِ الَّتِي ضُرِبَتْ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ،
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لِأَعْرِفُ
بُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنِّي لَفِي حُجْرَتِي، قَالَتْ:
وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (2)
(الْفَتْحِ-29 ) ، وَكَانَ فَتْحُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي آخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ
سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، سَمِعْتُ أَبَا
إِسْحَاقَ يَقُولُ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرْدٍ يَقُولُ، سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ أَجْلَى الْأَحْزَابَ
عَنْهُ: "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ
إِلَيْهِمْ" (3) .
أَخْبَرَنَا عبد الواحد الميحي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ
وَحْدَهُ" فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ" (4) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَنِي قُرَيْظَةَ: { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وَهْمُ الرِّجَالُ، يُقَالُ: كَانُوا
سِتَّمِائَةٍ، { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } وَهْمُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِي،
يُقَالُ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَيُقَالُ: تِسْعَمِائَةٍ (5)
__________
(1) انظر: ابن هشام: 3 / 242-243.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 6 / 141-142.
(3) أخرجه البخاري في المغازي: باب غزوة الخندق 7 / 405، والمصنف في شرح السنة: 14
/ 7-8.
(4) أخرجه البخاري في المغازي: باب غزوة الخندق 7 / 406، ومسلم في الذكر والدعاء
والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم: (2724) 4
/ 2089 عن قتيبة، والمصنف في شرح السنة: 14 / 8.
(5) انظر: سياق القصة في سيرة ابن هشام: 3 / 233-243.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
{
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ
تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) }
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ
تَطَئُوهَا } بَعْدُ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي خَيْبَرَ، قَالَ
قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا مَكَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَارِسُ
وَالرُّومُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُلُّ أَرْضٍ تُفْتَحُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
(1) . { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } مُتْعَةَ الطَّلَاقِ، {
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ
مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نِسَاءَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألنه شيئا 81/أ مِنْ عَرَضِ
الدُّنْيَا، وَطَلَبْنَ مِنْهُ زِيَادَةً فِي النَّفَقَةِ، وَآذَيْنَهُ بِغَيْرَةِ
بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، فَهَجَرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَآلَى أَنْ لَا يَقَرَبَهُنَّ شَهْرًا وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى
أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ وَكَانُوا يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، فَقَالَ عُمَرُ
لَأَعْلَمَنَّ لَكُمْ شَأْنَهُ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟
قَالَ: لَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ
وَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟
قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَنَادَيْتُ
بِأَعْلَى صَوْتِي لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ" (النِّسَاءِ-83) ، فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَاكَ الْأَمْرَ،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّخْيِيرِ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ:
عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَأُمُّ
حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ،
وَسَوْدَةُ بِنْتُ زمعة، وغير القرشيان: زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَةُ،
وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ
بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيَةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ
الْمُصْطَلِقِيَّةُ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ
التَّخْيِيرِ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعَائِشَةَ، وَكَانَتْ أَحَبَّهُنَّ إِلَيْهِ فَخَيَّرَهَا وَقَرَأَ عَلَيْهَا
الْقُرْآنَ
__________
(1) انظر البحر المحيط 7 / 225.
فَاخْتَارَتِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ والدار الآخرة، فرؤي الْفَرَحُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَابَعَتْهَا عَلَى ذَلِكَ (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: فَلَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَكَرَهُنَّ اللَّهُ
عَلَى ذَلِكَ وَقَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ }
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ
عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا
بِبَابِهِ وَلَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ
فَدَخَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا،
فَقَالَ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةً سَأَلَتْنِي
النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى
يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ
عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ:
لَا تَسْأَلِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَبَدًا
لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ
نَزَلَتِ الْآيَةُ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } حَتَّى
بَلَغَ: { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } قَالَ: فَبَدَأَ
بِعَائِشَةَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ
أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ،
قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ، قَالَتْ:
أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً
مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ، قَالَ: " لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ
مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا
مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا" (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ
شَهْرًا، قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ أَعُدُّهُنَّ
دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: بَدَأَ
بِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَلَّا تَدْخُلَ عَلَيْنَا
شَهْرًا وَإِنَّكَ دَخَلْتَ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ؟ فَقَالَ:
"إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ" (3)
__________
(1) انظر: فتح الباري: 8 / 519، مسلم: (1475): 2 / 1105-1108، الطبري: 21 /
156-157، شرح السنة: 9 / 215-216، الصحيح المسند من أسباب النزول ص 117-120.
(2) أخرجه مسلم في الطلاق، باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية
برقم: (1478): 2 / 1104-1105.
(3) أخرجه معمر بن راشد في كتاب الجامع رواية عبد الرزاق في المصنف: 10 / 401،
وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 596 لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخِيَارِ أَنَّهُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ تَفْوِيضُ
الطَّلَاقِ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَقَعَ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ
الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا خَيَّرَهُنَّ عَلَى أَنَّهُنَّ إِذَا اخْتَرْنَ
الدُّنْيَا فَارَقَهُنَّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُنَّ
عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: "لَا تَعْجَلِي حَتَّى
تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ"، وَفِي تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ يَكُونُ الْجَوَابُ
عَلَى الْفَوْرِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ لَوِ اخْتَرْنَ
أَنْفُسَهُنَّ كَانَ طَلَاقًا.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ التَّخْيِيرِ: فَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ
مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ
زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَقَعُ طَلْقَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَسُفْيَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، إِلَّا عِنْدَ أَصْحَابِ
الرَّأْيِ تَقَعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَعِنْدَ
الْآخَرِينَ رَجْعِيَّةٌ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا اخْتَارَتِ الزَّوْجَ تَقَعُ طَلْقَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا تَقَعُ
طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَطَلْقَةٌ بَائِنَةٌ.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ
شَيْءٌ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا
عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، أَخْبَرَنَا
مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ
يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا (1) .
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
(30) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } بِمَعْصِيَةٍ ظَاهِرَةٍ، قِيلَ: هِيَ كَقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ: "لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" (الزُّمَرِ-65)
لَا أَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ
بِالْفَاحِشَةِ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ. { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ
} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: "نُضَعِّفُ" بِالنُّونِ
وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِهَا، "الْعَذَابَ" نَصْبٌ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتَحِ العين "العذاب" 81/ب رَفْعٌ
وَيُشَدِّدُهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَشَدَّدَ أَبُو عَمْرٍو
هَذِهِ وَحْدَهَا لِقَوْلِهِ:
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: من خير أزواجه: 9 / 367، ومسلم في الطلاق، باب:
بيان أن تخيير المرأة لا يكون طلاقا برقم: (1477) 2 / 1103.
"ضِعْفَيْنِ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "يُضَاعَفُ" بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، "الْعَذَابُ" رَفْعٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ بَعَّدَ وَبَاعَدَ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو عُبَيْدَةَ: ضَعَّفْتَ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلْتَهُ مِثْلَيْهِ وَضَاعَفْتَهُ إِذَا جَعَلْتَهُ أَمْثَالَهُ. { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ عَذَابُهَا عَلَى اللَّهِ هَيِّنًا وَتَضْعِيفُ عُقُوبَتِهِنَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِشَرَفِهِنَّ كَتَضْعِيفِ عُقُوبَةِ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ وَتَضْعِيفِ ثَوَابِهِنَّ لِرَفْعِ مَنْزِلَتِهِنَّ؛ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُنَّ أَشْرَفُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا
أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا
مَعْرُوفًا (32) }
{ وَمَنْ يَقْنُتْ } يُطِعْ، { مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } قَرَأَ يَعْقُوبُ:
"مَنْ تَأْتِ مِنْكُنَّ، وَتَقْنُتْ" بِالتَّاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ
الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ لِأَنَّ "مَنْ" أَدَاةٌ تَقُومُ مَقَامَ
الِاسْمِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ، { وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أَيْ:
مِثْلَيْ أَجْرِ غَيْرِهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: مَكَانَ كُلِّ حَسَنَةٍ عِشْرِينَ
حَسَنَةً.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "يَعْمَلُ، يُؤْتِهَا" بِالْيَاءِ
فِيهِمَا نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "وَمَنْ يَأْتِ، وَيَقْنُتْ" وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } حَسَنًا
يَعْنِي الْجَنَّةَ. { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ لَيْسَ قَدْرُكُنَّ عِنْدِي مِثْلَ قَدْرِ
غَيْرِكُنَّ مِنَ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ، أَنْتُنَّ أَكْرَمُ عَلِيَّ،
وَثَوَابُكُنَّ أَعْظَمُ لَدَيَّ، وَلَمْ يَقُلْ: كَوَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ
عَامٌّ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ" (الْبَقَرَةِ-285) ، وَقَالَ: "فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
عَنْهُ حَاجِزِينَ" (الْحَاقَّةِ-47) .
{ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } اللَّهَ فَأَطَعْتُنَّهُ، { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
} لَا تَلِنَّ بِالْقَوْلِ لِلرِّجَالِ وَلَا تُرَقِّقْنَ الْكَلَامَ، {
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أَيْ: فُجُورٌ وَشَهْوَةٌ، وَقِيلَ
نِفَاقٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَقُلْنَ قَوْلًا يَجِدُ مُنَافِقٌ أَوْ فَاجِرٌ بِهِ
سَبِيلًا إِلَى الطَّمَعِ فِيكُنَّ.
وَالْمَرْأَةُ مَنْدُوبَةٌ إِلَى الْغِلْظَةِ فِي الْمَقَالَةِ إِذَا خَاطَبَتِ
الْأَجَانِبَ لِقَطْعِ الْأَطْمَاعِ.
{ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } لِوَجْهِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ بِتَصْرِيحٍ
وَبَيَانٍ مِنْ غَيْرِ خُضُوعٍ.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى
وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) }
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ:
"وَقَرَنَ" بِفَتْحِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا،
فَمَنْ فَتْحَ الْقَافَ فَمَعْنَاهُ، اقْرَرْنَ أَيْ: الْزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ مِنْ
قَوْلِهِمْ: قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرُّ قَرَارًا، يُقَالُ: قَرَرْتُ أَقَرُّ
وَقَرَرْتُ أَقِرُّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، فَحُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى الَّتِي
هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ لِثِقَلِ التَّضْعِيفِ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى
الْقَافِ كَقَوْلِهِمْ: فِي ظَلَلْتُ ظَلْتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ" (الْوَاقِعَةِ-65) ، "وظلت عَلَيْهِ
عَاكِفًا" (طَهَ-97) .
وَمَنْ كَسَرَ الْقَافَ فَقَدْ قِيلَ: هُوَ مِنْ قَرَرْتُ أَقَرُّ، مَعْنَاهُ
اقْرَرْنَ -بِكَسْرِ الرَّاءِ-فَحُذِفَتِ الْأُولَى وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى
الْقَافِ كَمَا ذَكَرْنَا وَقِيلَ: -وَهُوَ الْأَصَحُّ-أَنَّهُ أَمَرٌ مِنَ
الْوَقَارِ، كَقَوْلِهِمْ مِنَ الْوَعْدِ: عِدْنَ، وَمِنَ الْوَصْلِ: صِلْنَ،
أَيْ: كُنَّ أَهْلَ وَقَارٍ وَسُكُونٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَرَ فُلَانٌ يَقِرُ
وُقُورًا إِذَا سَكَنَ وَاطْمَأَنَّ .
{ وَلَا تَبَرَّجْنَ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: التَّبَرُّجُ هُوَ
التَّكَسُّرُ وَالتَّغَنُّجُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: هُوَ التَّبَخْتُرُ.
وَقِيلَ: هُوَ إِظْهَارُ الزِّينَةِ وَإِبْرَازُ الْمَحَاسِنِ لِلرِّجَالِ، {
تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [اخْتَلَفُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
الْأُولَى]. (1)
قَالَ الشَّعْبِيُّ: هِيَ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. (2) .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هِيَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ قَمِيصًا مِنَ الدُّرِّ غَيْرَ مَخِيطٍ
مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَيُرَى خَلْقُهَا فِيهِ (3) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ نَمْرُودِ الْجَبَّارِ، كَانَتِ
الْمَرْأَةُ تَتَّخِذُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ فَتَلْبَسُهُ وَتَمْشِي وَسَطَ
الطَّرِيقِ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَتَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى
الرِّجَالِ. (4)
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْجَاهِلِيَّةُ
الْأُولَى فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَكَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّ
بَطْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسْكُنُ السَّهْلَ وَالْآخَرُ
يَسْكُنُ الْجَبَلَ، وَكَانَ رِجَالُ الْجَبَلِ صِبَاحًا وَفِي النِّسَاءِ دَمَامَةٌ،
وَكَانَ نِسَاءُ السَّهْلِ صِبَاحًا وَفِي الرِّجَالِ دَمَامَةٌ، وَأَنَّ
إِبْلِيسَ أَتَى رَجُلًا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: الطبري:22 / 4، البحرالمحيط: 7 / 231.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 231.
(4) انظر: البحر المحيط: 7 / 230.
مِنْ
أَهْلِ السَّهْلِ وَأَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ، فَكَانَ يَخْدِمُهُ وَاتَّخَذَ
شَيْئًا مِثْلَ الَّذِي يُزَمِّرُ بِهِ الرِّعَاءُ فَجَاءَ بِصَوْتٍ لَمْ يَسْمَعِ
النَّاسُ مِثْلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ حَوْلَهُمْ فَانْتَابُوهُمْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذُوا عِيدًا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي
السَّنَةِ، فَتَتَبَرَّجُ النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ وَيَتَزَيَّنَّ الرِّجَالُ
لَهُنَّ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ هَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي عِيدِهِمْ
ذَلِكَ فَرَأَى النِّسَاءَ وَصَبَاحَتَهُنَّ فَأَتَى أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ
بِذَلِكَ [فَتَحَوَّلُوا إِلَيْهِمْ] (1) فَنَزَلُوا مَعَهُمْ فَظَهَرَتِ
الْفَاحِشَةُ فِيهِمْ، (2) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" .
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ (3) .
وَقِيلَ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى: مَا ذَكَرْنَا، وَالْجَاهِلِيَّةُ
الْأُخْرَى: قَوْمٌ يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَقِيلَ: قَدْ تُذْكَرُ الْأُولَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أُخْرَى، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: "وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى" (النَّجْمِ-50) ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أُخْرَى.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ } أَرَادَ بِالرِّجْسِ: الْإِثْمَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ
النِّسَاءَ عَنْهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: عَمَلَ
الشَّيْطَانِ وَمَا لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًى، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي:
السُّوءَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّجْسُ الشَّكُّ.
وَأَرَادَ بِأَهْلِ الْبَيْتِ: نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَنَّهُنَّ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَلَا قَوْلَهُ: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي
بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ "، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ.
وَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنَ، مِنْهُمْ
مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: إِلَى أَنَّهُمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ
وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (4) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدِيٍّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ
زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ
شَيْبَةَ الْحَجَبِيَّةِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ
مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ، فَجَلَسَ فَأَتَتْ فَاطِمَةُ
فَأَدْخَلَهَا فِيهِ [ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ] (5) ثُمَّ جَاءَ
حَسَنٌ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ حُسَيْنٌ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ
قَالَ: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (6) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: الطبري: 22 / 4.
(3) انظر: الطبري: 22 / 4-5، الدر المنثور: 6 / 601.
(4) انظر: زاد المسير: 6 / 381.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب: فضل أهل البيت، برقم: (2424) 4 / 1883،
والمصنف في شرح السنة: 14 / 116.
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكَرَّمٍ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ شَرِيكِ
بْنِ أَبِي نمر، عن 82/أ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: فِي
بَيْتِي أُنْزِلَتْ: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ } قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَقَالَ
"هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي"، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَمَا أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ قَالَ: "بَلَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ"
(1) .
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حَرُمَ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ
بَعْدَهُ، آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ (2) .
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ
وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ
وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ، { وَالْحِكْمَةِ } قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي
السَّنَةَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَحْكَامُ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظُهُ. { إِنَّ
اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } أَيْ: لَطِيفًا بِأَوْلِيَائِهِ خَبِيرًا
بِجَمِيعِ خَلْقِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ } الْآيَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي
الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ بِخَيْرٍ، فَمَا فِينَا خَيْرٌ نُذْكَرُ
بِهِ، إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يَقْبَلَ اللَّهُ مِنَّا طَاعَةً، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (3) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَنِيسَةُ (4)
بِنْتُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيَّةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا بَالُ رَبِّنَا يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلَا يَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ
مِنْ كِتَابِهِ، نَخْشَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِنَّ خَيْرٌ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ (5) .
__________
(1) أخرجه الحاكم: 3 / 146 دون قوله: (قالت: فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل
البيت؟ قال: بلى إن شاء الله)، وهو في المسند: 6 / 492 من طريق آخر بنحوه وسنده
ضعيف، وانظر: ابن كثير: 3 / 485-486، شرح السنة: 14 / 117.وقال: هذا حديث صحيح
الإسناد.
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
برقم: (2408) 4 / 1873.
(3) رواه الطبري: 22 / 10 وفي سنده قابوس بن أبي ظبيان، قال الحافظ ابن حجر عنه في
التقريب: "فيه لين" وزاد السيوطي نسبته للطبراني. انظر: زاد المسير: 6 /
383 مع حاشية المحقق، البحر المحيط: 7 / 233.
(4) في "ب" أنيسة.
(5) انظر: الروايات عن أم سلمة في الطبري: 22 / 10.
وَرُوِيَ
أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ رَجَعَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَدَخَلَتْ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: هَلْ نَزَلَ فِينَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟
قُلْنَ: لَا. فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ لَفِي خَيْبَةٍ وَخَسَارٍ، قَالَ: وَمِمَّ
ذَاكَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُنَّ لَا يُذْكَرْنَ بِخَيْرٍ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ } (1) الْمُطِيعِينَ {
وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ } فِي إِيمَانِهِمْ وَفِيمَا سَاءَهُمْ
وَسَرَّهُمْ، { وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ } عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ،
{ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ } الْمُتَوَاضِعِينَ، { وَالْخَاشِعَاتِ }
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخُشُوعَ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا
يَلْتَفِتَ، { وَالْمُتَصَدِّقِينَ } مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، {
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
} عَمَّا لَا يَحِلُّ، { وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ
اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَ اللَّهَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا (2)
.
وَرُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"قَدْ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ"، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتُ" (3) .
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسَلِمَاتِ"، وَمَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَمُحَمَّدًا
رَسُولُهُ، وَلَمْ يُخَالِفْ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:
"وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ"، وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِي
الْفَرْضِ، وَالرَّسُولَ فِي السُّنَّةِ: فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:
"وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَمَنْ صَانَ قَوْلَهُ عَنِ الْكَذِبِ
فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: "وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ"،
وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى الرَّزِيَّةِ:
فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: "وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ"،
وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَعْرِفْ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَهُوَ
دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: "وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ"، وَمَنْ
تَصَدَّقَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:
"وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ"، وَمَنْ صَامَ فِي كُلِّ
شَهْرٍ أَيَّامَ الْبِيضِ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ
عَشَرَ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: "وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِمَاتِ"، وَمِنْ حَفِظَ فَرْجَهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ فَهُوَ دَاخِلٌ
فِي قَوْلِهِ: "وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ"، وَمَنْ
صَلَّى
__________
(1) ذكره الواحدي ص (413)، وصاحب زاد المسير: 6 / 384.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 609 لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: الحث على ذكر الله
تعالى، برقم (2676) 4 / 2062.
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِحُقُوقِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: "وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ". { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }
نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسَدِيَةِ وَأَخِيهَا عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأُمِّهِمَا أُمَيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى زَيْدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
بِعُكَاظٍ فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ رَضِيَتْ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يَخْطِبُهَا
لِنَفْسِهِ فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ يَخْطِبُهَا لِزَيْدٍ أَبَتْ وَقَالَتْ:
أَنَا ابْنَةُ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَا أَرْضَاهُ لِنَفْسِي،
وَكَانَتْ بَيْضَاءَ جَمِيلَةً فِيهَا حِدَّةٌ، وَكَذَلِكَ كَرِهَ أَخُوهَا
ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } (1)
يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، { وَلَا مُؤْمِنَةٍ } يَعْنِي: أُخْتَهُ
زَيْنَبَ، { إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا } أَيْ إِذَا أَرَادَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا وهو نكاح زينت لِزَيْدٍ، { أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "أَنْ
يَكُونَ" بِالْيَاءِ، لِلْحَائِلِ بَيْنَ التَّأْنِيثِ وَالْفِعْلِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ "الْخِيَرَةُ" مِنْ أَمْرِهِمْ، وَالْخِيَرَةُ:
الِاخْتِيَارُ.
وَالْمَعْنَى أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ مَا أَرَادَ اللَّهُ أَوْ يَمْتَنِعَ مِمَّا
أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ. { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } أَخْطَأَ خَطَأً ظَاهِرًا، فَلَمَّا سَمِعَا ذَلِكَ رَضِيَا
بِذَلِكَ وَسَلَّمَا، وَجَعَلَتْ أَمْرَهَا بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ أَخُوهَا، فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا، فَدَخَلَ بِهَا وَسَاقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَسِتِّينَ
دِرْهَمًا، وَخِمَارًا، وَدِرْعًا، وَإِزَارًا (2) وَمِلْحَفَةً، وَخَمْسِينَ
مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، وَثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 22 / 11، وذكر الواحدي في أسباب النزول ص (610).
(2) زيادة من "ب".
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } الْآيَةَ، نزلت في زينت (1)
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَوَّجَ
زَيْنَبَ مِنْ زَيْدٍ مَكَثَتْ عِنْدَهُ حِينًا، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى زَيْدًا ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ،
فَأَبْصَرَ زَيْنَبَ قَائِمَةً فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ
جَمِيلَةً ذَاتَ خَلْقٍ مِنْ أَتَمِّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ
وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ
وَانْصَرَفَ، فَلَمَّا جَاءَ زَيْدٌ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَفَطِنَ زَيْدٌ، فَأُلْقِيَ
فِي نَفْسِ زَيْدٍ كَرَاهِيَتُهَا فِي الْوَقْتِ (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى
الناس والله أحق أن تخشاه" 8 / 523.
(2) هذه الرواية وإن ساقها عدد من المفسرين إلا أن المحققين من أهل العلم ردوها،
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 8 / 524 "ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي
حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته هو
المعتمد" وهذه شهادة لها قيمتها، وقد ذكر رحمه الله قبل هذا روايات في
الموضوع وعلق عليها إذ قال: "وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي
فساقها سياقًا واضحًا حسنًا ولفظة "بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش،
وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يزوجها زيد
بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزوجها إياه، ثم أعلم الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدُ أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال
يكون بين زيد وزينب ما يكون بين الناس، فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه
ويقولوا تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا. وعنده من طريق علي بن زيد عن علي بن
الحسين بن علي قال: أعلم الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زينب
ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه قال له: اتق الله
وأمسك عليك زوجك، قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله
مبديه". هذا والله أعلم -حفظك الله- أن: 1- الروايات في هذه القصة ضعيفة من
حيث السند. 2- تتنافى مع عصمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانته.
3- لو كان الذي أخفاه عليه الصلاة والسلام هو محبته لها لأظهره الله تعالى -كما
ذكر البغوي- ولكن الله تعالى أظهر أنه سيتزوجها. 4- وقد كان صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي خطبها على زيد بن حارثة، وكانت ابنة عمته، وهو يراها
مذ كانت طفلة حتى كبرت فلم لم يقع حبها في قلبه؟ وكيف يقع هذا الحب في قلبه بعد أن
يتزوجها مولاه؟ وإن أردت أن تتوسع فانظر: الشفا القاضي عياض: 2 / 878-880، حياة
محمد لمحمد حسين هيكل ص 322-326- الاسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير لمحمد
أبو شهبة ص 452-458، روح المعاني للآلوسي: 22 / 24-25، البحر المحيط: 7 / 234-235،
في ظلال القرآن: 5 / 2865-2869، وللدكتور زاهر عواض الألمعي كتاب: "مع
المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزينب بنت
جحش" .
فَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُفَارِقَ صَاحِبَتِي"، قَالَ: مَا لَكَ أَرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْهَا إِلَّا خَيْرًا،
وَلَكِنَّهَا تَتَعَظَّمُ عَلَيَّ لِشَرَفِهَا وَتُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا، فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ"، يَعْنِي: زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، { وَاتَّقِ اللَّهَ } فِي
أَمْرِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا زَيْدٌ (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } بِالْإِسْلَامِ، {
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بِالْإِعْتَاقِ، وَهُوَ زَيْدُ بن حارثة 82/ب { أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } فِيهَا وَلَا تُفَارِقْهَا، { وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } أَيْ: تُسِرُّ فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُظْهِرُهُ، أَيْ: كَانَ فِي قَلْبِهِ لَوْ فَارَقَهَا لَتَزَوَّجَهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُبُّهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَدَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا.
{ وَتَخْشَى النَّاسَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: تَسْتَحْيِيهِمْ.
وَقِيلَ: تَخَافُ لَائِمَةَ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: أَمَرَ رَجُلًا بِطَلَاقِ
امْرَأَتِهِ ثُمَّ نَكَحَهَا (2) .
{ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ،
وَعَائِشَةُ: مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ
الْآيَةَ: "وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ" (4) .
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ
قَالَ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ مَا يَقُولُ
الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } ؟ قُلْتُ: يَقُولُ لَمَّا جَاءَ
زَيْدٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَ زَيْنَبَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ:
لَيْسَ كَذَلِكَ، كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا سَتَكُونُ مِنْ
أَزْوَاجِهِ وَأَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُهَا، فَلَمَّا جَاءَ زَيْدٌ وَقَالَ:
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُطْلِّقَهَا قَالَ لَهُ: أَمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ،
فَعَاتَبَهُ اللَّهُ وَقَالَ: لِمَ قُلْتَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَقَدْ
أَعْلَمْتُكَ أَنَّهَا سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِكَ؟ (5)
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 234.
(2) انظر: زاد المسير: 6 / 387.
(3) انظر: الطبري: 22 / 13، وراجع التعليق الآتي.
(4) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الأحزاب: 9 / 71-72 وقال: (هذا حديث حسن صحيح)،
والطبري: 22 / 13، وانظر: البخاري في التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء: 13 / 404
لكن عن أنس، مسلم في الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: "لقد رآه نزلة
أخرى" وهل رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه ليلة الإسراء؟
برقم: (177) 1 / 160.
(5) انظر ابن كثير: في التفسير 3 / 492.
وَهَذَا
هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَلْيَقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مُطَابِقٌ
لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ يُبْدِي وَيُظْهِرُ مَا أَخْفَاهُ
وَلَمْ يُظْهِرْ غَيْرَ تَزْوِيجِهَا مِنْهُ فَقَالَ: "زَوَّجْنَاكَهَا"
فَلَوْ كَانَ الَّذِي أَضْمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَحَبَّتَهَا أَوْ إِرَادَةَ طَلَاقِهَا لَكَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ يُظْهِرُهُ ثُمَّ يَكْتُمُهُ فَلَا يَظْهِرُهُ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا عُوتِبَ عَلَى إِخْفَاءِ مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ
أَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أَخْفَاهُ اسْتِحْيَاءً أَنْ
يَقُولَ لِزَيْدٍ: الَّتِي تَحْتَكَ وَفِي نِكَاحِكَ سَتَكُونُ امْرَأَتِي،
وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مُرْضٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ
أَخْفَى مَحَبَّتَهَا أَوْ نِكَاحَهَا لَوْ طَلَّقَهَا لَا يَقْدَحُ فِي حَالِ
الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مَلُومٍ عَلَى مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ
فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا لَمْ يَقْصِدْ فِيهِ الْمَآثِمَ، لِأَنَّ
الْوُدَّ وَمَيْلَ النَّفْسِ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ.
وَقَوْلُهُ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ" أَمْرٌ
بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ خَشْيَةٌ لَا إِثْمَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } لَمْ يُرِدْ بِهِ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْشَى اللَّهَ فِيمَا سَبَقَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ قَالَ: "أَنَا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ" ،
وَلَكِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْخَشْيَةَ مِنَ النَّاسِ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَفِي جَمِيعِ
الْأَشْيَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا } أَيْ: حَاجَةً
مِنْ نِكَاحِهَا، { زَوَّجْنَاكَهَا } وَذَكَرَ قَضَاءَ الْوَطَرِ لِيُعْلَمَ
أَنَّ زَوْجَةَ الْمُتَبَنَّى تَحِلُّ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا.
قَالَ أَنَسٌ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي
اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. (1)
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَدْلُ عَلَيْكَ بِثَلَاثٍ مَا مِنْ نِسَائِكَ
امْرَأَةٌ تَدْلُ بِهِنَّ: جَدِّي وَجَدُّكَ وَاحِدٌ، أَنِّي أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ
فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّ السَّفِيرَ لَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (2) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، أَخْبَرَنَا
بَهْزٌ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ: "فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ"، قَالَ:
فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قَالَ فَلَمَّا
رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهَا،
فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَنَكَصْتُ عَلَى عَقِبِي، فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ
أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُكِ.
قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى
مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء: 13 / 403-404.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 14، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: 13 / 412: أخرجه الطبري
وأبو القاسم الطحاوي في كتاب "الحجة والتبيان" من مرسل الشعبي.
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
قَالَ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَطْعَمَنَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، حَتَّى امْتَدَّ النَّهَارُ، [فَخَرَجَ
النَّاسُ] (1) وَبَقِيَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعْتُهُ فجعل
يتتبع حجز نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ، وَيَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ
الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِي.
قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ فَأَلْقَى
السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَنَزَلَ الْحِجَابُ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ،
أَوْلَمَ بِشَاةٍ (3) .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مُلَاسٍ النَّمِرِيُّ،
أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ابْتَنَى
بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا (4) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ }
إِثْمٌ، { فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا }
وَ"الْأَدْعِيَاءُ": جَمْعُ الدَّعِيِّ، وَهُوَ الْمُتَبَنَّى، يَقُولُ:
زَوَّجْنَاكَ زَيْنَبَ، وَهِيَ امْرَأَةُ زَيْدٍ الَّذِي تَبَنَّيْتَهُ،
لِيُعْلَمَ أَنَّ زَوْجَةَ الْمُتَبَنَّى حَلَالٌ لِلْمُتَبَنِّي، [وَإِنْ كان قد
خل بِهَا الْمُتَبَنَّى] (5) بِخِلَافِ امْرَأَةِ ابْنِ الصُّلْبِ فَإِنَّهَا لَا
تَحِلُّ لِلْأَبِ.
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } أَيْ: كَانَ قَضَاءُ اللَّهِ مَاضِيًا
وَحُكْمُهُ نَافِذًا وَقَدْ قَضَى فِي زَيْنَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا
مَقْدُورًا (38) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ
اللَّهُ لَهُ } أَيْ: فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، { سُنَّةَ اللَّهِ } أَيْ:
كسنة الله 83/أ نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ،
أَيْ: الْزَمُوا
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه مسلم في النكاح: باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب برقم: (1428): 2 /
1048.
(3) أخرجه البخاري في النكاح، باب الوليمة بشاة: 9 / 232، ومسلم في النكاح، باب:
زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب برقم: (1428) 2 / 1049، والمصنف في شرح السنة: 9 /
137.
(4) أخرجه البخاري في التفسير (تفسير سورة الأحزاب) 8 / 528، والمصنف في شرح
السنة: 9 / 137.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
سُنَّةَ
اللَّهِ، { فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أَيْ: فِي الْأَنْبِيَاءِ
الْمَاضِينَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُمْ بِمَا أَحَلَّ لَهُمْ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: أَرَادَ دَاوُدَ حِينَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَرْأَةِ الَّتِي هَوِيَهَا فَكَذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ زَيْنَبَ.
وَقِيلَ: أَشَارَ بِالسُّنَّةِ إِلَى النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ سُنَّةِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقِيلَ: إِلَى كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ مِثْلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ. (1)
{ وَكَانَ أَمْرُ، اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } قَضَاءً مَقْضِيًا كَائِنًا
مَاضِيًا.
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ
أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) }
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ } [يَعْنِي سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ] (2) { وَيَخْشَوْنَهُ
وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } لَا يَخْشَوْنَ قَالَةَ النَّاسِ
وَلَائِمَتَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ، { وَكَفَى
بِاللَّهِ حَسِيبًا } حَافِظًا لِأَعْمَالِ خَلْقِهِ وَمُحَاسِبَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ
قَالَ النَّاسُ: إِنْ مُحَمَّدًا تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } (3)
يَعْنِي: زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، أَيْ: لَيْسَ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمُ
الَّذِينَ لَمْ يَلِدْهُمْ فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ بَعْدَ
فِرَاقِهِ إِيَّاهَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَبْنَاءٌ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ،
وَالطَّاهِرُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَكَذَلِكَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ ابْنِي
هَذَا سَيِّدٌ؟ .
قِيلَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا صِغَارًا لَمْ يَكُونُوا رِجَالًا.
وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا: إِنَّهُ أَرَادَ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ (4) .
{ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } خَتَمَ اللَّهُ بِهِ
النُّبُوَّةَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: "خَاتَمَ" بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى
الِاسْمِ، أَيْ: آخِرَهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى
الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ خَتَمَ بِهِ النَّبِيِّينَ فَهُوَ خَاتَمُهُمْ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 235-236 وفيه: أن اليهود عابوه أي: النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله عليهم بقوله:
"سنة الله".
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) انظر: الطبري: 22 / 16.
(4) انظر: مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل ص (282).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ لَوْ لَمْ أَخْتِمْ بِهِ النَّبِيِّينَ لَجَعَلْتُ لَهُ
ابْنًا يَكُونُ بَعْدَهُ نَبِيًّا (1) .
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ
أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ لَمْ يُعْطِهِ وَلَدًا ذَكَرًا يَصِيرُ رَجُلًا {
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخُذَاشَاهِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبْكَرُ
الْجُورَبَذِيُّ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ
قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ، تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ
النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ
اللَّبِنَةِ لَا يَعِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْتُ أَنَا سَدَدْتُ مَوْضِعَ تِلْكَ
اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِيَ الْبُنْيَانُ وَخُتِمَ بِيَ الرُّسُلُ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ
الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِي
أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي، يَمْحُو اللَّهُ
بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي،
وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ" (3) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ
ذِكْرًا كَثِيرًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَفْرِضِ اللَّهُ تَعَالَى
فَرِيضَةً (4) إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي
حال العذر غير الذِّكْرُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يُنْتَهَى
إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ
(5) وَأَمَرَهُمْ بِهِ فِي
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 393.
(2) أخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 201، وأخرج البخاري: 6 / 558 عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن مثلي
ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية،
فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة،
وأنا خاتم النبيين" ومسلم 4 / 1719 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل
رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زوايا، فجعل الناس
يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنةٌ ٌٌٌ! قال: فأنا اللبنة. وأنا
خاتم النبيين".
(3) أخرجه الترمذي في الأدب، باب: ما جاء في أسماء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: 8 / 128-130، وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في
المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 6 /
554، والمصنف في شرح السنة: 13 / 211.
(4) ساقط من "أ".
(5) أخرجه الطبري: 22 / 17، وابن كثير: 3 / 496.
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
كُلِّ
الْأَحْوَالِ، فَقَالَ: "فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ" (النِّسَاءِ-103) . وَقَالَ: { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا
كَثِيرًا } أَيْ: بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَفِي
الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَفِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الذِّكْرُ الْكَثِيرُ أَنْ لَا تَنْسَاهُ أَبَدًا.
{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) }
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا
(44) }
{ وَسَبِّحُوهُ } أَيْ: صَلُّوا لَهُ، { بُكْرَةً } يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ، {
وَأَصِيلًا } يَعْنِي: صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
"وَأَصِيلًا" صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: قُولُوا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ، فَعَبَّرَ بِالتَّسْبِيحِ عَنْ أَخَوَاتِهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: "ذِكْرًا كَثِيرًا" هَذِهِ
الْكَلِمَاتُ يَقُولُهَا الطَّاهِرُ وَالْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ (1) . { هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } فَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ:
الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ: الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ السُّدِّيُّ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: أَيُصَلِّي رَبُّنَا؟
فَكَبُرَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى مُوسَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قُلْ
لَهُمْ: إِنِّي أُصَلِّي، وَإِنَّ صَلَاتِي رَحْمَتِي، وَقَدْ وَسِعَتْ رَحْمَتِي
كُلَّ شَيْءٍ (2) .
وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ هِيَ إِشَاعَةُ الذِّكْرِ
الْجَمِيلِ لَهُ فِي عِبَادِهِ. وَقِيلَ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ.
قَالَ أَنَسٌ: لَمَّا نَزَلَتْ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ، يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا خَصَّكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
بِشَرَفٍ إِلَّا وَقَدْ أَشْرَكَنَا فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
(3) .
قَوْلُهُ: { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أَيْ: مِنْ
ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ يَعْنِي: أَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ
وَهِدَايَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لَكُمْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظُلْمَةِ
الْكُفْرِ إِلَى النُّورِ، { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { تَحِيَّتُهُمْ
} أَيْ: تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ، { يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ } أَيْ: يَرَوْنَ
اللَّهَ، { سَلَامٌ } أَيْ: يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُسَلِّمُهُمْ مِنْ
جَمِيعِ الْآفَاتِ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 237، زاد المسير: 6 / 397-398.
(2) انظر: الدر المنثور: 6 / 622.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 622 لعبد بن حميد وابن المنذر.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
وَرُوِيَ
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يُلْقَوْنَهُ"، يَعْنِي: يَلْقَوْنَ مَلَكَ الْمَوْتِ، لَا يَقْبِضُ رُوحَ
مُؤْمِنٍ إِلَّا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ (1) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَ
الْمُؤْمِنِ قَالَ: رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ (2) .
وَقِيلَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَتُبَشِّرُهُمْ حِينَ يُخْرَجُونَ
مِنْ قُبُورِهِمْ (3) { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } يَعْنِي: الْجَنَّةَ.
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
(45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا
لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلًا (49) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أَيْ: شَاهِدًا لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ،
وَمُبَشِّرًا لِمَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ، وَنَذِيرًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِنَا
بِالنَّارِ. { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ } إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، {
بِإِذْنِهِ } بِأَمْرِهِ، { وَسِرَاجًا مُنِيرًا } سَمَّاهُ سِرَاجًا لِأَنَّهُ
يُهْتَدَى بِهِ كَالسِّرَاجِ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي الظُّلْمَةِ. { وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } . { وَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ،
{ وَدَعْ أَذَاهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تُجَازِهِمْ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَنْسُوخٌ بآية القتال .
83/ب
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } حَافِظًا. قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ،
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ
قَبْلَ النِّكَاحِ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الطَّلَاقَ
عَلَى النِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: إِذَا نَكَحْتُكِ
فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَنْكِحُهَا فَهِيَ طَالِقٌ،
فَنَكَحَ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَهُوَ قَوْلُ
__________
(1) أخرجه الحاكم: 2 / 351-352 وقال: صحيح قلت (الذهبي): عبد الله قال ابن عدي:
مظلم الحديث ومحمد قال ابن حبان: لا يحتج به. وعزاه السيوطي أيضا: في الدر
المنثور: 6 / 623 لابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 623 للمرزوي في الجنائز وابن أبي الدنيا
وأبي الشيخ، وذكره صاحب البحر المحيط: 7 / 237.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 237.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
عَلِيٍّ،
وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَمُعَاذٍ، وَعَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ جبير، والقاسم وطاووس، وَالْحَسَنُ،
وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٌ،
وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ عَيَّنَ امْرَأَةً يَقَعُ،
وَإِنْ عَمَّ فَلَا يَقَعُ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبُوا عَلَى ابْنِ
مَسْعُودٍ، إِنْ كَانَ قَالَهَا فَزَلَّةٌ مِنْ عَالِمٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ:
إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "وإذا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ"، وَلَمْ يَقِلْ إِذَا
طَلَّقْتُمُوهُنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْمُورِيُّ،
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ النَّهَاوَنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّيْسَابُورِيُّ
بِمَكَّةَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ
سُوَيْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ
النِّكَاحِ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } تُجَامِعُوهُنَّ، {
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } تُحْصُونَهَا
بِالْأَقْرَاءِ وَالْأَشْهُرِ، { فَمَتِّعُوهُنَّ } أَيْ: أَعْطُوهُنَّ مَا
يَسْتَمْتِعْنَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا
صَدَاقًا فَلَهَا الْمُتْعَةُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَضَ لَهَا صَدَاقًا فَلَهَا
نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَا مُتْعَةَ لَهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: "فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ" (الْبَقَرَةِ-237) .
وَقِيلَ: هَذَا أَمْرُ نَدَبٍ، فَالْمُتْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا مَعَ نِصْفِ
الْمَهْرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ بِكُلِّ حَالٍ
لِظَاهِرِ الْآيَةِ.
{ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } خَلُّوا سَبِيلَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ
غَيْرِ ضِرَارٍ.
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ
عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي
هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ
إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا (50) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ
أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أَيْ: مُهُورَهُنَّ،
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص: 5 / 232-236.
(2) أخرجه الحاكم: 2 / 420 وقال: مدار سند هذا الحديث على إسنادين واهيين: جرير عن
الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي، وعمرو بن شعيب عن جده فلذلك لم يقع الاستقصاء من
الشيخين في طلب هذه الأسانيد الصحيحة والله أعلم. وللحديث طرق أخرى عن عدد من
الصحابة يتقوى بها، انظر: تخريجه بالتفصيل في: نصب الراية: 3 / 230-233، تلخيص
الحبير: 3 / 210-212، إرواء الغليل: 6 / 173-174، و7 / 152-153.
{
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } رَدَّ عَلَيْكَ مِنَ
الْكَفَّارِ بِأَنْ تَسْبِيَ فَتَمْلِكَ مِثْلَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ، وَقَدْ
كَانَتْ مَارِيَةُ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَوَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ ، {
وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } يَعْنِي: نِسَاءَ قُرَيْشٍ، { وَبَنَاتِ
خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ } يَعْنِي: نِسَاءَ بَنِي زُهْرَةَ، { اللَّاتِي
هَاجَرْنَ مَعَكَ } إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ لَمْ تُهَاجِرْ مِنْهُنَّ مَعَهُ
لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُهَا.
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ خَطَبَنِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ فَلَمْ أَحِلُّ لَهُ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ
وَكُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ، ثُمَّ نُسِخَ شَرْطُ الْهِجْرَةِ فِي التَّحْلِيلِ
(1) .
{ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
أَيْ. أَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ بِغَيْرِ
صَدَاقٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنَةِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِذَا وَهَبَتْ
نَفْسَهَا مِنْهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَحِلُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بِالْمَهْرِ؟
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ:
"وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً" ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْهِجْرَةَ فِي
قَوْلِهِ: "اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ" عَلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ:
أَسْلَمْنَ مَعَكَ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ
غَيْرِ الْمُسْلِمَةِ، وَكَانَ النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ [فِي حَقِّهِ] (2) بِمَعْنَى
الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا مَهْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ
خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } كَالزِّيَادَةِ عَلَى
الْأَرْبَعِ، وَوُجُوبِ تَخْيِيرِ النِّسَاءِ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا
مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِيهِ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير: 9 / 74-76 وقال: (هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من
هذا الوجه من حديث السدي)، والطبري: 22 / 20-21، وصححه الحاكم: 2 / 420 ووافقه
الذهبي، والبيهقي في السنن: 7 / 54، وزاد السيوطي في الدرالمنثور: 6 / 628 نسبته
لابن سعد وعبد بن حميد وابن راهويه وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) زيادة من "ب".
وَاخْتَلَفَ
أَهْلُ الْعِلْمِ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فِي حَقِّ
الْأُمَّةِ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ
الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَالزُّهْرِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ،
وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَمَنْ قَالَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ
اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَهَبَ
قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
"خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ".
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ
أَوِ التَّزْوِيجِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنْ
أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } وَكَانَ اخْتِصَاصُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْمَهْرِ لَا فِي لَفْظِ النِّكَاحِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ؟.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ إِلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ
يَمِينٍ، [وَقَوْلُهُ: "إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا" عَلَى طَرِيقِ
الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَوْهُوبَةً، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا] (2)
فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ، يُقَالُ
لَهَا: أُمُّ الْمَسَاكِينِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ
بِنْتُ جَابِرٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ. (3)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } أَيْ:
أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، { فِي أَزْوَاجِهِمْ } مِنَ الْأَحْكَامِ أَنْ
لَا يَتَزَوَّجُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَلَا يَتَزَوَّجُوا إِلَّا بِوَلِيٍّ
وَشُهُودٍ وَمَهْرٍ، { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أَيْ: مَا أَوْجَبْنَا مِنَ
الْأَحْكَامِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ }
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَوَّلِ الْآيَةِ أَيْ: أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَالْمَوْهُوبَةَ لَكَ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْكَ
حَرِجٌ وَضِيقٌ. { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص: 5 / 236-238.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) انظر: أحكام القرآن للجصاص: 5 / 239.
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ
ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ
أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) }
{ تُرْجِي } أَيْ: تُؤَخِّرُ، { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي } أَيْ:
تَضُمُّ، { إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ }
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: فَأَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ
أَنَّهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ
فِي
الْقَسْمِ كَانَتْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَقَطَ
عَنْهُ وَصَارَ الِاخْتِيَارُ إِلَيْهِ فِيهِنَّ.
قَالَ أَبُو رَزِينٍ، وابن زيد 84/أ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ غَارَ بَعْضُ
أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَطَلَبَ بِعَضُهُنَّ زِيَادَةَ النَّفَقَةِ، فَهَجَرَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ،
فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَأَنْ يُخْلِّيَ سَبِيلَ مَنِ اخْتَارَتِ الدُّنْيَا وَيُمْسِكَ مَنِ اخْتَارَتِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، عَلَى أَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُنْكَحْنَ أَبَدًا، وَعَلَى أَنَّهُ يُؤْوِي إِلَيْهِ مَنْ
يَشَاءُ مِنْهُنَّ، وَيُرْجِي مَنْ يَشَاءُ، فَيَرْضَيْنَ بِهِ قَسَمَ لَهُنَّ
أَوْ لَمْ يَقْسِمْ، أَوْ قَسَمَ لِبَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فَضَّلَ
بِعَضَهُنَّ فِي النَّفَقَةِ وَالْقِسْمَةِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ
إِلَيْهِ يَفْعَلُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَكَانَ ذلك من خصائص فَرَضَيْنَ بِذَلِكَ
وَاخْتَرْنَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ أَخْرَجَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنِ الْقَسْمِ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُخْرِجْ أَحَدًا، بَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مَعَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ-يُسَوِّي
بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ إِلَّا سَوْدَةُ فَإِنَّهَا رَضِيَتْ بِتَرْكِ حَقِّهَا
مِنَ الْقَسْمِ، وَجَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ.
وَقِيلَ: أَخْرَجَ بَعْضَهُنَّ.
رَوَى جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ
التَّخْيِيرُ أَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ، فَقُلْنَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ
اجْعَلْ لَنَا مِنْ مَالِكَ وَنَفْسِكَ مَا شِئْتَ وَدَعْنَا عَلَى حَالِنَا،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَرْجَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْضَهُنَّ وَآوَى إِلَيْهِ بَعْضَهُنَّ، وَكَانَ مِمَّنْ آوَى
إِلَيْهِ عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَزَيْنَبُ، وَأُمُّ سلمة، فكان قسم بَيْنَهُنَّ
سَوَاءً، وَأَرْجَى مِنْهُنَّ خَمْسًا: أُمَّ حَبِيبَةَ، وَمَيْمُونَةَ،
وَسَوْدَةَ، وَصَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ (2)
.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ" يَعْنِي: تَعْزِلُ
مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَتَرُدُّ إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ بَعْدَ
الْعَزْلِ بِلَا تَجْدِيدِ عَقْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُطَلِّقُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُمْسِكُ مَنْ
تَشَاءُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: تَتْرُكُ نِكَاحَ مَنْ شِئْتَ وَتَنْكِحُ مَنْ شِئْتَ مِنْ
نِسَاءِ أُمَّتِكَ.
وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ
امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ خِطْبَتُهَا حَتَّى يَتْرُكَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (413) عازيا للمفسرين.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 26، والواحدي في أسباب النزول ص (414).
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
وَقِيلَ:
تَقْبَلُ مَنْ تَشَاءُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي يَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لَكَ
فَتُؤْوِيهَا إِلَيْكَ وَتَتْرُكُ مَنْ تَشَاءُ فَلَا تَقْبَلُهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ فُضَيْلٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ
حَكِيمٍ مِنَ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ
نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟ فَلَمَّا نَزَلَتْ: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ }
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ (1)
.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } أَيْ: طَلَبْتَ
وَأَرَدْتَ أَنْ تُؤْوِيَ إِلَيْكَ امْرَأَةً مِمَّنْ عَزَلْتَهُنَّ عَنِ
الْقَسْمِ، { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } لَا إِثْمَ عَلَيْكَ، فَأَبَاحَ اللَّهُ
لَهُ تَرْكَ الْقَسْمِ لَهُنَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُؤَخِّرُ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُنَّ
فِي نَوْبَتِهَا وَيَطَأُ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُنَّ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا،
وَيَرُدُّ إِلَى فِرَاشِهِ مَنْ عَزَلَهَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ
الرِّجَالِ، { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ } أَيِ:
التَّخْيِيرُ الَّذِي خَيَّرْتُكَ فِي صُحْبَتِهِنَّ أَقْرَبُ إِلَى رِضَاهُنَّ
وَأَطْيَبُ لِأَنْفُسِهِنَّ وَأَقَلُّ لِحُزْنِهِنَّ إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ ذَلِكَ
مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، { وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ }
أَعْطَيْتَهُنَّ، { كُلُّهُنَّ } مِنْ تَقْرِيرٍ وَإِرْجَاءٍ وَعَزْلٍ وَإِيوَاءٍ،
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ وَالْمَيْلِ
إِلَى بَعْضِهِنَّ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }
{ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ، مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ
تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: "لَا
تَحِلُّ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، "مِنْ
بَعْدُ": يَعْنِي مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ التِّسْعِ اللَّاتِي خَيَّرْتَهُنَّ
فَاخْتَرْنَكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا خَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَكَرَ اللَّهُ لَهُنَّ
وَحَرَّمَ عَلَيْهِ النِّسَاءَ سِوَاهُنَّ وَنَهَاهُ عَنْ تَطْلِيقِهِنَّ وَعَنِ
الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ؟
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ سِوَاهُنَّ (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد 9 / 164، ومسلم في
الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها برقم: (1464) 2 / 1085-1086.
(2) راجع فتح الباري: 8 / 526.
(3) أخرجه الترمذي في تفسير: 9 / 78-79 وقال: (هذا حديث حسن صحيح) ، والنسائي في
النكاح، باب: ما افترض الله عز وجل على رسوله وحرمه على خلقه: 6 / 56، والدارمي في
النكاح، باب قول الله تعالى: (لا يحل لك النساء من بعد) 2 / 153 وابن حبان في
موارد الظمآن برقم: (2126) ص (523)، وصححه الحاكم: 2 / 437 ووافقه الذهبي،
والبيهقي: 7 / 54، والإمام أحمد في المسند: 6 / 41،180، وانظر: فتح الباري 8 /
526، التلخيص الحبير: 3 / 123.
وَقَالَ
أَنَسٌ: مَاتَ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ
إِلَّا اللَّاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: "إِنَّا أَحْلَلْنَا
لَكَ أَزْوَاجَكَ" الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ
مِنْ بَعْدُ"، إِلَّا الَّتِي أَحْلَلْنَا لَكَ بِالصِّفَةِ الَّتِي
تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
وَقِيلَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: لَوْ مَاتَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ؟ قَالَ: وَمَا
يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ قِيلَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا يَحِلُّ لَكَ
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ"، قَالَ: إِنَّمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضَرْبًا مِنَ
النِّسَاءِ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أحللنا لك
أزوجك"، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ".
قَالَ أَبُو صَالِحٍ: أُمِرَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ أَعْرَابِيَّةً وَلَا
عَرَبِيَّةً، وَيَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ
وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِنْ شَاءَ ثَلَاثَمِائَةٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَكَ الْيَهُودِيَّاتُ وَلَا النَّصْرَانِيَّاتُ بَعْدَ
الْمُسْلِمَاتِ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ، يَقُولُ: وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ
بِالْمُسْلِمَاتِ غَيْرَهُنَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَقُولُ لَا تَكُونُ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً، إِلَّا مَا مَلَكَتْ
يَمِينُكَ، أَحَلَّ لَهُ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ أَنْ
يَتَسَرَّى بِهِنَّ.
وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ: يَعْنِي وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ وَلَا أَنْ
تَبَدَّلَ بِأَزْوَاجِكَ اللَّاتِي هُنَّ فِي حِيَالِكَ أَزْوَاجًا غَيْرَهُنَّ
بِأَنْ تُطَلِّقَهُنَّ فَتَنْكِحَ غَيْرَهُنَّ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِ طَلَاقَ
النِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ عِنْدَهُ إِذْ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَحَرَّمَهُنَّ عَلَى غَيْرِهِ حِينَ اخْتَرْنَهُ، فَأَمَّا
نِكَاحُ غَيْرِهِنَّ فَلَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: { وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ } كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَادَلُونَ بِأَزْوَاجِهِمْ،
يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: بَادِلْنِي بِامْرَأَتِكَ، وَأُبَادِلُكَ
بِامْرَأَتِي، تَنْزِلُ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنِ امْرَأَتِي،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } (1) يَعْنِي
لَا تُبَادِلُ بِأَزْوَاجِكَ غَيْرَكَ بِأَنْ تُعْطِيَهُ زَوْجَكَ وَتَأْخُذَ
زَوْجَتَهُ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ لَا بَأْسَ أَنْ تبدل بجاريتك 84/ب مَا
شِئْتَ، فَأَمَّا الْحَرَائِرُ فَلَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ عُيَيْنَةُ
بْنُ حِصْنٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ،
وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَا عُيَيْنَةُ فَأَيْنَ الِاسْتِئْذَانُ"؟ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا اسْتَأْذَنْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ مُضَرَ مُنْذُ أَدْرَكْتُ،
ثُمَّ قَالَ: مَنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءُ إِلَى جَنْبِكَ؟ فَقَالَ: هَذِهِ
عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ
أَحْسَنِ الْخَلْقِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ"، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ
عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "هذا أحمق مطاوع
وَإِنَّهُ عَلَى مَا تَرَيْنَ لَسَيِّدُ قَوْمِهِ" (2) .
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 22 / 29-33 مع ترجيحات تراجع.
(2) أخرجه الدارقطني في النكاح: 3 / 218-219، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 /
638 للبزار وابن مردويه، قال الهيثمي في المجمع: 7 / 92 (رواه البزار، وفيه إسحاق
بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "حديث
أبي هريرة في نكاح البدل ضعيف جدا".
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } يَعْنِي: لَيْسَ لَكَ أَنْ
تُطَلِّقَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِكَ وَتَنْكِحَ بَدَلَهَا أُخْرَى وَلَوْ أَعْجَبَكَ
جَمَالُهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةَ
امْرَأَةَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا اسْتُشْهِدَ جَعْفَرُ أَرَادَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطِبَهَا فَنُهِيَ
عَنْ ذَلِكَ (1) .
{ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: مَلَكَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مَارِيَةَ.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } حَافِظًا.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا
مِنَ النِّسَاءِ. رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ
الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى
نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ
الْجُورَبَذِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ
لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ نَظَرْتَ
إِلَيْهَا؟" قُلْتُ: لَا قَالَ: "فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى
أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ
ابن مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ،
أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْظُرْ إِلَيْهَا
فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا" (4) قَالَ
الْحُمَيْدِيُّ: يَعْنِي الصِّغَرَ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 244.
(2) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزوجها: 3 /
25-26، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 2 / 8، والبيهقي: 7 / 84، والحاكم: 2 / 165
وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والإمام أحمد: 3 / 334، والمصنف في شرح
السنة: 9 / 17، وانظر: نصب الراية: 241، التلخيص الحبير: 3 / 147، إرواء الغليل: 6
/ 200.
(3) أخرجه الترمذي في النكاح، باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة 4 / 206 وقال:
"هذا حديث حسن"، والنسائي في النكاح، باب: إباحة النظر قبل التزويج: 6 /
69-70، وابن ماجه في النكاح: باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها: 1 / 600
وصححه ابن حبان في موارد الظمآن برقم: (1236) ص 303، والحاكم: 2 / 165 على شرط
الشيخين ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة في المصنف: 4 / 355، والدارمي في النكاح:
باب النظر للمرأة عند الخطبة: 2 / 59، والبيهقي في السنن 7 / 84-85، والإمام أحمد:
4 / 246 والمصنف في شرح السنة: 9 / 17، وانظر: تلخيص الحبير: 3 / 146-252، سلسلة
الأحاديث الصحيحة رقم (96): 1 / 150-152.
(4) أخرجه مسلم في النكاح، باب: النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها
برقم: (1424) 2 / 1040.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ
وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ
تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ
اللَّهِ عَظِيمًا (53) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الْآيَةَ. قَالَ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ وَلِيمَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ
جَحْشٍ حِينَ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ
أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدِمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ هَانِئٍ تُوَاظِبُنِي
عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَدَمْتُهُ
عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ
حِينَ أُنْزِلَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا
مِنَ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا، وَبَقِيَ رَهْطٌ مِنْهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ النَّبِيُّ
لِلَّهِ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاءَ حُجْرَةَ عَائِشَةَ، ثُمَّ
ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ
عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَخْرُجُوا، فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ عَتَبَةَ
حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ
فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ السِّتْرَ، وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ (1) .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ -وَاسْمُهُ الْجَعْدُ-عَنْ أَنَسٍ قَالَ: فَدَخَلَ
يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى
السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } إِلَى
قَوْلِهِ: { وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح ، باب الوليمة حق: 9 / 230، وفي الاسئذان باب آية
الحجاب: 11 / 22 وفي مواضع أخرى.
(2) أخرجه البخاري في النكاح، باب الهدية للعروس: 9 / 226-227.
وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا
يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ إِلَى أَنْ يُدْرَكَ ثُمَّ يَأْكُلُونَ
وَلَا يَخْرُجُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَأَذَّى بِهِمْ فَنَزَلَتْ (1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ } يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تُدْعَوْا، { إِلَى طَعَامٍ } فَيُؤْذَنُ
لَكُمْ فَتَأْكُلُونَهُ، { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ
إِدْرَاكَهُ وَوَقْتَ نُضْجِهِ، يُقَالُ: أَنَى الْحَمِيمُ: إِذَا انْتَهَى
حَرُّهُ، وَإِنَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ: إِذَا حَانَ، إِنَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ
مَقْصُورَةٍ، فَإِذَا فَتَحْتَهَا مَدَدْتَ فَقُلْتَ الْإِنَاءَ، وَفِيهِ
لُغَتَانِ إِنَى يَأْنَى، وَآنَ يَئِينُ، مِثْلَ: حَانَ يَحِينُ.
{ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ } أَكَلْتُمُ
الطَّعَامَ، { فَانْتَشِرُوا } تَفَرَّقُوا وَاخْرُجُوا مِنْ مَنْزِلِهِ، { وَلَا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } وَلَا طَالِبِينَ الْأُنْسَ لِلْحَدِيثِ، وَكَانُوا
يَجْلِسُونَ بَعْدَ الطَّعَامِ يَتَحَدَّثُونَ طَوِيلًا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.
{ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } أَيْ: لَا يَتْرُكُ تَأْدِيبَكُمْ وَبَيَانَ الْحَقِّ
حَيَاءً.
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ }
أَيْ: مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، فَبَعْدَ آيَةِ الْحِجَابِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُنْتَقِبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُنْتَقِبَةٍ، { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ،
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } مِنَ الرَّيْبِ.
وَقَدْ صَحَّ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ،
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ
أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ
بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ،
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْجُبْ
نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَفْعَلْ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً
طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ -حِرْصًا
عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ-فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الْحِجَابِ (2)
.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ ابْنُ أَحْمَدَ
الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ
بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ:
وَافَقَنِي رَبِّي في ثلاث 85/أ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى؟
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 641.
(2) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: خروج النساء إلى البراز: 1 / 248، وفي تفسير
سورة الأحزاب وفي الاستئذان.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
فَأَنْزَلَ
اللَّهُ: "وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى"، وَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ
أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ
الْحِجَابِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي بَعْضُ مَا آذَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاؤُهُ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ
اسْتَقْرِبُهُنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ
لَيُبْدِلَنَّهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى
زَيْنَبَ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ مَا كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ، قَالَ:
فَخَرَجْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ"( التَّحْرِيمِ-5
) ، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ }
لَيْسَ لَكُمْ أَذَاهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَئِنْ قُبِضَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْكِحَنَّ عَائِشَةَ (2) .
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ،
فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ (3) وَقَالَ: { إِنَّ
ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } أَيْ: ذَنْبًا عَظِيمًا.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ الْعَالِيَةَ بِنْتَ ظَبْيَانَ الَّتِي
طَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا
وَوَلَدَتْ لَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ (4) .
{ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمًا (54) }
{ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمًا } نَزَلَتْ فِيمَنْ أَضْمَرَ نِكَاحَ عَائِشَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) .
وَقِيلَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: مَا بَالُنَا نُمْنَعُ مِنَ الدُّخُولِ
عَلَى بَنَاتِ أَعْمَامِنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ قَالَ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ
وَالْأَقَارِبُ: وَنَحْنُ أَيْضًا نُكَلِّمُهُنَّ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى 8 / 168، ومسلم
في فضائل الصحابة، باب: فضائل عمر برقم: (2399) 4 / 1865 مختصرا، والمصنف في شرح
السنة: 14 / 93-94، وللسيوطي رسالة في موافقات عمر، منشورة في الحاوي للفتاوى: 1 /
377 بعنوان (قطف الثمر في موافقات عمر) وانظر فيما سبق: 1 / 147 تعليق:1،2.
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 417-418 بدون إسناد، وعزاه السيوطي في الدر
المنثور: 6 / 643 لابن مردويه عن ابن عباس.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي بلاغا، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن
قتادة، انظر الدر المنثور: 6 / 643.
(4) أخرجه البيهقي في السنن: 7 / 73 عن يونس عن ابن شهاب بلاغا، وعزاه السيوطي في
الدر المنثور: 6 / 644 لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) أخرجه ابن جرير: 22 / 40، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 644 للبيهقي
وابن سعد.
(6) انظر: الطبري: 22 / 41-42.
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا
إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ
وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) }
{ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءَابَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا
إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ }
أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْهِنَّ فِي تَرْكِ الِاحْتِجَابِ مِنْ هَؤُلَاءِ، { وَلَا
نِسَائِهِنَّ } قِيلَ: أَرَادَ بِهِ النِّسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، حَتَّى لَا
يَجُوزَ لِلْكِتَابِيَّاتِ الدُّخُولُ عَلَيْهِنَّ، وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي
الْمُسْلِمَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَإِنَّمَا قَالَ: "وَلَا
نِسَائِهِنَّ" ، لِأَنَّهُنَّ مِنْ أَجْنَاسِهِنَّ، { وَلَا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ }
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عَبْدَ الْمَرْأَةِ هَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا لَهَا أَمْ
لَا؟.
فَقَالَ قَوْمٌ يَكُونُ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ".
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ كَالْأَجَانِبِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِمَاءُ
دُونَ الْعَبِيدِ.
{ وَاتَّقِينَ اللَّهَ } أَنْ يَرَاكُنَّ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ { شَهِيدًا } قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ إِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ النَّبِيَّ، وَالْمَلَائِكَةُ
يَدْعُونَ لَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "يُصَلُّونَ"
يَتَبَرَّكُونَ.
وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ: الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ:
الِاسْتِغْفَارُ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } أَيِ: ادْعُوَا لَهُ
بِالرَّحْمَةِ، { وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أَيْ: حَيُّوهُ بِتَحِيَّةِ
الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ،
وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: الدُّعَاءُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ
الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ
بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ،
أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو فَرْوَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى [سَمِعَ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى] (1) يَقُولُ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ
فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى فَاهْدِهَا لِي، فَقَالَ سَأَلْنَا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ قَالَ: "قُولُوا اللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُصْعَبٌ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزَمٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمَانَ الزُّرَقِيُّ أَنَّهُ قَالَ:
أَخْبَرَنِي أبو حميد الساعي أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ
وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَوِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ،
أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ
يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ كَيْسَانَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ عَشْرًا" . (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: "إن الله وملائكته يصلون على
النبي..الآية" 8 / 532، والمصنف في شرح السنة: 3 / 190.
(2) أخرجه البخاري في الدعوات، باب: هل يصلي على غير النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 11 / 169، ومسلم في الصلاة، باب: الصلاة على النبي بعد التشهد
برقم: (407) 1 / 305، والمصنف في شرح السنة: 3 / 191.
(3) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 2 / 607-608 وقال: (هذا حديث حسن غريب) وابن حبان في موارد الظمآن
برقم: (2389) ص 594، والمصنف في شرح السنة: 3 / 197. وقال السخاوي في " القول
البديع" صفحة (191-192): "وفي سنده موسى بن يعقوب الزمعي" قال
الدارقطني: إنه تفرد، قلت: وقد اختلف عليه فيه، فقيل عن عبد الله بن شداد عن ابن
مسعود بلا واسطة، هذه رواية الترمذي والبخاري في "تاريخه الكبير" وابن
أبي عاصم، وكذا هي عند أبي الحسين النرسي في "مشيخته" من الطريق التي
أخرجها الترمذي، وقيل: عن عبد الله ابن شداد عن أبيه عن ابن مسعود، هكذا أخرجه أبو
بكر ابن أبي شيبة ومن طريقه رواه ابن حبان في "صحيحة" وأبو نعيم وابن
بشكوال، وهكذا رواه ابن عاصم أيضا في "فضل الصلاة" له، وابن عدي في
"كامله" والدينوري في "مجالسته" والدارقطني في
"الأفراد" والتيمي في "الترغيب" وابن الجراح في
"أماليه" وأبو اليمن عساكر من طريق أبي الطاهر الذهلي وغيرهم. وهذه
الرواية أكثر وأشهر والزمعي قال فيه النسائي ليس بالقوي، لكن وثقه يحيى بن معين
فحسبك به، وكذا وثقه أبو داود وابن حبان وابن عدي وجماعة، وأشار البخاري في "
التاريخ" أيضا إلى أن الزمعي رواه عن ابن كيسان عن عتبة بن عبد الله عن
مسعود، والله أعلم.
(4) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعد التشهد برقم: (408) 1 / 306 والمصنف في شرح السنة: 3 / 195.
أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، [
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ] (1) أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ،
فَقَالَ: "إِنَّهُ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: [إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ] (2)
أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لَا يُصَلِّ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ
إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا [وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ
أُمَّتِكَ إِلَّا سَلَّمَتُ عَلَيْهِ عَشْرًا] (3) (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ هُوَ
ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّتْ عَلَيْهِ
الْمَلَائِكَةُ مَا صَلَّى عَلَيَّ فَلْيُقِلَّ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ
لِيُكْثِرَ" (5) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا
جَنَاحُ بْنُ يَزِيدَ الْمُحَارِبِيُّ بِالْكُوفَةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا بن حَازِمٍ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن موسى 85/ب وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي
السَّلَامَ" (6) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".
(4) أخرجه النسائي في السهو، باب: الفضل في الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 3 / 50، والإمام أحمد: 4 / 29-30، والحاكم: 2 / 420، وابن
حبان في موارد الظمآن برقم (2391) ص 594، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم 1و2 وهو حديث صحيح بطرقه، والمصنف في شرح
السنة: 3 / 196، وانظر: جلاء الأفهام لابن القيم ص 63-94.
(5) أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: برقم (907) 1 / 294، قال في الزوائد: إسناده ضعيف، لأن عاصم
بن عبيد الله، قال فيه البخاري وغيره: منكر الحديث، وأبو نعيم في الحلية:1 / 180،
والمصنف في شرح السنة: 3 / 198، قال السخاوي في "القول البديع" ص 169:
(رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو بكر بن أبي شيبة والبزار وابن ماجه والطيالسي وأبو
نعيم وابن أبي عاصم والتيمي والرشيد العطار، وفي سنده عاصم بن عبيد الله، وهو وإن
كان واهي الحديث فقد مشاه بعضهم، وصحح له الترمذي، وحديثه هذا حسن في المتابعات،
قاله المنذري وكذا حسن شيخنا هذا الحديث على أنه قد اختلف على عاصم فيه كما سلف في
حديث عمر، ولكن قد رواه الطبراني من غير طريقه بسند لين، وبالله التوفيق) .
(6) أخرجه النسائي في السهو، باب: السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: 3 / 43، والدارمي: 2 / 225، وصححه الحاكم: 2 / 421 ووافقه الذهبي
والإمام أحمد: 1 / 387، 441، وابن حبان في موارد الظمآن برقم (2393) ص 595،
وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم
(22) ص (11) والمصنف في شرح السنة: 3 / 197، قال ابن القيم في "جلاء
الأفهام" ص (60): "وهذا إسناد صحيح" .
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
{
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
وَالْمُشْرِكُونَ. فَأَمَّا اليهود فقالوا عزيرا ابْنُ اللَّهِ، وَيَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَالُوا:
الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَثَالِثُ وثلاثة، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا:
الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْأَصْنَامُ شُرَكَاؤُهُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شَتَمَنِي عَبْدِي، يقول: اتخذ لله
وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ
يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ (1) .
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا
الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" (2) .
وَقِيلَ: مَعْنَى "يُؤْذُونَ اللَّهَ" يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
وَصِفَاتِهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ أَصْحَابُ التَّصَاوِيرِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي،
فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً" (3) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "يُؤْذُونَ اللَّهَ" أَيْ: يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ" (يُوسُفَ-82) ،
أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ.
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "مَنْ عَادَى لِي وَلْيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ،
وَقَالَ مَنْ أَهَانَ لِي وَلْيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ" (4)
.
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير "قل هو الله أحد": 8 / 739 عن أبي هريرة رضي
الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال الله تعالى: كذبني ابن
آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني
كما بدأني، و.. وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم
ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة الجاثية: 8 / 574، ومسلم في الألفاظ، باب: النهي
عن سب الدهر برقم: (2246) 4 / 1762.
(3) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: (والله خلقكم وما تعلمون) 13 /
528، ومسلم في اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان برقم: (2111) 3 /
1671، والمصنف في شرح السنة: 12 / 129.
(4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع 11 / 340-341.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
وَمَعْنَى
الْأَذَى: هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَارْتِكَابُ مَعَاصِيهِ،
ذَكَرَهُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ أَذَىً مِنْ أَحَدٍ، وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنَّهُ شُجَّ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ.
وَقِيلَ: شَاعِرٌ، سَاحِرٌ، مُعَلَّمٌ، مَجْنُونٌ.
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا
يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) }
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا } مِنْ غَيْرِ أَنْ عَلِمُوا مَا أَوْجَبَ أَذَاهُمْ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: يَقَعُونَ فِيهِمْ وَيَرْمُونَهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ، { فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [وَذَلِكَ أَنَّ
نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ] كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَيَشْتُمُونَهُ (1) .
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الزُّنَاةِ الَّذِينَ كَانُوا
يَمْشُونَ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ يَتَّبِعُونَ النِّسَاءَ إِذَا بَرَزْنَ
بِاللَّيْلِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ، فَيَغْمِزُونَ الْمَرْأَةَ، فَإِنْ
سَكَتَتِ اتَّبَعُوهَا، وَإِنْ زَجَرَتْهُمُ انْتَهَوْا عَنْهَا، وَلَمْ يَكُونُوا
يَطْلُبُونَ إِلَّا الْإِمَاءَ، وَلَكِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْحُرَّةَ مِنَ
الْأَمَةِ لِأَنَّ زِيَّ الْكُلِّ كَانَ وَاحِدًا، يَخْرُجْنَ فِي دِرْعٍ
وَخِمَارٍ، الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، فَشَكَوْنَ ذَلِكَ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ،
فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ } (3) الْآيَةَ. ثُمَّ نَهَى الْحَرَائِرَ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ
بِالْإِمَاءِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلَابِيبِهِنَّ } جَمْعُ الْجِلْبَابِ، وَهُوَ الْمُلَاءَةُ الَّتِي تَشْتَمِلُ
بِهَا الْمَرْأَةُ فَوْقَ الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَرَ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أن
يغطين رؤوسهن ووجوهن بِالْجَلَابِيبِ إِلَّا عَيْنًا وَاحِدَةً لِيُعْلَمَ
أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص (420)، وما بين القوسين استدركناه منه، وانظر:
القرطبي: 14 / 420.
(2) راجع فيما سبق تفسير سورة النور: الآية (11) وما بعدها.
(3) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص (420)، وقال: الدليل على صحة هذا قوله تعالى:
(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك..الآية) وساق بإسناده عن هيثم عن حصين عن أبي
مالك قال: كانت النساء المؤمنات يخرجن بالليل إلى حاجتهن، وكان المنافقون يتعرضون
لهن ويؤذونهن فنزلت هذه الآية، وانظر: الدر المنثور 6 / 659، ابن كثير: 3 /
519-520.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ } أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، { فَلَا يُؤْذَيْنَ }
فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُنَّ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } قَالَ أَنَسٌ:
مَرَّتْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَارِيَةٌ مُتَقَنِّعَةٌ فَعَلَاهَا
بِالدُّرَّةِ، وَقَالَ يَالَكَاعُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ، أَلْقِي
الْقِنَاعَ (1) .
{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا
أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) }
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 660.
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
{
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ
الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66)
}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ } عَنْ
نِفَاقِهِمْ، { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } فُجُورٌ، يَعْنِي
الزُّنَاةَ، { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } بِالْكَذِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ
نَاسًا مِنْهُمْ كَانُوا إِذَا خَرَجَتْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوقِعُونَ فِي النَّاسِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا وَهُزِمُوا،
وَيَقُولُونَ: قَدْ أَتَاكُمُ الْعَدُوُّ وَنَحْوَهَا (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا وَيُفْشُونَ الْأَخْبَارَ.
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } لَنُحَرِّشَنَّكَ بِهِمْ وَلَنُسَلِّطَنَّكَ
عَلَيْهِمْ، { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } لَا يُسَاكِنُوكَ فِي
الْمَدِينَةِ { إِلَّا قَلِيلًا } حَتَّى يُخْرَجُوا منها، وقيل: لنسلنطك
عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ وَتُخْلِي مِنْهُمُ الْمَدِينَةَ. { مَلْعُونِينَ
} مَطْرُودِينَ، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } وُجِدُوا
وَأُدْرِكُوا، { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } أَيِ: الْحُكْمُ فِيهِمْ هَذَا
عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ بِهِ. { سُنَّةَ اللَّهِ } أَيْ: كَسُنَّةِ اللَّهِ، { فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فَعَلُوا
مِثْلَ فِعْلِ هَؤُلَاءِ، { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَسْأَلُكَ النَّاسُ، عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ } أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَمْرَ
السَّاعَةِ، وَمَتَى يَكُونُ قِيَامُهَا؟ أَيْ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ، { لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ، قَرِيبًا } { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ }
__________
(1) انظر الدر المنثور : 6 / 662، الطبري: 22 / 48.
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
ظَهْرًا
لبطن حين يسبحون عَلَيْهَا، { يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولا } فِي الدُّنْيَا .
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ
لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ
وَجِيهًا (69) }
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ،
وَيَعْقُوبُ: "سَادَاتِنَا" بكسر التاء والأف قَبْلَهَا عَلَى جَمْعِ
الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ بِلَا أَلِفٍ قَبْلَهَا، {
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذَابِ } أَيْ: ضَعْفِي عَذَابِ غَيْرِهِمْ، { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا
} قَرَأَ عَاصِمٌ: كَبِيرًا بِالْبَاءِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ: عَذَابًا
كَثِيرًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالثَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"
(الْبَقَرَةِ-161) ، وَهَذَا يَشْهَدُ لِلْكَثْرَةِ، أَيْ: مَرَّةً بَعْدَ
مَرَّةٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } فَطَهَّرَهُ
اللَّهُ مِمَّا قَالُوا: { وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } كَرِيمًا ذَا جَاهٍ،
يُقَالُ: وَجُهَ الرَّجُلُ يُوجَهُ وَجَاهَةً فَهُوَ وَجِيهٌ، إِذَا كَانَ ذَا
جَاهٍ وَقَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ
شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ.
وَقِيلَ: كَانَ مُحَبَّبًا مَقْبُولًا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا أُوذِيَ بِهِ مُوسَى :
فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ
وَمُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِّيًا
سِتِّيرًا لَا يُرَى مَنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ
آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا
مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ أَوْ أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفة، وإن لله
أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ
ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى
ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى
عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوبِي حَجَرُ، ثُوبِي حَجَرُ،
حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
فَرَأَوْهُ
عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ
الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ،
فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدْبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ
أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا" (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ
اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا".
وَقَالَ قَوْمٌ: إِيذَاؤُهُمْ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ هَارُونُ فِي
التِّيهِ ادَّعَوْا عَلَى مُوسَى أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ
الْمَلَائِكَةَ حَتَّى مَرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ
لَمْ يَقْتُلْهُ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا (2) .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ أَنَّ قَارُونَ اسْتَأْجَرَ مُومِسَةً
لِتَقْذِفَ مُوسَى بِنَفْسِهَا عَلَى رَأْسِ الْمَلَإِ فَعَصَمَهَا اللَّهُ
وَبَرَّأَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَهْلَكَ قَارُونَ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ احْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ،
أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لِقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا
وَجْهُ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ:
"يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا
فَصَبَرَ" (4)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوَابًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَدْلَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: صِدْقًا. وَقِيلَ: مُسْتَقِيمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ:
قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَتَقَبَّلُ حَسَنَاتِكُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُزَكِّ أَعْمَالَكُمْ،
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ
فَوْزًا عَظِيمًا } أَيْ: ظَفِرَ بِالْخَيْرِ كُلِّهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء: 6 / 436.
(2) انظر الطبري: 22 / 52، الدر المنثور: 6 / 666 قال الحافظ ابن حجر في الفتح 8 /
538: "وقد روى أحمد بن منيع في مسنده" والطبري وابن أبي حلتم بإسناد قوي
عن ابن عباس عن علي قال: "صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو
إسرائيل لموسى: أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشد حبا فآذوه بذلك، فأمر الله
الملائكة فحملته فمرت به على مجالس بني إسرائيل فعلموا بموته".
(3) انظر: الدر المنثور: 6 / 441-442، زاد المسير: 6 / 426.
(4) أخرجه البخاري في الأدب، باب: الصبر على الأذى: 10 / 511 ، ومسلم في الزكاة،
باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام برقم: (1062) 2 / 739 ، والمصنف في شرح
السنة: 13 / 239.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
{
إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } الْآيَةَ. أَرَادَ بِالْأَمَانَةِ الطَّاعَةَ
وَالْفَرَائِضَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، عرضها على السموات
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَدَّوْهَا أَثَابَهُمْ وَإِنْ
ضَيَّعُوهَا عَذَّبَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَمَانَةُ: أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَإِيتَاءُ
الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ،
وَقَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْعَدْلُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَأَشَدُّ مِنْ
هَذَا كُلِّهِ الْوَدَائِعُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَمَانَةُ: الْفَرَائِضُ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الصَّوْمُ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ،
وَمَا يَخْفَى مِنَ الشَّرَائِعِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنَ الْإِنْسَانِ فَرْجَهُ وَقَالَ: هَذِهِ أَمَانَةٌ اسْتَوْدَعْتُكَهَا،
فَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، وَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، وَالْيَدُ
أَمَانَةٌ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَمَانَاتُ النَّاسِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، فَحَقٌّ
عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَغِشَّ مُؤْمِنًا وَلَا مُعَاهَدًا فِي شَيْءٍ
قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
فَعَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَانَةَ على أعيان السموات وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ
وَأَكْثَرِ السَّلَفِ، فَقَالَ لَهُنَّ أَتَحْمِلْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ بِمَا
فِيهَا؟ قُلْنَ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُنَّ جُوزِيتُنَّ وَإِنْ
عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ، فَقُلْنَ: لا يا رب، نَحْنُ مُسَخَّرَاتٌ لِأَمْرِكَ
لَا نُرِيدُ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، وَقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفًا وَخَشْيَةً
وَتَعْظِيمًا لِدِينِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقُومُوا بِهَا لَا مَعْصِيَةً وَلَا
مُخَالَفَةً، وَكَانَ الْعَرْضُ عَلَيْهِنَّ تَخْيِيرًا لَا إِلْزَامًا وَلَوْ
أَلْزَمَهُنَّ لَمْ يَمْتَنِعْنَ مِنْ حَمْلِهَا، وَالْجَمَادَاتُ كُلُّهَا
خَاضِعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُطِيعَةٌ سَاجِدَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ جل ذكره
للسموات وَالْأَرْضِ: "ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ" (فُصِّلِتْ -11) ، وَقَالَ لِلْحِجَارَةِ: "وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" (الْبَقَرَةِ-74) ، وَقَالَ تَعَالَى:
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ من في السموات ومن فِي الْأَرْضِ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ" (الْحَجِ-18) الْآيَةَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: رَكَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِنَّ
الْعَقْلَ وَالْفَهْمَ حِينَ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عليهن حتى علقن الْخِطَابَ
وَأَجَبْنَ بِمَا أَجَبْنَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ العرض على السموات وَالْأَرْضِ هُوَ
الْعَرْضُ على أهل السموات وَالْأَرْضِ، عَرَضَهَا عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ.
وَقِيلَ:
عَلَى أَهْلِهَا كُلِّهَا دُونَ أَعْيَانِهَا، كقوله تعالى: "واسئل
الْقَرْيَةَ" (يُوسُفَ -82) ، أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ.
{ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أَيْ: خِفْنَ مِنَ
الْأَمَانَةِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَنَهَا فَيَلْحَقُهُنَّ الْعِقَابُ، { وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ } يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ اللَّهُ لِآدَمَ:
إِنِّي عَرَضْتُ الأمانة على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَلَمْ تُطِقْهَا
فَهَلْ أَنْتَ آخِذُهَا بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ إِنْ
أَحْسَنْتَ جُوزِيتَ، وَإِنْ أَسَأْتَ عُوقِبْتَ، فَتَحَمَّلَهَا آدَمُ، وَقَالَ:
بَيْنَ أُذُنِي وَعَاتِقِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا إِذَا تَحَمَّلْتَ
فَسَأُعِينُكَ، اجْعَلْ لِبَصَرِكَ حِجَابًا فَإِذَا خَشِيتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى
مَا لَا يَحِلُّ لَكَ فَأَرْخِ عَلَيْهِ حِجَابَهُ، وَاجْعَلْ لِلِسَانِكَ
لِحْيَيْنِ غَلْقًا فَإِذَا غُشِيتَ فَأَغْلِقْ، وَاجْعَلْ لِفَرَجِكَ لِبَاسًا
فَلَا تَكْشِفْهُ عَلَى مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: فَمَا كَانَ بَيْنَ أَنْ تَحَمَّلَهَا وَبَيْنَ أَنْ خَرَجَ مِنَ
الْجَنَّةِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (1)
وَحَكَى النَّقَّاشُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مُثِّلَتِ
الْأَمَانَةُ كَصَخْرَةٍ ملقاة، ودعيت السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ إِلَيْهَا
فَلَمْ يَقْرُبُوا مِنْهَا، وَقَالُوا: لَا نُطِيقُ حَمْلَهَا، وَجَاءَ آدَمُ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُدْعَى، وَحَرَّكَ الصَّخْرَةَ، وَقَالَ: لَوْ أُمِرْتُ بِحَمْلِهَا
لَحَمَلْتُهَا، فَقُلْنَ لَهُ: احْمِلْهَا، فَحَمَلَهَا إِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ
وَضَعَهَا، وَقَالَ وَاللَّهِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَزْدَادَ لَزِدْتُ، فَقُلْنَ
لَهُ: احْمِلْهَا فَحَمَلَهَا إِلَى حِقْوِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا، وَقَالَ:
وَاللَّهُ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَزْدَادَ لَزِدْتُ، فقلن له 86/ب احْمِلْ
فَحَمَلَهَا حَتَّى وَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَهَا فَقَالَ
اللَّهُ: مَكَانَكَ فَإِنَّهَا فِي عُنُقِكَ وَعُنُقِ ذَرِّيَّتِكَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا احْتَمَلَ مِنَ
الْأَمَانَةِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَلُومًا حِينَ عَصَى رَبَّهُ، جَهُولًا لَا يَدْرِي مَا
الْعِقَابُ فِي تَرْكِ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ
جَهُولًا بِعَاقِبَةِ مَا تَحَمَّلَ.
وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي، فِي قَوْلِهِ
وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ قَوْلَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ ائْتَمَنَ آدَمَ
وَأَوْلَادَهُ عَلَى شيء وائتمن السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ عَلَى شَيْءٍ،
فَالْأَمَانَةُ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّاعَةِ وَالْقِيَامِ
بِالْفَرَائِضِ، وَالْأَمَانَةُ في حق السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ هِيَ
الْخُضُوعُ وَالطَّاعَةُ لِمَا خَلَقَهُنَّ لَهُ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: { فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَهَا } أَيْ: أَدَّيْنَ الْأَمَانَةَ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَمْ
يَتَحَمَّلِ الْأَمَانَةَ أَيْ: لَمْ يَخُنْ فِيهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ
أَيْ: خَانَ فِيهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ حَمَلَ الْأَمَانَةَ أَيْ: أَثِمَ فِيهَا
بِالْخِيَانَةِ.
__________
(1) انظر: ابن كثير: 3 / 523-524.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ" (الْعَنْكَبُوتِ-13)
، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ عَلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ قَالَ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ يَعْنِي الْكَافِرَ
وَالْمُنَافِقَ، حَمَلَا الْأَمَانَةَ أَيْ: خَانَا. وَقَوْلُ السَّلَفِ مَا
ذَكَرْنَا.
{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } قَالَ: مُقَاتِلٌ: لِيُعَذِّبَهُمْ بِمَا
خَانُوا الْأَمَانَةَ وَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ، { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } يَهْدِيهِمْ
وَيَرْحَمُهُمْ بِمَا أَدَّوْا مِنَ الْأَمَانَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ لِيَظْهَرَ نِفَاقُ
الْمُنَافِقِ وَشِرْكُ الْمُشْرِكِ فَيُعَذِّبُهُمَا اللَّهُ، وَيَظْهَرُ إِيمَانُ
الْمُؤْمِنِ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَعُودُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ
وَالْمَغْفِرَةِ إِنْ حَصَلَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي بَعْضِ الطَّاعَاتِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سُورَةُ
سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) }
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
مِلْكًا وَخَلْقًا، { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } كَمَا هُوَ لَهُ فِي
الدُّنْيَا، لِأَنَّ النِّعَمَ فِي الدَّارَيْنِ كُلَّهَا مِنْهُ.
وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ حَمْدُ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ
عَنَّا الْحَزَنَ" (فَاطِرِ-34) ، وَ"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنَا وَعْدَهُ" (الزَّمَرِ-74) . { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } {
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ
وَالْأَمْوَاتِ، { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } مِنَ النَّبَاتِ وَالْأَمْوَاتِ إِذَا
حُشِرُوا، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } مِنَ الْأَمْطَارِ، { وَمَا
يَعْرُجُ } يَصْعَدُ، { فِيهَا } مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، {
وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي
الله عنه قال: نزلت سورة سبأ بمكة. وأخرج ابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال:
سورة سبأ مكية. وانظر: الدر المنثور: 6 / 673.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) }
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ:
"عَالِمُ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْجَرِّ عَلَى نَعْتِ الرَّبِّ، أَيْ: وَرَبِّي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "عَلَّامِ" عَلَى وزن فعال، وجر الْمِيمِ. {
لَا يَعْزُبُ } لَا يَغِيبُ، (1) { عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } وَزْنُ ذرة { فِي
السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ } أَيْ: مِنَ
الذَّرَّةِ، { وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } { لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ } يَعْنِي: الَّذِينَ
آمَنُوا، { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } حَسَنٌ، يَعْنِي: فِي
الْجَنَّةِ. { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: "أَلِيمٌ" بِالرَّفْعِ
هَاهُنَا وَفِي الْجَاثِيَةِ عَلَى نَعْتِ الْعَذَابِ، [وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْخَفْضِ عَلَى نَعْتِ الرِّجْزِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الرِّجْزُ سُوءُ الْعَذَابِ].
(2) { وَيَرَى الَّذِينَ } [أَيْ: وَيَرَى الَّذِينَ]، (3) { أُوتُوا الْعِلْمَ }
يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ: عَبْدَ اللَّهِ ابن سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
{ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ، { وَهُوَ
الْحَقَّ } يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، { وَيَهْدِي } يَعْنِي:
الْقُرْآنَ، { إِلَى صِرَاطٍ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) }
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
{
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ
كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) }
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ: {
هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ } يَعْنُونُ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } قُطِّعْتُمْ
كُلَّ تَقْطِيعٍ وَفُرِّقْتُمْ كُلَّ تَفْرِيقٍ وَصِرْتُمْ تُرَابًا { إِنَّكُمْ
لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لَفِي خلق جديد. { أَافْتَرَى }
أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ وَلِذَلِكَ نَصَبَتْ، {
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } يَقُولُونَ: أَزَعَمَ كَذِبًا أَمْ
بِهِ جُنُونٌ؟.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: { بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ } مِنَ الْحَقِّ فِي
الدُّنْيَا. { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فَإِنَّ أَرْضِي
وَسَمَائِي مُحِيطَةٌ بِهِمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَأَنَا
الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ، { إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ } قَرَأَ
الْكِسَائِيُّ: "نَخْسِفْ بِهِمْ" بِإِدْغَامِ الْفَاءِ فِي الْبَاءِ، {
أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: "إِنْ يَشَأْ يَخْسِفْ أَوْ يُسْقِطْ"، بِالْيَاءِ
فِيهِنَّ لِذِكْرِ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ
فِيهِنَّ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيْ: فِيمَا تَرَوْنَ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ، { لَآيَةً } تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ، { لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ } تَائِبٍ رَاجِعٍ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا } يَعْنِي النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَابَ، وَقِيلَ: الْمُلْكُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أُوتِيَ مِنْ حُسْنِ
الصَّوْتِ وَتَلْيِينِ الْحَدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُصَّ بِهِ، { يَا
جِبَالُ } أَيْ: وَقُلْنَا يَا جِبَالُ، { أَوِّبِي } أَيْ: سَبِّحِي، { مَعَهُ }
إِذَا سَبَحَ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْعِيلٌ مِنَ الْإِيَابِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، أَيْ:
رَجِّعِي مَعَهُ وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ التَّأْوِيبِ فِي
السَّيْرِ، وَهُوَ أَنْ يَسِيرَ النَّهَارَ كُلَّهُ وَيَنْزِلُ لَيْلًا كَأَنَّهُ
قَالَ أَوِّبِي النَّهَارَ كُلَّهُ بِالتَّسْبِيحِ مَعَهُ. وَقَالَ وَهْبٌ:
نَوِّحِي مَعَهُ.
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{
وَالطَّيْرَ } عُطِفَ عَلَى مَوْضِعِ الْجِبَالِ، لِأَنَّ كُلَّ مُنَادَى فِي
مَوْضِعِ النَّصْبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَسَخَّرْنَا وَأَمَرْنَا الطَّيْرَ أَنْ
تُسَبِّحَ مَعَهُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "وَالطَّيْرُ" بِالرَّفْعِ
رَدًّا عَلَى الْجِبَالِ، أَيْ: أَوِّبِي أَنْتِ وَالطَّيْرُ. وَكَانَ دَاوُدُ
إِذَا نَادَى بِالنَّاحِيَةِ أَجَابَتْهُ الْجِبَالُ بِصَدَاهَا وَعَكَفَتِ
الطَّيْرُ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ، فَصَدَى الْجِبَالِ الَّذِي يَسْمَعُهُ
النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا تَخَلَّلَ الْجِبَالَ فَسَبَّحَ اللَّهَ جَعَلَتِ
الْجِبَالُ تُجَاوِبُهُ بِالتَّسْبِيحِ نَحْوَ مَا يُسَبِّحُ.
وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا لَحِقَهُ فُتُورٌ أَسْمَعُهُ
اللَّهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ تَنْشِيطًا لَهُ. (1) { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
} حتى 87/أ كَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالشَّمْعِ وَالْعَجِينِ يَعْمَلُ مِنْهُ
مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبِ مِطْرَقَةٍ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ: أَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا مَلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ
لِلنَّاسِ مُتَنَكِّرًا، فَإِذَا رَأَى رَجُلًا لَا يَعْرِفُهُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ
وَسَأَلَهُ عَنْ دَاوُدَ وَيَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي دَاوُدَ وَالِيكُمْ
هَذَا أَيُّ رَجُلٍ هُوَ؟ فَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ خَيْرًا، فَقَيَّضَ
اللَّهُ لَهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ دَاوُدُ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِ عَلَى عَادَتِهِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: نِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ
لَوْلَا خَصْلَةٌ فِيهِ، فَرَاعَ دَاوُدَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا هِيَ يَا عَبْدَ
اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ عِيَالَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ،
قَالَ فَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُسَبِّبَ لَهُ سَبَبًا
يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَيَتَقَوَّتُ مِنْهُ وَيُطْعِمُ
عِيَالَهُ، فَأَلَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْحَدِيدَ وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ
الدِّرْعِ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهَا. (2) وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ
يَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيَأْكُلُ وَيُطْعِمُ
مِنْهَا عِيَالَهُ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا يَبِيعُهَا بِسِتَّةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُنْفِقُ أَلْفَيْنِ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ،
وَيَتَصَدَّقُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، (3) قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ". (4)
{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }
{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } دُرُوعًا كَوَامِلَ وَاسِعَاتٍ طِوَالًا تَسْحَبُ فِي
الْأَرْضِ، { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } وَالسَّرْدُ نَسْجُ الدُّرُوعِ، يُقَالُ
لِصَانِعِهِ: السَّرَّادُ وَالزَّرَّادُ، يَقُولُ: قَدِّرِ الْمَسَامِيرَ فِي
حَلَقِ الدِّرْعِ
__________
(1) انظر: القرطبي 14 / 365-266.
(2) ذكره ابن كثير: 3 / 528.
(3) أخرجه ابن كثير: 3 / 528، والسيوطي في الدر المنثور: 6 / 676 وهو ضعيف.
(4) قطعة من حديث أخرجه البخاري في البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده: 4 / 303،
والمصنف في شرح السنة: 8 / 6.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
أَيْ:
لَا تَجْعَلِ الْمَسَامِيرَ دِقَاقًا فَتُفْلِتُ وَلَا غِلَاظًا فَتَكْسِرُ
الْحَلَقَ، وَيُقَالُ: "السَّرْدُ" الْمِسْمَارُ فِي الْحَلْقَةِ،
يُقَالُ: دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ أَيْ: مَسْمُورَةُ الْحَلَقِ، وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ اجْعَلْهُ عَلَى الْقَصْدِ وَقَدْرِ الْحَاجَةِ، { وَاعْمَلُوا صَالِحًا
} يُرِيدُ: دَاوُدَ وَآلَهُ، { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا
لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
(12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) }
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ،
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الرِّيحُ بِالرَّفْعِ أَيْ: لَهُ تَسْخِيرُ
الرِّيحِ، { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أَيْ: سَيْرُ غُدُوِّ تِلْكَ
الرِّيحِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَسَيْرُ رَوَاحِهَا مَسِيرَةَ
شَهْرٍ، وَكَانَتْ تَسِيرُ بِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَقِيلُ بِاصْطَخْرَ
وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ اصْطَخْرَ فَيَبِيتُ
بِكَابُلَ وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ. وَقِيلَ: إنه
كان يتغذى بِالرَّيِّ وَيَتَعَشَّى بِسَمَرْقَنْدَ. (1)
{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } أَيْ: أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ النُّحَاسِ،
وَ"الْقِطْرِ": النُّحَاسُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أُجْرِيَتْ لَهُ عَيْنُ النُّحَاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيهِنَّ كَجَرْيِ الْمَاءِ، وَكَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، وَإِنَّمَا
يَنْتَفِعُ النَّاسُ الْيَوْمَ بِمَا أَخْرَجَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ. (2)
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } بِأَمْرِ
رَبِّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَخَّرَ اللَّهُ الْجِنَّ لِسُلَيْمَانَ
وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، { وَمَنْ يَزِغْ } أَيْ:
يَعْدِلْ، { مِنْهُمْ } مِنَ الْجِنِّ، { عَنْ أَمْرِنَا } الَّذِي أَمَرْنَا بِهِ
مِنْ طَاعَةِ سُلَيْمَانَ، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } فِي الْآخِرَةِ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ
بِهِمْ مَلَكًا بِيَدِهِ سَوْطٌ مِنْ نَارٍ فَمَنْ زَاغَ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ
ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَحْرَقَتْهُ. { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ
} أَيْ: مَسَاجِدَ، وَالْأَبْنِيَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَكَانَ مِمَّا عَمِلُوا
لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ابْتَدَأَهُ دَاوُدُ وَرَفَعَهُ قَدْرَ قَامَةِ رَجُلٍ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي لَمْ أَقَضْ ذَلِكَ عَلَى يَدِكَ وَلَكِنِ
ابْنٌ
__________
(1) انظر فيما سبق تفسير سورة الأنبياء.
(2) هذا القول ملفق من روايتين ذكرهما ابن كثير: 3 / 529، السيوطي في الدر
المنثور: 6 / 678.
لَكَ
أُمَلِّكُهُ بَعْدَكَ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ أَقْضِي تَمَامَهُ عَلَى يَدِهِ،
فَلَمَّا تَوَفَّاهُ اللَّهُ اسْتَخْلَفَ سُلَيْمَانَ فَأَحَبَّ إِتْمَامَ بِنَاءِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَجَمَعَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ وَقَسَّمَ عَلَيْهِمُ
الْأَعْمَالَ فَخَصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ يَسْتَخْلِصُهَا لَهُ،
فَأَرْسَلَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ فِي تَحْصِيلِ الرُّخَامِ وَالْمَهَا
الْأَبْيَضِ مِنْ مَعَادِنِهِ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَدِينَةِ بِالرُّخَامِ
وَالصُّفَّاحِ، وَجَعَلَهَا اثْنَي عَشَرَ رَبَضًا، وَأَنْزَلَ كُلَّ رَبَضٍ
مِنْهَا سِبْطًا مِنَ الْأَسْبَاطِ، وَكَانُوا اثْنَي عَشَرَ سِبْطًا، فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَدِينَةِ ابْتَدَأَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَوَجَّهَ
(1) الشَّيَاطِينِ فِرَقًا فِرَقًا يَسْتَخْرِجُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَالْيَاقُوتَ مِنْ مَعَادِنِهَا وَالدُّرَّ الصَّافِي مِنَ الْبَحْرِ، وَفِرَقًا
يَقْلَعُونَ الْجَوَاهِرَ وَالْحِجَارَةَ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَفِرَقًا
يَأْتُونَهُ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَسَائِرِ الطِّيبِ مِنْ أَمَاكِنِهَا،
فَأَتَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ
أَحْضَرَ الصَّنَاعِينِ وَأَمَرَهُمْ بِنَحْتِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ
الْمُرْتَفِعَةِ وَتَصْيِيرِهَا أَلْوَاحًا وَإِصْلَاحِ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ
وَثَقْبِ الْيَوَاقِيتِ وَالْلَآلِىءِ، فَبَنَى الْمَسْجِدَ بِالرُّخَامِ
الْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ وَعَمَّدَهُ بِأَسَاطِينِ الْمَهَا
الصَّافِي وَسَقَّفَهُ بِأَلْوَاحِ الْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ وَفَصَّصَ سُقُوفَهُ
وَحِيطَانَهُ بِالْلَآلِىءِ وَالْيَوَاقِيتِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ، وَبَسَطَ
أرضه بألواح الفيروزج فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ بَيْتٌ أَبْهَى
وَلَا أَنْوَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ
كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ جَمَعَ إِلَيْهِ
أَحْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ بَنَاهُ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَاتَّخَذَ ذَلِكَ
الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ عِيدًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ
بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا فَأَعْطَاهُ اثْنَيْنِ،
وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثَّالِثَةَ، سَأَلَ حُكْمًا يُصَادِفُ
حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ هَذَا الْبَيْتَ
أَحَدٌ يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ. قَدْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ".
(2) .
قَالُوا: فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَلَى مَا بَنَاهُ سُلَيْمَانُ حَتَّى
غَزَاهُ بُخْتَنَصَّرُ فَخَرَّبَ الْمَدِينَةَ وَهَدَمَهَا وَنَقَضَ الْمَسْجِدَ،
وَأَخَذَ مَا كَانَ فِي سُقُوفِهِ وَحِيطَانِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ، فَحَمَلَهُ إِلَى دَارِ
مَمْلَكَتِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَبَنَى الشَّيَاطِينُ لِسُلَيْمَانَ
بِالْيَمَنِ حُصُونًا كَثِيرَةً [عَجِيبَةً] (3) مِنَ الصَّخْرِ.
__________
(1) في "ب" مفرق.
(2) أخرجه ابن ماجه في الإقامة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس: 1 /
452 قال: (وأن لا يأتي هذا المسجد) في الزوائد: اقتصر أبو داود على طرفه الأول من
هذا الوجه دون هذه الزيادة. ورواه النسائي في الصغرى من هذا الوجه عن عمرو بن
منصور، عن أبي مسهر عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن بريد، عن أبي إدريس
الخولاني عن ابن الديلمي به. وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف، لأن عبيد الله بن الجهم
لا يعرف حاله، وأيوب بن سويد متفق على ضعفه.
(3) زيادة من "ب".
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَتَمَاثِيلَ } أَيْ: كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ تَمَاثِيلَ،
أَيْ: صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَشَبَّةٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ. وَقِيلَ:
كَانُوا يُصَوِّرُونَ السِّبَاعَ وَالطُّيُورَ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَّخِذُونَ
صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْمَسَاجِدِ
لِيَرَاهَا النَّاسُ فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي
شَرِيعَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَتَّخِذُ صُوَرًا مِنَ الطِّينِ
فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا [بِإِذْنِ اللَّهِ]. (1)
{ وَجِفَانٍ } أَيْ: قِصَاعٍ واحدتها جفنة، 87/ب { كَالْجَوَابِ } كَالْحِيَاضِ
الَّتِي يُجْبَى فِيهَا الْمَاءُ، أَيْ: يُجْمَعُ، وَاحِدَتُهَا جَابِيَةٌ،
يُقَالُ: كَانَ يَقْعُدُ عَلَى الْجَفْنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ يَأْكُلُونَ
مِنْهَا { وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } ثَابِتَاتٍ لَهَا قَوَائِمُ لَا يُحَرَّكْنَ
عَنْ أَمَاكِنِهَا لِعَظْمِهِنَّ، وَلَا يَنْزِلْنَ وَلَا يُعَطَّلْنَ، وَكَانَ
يَصْعَدُ عَلَيْهَا بِالسَّلَالِمِ، وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ.
{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } أَيْ: وَقُلْنَا اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا، مَجَازُهُ: اعْمَلُوا يَا آلَ دَاوُدَ بِطَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ
عَلَى نِعَمِهِ.
{ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } أَيِ: الْعَامِلُ بِطَاعَتِي شُكْرًا
لِنِعْمَتِي.
قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ "آلِ دَاوُدَ" هُوَ دَاوُدُ نَفْسُهُ. وَقِيلَ:
دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا يَقُولُ: كَانَ دَاوُدُ
نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَزَّأَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمْ تَكُنْ تَأْتِي سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِمٌ يُصَلِّي.
(2)
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا
دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ
(14) }
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ } أَيْ: عَلَى سُلَيْمَانَ.
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي
بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ،
وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ يُدْخِلُ فِيهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ،
فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ لَا يُصْبِحُ يَوْمًا إِلَّا نَبَتَتْ فِي مِحْرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
شَجَرَةٌ، فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: اسْمِي كَذَا، فَيَقُولُ:
لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: لِكَذَا وَكَذَا، فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ،
فَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كَتَبَ،
حَتَّى نَبَتَتِ الْخَرُّوبَةُ، فَقَالَ لَهَا: مَا أَنْتِ؟ قَالَتِ:
الْخَرُّوبَةُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ مَسْجِدِكَ،
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَرِّبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ
الَّتِي عَلَى
__________
(1) زيادة ليست في الأصل.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 680 لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي
حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ثابت البناني.
وَجْهِكِ
هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ! فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ
لَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ
الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْبِرُ
الْإِنْسَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ أَشْيَاءَ وَيَعْلَمُونَ مَا فِي
غَدٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ
فَمَاتَ قَائِمًا وَكَانَ لِلْمِحْرَابِ كِوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ،
فَكَانَتِ الْجِنُّ يَعْمَلُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الَّتِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَلَا
يُنْكِرُونَ احْتِبَاسَهُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى النَّاسِ لِطُولِ صَلَاتِهِ
قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا
حَتَّى أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَانَ، فَخَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمُوا
بِمَوْتِهِ. (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ فَهُمْ يَأْتُونَهَا
بِالْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ، (2) فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { مَا
دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ } وَهِيَ الْأَرَضَةُ {
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } يَعْنِي: عَصَاهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو
عَمْرٍو: "مِنْسَاتَهُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَيُسَكِّنُ ابْنُ عَامِرٍ الْهَمْزَ،
وَأَصْلُهَا مِنْ: نَسَأْتُ الْغَنَمَ، أَيْ: زَجَرْتُهَا وَسُقْتُهَا، وَمِنْهُ:
نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ، أَيْ: أَخَّرَهُ.
{ فَلَمَّا خَرَّ } أَيْ: سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ } أَيْ:
عَلِمَتِ الْجِنُّ وَأَيْقَنَتْ، { أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } أَيْ: فِي التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ
مُسَخَّرِينَ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ مَيِّتٌ يَظُنُّونَهُ حَيًّا، أَرَادَ اللَّهُ
بِذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْجِنَّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِغَلَبَةِ
الْجَهْلِ. وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّ مَعْنَى "تَبَيَّنَتِ
الْجِنُّ"، أَيْ: ظَهَرَتْ وَانْكَشَفَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ، أَيْ: ظَهَرَ
أَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ
شَبَّهُوا عَلَى الْإِنْسِ ذَلِكَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ:
تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ: عَلِمَتِ الْإِنْسُ وَأَيْقَنَتْ
ذَلِكَ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "تُبَيِّنَتْ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ
[أَيْ: أَعْلَمَتِ الْإِنْسُ الْجِنَّ، ذُكِرَ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ
فَاعِلُهُ، "وَتُبَيِّنَ" لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ]. (3)
وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمَلَكَ يَوْمَ
مَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَابْتَدَأَ فِي بِنَاءِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِنْ مُلْكِهِ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 22 / 75، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 682-683 لابن أبي
حاتم. قال ابن كثير: 3 / 530: "وفي رفعه غرابة ونكارة والأقرب أن يكون موقوفا
وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة".
(2) ذكره ابن كثير: 3 / 531 وقال: "وهذا الأثر والله أعلم إنما هو مما تلقي
من علماء أهل الكتاب وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق ولا يكذب منها إلا ما
خالف الحق، والباقي لا يصدق ولا يكذب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ
وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ } رَوَى أَبُو
سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْعُطَيْفِيِّ، قَالَ: قَالَ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ كَانَ رَجُلًا أَوِ
امْرَأَةً أَوْ أَرْضًا؟ قَالَ: "كَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ وَلَهُ عَشَرَةٌ
مِنَ الْوَلَدِ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا
الَّذِينَ تَيَامَنُوا: فَكِنْدَةُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَزْدٌ، وَمُذْحِجٌ،
وَأَنْمَارٌ، وَحِمْيَرٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَا أَنْمَارٌ؟ قَالَ الَّذِينَ
مِنْهُمْ خَثْعَمٌ وَبَجِيلَةُ: وَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَعَامِلَةُ،
وَجُذَامُ، وَلَخْمٌ، وَغَسَّانُ، وَسَبَأٌ هُوَ ابْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبِ
بْنِ قَحْطَانَ". (1)
{ فِي مَسْكَنِهِمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "مَسْكَنِهِمْ"
بِفَتْحِ الْكَافِ، عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْكَافِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "مَسَاكِنِهِمْ" عَلَى الْجَمْعِ، وَكَانَتْ
مَسَاكِنُهُمْ بِمَأْرِبَ مِنَ الْيَمَنِ، { آيَةٌ } دَلَالَةٌ عَلَى
وَحْدَانِيَّتِنَا وَقُدْرَتِنَا، ثُمَّ فَسَّرَ الْآيَةَ فَقَالَ: { جَنَّتَانِ }
أَيْ: هِيَ جَنَّتَانِ بُسْتَانَانِ، { عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أَيْ: عَنْ
يَمِينِ الْوَادِي وَشِمَالِهِ. وَقِيلَ: عَنْ يَمِينِ مَنْ أَتَاهُمْ
وَشِمَالِهِ، وَكَانَ لَهُمْ وَادٍ قِيلَ أَحَاطَتِ الْجَنَّتَانِ بِذَلِكَ
الْوَادِي { كُلُوا } أَيْ: وَقِيلَ لَهُمْ كُلُوا، { مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ }
يَعْنِي: مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّتَيْنِ، قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَتِ
الْمَرْأَةُ تَحْمِلُ مِكْتَلَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَتَمُرُّ بِالْجَنَّتَيْنِ
فَيَمْتَلِىءُ مِكْتَلُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّ
شَيْئًا بِيَدِهَا، (2) { وَاشْكُرُوا لَهُ } أَيْ: عَلَى مَا رَزَقَكُمْ مِنَ
النِّعْمَةِ، وَالْمَعْنَى: اعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أَيْ:
أَرْضُ سَبَأٍ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ لَيْسَتْ بِسَبْخَةٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ
يَكُنْ يُرَى فِي بَلْدَتِهِمْ بَعُوضَةٌ وَلَا ذُبَابٌ وَلَا بُرْغُوثٌ وَلَا
عَقْرَبٌ وَلَا حَيَّةٌ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِبَلَدِهِمْ وَفِي ثِيَابِهِ
الْقَمْلُ فَيَمُوتُ الْقَمْلُ كُلُّهُ مِنْ طِيبِ الْهَوَاءِ، (3) فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أَيْ: طَيِّبَةُ الْهَوَاءِ، { وَرَبٌّ
غَفُورٌ } قَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَبُّكُمْ إِنْ شَكَرْتُمُوهُ فِيمَا رَزَقَكُمْ
رَبٌّ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ. { فَأَعْرَضُوا } قَالَ وَهْبٌ: فَأَرْسَلَ اللَّهُ
إِلَى سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ وَذَكَّرُوهُمْ
نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ وَأَنْذَرُوهُمْ عِقَابَهُ فَكَذَّبُوهُمْ، وَقَالُوا: مَا
نَعْرِفُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا نِعْمَةً فَقُولُوا لِرَبِّكُمْ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الحروف: 6 / 8 مختصرا، والترمذي في التفسير: 9 / 88-89
وقال: "هذا حديث غريب حسن" والحاكم: 2 / 224، وعزاه السيوطي في الدر
المنثور: 6 / 686-687 أيضا لعبد بن حميد والبخاري في التاريخ وابن المنذر وابن
مردويه. وانظر: مجمع الزوائد: 7 / 940.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 77 لكن عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 687
لعبد بن حميد عن قتادة أيضا.
(3) أخرجه الطبري: 22 / 77، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 687 لابن أبي
حاتم.
فَلْيَحْبِسْ
هَذِهِ النِّعَمَ عَنَّا إِنِ اسْتَطَاعَ، (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } 88/أ وَ"الْعَرِمُ":
جَمْعُ عُرْمَةٍ، وَهِيَ السِّكْرُ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ الْمَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: "الْعَرِمُ" السَّيْلُ الَّذِي لَا
يُطَاقُ، وَقِيلَ: كَانَ مَاءً أَحْمَرَ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
حَيْثُ شَاءَ، وَقِيلَ: "الْعَرِمُ": الْوَادِي، وَأَصْلُهُ مِنَ
الْعِرَامَةِ، وَهِيَ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبٌ، وَغَيْرُهُمَا: كَانَ ذَلِكَ السَّدُّ بَنَتْهُ
بِلْقِيسُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى مَاءِ وَادِيهِمْ،
فَأَمَرَتْ بِوَادِيهِمْ فَسُدَّ بِالْعَرِمِ، وَهُوَ الْمُسَنَّاةُ بِلُغَةِ
حِمْيَرَ، فَسَدَّتْ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِالصَّخْرِ وَالْقَارِ وَجَعَلَتْ لَهُ
أَبْوَابًا ثَلَاثَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَبَنَتْ مِنْ دُونِهِ بِرْكَةً
ضَخْمَةً وَجَعَلَتْ فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَخْرَجًا عَلَى عِدَّةِ أَنْهَارِهِمْ
يَفْتَحُونَهَا إِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا سَدُّوهَا،
فَإِذَا جَاءَ الْمَطَرُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَاءُ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ،
فَاحْتَبَسَ السَّيْلُ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ فَأَمَرَتْ بِالْبَابِ الْأَعْلَى فَفُتِحَ
فَجَرَى مَاؤُهُ فِي الْبِرْكَةِ، فَكَانُوا يَسْقُونَ مِنَ الْبَابِ الْأَعْلَى
ثُمَّ مِنَ الثَّانِي ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ الْأَسْفَلِ فَلَا يَنْفُذُ الْمَاءُ
حَتَّى يَثُوبَ الْمَاءُ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ فَكَانَتْ تُقَسِّمُهُ
بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَهَا مُدَّةً فَلَمَّا
طَغَوْا وَكَفَرُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُرَذًا يُسَمَّى الْخُلْدَ
فَنَقَبَ السَّدَّ مِنْ أَسْفَلِهِ فَغَرَّقَ الْمَاءُ جَنَّاتِهِمْ وَخَرَّبَ
أَرْضَهُمْ. (2)
قَالَ وَهْبٌ: وَكَانَ مِمَّا يَزْعُمُونَ وَيَجِدُونَ فِي عِلْمِهِمْ
وَكَهَانَتِهِمْ أَنَّهُ يُخَرِّبُ سَدَّهُمْ فَأْرَةٌ، فَلَمْ يَتْرُكُوا
فُرْجَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ إِلَّا رَبَطُوا عِنْدَهَا هِرَّةً فَلَمَّا جَاءَ
زَمَانُهُ وَمَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ مِنَ التَّغْرِيقِ أَقْبَلَتْ
فِيمَا يَذْكُرُونَ فَأْرَةٌ حَمْرَاءُ كَبِيرَةٌ إِلَى هِرَّةٍ مِنْ تِلْكَ
الْهِرَرِ فَسَاوَرَتْهَا حَتَّى اسْتَأْخَرَتْ عَنْهَا الْهِرَّةُ، فَدَخَلَتْ
فِي الْفُرْجَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهَا فَتَغَلْغَلَتْ فِي السَّدِّ
فَثَقَبَتْ وَحَفَرَتْ حَتَّى أَوْهَنَتْهُ لِلسَّيْلِ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ
بِذَلِكَ فَلَمَّا جَاءَ السَّيْلُ وَجَدَ خَلَلًا فَدَخَلَ فِيهِ حَتَّى قَطَّعَ
السَّدَّ، وَفَاضَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَغَرَّقَهَا وَدَفَنَ بُيُوتَهُمُ
الرَّمْلُ، فَفَرَّقُوا وَتَمَزَّقُوا حَتَّى صَارُوا مَثَلًا عِنْدَ الْعَرَبِ،
يَقُولُونَ: صَارَ بَنُو فُلَانٍ أَيْدِي سَبَأٍ وَأَيَادِي سَبَأٍ، أَيْ:
تَفَرَّقُوا وَتَبَدَّدُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } (3)
{ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قَرَأَ
الْعَامَّةُ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: "أُكُلِ
خَمْطٍ" بِالْإِضَافَةِ، الْأُكُلُ: الثَّمَرُ، وَالْخَمْطُ: الْأَرَاكُ
وَثَمَرُهُ يُقَالُ لَهُ: الْبَرِيرُ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ قَدْ أَخَذَ طَعْمًا مِنَ
الْمَرَارَةِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ أَكْلُهُ فَهُوَ خَمْطٌ. (4)
__________
(1) ذكره الطبري: 22 / 78.
(2) ذكره الطبري: 22 / 79.
(3) أخرج الطبري جزءا منه: 22 / 79.
(4) انظر: لسان العرب مادة (خمط) 7 / 296.
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
وَقَالَ
ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَمْطُ: ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُقَالُ لَهُ فَسْوَةُ
الضَّبْعِ، عَلَى صُورَةِ الْخَشْخَاشِ يَتَفَرَّكُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَمَنْ
جَعَلَ الْخَمْطَ اسْمًا لِلْمَأْكُولِ فَالتَّنْوِينُ فِي "أُكُلٍ"
حَسَنٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَصْلًا وَجَعَلَ الْأُكُلَ ثَمَرَةً فَالْإِضَافَةُ
فِيهِ ظَاهِرَةٌ، وَالتَّنْوِينُ سَائِغٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي بُسْتَانِ
فَلَانٍ أَعْنَابُ كَرْمٍ، يُتَرْجِمُ الْأَعْنَابَ بِالْكَرْمِ لِأَنَّهَا
مِنْهُ.
{ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } فَالْأَثْلُ هُوَ الطَّرْفَاءُ، وَقِيلَ:
هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَالسِّدْرُ
شَجَرٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ يُنْتَفَعُ بِوَرَقِهِ لِغَسْلِ
الرَّأْسِ وَيُغْرَسُ فِي الْبَسَاتِينِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ
كَانَ سِدْرًا بَرِّيًّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ وَرَقُهُ لِشَيْءٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ الشَّجَرِ فَصَيَّرَهُ
اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بِأَعْمَالِهِمْ.
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى
ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا
آمِنِينَ (18) }
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا } أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي فَعَلْنَا بِهِمْ
جَزَيْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، { وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } قَرَأَ
حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ: "وَهَلْ نُجَازِي"
بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ، "الْكَفُورَ" نُصِبَ لِقَوْلِهِ:
"ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ،
"الْكَفُورُ" رُفِعَ، أَيْ: وَهَلْ يُجَازَى مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ
إِلَّا الْكَفُورُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَازَى أَيْ: يُعَاقَبُ. وَيُقَالُ فِي الْعُقُوبَةِ:
يُجَازِي، وَفِي الْمَثُوبَةِ يَجْزِي.
قَالَ مُقَاتِلٌ: هَلْ يُكَافَأُ بِعَمَلِهِ السَّيِّءِ إِلَّا الْكَفُورُ لِلَّهِ
فِي نِعَمِهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلَا يُجَازَى، أَيْ: يُجْزَى
لِلثَّوَابِ بِعَمَلِهِ وَلَا يُكَافَأُ بِسَيِّئَاتِهِ. { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } بِالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، هِيَ
قُرَى الشَّامِ، { قُرًى ظَاهِرَةً } مُتَوَاصِلَةً تَظْهَرُ الثَّانِيَةُ مِنَ
الْأُولَى لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مَنَ الْيَمَنِ إِلَى
الشَّامِ فَكَانُوا يَبِيتُونَ بِقَرْيَةٍ وَيَقِيلُونَ بِأُخْرَى وَكَانُوا لَا
يَحْتَاجُونَ إِلَى حَمْلِ زَادٍ مِنْ سَبَأٍ إِلَى الشَّامِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ قُرَاهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةِ قَرْيَةٍ
مُتَّصِلَةٍ مِنْ سَبَأٍ إِلَى الشَّامِ.
{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أَيْ: قَدَّرْنَا سَيْرَهُمْ بَيْنَ هَذِهِ
الْقُرَى، وَكَانَ مَسِيرُهُمْ فِي الْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ عَلَى قَدْرِ نِصْفِ
يَوْمٍ، [فَإِذَا سَارُوا نِصْفَ يَوْمٍ] (1) وَصَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ ذَاتِ
مِيَاهٍ وَأَشْجَارٍ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ وَمَعَهَا مِغْزَلُهَا، وَعَلَى
رَأْسِهَا مِكْتَلُهَا فَتَمْتَهِنُ بِمِغْزَلِهَا فَلَا تَأْتِي بَيْتَهَا حَتَّى
يَمْتَلِىءَ مِكْتَلُهَا مِنَ الثِّمَارِ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ
وَالشَّامِ كَذَلِكَ. (1)
{ سِيرُوا فِيهَا } أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ سِيرُوا فِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ
بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَيْ: مَكَّنَّاهُمْ مِنَ السَّيْرِ فَكَانُوا يَسِيرُونَ
فِيهَا، { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا } أَيْ: بِاللَّيَالِي وَالْأَيَّامَ أَيِّ
وَقْتٍ شِئْتُمْ، { آمِنِينَ } لَا تَخَافُونَ عَدُوًّا وَلَا جُوعًا وَلَا
عَطَشًا، فَبَطِرُوا وَطَغَوْا وَلَمْ يَصِيرُوا عَلَى الْعَافِيَةِ، وَقَالُوا:
لَوْ كَانَتْ جَنَّاتُنَا أَبْعَدَ مِمَّا هِيَ كَانَ أَجْدَرَ أَنْ نَشْتَهِيَهُ.
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) }
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الشَّامِ فَلَوَاتٍ وَمَفَاوِزَ لِنَرْكَبَ فِيهَا الرَّوَاحِلَ وَنَتَزَوَّدَ
الْأَزْوَادَ، فَعَجَّلَ اللَّهُ لَهُمُ الْإِجَابَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
بَطِرُوا النِّعْمَةَ وَسَئِمُوا الرَّاحَةَ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بَعِّدْ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ
التَّبْعِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بَاعِدَ، بِالْأَلِفِ، وَكُلٌّ عَلَى وَجْهِ
الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "رَبُّنَا" بِرَفْعِ
الْبَاءِ، "بَاعَدَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ عَلَى الْخَبَرِ،
كَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَسْفَارَهُمُ الْقَرِيبَةَ بَطِرُوا وَأَشَّرُوا.
{ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } بِالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ. { فَجَعَلْنَاهُمْ
أَحَادِيثَ } عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِأَمْرِهِمْ
وَشَأْنِهِمْ، { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فَرَّقْنَاهُمْ فِي كُلِّ
وَجْهٍ مِنَ الْبِلَادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا غَرِقَتْ
قُرَاهُمْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، أَمَّا غَسَّانُ فَلَحِقُوا بِالشَّامِ
وَمَرَّ الْأَزْدُ إِلَى عَمَّانَ، وَخُزَاعَةُ إِلَى تِهَامَةَ، وَمَرَّ آلُ خُزَيْمَةَ
إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إِلَى يَثْرِبَ، وَكَانَ الَّذِي
قَدِمَ مِنْهُمُ الْمَدِينَةَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَهُوَ جَدُّ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ } لَعِبَرًا وَدَلَالَاتٍ، { لِكُلِّ صَبَّارٍ } عَنْ
مَعَاصِي اللَّهِ، { شَكُورٍ } لِأَنْعُمِهِ، قَالَ مقاتل: يعني 88/ب الْمُؤْمِنَ
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ صَبُورٌ عَلَى الْبَلَاءِ شَاكِرٌ لِلنَّعْمَاءِ. قَالَ
مُطَرِّفٌ: هُوَ الْمُؤْمِنُ إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ }
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "صَدَّقَ" بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: ظَنَّ
فِيهِمْ ظَنًّا حَيْثُ قَالَ: "فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ" (ص 82) ، "وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ"
(الْأَعْرَافِ 17)
__________
(1) انظر فيما سبق قوله تعالى: كلوا من رزق ربكم.
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
فَصَدَّقَ
ظَنَّهُ وَحَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: صَدَقَ عَلَيْهِمْ فِي ظَنِّهِ بِهِمْ، أَيْ:
عَلَى أَهْلِ سَبَأٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَّا مَنْ
أَطَاعَ اللَّهَ، { فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ
السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ"
(الْحِجْرِ-42) ، يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْصُونَهُ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا سَأَلَ النَّظِرَةَ فَأَنْظَرَهُ
اللَّهُ، قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ وَلِأُضِلُّنَّهُمْ، لَمْ يَكُنْ مُسْتَيْقِنًا
وَقْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّ مَا قَالَهُ فِيهِمْ يَتِمُّ وَإِنَّمَا قَالَهُ
ظَنًّا، فَلَمَّا اتَّبَعُوهُ وَأَطَاعُوهُ صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا ظَنَّهُ
فِيهِمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لَمْ يُسِلَّ عَلَيْهِمْ سَيْفًا وَلَا ضَرَبَهُمْ
بِسَوْطٍ وَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ فَاغْتَرُّوا. (1)
{ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) }
__________
(1) انظر: ابن كثير: 3 / 536، الدر المنثور: 6 / 695-696.
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أَيْ:
مَا كَانَ تَسْلِيطُنَا إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ، { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أَيْ: إِلَّا لِنَعْلَمَ، لِنَرَى
وَنُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَأَرَادَ عِلْمَ الْوُقُوعِ
وَالظُّهُورِ، وَقَدْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ بِالْغَيْبِ، { وَرَبُّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } رَقِيبٌ. { قَلْ } يَا مُحَمَّدُ لِكَفَّارِ مَكَّةَ، {
ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أَنَّهُمْ آلِهَةٌ، { مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَفِي
الْآيَةِ حَذْفٌ، أَيِ: ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا الضُّرَّ الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ
فِي سِنِيِّ الْجُوعِ، ثُمَّ وَصَفَهَا فَقَالَ: { لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ
وَضُرٍّ { وَمَا لَهُمْ } أَيْ: لِلْآلِهَةِ، { فِيهِمَا } في السموات
وَالْأَرْضِ، { مِنْ شِرْكٍ } شَرِكَةٍ، { وَمَا لَهُ } أَيْ: وَمَا لِلَّهِ، {
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } عَوْنٍ. { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا
لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ، قَالَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ حَيْثُ
قَالُوا: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَعْنَى إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، وَقَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو
وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: { أُذِنَ } بِضَمِّ الْهَمْزَةِ.
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ
بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالزَّايِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ
الزَّايِ أَيْ: كُشِفَ الْفَزَعُ وَأُخْرِجَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَالتَّفْرِيغُ إِزَالَةُ
الْفَزَعِ كَالتَّمْرِيضِ وَالتَّفْرِيدِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ
الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ السَّبَبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّمَا يُفَزِّعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ مِنْ غَشْيَةٍ تُصِيبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ
كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ
الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ
كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ { قَالُوا
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَخْبَرَنَا
زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانَ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ بْنُ
حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ،
عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِالْأَمْرِ تَكَلَّمَ
بالوحي أخذت السموات مِنْهُ رَجْفَةٌ أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفًا مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا سَمِعَ بذلك أهل السموات صُعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ
سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ
اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ
رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ، قَالَ فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ،
فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ". (2)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا يَفْزَعُونَ حَذَرًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى
وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ
سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ لَمْ تَسْمَعِ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا وَحْيًا، فَلَمَّا
بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ
فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ ظَنُّوا أَنَّهَا السَّاعَةُ، لِأَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أهل السموات مِنْ أَشْرَاطِ
السَّاعَةِ، فَصُعِقُوا مِمَّا سَمِعُوا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ،
فَلَمَّا انْحَدَرَ جِبْرِيلُ جَعَلَ يَمُرُّ بِأَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَكْشِفُ
عَنْهُمْ فَيَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: قَالَ الْحَقَّ، (3) يَعْنِي الْوَحْيَ، وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة الحجر- 8 / 380.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 91، وابن خزيمة في "التوحيد وإثبات الصفات" ص
(95)، الطبعة المنيرية، والبيهقي في الأسماء والصفات: 1 / 326 وابن أبي عاصم في
السنة: 1 / 227، وقال الهيثمي في المجمع: 7 / 95 "رواه الطبراني عن شيخه يحيى
بن عثمان ابن صالح، وقد وثق، وتكلم فيه من لم يسم بغير قادح معين، وبقية رجاله
ثقات"، وضعفه الألباني في "ظلال الجنة": 1 / 227.
(3) انظر: ابن كثير: 3 / 538، زاد المسير: 6 / 453.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
وَقَالَ
جَمَاعَةٌ: الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ.
قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: حَتَّى إِذَا كُشِفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ
الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ
قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالُوا:
الْحَقَّ، فَأَقَرُّوا بِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ. (1)
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ
يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ
الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ
شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ }
فالرزق من السموات: الْمَطَرُ، وَمِنَ الْأَرْضِ: النَّبَاتُ، { قُلِ اللَّهُ }
أَيْ: إِنْ لَمْ يَقُولُوا رَازِقُنَا اللَّهُ فَقُلْ أَنْتَ إِنَّ رَازِقَكُمْ
هُوَ اللَّهُ، { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
} لَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الشَّكِّ وَلَكِنْ عَلَى جِهَةِ الْإِنْصَافِ فِي
الْحُجَاجِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْآخَرِ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَهُوَ
يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ وَصَاحِبَهُ كَاذِبٌ.
وَالْمَعْنَى: مَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ بَلْ أَحَدُ
الْفَرِيقَيْنِ مُهْتَدٍ وَالْآخَرُ ضَالٌّ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ضَلَالٍ،
فَكَذَّبَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّكْذِيبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْأَلِفُ فِيهِ
صِلَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ، يَعْنِي: نَحْنُ عَلَى الْهُدَى وَأَنْتُمْ فِي الضَّلَالِ. { قُلْ لَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } { قُلْ
يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { ثُمَّ يَفْتَحُ }
يَقْضِي، { بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } { قُلْ
أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ } أَيْ: أَعْلِمُونِيَ الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِهِ، أَيْ: بِاللَّهِ، شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ مَعَهُ هَلْ
يَخْلُقُونَ وَهَلْ يَرْزُقُونَ، { كَلَّا } لَا يَخْلُقُونَ وَلَا يَرْزُقُونَ، {
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ } الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ، { الْحَكِيمُ } فِي
تَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ. قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } يَعْنِي: للناس
عامة أحمرهم وَأَسْوَدِهِمْ، { بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أَيْ: مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا،
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَرُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 453.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قومه 89/أ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى
النَّاسِ عَامَّةً". (1)
وَقِيلَ: كَافَّةً أَيْ: كَافًّا يَكُفُّهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ
الْكُفْرِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ
مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في التيمم: 1 / 435-436 وفي المساجد، ومسلم في
المساجد ومواضع الصلاة برقم: (521) 1 / 370-371، والمصنف في شرح السنة: 13 / 196.
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ
عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ
أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا
الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) }
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يَعْنِي
الْقِيَامَةَ. { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً
وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } أَيْ: لَا تَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِ يَعْنِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمُ الْمَوْتِ لَا تَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ
وَلَا تَتَقَدَّمُونَ بِأَنْ يُزَادَ فِي أَجَلِكُمْ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ. {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ } يَعْنِي: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، { وَلَوْ تَرَى } يَا
مُحَمَّدُ، { إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ } مَحْبُوسُونَ، { عِنْدَ رَبِّهِمْ
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } يَرُدُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
الْقَوْلَ فِي الْجِدَالِ، { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } اسْتُحْقِرُوا
وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وَهْمُ الْقَادَةُ
وَالْأَشْرَافُ، { لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أَيْ: أَنْتُمْ
مَنَعْتُمُونَا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. { قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا } أَجَابَهُمُ الْمَتْبُوعُونَ فِي الْكُفْرِ، { لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ
كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ } بِتَرْكِ الْإِيمَانِ. { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أَيْ: مَكْرُكُمْ
بِنَا فِي اللَّيْلِ
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
وَالنَّهَارِ،
وَالْعَرَبُ تُضِيفُ الْفِعْلَ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى تَوَسُّعِ
الْكَلَامِ؟ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمٍ
(1)
وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ طُولُ السَّلَامَةِ وَطُولُ
الْأَمَلِ فِيهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ" (الْحَدِيدِ-16) .
{ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا
وَأَسَرُّوا } أَظْهَرُوا { النَّدَامَةَ } وَقِيلَ: أَخْفَوْا، وَهُوَ مِنَ
الْأَضْدَادِ، { لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي
أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } فِي النَّارِ الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ
جَمِيعًا. { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مِنَ الْكُفْرِ
وَالْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا
بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا
وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(36) }
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا }
رُؤَسَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا، { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } {
وَقَالُوا } يَعْنِي: قَالَ الْمُتْرَفُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا: {
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا } وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ رَاضِيًا
بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَالْعَمَلِ لَمْ يُخَوِّلْنَا الْأَمْوَالَ
وَالْأَوْلَادَ، { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أَيْ: إِنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ
إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ فَلَا يُعَذِّبُنَا. { قُلْ
إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } يَعْنِي: أَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا
__________
(1) هذا عجز بيت لجرير بن عطية الخطفي، الشاعر الإسلامي، وصدره:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت
وهو من شواهد الطبري أيضا (22 / 98)، استشهد به على أنك تقول: يا فلان نهارك صائم،
وليلك قائم، فتسند الصيام والقيام إلى الليل والنهار، إسنادا مجازيا عقليا، والأصل
فيه أن يسند الصيام والقيام للرجل لا للزمان، ذلك من باب التوسع المجازي، فالعلاقة
هنا الزمانية... (من تعليق المحقق على الطبري). قال الفراء في معاني القرآن: (2 /
363): "المكر ليس الليل ولا للنهار إنما المعنى: بل مكركم بالليل والنهار.
وقد يجوز أن نضيف الفعل إلى الليل والنهار، ويكونا كالفاعلين، لأن العرب تقول:
نهارك صائم وليلك قائم ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار، وهو في المعنى للآدميين،
كما تقول العرب: نام ليلك، وعزم الأمر، إنما عزمه القوم. فهذا مما يعرف معناه،
فتتسع به العرب".
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
لَا
يَدُلُّ الْبَسْطُ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَلَا التَّضْيِيقُ عَلَى سَخَطِهِ،
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أَنَّهَا كَذَلِكَ.
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ
الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (39) }
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى } أَيْ: قُرْبَى، قَالَ الْأَخْفَشُ: "قُرْبَى" اسْمُ مَصْدَرٍ
كَأَنَّهُ قَالَ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيبًا، { إِلَّا مَنْ
آمَنَ } يَعْنِي: لَكِنَّ مَنْ آمَنَ، { وَعَمِلَ صَالِحًا } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِيمَانَهُ وَعَمَلَهُ يُقَرِّبُهُ مِنِّي، { فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } أَيْ: يُضَعِّفُ اللَّهُ لَهُمْ
حَسَنَاتِهِمْ فَيَجْزِي بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ عَشَرَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ
قَرَأَ يَعْقُوبُ: "جَزَاءً" مَنْصُوبًا مَنَّوْنَا
"الضِّعْفُ" رُفِعَ، تَقْدِيرُهُ: فَأُولَئِكَ لَهُمُ الضِّعْفُ
جَزَاءً، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْإِضَافَةِ، { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ
آمِنُونَ } قَرَأَ حَمْزَةُ: "فِي الْغُرْفَةِ" عَلَى وَاحِدِهِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ لِقَوْلِهِ: "لَنُبَوِّأَنَّهُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ غُرَفًا" (الْعَنْكَبُوتِ-58) . { وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ }
يَعْمَلُونَ، { فِي آيَاتِنَا } فِي إِبْطَالِ حُجَّتِنَا، { مُعَاجِزِينَ }
مُعَانِدِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا وَيَفُوتُونَنَا، { أُولَئِكَ
فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ } أَيْ: يُعْطِي خُلْفَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا كَانَ فِي
غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا تَصَدَّقْتُمْ مِنْ صَدَقَةٍ وَأَنْفَقْتُمْ فِي
الْخَيْرِ مِنْ نَفَقَةٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَى الْمُنْفِقِ، إِمَّا أَنْ
يُعَجِّلَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
{ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } خَيْرُ مَنْ يُعْطِي وَيَرْزُقُ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ
عَلَيْكَ". (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: "يريدون أن يبدلوا كلام الله" 13 /
464، ومسلم في الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم: (993) 2 /
690-691، والمصنف في شرح السنة: 6 / 154.
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ
ابْنُ بِلَالٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عن أبي الحبحاب، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ
فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ
إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ".
(2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا
حُمَيْدُ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ الْحَسَنِ الْهِلَالِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَا
أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى
الرَّجُلُ بِهِ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهَا صَدَقَةٌ"، قُلْتُ: مَا يَعْنِي
وَقَى الرَّجُلُ عِرْضَهُ؟ قَالَ: "مَا أَعْطَى الشَّاعِرَ وذا اللسان
للمتقى، وَمَا أَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا
ضَامِنًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ نَفَقَةٍ فِي بُنْيَانٍ أَوْ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". (3)
قَوْلُهُ: "قُلْتُ مَا يَعْنِي" يَقُولُ عَبْدُ الْحَمِيدِ لِمُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْكَدِرِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ فَلْيَقْتَصِدْ، وَلَا
يَتَأَوَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ"، فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ (4) لَعَلَّ رِزْقَهُ قَلِيلٌ،
وَهُوَ يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُوَسَّعِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا كان
من خلف فَهُوَ مِنْهُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: قول الله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق
بالحسنى فسنيسره لليسرى" 3 / 304، ومسلم في الزكاة باب: في المنفق والممسك
برقم: (1010) 2 / 700، والمصنف في شرح السنة: 6 / 155-156.
(2) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو والتواضع برقم: (2588)
4 / 2001، والمصنف في شرح السنة: 6 / 133.
(3) أخرجه الدارقطني: 3 / 28، وعبد بن حميد في المنتخب برقم (1083) ص (327)، وصححه
الحاكم: 2 / 50 فتعقبه الذهبي بقوله: "عبد الحميد بن الحسن الهلالي ضعفه
الجمهور"، وابن عدي في الكامل: 3 / 1254، والمصنف في شرح السنة: 6 / 146،
وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (898): 2 / 301، وقال: "لكن
الجملتان الأوليان من الحديث صحيحتان لأن لهما شواهد كثيرة في الصحيحة
وغيرها".
(4) ذكره ابن كثير: 3 / 543.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
{
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ
دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ
(41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا
تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا
هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ
وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا
آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
مِنْ نَذِيرٍ (44) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } قَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَفْصٌ:
"يَحْشُرُهُمْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، { جَمِيعًا }
يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فِي الدُّنْيَا، قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا
اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِعِيسَى: "أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ"
(مَرْيَمَ-116) ، فَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ. { قَالُوا سُبْحَانَكَ }
تَنْزِيهًا لَكَ، { أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } أَيْ: نَحْنُ نَتَوَلَّاكَ
وَلَا نَتَوَلَّاهُمْ، { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يَعْنِي:
الشَّيَاطِينَ، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ فَكَيْفَ
وَجْهُ قَوْلِهِ: { يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } قِيلَ: أراد الشياطين 89/ب زَيَّنُوا لَهُمْ
عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَ الشَّيَاطِينَ فِي عِبَادَةِ
الْمَلَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ { يَعْبُدُونَ } أَيْ: يُطِيعُونَ الْجِنَّ، {
أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } يَعْنِي: مُصَدِّقُونَ لِلشَّيَاطِينِ. ثُمَّ
يَقُولُ اللَّهُ: { فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا }
بِالشَّفَاعَةِ، { وَلَا ضَرًّا } بِالْعَذَابِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ،
لَا نَفْعَ عِنْدَهُمْ وَلَا ضُرَّ، { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } { وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا } يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى } يَعْنُونَ
الْقُرْآنَ، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أَيْ: بَيِّنٌ. { وَمَا آتَيْنَاهُمْ } يَعْنِي:
هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، { مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يَقْرَؤُونَهَا، {
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ } أَيْ: لَمْ يَأْتِ
الْعَرَبَ قَبْلَكَ نَبِيٌّ وَلَا نُزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ.
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ
فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ
مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى
اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) }
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } مِنَ الْأُمَمِ رُسُلَنَا، وَهُمْ:
عَادٌ، وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَوْمُ لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ، { وَمَا بَلَغُوا
} يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، { مِعْشَارَ } أَيْ: عُشْرَ، { مَا
آتَيْنَاهُمْ } أَيْ: أَعْطَيْنَا الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنَ الْقُوَّةِ
وَالنِّعْمَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ ، { فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
} أَيْ: إِنْكَارِي وَتَغْيِيرِي عَلَيْهِمْ، يُحَذِّرُ كُفَّارَ هَذِهِ
الْأُمَّةِ عَذَابَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ
بِوَاحِدَةٍ } آمُرُكُمْ وَأُوصِيكُمْ بِوَاحِدَةٍ، أَيْ: بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ،
ثُمَّ بَيْنَ تِلْكَ الْخَصْلَةَ فَقَالَ: { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ } لِأَجْلِ
اللَّهِ، { مَثْنَى } أَيْ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، { وَفُرَادَى } أَيْ: وَاحِدًا
وَاحِدًا، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } جَمِيعًا أَيْ: تَجْتَمِعُونَ فَتَنْظُرُونَ
وَتَتَحَاوَرُونَ وَتَنْفَرِدُونَ، فَتُفَكِّرُونَ فِي حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَعْلَمُوا، { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ }
جُنُونٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْقِيَامِ الْقِيَامَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ
الْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي هُوَ فِي طَلَبِ
الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: "وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ"
(النِّسَاءِ-127) . { إِنْ هُوَ } مَا هُوَ، { إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ
يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قَالَ مُقَاتِلٌ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:
"ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" أَيْ: في خلق السموات وَالْأَرْضِ فَتَعْلَمُوا أَنَّ
خَالِقَهَا وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: "مَا
بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ". { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } عَلَى
تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، { مِنْ أَجْرٍ } جُعْلٍ { فَهُوَ لَكُمْ } يَقُولُ: قُلْ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا فَتَتَّهِمُونِي،
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "فَهُوَ لَكُمْ" أَيْ: لَمْ أَسْأَلْكُمْ شَيْئًا
كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا لِي مِنْ هَذَا فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ يُرِيدُ لَيْسَ
لِي فِيهِ شَيْءٌ، { إِنْ أَجْرِيَ } مَا ثَوَابِي، { إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ }
وَالْقَذْفُ الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ وَالْحَصَى، وَالْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ:
يَأْتِي بِالْحَقِّ وَبِالْوَحْيِ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَقْذِفُهُ إِلَى
الْأَنْبِيَاءِ، { عَلَّامُ الْغُيُوبِ } رُفِعُ بِخَبَرِ إِنَّ، أَيْ: وَهُوَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ
ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا
فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى
لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) }
{ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ، { وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } أَيْ: ذَهَبَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ فَلَمْ يَبْقَ
مِنْهُ بَقِيَّةٌ يُبْدِئُ شَيْئًا أَوْ يُعِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
"بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ"
(الْأَنْبِيَاءِ-48) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْبَاطِلُ" هُوَ إِبْلِيسُ،
وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ، وَقِيلَ: "الْبَاطِلُ":
الْأَصْنَامُ. { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } وَذَلِكَ
أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ ضَلَلْتَ حِينَ
تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } أَيْ: إِثْمُ ضَلَالَتِي عَلَى نَفْسِي، {
وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } مِنَ الْقُرْآنِ
وَالْحِكْمَةِ، { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا } قَالَ
قَتَادَةُ عِنْدَ الْبَعْثِ حِينَ يُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، { فَلَا فَوْتَ }
أَيْ: فَلَا يَفُوتُونَنِي كَمَا قَالَ: "وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ" (ص-3)
، وَقِيلَ: إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَلَا نَجَاةَ، { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ
قَرِيبٍ } [قَالَ الْكَلْبِيُّ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، وَقِيلَ: أُخِذُوا مِنْ
بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى ظَهْرِهَا، وَحَيْثُمَا كَانُوا فَهُمْ مِنَ اللَّهِ
قَرِيبٌ]، (1) لَا يَفُوتُونَهُ. وَقِيلَ: مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَعْنِي عَذَابَ
الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ ابن أبزي: خسف
بِالْبَيْدَاءِ، (2) وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى إِذْ
فَزِعُوا لَرَأَيْتَ أَمْرًا تَعْتَبِرُ بِهِ. { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } حِينَ عَايَنُوا
الْعَذَابَ، قِيلَ: عِنْدَ الْيَأْسِ. وَقِيلَ: عِنْدَ الْبَعْثِ. { وَأَنَّى }
مِنْ أَيْنَ، { لَهُمُ التَّنَاوُشُ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: التَّنَاوُشُ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِوَاوٍ صَافِيَةٍ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ،
وَمَعْنَاهُ التَّنَاوُلُ، أَيْ: كَيْفَ لَهُمْ تَنَاوُلُ مَا بَعُدَ عَنْهُمْ،
وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْبَةُ، وَقَدْ كَانَ قَرِيبًا فِي الدُّنْيَا
فَضَيَّعُوهُ، وَمَنْ هَمَزَ قِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا أَيْضًا.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: ابن كثير: 3 / 545.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وَقِيلَ
التَّنَاوُشُ بِالْهَمْزَةِ مِنَ النَّبْشِ وَهُوَ حَرَكَةٌ فِي إِبْطَاءٍ،
يُقَالُ: جَاءَ نَبْشًا أَيْ: مُبْطِئًا مُتَأَخِّرًا، وَالْمَعْنَى مِنْ أَيْنَ
لَهُمُ الْحَرَكَةُ فِيمَا لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
يَسْأَلُونَ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقَالُ وَأَنَّى لَهُمُ الرَّدُّ إِلَى
الدُّنْيَا. (1)
{ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أَيْ: مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا.
{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ
بَعِيدٍ (53) وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ
بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) }
{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ } أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَايِنُوا الْعَذَابَ
وَأَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَرْمُونَ مُحَمَّدًا بِالظَّنِّ لَا بِالْيَقِينِ، وَهُوَ
قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ، وَمَعْنَى الْغَيْبِ: هُوَ الظَّنُّ لِأَنَّهُ
غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، وَالْمَكَانُ الْبَعِيدُ: بُعْدُهُمْ عَنْ عِلْمِ مَا
يَقُولُونَ، وَالْمَعْنَى يَرْمُونَ مُحَمَّدًا بِمَا لَا يَعْلَمُونَ مِنْ حَيْثُ
لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ يَقُولُونَ لَا
بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. { وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا
يَشْتَهُونَ } ، أَيِ: الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: نَعِيمُ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا، { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ } ،
أَيْ: بِنُظَرَائِهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، {
مِنْ قَبْلُ } ،أَيْ: لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ وَالتَّوْبَةُ فِي
وَقْتِ الْيَأْسِ، { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ } ، مِنَ الْبَعْثِ وَنُزُولِ
الْعَذَابِ بِهِمْ، { مُرِيبٍ } ، مُوقِعٍ لَهُمُ الرِّيبَةَ وَالتُّهْمَةَ.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 715.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سُورَةُ
فَاطِرٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) }
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } خَالِقِهَا وَمُبْدِعِهَا
عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ
} ذَوِي أَجْنِحَةٍ { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ:
بَعْضُهُمْ لَهُ جَنَاحَانِ، وَبَعْضُهُمْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَجْنِحَةٍ،
وَبَعْضُهُمْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، (2) وَيَزِيدُ فِيهَا مَا يَشَاءُ
وَهُوَ قَوْلُهُ، { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ }
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "لَقَدْ رَأَى مِنْ
آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" (النَّجْمِ-18) ، قَالَ رَأَى جِبْرِيلَ فِي
صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. (3)
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ: "يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاءُ" قَالَ: حسن الصوت. (4) 90/أ
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ الْمَلَاحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ. (5) وَقِيلَ: هُوَ
الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
__________
(1) أخرج ابن الضريس والبخاري وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: أنزلت سورة فاطر بمكة، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة رضي
الله عنه قال: سورة الملائكة مكية. انظر: الدر المنثور: 7 / 3.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 114، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 4 أيضا لعبد بن
حميد وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم آمين...: 6 / 313، ومسلم في
الإيمان، باب: ذكر سدرة المنتهى برقم (174) 1 / 158.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 4 لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي في شعب الإيمان.
(5) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 4 للبيهقي.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) }
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(5) }
{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ } [قِيلَ: مِنْ مَطَرٍ وَرِزْقٍ]،
(1) { فَلَا مُمْسِكَ لَهَا } لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ عَلَى حَبْسِهَا، { وَمَا
يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ } فِيمَا أَمْسَكَ
{ الْحَكِيمُ } فِيمَا أَرْسَلَ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الدَّاوُدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
بْنِ الصَّلْتِ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ
الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْبَاطٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا
مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ". (2) { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "غَيْرِ" بِجَرِّ الرَّاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِرَفْعِهَا عَلَى مَعْنَى هَلْ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، لِأَنَّ
"مِنْ" زِيَادَةٌ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيرِ
كَأَنَّهُ قَالَ: لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ، { يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ } أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ الْمَطَرَ وَمِنَ الْأَرْضِ النَّبَاتَ، {
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } يَعْنِي وَعْدَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، { فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
} وَهُوَ الشَّيْطَانُ.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه البخاري في الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة: 2 / 325، ومسلم في المساجد،
باب: استحباب الذكر بعد الصلاة برقم: (593) 1 / 415، والمصنف في شرح السنة: 3 /
225.
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) }
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } أَيْ: عَادُوهُ
بِطَاعَةِ اللَّهِ وَلَا تُطِيعُوهُ، { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ } أَيْ:
أَشْيَاعَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ { لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أَيْ:
لِيَكُونُوا فِي السَّعِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ مُوَافِقِيهِ وَمُخَالِفِيهِ
فَقَالَ: { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } قَوْلُهُ
تَعَالَى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ
فِي أَبِي جَهْلٍ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ.
(1)
وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْهُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ
الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الْكَبَائِرِ فَلَيْسُوا
مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ الْكَبَائِرَ.
{ أَفَمَنْ زُيِّنَ } شُبِّهَ وَمُوِّهَ عَلَيْهِ وَحُسِّنَ { لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
} أَيْ: قَبِيحُ عَمَلِهِ، { فَرَآهُ حَسَنًا } زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ
بِالْوَسْوَاسِ.
وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ مَجَازُهُ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَى
الْبَاطِلَ حَقًّا كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَأَى الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ
بَاطِلًا؟ { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }
وَقِيلَ: جَوَابُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ } فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَفَمَنَّ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَأَضَلَّهُ اللَّهُ ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِ حَسْرَةً، أَيْ: تَتَحَسَّرُ
عَلَيْهِ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ:
أَفَمَنَّ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ، وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْأَمْرِ،
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَغْتَمَّ بِكُفْرِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ إِنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا.
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 475.
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
وَقَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ: "فَلَا تُذْهِبْ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ
"نَفْسَكَ" نُصِبَ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى
بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ
النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ
هُوَ يَبُورُ (10) }
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى
بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ
النُّشُورُ } مِنَ الْقُبُورِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ
مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعًا. (1)
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ
اللَّهِ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ إِلَى طَاعَةِ مِنْ لَهُ الْعِزَّةُ، أَيْ:
فَلْيَطْلُبِ الْعِزَّةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، (2) كَمَا يُقَالُ:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَالَ فَالْمَالُ لِفُلَانٍ، أَيْ: فَلْيَطْلُبْهُ مِنْ
عِنْدِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وطلبوا به التعزير
كَمَا قَالَ اللَّهُ: "وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا
لَهُمْ عِزًّا كَلَّا" (مَرْيَمَ-81) ، وَقَالَ: "الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا"
(النِّسَاءِ-139) .
{ إِلَيْهِ } أَيْ: إِلَى اللَّهِ، { يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَهُوَ
قَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: سُبْحَانَ
اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا
حُمَيْدُ ابن زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا
الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَبْدِ الله بن المحارق، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا أَنْبَأَتْكُمْ بِمِصْدَاقِهِ مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ خَمْسَ كَلِمَاتٍ: سُبْحَانَ
اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ،
وَتَبَارَكَ اللَّهُ، إِلَّا أَخَذَهُنَّ مَلَكٌ فَجَعَلَهُنَّ تَحْتَ جَنَاحِهِ
ثُمَّ صَعِدَ بِهِنَّ فَلَا يَمُرُّ بِهِنَّ عَلَى جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
إِلَّا اسْتَغْفَرُوا لِقَائِلِهِنَّ حَتَّى
__________
(1) انظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 367.
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 303.
يُحَيِّي
بِهَا وَجْهَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ قَوْلُهُ: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } ذَكَرُهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ. (1)
وَقِيلَ: "الْكَلِمُ الطَّيِّبُ": ذِكْرُ اللَّهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ:
"إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" أَيْ: يَقْبَلُ اللَّهُ
الْكَلِمَ الطَّيِّبَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أَيْ: يَرْفَعُ
الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ يَرْفَعُهُ
رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ذِكْرُ اللَّهِ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، فَمِنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤَدِّ
فَرَائِضَهُ رُدَّ كَلَامُهُ عَلَى عَمَلِهِ، (2) وَلَيْسَ الْإِيمَانُ
بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ
وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ، فَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّ
اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا يَرْفَعُهُ
الْعَمَلُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (3) وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ وَلَا قَوْلًا وَلَا عَمَلًا
إِلَّا بِنِيَّةٍ". (4)
وَقَالَ قَوْمٌ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ "يَرْفَعُهُ" رَاجِعَةٌ إِلَى
الْعَمَلِ الصَّالِحِ [أَيْ: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ
الصَّالِحَ]، (5) فَلَا يُقْبَلُ عَمَلٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنِ
التَّوْحِيدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ.
وَقِيلَ: الرَّفْعُ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ عز وجل 90/ب مَعْنَاهُ: الْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْخَالِصُ،
يَعْنِي أَنَّ الْإِخْلَاصَ سَبَبُ قَبُولِ الْخَيْرَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ
وَالْأَفْعَالِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الْكَهْفِ-110) ،
فَجَعَلَ نَقِيضَ الصَّالِحِ الشِّرْكَ وَالرِّيَاءَ، { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الشِّرْكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَعْنِي
الَّذِينَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
دَارِ النَّدْوَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ" (الْأَنْفَالِ-30) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 22 / 120، وصححه الحاكم: 2 / 425 ووافقه الذهبي. والبيهقي في
الأسماء والصفات: 2 / 34، وزاد السيوطي نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني
انظر: الدر المنثور: 7 / 8-9.
(2) هذا الجزء أخرجه الطبري: 22 / 121 عن ابن عباس.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 10 لعبد بن حميد والبيهقي عن الحسن.
(4) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص 138-139: أخرجه الخطيب في
"الجامع" من رواية بقية بن إسماعيل بن عبد الله عن أبان عن أنس بهذا
مرفوعا، وأبان متروك، وله طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه ابن عدي وابن
حبان، كلاهما في الضعفاء عن خالد بن عبد الدائم، عن نافع بن يزيد عن زهرة بن معبد
عن سعيد بن المسيب عنه، بلفظ "قرآن في صلاة خير من قرآن في غير صلاة"
الحديث. وفيه: ولا قوة إلا بعمل إلى آخره. ورواه ابن حبان أيضاك من رواية الزهري
عن سعيد بن المسيب عن ابن مسعود. وفيه أحمد بن الحسن المصري، وهو كذاب.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هُمْ أَصْحَابُ الرِّيَاءِ. (1)
{ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } يُبْطَلُ وَيُهْلَكُ
فِي الْآخِرَةِ.
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) }
__________
(1) انظر في هذه الأقوال: ابن كثير: 3 / 550، البحر المحيط: 7 / 304، الدر
المنثور: 7 / 10.
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا
مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أَيْ: آدَمَ، {
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } يَعْنِي: نَسْلَهُ، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا }
ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } لَا يَطُولُ عُمُرُهُ، { وَلَا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } يَعْنِي: مِنْ عُمُرِ آخَرَ، كَمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ
عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، { إِلَّا فِي كِتَابٍ }
وَقِيلَ: قَوْلُهُ: "وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ" مُنْصَرِفٌ إِلَى
الْأَوَّلِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ عُمُرُ
فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا سَنَةً ثُمَّ يُكْتَبُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ ذَهَبَ يَوْمٌ
ذَهَبَ يَوْمَانِ ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حِينَ يَنْقَطِعُ عُمُرُهُ. (1)
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ حِينَ حَضَرَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الْوَفَاةُ: وَاللَّهِ لَوْ دَعَا عُمَرُ رَبَّهُ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ
لَأُخِّرَ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "فَإِذَا
جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ"
(الْأَعْرَافِ-34) فَقَالَ: هَذَا إِذَا حَضَرَ الْأَجَلُ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ
فَيَجُوزُ أَنَّ يُزَادَ وَيُنْقَصَ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (2) { إِنَّ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أَيْ: كِتَابَةُ الْآجَالِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى اللَّهِ
هَيِّنٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ } يَعْنِي:
الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ، ثُمَّ ذَكَرَهُمَا فَقَالَ: { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } طَيِّبٌ،
{ سَائِغٌ شَرَابُهُ } أَيْ: جَائِزٌ فِي الْحَلْقِ هَنِيءٌ، { وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ } شَدِيدُ الْمُلُوحَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْمُرُّ. { وَمِنْ
كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } يَعْنِي: الْحِيتَانَ مِنَ الْعَذْبِ
وَالْمَالِحِ جَمِيعًا، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً } أَيْ: مِنَ الْمَالِحِ
دُونَ الْعَذْبِ { تَلْبَسُونَهَا } يَعْنِي اللُّؤْلُؤَ. وَقِيلَ: نُسِبَ
اللُّؤْلُؤُ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 11 لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبي الشيخ في العظمة.
(2) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص 139: "رواه إسحاق في آخر مسند ابن
عباس رضي الله عنهما- أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد".
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
إِلَيْهِمَا،
لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ الْأُجَاجِ عُيُونٌ عَذْبَةٌ تَمْتَزِجُ
بِالْمِلْحِ فَيَكُونُ اللُّؤْلُؤُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ، { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
مَوَاخِرَ } جَوَارِي مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ، { لِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ } بِالتِّجَارَةِ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللَّهَ عَلَى
نِعَمِهِ.
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ
مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا
مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ
إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا
تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(18) }
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } يَعْنِي:
الْأَصْنَامَ، { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } وَهُوَ لِفَافَةُ النَّوَاةِ،
وَهِيَ الْقِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى النَّوَاةِ. { إِنْ
تَدْعُوهُمْ } يَعْنِي: إِنَّ تَدْعُو الْأَصْنَامَ، { لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } مَا أَجَابُوكُمْ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } يَتَبَرَّؤُونَ مِنْكُمْ وَمِنْ عِبَادَتِكُمْ
إِيَّاهَا، يَقُولُونَ: مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ. { وَلَا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ } يَعْنِي: نَفْسَهُ أَيْ: لَا يُنَبِّئُكَ أَحَدٌ مِثْلِي خَبِيرٌ
عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ } إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ، { وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } الْغَنِيُّ عَنْ خَلْقِهِ الْمَحْمُودُ فِي إِحْسَانِهِ
إِلَيْهِمْ. { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } شَدِيدٍ. { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أَيْ: نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِذُنُوبِهَا غَيْرَهَا، {
إِلَى حِمْلِهَا } أَيْ: حَمْلِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ، { لَا يُحْمَلْ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ ذَا
قَرَابَةٍ لَهُ ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَلْقَى الْأَبُ وَالْأُمُّ ابْنَهُ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ احْمِلْ
عَنِّي بَعْضَ ذُنُوبِي. فَيَقُولُ: لَا أَسْتَطِيعُ حَسْبِي مَا عَلَيَّ.
{ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ } يَخَافُونَ، { رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } وَلَمْ يَرَوْهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَأْوِيلُهُ أَيْ: إِنْذَارُكَ إِنَّمَا يَنْفَعُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى } صَلَحَ وَعَمِلَ خَيْرًا، { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } لَهَا ثَوَابُهُ، { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ
(20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا
الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ
فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ
(24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ
أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) }
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } يَعْنِي: الْجَاهِلَ وَالْعَالِمَ.
وَقِيلَ: الْأَعْمَى عَنِ الْهُدَى وَالْبَصِيرُ بِالْهُدَى، أَيِ: الْمُؤْمِنُ
وَالْمُشْرِكُ. { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } يَعْنِي: الْكُفْرَ
وَالْإِيمَانَ. { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } يَعْنِي: الْجَنَّةَ
وَالنَّارَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْحَرُورُ": الرِّيحُ الْحَارَّةُ
بِاللَّيْلِ، وَ"السَّمُومُ" بِالنَّهَارِ. وَقِيلَ:
"الْحَرُورُ" يَكُونُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ. { وَمَا يَسْتَوِي
الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ.
وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ وَالْجُهَّالُ.
{ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } حَتَّى يَتَّعِظَ وَيُجِيبَ، { وَمَا
أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } يَعْنِي: الْكَفَّارَ، شَبَّهَهُمْ
بِالْأَمْوَاتِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَمَّ يُجِيبُوا. { إِنْ أَنْتَ إِلَّا
نَذِيرٌ } مَا أَنْتَ إِلَّا مُنْذِرٌ تَخَوِّفُهُمْ بِالنَّارِ. { إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ } مَا مِنْ
أُمَّةٍ فِيمَا مَضَى { إِلَّا خَلَا } سَلَفَ { فِيهَا نَذِيرٌ } نَبِيٌّ
مُنْذِرٌ. { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
} الْوَاضِحِ كَرَّرَ ذَلِكَ الْكِتَابَ بَعْدَ ذِكْرِ الزُّبُرِ عَلَى طَرِيقِ
التَّأْكِيدِ. { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) }
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ } طُرُقٌ وَخُطَطٌ،
وَاحِدَتُهَا جُدَّةٌ، مِثْلَ: مُدَّةٍ وَمُدَدٍ، { بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } يَعْنِي: سُودٌ غَرَابِيبُ عَلَى التَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ، يُقَالُ: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، أَيْ: شَدِيدُ السَّوَادِ
تَشْبِيهًا بِلَوْنِ الْغُرَابِ، أَيْ: طَرَائِقُ سُودٌ. { وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ذَكَرَ الْكِنَايَةَ
لِأَجْلِ "مِنْ" وَقِيلَ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى مَا فِي
الْإِضْمَارِ، مَجَازُهُ: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مَا هُوَ
مُخْتَلِفُ أَلْوَانُهُ، { كَذَلِكَ } يَعْنِي كَمَا اخْتَلَفَ أَلْوَانُ
الثِّمَارِ وَالْجِبَالِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ إِنَّمَا يَخَافُنِي مِنْ خَلْقِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي
وَسُلْطَانِي.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، أَخْبَرَنَا
الْأَعْمَشُ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، عن مسروق 91/أ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا
فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: "مَا
بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي
لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً". (1)
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ
مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا". (2)
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ
بِاللَّهِ جَهْلًا. وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ: أَفْتِنِي أَيُّهَا الْعَالِمُ،
فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب: ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين
والبدع: 13 / 276، ومسلم في الفضائل، باب: علمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالله تعالى وشدة خشيته برقم: (2356) 4 / 1829، والمصنف في شرح السنة: 1 /
199-200.
(2) قطعة من حديث أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة المائدة- باب: قول الله
تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) 8 / 280، ومسلم في الفضائل، باب:
توقيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة له برقم:
(2359) 4 / 1823 والمصنف في شرح السنة: 14 / 368-369.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
{
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } أَيْ: عَزِيزٌ فِي مُلْكِهِ غَفُورٌ لِذُنُوبِ
عِبَادِهِ.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
(30) }
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } يَعْنِي:
قَرَأُوا (1) الْقُرْآنَ، { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } لَنْ تَفْسَدَ وَلَنْ
تَهْلَكَ، وَالْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: "يَرْجُونَ" جَوَابٌ لِقَوْلِهِ:
"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ". { لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ } جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ بِالثَّوَابِ، { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي سِوَى الثَّوَابِ مِمَّا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ
تَسْمَعْ أُذُنٌ، { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْفِرُ
الْعَظِيمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَيَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. {
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني: القرآن، و{ هُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } مِنَ الْكُتُبِ، { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ
لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } يَعْنِي: الْكِتَابَ
الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَهُوَ
الْقُرْآنُ، جَعَلْنَاهُ يَنْتَهِي إِلَى، { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا }
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ:
وَأَوْرَثَنَا، كَقَوْلِهِ: "ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا"
(الْبَلَدِ-17) ، أَيْ: وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَعْنَى
"أَوْرَثْنَا" أَعْطَيْنَا، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطَاءٌ، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ.
وَقِيلَ: "أَوْرَثْنَا" أَيْ: أَخَّرْنَا، وَمِنْهُ الْمِيرَاثُ
لِأَنَّهُ أُخَّرَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَمَعْنَاهُ: أَخَّرْنَا الْقُرْآنَ عَنِ
الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَأَعْطَيْنَاكُمُوهُ، وَأَهَّلْنَاكُمْ لَهُ.
{ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ
أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَسَّمَهُمْ
وَرَتَّبَهُمْ فَقَالَ:
__________
(1) زيادة من "ب".
{
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ } رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
"فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ" الْآيَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ". (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو قِلَابَةَ، حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ مَيْمُونٍ
الْكُرْدِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الْآيَةَ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ،
وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ"، (2) قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَحَدَّثْتُ بِهِ
يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الظَّالِمِ وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عِيسَى الْبَرْتِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ رَجُلًا
دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتِي، وَآنِسْ وَحْشَتِي،
وَسُقْ إِلَيَّ جَلِيسًا صَالِحًا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَئِنْ كُنْتَ
صَادِقًا لَأَنَا أَسْعَدُ بِكَ مِنْكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ" فَقَالَ: "أَمَّا
السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا
الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ
فَيُحْبَسُ فِي الْمَقَامِ حَتَّى يَدْخُلَهُ الْهَمُّ، ثُمَّ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ"، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ". (3)
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير: 1 / 131، والبيهقي في البعث، وفيه محمد بن عبد
الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. انظر: الدر المنثور: 7 / 24، مجمع الزوائد: 7 /
96.
(2) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (139): "رواه البيهقي في الشعب من
رواية ميمون بن سياه عن عمر رضي الله عنه مرفوعا وهذا منقطع، وأخرجه الثعلبي وابن
مردويه من وجه آخر عن ميمون ابن سياه عن أبي عثمان النهدي عن عمر. فيه الفضل بن
عميرة: وهو ضعيف، ورواه سعيد بن منصور عن فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله
الحرازي عمن سمع عمر فذكره موقوفا، وعزاه السيوطي لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة،
وابن المنذر، والبيهقي في البعث موقوفا على عمر رضي الله عنه، وللعقيلي وبن لال،
وابن مردويه والبيهقي من وجه آخر مرفوعا، وأخرجه ابن النجار عن أنس مرفوعا. انظر:
الدر المنثور: 7 / 25.
(3) قال الهيثمي في المجمع: 7 / 95 "رواه الطبراني وأحمد باختصار إلا أنه
قال: عن الأعمش عن ثابت أو أبي ثابت أن رجلا وثابت بن عبيد ومن قبله من رجال
الصحيح، وفي إسناد الطبراني غير مسمى"، وأخرجه الحاكم: 2 / 426 وقال:
"وقد اختلفت الروايات عن الأعمش في إسناد هذا الحديث، فروي عن الثوري عن
الأعمش عن أبي ثابت عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقيل عن شعبة عن الأعمش عن رجل
من ثقيف عن أبي الدرداء، وقيل عن الثوري أيضا عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت عن أبي
الدرداء، وإذا كثرت الروايات في الحديث ظهر أن للحديث أصلا" وانظر الطبري: 22
/ 137.
وَقَالَ
عُقْبَةُ بْنُ صُهْبَانَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الْآيَةَ،
فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَمَّا السَّابِقُ
بِالْخَيْرَاتِ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنِ اتَّبَعَ أَثَرَهُ مِنْ
أَصْحَابِهِ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَمِثْلِي
وَمِثْلُكُمْ، فَجَعَلَتْ نَفْسَهَا مَعَنَا. (1)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَهُمْ أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [بِإِذْنِ اللَّهِ] (2) هُمُ
السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. (3)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّابِقُ: الْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ،
وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُرَائِي، وَالظَّالِمُ: الْكَافِرُ نِعْمَةَ اللَّهِ غَيْرَ
الْجَاحِدِ لَهَا، لِأَنَّهُ حَكَمَ لِلثَّلَاثَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَقَالَ:
"جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا".
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: السَّابِقُ مَنْ
رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ مَنِ اسْتَوَتْ
حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، وَالظَّالِمُ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى
حَسَنَاتِهِ. (4)
وَقِيلَ: الظَّالِمُ مَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ،
وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يَسْتَوِي ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَالسَّابِقُ الَّذِي
بَاطِنُهُ خَيْرٌ مِنْ ظَاهِرِهِ.
وَقِيلَ: الظَّالِمُ مَنْ وَحَّدَ اللَّهِ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُوَافِقْ فِعْلُهُ
قَوْلَهُ، وَالْمُقْتَصِدُ مَنْ وَحَّدَ اللَّهِ بِلِسَانِهِ وَأَطَاعَهُ
بِجَوَارِحِهِ، وَالسَّابِقُ مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ وَأَطَاعَهُ
بِجَوَارِحِهِ وَأَخْلَصَ لَهُ عَمَلَهُ.
وَقِيلَ: الظَّالِمُ التَّالِي لِلْقُرْآنِ، وَالْمُقْتَصِدُ الْقَارِئُ لَهُ
الْعَالِمُ بِهِ، وَالسَّابِقُ الْقَارِئُ لَهُ الْعَالِمُ بِهِ الْعَامِلُ بِمَا
فِيهِ.
وَقِيلَ: الظَّالِمُ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ وَالْمُقْتَصِدُ أَصْحَابُ
الصَّغَائِرِ، وَالسَّابِقُ الَّذِي لَمْ يَرْتَكِبْ كَبِيرَةً وَلَا صَغِيرَةً.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: السَّابِقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ
الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ.
قَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: بَدَأَ بِالظَّالِمِينَ إِخْبَارًا بِأَنَّهُ لَا
يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ إِلَّا بِكَرَمِهِ، وَأَنَّ الظُّلْمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي
الِاصْطِفَاءِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمُقْتَصِدِينَ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ
وَالرَّجَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالسَّابِقِينَ لِئَلَّا يَأْمَنَ أَحَدٌ مَكْرَهُ،
وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
__________
(1) أخرجه الطيالسي في المسند ص (209) وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني في
الأوسط، وابن مردويه. وصححه الحاكم: 2 / 426 وتعقبه الذهبي فقال: "الصلت قال
النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي". وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 557.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) انظر: الطبري: 22 / 135.
(4) انظر: زاد المسير: 7 / 489-490.
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: رَتَّبَهُمْ هَذَا التَّرْتِيبَ عَلَى مَقَامَاتِ
النَّاسِ، لِأَنَّ أَحْوَالَ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ: مَعْصِيَةٌ وَغَفْلَةٌ ثُمَّ
تَوْبَةٌ ثُمَّ قُرْبَةٌ، فَإِذَا عَصَى دَخَلَ فِي حَيِّزِ الظَّالِمِينَ،
وَإِذَا تَابَ دَخْلَ فِي جُمْلَةِ الْمُقْتَصِدِينَ، وَإِذَا صَحَّتِ التَّوْبَةُ
وَكَثُرَتِ الْعِبَادَةُ وَالْمُجَاهَدَةُ دَخَلَ فِي عِدَادِ السَّابِقَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالظَّالِمِ الْكَافِرُ ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ الظَّالِمُ
فِي قوله: "جنات 91/ب عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا". وَحَمَلَ هَذَا
الْقَائِلُ الِاصْطِفَاءَ عَلَى الِاصْطِفَاءِ فِي الْخِلْقَةِ وَإِرْسَالِ
الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ
أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ جَمِيعِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ
الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أَيْ: سَابِقٌ إِلَى الْجَنَّةِ،
أَوْ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ بِالْخَيْرَاتِ، أَيْ: بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ،
{ بِإِذْنِ اللَّهِ } أَيْ: أَمْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، { ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } يَعْنِي: إِيرَاثَهُمُ الْكِتَابَ.
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) }
ثُمَّ أَخْبَرَ بِثَوَابِهِمْ فَقَالَ: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }
يَعْنِي: الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
"يُدْخَلُونَهَا" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } { وَقَالُوا }
أَيْ: وَيَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } وَالْحَزَنُ وَاحِدٌ كَالْبَخَلِ وَالْبُخْلِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: حَزَنَ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَزَنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: حَزِنُوا (1) لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُ اللَّهُ
بِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَزَنُ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَخَوْفُ رَدِّ
الطَّاعَاتِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: حَزَنُ زَوَالِ النِّعَمِ وَتَقْلِيبِ
الْقَلْبِ، وَخَوْفِ الْعَاقِبَةِ، وَقِيلَ: حَزَنُ أَهْوَالِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَ يُحْزِنُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ
أَمْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَمُّ الْخُبْزِ فِي
الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هَمُّ الْمَعِيشَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَذْهَبَ اللَّهُ
عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ الْأَحْزَانِ مَا كَانَ مِنْهَا لِمَعَاشٍ أَوْ
لِمَعَادٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْخَطِيبُ،
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التُّرَابِيُّ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
__________
(1) ساقط من "أ".
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ وَلَا فِي مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي
بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ،
وَيَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ". (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا
نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ
جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) }
{ الَّذِي أَحَلَّنَا } أَنْزَلَنَا، { دَارَ الْمُقَامَةِ } أَيِ: الْإِقَامَةِ،
{ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أَيْ: لَا يُصِيبُنَا فِيهَا
عَنَاءٌ وَمَشَقَّةٌ، { وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } إِعْيَاءٌ مِنَ
التَّعَبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } أَيْ: لَا يُهْلَكُونَ فَيَسْتَرِيحُوا
كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ"
(الشُّعَرَاءِ-15) ، أَيْ: قَتَلَهُ. وَقِيلَ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ
فَيَمُوتُوا، كَقَوْلِهِ: "وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا
رَبُّكَ" (الزُّخْرُفِ-77) ، أَيْ: لَيَقْضِ عَلَيْنَا الْمَوْتَ
فَنَسْتَرِيحَ، { وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } مِنْ عَذَابِ
النَّارِ، { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } كَافِرٍ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "يُجْزَى"
بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الزَّايِ، "كُلُّ" رُفِعَ عَلَى غَيْرِ
تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِ
الزَّايِ، "كُلَّ" نُصِبَ. { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ } يَسْتَغِيثُونَ
وَيَصِيحُونَ، { فِيهَا } وَهُوَ: يَفْتَعِلُونَ، مِنَ الصُّرَاخِ، وَهُوَ
الصِّيَاحُ، يَقُولُونَ: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا } مِنْهَا مِنَ النَّارِ، {
نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } فِي الدُّنْيَا مِنَ
الشَّرَكِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ تَوْبِيخًا:
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (139) "رواه أبو يعلى وابن أبي
حاتم والبيهقي في أول الشعب والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر. وفيه عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وله طريق أخرى عند الطبراني والنسائي في الكنى عن ابن
عمر، وأخرى عند البيهقي في الشعب، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه تمام في فوائده
والخطيب في ترجمة محمد بن سعيد الطائفي وعن أنس عند ابن مردويه. وانظر: ابن كثير:
3 / 558.
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
{
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قِيلَ: هُوَ
الْبُلُوغُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: ثَمَانِ عَشَرَةَ
سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سِتُّونَ
سَنَةً، يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ
تَعَالَى إِلَى ابْنِ آدَمَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ،
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَعْذَرَ اللَّهُ
تَعَالَى إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً".
(1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجُوَيْهِ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حِمْدَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَهَاوَيْهِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، أَخْبَرَنَا الْمُحَارِبِيُّ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ،
وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ". (2)
{ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٌ: هُوَ الشَّيْبُ. مَعْنَاهُ
أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ حَتَّى شِبْتُمْ. وَيُقَالُ: الشَّيْبُ نَذِيرُ
الْمَوْتِ. وَفِي الْأَثَرِ: مَا مِنْ شَعَرَةٍ تَبْيَضُّ إِلَّا قَالَتْ
لِأُخْتِهَا: اسْتَعِدِّي فَقَدْ قَرُبَ الْمَوْتُ.
{ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (38) }
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر:
11 / 238.
(2) أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في أعمار هذه الأمة...6 / 6، وقال: (هذا
حديث حسن غريب) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
وابن ماجه في الزهد، باب: الأمل والأجل: 2 / 1415، وصححه الحاكم: 2 / 427 على شرط
مسلم، ووافقه الذهبي، وابن حبان في موارد الظمآن برقم (2467) ص 611، والبيهقي في
السنن: 3 / 370، وحسن الحافظ إسناده في الفتح: 11 / 240، انظر: فيض القدير
للمناوي: 2 / 11، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2 / 397.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
{
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ
كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا
وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) }
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ } { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } أَيْ: يَخْلُفُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ أُمَّةً خَلَفَتْ مَنْ قَبْلَهَا.
وَرَأَتْ فِيمَنْ قَبْلَهَا، مَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْتَبِرَ بِهِ. { فَمَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أَيْ: عَلَيْهِ وَبَالُ كُفْرِهِ
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
{
وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا }
غَضَبًا { وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا }
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا
مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى
مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا
(42) }
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
أَيْ: جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَائِي بِزَعْمِكُمْ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، { أَرُونِي
مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا } قَالَ مُقَاتِلٌ: هَلْ أَعْطَيْنَا كُفَّارَ مَكَّةَ
كِتَابًا، { فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو
عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "بَيِّنَةٍ" عَلَى التَّوْحِيدِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "بَيِّنَاتٍ" عَلَى الْجَمْعِ، يَعْنِي دَلَائِلَ
وَاضِحَةً مِنْهُ مِمَّا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ.
{ بَلْ إِنْ يَعِدُ } أَيْ: مَا يَعِدُ، { الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
إِلَّا غُرُورًا } وَالْغُرُورُ مَا يَغُرُّ الْإِنْسَانَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ،
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَا يَعِدُ الشَّيْطَانُ كَفَّارَ بَنِي آدَمَ مِنْ
شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ غُرُورٌ وَبَاطِلٌ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا }
أَيْ: كَيْلَا تَزُولَا { وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ } أَيْ: مَا يُمْسِكُهُمَا أَحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: أَحَدٌ سِوَاهُ،
{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ
الْحِلْمِ هَاهُنَا؟ قيل: لأن السموات وَالْأَرْضَ هَمَّتْ بِمَا هَمَّتْ بِهِ
مِنْ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ فَأَمْسَكَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الزَّوَالِ
بِحِلْمِهِ وغفرانه أن يعالجهم بِالْعُقُوبَةِ. { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ } يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ قَالُوا: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَتَتْهُمُ الرُّسُلُ فَكَذَّبُوهُمْ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
وَقَالُوا لَوْ أَتَانَا رَسُولٌ لَنَكُونُنَّ أَهْدَى دِينًا مِنْهُمْ، وَذَلِكَ
قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بُعِثَ
مُحَمَّدٌ كَذَّبُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } (1) رَسُولٌ، {
لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ }
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 318.
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
يَعْنِي:
مِنَ اليهود والنصارى، 92/أ { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا } أَيْ: مَا
زَادَهُمْ مَجِيئُهُ إِلَّا تَبَاعُدًا عَنِ الْهُدَى.
{ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ
كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) }
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا
مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) }
{ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ } نُصِبَ "اسْتِكْبَارًا" عَلَى
الْبَدَلِ مِنَ النُّفُورِ، { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } يَعْنِي: الْعَمَلَ
الْقَبِيحَ، أُضِيفَ الْمَكْرُ إِلَى صِفَتِهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ
اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: "مَكْرَ السَّيِّئْ" سَاكِنَةَ
الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ } أَيْ: لَا يَحِلُّ وَلَا يُحِيطُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ، { إِلَّا
بِأَهْلِهِ } فَقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاقِبَةُ
الشِّرْكِ لَا تَحِلُّ إِلَّا بِمَنْ أَشْرَكَ. وَالْمَعْنَى: وَبَالُ مَكْرِهِمْ
رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، { فَهَلْ يَنْظُرُونَ } يَنْتَظِرُونَ، { إِلَّا سُنَّةَ
الْأَوَّلِينَ } إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ كَمَا نَزَلَ بِمَنْ
مَضَى مِنَ الْكُفَّارِ، { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ } يَعْنِي: لِيَفُوتَ عَنْهُ،
{ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا
} { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } مِنَ الْجَرَائِمِ، { مَا
تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا } يَعْنِي: عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ
مَذْكُورٍ، { مِنْ دَابَّةٍ } كَمَا كَانَ فِي زَمَانِ نُوحٍ أَهْلَكَ اللَّهُ مَا
عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ، { وَلَكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يُرِيدُ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ.
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
سُورَةُ
يس مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) }
{ يس } و"ن" قَرَأَ بِإِخْفَاءِ النُّونِ فِيهِمَا: ابْنُ عَامِرٍ
وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ. قَالُونَ: يُخْفِي النُّونَ مِنْ "يس"
وَيُظْهِرُ مِنْ "ن"، وَالْبَاقُونَ يُظْهِرُونَ فِيهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ { يس } حَسْبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حُرُوفِ
التَّهَجِّي (2) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ قَسَمٌ
(3) ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ: يَا إِنْسَانُ (4) بِلُغَةِ طَيْءٍ،
يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ،
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَا رَجُلُ. (5)
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: يَا سَيِّدَ الْبَشَرِ.
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } ، أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى
الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: "لَسْتَ مُرْسَلًا" (الْرَّعْدِ-43) . {
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ: أَنَّهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة يس
بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة. انظر: الدر المنثور: 7 / 37.
(2) انظر: الطبري 1 / 205-224، وانظر: فيما سبق 1 / 58-59.
(3) أخرجه الطبري: 22 / 148.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 41 لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم، وانظر: البحر المحيط: 7 / 323.
(5) نقله الفراء في معاني القرآن 2 / 371 عن الحسن قال: "يس" يا رجل.
وهو في العربية بمنزلة حرف الهجاء كقولك: حم وأشباهها.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
{
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ
فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى
الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) }
{ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: "تَنْزِيلَ" بِنَصْبِ اللَّامِ كَأَنَّهُ
قَالَ: نُزِّلَ تَنْزِيلًا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُوَ
تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ }
، قِيلَ: "مَا" لِلنَّفْيِ أَيْ: لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ، لِأَنَّ
قُرَيْشًا لَمْ يَأْتِهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا بِالَّذِي
أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، { فَهُمْ غَافِلُونَ } عَنِ الْإِيمَانِ وَالرُّشْدِ. {
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ } ، وَجَبَ الْعَذَابُ { عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ } ، هَذَا كَقَوْلِهِ: "وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
عَلَى الْكَافِرِينَ" (الزُّمَرِ-71) . { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ
أَغْلَالًا } ، نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّيْنِ،
وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ قَدْ حَلَفَ لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلِّي
لَيَرْضَخَنَّ رَأْسَهُ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي وَمَعَهُ حَجَرٌ لِيَدْمَغَهُ،
فَلَمَّا رَفَعَهُ أُثْبِتَتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ وَلَزِقَ الْحَجَرُ بِيَدِهِ،
فَلَمَّا عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى سَقَطَ الْحَجَرُ،
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَنَا أَقْتُلُهُ بِهَذَا الْحَجَرِ،
فَأَتَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَرْمِيَهُ بِالْحَجَرِ، فَأَعْمَى اللَّهُ تَعَالَى
بَصَرَهُ، فَجَعَلَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَاهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ
فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ فَقَالُوا لَهُ: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: مَا
رَأَيْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَهَ وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ
كَهَيْئَةِ الْفَحْلِ يَخْطُرُ (1) بِذَنَبِهِ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْهُ لَأَكَلَنِي،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ
أَغْلَالًا " (2)
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
غِلٌّ، أَرَادَ: مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ، فَجَعَلَ
الْأَغْلَالَ مَثَلًا لِذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ إِنَّا حَبَسْنَاهُمْ
عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ" (الْإِسْرَاءِ-29) مَعْنَاهُ: لَا
تُمْسِكْهَا عَنِ النَّفَقَةِ.
__________
(1) يخطر البعير أي: يرفع ذنبه مرة بعد أخرى ويضرب به فخذيه.
(2) أخرجه الطبري مختصرًا: 22 / 152، قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (139):
"رواه ابن إسحاق في السيرة، وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق، حدثني
محمد بن محمد بن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس إلى قوله قد يبست يداه على الحجر...
وأصله في البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما" وانظر: ابن
كثير: 3 / 565، البحر المحيط: 7 / 324.
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
{
فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ } ، "هِيَ" كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي
-وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ-لِأَنَّ الْغِلَّ يَجْمَعُ الْيَدَ إِلَى
الْعُنُقِ، مَعْنَاهُ: إِنَّا جَعَلَنَا فِي أَيْدِيهِمْ وَأَعْنَاقِهِمْ
أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ، { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } وَالْمُقْمَحُ:
الَّذِي رُفِعَ رَأْسُهُ وَغُضَّ بَصَرُهُ، يُقَالُ: بَعِيرٌ قَامِحٌ إِذَا رَوَى
مِنَ الْمَاءِ، فَأَقْمَحَ إِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ وَغَضَّ بَصَرَهُ. وَقَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ
رَفَعَتِ الْأَغْلَالُ أَذْقَانَهُمْ وَرُؤُسَهُمْ، فَهُمْ مَرْفُوعُو الرُّؤُوسِ
بِرَفْعِ الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا.
{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ
كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) }
{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } ،
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "سَدًّا" بِفَتْحِ السِّينِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، { فَأَغْشَيْنَاهُمْ } فَأَعْمَيْنَاهُمْ، مِنَ
التَّغْشِيَةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ، { فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } سَبِيلَ
الْهُدَى.
{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
}
{ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } ، يَعْنِي: إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، { وَخَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } حَسَنٍ
وَهُوَ الْجَنَّةُ. { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } ، عِنْدَ الْبَعْثِ، {
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، {
وَآثَارَهُمْ } أَيْ: مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي
الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا
وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ
عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا". (1)
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الزكاة باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة
طيبة. برقم (1017) 2 / 704-705، والمصنف في شرح السنة: 6 / 159.
وَقَالَ
قَوْمٌ: قَوْلُهُ: "وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهَمْ" أَيْ:
خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ. (1)
رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ بُعْدَ
مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَنَكْتُبُ
مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهَمْ". (2)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مُلَاسٍ النُّمَيْرِيُّ،
حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرَادَتْ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى
قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ تُعَرَّى الْمَدِينَةُ، فَقَالَ: يَا بَنِي سَلَمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ
آثَارَكُمْ؟ فأقاموا". (3)
وأخبرنا 91/ب عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي
مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ
مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ
أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ". (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ } حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ
وَبَيَّنَّاهُ، { فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله: 3 / 567: "وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول،
بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار
تكتب، فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله
أعلم".
(2) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة يس: 9 / 94-95 وقال: "هذا حديث حسن
غريب من حديث الثوري، وأبو سفيان هو طريف السعدي"، وصححه الحاكم 2 / 428
وأقره الذهبي، والطبري: 22 / 154، وابن أبي حاتم، كلهم من طريق الثوري. ورواه
البزار من طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
3 / 567: "وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية،
فالله أعلم". وقارن بالصحيح المسند من أسباب النزول: ص(124).
(3) أخرجه البخاري في فضائل المدينة، باب: كراهية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن تعرى المدينة: 4 / 99، والمصنف في شرح السنة: 2 / 353.
(4) أخرجه البخاري في الأذان، باب: فضل صلاة الفجر في الجماعة 2 / 137، ومسلم في
المساجد، باب: فضل كثرة الخطى إلى المساجد برقم (662) 1 / 460، والمصنف في شرح
السنة: 2 / 353.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
{
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ
(13) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ }
يَعْنِي: اذْكُرْ لَهُمْ شَبَهًا مِثْلَ حَالِهِمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ
الْقَرْيَةِ وَهِيَ أَنْطَاكِيَةُ ، { إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } يَعْنِي:
رُسُلُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ
الْعُلَمَاءُ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ: بَعَثَ عِيسَى رَسُولَيْنِ مِنَ
الْحَوَارِيِّينَ إِلَى أَهْلِ مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَةَ (1) فَلَمَّا قَرُبَا مِنَ
الْمَدِينَةِ رَأَيَا شَيْخًا يَرْعَى غُنَيْمَاتٍ لَهُ وَهُوَ حَبِيبٌ
النَّجَّارُ، صَاحِبُ يس (2) فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ لَهُمَا:
مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَا رَسُولَا عِيسَى، نَدْعُوكُمْ مِنْ عِبَادَةِ
الْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: أَمَعَكُمَا آيَةٌ؟ قَالَا
نَعَمْ نَحْنُ نَشْفِي الْمَرِيضَ وَنُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ
اللَّهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: إِنَّ لِي ابْنًا مَرِيضًا مُنْذُ سِنِينَ، قَالَا
فَانْطَلِقْ بِنَا نَطَّلِعْ عَلَى حَالِهِ، فَأَتَى بِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ،
فَمَسَحَا ابْنَهُ، فَقَامَ فِي الْوَقْتِ -بِإِذْنِ اللَّهِ-صَحِيحًا، فَفَشَا
الْخَبَرُ فِي الْمَدِينَةِ، وَشَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَيْدِيهِمَا
كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى، وَكَانَ -لَهُمْ مَلِكٌ قَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُ
إِنْطِيخَسُ -وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، قَالُوا:
فَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَيْهِ فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا
رَسُولَا عِيسَى، قَالَ: وَفِيمَ جِئْتُمَا؟ قَالَا نَدْعُوكَ مِنْ عِبَادَةِ مَا
لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ إِلَى عِبَادَةِ مَنْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، فَقَالَ:
لَكُمَا إِلَهٌ دُونَ آلِهَتِنَا؟ قَالَا نَعَمْ، مَنْ أَوْجَدَكَ وَآلِهَتَكَ.
قَالَ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَتَبِعَهُمَا النَّاسُ
فَأَخَذُوهُمَا وَضَرَبُوهُمَا فِي السُّوقِ.
قَالَ وَهْبٌ: بَعَثَ عِيسَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ،
فَأَتَيَاهَا فَلَمْ يَصِلَا إِلَى مَلِكِهَا، وَطَالَ مُدَّةُ مُقَامِهِمَا
فَخَرَجَ الْمَلِكُ ذَاتَ يَوْمٍ فَكَبَّرَا وَذَكَرَا اللَّهَ، فَغَضِبَ
الْمَلِكُ وَأَمَرَ بِهِمَا فَحُبِسَا وَجُلِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ، قَالُوا: فَلَمَّا كُذِّبَ الرَّسُولَانِ وَضُرِبَا، بَعَثَ عِيسَى
رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ شَمْعُونَ الصَّفَا عَلَى إِثْرِهِمَا لِيَنْصُرَهُمَا،
فَدَخَلَ شَمْعُونُ الْبَلَدَ مُتَنَكِّرًا، فَجَعَلَ يُعَاشِرُ حَاشِيَةَ
الْمَلِكِ حَتَّى أَنِسُوا بِهِ، فَرَفَعُوا خَبَرَهُ إِلَى الْمَلِكِ فَدَعَاهُ
فَرَضِيَ عِشْرَتَهُ وَأَنِسَ بِهِ وَأَكْرَمَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ بَلَغَنِي أَنَّكَ حَبَسْتَ رَجُلَيْنِ فِي السِّجْنِ
وَضَرَبْتَهُمَا حِينَ دَعَوَاكَ إِلَى غَيْرِ دِينِكَ، فَهَلْ كَلَّمْتَهُمَا
وَسَمِعْتَ قَوْلَهُمَا؟ فَقَالَ الْمَلِكُ: حَالَ
__________
(1) قال ابن كثير: 3 / 570 "وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية
أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة
والسلام كما نص عليه قتادة وغيره وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين
غيره، وفي ذلك نظر من وجوه: (أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل
الله عز وجل لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: "إذ أرسلنا إليهم
اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم لمرسلون -إلى قوله- ربنا يعلم إنا
إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين" ولو كان هؤلاء من الحواريين
لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام والله تعالى أعلم، ثم لو كانوا
رسل المسيح لما قالوا لهم "إن أنتم إلا بشر مثلنا". (الثاني) أن أهل
أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ولهذا كانت عند
النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح،
وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا
على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين ثم رومية
لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده. (االثالث) أن قصة أنطاكية مع
الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة". وانظر: المحرر الوجيز: 13 / 193.
(2) في "ب" عيسى.
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
الْغَضَبُ
بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ رَأَى الْمَلِكُ دَعَاهُمَا حَتَّى
نَطَّلِعَ عَلَى مَا عِنْدَهُمَا، فَدَعَاهُمَا الْمَلِكُ، فَقَالَ لَهُمَا
شَمْعُونُ: مَنْ أَرْسَلَكُمَا إِلَى هَاهُنَا؟ قَالَا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، فَقَالَ لَهُمَا شَمْعُونُ: [فَصِفَاهُ
وَأَوْجِزَا، فَقَالَا إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ،
فَقَالَ شَمْعُونُ] (1) : وَمَا آيَتُكُمَا؟ قَالَا مَا تَتَمَنَّاهُ، فَأَمَرَ
الملك حتى جاؤوا بِغُلَامٍ مَطْمُوسِ الْعَيْنَيْنِ وَمَوْضِعُ عَيْنَيْهِ
كَالْجَبْهَةِ، فَمَا زَالَا يَدْعُوَانِ رَبَّهُمَا حَتَّى انْشَقَّ مَوْضِعُ
الْبَصَرِ، فَأَخَذَا بُنْدُقَتَيْنِ (2) مِنَ الطِّينِ، فَوَضَعَاهُمَا فِي
حَدَقَتَيْهِ فَصَارَتَا مُقْلَتَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ،
فَقَالَ شَمْعُونُ لِلْمَلِكِ: إِنْ أَنْتَ سَأَلْتَ إِلَهَكَ حَتَّى يَصْنَعَ
صُنْعًا مِثْلَ هَذَا فَيَكُونُ لَكَ الشَّرَفُ وَلِإِلَهِكَ. فَقَالَ الْمَلِكُ:
لَيْسَ لِي عَنْكَ سِرٌّ إِنَّ إِلَهَنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا
يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَكَانَ شَمْعُونُ إِذَا دَخَلَ
الْمَلِكُ عَلَى الصَّنَمِ يَدْخُلُ بِدُخُولِهِ وَيُصَلِّي كَثِيرًا،
وَيَتَضَرَّعُ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ، فَقَالَ الْمَلِكُ
لِلرَّسُولَيْنِ: إِنْ قَدَرَ إِلَهُكُمُ الَّذِي تَعْبُدَانِهِ عَلَى إِحْيَاءِ
مَيِّتٍ آمنَّا بِهِ وَبِكُمَا، قَالَا إِلَهُنَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ،
فَقَالَ الْمَلِكُ: إِنَّ هَاهُنَا مَيِّتًا مَاتَ مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ابْنٌ
لِدِهْقَانٍ وَأَنَا أَخَّرْتُهُ فَلَمْ أَدْفِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ أَبُوهُ،
وَكَانَ غَائِبًا فَجَاؤُوا بِالْمَيِّتِ وَقَدْ تَغَيَّرَ وَأَرْوَحَ فَجَعَلَا
يَدْعُوَانِ رَبَّهُمَا عَلَانِيَةً، وَجَعَلَ شَمْعُونُ يَدْعُو رَبَّهُ سِرًّا،
فَقَامَ الْمَيِّتُ، وقال: إني قدمت مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مُشْرِكًا
فَأُدْخِلْتُ فِي سَبْعَةِ أَوْدِيَةٍ مِنَ النَّارِ، وَأَنَا أُحَذِّرُكُمْ مَا
أَنْتُمْ فِيهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فُتِحَتْ لِي أَبْوَابُ
السَّمَاءِ فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُ شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ يَشْفَعُ لِهَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ، قَالَ الْمَلِكُ: وَمَنِ الثَّلَاثَةُ؟ قَالَ: شَمْعُونُ وَهَذَانِ
وَأَشَارَ إِلَى صَاحِبَيْهِ، فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ، فَلَمَّا عَلِمَ شَمْعُونُ
أَنَّ قَوْلَهُ أَثَّرَ فِي الْمَلِكِ أَخْبَرَهُ بِالْحَالِ، وَدَعَاهُ فَآمَنَ
الْمَلِكُ وَآمَنَ قَوْمٌ، وَكَفَرَ آخَرُونَ.
وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَةً لِلْمَلِكِ كَانَتْ قَدْ تُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ، فَقَالَ
شَمْعُونُ لِلْمَلِكِ: اطْلُبْ مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَنْ يُحْيِيَا
ابْنَتَكَ، فَطَلَبَ مِنْهُمَا الْمَلِكُ ذَلِكَ فَقَامَا وَصَلَّيَا وَدَعَوَا
وَشَمْعُونُ مَعَهُمَا فِي السِّرِّ، فَأَحْيَا اللَّهُ الْمَرْأَةَ وَانْشَقَّ
الْقَبْرُ عَنْهَا فَخَرَجَتْ، وَقَالَتْ: أَسْلِمُوا فَإِنَّهُمَا صَادِقَانِ،
قَالَتْ: وَلَا أَظُنُّكُمْ تُسْلِمُونَ، ثُمَّ طَلَبَتْ مِنَ الرَّسُولَيْنِ أَنْ
يَرُدَّاهَا إِلَى مَكَانِهَا فَذَرَّا تُرَابًا عَلَى رَأْسِهَا وَعَادَتْ إِلَى
قَبْرِهَا كَمَا كَانَتْ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ: بَلْ كَفَرَ الْمَلِكُ، وَأَجْمَعَ
هُوَ وَقَوْمُهُ عَلَى قَتْلِ الرُّسُلِ فَبَلَغَ ذَلِكَ حَبِيبًا، وَهُوَ عَلَى
بَابِ الْمَدِينَةِ الْأَقْصَى، فَجَاءَ يَسْعَى إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ
وَيَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْمُرْسَلِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) }
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ } قَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُمَا يُوحَنَّا
وَبُولِسُ، { فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا } يَعْنِي: فَقَوَّيْنَا، { بِثَالِثٍ
} بِرَسُولٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ شَمْعُونُ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ:
"فَعَزَزْنَا" بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) البندقية: ما يكون مدورا من الطين.
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
بِمَعْنَى
الْأَوَّلِ كَقَوْلِكَ: شَدَدْنَا وَشَدَّدْنَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ،
وَقِيلَ: أَيْ: فَغَلَبْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ عَزَّ بَزَّ. وَقَالَ كَعْبٌ:
الرَّسُولَانِ: صَادِقٌ وَصَدُوقٌ، وَالثَّالِثُ شَلُومُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ
اللَّهُ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا
بَعَثَهُمْ بِأَمْرِهِ تَعَالَى، { فَقَالُوا } جَمِيعًا لِأَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ،
{ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } .
{ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ
شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ
أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) }
{ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ
شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ } مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِيمَا
تَزْعُمُونَ.
{ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }
{ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } تَشَاءَمْنَا بِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَطَرَ حُبِسَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: أَصَابَنَا هَذَا بِشُؤْمِكُمْ، { لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } لَنَقْتُلَنَّكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
بِالْحِجَارَةِ { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } . { قَالُوا
طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } يَعْنِي: شُؤْمُكُمْ مَعَكُمْ بِكُفْرِكُمْ
وَتَكْذِيبِكُمْ يَعْنِي: أَصَابَكُمِ الشُّؤْمُ مِنْ قِبَلِكُمْ. وَقَالَ ابن
عباس 92/أ وَالضَّحَّاكُ: حَظُّكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ { أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ } يَعْنِي: وُعِظْتُمْ بِاللَّهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ
الْجَوَابِ مَجَازُهُ: إِنْ ذُكِّرْتُمْ وَوُعِظْتُمْ بِاللَّهِ تَطَيَّرْتُمْ
بِنَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "أَنْ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
الْمَلِينَةِ "ذُكِرْتُمْ" بِالتَّخْفِيفِ { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ } مُشْرِكُونَ مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ،
(1) وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ قَصَّارًا (2) وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَجُلًا
يَعْمَلُ الْحَرِيرَ، (3) وَكَانَ سَقِيمًا قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 22 / 159 وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 51 لعبد الرازق
وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وانظر تفسير ابن كثير: 3 / 569.
(2) ذكره ابن كثير: 3 / 569 والقصار: الذي يعمل بالقصارة، يقال: قصر الثوب، قصارة،
وقصره قصارة: بيضّه ودقَّه بالقصر وهي قطعة من الخشب.
(3) ذكره ابن كثير: 3 / 569 عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار،
ووهب بن منبه وجرير: الحبال.
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
الْجُذَامُ،
وَكَانَ مَنْزِلُهُ عِنْدَ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ
مُؤْمِنًا ذَا صَدَقَةٍ يَجْمَعُ كَسْبَهُ إِذَا أَمْسَى فَيَقْسِمُهُ نِصْفَيْنِ
فَيُطْعِمُ نِصْفًا لِعِيَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِنِصْفٍ، (1) فَلَمَّا بَلَغَهُ
أَنَّ قَوْمَهُ قَصَدُوا قَتْلَ الرُّسُلِ جاءهم { قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ }
{ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ
لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
(24) }
{ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } قَالَ
قَتَادَةُ: كَانَ حَبِيبٌ فِي غَارٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ (2) فَلَمَّا بَلَغَهُ
خَبَرُ الرُّسُلِ أَتَاهُمْ فَأَظْهَرَ دِينَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى حَبِيبٌ إِلَى
الرُّسُلِ قَالَ لَهُمْ: تَسْأَلُونَ عَلَى هَذَا أَجْرًا؟ قَالُوا: لَا
فَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، فَلَمَّا
قَالَ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ: وَأَنْتَ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا وَمُتَابِعٌ دِينَ
هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَمُؤْمِنٌ بِإِلَهِهِمْ؟ فَقَالَ:
{ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قَرَأَ
حمزة ويعقوب: "مالي" بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا.
قِيلَ: أَضَافَ الْفِطْرَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ
الْفِطْرَةَ أَثَرُ النِّعْمَةِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَظْهَرَ، وَفِي الرُّجُوعِ
مَعْنَى الزَّجْرِ وَكَانَ بِهِمْ أَلْيَقَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، أَخَذُوهُ فَرَفَعُوهُ
إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَفَأَنْتَ تتبعهم؟ فقال: "ومالي
لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" وَأَيُّ شَيْءٍ لِي إِذَا لَمْ أَعْبُدِ
الْخَالِقَ { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تُرَدُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ فَيَجْزِيكُمْ
بِأَعْمَالِكُمْ.
{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ:
لَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، { إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ }
بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، { لَا تُغْنِ عَنِّي } لَا تَدْفَعُ عَنِّي، { شَفَاعَتُهُمْ
شَيْئًا } أَيْ: لَا شَفَاعَةَ لَهَا أَصْلًا فَتُغْنِي { وَلَا يُنْقِذُونِ }
مِنْ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ وَقِيلَ: لَا يُنْقِذُونِ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ
عَذَّبَنِي اللَّهُ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ. { إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
خَطَأٍ ظَاهِرٍ.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 569.
(2) انظر: ابن كثير: 3 / 569.
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) }
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{
* وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا
هُمْ خَامِدُونَ (29) }
{ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } يَعْنِي: فَاسْمَعُوا مِنِّي،
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَثَبَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
فَقَتَلُوهُ (1) .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ قَصَبُهُ مِنْ
دُبُرِهِ (2) .
قَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، حَتَّى قَطَّعُوهُ وَقَتَلُوهُ (3) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: خَرَقُوا خَرْقًا فِي حَلْقَةٍ فَعَلَّقُوهُ بِسُورٍ مِنْ
سُورِ الْمَدِينَةِ، وَقَبْرُهُ بِأَنْطَاكِيَةَ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ،
وَهُوَ حَيٌّ فِيهَا يُرْزَقُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ } ، فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى الْجَنَّةِ { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } يَعْنِي: بِغُفْرَانِ رَبِّي لِي، {
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّ اللَّهَ
غَفَرَ لَهُ وَأَكْرَمَهُ، لِيَرْغَبُوا فِي دِينِ الرُّسُلِ.
فَلَمَّا قُتِلَ حَبِيبٌ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ وَعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ،
فَأَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً،
فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ } يَعْنِي:
الْمَلَائِكَةَ، { وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } وَمَا كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، بَلِ
الْأَمْرُ فِي إِهْلَاكِهِمْ كَانَ أَيْسَرَ مِمَّا يَظُنُّونَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ "وَمَا أَنْزَلَنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ"
أَيْ: عَلَى قَوْمِ حَبِيبٍ النَّجَّارِ مِنْ بَعْدِ قَتْلِهِ مِنْ جُنْدٍ، وَمَا
كُنَّا نُنْزِلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ إِذَا أَهْلَكْنَاهُمْ، كَالطُّوفَانِ
وَالصَّاعِقَةِ وَالرِّيحِ. ثُمَّ بَيَّنَ عُقُوبَتَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: { إِنْ
كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً }، [وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: صَيْحَةٌ
وَاحِدَةٌ] (4) بِالرَّفْعِ، جَعَلَ الْكَوْنَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ.
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق بلاغا عن ابن عباس وكعب ووهب. انظر: ابن كثير: 3 / 569.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 161، وابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود، انظر ابن
كثير: 3 / 569.
(3) أخرجه الطبري: 22 / 161 لكن عن قتادة، وكذلك عند ابن كثير: 3 / 569.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ جِبْرِيلُ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ صَاحَ
بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً (1) { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } ميتون.
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ
الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ
أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) }
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَا حَسْرَتَهُمْ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ النَّدَامَةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً وَنَدَامَةً وَكَآبَةً عَلَى
الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ.
وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْهَالِكِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمَّا
عَايَنُوا الْعَذَابَ قَالُوا: يَا حَسْرَةً أَيْ: نَدَامَةً عَلَى الْعِبَادِ،
يَعْنِي: عَلَى الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ،
فَتَمَنَّوُا الْإِيمَانَ حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحَسْرَةُ لَا تُدْعَى، وَدُعَاؤُهَا تَنْبِيهُ
الْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ الْعَرَبُ تقول: يا حسرتي! ويا عَجَبًا! عَلَى طَرِيقِ
الْمُبَالَغَةِ، وَالنِّدَاءُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى التَّنْبِيهِ، فَكَأَنَّهُ
يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَجَبُ هَذَا وَقْتُكَ؟ وَأَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا
أَوَانُكِ؟
حَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا زَمَانُ الْحَسْرَةِ وَالتَّعَجُّبِ. ثُمَّ
بَيَّنَ سَبَبَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَقَالَ: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
{ أَلَمْ يَرَوْا } أَلَمْ يُخْبَرُوا، يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ { كَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } وَالْقَرْنُ: أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ،
سُمُّوا بِذَلِكَ لِاقْتِرَانِهِمْ فِي الْوُجُودِ { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا
يَرْجِعُونَ } أَيْ: لَا يَعُودُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهِمْ.
{ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ } قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: "لَمَّا"
بِالتَّشْدِيدِ هَاهُنَا وَفِي الزُّخْرُفِ وَالطَّارِقِ، وَوَافَقَ ابْنُ عَامِرٍ
إِلَّا فِي الزُّخْرُفِ، وَوَافَقَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الطَّارِقِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ. فَمَنْ شَدَّدَ جَعَلَ "إِنَّ" بمعنى
الجحد، و"لما" بِمَعْنَى إِلَّا تَقْدِيرُهُ: وَمَا كَلٌّ إِلَّا
جَمِيعٌ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَ "إن" للتحقيق و"ما" صِلَةٌ
مَجَازُهُ: وَكُلٌّ جَمِيعٌ { لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ }.
{ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } بِالْمَطَرِ {
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا } يَعْنِي الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَمَا
__________
(1) ذكره ابن كثير: 3 / 570 وعضادتا الباب: ناحيتاه.
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
أَشْبَهَهُمَا
{ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أَيْ: مِنَ الْحَبِّ.
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ
الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا
يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) }
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ } بَسَاتِينَ، { مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
وَفَجَّرْنَا فِيهَا } فِي الْأَرْضِ، { مِنَ الْعُيُونِ }.
{ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } أَيْ: مِنَ الثَّمَرِ الْحَاصِلِ بِالْمَاءِ {
وَمَا عَمِلَتْهُ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ:
"عَمِلَتْ" بِغَيْرِ هَاءٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"عَمِلَتْهُ" بِالْهَاءِ أَيْ: يَأْكُلُونَ مِنَ الَّذِي عَمِلَتْهُ {
أَيْدِيهِمْ } الزَّرْعَ وَالْغَرْسَ فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى "مَا"
الَّتِي بِمَعْنَى الَّذِي. وَقِيلَ: "مَا" لِلنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ
"مَا عَمِلَتْهُ" أَيْ: وَجَدُوهَا مَعْمُولَةً وَلَمْ تَعْمَلْهَا
أَيْدِيهِمْ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ
وَمُقَاتِلٍ.
وَقِيلَ: أَرَادَ الْعُيُونَ وَالْأَنْهَارَ الَّتِي لَمْ تَعْمَلْهَا يَدُ خَلْقٍ
مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ وَنَحْوِهَا.
{ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } نِعْمَةَ اللَّهِ .
{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أَيِ: الْأَصْنَافَ { مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ } الثِّمَارَ وَالْحُبُوبَ { وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ } يَعْنِي:
الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ { وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } مِمَّا خَلَقَ مِنَ
الْأَشْيَاءِ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
{ وَآيَةٌ لَهُمُ } تَدَلُّ عَلَى قُدْرَتِنَا، { اللَّيْلُ نَسْلَخُ } نَنْزِعُ
وَنَكْشِطُ { مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } دَاخِلُونَ فِي
الظُّلْمَةِ، وَمَعْنَاهُ: نُذْهِبُ النَّهَارَ وَنَجِيءُ بِاللَّيْلِ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الظلمة والنهار 92/ب دَاخِلٌ عَلَيْهَا ُ فَإِذَا غَرَبَتِ
الشَّمْسُ سُلِخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ.
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } أَيْ: إِلَى مُسْتَقَرٍّ لَهَا،
أَيْ: إِلَى انْتِهَاءِ سَيْرِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ
السَّاعَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَسِيرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَبْعَدِ مَغَارِبِهَا، ثُمَّ
تَرْجِعُ فَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَاوِزُهُ.
وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا نِهَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ فِي الصَّيْفِ
وَنِهَايَةُ هُبُوطِهَا فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ
الْعَرْشِ".
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَثَتَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْتَيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } قَالَ:
"مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي
ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ"؟ قُلْتُ:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ
تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا فَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي
مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
} (2) .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ: لَا قَرَارَ
لَهَا وَلَا وُقُوفَ فَهِيَ جَارِيَةٌ أَبَدًا { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ } .
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
(39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) }
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أَيْ: قَدَّرْنَا لَهُ مَنَازِلَ قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "الْقَمَرُ" بِرَفْعِ
الرَّاءِ لِقَوْلِهِ: "وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهَارَ" وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ لِقَوْلِهِ:
"قَدَّرْنَاهُ" أَيْ: قَدَّرْنَا الْقَمَرَ { مَنَازِلَ } وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَسَامِي الْمَنَازِلِ فِي سُورَةِ يُونُسَ (3) فَإِذَا صَارَ الْقَمَرُ إِلَى
آخَرِ الْمَنَازِلِ دَقَّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ } وَالْعُرْجُونُ: [عُودُ الْعِذْقِ] (4) الَّذِي عَلَيْهِ
الشَّمَارِيخُ، فَإِذَا قَدُمَ وَعَتَقَ يَبِسَ وَتَقَوَّسَ وَاصْفَرَّ فَشُبِّهَ
الْقَمَرُ فِي دِقَّتِهِ وَصُفْرَتِهِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ بِهِ. { لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } أَيْ: لَا يَدْخُلُ
النَّهَارُ عَلَى اللَّيْلِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ عَلَى
النَّهَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ } أَيْ: هُمَا يَتَعَاقَبَانِ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ لَا يَجِيءُ
أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَقْتِهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة يس - باب: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك
تقدير العزيز العليم) 8 / 541، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل
فيه الإيمان برقم (251) 1 / 139،والمصنف في شرح السنة: 15 / 95.
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر 6 / 297، ومسلم في
الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان برقم: (251) 1 / 139، والمصنف
في شرح السنة: 15 / 94.
(3) انظر فيما سبق: 4 / 121.
(4) في "أ" العرق.
وَقِيلَ:
لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي سُلْطَانِ الْآخَرِ، لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ
بِاللَّيْلِ وَلَا يَطْلُعُ الْقَمَرُ بِالنَّهَارِ وَلَهُ ضَوْءٌ، فَإِذَا
اجْتَمَعَا وَأَدْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَامَتِ الْقِيَامَةُ.
وَقِيلَ: "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ"
أَيْ: لَا تَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ، "وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ" أَيْ: لَا يَتَّصِلُ لَيْلٌ بِلَيْلٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا
نَهَارٌ فَاصِلٌ.
{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يَجْرُونَ.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
{
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) }
{ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَالشَّامِ، وَيَعْقُوبُ: "ذُرِّيَّاتِهِمْ" جَمْعٌ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "ذُرِّيَّتَهُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ، فَمِنْ جَمَعَ كَسَرَ
التَّاءَ، وَمَنْ لَمْ يَجْمَعْ نَصَبَهَا، وَالْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ:
الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ، وَاسْمُ الذُّرِّيَّةِ يَقَعُ عَلَى الْآبَاءِ كَمَا
يَقَعُ عَلَى الْأَوْلَادِ { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أَيْ: الْمَمْلُوءِ،
وَأَرَادَ سَفِينَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ مَنْ
حُمِلَ مَعَ نُوحٍ، وَكَانُوا فِي أَصْلَابِهِمْ. { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ
مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قِيلَ: أَرَادَ بِهِ السُّفُنَ الصِّغَارَ الَّتِي
عُمِلَتْ بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَى هَيْئَتِهَا.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ السُّفُنَ الَّتِي تَجْرِي فِي الْأَنْهَارِ فَهِيَ فِي
الْأَنْهَارِ كَالْفُلْكِ الْكِبَارِ فِي الْبِحَارِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ،
وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ
مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ" يَعْنِي: الْإِبِلَ، فَالْإِبِلُ فِي الْبَرِّ
كَالسُّفُنِ فِي الْبَحْرِ. { وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ } أَيْ:
لَا مُغِيثَ { لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ } يَنْجُونَ مِنَ الْغَرَقِ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحَدَ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِي. { إِلَّا رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ يَعْنِي إِلَّا أَنْ
يَرْحَمَهُمْ وَيُمَتِّعَهُمْ إِلَى آجَالِهِمْ.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" يَعْنِي الْآخِرَةَ،
فَاعْمَلُوا لَهَا، "وَمَا خَلْفَكُمْ" يَعْنِي الدُّنْيَا،
فَاحْذَرُوهَا، وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَا.
وَقِيلَ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" وَقَائِعُ اللَّهِ فِيمَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ، "وَمَا خَلْفَكُمْ" عَذَابُ الْآخِرَةِ،
وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ.
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
{
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا قِيلَ
لَهُمْ هَذَا أَعْرَضُوا عَنْهُ دَلِيلُهُ مَا بَعْدَهُ:
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا
مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) }
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } أَيْ: دَلَالَةٌ عَلَى
صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا
مُعْرِضِينَ }.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أَعْطَاكُمُ
اللَّهُ { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ } أَنَرْزُقُ {
مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا
لِكُفَّارِ مَكَّةَ: أَنْفِقُوا عَلَى الْمَسَاكِينِ مِمَّا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ
أَنَّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَا جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ،
قَالُوا: أَنُطْعِمُ أَنَرْزُقُ مِنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ رَزَقَهُ، ثُمَّ لَمْ
يَرْزُقْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نُوَافِقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَا
نُطْعِمُ مَنْ لَمْ يُطْعِمْهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ
الْبُخَلَاءُ، يَقُولُونَ: لَا نُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ. وَهَذَا الَّذِي
يَزْعُمُونَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَغْنَى بَعْضَ الْخَلْقِ وَأَفْقَرَ
بَعْضَهُمُ ابْتِلَاءً، فَمَنَعَ الدُّنْيَا مِنَ الْفَقِيرِ لَا بُخْلًا وَأَمَرَ
الْغَنِيَّ بِالْإِنْفَاقِ لَا حَاجَةً إِلَى مَالِهِ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ
الْغَنِيَّ بِالْفَقِيرِ فِيمَا فَرَضَ لَهُ فِي مَالِ الْغَنِيِّ، وَلَا
اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ { إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } يَقُولُ الْكُفَّارُ لِلْمُؤْمِنِينَ: مَا أَنْتُمْ
إِلَّا فِي خَطَأٍ بَيِّنٍ فِي اتِّبَاعِكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَرْكِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } أَيِ: الْقِيَامَةُ وَالْبَعْثُ { إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { مَا يَنْظُرُونَ } أَيْ: مَا يَنْتَظِرُونَ { إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النَّفْخَةَ الْأُولَى {
تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } يَعْنِي: يَخْتَصِمُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا
مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْأَسْوَاقِ.
قَرَأَ حَمْزَةُ: "يَخْصِمُونَ" بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ
الصَّادِ، أَيْ: يَغْلِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخِصَامِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، أَيْ: يَخْتَصِمُونَ. أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ،
ثُمَّ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ وَوِرَشٌ يَفْتَحُونَ الْخَاءَ بِنَقْلِ حَرَكَةِ
التَّاءِ الْمُدْغَمَةِ إِلَيْهَا، وَيَجْزِمُهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونَ
وَيَرُومُ فتحة الخاء 93/أ أَبُو عَمْرٍو، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ
الْخَاءِ.
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
وَرُوِّينَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَتَقُومَنَّ
السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا
يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ
الرَّجُلُ (1) أَكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا" (2) .
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ
الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أَيْ: لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِيصَاءِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَجِلُوا عَنِ الْوَصِيَّةِ
فَمَاتُوا { وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } يَنْقَلِبُونَ، وَالْمَعْنَى
أَنَّ السَّاعَةَ لَا تُمْهِلُهُمْ لِشَيْءٍ. { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } وَهِيَ
النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، وَبَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ
أَرْبَعُونَ سَنَةً { فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ } يَعْنِي: الْقُبُورُ
وَاحِدُهَا: جَدَثٌ { إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ
أَحْيَاءً، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَلَدِ: نَسْلٌ لِخُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أمه.
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } قَالَ أَبَيُّ بْنُ
كَعْبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: إِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَرْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ
فَيَرْقُدُونَ فَإِذَا بُعِثُوا بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأَخِيرَةِ وَعَايَنُوا
الْقِيَامَةَ دَعَوْا بِالْوَيْلِ (3) .
وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَايَنُوا جَهَنَّمَ
وَأَنْوَاعَ عَذَابِهَا صَارَ عَذَابُ الْقَبْرِ فِي جَنْبِهَا كَالنَّوْمِ،
فَقَالُوا: يَا وَيْلَنَا (4) مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟ ثُمَّ قَالُوا: {
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [أَقَرُّوا حِينَ لَمْ
يَنْفَعْهُمُ الْإِقْرَارُ. وَقِيلَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ: "هَذَا
مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ"] (5) .
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ الْكُفَّارُ: "مَنْ بَعَثَنَا مِنْ
مَرْقَدِنَا"؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: "هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ
وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ". { إِنْ كَانَتْ } مَا كَانَتْ { إِلَّا صَيْحَةً
وَاحِدَةً } يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ } .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الفتن: 13 / 81-82، والمصنف في شرح السنة: 15 /
26-27.
(3) انظر: الدر المنثور: 7 / 63-64.
(4) ساقط من "أ".
(5) ساقط من "أ".
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) }
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ
وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا
فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
}
{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } .
{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ
وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو "فِي شُغْلٍ"، بِسُكُونِ الْغَيْنِ،
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ السُّحْتِ وَالسُّحُتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الشُّغُلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي افْتِضَاضِ
الْأَبْكَارِ (1) ، وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجِرَاحِ: فِي السَّمَاعِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي شُغُلٍ عَنْ أَهْلِ النَّارِ وَعَمَّا هُمْ فِيهِ لَا
يُهِمُّهُمْ أَمْرُهُمْ وَلَا يَذْكُرُونَهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: شُغِلُوا بِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ عَمَّا فِيهِ
أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فِي زِيَارَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: فِي
ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
{ فَاكِهُونَ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "فَكِهُونَ" حَيْثُ كَانَ،
وَافَقَهُ حَفْصٌ فِي الْمُطَفِّفِينَ؛ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: الْحَاذِرُ
وَالْحَذِرُ أَيْ: نَاعِمُونَ. قَالَ: مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مُعْجَبُونَ بِمَا
هُمْ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرِحُونَ.
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } أَيْ: حَلَائِلُهُمْ { فِي ظِلَالٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: "ظُلَلٍ" بِضَمِّ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ جَمْعُ
ظُلَّةٍ وَقَرَأَ الْعَامَّةُ: "فِي ظِلَالٍ" بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ
الظَّاءِ عَلَى جَمْعِ ظِلٍّ { عَلَى الْأَرَائِكِ } يَعْنِي السُّرَرَ فِي
الْحِجَالِ (3) ، وَاحِدَتُهَا: أَرِيكَةٌ . قَالَ ثَعْلَبٌ: لَا تَكُونُ
أَرِيكَةً حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا حَجْلَةٌ { مُتَّكِئُونَ } ذَوُو اتِّكَاءٍ.
{ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ } يَتَمَنَّوْنَ
وَيَشْتَهُونَ.
{ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } أَيْ: يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
قَوْلًا أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ قَوْلًا.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْمُؤَذِّنُ،
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْمَلْحَمِيُّ
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 18، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 64 أيضا لابن أبي
شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) انظر هذه الأقوال في البحر المحيط: 7 / 342.
(3) الحجال: جمع حجلة وهو بيت للعروس يزين بالثياب، والأسرة، والستور، قال في
اللسان: والحجلة مثل القبة، وحجلة العروس معروفة، وهي بيت يستر بالثياب والأسرة.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
الْأَصْفَهَانِيُّ،
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ
أَبِي الشَّوَارِبِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، أَخْبَرَنَا
الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ
فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: "سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ" فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا
دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ فَيَبْقَى نُورُهُ
وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ" (1) .
وَقِيلَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِمِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ رَبِّهِمْ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ
بَابٍ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ رَبِّكُمُ
الرَّحِيمِ.
وَقِيلَ: يُعْطِيهُمُ السَّلَامَةَ، يَقُولُ: اسْلَمُوا السَّلَامَةَ
الْأَبَدِيَّةَ.
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) }
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: اعْتَزِلُوا
الْيَوْمَ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَمَيَّزُوا. وَقَالَ
الْسُّدِّيُّ: كُونُوا عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْفَرَدُوا عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ لِكُلِّ كَافِرٍ فِي النَّارِ بَيْتًا
يُدْخَلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَيُرْدَمُ بَابُهُ بِالنَّارِ فَيَكُونُ فِيهِ أَبَدَ
الْآبِدِينَ لَا يَرَى وَلَا يُرَى (2) .
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } أَلَمْ آمُرْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ
{ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } أَيْ: لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ.
{ وَأَنِ اعْبُدُونِي } أَطِيعُونِي وَوَحِّدُونِي { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
.
{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمٌ:
"جِبِلًّا" بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ،
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "جُبُلًّا" بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ
وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، برقم: (184) 1 / 66-67،
وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 65-66 أيضا لابن أبي الدنيا في صفة الجنة
والبزار وابن أبي حاتم والآجري في الرؤية وابن مردويه، قال البوصيري في مصباح
الزجاجة: "والذي رأيته أنا في كتاب العقيلي ما نصه: عبد الله بن عبيد الله أبو
عاصم العباداني، منكر الحديث، وكان الفضل يرى القدر، كاد أن يغلب على حديثه
الوهم". وانظر مجمع الزوائد 7 / 98، وضعيف الجامع الصغير رقم الحديث (2362).
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 343.
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
الْجِيمِ
سَاكِنَةَ الْبَاءِ خَفِيفَةً، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ
خَفِيفَةً، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ، وَمَعْنَاهَا: الْخَلْقُ وَالْجَمَاعَةُ أَيْ:
خَلْقًا كَثِيرًا { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } مَا أَتَاكُمْ مِنْ هَلَاكِ
الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِطَاعَةِ إِبْلِيسَ، وَيُقَالُ لَهُمْ لَمَّا دَنَوْا
مِنَ النَّارِ:
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) }
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } بِهَا فِي الدُّنْيَا {
اصْلَوْهَا } ادْخُلُوهَا { الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ
نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } هَذَا حِينَ يُنْكِرُ الْكُفَّارُ كُفْرَهُمْ
وَتَكْذِيبَهُمُ الرُّسُلَ، فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
جَوَارِحُهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَفْصَوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، سَنَةَ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَزِيدَ حَاتِمُ بْنُ
مَحْبُوبٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
فَقَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ
لَيْسَتْ فِي سَحَابٍ"؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
"فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي
سَحَابَةٍ"؟ قَالُوا: لَا قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ كَمَا لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ
أَحَدِهِمَا"، قَالَ: "فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: أَيْ عَبْدِي
أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَوِّدْكَ أَلَمْ أُزَوِّجْكَ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ
الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرَكَ تَتَرَأَّسُ وَتَتَرَبَّعُ؟ قَالَ: بَلَى يَا
رَبِّ قَالَ: فَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَالْيَوْمَ
أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيْتَنِي، قَالَ: فَيَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ: أَلَمْ
أُكْرِمْكَ، أَلَمْ أُسَوِّدْكَ، أَلَمْ أُزَوِّجْكَ، أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ
الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَتْرُكْكَ تَتَرَأَّسُ وَتَتَرَبَّعُ؟-وَقَالَ غَيْرُهُ
عَنْ سُفْيَانَ: تَرَأَّسُ وَتَرَبَّعُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ-قَالَ: فيقول: بلى
93/ب يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا
رَبِّ قَالَ: فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ
فَيَقُولُ؟ مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَبْدُكَ آمَنْتُ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ
وَبِكِتَابِكَ وَصَلَّيْتُ وَصَمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا
اسْتَطَاعَ قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: أَلَمْ نَبْعَثْ عَلَيْكَ شَاهِدَنَا؟ قَالَ:
فَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ
وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ: انْطِقِي قَالَ: فَتَنْطِقُ فَخْذُهُ وَلَحْمُهُ
وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ
نَفْسِهِ وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ،
أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الزهد برقم: (2968) 4 / 2279-2280، والمصنف في شرح
السنة: 15 / 146-148.
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكُمْ
تُدْعَوْنَ فَيُفْدَمُ عَلَى أَفْوَاهِكُمْ بِالْفِدَامِ فَأَوَّلُ مَا يُسْأَلُ
عَنْ أَحَدِكُمْ فَخْذُهُ وَكَفُّهُ" (1)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضِرِ، حَدَّثَنِي هَاشِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ"؟
قَالَ: قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ
الْعَبْدِ رَبَّهُ" يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ:
فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيرُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا
شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا
وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ
لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسَحْقًا فَعَنْكُنَّ
كُنْتُ أُنَاضِلُ" (2)
{ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ
فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ
فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ }
[أَيْ: أَذْهَبْنَا أَعْيُنَهُمُ] (3) الظَّاهِرَةَ بِحَيْثُ لَا يَبْدُو لَهَا
جَفْنٌ وَلَا شِقٌّ، وَهُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ"(
الْبَقَرَةِ -20 ) يَقُولُ: كَمَا أَعْمَيْنَا قُلُوبَهُمْ لَوْ شِئْنَا
أَعْمَيْنَا أَبْصَارَهُمُ الظَّاهِرَةَ { فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ }
فَتَبَادَرُوا إِلَى الطَّرِيقِ { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ
[وَقَدْ أَعْمَيْنَا أَعْيُنَهُمْ؟ يَعْنِي: لَوْ نَشَاءُ لَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنِ
الْهُدَى، وَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ، فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ] (4)
الطَّرِيقَ حِينَئِذٍ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ لَوْ نَشَاءُ
لَفَقَأْنَا أَعْيُنَ ضَلَالَتِهِمْ فَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ،
وَحَوَّلْنَا أَبْصَارَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى فَأَبْصَرُوا
رُشْدَهُمْ { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } وَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ؟
{ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ } يَعْنِي: مَكَانَهُمْ:
يُرِيدُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ
__________
(1) حديث حسن أخرجه عبد الرازق في التفسير: 2 / 185 والنسائي في التفسير: 2 / 260،
والطبراني في الكبير: 19 / 408، والإمام أحمد: 4 / 447، 5 / 4-5، وزاد السيوطي في
الدر المنثور: 7 / 319 نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم: 2 / 440 وصححه،
والبيهقي في البعث، وللحديث شواهد ساقها الحافظ ابن كثير في التفسير: 3 / 578.
(2) أخرجه مسلم في الزهد برقم: (2969): 4 / 2280-2281.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
فِي
مَنَازِلِهِمْ، وَقِيلَ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ حِجَارَةً، وَهُمْ قُعُودٌ
فِي مَنَازِلِهِمْ لَا أَرْوَاحَ لَهُمْ. { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا
يَرْجِعُونَ } إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى
ذَهَابٍ وَلَا رُجُوعٍ.
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ (69) }
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ:
"نُنَكِّسُهُ" بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ النُّونِ
الْأُولَى وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفًا، أَيْ: نَرُدُّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
شِبْهَ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ.
وَقِيلَ: "نُنَكِّسُهُ فِي الْخَلْقِ" أَيْ: نُضْعِفُ جَوَارِحَهُ
بَعْدَ قُوَّتِهَا وَنَرُدُّهَا إِلَى نُقْصَانِهَا بَعْدَ زِيَادَتِهَا. {
أَفَلَا يَعْقِلُونَ } فَيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى
تَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } قَالَ
الْكَلْبِيُّ: إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ، وَمَا
يَقُولُهُ شِعْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أَيْ: مَا يَتَسَهَّلُ لَهُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ
يَتَّزِنُ لَهُ بَيْتٌ مِنْ شِعْرٍ، حَتَّى إِذَا تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ جَرَى
عَلَى لِسَانِهِ مُنْكَسِرًا .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَاهَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: كَفَى
بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى
الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا (1)
[ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَفَى
بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا] ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمْرُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ
شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ:
كَانَ يَتَمَثَّلُ مِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ.
__________
(1) البيت لسحيم عبد الحسحاس، وصدره:
عميرة ودع إن تجهزت غازيا.
انظره في البيان والتبيين للجاحظ: 1 / 71، الكامل للمبرد ص (585) عن تفسير ابن
كثير: 7 / 574 طبع الشعب.
(2) أخرجه ابن سعد: 1 / 382-383 (وما بين القوسين استدركناه منه) وعزاه السيوطي في
الدر المنثور: 7 / 71 لابن أبي حاتم والمرزباني في معجم الشعراء، وعلى بن زيد
ضعيف.
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قَالَتْ:
وَرُبَّمَا قَالَ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ (1)
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ: هَلْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنَ
الشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ الشِّعْرُ أَبْغَضَ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ، قَالَتْ:
وَلَمْ يَتَمَثَّلْ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ إِلَّا بِبَيْتِ أَخِي بَنِي قَيْسٍ
طَرَفَةَ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ
بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
فَجَعَلَ يَقُولُ: "وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالْأَخْبَارِ"
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ هَكَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَقَالَ: "إِنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ وَلَا يَنْبَغِي لِي" (2) .
{ إِنْ هُوَ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ { إِلَّا ذِكْرٌ } مَوْعِظَةٌ { وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ } فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ.
{ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب، باب:ما جاء في إنشاد الشعر:8 / 140-141 وقال: (هذا
حديث حسن صحيح)، والإمام أحمد 6 / 156، وابن سعد: 1 / 383، وعزاه ابن كثير (3 /
579) أيضا للنسائي.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 27، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 145وعزاه السيوطي في الدر
المنثور: 7 / 71 أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وراجع تفسير ابن
كثير: 3 / 580.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا
فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ
وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) }
{ لِيُنْذِرَ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَيَعْقُوبُ
"لِتُنْذِرَ" بِالتَّاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْقَافِ، [وَافَقَ ابْنُ
كَثِيرٍ فِي الْأَحْقَافِ] (1) أَيْ: لِتُنْذِرَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ { مَنْ كَانَ حَيًّا }
يَعْنِي: مُؤْمِنًا حَيَّ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ فِي أَنَّهُ
لَا يَتَدَبَّرُ وَلَا يَتَفَكَّرُ { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ } وَيَجِبُ حُجَّةُ
الْعَذَابِ { عَلَى الْكَافِرِينَ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا
عَمِلَتْ أَيْدِينَا } تَوَلَّيْنَا خَلْقَهُ بِإِبْدَاعِنَا مِنْ غَيْرِ
إِعَانَةِ أَحَدٍ { أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } ضَابِطُونَ قَاهِرُونَ،
أَيْ: لَمْ يَخْلُقِ الْأَنْعَامَ وَحْشِيَّةً نَافِرَةً مَنْ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ
عَلَى ضَبْطِهَا، بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُمْ.
وَهِيَ قَوْلُهُ: { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } سَخَّرْنَاهَا لَهُمْ { فَمِنْهَا
رَكُوبُهُمْ } أَيْ: مَا يَرْكَبُونَ وَهِيَ الْإِبِلُ { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }
مِنْ لُحْمَانِهَا.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
{
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ
إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
}
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا
وَنَسْلِهَا { وَمَشَارِبُ } مِنْ أَلْبَانِهَا { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } رَبَّ (1)
هَذِهِ النِّعَمِ.
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ } يَعْنِي:
لِتَمْنَعَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَطُّ.
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } 94/أ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَقْدِرُ
الْأَصْنَامُ عَلَى نَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. { وَهُمْ لَهُمْ
جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } أَيْ: الْكُفَّارُ جُنْدٌ لِلْأَصْنَامِ يَغْضَبُونَ لَهَا
وَيُحْضِرُونَهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا، وَلَا
تَسْتَطِيعُ لَهُمْ نَصْرًا. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ، يُؤْتَى بِكُلِّ
مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَهُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ
كَأَنَّهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي النَّارِ.
{ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } يَعْنِي: قَوْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ فِي
تَكْذِيبِكَ { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنَ
التَّكْذِيبِ { وَمَا يُعْلِنُونَ } مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ مَا
يُعْلِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْأَذَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ
نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ { مُبِينٌ } بَيِّنُ
الْخُصُومَةِ، يَعْنِي: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يُخَاصِمُ فَكَيْفَ
لَا يَتَفَكَّرُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ حَتَّى يَدَعَ الْخُصُومَةَ.
نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ خَاصَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَأَتَاهُ بِعَظْمٍ قَدْ بَلِيَ
فَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ: أَتُرَى يُحْيِي الله هذا بعد ما رَمَّ؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ وَيَبْعَثُكَ
وَيُدْخِلُكَ النَّارَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (2) .
__________
(1) ساقطة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 23 / 30، والواحدي في أسباب النزول ص (423). وأخرج الحاكم: 2 /
429 وابن أبي الحاتم أن الآية نزلت في العاص بن وائل. وقد ذكر الحافظ ابن كثير
الروايتين: 3 / 582 ثم قال: "وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآية قد نزلت في
أبي بن خلف أو العاص بن وائل أو فيهما، فهي عامة في كل من أنكر البعث، والألف
واللام في قوله تعالى: (أولم ير الإنسان) للجنس يعم كل منكر للبعث".
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
{
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (82) }
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ } بَدْءَ أَمْرِهِ، ثُمَّ { قَالَ
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } بَالِيَةٌ، وَلَمْ يَقِلْ رَمِيمَةً؛
لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلَةٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ
وَوَزْنِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ أَخَوَاتِهِ (1) ، كَقَوْلِهِ: "وَمَا
كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا"( مَرْيَمَ -28 ) ، أَسْقَطَ الْهَاءَ لِأَنَّهَا
كَانَتْ مَصْرُوفَةً عَنْ بَاغِيَةٍ.
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا } خَلَقَهَا (2) ، { أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } .
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُمَا شَجَرَتَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمَرْخُ وَلِلْأُخْرَى:
الْعَفَارُ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْهُمُ النَّارَ قَطَعَ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ
السِّوَاكَيْنِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يَقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ، فَيُسْحَقُ
الْمَرْخُ عَلَى الْعِفَارِ فَيَخْرُجُ مِنْهُمَا النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ (3) .
تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ،
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ إِلَّا الْعُنَّابَ. { فَإِذَا
أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } أَيْ: تَقْدَحُونَ وَتُوقِدُونَ النَّارَ مِنْ
ذَلِكَ الشَّجَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ،
فَقَالَ:
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ } قَرَأَ
يَعْقُوبُ: "يَقْدِرُ" بِالْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ { عَلَى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى } أَيْ: قُلْ: بَلَى، هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ {
وَهُوَ الْخَلَّاقُ } [يَخْلُقُ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ] (4) ، { الْعَلِيمُ }
بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ.
__________
(1) في "أ": إعرابه.
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 583، البحر المحيط: 7 / 348.
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب".==
15. معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير
البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
}
{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي،
أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّاهِرِ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
الدَّرَابَجِرْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ -وَلَيْسَ بِالنَّهْدِيِّ -عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَؤُوا عَلَى
مَوْتَاكُمْ سُورَةَ يس" (1) وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ عَنِ ابْنِ
الْمُبَارَكِ، وَقَالَ: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَلَيْسَ بِالنَّهْدِيِّ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب: القراءة عند الميت: 4 / 287، وابن ماجه في
الجنائز، باب: ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر برقم (1448) 1 / 465-466،
والبيهقي في السنن: 3 / 383 والنسائي في عمل اليوم والليلة ص (581)، والإمام أحمد:
5 / 26 وابن حبان في موارد الظمآن برقم (720) ص (184)، والحاكم: 1 / 565 وقال:
أوقفه يحيى بن سعيد وغيره، والقول فيه قول ابن المبارك إذ الزيادة من الثقة
مقبولة. وأبو عثمان وأبوه مجهولان فالحديث ضعيف، وأخرجه المصنف في شرح السنة 5 /
395، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح: أن ابن القطان قد أعله بالاضطراب والوقف
وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه. ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا
حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث، انظر التلخيص الحبير 2 /
104، إرواء الغليل 3 / 150-152.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
سُورَةُ
الصَّافَّاتِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) }
{ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: هُمُ
الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا
لِلصَّلَاةِ.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاشَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ
الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ،
حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: سَأَلَتْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشَ عَنْ حَدِيثِ
جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي الصُّفُوفِ الْمُقَدِّمَةِ فَحَدَّثْنَا عَنِ
الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ
سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ"؟
قُلْنَا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالَ:
"يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُقَدَّمَةَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ"
(2) .
وَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً
حَتَّى يَأْمُرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُرِيدُ.
وَقِيلَ: هِيَ الطُّيُورُ (3) ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ"( النُّورِ -41 ).
قَوْلُهُ تَعَالَى { فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا } يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ
السَّحَابَ وَتَسُوقُهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ زَوَاجِرُ الْقُرْآنِ تَنْهَى
وَتَزْجُرُ عَنِ الْقَبَائِحِ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي
الله عنهما - قال: نزلت سورة الصافات بمكة. انظر: الدر المنثور: 7 / 77.
(2) أخرجه أبو داود في تسوية الصفوف: 1 / 332 ومسلم في الصلاة، باب: الأمر بالسكون
في الصلاة وإتمام الصفوف برقم: (430) 1 / 322، والمصنف في شرح السنة: 3 / 366.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 351.
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) }
{ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. وَقِيلَ: هُمْ جَمَاعَةُ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ (1) وَهَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ
أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَمَوْضِعُ الْقِسْمِ قَوْلُهُ: { إِنَّ إِلَهَكُمْ
لَوَاحِدٌ } وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: وَرَبِّ الصَّافَّاتِ
وَالزَّاجِرَاتِ وَالتَّالِيَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا:
"أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا"؟ فَأَقْسَمَ اللَّهُ
بِهَؤُلَاءِ: "إِنَّ إِلَهَكُمْ لِوَاحِدٌ".
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ }
أَيْ: مَطَالِعِ الشَّمْسِ [قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ،
كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ"( الْمَعَارِجِ-40 ) ] (2)
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: "بِرَبِّ الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ"، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: "رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ"( الرَّحْمَنِ -17 ) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: "رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"( الْمُزَّمِّلِ -9 ) ، فَكَيْفَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ
بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ؟
قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: "رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"، أَرَادَ
بِهِ الْجِهَةَ، فَالْمُشْرِقُ جِهَةٌ وَالْمَغْرِبُ جِهَةٌ.
وَقَوْلُهُ: "رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ" أَرَادَ:
مَشْرِقَ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبَيْنِ: مَغْرِبَ
الشِّتَاءِ وَمَغْرِبَ الصَّيْفِ.
وَقَوْلُهُ: "بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ" أَرَادَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ خلق للشمس ثلثمائة وَسِتِّينَ كُوَّةً في المشرق، وثلثمائة
وَسِتِّينَ كُوَّةً فِي الْمَغْرِبِ، عَلَى عَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ، تَطْلُعُ
الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كُوَّةٍ مِنْهَا، وَتَغْرُبُ فِي كُوَّةٍ مِنْهَا،
لَا تَرْجِعُ إِلَى الْكُوَّةِ الَّتِي تَطْلُعُ مِنْهَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ
مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَهِيَ الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ، وَقِيلَ: كُلُّ
مَوْضِعٍ شَرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَشْرِقٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ غَرَبَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَغْرِبٌ، كَأَنَّهُ أَرَادَ رَبَّ جَمِيعِ مَا
أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ. { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }
قَرَأَ عَاصِمٌ، بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "بِزِينَةٍ" مُنَوَّنَةً (3)
"الْكَوَاكِبَ" نُصِبَ، أَيْ: بِتَزْيِينِنَا الْكَوَاكِبَ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "بِزِينَةٍ" مُنَوَّنَةً، "الْكَوَاكِبِ"
خَفْضًا عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: بِزِينَةٍ بِالْكَوَاكِبِ، أَيْ: زَيَّنَّاهَا
بِالْكَوَاكِبِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ"، بِلَا
تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 351.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) زيادة من "ب".
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
{
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ
مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) }
{ وَحِفْظًا } أَيْ: وحفظناها حفظا 94/ب { مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ }
مُتَمَرِّدٍ يُرْمَوْنَ بِهَا. { لَا يَسَّمَّعُونَ } قَرَأَ حَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: "يَسَّمَّعُونَ" بِتَشْدِيدِ السِّينِ
وَالْمِيمِ، أَيْ: لَا يَتَسَمَّعُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بسكون السين خفيف الْمِيمِ، { إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى }
أَيْ: إِلَى الْكَتَبَةِ من الملائكة.
و"الملأ الْأَعْلَى" هُمُ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمْ فِي السَّمَاءِ،
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الْمَلَأِ
الْأَعْلَى، { وَيُقْذَفُونَ } يُرْمَوْنَ، { مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } مِنْ آفَاقِ
السَّمَاءِ بِالشُّهُبِ. { دُحُورًا } يُبْعِدُونَهُمْ عَنْ مَجَالِسِ
الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ: دَحَرَهُ دَحْرًا وَدُحُورًا، إِذَا طَرَدَهُ
وَأَبْعَدَهُ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ }
دَائِمٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: دَائِمٌ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُمْ
يُحْرَقُونَ وَيَتَخَبَّلُونَ. { إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } اخْتَلَسَ
الْكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مُسَارَقَةً، { فَأَتْبَعَهُ } لَحِقَهُ،
{ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }
كَوْكَبٌ مُضِيءٌ قَوِيٌّ لَا يُخْطِئُهُ يَقْتُلُهُ، أَوْ يَحْرِقُهُ أَوْ
يُخْبِلُهُ، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ إِلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مَعَ عِلْمِهِمْ
بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ طَمَعًا فِي السَّلَامَةِ وَنَيْلِ
الْمُرَادِ، كَرَاكِبِ الْبَحْرِ، قَالَ عَطَاءٌ: سُمِّيَ النَّجْمُ الَّذِي
يُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ ثَاقِبًا لِأَنَّهُ يَثْقُبُهُمْ .
{ فَاسْتَفْتِهِمْ } أَيْ: سَلْهُمْ، يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { أَهُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } يعني: من السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ،
وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، أَيْ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَشَدُّ
خَلْقًا كَمَا قال: "لخلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ"( غَافِرٍ -57 ) وَقَالَ: "أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ
السَّمَاءُ بَنَاهَا"( النَّازِعَاتِ -27 ) .
وَقِيلَ: "أَمْ مَنْ خَلَقْنَا" يَعْنِي: مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ،
لِأَنَّ "مَنْ" يُذْكَرُ فِيمَنْ يَعْقِلُ، يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ
لَيْسُوا بِأَحْكَمَ خَلْقًا مَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَقَدْ
أَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُ هَؤُلَاءِ مِنَ
الْعَذَابِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ، فَقَالَ:
{ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } يَعْنِي: جِيدٌ حُرٌّ لَاصِقٌ
يَعْلَقُ بِالْيَدِ، وَمَعْنَاهُ اللَّازِمُ، أُبْدِلَ الْمِيمُ بَاءً كَأَنَّهُ
يَلْزَمُ الْيَدَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مُنْتِنٌ.
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
{
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا
رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
(15) }
{ بَلْ عَجِبْتَ } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ لَيْسَ كَالتَّعَجُّبِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، كَمَا قَالَ:
"فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ"( التَّوْبَةِ -79 ) ،
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ"( التَّوْبَةِ -67
) ، فَالْعَجَبُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ: إِنْكَارُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَالْعَجَبُ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالذَّمِّ، وَقَدْ
يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ وَالرِّضَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ" (1) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ سُؤَالِكُمْ وَقُنُوطِكُمْ
وَسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ إِيَّاكُمْ" (2)
وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ
مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَافَقَ رَسُولَهُ لَمَّا عَجِبَ رَسُولُهُ
فَقَالَ: "وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ"( الرَّعْدِ -5 ) أَيْ:
هُوَ كَمَا تَقُولُهُ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ: عَجِبْتَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، { وَيَسْخَرُونَ
} مِنْ تَعَجُّبِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا
الْقُرْآنِ حِينَ أُنْزِلَ وَضَلَالِ بَنِي آدَمَ (3) ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ
الْقُرْآنَ يُؤْمِنُ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ الْقُرْآنَ سَخِرُوا
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ".
{ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ } أَيْ: إِذَا وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ لَا
يَتَّعِظُونَ.
{ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي انْشِقَاقَ
الْقَمَرِ { يَسْتَسْخِرُونَ } يَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِءُونَ، وَقِيلَ:
يَسْتَدْعِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ السُّخْرِيَةَ .
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } [يَعْنِي سِحْرٌ بَيِّنٌ] (4) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 4 / 151، قال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب من
الخبيث ص (51): "رواه القضاعي في مسنده من حديث ابن لهيعة بسنده عن عقبة بن
عامر مرفوعا، وكذا هو عند أحمد وأبي يعلى، وإسناده حسن، وضعفه ابن حجر لأجل ابن
لهيعة".
(2) في المطبوع: "عجب ربكم من ألكم..." رواه أبو عبيد في الغريب عن محمد
بن عمر يرفعه، ثم قال: "الأل": رفع الصوت بالدعاء، وقال: بعضهم يرويه
الأول، وهو الشدة. انظر: الكافي الشاف: ص(141).
(3) انظر: الطبري 23 / 44، الدر المنثور: 7 / 83، تفسير ابن كثير: 4 / 5.
(4) زيادة من "ب".
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
{
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا
وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا
كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ
الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) }
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }
{ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } أَيْ: وَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
{ قُلْ نَعَمْ } تُبْعَثُونَ، { وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } صَاغِرُونَ، وَالدُّخُورُ
أَشَدُّ الصَّغَارِ.
{ فَإِنَّمَا هِيَ } أَيْ: قِصَّةُ الْبَعْثِ أَوِ الْقِيَامَةِ، { زَجْرَةٌ }
أَيْ: صَيْحَةٌ، { وَاحِدَةٌ } يَعْنِي: نَفْخَةُ الْبَعْثِ، { فَإِذَا هُمْ
يَنْظُرُونَ } أحياء.
{ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } أَيْ: يَوْمُ الْحِسَابِ
وَيَوْمُ الْجَزَاءِ.
{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } يَوْمُ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ
الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، { الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }.
{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أَيْ: أَشْرَكُوا، اجْمَعُوهُمْ إِلَى
الْمَوْقِفِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، { وَأَزْوَاجَهُمْ } أَشْبَاهَهُمْ
وَأَتْبَاعَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ.
قَالَ قَتَادَةُ والكلبي: كل من عَمَلٍ مِثْلِ عَمَلِهِمْ، فَأَهْلُ الْخَمْرِ
مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ، وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: قُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كُلُّ
كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَزْوَاجُهُمُ
الْمُشْرِكَاتُ.
{ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي:
الْأَوْثَانَ وَالطَّوَاغِيتَ. وَقَالَ: مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِبْلِيسَ
وَجُنُودَهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: "أَنْ لَا تَعْبُدُوا
الشَّيْطَانَ"( يس -60 ) .
{ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دُلُّوهُمْ
إِلَى طَرِيقِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: قَدِّمُوهُمْ. وَالْعَرَبُ
تُسَمِّي السَّابِقَ هَادِيًا.
{ وَقِفُوهُمْ } احْبِسُوهُمْ، يُقَالُ: وَقَفْتُهُ وَقْفًا فَوَقَفَ وُقُوفًا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا سِيقُوا إِلَى النَّارِ حُبِسُوا عِنْدَ الصِّرَاطِ
لِأَنَّ السُّؤَالَ عِنْدَ الصِّرَاطِ، فَقِيلَ:
وَقِفُوهُمْ
{ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ جَمِيعِ أَقْوَالِهِمْ
وَأَفْعَالِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي الْخَبَرِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا
ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَنْ
شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ
مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ
بِهِ" (1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص: 7 / 101 وقال:
"هذا حديث حسن صحيح" وأقره المنذري في الترغيب والترهيب، وعزاه الهيثمي
في مجمع الزوائد: 10 / 346 للطبراني والبزار بنحوه ثم قال: "ورجال الطبراني
رجال الصحيح غير صامت بن معاذ وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان".
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
{
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ (29) }
{ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ } أَيْ: لَا تَتَنَاصَرُونَ، يُقَالُ لَهُمْ
تَوْبِيخًا: مَا لَكَمَ لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ
النَّارِ، هَذَا جَوَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ حِينَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "نَحْنُ
جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ"( الْقَمَرِ -44 ).
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: خَاضِعُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُنْقَادُونَ، يُقَالُ: اسْتَسْلَمَ
لِلشَّيْءِ إِذَا انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: هُمُ الْيَوْمَ
أَذِلَّاءُ مُنْقَادُونَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أَيِ: الرُّؤَسَاءُ وَالْأَتْبَاعُ {
يَتَسَاءَلُونَ } يَتَخَاصَمُونَ.
{ قَالُوا } أَيِ: الْأَتْبَاعُ لِلرُّؤَسَاءِ، { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا
عَنِ الْيَمِينِ } أَيْ: مِنْ قِبَلِ الدِّينِ فَتُضِلُّونَنَا عَنْهُ
[وَتُرُونَنَا أَنَّ الدِّينَ مَا تُضِلُّونَنَا بِهِ] (1) قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنِ الصِّرَاطِ الْحَقِّ، وَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عَنِ
الدِّينِ وَالْحَقِّ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ:
"ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ"( الْأَعْرَافِ -17 ) فَمَنْ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِ
الْيَمِينِ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الدِّينِ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ الْحَقَّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كان الرؤساء 95/أ يَحْلِفُونَ لَهُمْ أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ
إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: "تَأْتُونَنَا عَنِ
الْيَمِينِ" أَيْ: مِنْ نَاحِيَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي كُنْتُمْ
تَحْلِفُونَهَا فَوَثِقْنَا بِهَا.
وَقِيلَ: "عَنِ الْيَمِينِ" أَيْ: عَنِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ،
كَقَوْلِهِ: "لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ"( الْحَاقَّةِ -45 ) ،
وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
{ قَالُوا } يَعْنِي: الرُّؤَسَاءَ (2) لِلْأَتْبَاعِ، { بَلْ لَمْ تَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ } لَمْ تَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ فَنُضِلَّكُمْ عَنْهُ، أَيْ:
إِنَّمَا الْكُفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ.
__________
(1) في "ب": (وتردوننا إلى الذي تضلوننا به).
(2) في "ب" الرسل.
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
{
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ
إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
(33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ
لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا
لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا
تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) }
{ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } مِنْ قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ
فَنَقْهَرَكُمْ عَلَى مُتَابَعَتِنَا، { بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ } ضَالِّينَ.
{ فَحَقَّ } وَجَبَ، { عَلَيْنَا } جَمِيعًا، { قَوْلُ رَبِّنَا } يَعْنِي:
كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"( السَّجْدَةِ -13 ) { إِنَّا
لَذَائِقُونَ } الْعَذَابَ، أَيْ: أَنَّ الضَّالَّ وَالْمُضِلَّ جَمِيعًا فِي
النَّارِ.
{ فَأَغْوَيْنَاكُمْ } فَأَضْلَلْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى وَدَعَوْنَاكُمْ إِلَى مَا
كُنَّا عَلَيْهِ { إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } ضَالِّينَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } الرُّؤَسَاءُ
وَالْأَتْبَاعُ.
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ.
{ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
يَسْتَكْبِرُونَ } يَتَكَبَّرُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَيَمْتَنِعُونَ
مِنْهَا. { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ }
يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَيْهِمْ: { بَلْ جَاءَ } مُحَمَّدٌ، {
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } أَيْ: أَنَّهُ أَتَى بِمَا أَتَى بِهِ
الْمُرْسَلُونَ قَبْلَهُ.
{ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ.
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } الْمُوَحِّدِينَ.
{ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ } يَعْنِي: بُكْرَةً وَعَشِيًّا [كَمَا قَالَ:
"وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا"( مَرْيَمَ -62 ) ]
(1) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ
(47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
(49) }
{ فَوَاكِهُ } جَمْعُ الْفَاكِهَةِ، وَهِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطْبُهَا
وَيَابِسُهَا، وَهِيَ كُلُّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلْقُوتِ، {
وَهُمْ مُكْرَمُونَ } بِثَوَابِ اللَّهِ.
{ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } لَا يَرَى بَعْضُهُمْ
قَفَا بَعْضٍ.
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ } إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ وَلَا يَكُونُ كَأْسًا
حَتَّى يَكُونَ فِيهِ شَرَابٌ، وَإِلَّا فَهُوَ إِنَاءٌ، { مِنْ مَعِينٍ } خَمْرٍ
جَارِيَةٍ فِي الْأَنْهَارِ ظَاهِرَةٍ تَرَاهَا الْعُيُونُ.
{ بَيْضَاءَ } قَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ
اللَّبَنِ، { لَذَّةٍ } أَيْ: لَذِيذَةٍ، { لِلشَّارِبِينَ } .
{ لَا فِيهَا غَوْلٌ } قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ فَتَذْهَبَ
بِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِثْمٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَجِعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: صُدَاعٌ.
وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: "الْغَوْلُ" فَسَادٌ يَلْحَقُ فِي خَفَاءٍ،
يُقَالُ: اغْتَالَهُ اغْتِيَالًا إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِي خُفْيَةٍ،
وَخَمْرَةُ الدُّنْيَا يَحْصُلُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَسَادِ مِنْهَا
السُّكْرُ وَذَهَابُ الْعَقْلِ، وَوَجَعُ الْبَطْنِ، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ،
وَالْبَوْلُ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ.
{ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"يُنْزِفُونَ" بِكَسْرِ الزَّايِ، وَافَقَهُمَا عَاصِمٌ فِي
الْوَاقِعَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ فِيهِمَا، فَمَنْ فَتَحَ
الزَّايَ فَمَعْنَاهُ: لَا يَغْلِبُهُمْ عَلَى عُقُولِهِمْ وَلَا يَسْكَرُونَ
يُقَالُ: نَزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ، إِذَا سَكِرَ، وَمَنْ
كَسَرَ الزَّايَ فَمَعْنَاهُ: لَا يَنْفَدُ شَرَابُهُمْ، يُقَالُ: أَنْزَفَ
الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ، إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ.
{ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } حَابِسَاتُ الْأَعْيُنِ غَاضَّاتُ
الْجُفُونِ، قَصَرْنَ أَعْيُنَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى
غَيْرِهِمْ، { عِينٌ } أَيْ: حَسَّانُ الْأَعْيُنِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْيَنُ
وَامْرَأَةٌ عَيْنَاءُ وَنِسَاءٌ عِينٌ.
{ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ } [جَمْعُ الْبَيْضَةِ] (1) { مَكْنُونٌ } مَصُونٌ
مَسْتُورٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ "المكنون والبيض" جمع لِأَنَّهُ رَدَّهُ
إِلَى اللَّفْظِ.
قَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَهُنَّ بِبَيْضِ النَّعَامَةِ تُكِنُّهَا بِالرِّيشِ مِنَ
الرِّيحِ وَالْغُبَارِ، فَلَوْنُهَا أَبْيَضُ فِي صُفْرَةٍ. وَيُقَالُ: هَذَا
أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بَيْضَاءَ مُشْرَبَةً
صُفْرَةً، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُهَا بِبَيْضَةِ النَّعَامَةِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) }
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
{
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (59) }
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } يَعْنِي: أَهْلُ
الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ حَالِهِ فِي
الدُّنْيَا.
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: { إِنِّي كَانَ لِي
قَرِينٌ } فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُ الْبَعْثَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ شَيْطَانًا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ مِنَ الْإِنْسِ
(1) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَا أَخَوَيْنِ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: كَانَا
شَرِيكَيْنِ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ قَطْرُوسُ، وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ
يَهُوذَا، وَهُمَا اللَّذَانِ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَهُمَا فِي سُورَةِ
الْكَهْفِ (2) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا
رَجُلَيْنِ"( الْكَهْفِ -32 ) .
{ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } بِالْبَعْثِ.
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ }
مَجْزِيُّونَ وَمُحَاسَبُونَ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.
{ قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: { هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ }
إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ: يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لِإِخْوَانِهِ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّارِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ
مَنْزِلَةُ أَخِي، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: أَنْتَ أَعْرَفُ بِهِ مِنَّا.
{ فَاطَّلَعَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ كُوًى يَنْظُرُ
أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّارِ (3) فَاطَّلَعَ هَذَا الْمُؤْمِنُ، { فَرَآهُ
فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } فَرَأَى قَرِينَهُ فِي وَسَطِ النَّارِ، وَإِنَّمَا
سُمِّيَ وَسَطُ الشَّيْءِ سَوَاءً لِاسْتِوَاءِ الْجَوَانِبِ مِنْهُ.
{ قَالَ } لَهُ: { تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ } وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ
أَنْ تُهْلِكَنِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تُغْوِيَنِي،
وَمَنْ أَغْوَى إِنْسَانًا فَقَدْ أَهْلَكَهُ.
{ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي } رَحْمَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيَّ بِالْإِسْلَامِ،
{ لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } مَعَكَ فِي النَّارِ.
{ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى } فِي الدُّنْيَا {
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } قَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ هَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ
لِلْمَلَائِكَةِ حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟
فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: لَا.
__________
(1) انظر: الطبري 23 / 58.
(2) انظر فيما سبق: تعليقة: (4): 5 / 170 .
(3) انظر: الدر المنثور: 7 / 94، تفسير ابن كثير: 4 / 9 والقول فيهما منسوب إلى
كعب الأحبار.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
{
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ
الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي
أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) }
فَيَقُولُونَ { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وَقِيلَ: إِنَّمَا
يَقُولُونَهُ عَلَى جِهَةِ الْحَدِيثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي
أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ. وَقِيلَ: يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُ لِقَرِينِهِ
عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ بِمَا كَانَ يُنْكِرُهُ (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } أَيْ:
لِمِثْلِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَلِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ
قَوْلِهِ: "أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ" إِلَى
"فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ".
{ أَذَلِكَ } أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، { خَيْرٌ نُزُلًا
أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } الَّتِي هِيَ نُزُلُ أَهْلِ النَّارِ، وَالزَّقُّومُ:
ثَمَرَةُ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ مُرَّةٍ كَرِيهَةِ الطَّعْمِ، يُكْرَهُ أَهْلُ
النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِهَا، فَهُمْ يَتَزَقَّمُونَهُ عَلَى أَشَدِّ كَرَاهِيَةٍ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَزَقَّمَ الطَّعَامَ إِذَا تَنَاوَلَهُ عَلَى كُرْهٍ
وَمَشَقَّةٍ.
{ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ شَجَرَةٌ وَالنَّارُ تَحْرِقُ الشَّجَرَ؟
وَقَالَ ابْنُ الزَّبَعْرَى لِصَنَادِيدَ قُرَيْشٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُخَوِّفُنَا
بِالزَّقُّومِ، وَالزَّقُّومُ بلسان بربر: 95/ب الزُّبْدُ وَالتَّمْرُ،
فَأَدْخَلَهُمْ أَبُو جَهْلٍ بَيْتَهُ وَقَالَ: يَا جَارِيَةُ زَقِّمِينَا،
فَأَتَتْهُمْ بِالزُّبْدِ وَالتَّمْرِ، فَقَالَ: تَزَقَّمُوا فَهَذَا مَا
يُوعِدُكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ (2) .
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ }
قَعْرِ النَّارِ، قَالَ الْحَسَنُ: أَصْلُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَأَغْصَانُهَا
تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا.
{ طَلْعُهَا } ثَمَرُهَا سُمِّيَ طَلْعًا لطلوعه، { كَأَنَّهُ رُؤوسُ
الشَّيَاطِينِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمُ
الشَّيَاطِينُ بِأَعْيَانِهِمْ شُبِّهَ بِهَا لِقُبْحِهَا، لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا
وَصَفُوا شَيْئًا بِغَايَةِ الْقُبْحِ قَالُوا: كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَإِنْ
كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا تُرَى لِأَنَّ قُبْحَ صُورَتِهَا مُتَصَوَّرٌ فِي
النَّفْسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقُرَظِيِّ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي
الْحَيَّةَ الْقَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ شَيْطَانًا.
وَقِيلَ: هِيَ شَجَرَةٌ قَبِيحَةٌ مُرَّةٌ مُنْتِنَةٌ تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ،
تسميها العرب رؤوس الشَّيَاطِينِ.
{ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } وَالْمَلْءُ:
حَشْوُ الْوِعَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
__________
(1) ذكر هذا القول صاحب البحر المحيط: 7 / 362.
(2) انظر: الطبري: 33 / 63.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) }
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
{
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) }
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا } خَلْطًا وَمِزَاجًا { مِنْ حَمِيمٍ }
مِنْ مَاءٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرَارَةِ، يُقَالُ: لَهُمْ إِذَا أَكَلُوا
الزَّقُّومَ: اشْرَبُوا عَلَيْهِ الْحَمِيمَ، فَيَشُوبُ الْحَمِيمُ فِي بُطُونِهِمِ
الزَّقُّومَ فَيَصِيرُ شَوْبًا لَهُمْ.
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ } بَعْدَ شُرْبِ الْحَمِيمِ، [ { لَإِلَى الْجَحِيمِ }
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيمَ] (1) لِشُرْبِهِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ
الْحَمِيمِ كَمَا تُورَدُ الْإِبِلُ الْمَاءَ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيمِ،
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ"( الرَّحْمَنِ -44 ) وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ:( ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ
لَإِلَى الْجَحِيمِ ) .
{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا } وَجَدُوا، { آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } . { فَهُمْ عَلَى
آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } يُسْرِعُونَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْمَلُونَ مِثْلَ
أَعْمَالِهِمْ.
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ } مِنَ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ } الْكَافِرِينَ أَيْ: كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْعَذَابَ.
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } الْمُوَحِّدِينَ نَجَوْا مِنَ
الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } دَعَا رَبَّهُ عَلَى
قَوْمِهِ فَقَالَ: "إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ"( الْقَمَرِ -10 ) {
فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } نَحْنُ، يَعْنِي: أَجَبْنَا دُعَاءَهُ وَأَهْلَكْنَا
قَوْمَهُ.
{ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الْغَمِّ الْعَظِيمِ]
(2) الَّذِي لَحِقَ قَوْمَهُ وَهُوَ الْغَرَقُ.
{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } وَأَرَادَ أَنَّ النَّاسَ
كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ.
رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ
السَّفِينَةِ مَاتَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا
وَلَدَهُ وَنِسَاءَهُمْ (3) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) في "ب" ونساءه.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
قَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ وَلَدُ نوح ثلاثة: سام وحام وَيَافِثَ، فَسَامٌ
أَبُو الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو
التَّرْكِ وَالْخَزَرِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَا هُنَالِكَ (1) .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي
الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ
اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ
نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) }
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أَيْ: أَبْقَيْنَا لَهُ ثَنَاءً حَسَنًا
وَذِكْرًا جَمِيلًا فِيمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [أَيْ: سَلَامٌ عَلَيْهِ مِنَّا فِي
الْعَالَمِينَ] (2) وَقِيلَ: أَيُّ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخَرِينَ أَنْ
يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: جَزَاهُ اللَّهُ
بِإِحْسَانِهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي الْعَالَمِينَ. { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } [يَعْنِي الْكُفَّارَ] (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ } [أَيْ: أَهْلِ دِينِهِ وَسُنَّتِهِ]
(4) . { لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } مُخْلَصٍ مِنَ
الشِّرْكِ وَالشَّكِّ.
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ.
{ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } يَعْنِي: أَتَأْفِكُونَ إِفْكًا
وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً سِوَى اللَّهِ.
{ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } -إِذْ لَقَيْتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ
غَيْرَهُ -أَنَّهُ يَصْنَعُ بِكُمْ.
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمُهُ يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ فَعَامَلَهُمْ مِنْ
حَيْثُ كَانُوا لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ
يُكَايِدَهُمْ فِي أَصْنَامِهِمْ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ فِي أَنَّهَا غَيْرُ
مَعْبُودَةٍ، وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْغَدِ عِيدٌ وَمَجْمَعٌ، وَكَانُوا
يَدْخُلُونَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ [وَيُقَرِّبُونَ لَهُمُ الْقَرَابِينَ] (5) ،
وَيَصْنَعُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الطَّعَامَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى عِيدِهِمْ
-زَعَمُوا -لِلتَّبَرُّكِ عَلَيْهِ فَإِذَا
__________
(1) ذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 13.
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".
(4) ساقط من "أ".
(5) في "ب" (ويفرشون لهم الفراش).
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
انْصَرَفُوا
مِنْ عِيدِهِمْ أَكَلُوهُ، فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: أَلَا تَخْرُجُ غَدًا
مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا؟ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَطْعُونٌ، وَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الطَّاعُونِ فِرَارًا
عَظِيمًا. قَالَ الْحَسَنُ: مَرِيضٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَجِعٌ. وَقَالَ
الضَّحَاكُ: سَأَسْقَمُ.
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا
تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا
بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا
لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) }
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } إِلَى عِيدِهِمْ، فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَى الْأَصْنَامِ فَكَسَرَهَا. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَرَاغَ إِلَى
آلِهَتِهِمْ } مَالَ إِلَيْهَا مَيْلَةً فِي خُفْيَةٍ، وَلَا يُقَالُ:
"رَاغَ" حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُهُ مُخْفِيًا لِذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، {
فَقَالَ } اسْتِهْزَاءً بِهَا: { أَلَا تَأْكُلُونَ } يَعْنِي: الطَّعَامَ الَّذِي
بَيْنَ أَيْدِيكُمْ.
{ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ } مَالَ عَلَيْهِمْ، { ضَرْبًا
بِالْيَمِينِ } أَيْ: كَانَ يَضْرِبُهُمْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى لِأَنَّهَا أَقْوَى
عَلَى الْعَمَلِ مِنَ الشِّمَالِ. وَقِيلَ: بِالْيَمِينِ أَيْ: بِالْقُوَّةِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْقَسَمَ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:
"وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ"( الْأَنْبِيَاءِ-57 ).
{ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ } يَعْنِي: إِلَى إِبْرَاهِيمَ { يَزِفُّونَ }
يُسْرِعُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِصَنِيعِ إِبْرَاهِيمَ بِآلِهَتِهِمْ
فَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ.
قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ: "يُزِفُّونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ:
يَحْمِلُونَ دَوَابَّهُمْ عَلَى الْجِدِّ وَالْإِسْرَاعِ.
{ قَالَ } لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِ الْحِجَاجِ: { أَتَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ } يَعْنِي: مَا تَنْحِتُونَ بِأَيْدِيكُمْ.
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } بِأَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ،
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } مُعْظَمِ
النَّارِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: بَنَوْا لَهُ حَائِطًا مِنَ الْحَجَرِ طُولُهُ فِي
السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ عشرون ذراعًا، وملؤوه مِنَ الْحَطَبِ
وَأَوْقَدُوا فِيهِ النَّارَ وَطَرَحُوهُ فِيهَا.
{ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا } شَرًّا وَهُوَ أَنْ يَحْرُقُوهُ، { فَجَعَلْنَاهُمُ
الْأَسْفَلِينَ } أَيْ: الْمَقْهُورِينَ حَيْثُ سَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
إِبْرَاهِيمَ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ.
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
{
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) }
{ وَقَالَ } يَعْنِي: إِبْرَاهِيمُ { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } أَيْ:
مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي، وَالْمَعْنَى: أَهْجُرُ دَارَ الْكُفْرِ وَأَذْهَبُ إِلَى
مَرْضَاةِ رَبِّي، قَالَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ:
"إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي"( الْعَنْكَبُوتِ -26 )، { سَيَهْدِينِ
} إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشَّامُ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا قَدِمَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ سَأَلَ رَبَّهُ
الْوَلَدَ فَقَالَ: { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } يَعْنِي: هَبْ لِي
وَلَدًا صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ.
{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } قِيلَ: غُلَامٌ فِي صِغَرِهِ، حَلِيمٌ فِي
كِبَرِهِ، فَفِيهِ بِشَارَةٌ أَنَّهُ ابْنٌ وَأَنَّهُ يَعِيشُ فَيَنْتَهِي فِي
السِّنِّ حَتَّى يُوصَفَ بِالْحِلْمِ.
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } قال 96/أ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ:
يَعْنِي الْمَشْيَ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: لَمَّا شَبَّ حَتَّى بَلَغَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيمَ (1)
وَالْمَعْنَى: بَلَغَ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ وَيُعِينَهُ فِي عَمَلِهِ. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُوَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ
تَعَالَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّهِ، قِيلَ: كَانَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ:
كَانَ ابْنَ سَبْعِ سنين.
{ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ
إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ عَلَى أَنَّهُ
إِسْحَاقُ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ إِسْحَاقُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنَ الصَّحَابَةِ:
عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِيْنَ
وَأَتْبَاعِهِمْ: كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ،
وَمَسْرُوقٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالزُّهْرِيُّ،
وَالسُّدِّيُّ، وَهِيَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَقَالُوا: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِالشَّامِ] (2) .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ
فِي الْمَنَامِ (3) ، فَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى
أَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ بِمِنًى، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ
الْكَبْشِ، ذَبَحَهُ وَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي رَوْحَةٍ وَاحِدَةٍ
وَطُوِيَتْ لَهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْجِبَالُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، وَالْكَلْبِيِّ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ،
وَيُوسُفَ بْنِ مَاهِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمُفَدَى إِسْمَاعِيلُ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ احْتَجَّ مِنَ
الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ"( الصَّافَّاتِ-101 ) أَمَرَهُ بِذَبْحِ مَنْ بَشَّرَهَ
بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ سِوَى إِسْحَاقَ، كَمَا
قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: "فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ"( هُودِ-71 ) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 77.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) انظر فيما سبق: 4 / 215 تعليق (1).
وَمَنْ
ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ احْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ فَقَالَ:
"وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ"(
الصَّافَّاتِ-112 ) دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ غَيْرُهُ، وَأَيْضًا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: "فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ
وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ"( هُودٍ-71 ) فَكَمَا بَشَّرَهُ بِإِسْحَاقَ
بَشَّرَهُ بِابْنِهِ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ وَقَدْ
وَعَدَهُ بِنَافِلَةٍ مِنْهُ.
قَالَ الْقُرَظِيُّ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَجُلًا كَانَ مِنْ
عُلَمَاءِ الْيَهُودِ أَسْلَمَ وَحُسُنَ إِسْلَامُهُ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ
أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْيَهُودَ لَتَعْلَمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ
مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبَاكُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ: أَنَّ قَرْنَيِ الْكَبْشِ كَانَا مَنُوطَيْنِ
بِالْكَعْبَةِ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِلَى أَنِ احْتَرَقَ الْبَيْتُ
وَاحْتَرَقَ الْقَرْنَانِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَجَّاجِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ مَنُوطَيْنِ بِالْكَعْبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلُ
الْإِسْلَامِ وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ فِي مِيزَابِ
الْكَعْبَةِ، قَدْ وَحِشَ، يَعْنِي يَبِسَ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلَتْ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ
إِسْحَاقَ كَانَ أَوْ إِسْمَاعِيلَ؟ فَقَالَ: يَا صُمَيْعُ أَيْنَ ذَهَبَ عَقْلُكَ
مَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ إِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ، وَهُوَ
الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ.
وَأُمًّا قِصَّةُ الذَّبْحِ قَالَ الْسُّدِّيُّ: لَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيمُ
فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبُشِّرَ بِهِ، قَالَ: هُوَ إذًا
لِلَّهِ ذَبِيحٌ، فَلَمَّا وُلِدَ وَبَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قِيلَ لَهُ: أَوْفِ
بِنَذْرِكَ، هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَبْحِ
ابْنِهِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ، لِإِسْحَاقَ: انْطَلِقْ فَقَرِّبْ قُرْبَانًا
لِلَّهِ تَعَالَى فَأَخَذَ سِكِّينًا وَحَبْلًا وَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى ذَهَبَ
بِهِ بَيْنَ الْجِبَالِ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: يَا أَبَتِ أَيْنَ قربانك؟
فقال: "يا بني إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ
مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ".
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا زَارَ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ
حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ فَيَغْدُو مِنَ الشَّامِ فَيَقِيلُ بِمَكَّةَ، وَيَرُوحُ
مِنْ مَكَّةَ فَيَبِيتُ عِنْدَ أَهْلِهِ بِالشَّامِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ
إِسْمَاعِيلُ مَعَهُ السَّعْيَ، وَأَخَذَ بِنَفْسِهِ وَرَجَاهُ لِمَا كَانَ
يَأْمُلُ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ، أُمِرَ فِي
الْمَنَامِ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ
كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا،
فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوِيَ فِي نَفْسِهِ أَيْ: فَكَّرَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى
الرَّوَاحِ، أَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْحُلْمُ أَمْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَمِنْ ثَمَّ
سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَمَّا أَمْسَى رَأَى فِي الْمَنَامِ ثَانِيًا،
فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنْ ثَمَّ
سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ،
فَلَمَّا تَيَقَّنَ ذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ ابنه، فقال: "يا بني إِنِّي أَرَى
فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى".
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "تُرَى" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ
الرَّاءِ -مَاذَا تُشِيرُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ عَلَى أَمْرِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَعَزِيمَتَهُ عَلَى طَاعَتِهِ.
وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ إِلَّا أَبَا عَمْرٍو
فَإِنَّهُ يُمِيلُ الرَّاءَ.
قَالَ لَهُ ابْنُهُ: { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ
خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ نَنْطَلِقْ إِلَى هَذَا الشَّعْبِ نَحْتَطِبُ،
فَلَمَّا خَلَا إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ فِي شِعْبِ ثَبِيرٍ أَخْبَرَهُ بِمَا
أُمِرَ، { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
مِنَ الصَّابِرِينَ } .
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
{
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) }
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا } انْقَادَا وَخَضَعَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ
قَتَادَةُ: أَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ وَأَسْلَمَ الِابْنُ نَفْسَهُ، {
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أَيْ: صَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَضْجَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجَبْهَةُ بَيْنَ الْجَبِينَيْنِ،
قَالُوا: فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الَّذِي أَرَادَ ذَبْحَهُ: يَا أَبَتِ اشْدُدْ
رِبَاطِي حَتَّى لَا أضْطَرِبُ، وَاكْفُفْ عَنِّي ثِيَابَكَ حَتَّى لَا يَنْتَضِحَ
عَلَيْهَا مَنْ دَمِيَ شَيْءٌ فَيَنْقُصُ أَجْرِي وَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنُ،
وَاشْحَذْ شَفْرَتَكَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ
أَهْوَنَ عَلَيَّ فَإِنَّ الْمَوْتَ شَدِيدٌ، وَإِذَا أَتَيْتَ أُمِّي فَاقْرَأْ
عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنِّي، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّ قَمِيصِي عَلَى أُمِّي
فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَسْلَى لَهَا عَنِّي، فَقَالَ لَهُ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى
أَمْرِ اللَّهِ، فَفَعَلَ إِبْرَاهِيمُ مَا أَمَرَ بِهِ ابْنُهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَقَدْ رَبَطَهُ وهو يبكي 96/ب [وَالِابْنُ أَيْضًا يَبْكِي]
(1) ثُمَّ إِنَّهُ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَحُكَّ السِّكِّينُ.
__________
(1) زيادة من"ب".
وَيُرْوَى
أَنَّهُ كَانَ يَجُرُّ الشَّفْرَةَ فِي حَلْقِهِ فَلَا تَقْطَعُ، فَشَحَذَهَا
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً بِالْحَجَرِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ.
قَالَ الْسُّدِّيُّ: ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى صَفْحَةً مِنْ نُحَاسٍ عَلَى حَلْقِهِ
(1) قَالُوا: فَقَالَ الِابْنُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا أَبَتِ كُبَّنِي لِوَجْهِي
عَلَى جَبِينِي فَإِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي وَجْهِي رَحِمْتَنِي وَأَدْرَكَتْكَ
رِقَّةٌ تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنِّي لَا
أَنْظُرُ إِلَى الشَّفْرَةِ فَأَجْزَعُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ
وَضَعَ الشَّفْرَةَ عَلَى قَفَاهُ فَانْقَلَبَتِ السِّكِّينُ وَنُودِيَ: أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ
رِجَالِهِ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ ابْنِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ:
لَئِنْ لَمْ أَفْتِنْ عِنْدَ هَذَا آلَ إِبْرَاهِيمَ لَا أَفْتِنُ مِنْهُمْ
أَحَدًا أَبَدًا، فَتَمَثَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ رَجُلًا وَأَتَى أَمَّ
الْغُلَامِ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ تَدْرِينَ أَيْنَ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ؟
قَالَتْ: ذَهَبَ بِهِ يَحْتَطِبَانِ مِنْ هَذَا الشِّعْبِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ
مَا ذَهَبَ بِهِ إِلَّا لِيَذْبَحَهُ، قَالَتْ: كَلَّا هُوَ أَرْحَمُ بِهِ
وَأَشَدُّ حُبًّا لَهُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ
بِذَلِكَ، قَالَتْ: فَإِنْ كَانَ رَبُّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ أَنْ
يُطِيعَ رَبَّهُ، فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ عِنْدِهَا حَتَّى أَدْرَكَ الِابْنَ
وَهُوَ يَمْشِي عَلَى إِثْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ هَلْ تَدْرِي
أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: نَحْتَطِبُ لِأَهْلِنَا مِنْ هَذَا
الشِّعْبِ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَذْبَحَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟
قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَلْيَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ
بِهِ رَبُّهُ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، فَلَمَّا امْتَنَعَ مِنْهُ الْغُلَامُ أَقْبَلَ
عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَيُّهَا
الشَّيْخُ؟ قَالَ: أُرِيدُ هَذَا الشِّعْبَ لِحَاجَةٍ لِي فِيهِ، قَالَ: والله إني
لا أرى الشَّيْطَانَ قَدْ جَاءَكَ فِي مَنَامِكَ فَأَمَرَكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ
هَذَا، فَعَرَفَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي
يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَوَاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِأَمْرِ رَبِّي، فَرَجَعَ
إِبْلِيسَ بِغَيْظِهِ لَمْ يُصِبْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ شَيْئًا مِمَّا
أَرَادَ، قَدِ امْتَنَعُوا مِنْهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى. (2)
وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ
بِذَبْحِ ابْنِهِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ بِهَذَا الْمَشْعَرِ فَسَابَقَهُ
فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَعَرَضَ لَهُ
الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ
عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ
أَدْرَكَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ،
ثُمَّ مَضَى إِبْرَاهِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (3) .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ"
__________
(1) انظر: الطبري: 23 / 78، الدر المنثور: 7 / 110.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 82، وانظر: الدر المنثور: 7 / 110-111، تفسير ابن كثير: 4
/ 16-17.
(3) أخرجه الطبري: 23 / 80.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
{
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
(106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) }
{ وَنَادَيْنَاهُ } الْوَاوُ فِي "وَنَادَيْنَاهُ" مُقْحَمَةٌ صِلَةٌ،
مَجَازُهُ: نَادَيْنَاهُ كَقَوْلِهِ: "وَأَجْمَعُوا أَنْ يجعلوه في غيابت
الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ"( يُوسُفِ-15 ) أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ،
فَنُودِيَ مِنَ الْجَبَلِ: { أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا }،
تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ } وَالْمَعْنَى: إِنَّا كَمَا عَفَوْنَا إِبْرَاهِيمَ عَنْ ذَبْحِ
وَلَدِهِ نَجْزِي مَنْ أَحْسَنَ فِي طَاعَتِنَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: جَزَاهُ اللَّهُ
بِإِحْسَانِهِ فِي طَاعَتِهِ الْعَفْوَ عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ.
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } الِاخْتِيَارُ الظَّاهِرُ حَيْثُ
اخْتَبَرَهُ بِذَبْحِ ابْنِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَلَاءُ هَاهُنَا:
النِّعْمَةُ، وَهِيَ أَنْ فُدِيَ ابْنُهُ بِالْكَبْشِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، وَكَانَ قَدْ رَأَى الذَّبْحَ
وَلَمْ يَذْبَحْ؟.
قِيلَ: جَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ،
وَالْمَطْلُوبُ إِسْلَامُهُمَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ فَعَلَا.
وَقِيلَ: [كَانَ قَدْ] (1) رَأَى في النوم معاجلة الذَّبْحِ وَلَمْ يَرَ إِرَاقَةَ
الدَّمِ، وَقَدْ فَعَلَ فِي الْيَقَظَةِ مَا رَأَى فِي النَّوْمِ، فَلِذَلِكَ
قَالَ لَهُ: "قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا".
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا هُوَ
بِجِبْرِيلَ وَمَعَهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ أَقْرَنُ، فَقَالَ: هَذَا فِدَاءٌ لِابْنِكَ
فَاذْبَحْهُ دُونَهُ، فَكَبَّرَ جِبْرِيلُ، وَكَبَّرَ الْكَبْشُ، وَكَبَّرَ
ابْنُهُ، فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ الْكَبْشَ فَأَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى
فَذَبَحَهُ.
قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ ذَلِكَ الْكَبْشُ رَعَى فِي الْجَنَّةِ
أَرْبَعِينَ خَرِيفًا (2) .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَبْشُ
الَّذِي ذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ هَابِيلُ (3) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَقَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا. قَالَ مُجَاهِدٌ:
سَمَّاهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ (4) . وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْفَضْلِ: لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَظِيمٌ فِي الشَّخْصِ.
وَقِيلَ: فِي الثَّوَابِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 23 / 87 عن ابن عباس وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 113
أيضا لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري: 23 / 86.
(4) أخرجه الطبري: 23 / 88.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
وَقَالَ
الْحَسَنُ: مَا فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الْأَرْوَى أُهْبِطَ
عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ (1) .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
(111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا
عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا
وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي
الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) }
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أَيْ: تَرَكَنَا لَهُ فِي الْآخَرِينَ
ثَنَاءً حَسَنًا.
{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ } فَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: بَشَّرَهُ بَعْدَ
هَذِهِ الْقِصَّةِ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا جَزَاءً لِطَاعَتِهِ، وَمَنْ جَعَلَ
الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ قَالَ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِنُبُوَّةِ إِسْحَاقَ. رَوَاهُ
عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: بُشِّرَ بِهِ مَرَّتَيْنِ حِينَ وُلِدَ
وَحِينَ نُبِّئَ.
{ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } يَعْنِي: عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي أَوْلَادِهِ، {
وَعَلَى إِسْحَاقَ } بِكَوْنِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَسْلِهِ، { وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } أَيْ: مُؤْمِنٌ، { وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أَيْ:
كَافِرٌ، { مُبِينٌ } ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } أَنْعَمْنَا
عَلَيْهِمَا بِالنُّبُوَّةِ.
{ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا } بَنِي إِسْرَائِيلَ، { مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ } أَيِ: الْغَمِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مِنِ
اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: مِنَ الْغَرَقِ.
{ وَنَصَرْنَاهُمْ } يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا، { فَكَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ } عَلَى الْقِبْطِ. { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ }
أَيْ: الْمُسْتَنِيرَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
{ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي
الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } .
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 87 وابن كثير في التفسير: 4 / 17.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
{
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } رُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَفِي
مُصْحَفِهِ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ابْنُ عَمِّ الْيَسَعَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ بِشْرِ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ
الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ.
وَقَالَ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَالْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ
الْأَخْبَارِ: لَمَّا قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِزْقِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَظَهَرَ فِيهِمُ الْفَسَادُ وَالشِّرْكُ، وَنَصَبُوا الْأَوْثَانَ وَعَبَدُوهَا
مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ
نَبِيًّا وكانت الأنبياء 97/أ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مُوسَى
بِتَجْدِيدِ مَا نَسُوا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا
مُتَفَرِّقِينَ فِي أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ يُوشَعَ بْنَ
نُونٍ لَمَّا فَتَحَ الشَّامَ بَوَّأَهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَسَّمَهَا
بَيْنَهُمْ، فَأَحَلَّ سِبْطًا مِنْهُمْ بِبَعْلَبَكَّ وَنَوَاحِيهَا، وَهُمُ
السِّبْطُ الَّذِينَ كَانَ مِنْهُمْ إِلْيَاسُ فَبَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى
إِلَيْهِمْ نَبِيًّا، وَعَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ: آجَبُ قَدْ
أَضَلَّ قَوْمَهُ وَأَجْبَرَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ يَعْبُدُ
هُوَ وَقَوْمُهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ: بَعْلٌ، وَكَانَ طُولُهُ عِشْرِينَ
ذِرَاعًا وَلَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ، فَجَعَلَ إِلْيَاسُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ
مِنْ أَمْرِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ صَدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ فَكَانَ إِلْيَاسُ
يُقَوِّمُ أَمْرَهُ وَيُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَكَانَ لِآجَبَ الْمَلِكِ هَذَا
امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: أَزْبِيلُ وَكَانَ يَسْتَخْلِفُهَا عَلَى رَعِيَّتِهِ
إِذَا غَابَ عَنْهُمْ فِي غَزَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَكَانَتْ تَبْرُزُ لِلنَّاسِ
وَتَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قَتَّالَةً لِلْأَنْبِيَاءِ، يُقَالُ: هِيَ
الَّتِي قَتَلَتْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَ لَهَا
كَاتِبٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ حَكِيمٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَكَانَ قَدْ خَلَّصَ من
يدها ثلثمائة نَبِيٍّ كَانَتْ تُرِيدُ قَتْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا بُعِثَ
سِوَى الَّذِينَ قَتَلَتْهُمْ، وَكَانَتْ فِي نَفْسِهَا غَيْرَ مُحْصَنَةٍ،
وَكَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ سَبْعَةً مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَتَلَتْ
كُلَّهُمْ بِالِاغْتِيَالِ وَكَانَتْ مُعَمِّرَةً يُقَالُ إِنَّهَا وَلَدَتْ
سَبْعِينَ وَلَدًا وَكَانَ لِآجَبَ هَذَا جَارٌ رَجُلٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ
مَزْدَكِيُّ، وَكَانَتْ لَهُ جُنَيْنَةٌ يَعِيشُ مِنْهَا، وَيُقْبِلُ عَلَى
عِمَارَتِهَا وَمَرَمَّتِهَا وَكَانَتِ الْجُنَيْنَةُ إِلَى جَانِبِ قَصْرِ
الْمَلِكِ وَامْرَأَتِهِ، وَكَانَا يُشْرِفَانِ عَلَى تِلْكَ الْجُنَيْنَةِ
يَتَنَزَّهَانِ فِيهَا وَيَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ وَيَقِيلَانِ فِيهَا، وَكَانَ
آجَبُ الْمَلِكُ يُحْسِنُ جِوَارَ صَاحِبِهَا مَزْدَكِيَّ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ،
وَامْرَأَتُهُ أَزْبِيلُ تَحْسُدُهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْجُنَيْنَةِ، وَتَحْتَالُ
أَنْ تَغْصِبَهَا مِنْهُ لِمَا تَسْمَعُ النَّاسَ يُكْثِرُونَ ذِكْرَهَا
وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِهَا، وَتَحْتَالُ أَنْ تَقْتُلَهُ وَالْمَلِكُ
يَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ وَلَا تَجِدُ عَلَيْهِ سَبِيلًا ثُمَّ إِنَّهُ اتَّفَقَ
خُرُوجُ الْمَلِكِ إِلَى سَفَرٍ بَعِيدٍ وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ فَاغْتَنَمَتِ
امْرَأَتُهُ أَزْبِيلُ ذَلِكَ فَجَمَعَتْ جَمْعًا مِنَ النَّاسِ
وَأَمَرَتْهُمْ
أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى مَزْدَكِيَّ أَنَّهُ سَبَّ زَوْجَهَا آجَبَ فَأَجَابُوهَا
إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي حُكْمِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْقَتْلُ عَلَى مَنْ
سَبَّ الْمَلِكَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَأَحْضَرَتْ مَزْدَكِيَّ
وَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شَتَمْتَ الْمَلِكَ فَأَنْكَرَ مَزْدَكِيُّ،
فَأَحْضَرَتِ الشُّهُودَ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزُّورِ، فَأَمَرَتْ بِقَتْلِهِ
وَأَخَذَتْ جُنَيْنَتَهُ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ،
فَلَمَّا قَدِمَ الْمَلِكُ مِنْ سَفَرِهِ أَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهَا:
مَا أَصَبْتِ وَلَا أَرَانَا نُفْلِحُ بَعْدَهُ، فَقَدْ جَاوَرَنَا مُنْذُ زَمَانٍ
فَأَحْسَنَّا جِوَارَهُ وَكَفَفْنَا عَنْهُ الْأَذَى لِوُجُوبِ حَقِّهِ عَلَيْنَا،
فَخَتَمْتِ أَمْرَهُ بِأَسْوَأِ الْجِوَارِ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا غَضِبْتُ لَكَ وَحَكَمْتُ
بِحُكْمِكَ، فقال لها: أو ما كَانَ يَسَعُهُ حِلْمُكِ فَتَحْفَظِينَ لَهُ
جِوَارَهُ؟ قَالَتْ: قَدْ كَانَ مَا كَانَ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلْيَاسَ
إِلَى آجِبَ الْمَلِكِ وَقَوْمَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ غَضِبَ لِوَلِيِّهِ حِينَ قَتَلُوهُ ظُلْمًا، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ
أَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَتُوبَا عَنْ صَنِيعِهِمَا وَلَمْ يَرُدَّا الْجُنَيْنَةَ
عَلَى وَرَثَةِ مَزْدَكِيَّ أَنْ يُهْلِكَهُمَا، يَعْنِي آجِبَ وَامْرَأَتَهُ، فِي
جَوْفِ الْجُنَيْنَةِ، ثُمَّ يَدَعُهُمَا جِيفَتَيْنِ مُلْقَاتَيْنِ فِيهَا حَتَّى
تَتَعَرَّى عِظَامُهُمَا مِنْ لُحُومِهِمَا، وَلَا يَتَمَتَّعَانِ بِهَا إِلَّا
قَلِيلًا قَالَ: فَجَاءَ إِلْيَاسُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ امْرَأَتِهِ وَرَدِّ الْجُنَيْنَةِ، فَلَمَّا
سَمِعَ الْمَلِكُ ذَلِكَ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا
إِلْيَاسُ وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ إِلَّا بَاطِلًا وَمَا أَرَى
فُلَانًا وَفُلَانًا -سَمَّى مُلُوكًا مِنْهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ
-إِلَّا عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ
مُمَلَّكِينَ مَا يُنْقِصُ مِنْ دُنْيَاهُمْ أَمْرُهُمُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ
بَاطِلٌ، وَمَا نَرَى لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلٍ، قَالَ: وَهَمَّ الْمَلِكُ
بِتَعْذِيبِ إِلْيَاسَ وَقَتْلِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ إِلْيَاسُ بِالشَّرِّ
[وَالْمَكْرِ بِهِ] (1) رَفَضَهُ وَخَرَجَ عَنْهُ، فَلَحِقَ بِشَوَاهِقِ
الْجِبَالِ، وَعَادَ الْمَلِكُ إِلَى عِبَادَةِ بَعْلٍ، وَارْتَقَى إِلْيَاسُ
إِلَى أَصْعَبِ جَبَلٍ وَأَشْمَخِهِ فَدَخَلَ مَغَارَةً فِيهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ بَقِيَ سَبْعَ سِنِينَ شَرِيدًا خَائِفًا يَأْوِي إِلَى
الشِّعَابِ وَالْكُهُوفِ يَأْكُلُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَثِمَارِ الشَّجَرِ
وَهُمْ فِي طَلَبِهِ قَدْ وَضَعُوا عَلَيْهِ الْعُيُونَ وَاللَّهُ يَسْتُرُهُ،
فَلَمَّا مَضَى سَبْعَ سِنِينَ أَذِنَ اللَّهُ فِي إِظْهَارِهِ عَلَيْهِمْ
وَشِفَاءِ غَيْظِهِ مِنْهُمْ، فَأَمْرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ابْنًا لِآجَبَ
وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهَهُمْ بِهِ، فَأَدْنَفَ حَتَّى يُئِسَ
مِنْهُ، فَدَعَا صَنَمَهُ بَعُلًا -وَكَانُوا قَدْ فُتِنُوا بِبَعْلٍ وَعَظَّمُوهُ
حَتَّى جَعَلُوا لَهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِنٍ -فَوَكَّلُوهُمْ بِهِ وَجَعَلُوهُمْ
أَنْبِيَاءَهُ (2) ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ الصَّنَمِ
فَيَتَكَلَّمُ، وَالْأَرْبَعُمِائَةِ يُصْغُونَ بِآذَانِهِمْ إِلَى مَا يَقُولُ
الشَّيْطَانُ وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ بِشَرِيعَةٍ مِنَ الضَّلَالِ
فَيَبُثُّونَهَا لِلنَّاسِ، فَيَعْمَلُونَ بِهَا وَيُسَمُّونَهُمْ أَنْبِيَاءَ.
فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ ابْنِ الْمَلِكِ طَلَبَ إِلَيْهِمِ الْمَلِكُ أَنْ
يَتَشَفَّعُوا إِلَى بَعْلٍ، وَيَطْلُبُوا لِابْنِهِ مِنْ قِبَلِهِ الشِّفَاءَ
فَدَعَوْهُ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ
الْوُلُوجَ فِي جَوْفِهِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي التَّضَرُّعِ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَالُوا لِآجَبَ: إِنَّ فِي نَاحِيَةِ الشَّامِ
آلِهَةً أُخْرَى فَابْعَثْ إِلَيْهَا أَنْبِيَاءَكَ فَلَعَلَّهَا تَشْفَعُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "ب".
لَكَ
إِلَى إِلَهِكَ بَعْلٍ، فَإِنَّهُ غَضْبَانُ عَلَيْكَ، وَلَوْلَا غَضَبُهُ
عَلَيْكَ لَأَجَابَكَ، قَالَ آجَبُ: وَمِنْ أَجْلِ مَاذَا غَضِبَ عَلَيَّ وَأَنَا
أُطِيعُهُ؟ قَالُوا: مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْ إِلْيَاسَ وَفَرَّطَتْ
فِيهِ حَتَّى نَجَا سَلِيمًا وَهُوَ كَافِرٌ بِإِلَهِكَ، قَالَ آجَبُ: وَكَيْفَ
لِي أَنْ أَقْتُلَ إِلْيَاسَ وَأَنَا مَشْغُولٌ عَنْ طَلَبِهِ بِوَجَعِ ابْنِي،
وَلَيْسَ لِإِلْيَاسَ مَطْلَبٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَوْضِعٌ فَيُقْصَدُ، فَلَوْ
عُوفِيَ ابْنِي لَفَرَغْتُ لِطَلَبِهِ حَتَّى أَجِدَهُ فَأَقْتُلَهُ فَأُرْضِي
إِلَهِي، ثُمَّ إِنَّهُ بَعَثَ أَنْبِيَاءَهُ الْأَرْبَعَمِائَةِ إِلَى الْآلِهَةِ
الَّتِي بِالشَّامِ يَسْأَلُونَهَا أَنْ تَشْفَعَ إِلَى صَنَمِ الْمَلِكِ
لِيَشْفِيَ ابْنَهُ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِحِيَالِ الْجَبَلِ
الَّذِي فِيهِ إِلْيَاسُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِلْيَاسَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنْ يَهْبِطَ مِنَ الْجَبَلِ وَيُعَارِضَهُمْ وَيُكَلِّمَهُمْ، وَقَالَ
لَهُ: لَا تَخَفْ فَإِنِّي سَأَصْرِفُ عَنْكَ شَرَّهُمْ وَأُلْقِي الرُّعْبَ فِي
قُلُوبِهِمْ، فَنَزَلَ إِلْيَاسُ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ
اسْتَوْقَفَهُمْ، فَلَمَّا وَقَفُوا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَإِلَى مَنْ وَرَائِكُمْ فَاسْمَعُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ
رِسَالَةَ رَبِّكُمْ لِتُبَلِّغُوا صَاحِبَكُمْ فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَقُولُوا
لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لك: ألست 97/ب تَعْلَمُ يَا آجَبُ أَنِّي
أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا إِلَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي
خَلَقَهُمْ، وَرَزَقَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَأَمَاتَهُمْ، فَجَهْلُكَ وَقِلَّةُ
عِلْمِكَ حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي، وَتَطْلُبَ الشِّفَاءَ لِابْنِكَ مِنْ
غَيْرِي مِمَّنْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا إِلَّا مَا شِئْتُ،
إِنِّي حَلَفْتُ بِاسْمِي لِأَغِيظَنَّكَ فِي ابْنِكَ وَلِأُمِيتَنَّهُ فِي
فَوْرِهِ هَذَا حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا دُونِي.
فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ هَذَا رَجَعُوا وَقَدْ مُلِئُوا مِنْهُ رُعْبًا، فَلَمَّا
صَارُوا إِلَى الْمَلِكِ أَخْبَرُوهُ بِأَنَّ إِلْيَاسَ قَدِ انْحَطَّ عَلَيْهِمْ،
وَهُوَ رَجُلٌ نَحِيفٌ طَوَالٌ قَدْ نَحَلَ وَتَمَعَّطَ شَعْرُهُ وَتَقَشَّرَ
جِلْدُهُ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ وَعَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّلَهَا عَلَى
صَدْرِهِ بِخِلَالٍ فَاسْتَوْقَفْنَا فَلَمَّا صَارَ مَعَنَا قُذِفَ لَهُ فِي
قُلُوبِنَا الْهَيْبَةُ وَالرُّعْبُ فَانْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُنَا وَنَحْنُ فِي
هَذَا الْعَدَدِ الْكَثِيرِ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى أَنْ نُكَلِّمَهُ وَنُرَاجِعَهُ
حَتَّى رَجَعْنَا إِلَيْكَ، وَقَصُّوا عَلَيْهِ كَلَامَ إِلْيَاسَ، فَقَالَ آجَبُ:
لَا نَنْتَفِعُ بِالْحَيَاةِ مَا كَانَ إِلْيَاسُ حَيًّا وَمَا يُطَاقُ إِلَّا
بِالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، فَقَيَّضَ لَهُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ
ذَوِي الْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُمْ
بِالِاحْتِيَالِ لَهُ وَالِاغْتِيَالِ بِهِ وَأَنْ يُطَمِّعُوهُ فِي أَنَّهُمْ
قَدْ آمَنُوا بِهِ، هُمْ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ [لِيَسْتَنْهِمَ إِلَيْهِمْ] (1)
وَيَغْتَرَّ بِهِمْ فَيُمَكِّنَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ فَيَأْتُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ،
فَانْطَلَقُوا حَتَّى ارْتَقَوْا ذَلِكَ الْجَبَلَ الَّذِي فِيهِ إِلْيَاسُ، ثُمَّ
تَفَرَّقُوا فِيهِ يُنَادُونَهُ بِأَعْلَى أَصْوَاتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ ابْرُزْ لَنَا وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِنَفْسِكَ، فَإِنَّا قَدْ
آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَمَلِكُنَا آجَبُ وَجَمِيعُ قَوْمِنَا، وَأَنْتَ
آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ، وَجَمِيعُ بني إسرائيل يقرؤون عَلَيْكَ السَّلَامَ
وَيَقُولُونَ: قَدْ بَلَغَتْنَا رِسَالَتُكَ وَعَرَفْنَا مَا قُلْتَ، [فَآمَنَّا
بِكَ وَأَجَبْنَاكَ إِلَى مَا دَعَوْتَنَا فَهَلُمَّ إِلَيْنَا وَأَقِمْ بَيْنَ
أَظْهُرِنَا وَاحْكُمْ فِينَا] (2) فَإِنَّا نَنْقَادُ لِمَا أَمَرْتَنَا،
وَنَنْتَهِي عَمَّا نَهَيْتَنَا وَلَيْسَ يَسَعُكَ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنَّا مَعَ
إِيمَانِنَا وَطَاعَتِنَا، فَارْجِعْ إِلَيْنَا. وَكُلُّ هَذَا مِنْهُمْ
مُمَاكَرَةٌ وَخَدِيعَةٌ.
__________
(1) في"أ": (ليستقيم أن يسكن بهم).
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
فَلَمَّا
سَمِعَ إِلْيَاسُ مَقَالَتَهُمْ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ وَطَمِعَ فِي إِيمَانِهِمْ،
وَخَافَ اللَّهَ إِنْ هُوَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ
التَّوَقُّفَ وَالدُّعَاءَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا
يَقُولُونَ فَأْذَنْ لِي فِي الْبُرُوزِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ
فَاكْفِنِيهِمْ وَارْمِهِمْ بِنَارٍ تَحْرِقُهُمْ، فَمَا اسْتَتَمَّ قَوْلَهُ
حَتَّى حُصِبُوا بِالنَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَاحْتَرَقُوا أَجْمَعِينَ، قَالَ:
وَبَلَغَ آجَبَ الْخَبَرُ فَلَمْ يَرْتَدِعْ مِنْ هَمِّهِ بِالسُّوءِ، وَاحْتَالَ
ثَانِيًا فِي أَمْرِ إِلْيَاسَ، وَقَيَّضَ لَهُ فِئَةً أُخْرَى مِثْلَ عَدَدِ
أُولَئِكَ أَقْوَى مِنْهُمْ وَأَمْكَنُ مِنَ الْحِيلَةِ وَالرَّأْيِ،
فَأَقْبَلُوا، أَيْ: حَتَّى تَوَقَّلُوا، أَيْ: صَعَدُوا قُلَلَ تِلْكَ الْجِبَالِ
مُتَفَرِّقِينَ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا نُعَوِّذُ
بِاللَّهِ وَبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَسَطَوَاتِهِ، إِنَّا لَسْنَا كَالَّذِينِ
أَتَوْكَ قَبْلَنَا وَإِنَّ أُولَئِكَ فِرْقَةٌ نَافَقُوا فَصَارُوا إِلَيْكَ لِيَكِيدُوا
بِكَ فِي غَيْرِ رَأْيِنَا، وَلَوْ عَلِمْنَا بِهِمْ لَقَتَلْنَاهُمْ
وَلَكَفَيْنَاكَ مُؤْنَتَهُمْ، فَالْآنَ قَدْ كَفَاكَ رَبُّكَ أَمْرَهُمْ
وَأَهْلَكَهُمْ وَانْتَقَمَ لَنَا وَلَكَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ إِلْيَاسُ
مَقَالَتَهُمْ دَعَا اللَّهَ بِدَعْوَتِهِ الْأُولَى فَأَمْطَرَ عَلَيْهِمُ
النَّارَ، فَاحْتَرَقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ ابْنُ الْمَلِكِ فِي
الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ مِنْ وَجَعِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ بِهَلَاكِ
أَصْحَابِهِ ثَانِيًا ازْدَادَ غَضَبًا عَلَى غَضَبٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فِي
طَلَبِ إِلْيَاسَ بِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنَّهُ شَغَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مَرَضُ
ابْنِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ فَوَجَّهَ نَحْوَ إِلْيَاسَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي هُوَ
كَاتِبُ امْرَأَتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَأْنَسَ بِهِ إِلْيَاسُ فَيَنْزِلُ مَعَهُ،
وَأَظْهَرَ لِلْكَاتِبِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِلْيَاسَ سُوءًا، وَإِنَّمَا
أَظْهَرَ لَهُ لِمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ إِيمَانِهِ، وَكَانَ الْمَلِكُ مَعَ
اطِّلَاعِهِ عَلَى إِيمَانِهِ مُغْضِيًا عَلَيْهِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ
الْكِفَايَةِ وَالْأَمَانَةِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُ نَحْوَهُ
أَرْسَلَ مَعَهُ فِئَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَوْعَزَ إِلَى الْفِئَةِ -دُونَ
الْكَاتِبِ -أَنْ يُوثِقُوا إِلْيَاسَ وَيَأْتُوا بِهِ إِنْ أَرَادَ التَّخَلُّفَ
عَنْهُمْ، وَإِنْ جَاءَ مَعَ الْكَاتِبِ وَاثِقًا بِهِ لَمْ يُرَوِّعُوهُ، ثُمَّ
أَظْهَرَ مَعَ الْكَاتِبِ الْإِنَابَةَ وَقَالَ لَهُ: قَدْ آنَ لِي أَنْ أَتُوبَ
وَقَدْ أَصَابَتْنَا بَلَايَا مِنْ حَرِيقِ أَصْحَابِنَا وَالْبَلَاءِ الَّذِي
فِيهِ ابْنِي، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِلْيَاسَ، وَلَسْتُ آمَنُ
أَنْ يَدْعُوَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ بَقِيَ مِنَّا فَنَهْلَكَ بِدَعْوَتِهِ،
فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ وَأَخْبِرْهُ أَنَّا قَدْ تُبْنَا وَأَنَبْنَا، وَأَنَّهُ
لَا يُصْلِحُنَا فِي تَوْبَتِنَا، وَمَا نُرِيدُ مِنْ رِضَاءِ رَبِّنَا وَخَلْعِ
أَصْنَامِنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلْيَاسُ بَيِّنَ أَظْهُرِنَا، يَأْمُرُنَا
وَيَنْهَانَا، وَيُخْبِرُنَا بِمَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَأَمَرَ قَوْمَهُ
فَاعْتَزَلُوا الْأَصْنَامَ، وَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْ إِلْيَاسَ أَنَّا قَدْ
خَلَعْنَا آلِهَتَنَا الَّتِي كُنَّا نَعْبُدُ، وَأَرْجَيْنَا أَمْرَهَا حَتَّى
يَنْزِلَ إِلْيَاسُ فَيَكُونُ هُوَ الَّذِي يَحْرِقُهَا وَيُهْلِكُهَا، وَكَانَ
ذَلِكَ مَكْرًا مِنَ الْمَلِكِ.
فَانْطَلَقَ الْكَاتِبُ وَالْفِئَةُ حَتَّى عَلَا الْجَبَلَ الَّذِي فِيهِ
إِلْيَاسُ ثُمَّ نَادَاهُ، فَعَرَفَ إِلْيَاسُ صَوْتَهُ، فَتَاقَتْ نَفْسُهُ
إِلَيْهِ وَكَانَ مُشْتَاقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ
أَنِ ابْرُزْ إِلَى أَخِيكَ الصَّالِحِ فَالْقَهُ، وَجَدِّدِ الْعَهْدَ بِهِ
فَبَرَزَ إِلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَصَافَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا الْخَبَرُ؟
فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: إِنَّهُ قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ هَذَا الْجَبَّارُ
الطَّاغِيَةُ وَقَوْمُهُ، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ مَا قَالُوا ثُمَّ قَالَ لَهُ:
وَإِنِّي لِخَائِفٌ إِنْ رَجَعْتُ إِلَيْهِ وَلَسْتَ مَعِي أَنْ يَقْتُلَنِي
فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ أَفْعَلْهُ، إِنْ شِئْتَ انْقَطَعْتُ إِلَيْكَ وَكُنْتُ
مَعَكَ وَتَرَكْتُهُ، وَإِنْ شِئْتَ جَاهَدْتُهُ مَعَكَ وَإِنْ شِئْتَ تُرْسِلُنِي
إِلَيْهِ بِمَا تُحِبُّ فَأُبَلِّغُهُ رِسَالَتَكَ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتَ
رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا
فَرَجًا
وَمَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِلْيَاسَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ
جَاءَكَ مِنْهُمْ مَكْرٌ وَكَذِبٌ لِيَظْفَرُوا بِكَ، وَإِنَّ آجَبَ إِنْ
أَخْبَرَتْهُ رُسُلُهُ أَنَّكَ قَدْ لَقِيتَ هَذَا الرَّجُلَ وَلَمْ يَأْتِ بِكَ
اتَّهَمَهُ وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ دَاهَنَ فِي أَمْرِكَ، فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَقْتُلَهُ،
فَانْطَلِقْ مَعَهُ فَإِنِّي سَأُشْغِلُ عَنْكُمَا آجَبَ فَأُضَاعِفُ عَلَى
ابْنِهِ الْبَلَاءَ، حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ هَمٌّ غَيْرُهُ، ثُمَّ أُمِيتُهُ
عَلَى شَرِّ حَالٍ، فَإِذَا مَاتَ فَارْجِعْ عَنْهُ، قَالَ فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ
حَتَّى قَدِمُوا عَلَى آجَبَ، فَلَمَّا قَدِمُوا شَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى
الْوَجَعَ عَلَى ابْنِهِ وَأَخَذَ الْمَوْتُ يَكْظِمُهُ، فَشَغَلَ اللَّهُ
تَعَالَى بِذَلِكَ آجَبَ وَأَصْحَابَهُ عَنْ إِلْيَاسَ، فَرَجَعَ إِلْيَاسُ
سَالِمًا إِلَى مَكَانِهِ، فَلَمَّا مَاتَ ابْنُ آجَبَ وَفَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِ
وَقَلَّ جَزَعُهُ انْتَبَهَ لِإِلْيَاسَ، وَسَأَلَ عَنْهُ الْكَاتِبَ الَّذِي
جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ شَغَلَنِي عَنْهُ مَوْتُ ابْنِكَ
وَالْجَزَعُ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَكُنْ أَحْسَبُكَ إِلَّا قَدِ اسْتَوْثَقْتَ
مِنْهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ آجَبُ وَتَرَكَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى
ابْنِهِ.
فِلْمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى إِلْيَاسَ مَلَّ السُّكُونَ فِي الْجِبَالِ
وَاشْتَاقَ إِلَى النَّاسِ نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَلَقَ حَتَّى نَزَلَ
بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ أُمُّ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ذي النون
98/أ اسْتَخْفَى عِنْدَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَيُونُسُ بْنُ مَتَّى يَوْمَئِذٍ
مَوْلُودٌ يَرْضَعُ، فَكَانَتْ أُمُّ يُونُسَ تَخْدِمُهُ بِنَفْسِهَا وَتُوَاسِيهِ
بِذَاتِ يَدِهَا، ثُمَّ إِنَّ إِلْيَاسَ سَئِمَ ضِيقَ الْبُيُوتِ بَعْدَ
تَعَوُّدِهِ فُسْحَةَ الْجِبَالِ، فَأَحَبَّ اللُّحُوقَ بِالْجِبَالِ فَخَرَجَ
وَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ، فَجَزِعَتْ أُمُّ يُونُسَ لِفِرَاقِهِ فَأَوْحَشَهَا
فَقْدُهُ، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ ابْنُهَا يُونُسُ
حِينَ فَطَمَتْهُ، فَعَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِ إِلْيَاسَ،
فَلَمْ تَزَلْ تَرْقَى الْجِبَالَ وَتَطُوفُ فِيهَا حَتَّى عَثَرَتْ عَلَيْهِ،
فَوَجَدَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي قَدْ فُجِعْتُ بَعْدَكَ لِمَوْتِ ابْنِي
فَعَظُمَتْ فِيهِ مُصِيبَتِي وَاشْتَدَّ لِفَقْدِهِ بَلَائِي، وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ
غَيْرُهُ، فَارْحَمْنِي وَادْعُ لِي رَبَّكَ جَلَّ جَلَالُهُ لِيُحْيِيَ لِي
ابْنِي وَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُهُ مُسَجًّى لَمْ أَدْفِنْهُ، وَقَدْ أَخْفَيْتُ
مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهَا إِلْيَاسُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا أُمِرْتُ بِهِ،
وَإِنَّمَا أَنَا عَبَدٌ مَأْمُورٌ أَعْمَلُ بِمَا يَأْمُرُنِي رَبِّي، فَجَزِعَتِ
الْمَرْأَةُ وَتَضَرَّعَتْ فَأَعْطَفَ اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَ إِلْيَاسَ لَهَا،
فَقَالَ لَهَا: مَتَى مَاتَ ابْنُكِ؟ قَالَتْ: مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ
فَانْطَلَقَ إِلْيَاسُ مَعَهَا وَسَارَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى حَتَّى انْتَهَى
إِلَى مَنْزِلِهَا، فَوَجَدَ ابْنَهَا مَيِّتًا لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا،
فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَدَعَا، فَأَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى،
فَلَمَّا عَاشَ وَجَلَسَ وَثَبَ إِلْيَاسُ وَتَرَكَهُ وَعَادَ إِلَى مَوْضِعِهِ.
فَلَمَّا طَالَ عِصْيَانُ قَوْمِهِ ضَاقَ بِذَلِكَ إِلْيَاسُ ذَرْعًا فَأَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ وَهُوَ خَائِفٌ مَجْهُودٌ: يَا
إِلْيَاسُ مَا هَذَا الْحُزْنُ وَالْجَزَعُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ أَلَسْتَ
أَمِينِي عَلَى وَحْيِي وَحُجَّتِي فِي أَرْضِي وَصَفْوَتِي مِنْ خَلْقِي؟
فَسَلْنِي أُعْطِكَ، فَإِنِّي ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْفَضْلِ
الْعَظِيمِ، قَالَ: تُمِيتُنِي وَتُلْحِقُنِي بِآبَائِي فَإِنِّي قَدْ مَلِلْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَلُّونِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا
إِلْيَاسُ مَا هَذَا بِالْيَوْمِ الَّذِي أُعَرِّي عَنْكَ الْأَرْضَ وَأَهْلَهَا،
وَإِنَّمَا قِوَامُهَا وَصَلَاحُهَا بِكَ وَبِأَشْبَاهِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ
قَلِيلًا وَلَكِنْ سَلْنِي فَأُعْطِكَ، فَقَالَ إِلْيَاسُ: إِنْ لَمْ تُمِتْنِي
فَأَعْطِنِي ثَأْرِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَيُّ
شَيْءٍ تُرِيدُ
أَنْ
أُعْطِيَكَ؟ قَالَ تُمَكِّنُنِي مِنْ خَزَائِنِ السَّمَاءِ سَبْعَ سِنِينَ فَلَا
تَنْشُرُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً إِلَّا بِدَعْوَتِي، وَلَا تُمْطِرُ عَلَيْهِمْ
سَبْعَ سِنِينَ قَطْرَةً إِلَّا بِشَفَاعَتِي، فَإِنَّهُمْ لَا يُذِلُّهُمْ إِلَّا
ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا إِلْيَاسُ أَنَا أَرْحَمُ بِخَلْقِي مِنْ
ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ، قَالَ: فَسِتُّ سِنِينَ، قَالَ: أَنَا
أَرْحَمُ بِخَلْقِي مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَخَمْسُ سِنِينَ، قَالَ: أَنَا أَرْحَمُ
بِخَلْقِي مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِّي أُعْطِيكَ ثَأْرَكَ ثَلَاثَ سِنِينَ، أَجْعَلُ
خَزَائِنَ الْمَطَرِ بِيَدِكَ، قَالَ إِلْيَاسُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَعِيشُ؟ قَالَ:
أُسَخِّرُ لَكَ جَيْشًا مِنَ الطَّيْرِ يَنْقُلُ إِلَيْكَ طَعَامَكَ وَشَرَابَكَ
مِنَ الرِّيفِ وَالْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تَقْحَطْ، قَالَ إِلْيَاسُ: قَدْ رَضِيتُ،
قَالَ: فَأَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْمَطَرَ حَتَّى هَلَكَتِ
الْمَاشِيَةُ وَالدَّوَابُّ وَالْهَوَامُّ وَالشَّجَرُ وَجَهِدَ النَّاسُ جُهْدًا
شَدِيدًا، وَإِلْيَاسُ عَلَى حَالَتِهِ مُسْتَخِفٌّ مِنْ قَوْمِهِ، يُوضَعُ له
الرزق حيث ما كَانَ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمُهُ وَكَانُوا إِذَا وَجَدُوا
رِيحَ الْخُبْزِ فِي بَيْتٍ قَالُوا: لَقَدْ دَخَلَ إِلْيَاسُ هَذَا الْمَكَانَ،
وَطَلَبُوهُ وَلَقِيَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ شَرًّا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ الْقَحْطُ،
فَمَرَّ إِلْيَاسُ بِعَجُوزٍ فَقَالَ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ:
نَعَمْ شَيْءٌ مِنْ دَقِيقٍ وَزَيْتٍ قَلِيلٍ، قَالَ: فَدَعَا بِهِمَا وَدَعَا
فِيهِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسَّهُ حَتَّى مَلَأَ جِرَابَهَا دَقِيقًا، وَمَلَأَ
خَوَابِيَهَا زَيْتًا، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ عِنْدَهَا قَالُوا: مِنْ أَيْنَ
لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا فَوَصَفَتْهُ
بِوَصْفِهِ فَعَرِفُوهُ، فَقَالُوا: ذَلِكَ إِلْيَاسُ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ
فَهَرَبَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ أَوَى إِلَى بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَهَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ الْيَسَعُ بْنُ أَخُطُوبَ، بِهِ ضُرٌّ
فَآوَتْهُ وَأَخْفَتْ أَمْرَهُ، فَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي
كَانَ بِهِ، وَاتَّبَعَ الْيَسَعُ إِلْيَاسَ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَلَزِمَهُ،
وكان يذهب حيث ما ذَهَبَ وَكَانَ إِلْيَاسُ قَدْ أَسَنَّ فَكَبُرَ وَالْيَسَعُ
شَابٌّ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى إِلْيَاسَ: إِنَّكَ قَدْ
أَهْلَكْتَ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ مِمَّنْ لَمْ يَعْصِ مِنَ الْبَهَائِمِ
وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالْهَوَامِّ بِحَبْسِ الْمَطَرِ، فَيَزْعُمُونَ
-وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ إِلْيَاسَ قَالَ: يَا رَبِّ دَعْنِي أَكُنْ أنا الذي
أدعوا لَهُمْ وَآتِيهِمْ بِالْفَرَجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ،
لَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَيَنْزِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ
غَيْرِكَ، فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ، فَجَاءَ إِلْيَاسُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ،
فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ جُوعًا وَجُهْدًا، وَهَلَكْتِ الْبَهَائِمُ
وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْهَوَامُّ وَالشَّجَرُ بِخَطَايَاكُمْ، وَإِنَّكُمْ
عَلَى بَاطِلٍ فَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تَعْلَمُوا ذَلِكَ فَاخْرُجُوا
بِأَصْنَامِكُمْ، فَإِنِ اسْتَجَابَتْ لَكُمْ فَذَلِكَ كَمَا تَقُولُونَ، وَإِنْ
هِيَ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ عَلَى بَاطِلٍ، فَنَزَعْتُمْ وَدَعَوْتُ
اللَّهَ تَعَالَى فَفَرَّجَ عَنْكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ،
قَالُوا: أَنْصَفَتْ فَخَرَجُوا بِأَوْثَانِهِمْ فَدَعَوْهَا، فَلَمْ تُفَرِّجْ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، ثُمَّ قَالُوا لِإِلْيَاسَ: إِنَّا
قَدْ هَلَكْنَا فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا، فَدَعَا لَهُمْ إِلْيَاسُ
وَمَعَهُ الْيَسَعُ بِالْفَرَجِ، فَخَرَجَتْ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ عَلَى
ظَهْرِ الْبَحْرِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَأَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ وَطَبَّقَتِ
الْآفَاقَ ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ فَأَغَاثَهُمْ،
وَأُحْيِيَتْ بِلَادُهُمْ، فَلَمَّا كَشَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الضُّرَّ
نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَلَمْ يَنْزِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَأَقَامُوا عَلَى
أَخْبَثِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِلْيَاسُ دَعَا رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيحَهُ مِنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ: انْظُرْ
يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَاخْرُجْ فِيهِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَمَا جَاءَكَ
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
مِنْ
شَيْءٍ فَارْكَبْهُ وَلَا تَهِبْهُ، فَخَرَجَ إِلْيَاسُ وَمَعَهُ الْيَسَعُ حَتَّى
إِذَا كَانَا بِالْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ أَقْبَلَ فَرَسٌ مِنْ نَارٍ، وَقِيلَ:
لَوْنُهُ كَلَوْنِ النَّارِ، حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ
إِلْيَاسُ، فَانْطَلَقَ بِهِ الْفَرَسُ فَنَادَاهُ الْيَسَعُ: يَا إِلْيَاسُ، مَا
تَأْمُرُنِي؟ فَقَذَفَ إِلَيْهِ إِلْيَاسُ بِكِسَائِهِ مِنَ الْجَوِّ الْأَعْلَى،
فَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ اسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ،
فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى إِلْيَاسَ مِنْ
بَيْنِ أَظْهَرِهِمْ، وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ،
وَكَسَاهُ الرِّيشَ فَكَانَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا أَرْضِيًّا سَمَاوِيًّا،
وَسَلَّطَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آجَبَ الْمَلِكِ وَقَوْمِهِ عَدُوًّا لَهُمْ
فَقَصَدَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ حَتَّى رَهِقَهُمْ، فَقَتَلَ آجَبَ
وَامْرَأَتَهُ أَزْبِيلَ فِي بُسْتَانِ مَزْدِكِيَّ، فَلَمْ تَزَلْ جِيفَتَاهُمَا
مُلْقَاتَيْنِ (1) فِي تِلْكَ الْجُنَيْنَةِ حَتَّى بَلِيَتْ لُحُومُهُمَا
وَرَمَّتْ عِظَامُهُمَا، وَنَبَّأَ اللَّهُ تَعَالَى الْيَسَعَ وَبَعْثَهُ
رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَأَيَّدَهُ،
فَآمَنَتْ بِهِ بنو إسرائيل 98/ب فَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ، وَحُكْمُ اللَّهِ
تَعَالَى فِيهِمْ قَائِمٌ إِلَى أَنْ فَارَقَهُمُ الْيَسَعُ. (2) .
وَرَوَى السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ،
قَالَ: الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ يَصُومَانِ شَهْرَ رَمَضَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَيُوَافِيَانِ الْمَوْسِمَ فِي كُلِّ عَامٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِلْيَاسَ مُوكَلٌ بِالْفَيَافِي، وَالْخَضِرَ مُوكَلٌ
بِالْبِحَارِ (3) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ".
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ
أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
(126) }
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرج الطبري القصة من طريق ابن إسحاق في التاريخ: 1 / 461 - 464. واختصرها في
التفسير: 23 / 93 - 94.
(3) انظر الدر المنثور: 7 / 118.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
{
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ (128) }
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ } أَتَعْبُدُونَ (1) {
بَعْلًا } وَهُوَ اسْمُ صَنَمٍ لَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَلِذَلِكَ
سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ:
"الْبَعْلُ": الرَّبُّ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ.
{ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } فَلَا تُبْعِدُونَهُ.
{ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } قَرَأَ حَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ: "اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ"
بِنَصْبِ الْهَاءِ وَالْبَاءَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِرَفْعِهِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
{ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } فِي النَّارِ.
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } مِنْ قَوْمِهِ فَإِنَّهُمْ نَجَوْا
مِنَ الْعَذَابِ.
__________
(1) زيادة من "ب ".
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
{
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ
نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ
(135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) }
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } قَرَأَ
نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: "آلِ يَاسِينَ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
مُشْبَعَةً، وَكَسْرِ اللَّامِ مَقْطُوعَةً، لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ
مَفْصُولَةً، [وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ
مَوْصُولَةً] (1)
فَمَنْ قَرَأَ "آلِ يس" مَقْطُوعَةً، قِيلَ: أَرَادَ آلَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ
يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ آلَ إِلْيَاسَ.
وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْوَصْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَدْ قِيلَ:
إِلْيَاسِينَ لُغَةٌ فِي إِلْيَاسَ، مِثْلَ: إِسْمَاعِيلَ وَإِسْمَاعِينَ،
وَمِيكَائِيلَ وَمِيكَائِينَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعٌ أَرَادَ إِلْيَاسَ وَأَتْبَاعَهُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْعَرِينَ وَالْأَعْجَمِينَ
بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: سَلَامٌ عَلَى
إِدْرَاسِيْنَ يَعْنِي: إِدْرِيسَ وَأَتْبَاعَهُ، لِأَنَّهُ يَقْرَأُ: وَإِنَّ
إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (2) .
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ } أَيْ: الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ.
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ.
{ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ } عَلَى آثَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، {
مُصْبِحِينَ } وَقْتَ الصَّبَاحِ.
{ وَبِاللَّيْلِ } يُرِيدُ: تَمُرُّونَ بِالنَّهَارِ وَبِاللَّيْلِ عَلَيْهِمْ
إِذَا ذَهَبْتُمْ إِلَى أَسْفَارِكُمْ وَرَجَعْتُمْ، { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
فَتَعْتَبِرُونَ بِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } مِنْ جُمْلَةِ
رُسُلِ اللَّهِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 391،392.
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
{
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا
أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) }
{ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } يَعْنِي: هَرَبَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَوَهْبٌ: كَانَ يُونُسُ وَعَدَ
قَوْمَهُ الْعَذَابَ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ خَرَجَ كَالْمَشُورِ
(1) مِنْهُمْ، فَقَصَدَ الْبَحْرَ فَرَكِبَ السَّفِينَةَ، فَاحْتَبَسَتِ
السَّفِينَةُ فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنْ سَيِّدِهِ،
فَاقْتَرَعُوا فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثًا
فَوَقَعَتْ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ يُونُسُ: أَنَا الْآبِقُ، وَزَجَّ نَفْسَهُ فِي
الْمَاءِ.
وَرُوِيَ فِي الْقِصَّةِ: أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ كَانَتْ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ وَابْنَانِ لَهُ، فَجَاءَ مَرْكَبٌ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمْ
فَقَدَّمَ امْرَأَتَهُ لِيَرْكَبَ بَعْدَهَا، فَحَالَ الْمَوْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَرْكَبِ وَمَرَّ الْمَرْكَبُ، ثُمَّ جَاءَتْ مَوْجَةٌ أُخْرَى وَأَخَذَتِ
ابْنَهُ الْأَكْبَرَ وَجَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ الِابْنَ الْأَصْغَرَ، فَبَقِيَ
فَرِيدًا، فَجَاءَ مَرْكَبٌ آخَرُ فَرَكِبَهُ فَقَعَدَ نَاحِيَةً مِنَ الْقَوْمِ،
فَلَمَّا مَرَّتِ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ رَكَدَتْ، فَاقْتَرَعُوا، وَقَدْ
ذَكَرْنَا الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ (2) .
فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَسَاهَمَ } فَقَارَعَ، وَالْمُسَاهَمَةُ:
إِلْقَاءُ السِّهَامِ عَلَى جِهَةِ الْقُرْعَةِ، { فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ }
الْمَقْرُوعِينَ.
{ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ } ابْتَلَعَهُ، { وَهُوَ مُلِيمٌ } آتٍ بِمَا يُلَامُ
عَلَيْهِ.
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } مِنَ الذَّاكِرِينَ لِلَّهِ
قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الذَّكَرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ
الْمَصَلِّيْنَ. وَقَالَ وَهْبٌ: مِنَ الْعَابِدِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا
كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ طَاعَتَهُ الْقَدِيمَةَ.
وَقِيلَ: "فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ" فِي بَطْنِ
الْحُوتِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي قَوْلَهُ: "لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"(
الْأَنْبِيَاءِ-87 ) .
{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } لَصَارَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ
قَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{ فَنَبَذْنَاهُ } طَرَحْنَاهُ، { بِالْعَرَاءِ } يَعْنِي: عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ، قَالَ الْسُّدِّيُّ: بِالسَّاحِلِ، وَالْعَرَاءُ: الْأَرْضُ
الْخَالِيَةُ عَنِ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ { وَهُوَ سَقِيمٌ } عَلِيلٌ كَالْفَرْخِ
الْمُمَعَّطِ. وَقِيلَ: كَانَ قَدْ بَلِيَ لَحْمُهُ وَرَقَّ عَظْمُهُ وَلَمْ
يَبْقَ لَهُ قُوَّةٌ.
__________
(1) المشور: الخجل. وفي "أ" كالمتشور.
(2) انظر فيما سبق: 4 / 151 - 152.
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
وَاخْتَلَفُوا
فِي مُدَّةِ لُبْثِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ:
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَبْعَةُ أَيَّامٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
عِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ
سُلَيْمَانَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْتَقَمَهُ ضُحًى
وَلَفَظَهُ عَشِيَّةً (1) .
{ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) }
{ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ } أَيْ: لَهُ، وَقِيلَ: عِنْدَهُ { شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ } يَعْنِي: الْقَرْعَ، عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: كُلُّ نَبْتٍ يَمْتَدُّ وَيَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ وَلَا يَبْقَى عَلَى الشِّتَاءِ نَحْوَ الْقَرْعِ
وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ فَهُوَ يَقْطِينٌ.
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: فَكَانَ يُونُسُ يَسْتَظِلُّ بِالشَّجَرَةِ،
وَكَانَتْ وَعْلَةٌ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَيَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا بُكْرَةً
وَعَشِيَّةً حَتَّى اشْتَدَّ لَحْمُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ وَقَوِيَ، فَنَامَ
نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ يَبِسَتِ الشَّجَرَةُ فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا
وَأَصَابَهُ أَذَى الشَّمْسِ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى
إِلَيْهِ جِبْرِيلَ وَقَالَ: أَتَحْزَنُ عَلَى شَجَرَةٍ وَلَا تَحْزَنُ عَلَى
مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ أُمَّتِكَ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَتَابُوا. (2)
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ هَاهُنَا: "فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ
سَقِيمٌ"، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ
نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ"( الْقَلَمِ -49 ) فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْبَذْ؟
قِيلَ: "لَوْلَا" هُنَاكَ يَرْجِعُ إِلَى الذَّمِّ، مَعْنَاهُ: لَوْلَا
نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَلَكِنْ
تَدَارَكَهُ النِّعْمَةُ فَنُبِذَ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ } قَالَ
قَتَادَةُ: أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمُوصِلِ قَبْلَ أَنْ
يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ، وَقَوْلُهُ: "وَأَرْسَلْنَاهُ" أَيْ: وَقَدْ
أَرْسَلْنَاهُ، وَقِيلَ: كَانَ إِرْسَالُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ
إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ. { أَوْ يَزِيدُونَ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: وَيَزِيدُونَ"أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ،
كَقَوْلِهِ: "عُذْرًا أَوْ نُذْرًا"( الْمُرْسَلَاتِ -6 ) ، وَقَالَ
مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ بَلْ يَزِيدُونَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: "أَوْ" هَاهُنَا عَلَى أَصْلِهِ، وَمَعْنَاهُ:
أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى تَقْدِيرِكُمْ وَظَنِّكُمْ، كَالرَّجُلِ يَرَى قَوْمًا
فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ أَلْفٌ أَوْ يَزِيدُونَ، فَالشَّكُّ عَلَى تَقْدِيرِ
الْمَخْلُوقِينَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: وَيَزِيدُونَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ تلك الزيادة 99/أ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَمُقَاتِلٌ: كَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا، وَرَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
__________
(1) ذكر هذه الأقوال السيوطي في الدر المنثور: 7 / 127.
(2) انظر: الطبري: 23 / 103 - 104.
(3) أخرجه الترمذي في التفسير: 9 / 97 وقال: "هذا حديث غريب" قال
المباركفوري: "وفي سنده مجهول" والطبري: 23 / 104وعزاه السيوطي في الدر
المنثور:7 / 132 أيضًا لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
وَقَالَ
الْحَسَنُ: بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَبْعِينَ أَلْفًا (1)
{ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ
شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ
اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ
(153) }
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 104، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 132 لابن أبي حاتم.
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)
{
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ
سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) }
{ فَآمَنُوا } يَعْنِي: الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يُونُسُ بَعْدَ مُعَايَنَةِ
الْعَذَابِ، { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَاسْتَفْتِهِمْ } فَاسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ أَهْلَ مَكَّةَ
وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ، { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } وَذَلِكَ
أَنْ جُهَيْنَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الدَّارِ زَعَمُوا أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ (1) يَقُولُ: جَعَلُوا لِلَّهِ الْبَنَاتَ
وَلِأَنْفُسِهِمِ الْبَنِينَ.
{ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا } مَعْنَاهُ: أَخَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ
إِنَاثًا، { وَهُمْ شَاهِدُونَ } حَاضِرُونَ خَلْقَنَا إِيَّاهُمْ، نَظِيرُهُ
قَوْلُهُ: "أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ"( الزُّخْرُفِ -19 ).
{ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ } مِنْ كَذِبِهِمْ، { لَيَقُولُونَ وَلَدَ
اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
{ أَصْطَفَى } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "لَكَاذِبُونَ اصْطَفَى"
مَوْصُولًا عَلَى الْخَبَرِ عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَعِنْدَ الْوَقْفِ
يَبْتَدِئُ: "اصْطَفَى" بِكَسْرِ الْأَلِفِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ
بِقَطْعِ الْأَلِفِ، لِأَنَّهَا أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ
الْوَصْلِ، فَحُذِفَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ وَبَقِيَتْ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ
مَفْتُوحَةً مَقْطُوعَةً، مِثْلَ: أَسْتَكْبَرَ وَنَحْوَهَا، { أَصْطَفَى
الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } .
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } لِلَّهِ بِالْبَنَاتِ وَلَكُمْ بِالْبَنِينَ.
{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } أَفَلَا تَتَّعِظُونَ.
{ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } بُرْهَانٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ
وَلَدًا.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 7 / 133.
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
{
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ (163) وَمَا
مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) }
{ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ } الَّذِي لَكَمَ فِيهِ حُجَّةٌ { إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } فِي قَوْلِكُمْ.
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } قَالَ مُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ: أَرَادَ بِالْجِنَّةِ: الْمَلَائِكَةَ، سُمُّوا جِنَّةً
لِاجْتِنَانِهِمْ عَنِ الْأَبْصَارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ،
وَمِنْهُمْ إِبْلِيسُ، قَالُوا: هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالُوا -لَعَنَهُمُ اللَّهُ -بَلْ تَزَوَّجَ مِنَ الْجِنِّ
فَخَرَجَ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ (1) تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ
زَعَمَ بَعْضُ قُرَيْشٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ: فَمَنْ أُمَّهَاتُهُمْ، قَالُوا: سَرَوَاتُ
الْجِنِّ (2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى النَّسَبِ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا الشَّيَاطِينَ فِي
عِبَادَةِ اللَّهِ، { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّهُمْ } يَعْنِي قَائِلِي
هَذَا الْقَوْلِ { لَمُحْضَرُونَ } فِي النَّارِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا
قَالُوا فَقَالَ:
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنَّكُمْ } يَقُولُ لِأَهْلِ مَكَّةَ: { وَمَا
تَعْبُدُونَ } مِنَ الْأَصْنَامِ.
{ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } عَلَى مَا تَعْبُدُونَ، { بِفَاتِنِينَ } بِمُضِلِّينَ
أَحَدًا.
{ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ
سَيَدْخُلُ النَّارَ، أَيْ: سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } يَقُولُ
جِبْرَائِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مِنَّا
مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، أَيْ: مَا مِنَّا مَلَكٌ
إِلَّا لَهُ مَقَامٌ معلوم في السموات يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ما في السموات مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ
يُصَلِّي أَوْ يَسَبِّحُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 108.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 108، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 133 أيضا لآدم بن
أبي إياس، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
وَرُوِّينَا
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ
جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ" (1)
قَالَ الْسُّدِّيُّ: إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ فِي الْقُرْبَةِ
وَالْمُشَاهَدَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلَيْهِ، كَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا.
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ
الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا
بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا
لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) }
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ صَفُّوا
أَقْدَامَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: صُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ
لِلْعِبَادَةِ كَصُفُوفِ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ.
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } أَيْ: الْمُصَلُّونَ الْمُنَزِّهُونَ
اللَّهَ عَنِ السُّوءِ، يُخْبِرُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ
بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَعْبُودِينَ، كَمَا
زَعَمَتِ الْكُفَّارُ، ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:
{ وَإِنْ كَانُوا } وَقَدْ كَانُوا يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { لَيَقُولُونَ }
لَامُ التَّأْكِيدِ.
{ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ } أَيْ: كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِ
الْأَوَّلِينَ.
{ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ } أَيْ: فَلَمَّا
أَتَاهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ كَفَرُوا بِهِ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هَذَا
تَهْدِيدٌ لَهُمْ.
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } وَهِيَ قَوْلُهُ:
"كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي"( الْمُجَادَلَةِ -21 )
.
{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }
أَيْ: حِزْبُ اللَّهِ لَهُمُ الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ فِي
الْعَاقِبَةِ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب: في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا" 6 / 601 - 603 وقال:
"حسن غريب" وابن ماجه مطولا في الزهد، باب الحزن والبكاء برقم: (4190) 2
/ 1402، والإمام أحمد: 5 / 173، وصححه الحاكم: 2 / 510، وفي 4 / 579 وقال: صحيح
الإسناد على شرط الشيخين وأقره الذهبي: وصححه الألباني في "الصحيحة"
برقم (1722).
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ
صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
(180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (182) }
{ فَتَوَلَّ } أَعْرِضْ { عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي
الْمَوْتَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: حَتَّى
نَأْمُرَكَ بِالْقِتَالِ. وَقِيلَ: إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ،
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (1) .
{ وَأَبْصِرْهُمْ } إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ }
ذَلِكَ فَقَالُوا: مَتَى هَذَا الْعَذَابُ؟
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا
نَزَلَ } يَعْنِي: الْعَذَابَ { بِسَاحَتِهِمْ } قَالَ مُقَاتِلُ: بِحَضْرَتِهِمْ.
وَقِيلَ: بِفِنَائِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ (2) : الْعَرَبُ تَكْتَفِي بِذِكْرِ
السَّاحَةِ عَنِ الْقَوْمِ، { فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } فَبِئْسَ صَبَاحُ
الْكَافِرِينَ الَّذِينَ أُنْذِرُوا بِالْعَذَابِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ،
عَنْ حَمِيدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ، أَتَاهَا لَيْلًا
وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ، قَالَ:
فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ بِمِسَاحِيِّهَا وَمَكَاتِلِهَا،
فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا:
مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا
إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" (3) .
ثُمَّ كَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا تَأْكِيدًا لِوَعِيدِ الْعَذَابِ فَقَالَ:
{ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرِ } الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ
بِهِمْ، { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } . ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ:
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ } الْغَلَبَةِ وَالْقُوَّةِ، { عَمَّا
يَصِفُونَ } مِنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ.
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } الَّذِينَ بَلَّغُوا عَنِ اللَّهِ
التَّوْحِيدَ وَالشَّرَائِعَ.
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } عَلَى هَلَاكِ الْأَعْدَاءِ
وَنُصْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
__________
(1) انظر فيما سبق: 3 / 32 تعليق (1)، 3 / 273 تعليق (2).
(2) معاني القرآن: 2 / 396.
(3) أخرجه مالك في الموطأ باب ما جاء في الخيل: 2 / 468، والبخاري في الأذان، باب:
ما يحقن بالأذان من الدماء: 2 / 89-90، ومسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر
برقم: 1365، 3 / 1426-1427، والمصنف في شرح السنة: 11 / 59.
أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حدثنا إبراهيم 99/ب بْنُ سَهْلَوَيْهِ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ
أَبِي صَفِيَّةَ، عَنْ أَصْبُغَ بْنِ نُبَانَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "مَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (1) (2)
__________
(1) ذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 26 من رواية ابن أبي حاتم مرسلا، وقال: روي من
وجه آخر متصل موقوف على علي رضي الله عنه وساقه من رواية المصنف، وعزاه السيوطي في
الدر المنثور: 7 / 141 لحميد بن زنجويه في ترغيبه. والحديث فيه أصبغ بن نباتة، قال
أبو حاتم في الجرح والتعديل: 2 / 320: لين الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء.
(2) في نسخة "أ": تم المجلد الثالث بحمد الله وحسن توفيقه.
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
سُورَةُ
ص مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقَاقٍ (2) }
{ ص } قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ: اسْمُ السُّورَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ
حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّورِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "ص" مِفْتَاحُ اسْمِ
الصَّمَدِ، وَصَادِقِ الْوَعْدِ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ (3) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أَيْ ذِي الْبَيَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذِي الشَّرَفِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ"( الزُّخْرُفِ-44 ) ، وَهُوَ
قَسَمٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقِسْمِ، قِيلَ: جَوَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ
قَوْلُهُ "ص" أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا
قَدْ صَدَقَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "ص" مَعْنَاهَا: وَجَبَ وَحَقَّ، وَهُوَ جَوَابُ
قَوْلِهِ: "وَالْقُرْآنِ" كَمَا تَقُولُ: نَزَلَ وَاللَّهِ (4) .
وَقِيلَ: جَوَابُ الْقِسْمِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال:
نزلت سورة "ص" بمكة انظر: الدر المنثور: 7 / 142.
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 97.
(3) أخرجه الطبري: 23 / 118.
(4) انظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 396.
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
قَالَ
قَتَادَةُ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } كَمَا
قَالَ: "وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا"( ق-2 ) .
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا، {
فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ [تَعَالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ
الرُّسُلَ"( ص-14 ) ، كَقَوْلِهِ: "تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا"(
الشُّعَرَاءِ-97 ) وَقَوْلِهِ: "وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ -إِنْ كُلُّ
نَفْسٍ"( الطَّارِقِ-1 : 3 ).
وَقِيلَ:] (1) جَوَابُهُ قَوْلُهُ: "إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا"( ص-54 ) .
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ: "إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ"( ص-64 ) ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ هَذَا
الْقِسْمِ وَبَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ أَقَاصِيصُ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: بَلْ لِتَدَارُكِ كَلَامٍ وَنَفْيِ آخَرَ، وَمَجَازُ
الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِـ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عِزَّةِ حَمِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ
وَتَكَبُّرٍ عَنِ الْحَقِّ وَشِقَاقٍ وَخِلَافٍ وَعَدَاوَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدُ: "فِي عِزَّةٍ" مُعَازِّينَ (2) .
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ
(3) }
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } يَعْنِي: مِنَ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ، { فَنَادَوْا } اسْتَغَاثُوا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ وَحُلُولِ
النِّقْمَةِ، { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قُوَّةٍ وَلَا فِرَارَ (3)
"وَالْمَنَاصُ" مَصْدَرُ نَاصَ يَنُوصُ، وَهُوَ الْفَوْتُ،
وَالتَّأَخُّرُ، يُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَأَخَّرَ، وَبَاصَ يَبُوصُ إذا
تقدم، و"لات" بِمَعْنَى لَيْسَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ (4) .
وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: هِيَ "لَا" زِيدَتْ فِيهَا التَّاءُ،
كَقَوْلِهِمْ: رُبَّ وَرُبَّتْ وَثَمَّ وَثَمَّتْ، وَأَصْلُهَا هَاءٌ وُصِلَتْ
بِلَا فَقَالُوا: "لَاهٍ" كَمَا قَالُوا: ثَمَّةَ، فَجَعَلُوهَا فِي
الْوَصْلِ تَاءً، وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ، وَعِنْدَ
الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ: وَلَاةَ. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّاءَ
زِيدَتْ فِي "حِينَ" وَالْوَقْفُ عَلَى "ولا" ثم يبتدئ:
"تَحِينَ"، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: كَذَلِكَ وُجِدَتْ
فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ:
الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... وَالْمُطْمِعُونَ زَمَانَ مَا مِنْ
مُطْعِمٍ (5)
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "ب" متعازين.
(3) في "ب" (ليس حين نزو ولا فرار).
(4) في هامش "أ": "يقال: ناص، ينوص، نوصا ومناصا، أي: فر وراغ.
وقال تعالى: "ولات حين مناص" أي: ليس وقت تأخر وفرار، والمناص أيضا:
الملجأ والمفر".
(5) البيت من شواهد ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (530)، والجوهري
في الصحاح مادة "حين": 5 / 2106، واللسان: "حين": 13 / 134،
والطبري 23 / 123. قال ابن بري: صوابه..: والمطعون زمان أين المطعم. انظر:
"القرطين": 2 / 98 تعليق (1).
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
وَفِي
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ
ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ بِهَا تَلَانِ إِلَى أَصْحَابِكَ، يُرِيدُ: الْآنَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِذَا
قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا فِي الْحَرْبِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنَاصَ، أَيْ:
اهْرَبُوا وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمُ الْعَذَابَ
بِبَدْرٍ قَالُوا: مَنَاصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَاتَ حِينَ
مَنَاصٍ" (1) [أَيْ لَيْسَ] (2) حِينَ هَذَا الْقَوْلِ.
{ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ (5) }
{ وَعَجِبُوا } يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فِي قَوْلِهِ: "بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا" { أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ } يَعْنِي: رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُنْذِرُهُمْ { وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } .
{ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَفَرِحَ بِهِ
الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِلْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَهُمُ الصَّنَادِيدُ وَالْأَشْرَافُ، وَكَانُوا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا
أَكْبَرُهُمْ سِنًّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ لَهُمْ: امْشُوا إِلَى
أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَوْا أَبَا طَالِبٍ، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا
وَكَبِيرُنَا وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ، وَإِنَّا قَدْ
أَتَيْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَأَرْسَلَ أَبُو
طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ، فَقَالَ:
يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَسْأَلُونَكَ السَّوَاءَ، فَلَا تَمِلْ كُلَّ
الْمَيْلِ عَلَى قَوْمِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَنَدَعْكَ
وَإِلَهَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُعْطُونِي
كَلِمَةً وَاحِدَةً تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا
الْعَجَمُ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لِلَّهِ أَبُوكَ لَنُعْطِيَكَهَا وَعَشْرًا
أَمْثَالَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، [فَنَفَرُوا] (3) مِنْ ذَلِكَ وَقَامُوا،
وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ كَيْفَ يَسَعُ الْخَلْقَ
كُلَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ (4)
{ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أَيْ: عَجِيبٌ، وَالْعَجَبُ وَالْعُجَابُ
وَاحِدٌ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ كَرِيمٌ وَكُرَامٌ، وَكَبِيرٌ وَكُبَارٌ، وَطَوِيلٌ
وَطُوَالٌ، وَعَرِيضٌ وَعُرَاضٌ.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 384.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "ب" فتفرقوا.
(4) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (141): "ذكره الثعلبي بغير سند".
ورواه الترمذي: 9 / 99-101 وقال: (هذا حديث حسن صحيح) والنسائي في التفسير: 2 /
216- 217، وابن حبان برقم (1757) ص (435) من موارد الظمآن، والإمام أحمد: 1 / 227،
وإسحاق، وأبو يعلى، والطبري: 23 / 125، وابن أبي حاتم وغيرهم من طريق يحيى بن
عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الحديث- نحوه" وليس فيه أوله.
وأخرجه أيضًا: البيهقي في السنن 9 / 188، وصححه الحاكم: 2 / 432، والواحدي في
أسباب النزول ص (424).
وانظر: الدر المنثور: 7 / 142 - 143 .
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
{
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ
هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ
هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) }
{ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ }
أَيِ: انْطَلَقُوا مِنْ مَجْلِسِهِمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ،
يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ، أَيْ:
اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } أَيْ
لَأَمْرٌ يُرَادُ بِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَسْلَمَ وَحَصَلَ
لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ بِمَكَانِهِ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ مِنْ
زِيَادَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَشَيْءٌ
يُرَادُ بِنَا.
وَقِيلَ: يُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِمُحَمَّدٍ أَنْ
يُمَلَّكَ عَلَيْنَا.
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ
التَّوْحِيدِ، { فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: يَعْنُونَ النَّصْرَانِيَّةَ، لِأَنَّهَا
آخِرُ الْمَلَلِ وَهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ، بَلْ يَقُولُونَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ مِلَّةَ قُرَيْشٍ وَدِينَهُمُ الَّذِي
هُمْ عَلَيْهِ.
{ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } كذب وافتعال.
{ أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } الْقُرْآنُ { مِنْ بَيْنِنَا } وَلَيْسَ
بِأَكْبَرِنَا وَلَا أَشْرَفِنَا، يَقُولُهُ أَهْلُ مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ:
{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } أَيْ وَحْيِي وَمَا أَنْزَلْتُ، { بَلْ
لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } وَلَوْ ذَاقُوهُ لَمَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ.
{ أَمْ عِنْدَهُمْ } أَعِنْدَهُمْ، { خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } أَيْ: نِعْمَةُ
رَبِّكَ يَعْنِي: مَفَاتِيحَ النُّبُوَّةِ يعطونها من شاؤوا، نَظِيرُهُ:
"أَهُمْ يقسمون رحمة 100/أ رَبِّكَ"( الزُّخْرُفُ -32 ) أَيْ نُبُوَّةَ
رَبِّكَ، { الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } [الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ، الْوَهَّابِ] (1)
وَهَبَ النُّبُوَّةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
{
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا
فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) }
{ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أَيْ: لَيْسَ
لَهُمْ ذَلِكَ، { فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } أَيْ: إِنِ ادَّعَوْا شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُهُمْ إِلَى
السَّمَاءِ، وَلْيَأْتُوا مِنْهَا بِالْوَحْيِ إِلَى مَنْ يَخْتَارُونَ، قَالَ
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرَادَ بِالْأَسْبَابِ: أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَطُرُقَهَا
مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَابٍ
أَوْ طَرِيقٍ فَهُوَ سَبَبُهُ، وَهَذَا أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ.
{ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ } أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ
جند هنالك، و"ما" صِلَةٌ، { مَهْزُومٌ } مَغْلُوبٌ، { مِنَ الْأَحْزَابِ
} أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْنَادِ، يَعْنِي: قُرَيْشًا.
قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جُنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ:
"سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ"( الْقَمَرُ-45 ) فَجَاءَ
تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ (1) ، و"هنالك" إِشَارَةٌ إِلَى بَدْرٍ
وَمَصَارِعِهِمْ، "مِنَ الْأَحْزَابِ" أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ
الْأَحْزَابِ، أَيْ: هُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا
وَتَجَمَّعُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّكْذِيبِ، فَقُهِرُوا وَأُهْلِكُوا. ثُمَّ
قَالَ مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ذُو الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، وَقِيلَ: أَرَادَ
ذُو الْمُلْكِ الشَّدِيدِ الثَّابِتِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هُمْ فِي عِزٍّ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ،
يُرِيدُونَ أَنَّهُ دَائِمٌ شَدِيدٌ.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ
فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ (2)
فَأَصْلُ هَذَا أَنَّ بُيُوتَهُمْ كَانَتْ تُثَبَّتُ بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذُو الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: ذُو
الْجُنُودِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَوُّونَ
أَمْرَهُ، وَيَشُدُّونَ مُلْكَهُ، كَمَا يُقَوِّي الْوَتَدُ الشَّيْءَ،
وَسُمِّيَتِ الْأَجْنَادُ أَوْتَادًا لِكَثْرَةِ الْمَضَارِبِ الَّتِي كَانُوا
يَضْرِبُونَهَا وَيُوَتِّدُونَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 130 وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 147 أيضا لعبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) البيت في غريب القرآن لابن قتيبة: 2 / 100 من "القرطين"، معاني
القرآن للنحاس: 60 / 85، البحر المحيط: 7 / 367.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: "الْأَوْتَادُ" جَمْعُ الْوَتَدِ، وَكَانَتْ
لَهُ أَوْتَادٌ يُعَذِّبُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى أَحَدٍ
مَدَّهُ مُسْتَلْقِيًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، وَشَدَّ كُلَّ يَدٍ وَرِجْلٍ
مِنْهُ إِلَى سَارِيَةٍ، وَيَتْرُكُهُ كَذَلِكَ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ
مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْأَرْضِ، يَشُدُّ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَرَأْسَهُ عَلَى
الْأَرْضِ بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ وَيَشُدُّهُ بِالْأَوْتَادِ
وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ وَأَرْسَانٌ وَمَلَاعِبُ
يُلْعَبُ عَلَيْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ (2) .
{ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ
هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) }
{ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ }
الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَأَعْلَمَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ
حِزْبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابِ.
{ إِنْ كُلٌّ } مَا كُلٌّ، { إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } وَجَبَ
عَلَيْهِمْ وَنَزَلَ بِهِمْ عَذَابِي. { وَمَا يَنْظُرُ } يَنْتَظِرُ { هَؤُلَاءِ
} يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، { إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } وَهِيَ نَفْخَةُ الصُّورِ،
{ مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ:
"فُوَاقٍ" بِضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا
لُغَتَانِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالضَّمُّ لُغَةُ تَمِيمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مِنْ رُجُوعٍ، أَيْ: مَا يُرَدُّ ذَلِكَ
الصَّوْتُ فَيَكُونَ لَهُ رُجُوعٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَظْرَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَثْنَوِيَّةٌ، أَيْ صَرْفٌ
وَرَدٌّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ مِيعَادُ عَذَابِهِمْ إِذَا
جَاءَتْ لَمْ تُرَدَّ وَلَمْ تُصْرَفْ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو
عُبَيْدَةَ: الْفَتْحُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالْإِفَاقَةِ، كَالْجَوَابِ مِنَ
الْإِجَابَةِ، ذَهَبَا بِهَا إِلَى إِفَاقَةِ الْمَرِيضِ مَنْ عِلَّتِهِ،
وَالْفُوَاقُ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تُحْلَبَ
النَّاقَةُ ثُمَّ تُتْرَكَ سَاعَةً حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ، فَمَا بَيْنَ
الْحَلْبَتَيْنِ فُوَاقٌ، أَيْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يُمْهِلُهُمْ بِذَلِكَ
الْقَدْرِ (3) .
وَقِيلَ: هَمَا أَيْضًا مُسْتَعَارَتَانِ مِنَ الرُّجُوعِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ
يَعُودُ إِلَى الضِّرْعِ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَإِفَاقَةُ الْمَرِيضِ:
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 386.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 130.
(3) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 400، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 2 / 179.
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
رُجُوعُهُ
إِلَى الصِّحَّةِ.
{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) }
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
{
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ
أَوَّابٌ (17) }
{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] (1) : يَعْنِي كِتَابَنَا،
و"القط" الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَحْصَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ فِي الْحَاقَّةِ: "فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ"( الْحَاقَّةُ -19 ) ، "وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ"( الْحَاقَّةُ-25 ) قَالُوا اسْتِهْزَاءً:
عَجِّلْ لَنَا كِتَابَنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ. [وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ] (2) : يَعْنُونَ حَظَّنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ
الَّتِي تَقُولُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي
عُقُوبَتَنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ.
[وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَهُ] (3) النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
"اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ" (4) ( الْأَنْفَالُ: 32 ) .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "قِطَّنَا" حِسَابَنَا، وَيُقَالُ لِكِتَابِ
الْحِسَابِ قِطٌّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: "الْقِطُّ": الْكِتَابُ
بِالْجَوَائِزِ (5) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [أَيْ عَلَى مَا
يَقُولُهُ] (6) الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِكَ { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا
الْأَيْدِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ
بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ،
وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 148 لعبد بن حميد.
(5) ذكر الطبري أكثرهذه الأقوال: 23 / 134-135 ثم قال مرجحا: "وأولى الأقوال
في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيل صكاكهم بحظوظهم من الخير
أو الشر-الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة-قبل يوم القيامة في الدنيا
استهزاء بوعيد الله".
(6) ساقط من "أ".
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
إِلَى
اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ
يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ" (1) .
وَقِيلَ: ذُو الْقُوَّةِ فِي الْمُلْكِ.
{ إِنَّهُ أَوَّابٌ } رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّوْبَةِ عَنْ
كُلِّ مَا يَكْرَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطِيعٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
مُسَبِّحٌ بِلُغَةِ الْحَبَشِ.
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
(18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) }
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ } كَمَا قَالَ: "وَسَخَّرْنَا مَعَ
دَاوُدَ الْجِبَالَ"( الْأَنْبِيَاءُ-79 ) { يُسَبِّحْنَ } بِتَسْبِيحِهِ، {
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.
وَالْإِشْرَاقُ: هُوَ أَنْ تُشْرِقَ الشمس ويتناهى ضوؤها وَفَسَّرَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بِصَلَاةِ الضُّحَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
الْحَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْرَاقِ" قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا أَدْرِي ما هي
100/ب حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِوَضُوءٍ
فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى، فَقَالَ: "يَا أَمَّ هَانِئٍ هَذِهِ
صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالطَّيْرَ } أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ، {
مَحْشُورَةً } مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ تُسَبِّحُ مَعَهُ، { كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ }
مُطِيعٌ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَتِهِ بِالتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: أَوَّابٌ مَعَهُ أَيْ
مُسَبِّحٌ.
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أَيْ: قَوَّيْنَاهُ بِالْحَرَسِ وَالْجُنُودِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا، كَانَ يَحْرُسُ
مِحْرَابَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التهجد، باب: من نام عند السحر: 3 / 16، ومسلم في الصيام، باب
النهي عن صوم الدهر برقم: (1159) 2 / 816، والمصنف في شرح السنة: 4 / 60.
(2) رواه ابن مردويه، والثعلبي، والواحدي، والطبراني، كلهم من رواية أبي بكر
الهذلي عن عطاء عن ابن عباس، حدثتني أم هانئ ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله
بن الحارث موقوفا على ابن عباس: 4 / 35 وفيه: ثم قال ابن عباس: هذه صلاة الإشراق.
قال ابن حجر: "هذا موقوف وهو أصح". قال الهيثمي: فيه حجاج بن نصير، ضعفه
ابن المديني وجماعة، ووثقه ابن معين وابن حبان. انظر: الكافي الشاف ص(142)، مجمع
الزوائد: 2 / 238.
أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ
بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي
الْفُرَاتِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1) أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعْدَى (2) عَلَى رَجُلٍ مِنْ
عُظَمَائِهِمْ عِنْدَ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ -أَنَّ هَذَا غَصَبَنِي بَقَرًا،
فَسَأَلَهُ دَاوُدُ فَجَحَدَ، فَقَالَ لِلْآخَرِ: الْبَيِّنَةُ؟ فَلَمْ يَكُنْ
لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي
أَمْرِكُمَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَ
الَّذِي اسْتَعْدَى (3) عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ أَعْجَلُ
حَتَّى أَتَثَبَّتَ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمْ يَفْعَلْ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ تَأْتِيَهُ
الْعُقُوبَةُ، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ
أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ؟ قَالَ دَاوُدُ: نَعَمْ
وَاللَّهِ لِأُنْفِذَنَّ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ
قَاتِلُهُ، قَالَ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى أُخْبِرَكَ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ
بِهَذَا الذَّنْبِ وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ وَالِدَ هَذَا فَقَتَلْتُهُ،
فَلِذَلِكَ أُخِذْتُ، فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ، فَاشْتَدَّتْ هَيْبَةُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ، وَاشْتَدَّ بِهِ مُلْكُهُ فَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ" (4) .
{ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } يَعْنِي: النُّبُوَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي
الْأُمُورِ، { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَانَ الْكَلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: عُلِّمَ
الْحُكْمَ وَالتَّبَصُّرَ فِي الْقَضَاءِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لِأَنَّ كَلَامَ الْخُصُومِ يَنْقَطِعُ
وَيَنْفَصِلُ بِهِ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "فَصْلُ الْخِطَابِ":
الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ (5) . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: 3 / 32 "ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها
مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن
أبي حاتم حديثا لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه،
ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد
تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق
أيضا" . راجع "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" لأبي شهبة
ص (264-270) وهو في الصحيح بغير هذا السياق، انظر: البخاري، كتاب التهجد: 3 / 51،
ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: 1 / 498.
(2) في "ب" ادعى.
(3) في "ب" ادعى.
(4) أخرجه الطبري: 23 / 138-139 وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 153 أيضا لعبد
بن حميد والحاكم.
(5) انظر الطبري: 23 / 140 معاني القرآن: 2 / 401.
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
وَرُوِيَ
عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ
حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: "أَمَّا بَعْدُ" (1) إِذَا
أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي كَلَامٍ آخَرَ، وَأَوَّلُ [مَنْ قَالَهُ دَاوُدُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ.
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ } ] (2) هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قِصَّةِ امْتِحَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ فِي سَبَبِهِ:
فَقَالَ قَوْمٌ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَنَّى يَوْمًا مِنَ
الْأَيَّامِ مَنْزِلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَسَأَلَ رَبَّهُ
أَنْ يَمْتَحِنَهُ كَمَا امْتَحَنَهُمْ، وَيُعْطِيَهُ مِنَ الْفَضْلِ مِثْلَ مَا
أَعْطَاهُمْ.
فَرَوَى السُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: عَنْ أَشْيَاخِهِمْ قَدْ
دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، قَالُوا: كَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَّمَ
الدَّهْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمًا
يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمًا لِنِسَائِهِ وَأَشْغَالِهِ، وَكَانَ
يَجِدُ فِيمَا يَقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى الْخَيْرَ كُلَّهُ وَقَدْ ذَهَبَ بِهِ
آبَائِي الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّهُمُ
ابْتُلُوا بِبَلَايَا لَمْ تُبْتَلَ بِهَا فَصَبَرُوا عَلَيْهَا، ابْتُلِيَ
إِبْرَاهِيمُ بِنُمْرُودَ وَبِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ (3)
بِالذَّبْحِ وَبِذَهَابِ بَصَرِهِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِالْحُزْنِ عَلَى
يُوسُفَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوِ ابْتَلَيْتَنِي بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتَهُمْ
صَبَرْتُ أَيْضًا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ مُبْتَلًى فِي شَهْرِ كَذَا
وَفِي يَوْمِ كَذَا فَاحْتَرِسْ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي
وَعَدَهُ اللَّهُ دَخَلَ دَاوُدُ مِحْرَابَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَجَعَلَ
يُصَلِّي وَيَقْرَأُ الزَّبُورَ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ
الشَّيْطَانُ قَدْ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ حَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ
لَوْنٍ حَسَنٍ -وَقِيلَ: كَانَ جَنَاحَاهَا مِنَ الدُّرِّ وَالزَّبَرْجَدِ
-فَوَقَعَتْ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَمَدَّ يَدَهُ
لِيَأْخُذَهَا وَيُرِيَهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَنْظُرُوا إِلَى قُدْرَةِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا قَصَدَ أَخْذَهَا طَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ
أَنْ تُؤَيِّسَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَامْتَدَّ إِلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا،
فَتَنَحَّتْ، فَتَبِعَهَا فَطَارَتْ حَتَّى وَقَعَتْ فِي كُوَّةٍ، فَذَهَبَ
لِيَأْخُذَهَا، فَطَارَتْ مِنَ الْكُوَّةِ، فَنَظَرَ دَاوُدُ أَيْنَ تَقَعُ
فَيَبْعَثُ مَنْ يَصِيدُهَا، فَأَبْصَرَ امْرَأَةً فِي بُسْتَانٍ عَلَى شَطِّ
بِرْكَةٍ لَهَا تَغْتَسِلُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. (4)
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: رَآهَا تَغْتَسِلُ عَلَى سَطْحٍ لَهَا فَرَأَى امْرَأَةً
مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ خَلْقًا، فَعَجِبَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِهَا وَحَانَتْ
مِنْهَا الْتِفَاتَةٌ فَأَبْصَرَتْ ظِلَّهُ فَنَقَضَتْ شَعْرَهَا فَغَطَّى
بَدَنَهَا، فَزَادَهُ ذَلِكَ إِعْجَابًا بِهَا فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ هِيَ
تَيْشَايِعُ بِنْتُ شَايِعَ امْرَأَةُ أُورِيَّا بْنِ حَنَانَا، وَزَوْجُهَا فِي
غَزَاةٍ بِالْبَلْقَاءِ مَعَ أَيُّوبَ بْنِ صُورِيَا ابْنِ أُخْتِ دَاوُدَ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 140 وانظر: معاني القرآن: 2 / 401.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
(4) هذه الروايات ضعيفة، راجع ما نقله السيوطي عن ابن حجر في الدر المنثور: 8 /
700 - 701.
وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَقْتُلَ أُورِيَّا وَيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ،
فَكَانَ ذَنْبُهُ هَذَا الْقَدْرَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ دَاوُدُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَيُّوبَ أَنِ
ابْعَثْ أُورِيَّا إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، وَكَانَ
مَنْ قُدِّمَ عَلَى التَّابُوتِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَرَاءَهُ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ يَسْتَشْهِدَ، فَبَعَثَهُ وَقَدَّمَهُ
فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَنْ
يَبْعَثَهُ إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَهُ فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ
إِلَى دَاوُدَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَى عَدُوِّ
كَذَا وَكَذَا أَشَدَّ مِنْهُ بَأْسًا، فَبَعَثَهُ فَقُتِلَ فِي الْمَرَّةِ
الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ،
فَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ
ذَنْبَ دَاوُدَ أَنَّهُ الْتَمَسَ مِنَ الرَّجُلِ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ
امْرَأَتِهِ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُمْ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَرْضَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا رَغْبَةٍ في الدنيا،
وازديادًا لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ
غَيْرِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِي سَبَبِ امْتِحَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَزَّأَ الدَّهْرَ أَجْزَاءً، يَوْمًا لِنِسَائِهِ، وَيَوْمًا
لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَوْمًا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يُذَاكِرُهُمْ وَيُذَاكِرُونَهُ وَيُبْكِيهِمْ
وَيُبْكُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَكَّرُوهُ فَقَالُوا:
هَلْ يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ يَوْمٌ لَا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا، فَأَضْمَرَ
دَاوُدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُطِيقُ ذَلِكَ (2) .
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِتْنَةَ النِّسَاءِ فَأَضْمَرَ دَاوُدُ في نفسه
101/أ أَنَّهُ إِنِ ابْتُلِيَ اعْتَصَمَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِبَادَتِهِ
أَغْلَقَ أَبْوَابَهُ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَكَبَّ
عَلَى التَّوْرَاةِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَمَامَةٌ
مِنْ ذَهَبٍ كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَكَانَ قَدْ بَعَثَ زَوْجَهَا عَلَى بَعْضِ
جُيُوشِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا إِذَا
سَارَ إِلَيْهِ قُتِلَ، فَفَعَلَ فَأُصِيبَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ.
قَالُوا: فَلَمَّا دَخَلَ دَاوُدُ بِامْرَأَةِ أُورِيَّا لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا
يَسِيرًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ فِي
يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمَا الْحَرَسُ
فَتَسَوَّرَا الْمِحْرَابَ عَلَيْهِ، فَمَا شَعَرَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَّا وَهُمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ، يُقَالُ: كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ } خَبَرُ الْخَصْمِ، {
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } صَعَدُوا وَعَلَوْا، يُقَالُ: تَسَوَّرْتُ
الْحَائِطَ وَالسُّورَ إِذَا عَلَوْتَهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْفِعْلَ وَهُمَا
اثْنَانِ لِأَنَّ الْخَصْمَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
وَالْجَمْعِ
__________
(1) انظر الطبري: 23 / 147.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 148، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 158 - 159 أيضا
لعبد بن حميد وابن المنذر.
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
وَالْمُذَكِّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ، لِأَنَّ مَعْنَى
الْجَمْعِ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ هَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا"( التَّحْرِيمُ -4 ) .
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) }
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } خَافَ مِنْهُمَا حِينَ هَجَمَا
عَلَيْهِ فِي مِحْرَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ،
{ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ } [أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ] (1) { بَغَى بَعْضُنَا
عَلَى بَعْضٍ } جِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَا
"بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ" وَهُمَا مَلَكَانِ لَا يَبْغِيَانِ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَرَأَيْتَ خَصْمَيْنِ بَغَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا
مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ الْبَغْيِ مِنْ أَحَدِهِمَا.
{ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ } أَيْ لَا تَجُرْ، يُقَالُ:
شَطَّ الرَّجُلُ شَطَطًا وَأَشَطَّ إِشْطَاطًا (2) إِذَا جَارَ فِي حُكْمِهِ،
وَمَعْنَاهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ
وَأَشَطَّتْ، إِذَا بَعُدَتْ { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } أَرْشِدْنَا
إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ وَالْعَدْلِ، فَقَالَ دَاوُدُ لَهُمَا: تَكَلَّمَا.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا: { إِنَّ هَذَا أَخِي } أَيْ: عَلَى دِينِي وَطَرِيقَتِي، {
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } [يَعْنِي امْرَأَةً] { وَلِيَ نَعْجَةٌ
وَاحِدَةٌ } أَيِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي بِالنَّعْجَةِ عَنِ
الْمَرْأَةِ (3) ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَعْرِيضٌ
لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّفْهِيمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِعَاجٌ وَلَا
بَغْيٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، أَوِ اشْتَرَى بَكْرٌ دَارًا،
وَلَا ضَرْبَ هُنَالِكَ وَلَا شِرَاءَ.
{ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ:
انْزِلْ لِي عَنْهَا. وَحَقِيقَتُهُ: ضُمَّهَا إِلَيَّ فَاجْعَلْنِي كَافِلَهَا،
وَهُوَ الَّذِي يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: طَلِّقْهَا
لِأَتَزَوَّجَهَا، .
{ وَعَزَّنِي } وَغَلَبَنِي { فِي الْخِطَابِ } أَيْ: فِي الْقَوْلِ. وَقِيلَ:
قَهَرَنِي لِقُوَّةِ مُلْكِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ
أَفْصَحَ مِنِّي، وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْغَلَبَةَ كَانَتْ لَهُ لِضَعْفِي فِي يَدِهِ،
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي وَهَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِأَمْرِ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) في أ: شطاطا.
(3) راجع "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" لأبي شهبة: ص(266 -
270).
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
دَاوُدَ
مَعَ أُورِيَّا زَوْجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ حَيْثُ كَانَ
لِدَاوُدَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلِأُورِيَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ
فَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ.
{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا
مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) }
{ قَالَ } دَاوُدُ { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ }
أَيْ: بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَكَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَوْلَ
صَاحِبِهِ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقِيلَ:
قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِرَافِ صَاحِبِهِ بِمَا يَقُولُ.
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ } الشُّرَكَاءِ، { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ } يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَإِنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا. { وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ } أَيْ: قَلِيلٌ هُمْ، و"ما" صِلَةٌ يَعْنِي: الصَّالِحِينَ
الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ قَلِيلٌ.
قَالُوا: فَلَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا دَاوُدُ نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ
فَضَحِكَ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
ابْتَلَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
{ وَظَنَّ دَاوُدُ } أَيْقَنَ وَعَلِمَ، { أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أَنَّمَا
ابْتَلَيْنَاهُ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا قَالَ: "هَذَا
أَخِي" الْآيَةَ، قَالَ دَاوُدُ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّ لِي
تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَعْجَةً وَلِأَخِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
آخُذَهَا مِنْهُ فَأُكْمِلَ نِعَاجِي مِائَةً، قَالَ: وَهُوَ كَارِهٌ، إذًا لَا
نَدَعُكَ وَإِنْ رُمْتَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ مِنْكَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا، يَعْنِي:
طَرَفَ الْأَنْفِ وَأَصْلَهُ وَالْجَبْهَةَ، فَقَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ
بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِأُورِيَّا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكَ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، فَلَمْ تَزَلْ تُعَرِّضُهُ لِلْقَتْلِ حَتَّى
قُتِلَ وَتَزَوَّجْتَ امْرَأَتَهَ، فَنَظَرَ دَاوُدُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَعَرَفَ
مَا وَقَعَ فِيهِ (1) .
وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِتَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّ
ذَنْبَ دَاوُدَ إِنَّمَا كَانَ أَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ أُورِيَّا
حَلَالًا لَهُ، فَاتَّفَقَ غَزْوُ أُورِيَّا وَتَقَدُّمُهُ فِي الْحَرْبِ
وَهَلَاكُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلُهُ دَاوُدَ لَمْ يَجْزَعْ عَلَيْهِ كَمَا
جَزِعَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ جُنْدِهِ إِذَا هَلَكَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ،
فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ
__________
(1) انظر الطبري: 23 / 147.
وَإِنْ
صَغُرَتْ فَهِيَ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقِيلَ: كَانَ ذَنْبُ دَاوُدَ أَنَّ أُورِيَّا كَانَ خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ
وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا غَابَ فِي غَزَاتِهِ خَطَبَهَا دَاوُدُ
فَتَزَوَّجَتْ مِنْهُ لِجَلَالَتِهِ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيَّا، فَعَاتَبَهُ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ هَذِهِ الْوَاحِدَةَ لِخَاطِبِهَا
وَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: وَمِمَّا يُصَدِّقُ مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ
مَا أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ أَنَّ
الْمُعَافَى بْنَ زَكَرِيَّا الْقَاضِيَ بِبَغْدَادَ أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى
الصيرفي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي
صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-حِينَ نَظَرَ
إِلَى الْمَرْأَةِ فَهَمَّ أَنْ يُجْمِعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى
صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ فَقَرِّبْ فُلَانًا بَيْنَ
يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ
وَبِمَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ
أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ
الْمَلِكَانِ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ وَمَكَثَ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى
رَأْسِهِ وَأَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ وهو يقول 101/ب فِي سُجُودِهِ:
رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ،
رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ، وَلَمْ تَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ
ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ بَعْدِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ
الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: إِنَّ الرَّبَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَغْفِرَ لِي الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ
عَدْلٌ لَا يَمِيلُ، فَكَيْفَ بِفُلَانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَقَالَ: يَا رَبِّ دَمِي الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَا
سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ شِئْتَ لَأَفْعَلَنَّ، فَقَالَ: نَعَمْ،
فَعَرَجَ جِبْرِيلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ
جِبْرِيلُ، فَقَالَ: سَأَلْتُ اللَّهَ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي
فِيهِ، فَقَالَ: قُلْ لِدَاوُدَ إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَيَقُولُ لَهُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ
يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ
عِوَضًا عَنْهُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ قَالُوا جَمِيعًا: إِنَّ دَاوُدَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ
فَقَضَى عَلَى نَفْسِهِ، فَتَحَوَّلَا فِي صُورَتَيْهِمَا فَعَرَجَا وَهُمَا
يَقُولَانِ: قَضَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّمَا عُنِيَ
بِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَّا
لِحَاجَةٍ وَلِوَقْتِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ،
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 150- 151 وعزاه السيوطي للحكيم الترمذي وابن أبي حاتم بسند
ضعيف، وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وابن لهيعة اختلط. وراجع: تفسير ابن كثير: 4 /
32، والإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة: (265 - 268).
ثُمَّ
يَعُودُ سَاجِدًا تَمَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ،
وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ حَوْلَ رَأْسِهِ وَهُوَ يُنَادِي رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ فِي سُجُودِهِ:
سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَبْتَلِي الْخَلْقَ بِمَا يَشَاءُ،
سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، سُبْحَانَ الْحَائِلِ بَيْنَ الْقُلُوبِ، سُبْحَانَ
خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنْتَ خَلَّيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوِّي إِبْلِيسَ
فَلَمْ أَقُمْ لِفِتْنَتِهِ إِذْ نَزَلَتْ بِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ،
إِلَهِي أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَكَانَ مِنْ سَابَقِ عِلْمِكَ مَا أَنَا إِلَيْهِ
صَائِرٌ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي الْوَيْلُ لِدَاوُدَ إِذَا كُشِفَ
عَنْهُ الْغِطَاءُ، فَيُقَالُ: هَذَا دَاوُدُ الْخَاطِئُ، سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ، إِلَهِي بِأَيِّ عَيْنٍ أَنْظُرُ إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الظَّالِمُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، [سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ] (1) إِلَهِي بِأَيِّ قَدَمٍ أَمْشِي أَمَامَكَ وَأَقُومُ بَيْنَ
يَدَيْكَ يَوْمَ تَزُولُ أَقْدَامُ الْخَاطِئِينَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ،
إِلَهِي مِنْ أَيْنَ يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْمَغْفِرَةَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
سَيِّدِهِ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنَا الَّذِي لَا أُطِيقُ حَرَّ
شَمْسِكَ، فَكَيْفَ أُطِيقُ حَرَّ نَارِكَ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي
أَنَا الَّذِي لَا أُطِيقُ صَوْتَ رَعْدِكَ، فَكَيْفَ أُطِيقُ سَوْطَ جَهَنَّمَ؟
سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي الْوَيْلُ لِدَاوُدَ مِنَ الذَّنْبِ
الْعَظِيمِ الَّذِي أَصَابَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي قَدْ تَعْلَمُ
سِرِّي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ عُذْرِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي
بِرَحْمَتِكَ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَلَا تُبَاعِدْنِي مِنْ رَحْمَتِكَ لِهَوَايَ،
سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مِنْ
ذُنُوبِي الَّتِي أَوْبَقَتْنِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، فَرَرْتُ إِلَيْكَ
بِذُنُوبِي وَاعْتَرَفْتُ بِخَطِيئَتِي فَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْقَانِطِينَ،
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ الدِّينِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ. (2)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا سَاجِدًا لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ
حَتَّى نَبَتَ الْمَرْعَى مِنْ دُمُوعِ عَيْنِهِ حَتَّى غَطَّى رَأْسَهُ،
فَنُودِيَ: يَا دَاوُدُ أَجَائِعٌ فَتُطْعَمُ؟ أَوْ ظَمْآنٌ فَتُسْقَى؟ أَوْ عَارٍ
فَتُكْسَى؟ فَأُجِيبُ فِي غَيْرِ مَا طَلَبَ، قَالَ: فَنَحَبَ نَحْبَةً هَاجَ
لَهَا الْعُودُ فَاحْتَرَقَ مِنْ حَرِّ جَوْفِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ
التَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ. (3)
قَالَ وَهْبٌ: إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ نِدَاءٌ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ:
يَا رَبِّ كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تَظْلِمُ أَحَدًا؟ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَبْرِ
أُورِيَّا فَنَادِهِ، فَأَنَا أُسْمِعُهُ نِدَاءَكَ فَتَحَلَّلَ مِنْهُ، قَالَ:
فَانْطَلَقَ وَقَدْ لَبِسَ الْمُسُوحَ حَتَّى جَلَسَ عِنْدَ قَبْرِهِ، ثُمَّ
نَادَى يَا أُورِيَّا فَقَالَ: لَبَّيْكَ مَنْ هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَنِّي
لَذَّتِي وَأَيْقَظَنِي؟ قَالَ: أَنَا دَاوُدُ، قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حَلٍّ مِمَّا كَانَ مِنِّي
إِلَيْكَ، قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْكَ إِلَيَّ؟ قَالَ: عَرَّضْتُكَ لِلْقَتْلِ:
قَالَ: عَرَّضْتَنِي لِلْجَنَّةِ فَأَنْتَ فِي حَلٍّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
يَا دَاوُدُ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي حَكَمٌ عَدْلٌ لَا أَقْضِي بِالْعَنَتِ، أَلَا
أَعْلَمْتَهُ أَنَّكَ قَدْ تَزَوَّجْتَ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ
فَنَادَاهُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ليس في الآيات الكريمة شيء من هذه الروايات، ولا في شيء من كتب الحديث
المعتمدة، وهي التي عليها المعول.
(3) انظر: الطبري: 23 / 150.
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
فَأَجَابَهُ
فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَلَيَّ لَذَّتِي؟ قَالَ: أَنَا دَاوُدُ،
قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ؟ قال: نَعَمْ وَلَكِنْ
إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ لِمَكَانِ امْرَأَتِكَ وَقَدْ تَزَوَّجْتُهَا،
قَالَ: فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ، وَدَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَعَاوَدَهُ فَلَمْ
يُجِبْهُ، فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ
نَادَى: الْوَيْلُ لِدَاوُدَ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِدَاوُدَ، سُبْحَانَ
خَالِقِ النُّورِ، وَالْوَيْلُ لِدَاوُدَ إِذَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ،
سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، الْوَيْلُ لِدَاوُدَ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لَهُ
حِينَ يُؤْخَذُ بِذَقَنِهِ فَيُدْفَعُ إِلَى الْمَظْلُومِ، سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ، الْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لَهُ حِينَ يُسْحَبُ عل وَجْهِهِ
مَعَ الْخَاطِئِينَ إِلَى النَّارِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، فَأَتَاهُ
نِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ: يَا دَاوُدُ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ ذَنْبَكَ وَرَحِمْتُ
بُكَاءَكَ وَاسْتَجَبْتُ دُعَاءَكَ وَأَقَلْتُ عَثْرَتَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ
كَيْفَ وَصَاحِبِي لَمْ يَعْفُ عَنِّي؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ أُعْطِيهِ مِنَ
الثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَمْ تَرَ عَيْنَاهُ وَلَمْ تَسْمَعْ
أُذُنَاهُ، فَأَقُولُ لَهُ: رَضِيَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ لِي
هَذَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ عَمَلِي؟ فَأَقُولُ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ عَبْدِي دَاوُدَ
فَأَسْتَوْهِبُكَ مِنْهُ فَيَهَبُكَ لِي، قَالَ: يَا رَبِّ الْآنَ قَدْ عَرَفْتُ
أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي (1) . فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا } أَيْ سَاجِدًا، عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ
عَنِ السُّجُودِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِيهِ انْحِنَاءٌ.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ
قَوْلِهِ: "وَخَرَّ رَاكِعًا" هَلْ يُقَالُ لِلرَّاكِعِ: خَرَّ؟ قُلْتُ:
لَا وَمَعْنَاهُ، فَخَرَّ بَعْدَمَا كَانَ رَاكِعًا، أَيْ: سَجَدَ { وَأَنَابَ }
أَيْ: رَجَعَ وَتَابَ.
{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
}
{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } يَعْنِي: ذَلِكَ الذَّنْبَ، { وَإِنَّ لَهُ } بَعْدَ
الْمَغْفِرَةِ { عِنْدَنَا } يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { لَزُلْفَى } لقربة ومكانة، {
وَحُسْنَ مَآبٍ } أَيْ: حُسْنُ مَرْجِعٍ وَمُنْقَلَبٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ (2) : إِنَّ دَاوُدَ لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ
بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَرْقَأُ دَمْعُهُ لَيْلًا وَلَا
نَهَارًا، وَكَانَ أَصَابَ الْخَطِيئَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَقَسَّمَ
الدَّهْرَ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ: يَوْمٌ لِلْقَضَاءِ
بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَوْمٌ لِنِسَائِهِ، وَيَوْمٌ يَسْبَحُ فِي
الْفَيَافِي وَالْجِبَالِ وَالسَّوَاحِلِ، وَيَوْمٌ يَخْلُو فِي دَارٍ لَهُ فِيهَا
أَرْبَعَةُ آلَافِ مِحْرَابٍ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ فَيَنُوحُ
مَعَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ
نِيَاحَتِهِ يخرج في 102/أ الْفَيَافِي فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ
فَيَبْكِي وَيَبْكِي مَعَهُ [الشَّجَرُ وَالرِّمَالُ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ
حَتَّى يَسِيلَ مِنْ دُمُوعِهِمْ مِثْلَ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى
الْجِبَالِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَيَبْكِي مَعَهُ] (3)
الْجِبَالُ وَالْحِجَارَةُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ، حَتَّى تَسِيلَ مِنْ
بُكَائِهِمُ الْأَوْدِيَةُ، ثُمَّ يَجِيءُ
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 7 / 160- 161.
(2) وخبر وهب أيضًا من الإسرائيليات في هذه القصة كما سبق.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
إِلَى
السَّاحِلِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَتَبْكِي مَعَهُ
الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْمَاءِ وَالسِّبَاعُ، فَإِذَا
أَمْسَى رَجَعَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ نَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ نَادَى مُنَادِيهِ
أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ نَوْحِ دَاوُدَ عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَحْضُرْ مَنْ
يُسَاعِدُهُ، فَيَدْخُلُ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْمَحَارِيبُ، فَيُبْسَطُ لَهُ
ثَلَاثَةُ فُرُشٍ مُسُوحٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا وَيَجِيءُ
أَرْبَعَةُ آلَافِ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ وَفِي أَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ،
فَيَجْلِسُونَ فِي تِلْكَ الْمَحَارِيبِ ثُمَّ يَرْفَعُ دَاوُدُ صَوْتَهُ
بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَرْفَعُ الرُّهْبَانُ مَعَهُ
أَصْوَاتَهُمْ، فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى تَغْرَقَ الْفُرُشُ مِنْ دُمُوعِهِ،
وَيَقَعَ دَاوُدُ فِيهَا مِثْلَ الْفَرْخِ يَضْطَرِبُ، فَيَجِيءُ ابْنُهُ
سُلَيْمَانُ فَيَحْمِلُهُ فَيَأْخُذُ دَاوُدُ مِنْ تِلْكَ الدُّمُوعِ بِكَفَّيْهِ،
ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا تَرَى،
فَلَوْ عُدِلَ بُكَاءُ دَاوُدَ بِبُكَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَعَدَلَهُ.
وَقَالَ وَهْبٌ: مَا رَفَعَ دَاوُدُ رَأْسَهُ حَتَّى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ:
أَوَّلُ أَمْرِكَ ذَنْبٌ وَآخِرُهُ مَعْصِيَةٌ، ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعَ
رَأْسَهُ فَمَكَثَ حَيَاتَهُ لَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِهِ،
وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بَلَّهُ بِدُمُوعِهِ.
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِثْلَ عَيْنَيْ دَاوُدَ كَقِرْبَتَيْنِ
تَنْطِفَانِ مَاءً، وَلَقَدْ خَدَّتِ الدُّمُوعُ فِي وَجْهِهِ كَخَدِيدِ الْمَاءِ
فِي الْأَرْضِ" (1) .
قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ قَالَ: يَا رَبِّ غَفَرْتَ لِي
فَكَيْفَ لِي أَنْ لَا أَنْسَى خَطِيئَتِي فَأَسْتَغْفِرَ مِنْهَا
وَلِلْخَاطِئِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَوَسَمَ اللَّهُ خَطِيئَتَهُ
فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، فَمَا رَفَعَ فِيهَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا بَكَى
إِذَا رَآهَا، وَمَا قَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ إِلَّا بَسَطَ رَاحَتَهُ
فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ لِيَرَوْا وَسْمَ خَطِيئَتِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ إِذَا
دَعَا فَاسْتَغْفَرَ لِلْخَاطِئِينَ قَبْلَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ دَاوُدُ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ لَا
يُجَالِسُ إِلَّا الْخَاطِئِينَ، يَقُولُ: تَعَالَوْا إِلَى دَاوُدَ الْخَاطِئِ
فَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ يَجْعَلُ
خُبْزَ الشَّعِيرِ الْيَابِسِ فِي قَصْعَةٍ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي عَلَيْهِ حَتَّى
يَبْتَلَّ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ يَذَرُ عَلَيْهِ الْمِلْحَ وَالرَّمَادَ
فَيَأْكُلُ وَيَقُولُ: هَذَا أَكْلُ الْخَاطِئِينَ، قَالَ: وَكَانَ دَاوُدُ قَبْلَ
الْخَطِيئَةِ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، فَلَمَّا
كَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مَا كَانَ، صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ وَقَامَ اللَّيْلَ
كُلَّهُ.
وَقَالَ ثَابِتٌ: كَانَ دَاوُدُ إذ ذَكَرَ عِقَابَ اللَّهِ تَخَلَّعَتْ
أَوْصَالُهُ، فَلَا يَشُدُّهَا إِلَّا الْأَسْرُ، وَإِذَا ذَكَرَ رَحْمَةَ اللَّهِ
تَرَاجَعَتْ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ الْوُحُوشَ وَالطَّيْرَ كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَى
قِرَاءَتِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ كَانَتْ لَا تُصْغِي
__________
(1) ضعيف أخرجه الإمام أحمد في الزهد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول. انظر:
الدر المنثور: 7 / 163.
إِلَى
قِرَاءَتِهِ، فَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا دَاوُدُ ذَهَبَتْ خَطِيئَتُكَ
بِحَلَاوَةِ صَوْتِكَ (1) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ
قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ
عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا" (2) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ
مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ
سَجَدْتَ؟ قَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: "وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ" إِلَى "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهِ"( الْأَنْعَامِ: 84 -90 ) وَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ
نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ
بْنِ خُنَيْسٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي يَزِيدَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ
شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ
تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا
وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا
تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
قَالَ لِي جَدُّكَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ [مِثْلَ
ذَلِكَ] (4) مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قول الشجرة" (5)
__________
(1) قال القاضي عياض في كتابه "الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى" 2 / 827 -
828 "لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا
ونقله المفسرون، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث
صحيح، والذي نص الله عليه في قصة داود: قوله (وظن داود أنما فتناه) وليس في قصة
داود وأوريا خبر ثابت .. وقال الداوودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن
بنبي محبة قتل مسلم".
(2) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب: سجدة (ص) 2 / 553.
(3) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة (ص) 8 / 544.
(4) ساقط من "ب".
(5) أخرجه الترمذي في الجمعة، أبواب السفر، باب: ما جاء في ما يقول في سجود القرآن:
3 / 181، قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا
الوجه"، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: سجود القرآن برقم
(1053) 1 / 334، والحاكم: 1 / 219 - 220 وصححه ووافقه الذهبي. قال الحافظ ابن حجر
في التلخيص 2 / 8 : "رواه الشافعي في الأم عن ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن
ابن عباس مرفوعا. ورواه في القديم عن سفيان عن عمر بن ذر عن أبيه قال: سجدها داود،
قال البيهقي: وروي من وجه آخر عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
موصولا وليس بالقوي. قلت: - ابن حجر - رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر
بن ذر موصولا، ورواه الدارقطني من حديث عبد الله بن بزيع عن عمر بن ذر بنحوه،
وأعله ابن الجوزي به، وقد توبع، وصححه ابن السكن، وفي البخاري عن عكرمة عن ابن
عباس (ص) ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يسجد فيها". وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (2710) .
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
.
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) }
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
{
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ }
تُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ بِأَمْرِنَا، { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ } بِالْعَدْلِ، { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أَيْ بِأَنْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِيَوْمِ
الْحِسَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ،
تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، أَيْ:
تَرَكُوا الْقَضَاءَ بِالْعَدْلِ.
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا لِثَوَابٍ وَلَا لِعِقَابٍ. { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا } يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الذين ظنوا أنهما خلقا لِغَيْرِ شَيْءٍ،
وَأَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ
} .
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ } قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّا
نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُعْطَوْنَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ (1) { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [أَيِ الْمُؤْمِنِينَ
كَالْكُفَّارِ] (2) وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُتَّقِينَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَا نَجْعَلُ ذَلِكَ.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 395.
(2) زيادة من "ب".
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
{
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) }
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ، { مُبَارَكٌ } كَثِيرٌ خَيْرُهُ وَنَفْعُهُ، { لِيَدَّبَّرُوا } أَيْ:
لِيَتَدَبَّرُوا، { آيَاتِهِ } وَلِيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
"لِتَدَبَّرُوا" بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ، قَالَ
الْحَسَنُ: تَدَبُّرُ آيَاتِهِ: اتِّبَاعُهُ { وَلِيَتَذَكَّرَ } لِيَتَّعِظَ، {
أُولُو الْأَلْبَابِ } .
قَوْلُهُ عز وجل: 102/ب { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ }.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: غَزَا سُلَيْمَانُ أَهْلَ دِمَشْقَ وَنَصِيبِينَ، فَأَصَابَ
مِنْهُمْ أَلْفَ فَرَسٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ أَلْفَ فَرَسٍ (1) .
وَقَالَ عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا أُخْرِجَتْ
مِنَ الْبَحْرِ لَهَا أَجْنِحَةٌ (2) .
[قَالُوا:] (3) فَصَلَّى سُلَيْمَانُ الصَّلَاةَ الْأُولَى، وَقَعَدَ عَلَى
كُرْسِيِّهِ وَهِيَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ تِسْعُمِائَةٍ،
فَتَنَبَّهَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِذَا الشَّمْسُ قَدْ غَرَبَتْ، وَفَاتَتْهُ
الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ هَيْبَةً لِلَّهِ،
فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا
وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَطَلَبًا
لِمَرْضَاتِهِ، حَيْثُ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا
لَهُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْنَا، كَمَا أُبِيحَ لَنَا ذَبْحُ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ، وَبَقِيَ مِنْهَا مِائَةُ فَرَسٍ، فَمَا بَقِيَ فِي أَيْدِي
النَّاسِ الْيَوْمَ مِنَ الْخَيْلِ يُقَالُ مِنْ نَسْلِ تِلْكَ الْمِائَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَلَمَّا عَقَرَ الْخَيْلَ أَبْدَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
خَيْرًا مِنْهَا وَأَسْرَعَ، وَهِيَ الرِّيحُ تَجْرِي بِأَمْرِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.
[وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا. وَعَنْ
عِكْرِمَةَ: كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ، لَهَا أَجْنِحَةٌ] (4) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ } و"الصَّافِنَاتُ": هِيَ الْخَيْلُ الْقَائِمَةُ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 396.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 177 لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب".
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
عَلَى
ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَقَامَتْ وَاحِدَةً عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ مِنْ يَدٍ أَوْ
رِجْلٍ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ يَصْفِنُ صُفُونًا: إِذَا قَامَ عَلَى
ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ، وَقَلَبَ أَحَدَ حَوَافِرِهِ. وَقِيلَ: الصَّافِنُ فِي
اللُّغَةِ الْقَائِمُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ
لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (1) .
أَيْ قِيَامًا وَالْجِيَادُ: الْخِيَارُ السِّرَاعُ، وَاحِدُهَا جَوَادٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْخَيْلَ
السَّوَابِقَ.
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
(33) }
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } أَيْ: آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ،
وَأَرَادَ بِالْخَيْرِ الْخَيْلَ، وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الرَّاءِ
وَاللَّامِ، فَتَقُولُ: خَتَلْتُ الرَّجُلَ وَخَتَرْتُهُ، أَيْ: خَدَعْتُهُ،
وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ،
الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ (2) ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حُبُّ الْخَيْرِ يَعْنِي:
الْمَالَ، فَهِيَ الْخَيْلُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ. { عَنْ ذِكْرِ رَبِّي }
يَعْنِي: عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ { حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ } أَيْ: تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ (3) اسْتَتَرَتْ بِمَا
يَحْجُبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ، يُقَالُ: الْحَاجِبُ جَبَلٌ دُونَ قَافٍ،
بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ.
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } أَيْ: رُدُّوا الْخَيْلَ عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا، { فَطَفِقَ
مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَفِقَ يَفْعَلُ،
مِثْلُ: مَا زَالَ يَفْعَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ: الْقَطْعُ، فَجَعَلَ
يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٍ، وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ (4) وَكَانَ
ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ، لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَقْدَمُ عَلَى
مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَتُوبُ عَنْ ذَنْبٍ بِذَنْبٍ آخَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَنِّفْهُ اللَّهُ عَلَى عَقْرِ
الْخَيْلِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ فَرِيضَةِ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في قيام الرجل للرجل: 8 / 92 - 93، والترمذي في
الأدب، باب: ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل: 8 / 30 وقال: "هذا حديث حسن"
والإمام أحمد: 4 / 100 والطبراني في الكبير: 19 / 351 - 352 وابن أبي شيبة في
المصنف: 8 / 586، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1332.
(2) أخرج البخاري: 6 / 54، ومسلم: 3 / 1494 عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البركة في نواصي الخيل" وأخرج مسلم: 3 /
1943 عن جرير رضي الله عنه - مرفوعا -: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم
القيامة: الأجر والغنيمة".
(3) قال الحافظ ابن حجر: الثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير من الصحابة ومن بعدهم
أن الضمير المؤنث في قوله: ( ردوها عليَّ ) للخيل والله أعلم.
(4) انظر: الطبري: 23 / 156 وزاد المسير: 7 / 131، معاني القرآن للفراء: 2 / 405،
القرطين لابن مطرف: 2 / 102، معاني القرآن للنحاس: 6 / 112، تفسير ابن كثير: 4 /
35.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَبَحَهَا ذَبْحًا وَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا، وَكَانَ
الذَّبْحُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَتِهِ (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَبَسَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَوَى
سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِكَيِّ الصَّدَقَةِ (2) .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ سُوقَهَا
وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ، يَكْشِفُ الْغُبَارَ عَنْهَا حُبًّا لَهَا وَشَفَقَةً
عَلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ (3) وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: "رُدُّوهَا
عَلَيَّ" يَقُولُ سُلَيْمَانُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ: "رُدُّوهَا عَلَيَّ"
يَعْنِي: الشَّمْسَ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ لِجِهَادِ عَدُوٍّ، حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ (34) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } اخْتَبَرْنَاهُ
وَابْتَلَيْنَاهُ بِسَلْبِ مُلْكِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَدِينَةٍ فِي
جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا صَيْدُونَ، بِهَا مَلِكٌ
عَظِيمُ الشَّأْنِ، لَمْ يَكُنْ للناس إليه سبيلا لِمَكَانِهِ فِي الْبَحْرِ،
وَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَى سُلَيْمَانَ فِي مُلْكِهِ سُلْطَانًا لَا يَمْتَنِعُ
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ، إِنَّمَا يَرْكَبُ إِلَيْهِ الرِّيحَ،
فَخَرَجَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ،
حَتَّى نَزَلَ بِهَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا
وَاسْتَوْلَى وَاسْتَفَاءَ وَسَبَى مَا فِيهَا، وَأَصَابَ فِيمَا أَصَابَ بِنْتًا
لِذَلِكَ الْمَلِكِ، يُقَالُ لَهَا: جَرَادَةُ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا حُسْنًا
وَجَمَالًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَدَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَتْ
عَلَى جَفَاءٍ مِنْهَا وَقِلَّةِ فِقْهٍ، وَأَحَبَّهَا حُبًّا لَمْ يُحِبَّهُ
شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتْ عَلَى مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ لَا يَذْهَبُ
حُزْنُهَا وَلَا يَرْقَأُ دَمْعُهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ
لَهَا: وَيْحَكِ مَا هَذَا الْحُزْنُ الَّذِي لَا يَذْهَبُ، وَالدَّمْعُ الَّذِي
لَا يَرْقَأُ؟ قَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَذْكُرُهُ وَأَذْكُرُ مُلْكَهُ وَمَا كَانَ
فِيهِ وَمَا أَصَابَهُ فَيُحْزِنُنِي ذَلِكَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَدْ
أَبْدَلَكِ اللَّهُ بِهِ مُلْكًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِهِ، وَسُلْطَانًا هُوَ
أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَهَدَاكِ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ
__________
(1) انظر: معاني القرآن للنحاس: 6 / 113.
(2) رجحه أبو حيان في البحر المحيط: 7 / 396 وقال: هذا القول هو الذي يناسب مناصب
الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة
للأنبياء.
(3) رواه الطبري 23 / 156 عن ابن عباس ورجحه قائلا: وهذا القول أشبه بتأويل الآية،
لأن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن- إن شاء الله - ليعذب
حيوانًا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر
إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها.
ذَلِكَ
كُلِّهِ، قَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَكِنِّي إِذَا ذَكَرْتُهُ أَصَابَنِي
مَا تَرَى مِنَ الْحُزْنِ، فَلَوْ أَنَّكَ أَمَرْتَ الشَّيَاطِينَ فَصَوَّرُوا
صُورَتَهُ فِي دَارِي الَّتِي أَنَا فِيهَا أَرَاهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
لَرَجَوْتُ أَنْ يُذْهِبَ ذَلِكَ حُزْنِي، وَأَنْ يُسَلِّيَ عَنِّي بَعْضَ مَا
أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ، فَقَالَ: مَثِّلُوا
لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فِي دَارِهَا حَتَّى لَا تُنْكِرَ مِنْهُ شَيْئًا،
فَمَثَّلُوهُ لَهَا حَتَّى نَظَرَتْ إِلَى أَبِيهَا بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا
رُوحَ فِيهِ، فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ حِينَ صَنَعُوهُ فَأَزَّرَتْهُ وَقَمَّصَتْهُ
وَعَمَّمَتْهُ وَرَدَّتْهُ بِمِثْلِ ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَ يَلْبَسُ، ثُمَّ
كَانَ إِذَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ [مِنْ دَارِهَا] (1) تَغْدُو عَلَيْهِ فِي
وَلَائِدِهَا حَتَّى تَسْجُدَ لَهُ، وَيَسْجُدْنَ لَهُ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بِهِ
فِي مُلْكِهِ، وَتَرُوحُ كُلَّ عَشِيَّةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَسُلَيْمَانُ لَا
يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَبَلَغَ ذَلِكَ آصَفَ بْنَ
بَرَخْيَا، وَكَانَ صِدِّيقًا، وَكَانَ لَا يُرَدُّ عَنْ أَبْوَابِ سُلَيْمَانَ،
أَيَّ سَاعَةٍ أَرَادَ دُخُولَ شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ دَخَلَ، حَاضِرًا كَانَ
سُلَيْمَانُ أَوْ غَائِبًا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَبُرَ
سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَنَفِدَ عُمْرِي، وَقَدْ حَانَ مِنِّي الذَّهَابُ،
فَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَقُومَ مَقَامًا قَبْلَ الْمَوْتِ أَذْكُرُ فِيهِ مَنْ
مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأُثْنِي عَلَيْهِمْ بِعِلْمِي فِيهِمْ،
وَأُعَلِّمُ النَّاسَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ
أُمُورِهِمْ، فَقَالَ: افْعَلْ، فَجَمْعَ لَهُ سُلَيْمَانُ النَّاسَ، فَقَامَ
فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَأَثْنَى عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا فِيهِ، فَذَكَرَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ
حَتَّى انْتَهَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: مَا أَحْلَمَكَ في صغرك، 103/أ
وَأَوْرَعَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَفْضَلَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَحْكَمَ أَمْرِكَ فِي
صِغَرِكَ، وَأَبْعَدَكَ مِنْ كُلِّ مَا تَكْرَهُ فِي صِغَرِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ،
فَوَجَدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى
مَلَأَهُ غَضَبًا، فَلَمَّا دَخَلَ سُلَيْمَانُ دَارَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ،
فَقَالَ: يَا آصَفُ ذَكَرْتَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَأَثْنَيْتَ
عَلَيْهِمْ خَيْرًا فِي كُلِّ زَمَانِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَمْرِهِمْ،
فَلَمَّا ذَكَرْتَنِي جَعَلْتَ تُثْنِي عَلَيَّ بِخَيْرٍ فِي صِغَرِي، وَسَكَتَّ
عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي فِي كِبَرِي؟ فَمَا الَّذِي أَحْدَثْتُ فِي
آخِرِ أَمْرِي؟ فَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيُعْبَدُ فِي دَارِكَ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فِي هَوَى امْرَأَةٍ، فَقَالَ: فِي دَارِي؟ فَقَالَ: فِي
دَارِكَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَقَدْ عَرَفْتُ
أَنَّكَ مَا قُلْتَ الَّذِي قَلْتَ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ بَلَغَكَ، ثُمَّ رَجَعَ
سُلَيْمَانُ إِلَى دَارِهِ وَكَسَرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ، وَعَاقَبَ تِلْكَ
الْمَرْأَةَ وَوَلَائِدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِثِيَابِ الطُّهْرَةِ فَأُتِيَ بِهَا
وَهِيَ ثِيَابٌ لَا يَغْزِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، وَلَا يَنْسِجُهَا إِلَّا
الْأَبْكَارُ، وَلَا يَغْسِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، لَمْ تَمْسَسْهَا امْرَأَةٌ
قَدْ رَأَتِ الدَّمَ، فَلَبِسَهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ
وَحْدَهُ، فَأَمَرَ بِرَمَادٍ فَفُرِشَ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ وَتَمَعَّكَ فِيهِ
بِثِيَابِهِ تَذَلُّلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَضَرُّعًا إِلَيْهِ يَبْكِي
وَيَدْعُو، وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا كَانَ فِي دَارِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
يَوْمَهُ حَتَّى أَمْسَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْ وَلَدٍ
يُقَالُ لَهَا الْأَمِينَةُ، كَانَ إِذَا دَخَلَ مَذْهَبَهُ أَوْ أَرَادَ
إِصَابَةَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَضَعَ خَاتَمَهُ عِنْدَهَا حَتَّى
يَتَطَهَّرَ، وَكَانَ لَا يَمَسُّ خَاتَمَهُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَكَانَ
مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ فَوَضَعَهُ يَوْمًا عِنْدَهَا، ثُمَّ دَخَلَ مَذْهَبَهُ
فَأَتَاهَا الشَّيْطَانُ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَاسْمُهُ صَخْرٌ، عَلَى صُورَةِ
سُلَيْمَانَ لَا تُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: خَاتَمِي أَمِينَةُ!
فَنَاوَلَتْهُ إِيَّاهُ، فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى
سَرِيرِ سُلَيْمَانَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ،
وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَأَتَى الْأَمِينَةَ وَقَدْ غُيِّرَتْ حَالُهُ،
وَهَيْئَتُهُ عِنْدَ كُلِّ مَنْ رَآهُ، فَقَالَ: يَا أَمِينَةُ خَاتَمِي، قَالَتْ:
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَتْ: كَذَبْتَ فَقَدْ
جَاءَ سُلَيْمَانُ فَأَخَذَ خَاتَمَهُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ،
فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّ خَطِيئَتَهُ قَدْ أَدْرَكَتْهُ، فَخَرَجَ فَجَعَلَ
يَقِفُ عَلَى الدَّارِ مِنْ دُوْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ: أَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، فَيَحْثُونَ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَسُبُّونَهُ،
وَيَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ يَزْعُمُ
أَنَّهُ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى الْبَحْرِ،
فَكَانَ يَنْقُلُ الْحِيتَانَ لِأَصْحَابِ الْبَحْرِ إِلَى السُّوقِ فَيُعْطُونَهُ
كُلَّ يَوْمٍ سَمَكَتَيْنِ، فَإِذَا أَمْسَى بَاعَ إِحْدَى سَمَكَتَيْهِ
بِأَرْغِفَةٍ وَشَوَى الْأُخْرَى فَأَكَلَهَا، فَمَكَثَ بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ
صَبَاحًا عِدَّةَ مَا كَانَ عُبِدَ الْوَثَنُ فِي دَارِهِ، فَأَنْكَرَ آصَفُ
وَعُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُكْمَ عَدُوِّ اللَّهِ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ
الْأَرْبَعِينَ، فَقَالَ آصَفُ: يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ رَأَيْتُمُ
اخْتِلَافَ حُكْمِ ابْنِ دَاوُدَ مَا رَأَيْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:
أَمْهِلُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ فَأَسْأَلُهُنَّ فَهَلْ
أَنْكَرْتُنَّ مِنْهُ فِي خَاصَّةِ أَمْرِهِ مَا أَنْكَرْنَاهُ فِي عَامَّةِ
أَمْرِ النَّاسِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالَ: وَيَحَكُنَّ
هَلْ أَنْكَرْتُنَّ مِنْ أَمْرِ ابْنِ دَاوُدَ مَا أَنْكَرْنَا؟ فَقُلْنَ:
أَشَدُّهُ مَا يَدَعُ مِنَّا امْرَأَةً فِي دَمِهَا وَلَا يَغْتَسِلُ مِنَ
الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِنَّ هَذَا
لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَا
فِي الْخَاصَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْعَامَّةِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُونَ
صَبَاحًا طَارَ الشَّيْطَانُ عَنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَقَذَفَ
الْخَاتَمَ فِيهِ، فَبَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ فَأَخَذَهَا بَعْضُ الصَّيَّادِينَ،
وَقَدْ عَمِلَ لَهُ سُلَيْمَانُ صَدْرَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ
الْعَشِيُّ أَعْطَاهُ سَمَكَتَيْهِ وَأَعْطَاهُ السَّمَكَةَ الَّتِي أَخَذَتِ
الْخَاتَمَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بِسَمَكَتَيْهِ، فَبَاعَ الَّتِي لَيْسَ فِي
بَطْنِهَا الْخَاتَمُ بِالْأَرْغِفَةِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى السَّمَكَةِ الْأُخْرَى
فَبَقَرَهَا لِيَشْوِيَهَا فَاسْتَقْبَلَهُ خَاتَمُهُ فِي جَوْفِهَا، فَأَخَذَهُ
فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ، وَوَقَعَ سَاجِدًا، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ
وَالْجِنُّ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَعَرَفَ الَّذِي كَانَ قَدْ دَخَلَ
عَلَيْهِ لِمَا كَانَ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ
وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَقَالَ: ائْتُونِي
بِصَخْرٍ فَطَلَبَتْهُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى أَخَذَتْهُ، فأتي به وجاؤوا لَهُ
بِصَخْرَةٍ فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَهُ فِيهَا ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى،
ثُمَّ أَوْثَقَهَا بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي
الْبَحْرِ. هَذَا حَدِيثُ وَهْبٍ (2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى نِسَائِهِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ سَبَبُ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ
مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ هِيَ
آثَرُ نِسَائِهِ وَآمَنُهُنَّ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَأْتَمِنُهَا عَلَى خَاتَمِهِ
إِذَا أَتَى حَاجَتَهُ، فَقَالَتْ لَهُ يَوْمًا: إِنَّ أَخِي كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ فُلَانٍ خُصُومَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَ لَهُ إِذَا جَاءَكَ،
فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَابْتُلِيَ بِقَوْلِهِ، فَأَعْطَاهَا خَاتَمَهُ
وَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ (3) فَأَخَذَهُ
وَجَلَسَ عَلَى مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَسَأَلَهَا خَاتَمَهُ فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ قَالَ: لَا وَخَرَجَ
مَكَانَهُ وَمَكَثَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
فَأَنْكَرَ النَّاسُ حُكْمَهُ، فَاجْتَمَعَ قُرَّاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَعُلَمَاؤُهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ
أَنْكَرْنَا هَذَا، فَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، فَبَكَى
النِّسَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِ، ونشروا التوراة
فقرؤوها فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى شُرْفَةٍ،
وَالْخَاتَمُ مَعَهُ، ثُمَّ طَارَ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى الْبَحْرِ، فَوَقَعَ
الْخَاتَمُ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، وَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ
حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَيَّادٍ مِنْ صَيَّادِي الْبَحْرِ وَهُوَ جَائِعٌ قَدِ
اشْتَدَّ جُوعُهُ، فَاسْتَطْعَمَهُ مِنْ صَيْدِهِ، وَقَالَ: إِنِّي أَنَا
سُلَيْمَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ
يَغْسِلُ دَمَهُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَلَامَ الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمُ
الَّذِي ضَرَبَهُ، وَأَعْطَوْهُ سَمَكَتَيْنِ مِمَّا قَدْ مَذِرَ (4) عِنْدَهُمْ،
فَشَقَّ بُطُونَهُمَا وَجَعَلَ يَغْسِلُهُمَا، فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِ
إِحْدَاهُمَا، فَلَبِسَهُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مُلْكَهُ وَبَهَاءَهُ.
وَحَامَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ، فَقَامُوا
يَعْتَذِرُونَ مِمَّا صَنَعُوا، فَقَالَ: مَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى عُذْرِكُمْ وَلَا
أَلُومُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، هَذَا أَمْرٌ كَائِنٌ لَا بُدَّ
مِنْهُ،ثُمَّ جَاءَ حَتَّى أَتَى مَمْلَكَتَهُ وَأَمَرَ حَتَّى أُتِيَ
بِالشَّيْطَانِ الَّذِي أَخَذَ خَاتَمَهُ وَجَعَلَهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ حَدِيدٍ،
وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ بِقُفْلٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ، وَأَمَرَ بِهِ
فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ حَيٌّ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةِ. (5)
وفي بعض 103/ب الرِّوَايَاتِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا افْتُتِنَ سَقَطَ
الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَ فِيهِ مُلْكُهُ فَأَعَادَهُ سُلَيْمَانُ إِلَى
يَدِهِ فَسَقَطَ فَأَيْقَنَ سُلَيْمَانُ بِالْفِتْنَةِ، فَأَتَى آصَفُ فَقَالَ
لِسُلَيْمَانَ: إِنَّكَ مَفْتُونٌ بِذَنْبِكَ، وَالْخَاتَمُ لَا يَتَمَاسَكُ فِي
يَدِكَ [أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا] فَفِرَّ إِلَى اللَّهِ تَائِبًا، فَإِنِّي
أَقُومُ مَقَامَكَ، وَأَسِيرُ بِسِيرَتِكَ إِلَى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْكَ،
فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِبًا إِلَى رَبِّهِ، وَأَخَذَ آصَفُ الْخَاتَمَ،
فَوَضَعَهُ فِي أُصْبُعِهِ فَثَبَتَ فَهُوَ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) قال الحافظ ابن كثير: 4 / 37 بعد أن أورد عدة روايات ومنها عن ابن عباس رضي الله
عنهما: "ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما - إن صح عنه -
من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة السلام، فالظاهر
أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن
المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان
بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة
مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين
وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب".
(3) وقال القاضي عياض في "الشفاء": (2 / 836): "ولا يصح ما نقله
الأخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه،
لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا؛ وقد عصم الأنبياء من مثله".
(4) في القاموس: مذرت البيضة فهي مذرة: فسدت ، والمذرة: القذرة. وفي "أ"
جاءت الكلمة هكذا (مذلي).
(5) راجع التعليق السابق.
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
الْجَسَدُ
الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ
جَسَدًا" فَأَقَامَ آصَفُ فِي مُلْكِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ يَوْمًا إِلَى أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ، فَجَلَسَ
عَلَى كُرْسِيِّهِ وَأَعَادَ الْخَاتَمَ فِي يَدِهِ فَثَبَتَ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: احْتَجَبَ سُلَيْمَانُ عَنِ
النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ احْتَجَبْتَ عَنِ
النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ فَلَمْ تَنْظُرْ فِي أُمُورِ عِبَادِي؟ فَابْتَلَاهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَذَكَرَ حَدِيثَ الْخَاتَمِ وَأَخْذَ الشَّيْطَانِ
إِيَّاهُ كَمَا رَوَيْنَا.
وَقِيلَ: قَالَ سُلَيْمَانُ يَوْمًا لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي
كُلِّهِنَّ، فَتَأْتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ بِابْنٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَجَامَعَهُنَّ فَمَا خَرَجَ لَهُ مِنْهُنَّ إِلَّا شِقُّ
مَوْلُودٍ، فَجَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ فَأَلْقَتْهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ،
أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً
كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ
صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ
عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ
بِشَقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أجمعون" (2)
وقال طاووس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ،
قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ.
وَأَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْجَسَدَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ
هُوَ صَخْرٌ الْجِنِّيُّ (3) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } أَيْ رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمَّا رَجَعَ.
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) }
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي } قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يُرِيدُ هَبْ لِي مُلْكًا لَا تَسْلُبْنِيهِ
فِي آخر عمري، وتعطيه غَيْرِي كما استلبته في ما مَضَى مِنْ عُمُرِي.
{ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } قِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آيَةً
لِنُبُوَّتِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى رِسَالَتِهِ، وَمُعْجِزَةً.
__________
(1) قال ابن الجوزي في زاد المسير: 7 / 133: وهذا لا يصح، ولا ذكره من يوثق به.
(2) أخرجه البخاري في الأيمان، باب: كيف كانت يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ 11 / 524، ومسلم في الأيمان، باب الاستثناء برقم (1654) 3 / 1276،
والمصنف في شرح السنة: 1 / 147.
(3) راجع تعليق (1) المتقدم وما قاله ابن الجوزي فيه.
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
وَقِيلَ:
سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ حَيْثُ أَجَابَ اللَّهُ
دُعَاءَهُ وَرَدَّ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَزَادَ فِيهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا وَلَكِنَّهُ
أَرَادَ بِقَوْلِ: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" تَسْخِيرَ
الرِّيَاحِ وَالطَّيْرِ وَالشَّيَاطِينِ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ
صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ
عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ
كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ "رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا" (1) .
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(39) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
} لَيِّنَةً لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، { حَيْثُ أَصَابَ } [حَيْثُ أَرَادَ] (2)
تَقُولُ الْعَرَبُ: أَصَابَ الصَّوَابَ [فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ، تُرِيدُ أَرَادَ
الصَّوَابَ] (3) .
{ وَالشَّيَاطِينَ } أَيْ: وَسَخَّرَنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ، { كُلَّ بَنَّاءٍ }
يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ، { وَغَوَّاصٍ }
يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ اللَّآلِئَ مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ
اللُّؤْلُؤَ مِنَ الْبَحْرِ.
{ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } مَشْدُودِينَ فِي الْقُيُودِ، أَيْ:
وَسَخَّرْنَا لَهُ آخَرِينَ، يَعْنِي: مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، سُخِّرُوا لَهُ
حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ.
{ هَذَا عَطَاؤُنَا } [أَيْ قُلْنَا لَهُ هَذَا عَطَاؤُنَا] (4) { فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الْمَنُّ: هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا
يَسْتَثْنِيهِ، مَعْنَاهُ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَأَمْسِكْ عَمَّنْ شِئْتَ،
بِغَيْرِ حِسَابٍ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ.
قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً إِلَّا عَلَيْهِ
تَبِعَةٌ، إِلَّا سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ أَعْطَى أُجَرُ، وَإِنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله تعالى: "ووهبنا لداود سليمان نعم
العبد إنه أواب" 6 / 457 - 458، ومسلم في المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في
أثناء الصلاة والتعوذ منه، وجواز العمل القليل برقم: (541) 1 / 384 والمصنف في شرح
السنة: 3 / 269.
(2) ساقط من "ب".
(3) زيادة من "ب".
(4) ساقط من "ب".
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
لَمْ
يُعْطِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ، يَعْنِي: خَلِّ مَنْ شِئْتَ
مِنْهُمْ، وَأَمْسِكْ مَنْ شِئْتَ فِي وِثَاقِكَ، لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِيمَا
تَتَعَاطَاهُ.
{ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
(41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) }
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا
تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) }
{ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } بِمَشَقَّةٍ وَضُرٍّ.
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "بِنُصُبٍ" بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ،
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ النُّونِ
وَسُكُونِ الصَّادِ، وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: بِنُصْبٍ فِي الْجَسَدِ، وَعَذَابٍ فِي الْمَالِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ أَيُّوبَ وَمُدَّةَ بَلَائِهِ فِي سُورَةِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (1) .
فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ بَلَائِهِ قِيلَ لَهُ: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } اضْرِبْ
بِرِجْلِكَ الْأَرْضَ فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، { هَذَا مُغْتَسَلٌ }
فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ
بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً، فَرَكَضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ
الْأُخْرَى، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى، مَاءٌ عَذْبٌ بَارِدٌ، فَشَرِبَ مِنْهُ،
فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِبَاطِنِهِ، فَقَوْلُهُ: "هَذَا مُغْتَسَلٌ
بَارِدٌ" يَعْنِي: الَّذِي اغْتَسَلَ مِنْهُ، { وَشَرَابٌ } أَرَادَ الَّذِي
شَرِبَ مِنْهُ.
{ وَوَهْبنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا } وَهُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ
الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ، { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } فِي يَمِينِكَ،
وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَمَرَهُ
اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ،
وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً
__________
(1) راجع فيما سبق تفسير الآيتين (83 - 84) من سورة الأنبياء. 5 / 338 وما بعدها.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
وَاحِدَةً،
{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } .
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا
ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) }
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "عَبْدَنَا" عَلَى
التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "عِبَادَنَا" بِالْجَمْعِ، {
إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أُولِي الْقُوَّةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى (1) { وَالْأَبْصَارِ } فِي
الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، أَيِ: الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ
وَمُجَاهِدٌ: أُعْطَوْا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَبَصَرًا فِي الدِّينِ (2) .
{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ } اصْطَفَيْنَاهُمْ { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ }
قرأ 104/أ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: "بِخَالِصَةِ" مُضَافًا، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّنْوِينِ، فَمَنْ أَضَافَ فَمَعْنَاهُ: أَخْلَصْنَاهُمْ
بِذِكْرِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا لَهَا، وَالذِّكْرَى: بِمَعْنَى
الذِّكْرِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعْنَا مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ
الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا، وَأَخْلَصْنَاهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وَذِكْرِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُخْلَصُوا بِخَوْفِ الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ (3) .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فَمَعْنَاهُ: بِخُلَّةٍ
خَالِصَةٍ، وَهِيَ ذِكْرَى الدَّارِ، فَيَكُونُ "ذِكْرَى" الدَّارِ
بَدَلًا عَنِ الْخَالِصَةِ.
وَقِيلَ: "أَخْلَصْنَاهُمْ": جَعَلْنَاهُمْ مُخْلَصِينَ، بِمَا
أَخْبَرْنَا عَنْهُمْ مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ.
__________
(1) انظر: الطبري: 23 / 170.
(2) أخرجه االطبري: 23 / 170، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 198 أيضا لعبد
الرزاق وعبد بن حميد.
(3) ذكرهذه الأقوال ابن كثير في تفسيره: 4 / 41.
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
{
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ
} أَيْ: هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرٌ، أَيْ: شَرَفٌ، وَذِكْرٌ جَمِيلٌ
تُذْكَرُونَ بِهِ { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } .
{ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا
يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ
هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ
مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) }
{ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } أَيْ أَبْوَابُهَا
[مُفَتَّحَةً لَهُمْ] (1) .
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ } مُسْتَوَيَاتُ الْأَسْنَانِ،
بَنَاتُ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَاحِدُهَا تَرْبٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ
قَالَ: مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ وَلَا يَتَغَايَرْنَ (2) .
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يُوعَدُونَ"
بِالْيَاءِ هَاهُنَا، وَفِي "ق" أَيْ: مَا يُوعَدُ الْمُتَّقُونَ،
وَافَقَ أَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، أَيْ:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ، { لِيَوْمِ الْحِسَابِ } [أَيْ فِي
يَوْمِ الْحِسَابِ] (3) .
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } فَنَاءٍ وَانْقِطَاعٍ.
{ هَذَا } أَيِ الْأَمْرُ هَذَا { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } لِلْكَافِرِينَ {
لَشَرَّ مَآبٍ } مَرْجِعٍ .
{ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } يَدْخُلُونَهَا (4) { فَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
{ هَذَا } أَيْ هَذَا الْعَذَابُ، { فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } قَالَ
الْفَرَّاءُ: أَيْ هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، وَالْحَمِيمُ:
الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ذكره الطبري: 23 / 175 دون إسناد.
(3) زيادة من "ب".
(4) زيادة من "ب".
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
"وَغَسَّاقٌ":
قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "وَغَسَّاقٌ" (1) حَيْثُ
كَانَ بِالتَّشْدِيدِ، وَخَفَّفَهَا الْآخَرُونَ، فَمَنْ شَدَّدَ جَعَلَهُ اسْمًا
عَلَى فَعَّالٍ، نَحْوَ: الْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَهُ
اسْمًا عَلَى فَعَالٍ نَحْوَ الْعَذَابِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْغَسَّاقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
الزَّمْهَرِيرُ يَحْرُقُهُمْ بِبَرْدِهِ، كَمَا تَحْرُقُهُمُ النَّارُ بَحَرِّهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي انْتَهَى بَرْدُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْمُنْتِنُ بِلُغَةِ التُّرْكِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يَغْسِقُ أَيْ: مَا يَسِيلُ مِنَ الْقَيْحِ
وَالصَّدِيدِ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، وَلُحُومِهِمْ، وَفُرُوجِ الزُّنَاةِ،
مِنْ قَوْلِهِ: غَسَقَتْ عَيْنُهُ إِذَا انْصَبَّتْ، وَالْغَسَقَانُ
الِانْصِبَابُ.
{ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا
مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا
مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) }
{ وَآخَرُ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: "وَأُخَرُ" بِضَمِّ الْأَلِفِ
عَلَى جَمْعِ أُخْرَى ، مِثْلَ: الْكُبْرَى وَالْكُبَرِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ نَعَتَهُ بِالْجَمْعِ، فَقَالَ: أَزْوَاجٌ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُشْبَعَةً عَلَى الْوَاحِدِ، { مِنْ شَكْلِهِ }
مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلُ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ، { أَزْوَاجٌ } أَيْ: أَصْنَافٌ
أُخَرُ مِنَ الْعَذَابِ.
{ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هَذَا"
هُوَ أَنَّ الْقَادَةَ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمُ
الْأَتْبَاعُ قَالَتِ الْخَزَنَةُ لِلْقَادَةِ (2) هَذَا يَعْنِي: الْأَتْبَاعُ،
فَوْجٌ: جَمَاعَةٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمُ النَّارَ، أَيْ: دَاخِلُوهَا كَمَا
أَنْتُمْ دَخَلْتُمُوهَا: وَالْفَوْجُ: الْقَطِيعُ مِنَ النَّاسِ وَجَمْعُهُ أَفْوَاجٌ،
وَالِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ رَمْيًا بِنَفْسِهِ فِيهِ، قَالَ
الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُمْ يُضْرَبُونَ بِالْمَقَامِعِ حَتَّى يُوقِعُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي النَّارِ، خَوْفًا مِنْ تِلْكَ الْمَقَامِعِ، فَقَالَتِ
الْقَادَةُ: { لَا مَرْحَبًا بِهِمْ } يَعْنِي: بِالْأَتْبَاعِ، { إِنَّهُمْ
صَالُوا النَّارِ } أَيْ: دَاخِلُوهَا كَمَا صَلَيْنَا.
{ قَالُوا } فَقَالَ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: { بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا
بِكُمْ } وَالْمَرْحَبُ، وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرْحَبًا
وَأَهْلًا وَسَهْلًا أَيْ: أَتَيْتَ رَحْبًا وَسِعَةً، وَتَقُولُ: لَا مَرْحَبًا
بِكَ، أَيْ: لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ الْأَرْضُ. { أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا }
يَقُولُ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: أَنْتُمْ بَدَأْتُمْ بِالْكُفْرِ قَبْلَنَا،
وَشَرَعْتُمْ وَسَنَنْتُمُوهُ لَنَا. وَقِيلَ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمْ هَذَا
الْعَذَابَ لَنَا، بِدُعَائِكُمْ إِيَّانَا إِلَى الْكُفْرِ، { فَبِئْسَ
الْقَرَارُ } أَيْ: فَبِئْسَ دَارُ الْقَرَارِ جَهَنَّمُ (3) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب" للكفار.
(3) زيادة من "ب".
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
{ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) }
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
{
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ
(62) أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا
مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) }
{ قَالُوا } يَعْنِي: الْأَتْبَاعُ { رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا } أَيْ:
شَرَعَهُ وَسَنَّهُ لَنَا، { فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ } أَيْ:
ضَعِّفْ عَلَيْهِ الْعَذَابَ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَعْنِي
حَيَّاتٍ وَأَفَاعِي.
{ وَقَالُوا } يَعْنِي صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي النَّارِ، { مَا لَنَا لَا
نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ } فِي الدُّنْيَا، { مِنَ الْأَشْرَارِ }
يَعْنُونَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ: عَمَّارًا، وَخَبَّابًا، وَصُهَيْبًا،
وَبِلَالًا وَسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ
كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَالُوا:
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيَّا } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَحَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ: "مِنَ الْأَشْرَارِ اتَّخَذْنَاهُمْ" وَصْلٌ،
وَيَكْسِرُونَ الْأَلِفَ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ
الْأَلِفِ وَفَتْحِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى أُولَى؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا
أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِفْهَامُ، وَتَكُونُ
"أَمْ" عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى "بَلْ" وَمَنْ
فَتَحَ الْأَلِفَ قَالَ: هُوَ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى لِيُعَادِلَ
"أَمْ" فِي قَوْلِهِ { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } قَالَ
الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعَجُّبُ
"أَمْ زَاغَتْ" أَيْ، مَالَتْ "عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ"
وَمَجَازُ الْآيَةِ: مَا لَنَا لَا نَرَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا لَمْ يَدْخُلُوا مَعَنَا النَّارَ؟ أَمْ دَخَلُوهَا فَزَاغَتْ عَنْهُمْ
أَبْصَارُنَا، فَلَمْ نَرَهُمْ حِينَ دَخَلُوهَا.
وَقِيلَ: أَمْ هُمْ فِي النَّارِ وَلَكِنِ احْتَجَبُوا عَنْ أَبْصَارِنَا؟
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَمْ كَانُوا خَيْرًا مَنَّا وَلَكِنْ نَحْنُ لَا
نَعْلَمُ، فَكَانَتْ أَبْصَارُنَا تَزِيغُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَا
نَعُدُّهُمْ شَيْئًا. { إِنَّ ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْتُ { لَحَقٌّ } ثُمَّ
بَيَّنَ فَقَالَ: { تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } أَيْ: تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
فِي النَّارِ لَحَقٌّ.
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، { إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ }
مُخَوِّفٌ (2) { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } .
__________
(1) تتمة العبارة في معاني القرآن (2 / 411) فهو يجوز بالاستفهام وبطرحه.
(2) زيادة من "ب".
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
{
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ
مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ
إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) }
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }.
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ، { هُوَ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ، { نَبَأٌ عَظِيمٌ }
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: يَعْنِي:
الْقِيَامَةَ كَقَوْلِهِ: "عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ
الْعَظِيمِ"( النَّبَأِ: 1 -2 ) .
{ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ }
يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } يَعْنِي: فِي شَأْنِ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا"(
الْبَقَرَةِ: 30 ) .
{ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } قَالَ
الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "أَنَّمَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ،
أَيْ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ
الْمَعْنَى: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ (1) .
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "إِنَّمَا" بِكَسْرِ الْأَلِفِ، لِأَنَّ
الْوَحْيَ قَوْلٌ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانَيُّ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا
صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عبد الرحمن بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ
مَرَّ بِنَا خَالِدُ بْنُ اللَّجْلَاجِ، فدعاه مكحول 104/ب فَقَالَ: يَا
إِبْرَاهِيمُ حَدِّثْنَا حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى
يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَيْ رَبِّ، مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَوَضَعَ
كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ مَا
فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ "وَكَذَلِكَ
نُرِي إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ"(
الْأَنْعَامِ:75 ) ثُمَّ قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى يَا
مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قُلْتُ: الْمَشْيُ
عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ خَلْفَ
الصَّلَوَاتِ، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ أَمَاكِنَهُ فِي الْمَكَارِهِ، قَالَ:
وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، وَيَكُنْ مِنْ
خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَمِنَ الدَّرَجَاتِ إِطْعَامُ
الطَّعَامِ،
__________
(1) في "معاني القرآن" للفراء: (2 / 412) إلا لأني نذير ونبي.
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
وَبَذْلُ
السَّلَامِ، وَأَنْ يَقُومَ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: قُلِ
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ
الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَتَتُوبَ عَلَيَّ، وَإِذَا أَرَدْتَ
فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَلَّمُوهُنَّ، فَوَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهُنَّ لَحَقٌّ" (1) .
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
(81) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا مِنْ طِينٍ } يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا
إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسٌ مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ } . أَلِفُ
اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ { أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ }
الْمُتَكَبِّرِينَ. اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: أَسْتَكْبَرْتَ
بِنَفْسِكَ حَتَّى أَبَيْتَ السُّجُودَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فَتَكَبَّرْتَ عَنِ السُّجُودِ لِكَوْنِكَ مِنْهُمْ؟.
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ، وقيل: من السموات. وَقَالَ
الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: أَيْ مِنَ الْخِلْقَةِ الَّتِي أَنْتِ فِيهَا.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ إِبْلِيسَ
تَجَبَّرَ وَافْتَخَرَ بِالْخِلْقَةِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ خِلْقَتَهُ، فَاسْوَدَّ
وَقَبُحَ بَعْدَ حُسْنِهِ، { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } مَطْرُودٌ.
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } ، وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى .
__________
(1) أخرجه الدارمي: 2 / 126، والمصنف في شرح السنة: 4 / 35 و37، وأشار إليه
الترمذي: 9 / 106. وانظر: مجمع الزوائد: 1 / 238، اختيار الأولى في حديث اختصام
الملأ الأعلى ص(5-7) مسند الإمام أحمد: 1 / 368.
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) }
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
(87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) }
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ
وَيَعْقُوبُ: "فَالْحَقُّ" بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الِابْتِدَاءِ،
وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَقُّ مِنِّي، وَنَصْبُ الثَّانِيَةِ أَيْ:
وَأَنَا أَقُولُ الْحَقَّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِنَصْبِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهِمَا، قِيلَ: نَصْبُ الْأُولَى عَلَى
الْإِغْرَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: الْزَمِ الْحَقَّ، وَالثَّانِي بِإِيقَاعِ
الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَيْ: أَقُولُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَسَمٌ، أَيْ:
فَبِالْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَانْتُصِبَ بِنَزْعِ [الْخَافِضِ،
وَهُوَ] (1) حَرْفُ الصِّفَةِ، وَانْتِصَابُ الثَّانِي بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ
عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الثَّانِي تَكْرَارُ الْقَسَمِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ.
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ
مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ { مِنْ أَجْرٍ }
جُعْلٍ، { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } الْمُتَقَوِّلِينَ الْقُرْآنَ
مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ
فَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى،
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ
فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا
يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: "قل ما
أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" (2) .
قَوْلُهُ { إِنْ هُوَ } مَا هُوَ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ { إِلَّا ذِكْرٌ }
مَوْعِظَةٌ، { لِلْعَالَمِينَ } لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
{ وَلَتَعْلَمُنَّ } أَنْتُمْ يَا كُفَّارَ مَكَّةَ، { نَبَأَهُ } خَبَرَ
صِدْقِهِ، { بَعْدَ حِينٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَنْ
بَقِيَ عَلِمَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَعَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلِمَهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: ابْنَ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ
الْيَقِينُ (3) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة (ص) - باب: (ما أنا من المتكلفين) 8 /
547، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم باب الدخان برقم ( 2798) 4 / 2156 - 2157.
(3) أخرجه الطبري: 23 / 189، وذكره السيوطي في الدر المنثور، 7 / 209.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
سُورَةُ
الزُّمَرِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قوله { قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }
الْآيَةَ (1) . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }
{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } [أَيْ: هَذَا تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ
اللَّهِ. وَقِيلَ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ] (2) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: { مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أَيْ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ لَا
مِنْ غَيْرِهِ.
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ
نُنْزِلْهُ بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ } الطَّاعَةَ.
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } قَالَ قَتَادَةُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: [لَا يَسْتَحِقُّ الدِّينَ الْخَالِصَ إِلَّا
اللَّهُ وَقِيلَ: الدِّينُ الْخَالِصُ مِنَ الشَّرَكِ هُوَ لِلَّهِ] (3) .
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ } أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ، { أَوْلِيَاءَ
} يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، { مَا نَعْبُدُهُمْ } أَيْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ، {
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
__________
(1) أخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نزلت بمكة سورة
الزمر سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة "قل ياعبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم" إلى ثلاث آيات. وانظر: زاد المسير: 7 / 160.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) في "أ": (لا يستحق الدين الخالص من الشرك سوى الله).
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قَالَ
قَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّكُمْ، وَمَنْ
خَلَقَكُمْ، ومن خلق السموات وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ:
فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ؟ قَالُوا: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى، أَيْ: قُرْبَى، وَهُوَ اسْمٌ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الْمَصْدَرِ:
كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ تَقْرِيبًا وَيَشْفَعُوا
لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } يَوْمَ الْقِيَامَةِ
{ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } مِنْ أَمْرِ الدِّينِ { إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } لَا يُرْشِدُ لِدِينِهِ مَنْ كَذَبَ
فَقَالَ: إِنَّ الْآلِهَةَ تَشْفَعُ وَكَفَى بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ دُونَهُ
كَذِبًا [وَكُفْرًا] (1)
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ
وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) }
__________
(1) ساقط من "ب".
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ
لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
(6) }
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى } لَاخْتَارَ، { مِمَّا
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، كَمَا قَالَ: "لَوْ أَرَدْنَا
أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا"( الْأَنْبِيَاءِ -17
) ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: { سُبْحَانَهُ } تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ،
وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِطَهَارَتِهِ، { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } .
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } قَالَ قَتَادَةُ: يُغْشِي
هَذَا هَذَا، كَمَا قَالَ: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ"(
الْأَعْرَافِ-54 ) وَقِيلَ: يُدْخِلُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَالَ:
"يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ"( الْحَجِّ-61 ) .
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ: يُنْقِصُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَزِيدُ فِي
النَّهَارِ، وَيُنْقِصُ مِنَ النَّهَارِ فَيَزِيدُ فِي اللَّيْلِ، فَمَا نَقَصَ
مِنَ اللَّيْلِ دَخَلَ فِي النَّهَارِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ دَخَلَ فِي
اللَّيْلِ، وَمُنْتَهَى النُّقْصَانِ تِسْعُ سَاعَاتٍ، وَمُنْتَهَى الزِّيَادَةِ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَأَصْلُ التَّكْوِيرِ اللَّفُّ وَالْجَمْعُ، وَمِنْهُ:
كَوَّرَ الْعِمَامَةَ. { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ
مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } .
{ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } 105/أ يَعْنِي: آدَمَ، { ثُمَّ جَعَلَ
مِنْهَا زَوْجَهَا } يَعْنِي حَوَّاءَ، { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ }
مَعْنَى الْإِنْزَالِ هَاهُنَا: الْإِحْدَاثُ وَالْإِنْشَاءُ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: "أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ"(
الْأَعْرَافِ-26 ) .
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
وَقِيلَ:
إِنَّهُ أَنْزَلَ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَبَاتِ الْقُطْنِ الَّذِي يَكُونُ
مِنْهُ اللِّبَاسُ، وَسَبَبُ النَّبَاتِ الَّذِي تَبْقَى بِهِ الْأَنْعَامُ.
وَقِيلَ: "وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ" جَعَلَهَا لَكُمْ
نُزُلًا وَرِزْقًا. { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أَصْنَافٍ، تَفْسِيرُهَا فِي
سُورَةِ الْأَنْعَامِ (1) { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ
بَعْدِ خَلْقٍ } نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا"( نُوحٍ-14 ) { فِي ظُلُمَاتٍ
ثَلَاثٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظُلْمَةُ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ،
وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ (2) { ذَلِكُمُ اللَّهُ } الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ، { رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ } عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ.
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ
ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ
نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ (8) }
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ"( الْحِجْرِ-42 ) فَيَكُونُ
عَامًّا فِي اللَّفْظِ خَاصًّا فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ"( الْإِنْسَانِ-6 ) يُرِيدُ
بَعْضَ الْعِبَادِ، وَأَجْرَاهُ قَوْمٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالُوا: لَا يَرْضَى
لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الْكُفْرَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. يُرْوَى
ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ، قَالُوا: كُفْرُ الْكَافِرِ
غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ بِإِرَادَتِهِ. { وَإِنْ
تَشْكُرُوا } تُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَتُطِيعُوهُ، { يَرْضَهُ لَكُمْ }
فَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "يَرْضَهْ لَكُمْ"
سَاكِنَةُ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ،
وَالْبَاقُونَ بِالْإِشْبَاعِ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ
إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } .
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ } رَاجِعًا
إِلَيْهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ، { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ } أَعْطَاهُ
نِعْمَةً مِنْهُ، { نَسِيَ } تَرَكَ { مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ }
أَيْ: نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي
__________
(1) انظر فيما سبق: 3 / 196-197.
(2) انظر: الطبري: 23 / 196، الدر المنثور: 7 / 212.
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
كَانَ
يَدْعُو اللَّهَ إِلَى كَشْفِهِ، { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا } يَعْنِي:
الْأَوْثَانَ، { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } لِيَزِلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ.
{ قُلْ } لِهَذَا الْكَافِرِ: { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا } فِي الدُّنْيَا
إِلَى أَجَلِكَ، { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ
بْنِ رَبِيعَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: [نَزَلَتْ] (1) فِي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. وَقِيلَ: عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ (2) .
{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ
الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) }
{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ:
"أَمَنْ" بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا،
فَمَنْ شَدَّدَ فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ فِي "أَمْ" صِلَةً، فَيَكُونُ
مَعْنَى الْكَلَامِ اسْتِفْهَامًا وَجَوَابُهُ مَحْذُوفًا مَجَازُهُ: أَمَّنَ هُوَ
قَانِتٌ كَمَنْ هُوَ غَيْرُ قَانِتٍ؟ كَقَوْلِهِ: "أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ"( الزُّمَرِ-22 ) يَعْنِي كَمَنْ لَمْ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، مَجَازُهُ: الَّذِي
جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا خَيْرٌ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ؟ وَمَنْ قَرَأَ
بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى مَنْ، مَعْنَاهُ:
أَهَذَا كَالَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا؟
وَقِيلَ: الْأَلِفُ فِي "أَمَنْ" بِمَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ،
تَقْدِيرُهُ: يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ، وَالْعَرَبُ تُنَادِي بِالْأَلِفِ كَمَا
تُنَادِي بِالْيَاءِ، فَتَقُولُ: أَبَنِي فَلَانٍ وَيَا بَنِي فُلَانٍ، فَيَكُونُ
مَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ، يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ { آنَاءَ اللَّيْلِ } إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ (3) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا (4) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 165.
(3) ذكره الواحدي في أسباب النزول، ص 426.
(4) انظر: البحر المحيط: 7 / 419.
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
وَعَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ (1) .
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ
وَسَلْمَانَ.
وَالْقَانِتُ: الْمُقِيمُ عَلَى الطَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ:
"الْقُنُوتُ": قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَطُولُ الْقِيَامِ، و"آناء
اللَّيْلِ": سَاعَاتُهُ، { سَاجِدًا وَقَائِمًا } يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ، {
يَحْذَرُ الْآخِرَةَ } يَخَافُ الْآخِرَةَ، { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ }
يَعْنِي: كَمَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } قِيلَ: "الَّذِينَ
يعلمون" عمار، و"الذين لَا يَعْلَمُونَ": أَبُو حُذَيْفَةَ
الْمَخْزُومِيُّ، { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } .
{ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) }
{ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } بِطَاعَتِهِ
وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا }
أَيْ: آمَنُوا وَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ، { حَسَنَةٌ } يَعْنِي: الْجَنَّةَ، قَالَهُ
مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ يَعْنِي:
الصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ، { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي ارْتَحِلُوا مِنْ مَكَّةَ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ
الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ أُمِرَ بِالْمَعَاصِي فَلْيَهْرَبْ. {
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الَّذِينَ
صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمْ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ لِلْأَذَى.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ لَمْ
يَتْرُكُوا دِينَهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ وَصَبَرُوا وَهَاجَرُوا
(2) .
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ مُطِيعٍ يُكَالُ لَهُ كَيْلًا
وَيُوزَنُ لَهُ وَزْنًا إِلَّا الصَّابِرُونَ، فَإِنَّهُ يُحْثَى لَهُمْ حَثْيًا
(3) .
وَيُرْوَى: "يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ
وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ، وَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا بِغَيْرِ
حِسَابٍ" (4) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي
الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ
أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ الْفَضْلِ.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 426.
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 419.
(3) انظر: القرطبي: 15 / 241.
(4) قطعة من حديث عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 215 لابن مردويه.
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا
لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ
فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) }
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ }
مُخْلِصًا لَهُ التَّوْحِيدَ لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
{ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } وَعَبَدْتُ غَيْرَهُ، { عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ } وَهَذَا حِينَ دُعِيَ إِلَى دِينِ آبَائِهِ.
{ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ
دُونِهِ } أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ، كَقَوْلِهِ: "اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ"( فُصِّلَتْ-40 ) { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } أَزْوَاجَهُمْ وَخَدَمَهُمْ، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ
مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلًا فَمَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ
الْمَنْزِلُ وَالْأَهْلُ لَهُ، وَمَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ دَخَلَ
النَّارَ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزِلُ وَالْأَهْلُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ عَمِلَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ (1) . وَقِيلَ: خُسْرَانُ النَّفْسِ بِدُخُولِ النَّارِ،
وَخُسْرَانُ الْأَهْلِ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، { أَلَا
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .
{ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ } أَطْبَاقُ سُرَادِقَاتٍ مِنَ
النَّارِ وَدُخَّانِهَا، { وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } فِرَاشٌ وَمِهَادٌ مِنْ
نَارٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْقَعْرِ، وَسَمَّى الْأَسْفَلَ ظُلَلًا
لِأَنَّهَا ظُلَلٌ لِمَنْ تَحْتِهُمْ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ"(
الْأَعْرَافِ-41 ).
{ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } .
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ } الأوثان 105/ب { أَنْ يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ } رَجَعُوا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، { لَهُمُ
الْبُشْرَى } فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْعُقْبَى { فَبَشِّرْ عِبَادِ } .
{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ
اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) }
{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } الْقُرْآنَ،
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 242.
{
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قَالَ الْسُّدِّيُّ: أَحْسُنُ مَا يُؤْمَرُونَ
فَيَعْمَلُونَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ
الِانْتِصَارَ مِنَ الظَّالِمِ وَذَكَرَ الْعَفْوَ، وَالْعَفْوُ أَحْسَنُ
الْأَمْرَيْنِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْعَزَائِمَ وَالرُّخَصَ فَيَتَّبِعُونَ
الْأَحْسَنَ وَهُوَ الْعَزَائِمُ. وَقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَ
الْقُرْآنِ فَيَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آمَنَ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ
زَيْدٍ، فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِإِيمَانِهِ فَآمَنُوا، فَنَزَلَتْ فيهم (1)
: "فبشر عباد الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ" وَكُلُّهُ حَسَنٌ. { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ"
الْآيَتَانِ، فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بن نفيل، وأبو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ،
وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (2) . وَالْأَحْسَنُ: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْعَذَابِ [قَوْلُهُ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ"،
وَقِيلَ:] (3) قَوْلُهُ: "هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي" (4) .
{ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } أَيْ: لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا لَهَبٍ وَوَلَدَهُ.
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ } أَيْ: مَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ رَفِيعَةٌ، وَفَوْقَهَا مَنَازِلُ
أَرْفَعُ مِنْهَا، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا
يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } أَيْ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ تِلْكَ الْغُرَفَ وَالْمَنَازِلَ
وَعْدًا لَا يُخْلِفُهُ.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 426.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 207، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 217 نسبته لابن
أبي حاتم.
(3) ساقط من "ب".
(4) أخرج الإمام أحمد في مسنده: 5 / 239 عن معاذ بن جبل: "أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية أصحاب اليمين وأصحاب الشمال فقبض بيده
قبضتين فقال: هذه في الجنة ولا أبالي، وهذه في النار ولا أبالي"، وانظر: مجمع
الزوائد: 7 / 185-186.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي
مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ
كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِتُفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ"، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ،
قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" (1) .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ
يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) }
__________
(1) أخرجه البخاري: في بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة: 6 / 320، ومسلم: في
الجنة باب: ترائي أهل الجنة الغرف كما يرى الكوكب في السماء، برقم: (2831)، 4 /
2177، والمصنف في شرح السنة: 15 / 215.
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (22) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَسَلَكَهُ } أَدْخَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ، { يَنَابِيعَ } عُيُونًا وَرَكَايَا
(1) { فِي الْأَرْضِ } قَالَ الشَّعْبِيُّ: كُلُّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَمِنَ
السَّمَاءِ نَزَلَ، { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ } أَيْ: بِالْمَاءِ { زَرْعًا
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ، { ثُمَّ يَهِيجُ }
يَيْبَسُ { فَتَرَاهُ } بُعْدَ خُضْرَتِهِ وَنَضْرَتِهِ، { مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَجْعَلُهُ حُطَامًا } فُتَاتًا مُتَكَسِّرًا، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ }
وَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ، { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } لَيْسَ كَمَنْ
أَقْسَى اللَّهُ قَلْبَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
بْنِ يَزِيدَ الْمَوْصِلِيُّ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ وَاسْمُهُ
يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ
أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
كَيْفَ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ؟
__________
(1) جمع، مفرده (ركية) وهي البئر.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قَالَ:
"إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ" قُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ
الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ
قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ
اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَا ضُرِبَ
عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، وَمَا غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا نَزَعَ مِنْهُمُ الرَّحْمَةَ (2) .
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي
بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا } يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ
بَعْضًا لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ. { مَثَانِيَ } يُثَنَّى فِيهِ
ذِكْرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْأَخْبَارِ
وَالْأَحْكَامِ، { تَقْشَعِرُّ } تَضْطَرِبُ وَتَشْمَئِزُّ، { مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } وَالِاقْشِعْرَارُ تَغَيُّرٌ فِي جَلْدِ
الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْجُلُودِ
الْقُلُوبُ، أَيْ: قُلُوبُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، { ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أَيْ: لِذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ:
إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذَابِ اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ الْخَائِفِينَ لِلَّهِ،
وَإِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ لَانَتْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"(
الرَّعْدِ-28 ) .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ تَقْشَعِرُّ مِنَ الْخَوْفِ، وَتَلِينَ
عِنْدَ الرَّجَاءِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبُدُوسِ بْنِ كَامِلٍ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الْعَبَّاسِ، عَنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمَطْلَبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ
وَرَقُهَا" (3) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 219 لابن مردويه، وعزاه الحافظ ابن حجر في
الكافي الشاف ص 143 للثعلبي والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود. وقال:
"وفيه أبو فروة الرهاوي فيه كلام. ورواه الحكيم الترمذي في النوادر في الأصل
السادس والثمانين".
(2) ذكره القرطبي: 15 / 248.
(3) قال الهيثمي: (10 / 310) "رواه البزار، وفيه أم كلثوم بنت العباس، ولم
أعرفها، وبقية رجاله ثقات" وأشار المنذري إلى تضعيفه وعزاه في الترغيب (4 /
266) لأبي الشيخ في كتاب الثواب والبيهقي. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 /
222، للحكيم الترمذي في نوادر الأصول وفيه الحماني: اتهموه بسرقة الحديث (التقريب)
وانظر: الجرح والتعديل: 9 / 168-169.
أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ،
أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "إِذَا
اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى
النَّارِ" (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ
تَقَشْعُرَ جُلُودِهِمْ وَتَطَمْئُنَ قُلُوبِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ
يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا ذَلِكَ
فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، ثَنَا
ابْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِجَدَّتِي
أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: كيف كان 106/أ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُونَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ؟
قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ
وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ نَاسًا الْيَوْمَ إِذَا
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرَّ أَحَدُهُمْ مُغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالَتْ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (2) .
وَبِهِ عَنْ [سُلَيْمَانَ بْنِ] (3) سَلَمَةَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى،
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ أَنَا ابْنُ عُمَرَ:
مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطًا فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟
قَالُوا: إِنَّهُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ
سَقَطَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّا لِنَخْشَى اللَّهَ وَمَا نَسْقُطُ!
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَدْخُلُ فِي جَوْفِ أَحَدِهِمْ، مَا
كَانَ هَذَا صَنِيعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: الَّذِينَ يُصْرَعُونَ إِذْ قُرِئَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنُ؟ [فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنْ يَقْعُدَ أَحَدُهُمْ عَلَى
ظَهْرِ بَيْتٍ بَاسِطًا رِجْلَيْهِ ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ] (5) مِنْ
أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فَهُوَ صَادِقٌ (6) .
{ ذَلِكَ } يَعْنِي: أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، { هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
__________
(1) ذكره القرطبي: 15 / 250، وانظر التعليق السابق.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 222 لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن
مردويه، وابن أبي حاتم، وابن عساكر. وذكره القرطبي: 15 / 249.
(3) ساقط من "ب".
(4) ذكره صاحب البحر المحيط: 7 / 423، والقرطبي: 15 / 249.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) ذكره صاحب البحر المحيط: 7 / 423، والقرطبي: 15 / 249.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
{
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ
فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا
عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) }
{ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ } أَيْ: شِدَّتَهُ، { يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَقَالَ
عَطَاءٌ: يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ مَنْكُوسًا فَأَوَّلُ شَيْءٍ مِنْهُ تَمَسُّهُ
النَّارُ وَجْهُهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يُرْمَى بِهِ فِي
النَّارِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَفِي عُنُقِهِ صَخْرَةٌ مِثْلُ
جَبَلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْكِبْرِيتِ، فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَجَرِ، وَهُوَ
مُعَلَّقٌ فِي عُنُقِهِ فَخَرَّ وَوَهَجُهَا عَلَى وَجْهِهِ لَا يَطِيقُ دَفْعَهَا
عَنْ وَجْهِهِ، لِلْأَغْلَالِ الَّتِي فِي عُنُقِهِ وَيَدِهِ (1) .
وَمَجَازُ الْآيَةِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ كَمَنْ هُوَ
آمِنٌ مِنَ الْعَذَابِ؟
{ وَقِيلَ } يَعْنِي: تَقُولُ الْخَزَنَةُ، { لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ } أَيْ: وَبَالَهُ.
{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ كَذَّبُوا
الرُّسُلَ، { فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } يَعْنِي:
وَهُمْ آمِنُونَ غَافِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ.
{ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ } الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ، { فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يَتَّعِظُونَ.
{ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرُ ذِي لَبْسٍ. قَالَ
الْسُّدِّيُّ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،
وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعَيْنِ
أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ (2) { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
} الْكَفْرَ وَالتَّكْذِيبَ بِهِ.
__________
(1) ذكر هذه الأقوال القرطبي: 15 / 251.
(2) ذكر هذه الأقوال السيوطي في الدر المنثور: 7 / 223-224.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا
لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) }
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا } قَالَ الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ رَجُلًا
لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ، { فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ }
مُتَنَازِعُونَ مُخْتَلِفُونَ سَيِّئَةٌ أَخْلَاقُهُمْ، يُقَالُ: رَجُلٌ شَكِسٌ
شَرِسٌ، إذا كان سيء الْخُلُقِ، مُخَالِفًا لِلنَّاسِ، لَا يَرْضَى
بِالْإِنْصَافِ، { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ
وَالْبَصْرَةِ: "سَالِمًا" بِالْأَلِفِ أَيْ: خَالِصًا لَهُ لَا شَرِيكَ
وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، [وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "سَلَمًا" بِفَتْحِ
اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُنَازَعُ فِيهِ] (1) مِنْ
قَوْلِهِمْ: هُوَ لَكَ سَلَمٌ، أَيْ: مُسَلَّمٌ لَا مُنَازِعَ لَكَ فِيهِ. { هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكَافِرِ
الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا
اللَّهَ الْوَاحِدَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: لَا يَسْتَوِيَانِ،
ثُمَّ قَالَ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أَيْ: لِلَّهِ الْحَمْدُ كُلُّهُ دُونَ
غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْبُودِينَ. { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } مَا
يَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ الْكُلُّ.
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ } أَيْ: سَتَمُوتُ، { وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } أَيْ:
سَيَمُوتُونَ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْمَيِّتُ
-بِالتَّشْدِيدِ-مَنْ لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ، الْمَيْتُ -بِالتَّخْفِيفِ-مَنْ
فَارَقَهُ الرُّوحُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَفَّفْ هَاهُنَا.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ، وَالظَّالِمَ وَالْمَظْلُومَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَالِكٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ
الْعَوَّامِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ" قَالَ الزُّبَيْرُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَيُكَرَّرُ
عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ قَالَ:
"نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي حَقِّ
حَقَّهِ" قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ (2)
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الزمر: 9 / 110-111، وقال: "هذا حديث حسن
صحيح"، والإمام أحمد: 1 / 167، والحاكم: 4 / 572 وقال: "هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 100:
" رواه الطبراني ورجاله ثقات"، وزاد السيوطي في الدر االمنثور: 7 / 226
نسبته لابن منيع، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في
البعث.
.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عِشْنَا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ وَكُنَّا نَرَى أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ "ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" قُلْنَا:
كَيْفَ نَخْتَصِمُ وَدِينُنَا وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ؟ حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَنَا
يَضْرِبُ وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا (1) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ
رَبُّنَا وَاحِدٌ وَدِينُنَا وَاحِدٌ وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ فَمَا هَذِهِ
الْخُصُومَةُ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ وَشَدَّ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
بِالسُّيُوفِ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ هَذَا (2) .
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: "ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" قَالُوا: كَيْفَ نَخْتَصِمُ
وَنَحْنُ إِخْوَانٌ؟ فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ قَالُوا: هَذِهِ خُصُومَتُنَا (3)
?
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ
أَوْ مَالٍ فَلْيَتَحَلَّلَهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ يَوْمَ لَا
دِينَارَ وَلَا دِرْهَمَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ
بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ
فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِهِينِيُّ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ
الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتُدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ"؟
قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ:
"إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَكَانَ قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا،
وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْضِي هَذَا مِنْ
حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، [قَالَ: فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ] (5)
قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ
ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" (6) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 225 لابن أبي حاتم، والطبراني، وابن
مردويه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 100 "رواه الطبراني ورجاله
ثقات".
(2) عزاه السيوطي في الدر اللمنثور: 7 / 226-227 لسعيد بن منصور.
(3) أخرجه الطبري: 24 / 2، وانظر: الكافي الشاف ص 143.
(4) أخرجه البخاري في المظالم، باب: من كانت له مظلمة عند رجل فحللها له هل يبين
مظلمته: 5 / 11، والمصنف في شرح السنة: 14 / 359.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) أخرجه مسلم: في البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، برقم: (2581) 4 /
1997.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
(35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ }
فَزَعْمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا، { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ } بِالْقُرْآنِ،
{ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى } مَنْزِلٌ وَمَقَامٌ، {
لِلْكَافِرِينَ } اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.
{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } 106/ب قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
"وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "وَصَدَّقَ بِهِ"
الرَّسُولُ أَيْضًا بَلَّغَهُ إِلَى الْخَلْقِ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ:
"وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" جِبْرِيلُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، "وَصَدَّقَ
بِهِ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: "وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ" رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"وَصَدَّقَ بِهِ" أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ
قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَصَدَّقَ بِهِ" هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
وَقَالَ عَطَاءٌ: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" الْأَنْبِيَاءُ
"وَصَدَّقَ بِهِ" الْأَتْبَاعُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الَّذِي بِمَعْنَى:
الَّذِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا"( الْبَقَرَةِ-17 ) ثُمَّ قَالَ: "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ"(
الْبَقَرَةِ-17 ) وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ صَدَّقُوا بِهِ فِي
الدُّنْيَا وَجَاءُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ: وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ. { أُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ } .
{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا } يَسْتُرُهَا عَلَيْهِمْ
بِالْمَغْفِرَةِ، { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ
وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِئِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } ؟ يَعْنِي:
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "عِبَادَهُ" بِالْجَمْعِ يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَصَدَهُمْ قَوْمُهُمْ بِالسُّوءِ كَمَا قَالَ:
"وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ"( غَافِرٍ-5 )
فَكَفَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ مَنْ عَادَاهُمْ، { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَوَّفُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَرَّةَ الْأَوْثَانِ. وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ
آلِهَتِنَا أَوْ لَيُصِيبَنَّكَ مِنْهُمْ خَبَلٌ أَوْ جُنُونٌ { وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
{ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) }
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ
تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (42) }
{ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي
انْتِقَامٍ } مَنِيعٌ فِي مُلْكِهِ، مُنْتَقِمٌ مِنْ أَعْدَائِهِ. { وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ من خلق السموات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ } بِشِدَّةٍ وَبَلَاءٍ، { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي
بِرَحْمَةٍ } بِنِعْمَةٍ وَبَرَكَةٍ، { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ }
قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: "كَاشِفَاتٌ" وَ"مُمْسِكَاتٌ"
بِالتَّنْوِينِ، "ضُرَّهُ" "وَرَحْمَتَهُ" بِنَصْبِ الرَّاءِ
وَالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ وَجَرِّ الرَّاءِ وَالتَّاءِ
عَلَى الْإِضَافَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتُوا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } (1) ، ثِقَتِي بِهِ
وَاعْتِمَادِي عَلَيْهِ، { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } يَثِقُ بِهِ
الْوَاثِقُونَ.
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ
} أَيْ: يَنْزِلُ عَلَيْهِ عَذَابٌ دَائِمٌ.
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } وَبَالُ ضَلَالَتِهِ
عَلَيْهِ، { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } بِحَفِيظٍ وَرَقِيبٍ لَمْ
تُوَكَّلْ بِهِمْ وَلَا تُؤَاخَذُ بِهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ } أَيِ: الْأَرْوَاحَ،
{ حِينَ مَوْتِهَا } فَيَقْبِضُهَا عِنْدَ فَنَاءِ أَكْلِهَا وَانْقِضَاءِ
أَجَلِهَا، وَقَوْلُهُ: { حِينَ مَوْتِهَا } يُرِيدُ مَوْتَ أَجْسَادِهَا. {
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ } يُرِيدُ يَتَوَفَّى
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 259.
الْأَنْفُسَ
الَّتِي لَمْ تَمُتْ، { فِي مَنَامِهَا } وَالَّتِي تُتَوَفَّى عِنْدَ النَّوْمِ
هِيَ النَّفْسُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَلِكُلِّ
إِنْسَانٍ نَفْسَانِ: إِحْدَاهُمَا نَفْسُ الْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ
عِنْدَ الْمَوْتِ فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا النَّفْسُ، وَالْأُخْرَى نَفْسُ
التَّمْيِيزِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ إِذَا نَامَ، وَهُوَ بَعْدَ النَّوْمِ
يَتَنَفَّسُ { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } فَلَا يَرُدُّهَا
إِلَى الْجَسَدِ.
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "قُضِيَ" بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ
الضَّادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، "الْمَوْتُ" رُفِعَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ
فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ،
"الْمَوْتَ" نُصِبَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "اللَّهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ" { وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى } وَيَرُدُّ الْأُخْرَى وَهِيَ الَّتِي
لَمْ يَقْضِ عَلَيْهَا الْمَوْتَ إِلَى الْجَسَدِ، { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }
إِلَى أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ مَوْتِهِ.
وَيُقَالُ: لِلْإِنْسَانِ نَفْسٌ وَرُوحٌ، فَعِنْدَ النَّوْمِ تَخْرُجُ النَّفْسُ
وَتَبْقَى الرُّوحُ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَخْرُجُ الرُّوحُ عِنْدَ النَّوْمِ
وَيَبْقَى شُعَاعُهُ فِي الْجَسَدِ، فَبِذَلِكَ يَرَى الرُّؤْيَا، فَإِذَا
انْتَبَهَ مِنَ النَّوْمِ عَادَ الرُّوحُ إِلَى جَسَدِهِ بِأَسْرَعَ مِنْ
لَحْظَةٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي
الْمَنَامِ فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ إِلَى
أَجْسَادِهَا أَمْسَكَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ عِنْدَهُ، وَأَرْسَلَ
أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَجْسَادِهَا إِلَى انْقِضَاءِ
مُدَّةِ حَيَّاتِهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى
فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي
مَا خَلَّفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ
أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا
بِمَا تُحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ" (1)
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } لَدَلَالَاتٍ عَلَى
قُدْرَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَغْلَطْ فِي إِمْسَاكِ مَا يُمْسِكُ مِنَ الْأَرْوَاحِ،
وَإِرْسَالِ مَا يُرْسِلُ مِنْهَا.
قَالَ مُقَاتِلٌ: لَعَلَامَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ،
يَعْنِي: إِنَّ تَوَفِّيَ نَفْسِ النَّائِمِ وَإِرْسَالَهَا بَعْدَ التَّوَفِّي
دَلِيلٌ عَلَى الْبَعْثِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند المنام: 11 / 125-126،
ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، برقم: (2714)، 4 / 2084، والمصنف في
شرح السنة: 5 / 99.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
{
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
(45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (46) }
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ، { أَوَلَوْ
كَانُوا } وَإِنْ كَانُوا يَعْنِي الْآلِهَةَ، { لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا } مِنَ
الشَّفَاعَةِ، { وَلَا يَعْقِلُونَ } أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُمْ. وَجَوَابُ هَذَا
مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَتَّخِذُونَهُمْ.
{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ، { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } . { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ } نَفَرَتْ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: انْقَبَضَتْ عَنِ التَّوْحِيدِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَكْبَرَتْ. وَأَصْلُ الِاشْمِئْزَازِ النُّفُورُ
وَالِاسْتِكْبَارُ، { قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } .
{ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } يَعْنِي: الْأَصْنَامَ { إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ } يَفْرَحُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ حِينَ
قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ وَالنَّجْمِ
فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى،
فَفَرِحَ بِهِ الْكُفَّارُ (1) .
{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ } ، أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو علي الحسين 107/أ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمَ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ
مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ،
اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ
تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (2) .
__________
(1) راجع فيما سبق تفسير سورة الحج، الآية (52): 5 / 394 تعليق (1).
(2) أخرجه مسلم: في صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم:
(770) 1 / 534، والمصنف في شرح السنة: 4 / 71.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) }
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا
خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ
فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ }
قَالَ مُقَاتِلٌ: ظَهَرَ لَهُمْ حِينَ بُعِثُوا مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا فِي
الدُّنْيَا أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: ظَنُّوا
أَنَّهَا حَسَنَاتٌ فَبَدَتْ لَهُمْ سَيِّئَاتٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا عُوقِبُوا
عَلَيْهَا بَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا. وَرُوِيَ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ جَزِعَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ لِي مَا لَمْ أَحْتَسِبْ (1) .
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أَيْ: مَسَاوِئُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ
الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ. { وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ } .
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ } شِدَّةٌ، { دَعَانَا ثُمَّ إِذَا
خَوَّلْنَاهُ } أَعْطَيْنَاهُ { نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ } أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
عَلَى خَيْرٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي، وَذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّ الْمُرَادَ
مِنَ النِّعْمَةِ الْإِنْعَامُ، { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } [يَعْنِي: تِلْكَ
النِّعْمَةُ فِتْنَةُ] (2) اسْتِدْرَاجٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٍ
وَبَلِيَّةٍ. وَقِيلَ: بَلْ كَلِمَتُهُ الَّتِي قَالَهَا فِتْنَةٌ. { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ وَامْتِحَانٌ.
{ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي قَارُونَ
فَإِنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي"(
الْقَصَصِ-78 ) { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمُ الْكُفْرُ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا.
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 265-266.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) }
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أَيْ: جَزَاؤُهَا يَعْنِي الْعَذَابَ.
ثُمَّ أَوْعَدَ كُفَّارَ مَكَّةَ فَقَالَ: { وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } بِفَائِتِينَ
لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } أَيْ: يُوَسِّعُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، { وَيَقْدِرُ } أَيْ: يُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، {
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وجل: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ
الشِّرْكِ كَانُوا قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوُا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُو
إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
وَحْشِيٍّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: كَيْفَ تَدْعُونِي
إِلَى دِينِكَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَوْ أَشْرَكَ أَوْ زَنَى
يَلْقَ أثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ، وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ
كُلَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا"( مَرْيَمَ-60 ) فَقَالَ وَحْشِيٌّ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ
لَعَلِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ"( النِّسَاءِ: 48 ، 116 ) فَقَالَ وَحْشِيٌّ:
أَرَانِي بَعْدُ فِي شُبْهَةٍ، فَلَا أَدْرِي يَغْفِرُ لِي أَمْ لَا؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تعالى: "قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ"، فَقَالَ وَحْشِيٌّ: نَعَمْ هَذَا،
فَجَاءَ وَأَسْلَمَ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً أَمْ
لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب: "ياعبادي الذين أسرفوا
على أنفسهم." الآية: 8 / 549.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 235 للطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في
شعب الإيمان بسند لين، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 101 "رواه الطبراني
في الأوسط وفيه أبين بن سيفان، ضعفه الذهبي" وضعفه ابن عدي وابن حبان
وغيرهما.
وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَنَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا
قَدْ أَسْلَمُوا ثُمَّ فُتِنُوا وَعُذِّبُوا، فَافْتَتَنُوا فَكُنَّا نَقُولُ: لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا أَبَدًا، قَوْمٌ
أَسْلَمُوا ثُمَّ تَرَكُوا دِينَهُمْ لِعَذَابٍ عُذِّبُوا فِيهِ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ، فَكَتَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِيَدِهِ
ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى عَيَّاشِ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ
وَإِلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ فَأَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا (1) .
وَرَوَى مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا
مُعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى
أَوْ نَقُولُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ حَسَنَاتِنَا إِلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ
حَتَّى نَزَلَتْ: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ"( مُحَمَّدٍ-33 ) فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ قُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا:
الْكَبَائِرُ وَالْفَوَاحِشُ، قَالَ: فَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا مَنْ أَصَابَ
شَيْئًا مِنْهَا قُلْنَا قَدْ هَلَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَفَفْنَا
عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَصَابَ مِنْهَا
شَيْئًا خِفْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا رَجَوْنَا لَهُ ،
وَأَرَادَ بِالْإِسْرَافِ ارْتِكَابَ الْكَبَائِرِ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا قَاصٌّ يَقُصُّ
وَهُوَ يَذْكُرُ النَّارَ وَالْأَغْلَالَ، فَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: يَا
مُذَكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ؟ ثم قرأ: "يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَمَوِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا [عَبْدُ اللَّهِ]
(4) بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ هِلَالٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ
وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: { يا عبادي
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وَلَا يُبَالِي" (5) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن
أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً
__________
(1) أخرجه الطبري: 24 / 15، وانظر: أسباب النزول للوحداي ص 427-428.
(2) أخرجه الطبري: 24 / 16.
(3) أخرجه الطبري: 24 / 16، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 237 لابن ابي
شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في شعب
الإيمان.
(4) في "ب" (عبد الرحمن).
(5) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الزمر: 9/111-112، وقال: "هذا حديث حسن
غريب، لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب"، والمصنف في شرح السنة: 14
/ 384.
وَتِسْعِينَ
إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ
لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ، فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَأَى
بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ أَنَّ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى
إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى
هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ" (1) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى العنبري عن
107/ب مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ،
وَقَالَ: "فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا فَقَتَلَهُ
وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ
عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ لَهُ: قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ
تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟
انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ
فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ
سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ الطَّرِيقِ أَتَاهُ الْمَوْتُ،
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فأتاهم
ملك من صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ
الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسَوْا
فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ
الرَّحْمَةِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ -لِأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ
فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ
فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ
أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ،
فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا
فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ
وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا
أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ،
حَدَّثَنَا ضَمْضَمُ بْنُ جَوْسٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ
فَنَادَانِي شَيْخٌ، فَقَالَ: يَا يَمَانِيُّ تَعَالَ، وَمَا أَعْرِفُهُ، فَقَالَ:
لَا تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا، وَلَا
يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ فَقُلْتُ:
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء: 6 / 512.
(2) أخرجه مسلم في التوبة، باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، برقم: (2766) 4 /
2118.
(3) أخرجه مالك في الموطأ: 1 / 240، والبخاري في التوحيد، باب: (يريدون أن يبدلوا
كلام الله) 13 / 466، ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه،
برقم: (2756) 4 / 2109- 2110، والمصنف في شرح السنة: 14 / 380.
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
إِنَّ
هَذِهِ الْكَلِمَةَ [يَقُولُهَا] (1) أَحَدُنَا لِبَعْضِ أَهْلِهِ إِذَا غَضِبَ
أَوْ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِخَادِمِهِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَحَابَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ
وَالْآخَرُ يَقُولُ كَأَنَّهُ مُذْنِبٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَقْصِرْ أَقْصِرْ
عَمَّا أَنْتَ فِيهِ، قَالَ فَيَقُولُ: خِلْنِي وَرَبِّي، قَالَ: حَتَّى وَجَدَهُ
يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خِلْنِي
وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكَ أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ
إِلَيْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ
لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَسْتَطِيعُ
أَنْ تَحْظُرَ عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟ فَقَالَ: لَا يَا رَبِّ، فَقَالَ
اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مَسْعُودٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ الْخَطِيبُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ
عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِلَّا
اللَّمَمَ"( النَّجْمِ-32 ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا
أَلَمَّا (3)
{ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } أَقْبِلُوا وَارْجِعُوا
إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، { وَأَسْلِمُوا لَهُ } أَخْلِصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ، {
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } .
{ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي:
الْقُرْآنَ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ مَا قَالَهُ
الْحَسَنُ: الْتَزِمُوا طَاعَتَهُ وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَتَهُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ
ذَكَرَ الْقَبِيحَ لِتَجْتَنِبَهُ، وَذَكَرَ الْأَدْوَنَ لِئَلَّا تَرْغَبَ فِيهِ،
وَذَكَرَ الْأَحْسَنَ لِتُؤْثِرَهُ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: "الْأَحْسَنُ"
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْكِتَابِ، { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }
__________
(1) في "أ" يذكرها.
(2) أخرجه ابن المبارك في االزهد برقم (900) وأبو داود في الأدب، باب في النهي عن
البغي: 7 / 224-225، والإمام أحمد: 2 / 323، والمصنف في شرح السنة: 14 / 384-385 .
(3) أخرجه الترمذي في التفسير-تفسير سورة النجم- 9 / 172 وقال: "هذا حديث حسن
صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق" والمصنف في شرح السنة: 14 /
387.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
.
{ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ
وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) }
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
{
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ
مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) }
{ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } يَعْنِي: لِئَلَّا تَقُولَ نَفْسٌ، كَقَوْلِهِ:
"وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ"( النَّحْلِ-15
) أَيْ: لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ بَادِرُوا وَاحْذَرُوا
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَوْفَ أَنْ تَصِيرُوا إِلَى حَالٍ
تَقُولُونَ هَذَا القول، { يَا حَسْرَتَا } يَا نَدَامَتَا، وَالتَّحَسُّرُ
الِاغْتِمَامُ عَلَى مَا فَاتَ، وَأَرَادَ: يَا حَسْرَتِي، عَلَى الْإِضَافَةِ،
لَكِنَّ الْعَرَبَ تُحَوِّلُ يَاءَ الْكِنَايَةِ أَلِفًا فِي الِاسْتِغَاثَةِ،
فَتَقُولُ: يَا حَسْرَتَا (1) وَيَا نَدَامَتَا، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا
الْيَاءَ بَعْدَ الْأَلِفِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ { يَا حَسْرَتَايَ }، وَقِيلَ: مَعْنَى قوله: "يا حسرتا" يَا
أَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا وَقْتُكَ، { عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ
} قَالَ الْحَسَنُ: قَصَّرْتُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَمْرِ
اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فِي حَقِّ اللَّهِ. وَقِيلَ: ضَيَّعْتُ
فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَصَّرْتُ فِي الْجَانِبِ الَّذِي يُؤَدِّي
إِلَى رِضَاءِ اللَّهِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجَنْبَ جَانِبًا { وَإِنْ كُنْتُ
لَمِنَ السَّاخِرِينَ } الْمُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ
وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ
طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى جَعَلَ يَسْخَرُ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ.
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ } عَيَانًا، { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } رَجْعَةً
إِلَى الدُّنْيَا، { فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } الْمُوَحِّدِينَ.
ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي } يَعْنِي:
الْقُرْآنَ، { فَكَذَّبْتَ بِهَا } وَقُلْتَ إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، {
وَاسْتَكْبَرْتَ } تَكَبَّرْتَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، { وَكُنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ } .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ } فَزَعَمُوا
أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا، { وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ
مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ } عَنِ الْإِيمَانِ.
{ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: "بِمَفَازَاتِهِمْ" بِالْأَلِفِ عَلَى
__________
(1) في "ب" : يا ويلتي .
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
الْجَمْعِ
أَيْ: بِالطُّرُقِ الَّتِي تُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "بِمَفَازَتِهِمْ" عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ
بِمَعْنَى الْفَوْزِ، أَيْ: يُنَجِّيهِمْ بِفَوْزِهِمْ مِنَ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمُ
الْحَسَنَةِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْفَوْزِ،
وَالْجَمْعُ حَسَنٌ كَالسَّعَادَةِ وَالسَّعَادَاتِ { لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ }
لَا يُصِيبُهُمُ الْمَكْرُوهُ، { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }
{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أَيِ:
الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَهُوَ الْقَائِمُ بِحِفْظِهَا. {
لَهُ مَقَالِيدُ السموات وَالْأَرْضِ } مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ السموات والأرض
واحدها 108/أ مِقْلَادٌ، مِثْلُ مِفْتَاحٌ، وَمِقْلِيدٌ مِثْلُ مِنْدِيلٌ
وَمَنَادِيلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: مَفَاتِيحُ السموات وَالْأَرْضِ
بِالرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزَائِنُ الْمَطَرِ
وَخَزَائِنُ النَّبَاتِ. { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } ؟ قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ
دَعَوْهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ. قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ
"تَأْمُرُونَنِي" بِنُونَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى الْحَذْفِ ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ.
{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الَّذِي عَمِلْتَهُ قَبْلَ الشِّرْكِ وَهَذَا خِطَابٌ
مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ
غَيْرُهُ. وَقِيلَ: هَذَا أَدَبٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ
وَتَهْدِيدٌ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى عَصَمَهُ مِنَ الشِّرْكِ. {
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
{ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لِإِنْعَامِهِ عَلَيْكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } مَا
عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ
عَظَمَتِهِ فَقَالَ: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ }
.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ
حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ
السموات عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى
إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ،
ثُمَّ قَرَأَ: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يُونُسَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ، وَقَالَ: "وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ عَلَى إِصْبَعٍ، وَقَالَ: ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ هَزًّا، فَيَقُولُ:(
أَنَا الْمَلِكُ أَنَا اللَّهُ ) " (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ
فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَطْوِي اللَّهُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ
يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ
الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ ثُمَّ
يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ
أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ"، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أُخْرِجُهُ مُسْلِمٌ عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ
الْكُشْمِيهِنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ عَنِ
الزَّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا
الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب: "وما قدروا الله حق
قدره" 8 / 550-551.
(2) أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار برقم (2786): 4 / 2147 .
(3) أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم برقم (2788): 4 / 2148.
(4) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب: "وما قدروا الله حق
قدره" 5 / 551، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار. برقم (2787) 4 / 2148،
والمصنف في شرح السنة: 15 / 110-111.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنْظُرُونَ (68) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } مَاتُوا مِنَ الْفَزَعِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى، {
إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } اخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ (1) ، قَالَ
الْحَسَنُ: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنِي اللَّهَ وَحْدَهُ، { ثُمَّ نُفِخَ
فِيهِ } أَيْ: فِي الصُّوَرِ، { أُخْرَى } أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى، { فَإِذَا هُمْ
قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [مِنْ قُبُورِهِمْ] (2) يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ
فِيهِمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
__________
(1) 6 / 181.
(2) زيادة من "ب".
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَيْنَ
النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ" قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قال:
"أبيت"، قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت"، قالوا: أربعون
سنة؟ قَالَ: "أَبَيْتُ"، قَالَ: "ثُمَّ يَنْزِلُ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ
الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَجْبُ
الذَّنَبِ وَمِنْهُ يَتَرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا
يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى
إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ } أَضَاءَتْ، { بِنُورِ
رَبِّهَا } بِنُورِ خَالِقِهَا، وَذَلِكَ حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ
الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَمَا يَتَضَارُّونَ فِي نُورِهِ كَمَا لَا
يَتَضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الصَّحْوِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَالسُّدِّيُّ: بِعَدْلِ رَبِّهَا، وَأَرَادَ بِالْأَرْضِ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ،
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أَيْ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ، { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ
بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي الْحَفَظَةَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: "وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ"( ق-21 )
{ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أَيْ: بِالْعَدْلِ، { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
} أَيْ: لَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ.
{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } أَيْ: ثَوَابَ مَا عَمِلَتْ، { وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنِّي عَالِمٌ
بِأَفْعَالِهِمْ لَا أَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ وَلَا إِلَى شَاهِدٍ.
{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ } سَوْقًا عَنِيفًا، { زُمُرًا }
أَفْوَاجًا بَعْضُهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى حِدَةٍ قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: "زُمُرًا" أَيْ: جَمَاعَاتٍ فِي
تَفْرِقَةٍ، وَاحِدَتُهَا زُمْرَةٌ { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا } السَّبْعَةُ وَكَانَتْ مُغْلَقَةً قَبْلَ ذَلِكَ، قَرَأَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ "فُتِحَتْ، وَفُتِحَتْ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } تَوْبِيخًا
وَتَقْرِيعًا لَهُمْ، { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } مِنْ أَنْفُسِكُمْ {
يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ } وَجَبَتْ، { كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى
الْكَافِرِينَ } وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"( هُودٍ-119 )
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب: "ونفخ في الصور فصعق
من في السموات ومن في الأرض": 8 / 551، ومسلم في الفتن، باب: ما بين
النفختين. برقم (2955) 4 / 2270-2271، والمصنف في شرح السنة: 15 / 104.
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
.
{ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) }
{ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } قَالَ الْكُوفِيُّونَ:
هَذِهِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ حَتَّى تَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: "حَتَّى إذا
جاءوها" 108/ب كَمَا فِي سَوْقِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
وَضِيَاءً"( الْأَنْبِيَاءِ-48 ) [أَيْ: ضِيَاءً] (1) وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ.
وَقِيلَ: الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، مَجَازُهُ: وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا،
فَأَدْخَلَ الْوَاوَ لِبَيَانِ أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ،
وَحَذْفُهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِبَيَانِ أَنَّهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً قَبْلَ
مَجِيئِهِمْ.
فَإِذَا لَمْ تُجْعَلِ الْوَاوُ زَائِدَةً فِي قَوْلِهِ: "وَفُتِحَتْ"
اخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: "وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا"
وَالْوَاوُ فِيهِ مُلْغَاةٌ تَقْدِيرُهُ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَوْلُ عِنْدِي
أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: "حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" دَخَلُوهَا، فَحَذَفَ "دَخَلُوهَا"
لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } يُرِيدُ أَنَّ
خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ: طِبْتُمْ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: طَابَ لَكُمُ الْمَقَامُ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ إِذَا قَطَعُوا
النَّارَ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا أُدْخِلُوا
الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُمْ رِضْوَانُ وَأَصْحَابُهُ: "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سِيقُوا إِلَى الْجَنَّةِ
فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهَا وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ
تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ فَيَغْتَسِلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَيَطْهُرُ
ظَاهِرُهُ، وَيَشْرَبُ مِنَ الْأُخْرَى فَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ، وَتَلَقِّيهُمُ
الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ: { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } . (3)
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: القرطبي: 15 / 286.
(3) انظر: الدر المنثور: 7 / 263، القرطبي: 15 / 286.
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) }
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (75) }
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ } أَيْ: أَرْضَ الْجَنَّةِ. وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"( الْأَنْبِيَاءِ-105 ) { نَتَبَوَّأُ }
نَنْزِلُ، { مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَنِعْمَ
أَجْرُ الْعَامِلِينَ } ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ.
{ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } أَيْ: مُحْدِقِينَ
مُحِيطِينَ بِالْعَرْشِ، مُطِيفِينَ بِحَوَافِيهِ أَيْ: بِجَوَانِبِهِ، {
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } قِيلَ: هَذَا تَسْبِيحُ تَلَذُّذٍ لَا
تَسْبِيحُ تَعَبُّدٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ [يَزُولُ] (1) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ {
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أَيْ: قُضِيَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ بِالْعَدْلِ، { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: شُكْرًا لِلَّهِ، حِينَ تَمَّ وَعْدُ اللَّهِ لَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ لِأَهْلِهِ
مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ
مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ (2) ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنَ
الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ وَأَعْجَبُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ
مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عِظَمِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ
الرَّوْضَاتِ الدَّمِثَاتِ مَثَلُ الْـ حم فِي الْقُرْآنِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الرُّومِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ الْجَرَّاحَ بْنَ أَبِي الْجَرَّاحِ
حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ وَلُبَابُ والقرآن
الْحَوَامِيمُ (4) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا وَقَعْتُ فِي آلِ حم وَقَعْتُ
فِي رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ أَتَأَنَّقُ فِيهِنَّ (5) . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ: كُنَّ -آلَ حم-يُسَمَّيْنَ الْعَرَائِسَ (6) .
__________
(1) في "ب": متروك.
(2) في تربتها لين وسهولة، نقول: رجل دمث: سهل خلقه.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 268-269 لمحمد بن نصر، وحميد بن زنجويه.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 268 لأبي عبيد في فضائله.
(5) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 268 لأبي عبيد، ومحمد بن نصر، وابن المنذر.
وانظر: البحر المحيط: 7 / 447.
(6) أخرجه الدارمي: 2 / 328، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 269 نسبته لمحمد
بن نصر.
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
سُورَةُ
غَافِرٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ
الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { حم } قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي
(2) . قَالَ الْسُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حم اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ قَالَ: الر، وَحم، وَنون، حُرُوفُ
"الرَّحْمَنِ" مُقَطَّعَةً (3) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْحَاءُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ: حَكِيمٌ حَمِيدٌ
حَيٌّ حَلِيمٌ حَنَّانٌ، وَالْمِيمُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ: مَالِكٌ مَجِيدٌ
مَنَّانٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ
كَأَنَّهُمَا أَشَارَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: حُمَّ، بِضَمِّ الْحَاءِ
وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ (4) . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ:
حِم بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ }
سَاتِرِ الذَّنْبِ، { وَقَابِلِ التَّوْبِ }
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
قال: أنزلت الحواميم السبع بمكة.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي -رضي الله عنه- قال: أخبرني مسروق رضي الله عنه أنها
أنزلت بمكة.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: نزلت الحواميم
جميعا بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نزلت حم (المؤمن) بمكة، انظر:
الدر المنثور: 7 / 268.
(2) راجع فيما سبق: 1 / 58-59.
(3) أخرجه الطبري: 24 / 39.
(4) قال صاحب البحر المحيط: 7 / 447: "تقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في
أول البقرة، وقد زادوا في حاميم أقوالا وهي مروية عن السلف غنينا عن ذكرها
لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها".
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
يَعْنِي
التَّوْبَةَ، مَصْدَرُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا. وَقِيلَ: التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ
مِثْلُ دَوْمَةٍ وَدَوْمٍ وَحَوْمَةٍ وَحَوْمٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَافِرُ
الذَّنْبِ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، [وَقَابِلُ التَّوْبِ مِمَّنْ
قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] (1) { شَدِيدُ الْعِقَابِ } لِمَنْ لَا يَقُولُ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، { ذِي الطَّوْلِ } ذِي الْغِنَى عَمَّنْ لَا يَقُولُ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "ذِي الطَّوْلِ": ذِي
السَّعَةِ وَالْغِنَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: ذُو الْفَضْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُو
النِّعَمِ. وَقِيلَ: ذُو الْقُدْرَةِ. وَأَصْلُ الطَّوْلِ الْإِنْعَامُ الَّذِي
تَطُولُ مُدَّتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ. { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
} .
{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) }
{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ } فِي دَفْعِ آيَاتِ اللَّهِ بِالتَّكْذِيبِ
وَالْإِنْكَارِ، { إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
آيَتَانِ مَا أَشَدَّهُمَا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْقُرْآنِ:
"مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الذين كفروا" و"إن
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (2) (
الْبَقَرَةِ-176 ).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ
عَنْ لَيْثٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ
جِدَالًا فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا يَتَمَارَوْنَ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ:
"إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) انظر: القرطبي: 15 / 292.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 273 لعبد بن حميد، وليث فيه ضعف. وانظر:
الكافي الشاف ص (144) وأخرجه الطيالسي في المسند ص 302 والبيهقي من حديث عبد الله
بن عمرو بلفظ: "لا تجادلوا في القرآن، فإن جدالا فيه كفر" انظر: الفتح
السماوي: 3 / 975-976 كنز العمال: 1 / 615.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
بَعْضُهُ
بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ
فَقُولُوهُ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ }
تَصَرُّفُهُمْ فِي الْبِلَادِ لِلتِّجَارَاتِ وَسَلَامَتُهُمْ فِيهَا مَعَ
كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمُ الْعَذَابُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: "لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
الْبِلَادِ"( آلِ عِمْرَانَ-196 ) .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ
كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا
بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) }
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } وَهُمُ
الْكُفَّارُ الذين تحزبوا 109/أ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ مِنْ بَعْدِ
قَوْمِ نُوحٍ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَقْتُلُوهُ وَيُهْلِكُوهُ. وَقِيلَ: لِيَأْسِرُوهُ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَسِيرَ أَخِيذًا، { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا } لِيُبْطِلُوا، { بِهِ الْحَقَّ } الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ
وَمُجَادَلَتُهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: "إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مثلنا"( إبراهيم-10 ) ، و"لولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلَائِكَةُ"( الْفَرْقَانِ-21 ) وَنَحْوَ ذَلِكَ، { فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } .
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } يَعْنِي: كَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ حَقَّتْ، { عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا }
مِنْ قَوْمِكَ، { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنَّهُمْ
أَوْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ.
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ }
حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالطَّائِفُونَ بِهِ وَهُمُ الْكَرُوبِيُّونَ، وَهُمْ سَادَةُ
الْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ كَعْبِ
أَحَدِهِمْ إِلَى أَسْفَلِ قَدَمَيْهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ (2) ،
وَيُرْوَى أَنَّ أَقْدَامَهُمْ فِي تُخُومِ الأرضين، والأرضون والسموات إِلَى
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ( كتاب الجامع للإمام معمر): 11 / 217، والإمام
أحمد: 2 / 195، وابن ماجه بمعناه برقم: (85) في المقدمة: 1 / 33 وقال في الزوائد:
إسناده صحيح ورجاله ثقات، وعزاه في مجمع الزوائد: 1 / 171 للطبراني في الكبير،
وفيه صالح بن أبي الأخضر.
(2) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 143، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 275-276 لعبد بن حميد وابن مردويه.
حُجُزِهِمْ،
وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ ذِي
الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، سَبُوحٌ
قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ.
وَقَالَ مَيْسَرَةُ بْنُ عَرُوبَةَ: أَرْجُلُهُمْ فِي الأرض السفلى، ورؤوسهم
خَرَقَتِ الْعَرْشَ، وَهُمْ خُشُوعٌ لَا يَرْفَعُونَ طَرْفَهُمْ، وَهُمْ أَشَدُّ
خَوْفًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَهْلُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
أَشَدُّ خَوْفًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، وَالَّتِي تَلِيهَا
أَشَدُّ خَوْفًا مِنَ الَّتِي تَلِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ
وَالْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ
مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ
إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ" (1) .
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: [إِنَّ
مَا] (2) بَيْنَ الْقَائِمَةِ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَالْقَائِمَةِ
الثَّانِيَةِ خَفَقَانَ الطَّيْرِ الْمُسْرِعِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ عَامٍ،
وَالْعَرْشُ يُكْسَى كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ أَلْفَ لَوْنٍ مِنَ النُّورِ، لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَالْأَشْيَاءُ
كُلُّهَا فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ
أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ، وَحِجَابٍ مِنْ ظُلْمَةٍ وَحِجَابُ نُورٍ وَحِجَابُ
ظُلْمَةٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ حَوْلَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ أَلْفَ صَفٍّ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ، صَفٌّ خَلْفَ صَفٍّ يَطُوفُونَ بِالْعَرْشِ، يُقْبِلُ
هَؤُلَاءِ [وَيُدْبِرُ] (3) هَؤُلَاءِ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
هَلَّلَ هَؤُلَاءِ وَكَبَّرَ هَؤُلَاءِ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ سَبْعُونَ أَلْفَ
صَفٍّ قِيَامٌ، أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ قَدْ وَضَعُوهَا عَلَى
عَوَاتِقِهِمْ، فَإِذَا سَمِعُوا تَكْبِيرَ أُولَئِكَ وَتَهْلِيلَهُمْ رَفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ مَا أَعْظَمَكَ
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة، باب في الجهمية: 7 / 17 والبيهقي في الأسماء
والصفات: 2 / 142 بسند صحيح، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 274 عزوه لابن أبي
حاتم وأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "أ": ويقبل.
وَأَجَلَّكَ
أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ، أَنْتَ الْأَكْبَرُ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ
لَكَ رَاجِعُونَ. وَمِنْ وَرَاءِ هَؤُلَاءِ مِائَةُ أَلْفِ صَفٍّ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ قَدْ وَضَعُوا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ
إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ بِتَحْمِيدٍ لَا يُسَبِّحُهُ الْآخَرُ، مَا بَيْنَ
جَنَاحَيْ أحدهم مسيرة ثلثمائة عَامٍ، وَمَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى
عَاتِقِهِ أَرْبَعُمِائَةِ عَامٍ، وَاحْتَجَبَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
الَّذِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ بِسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نَارٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا
مِنْ ظُلْمَةٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ دُرٍّ
أَبْيَضَ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، [وَسَبْعِينَ حِجَابًا
مِنْ يَاقُوتٍ أَصْفَرَ] (1) وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ زَبَرْجَدٍ أَخْضَرَ،
وَسَبْعِينَ حِجَابًا مَنْ ثَلْجٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ مَاءٍ، وَسَبْعِينَ
حِجَابًا مَنْ بَرَدٍ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ:
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ،
وَجْهُ ثَوْرٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ وَوَجْهُ نِسْرٍ وَوَجْهُ إِنْسَانٍ، وَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، أَمَّا جَنَاحَانِ فَعَلَى وَجْهِهِ
مَخَافَةَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْعَرْشِ فَيُصْعَقَ، وَأَمَّا جَنَاحَانِ
فَيَهْفُو بِهِمَا، لَيْسَ لَهُمْ كَلَامٌ إِلَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّكْبِيرُ
وَالتَّمْجِيدُ (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ }
يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ
بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَّاشِيُّ،
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ رَبَابٍ،
حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ،
فَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ
الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ
قُدْرَتِكَ، قَالَ: وَكَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ ذُنُوبَ بَنِي آدَمَ (3) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا }
يَعْنِي يَقُولُونَ رَبَّنَا، { وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }
قِيلَ: نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَقِيلَ: عَلَى النَّقْلِ، أَيْ: وَسِعَتْ
رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ، { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ } دِينَكَ { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } قَالَ [مُطَرِّفٌ] (4) :
أَنْصَحُ عِبَادِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَغَشُّ الْخَلْقِ
لِلْمُؤْمِنِينَ هُمُ الشَّيَاطِينُ (5) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 208.
(3) ذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 73.
(4) ساقط من "أ".
(5) انظر: القرطبي 15 / 295.
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
{
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (8) }
{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ
مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ:
أَيْنَ أَبِي؟ أَيْنَ أُمِّي، أَيْنَ وَلَدِي
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
أَيْنَ
زَوْجِي؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِكَ، فَيَقُولُ:
إِنِّي كُنْتُ أَعْمَلُ لِي وَلَهُمْ، فَيُقَالُ: أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ (1) .
{ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ
اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ
فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
}
{ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } الْعُقُوبَاتِ، { وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ } أَيْ:
وَمَنْ تَقِهِ السَّيِّئَاتِ يَعْنِي الْعُقُوبَاتِ، وَقِيلَ: جَزَاءَ
السَّيِّئَاتِ، { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ } يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي النَّارِ وَقَدْ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ عُرِضَتْ
عَلَيْهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ، وَعَايَنُوا الْعَذَابَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: { لَمَقْتُ
اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ
فَتَكْفُرُونَ } يَعْنِي لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمُ الْيَوْمَ
أَنْفُسَكُمْ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِكُمْ.
{ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا، ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُمَا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ (2) ، وَهَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثم يحييكم" 109/ب ( الْبَقَرَةِ-28 ) ،
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيَوْا فِي قُبُورِهِمْ
لِلسُّؤَالِ، ثُمَّ أُمِيتُوا فِي قُبُورِهِمْ ثُمَّ أُحْيَوْا فِي الْآخِرَةِ (3)
. { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أَيْ: مِنْ
خُرُوجٍ مِنَ النَّارِ إِلَى الدُّنْيَا فَنُصْلِحَ أَعْمَالَنَا وَنَعْمَلَ
بِطَاعَتِكَ، نَظِيرُهُ: "هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ"(
الشُّورَى-44 ) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 24 / 45.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 278 لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(3) أخرجه الطبري: 24 / 48.
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ
إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
(15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ
كَفَرْتُمْ } وَفِيهِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ
عَلَيْهِ، مَجَازُهُ: فَأُجِيبُوا أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا
الْعَذَابُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ بِأَنَّكُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ
كَفَرْتُمْ، إِذَا قِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [كَفَرْتُمْ] (1) وَقُلْتُمْ:
"أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا"( ص-5 ) { وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ
} غَيْرُهُ، { تُؤْمِنُوا } تُصَدِّقُوا ذَلِكَ الشِّرْكَ، { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ
الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ وَلَا أَكْبَرَ.
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا }
يَعْنِي: الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ، { وَمَا يَتَذَكَّرُ }
وَمَا يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، { إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } يَرْجِعُ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ. {
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } رَافِعُ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فِي
الْجَنَّةِ، { ذُو الْعَرْشِ } خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ، { يُلْقِي الرُّوحَ }
يُنَزِّلُ الْوَحْيَ، سَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ كَمَا
تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ، { مِنْ أَمْرِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مِنْ قَضَائِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِأَمْرِهِ. { عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ } أَيْ: لِيُنْذِرَ النَّبِيُّ
بِالْوَحْيِ، { يَوْمَ التَّلَاقِ } وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالتَّاءِ أَيْ:
لِتُنْذِرَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ التَّلَاقِ، يَوْمَ يَلْتَقِي أَهْلُ
السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يَلْتَقِي فِيهِ
الْخَلْقُ وَالْخَالِقُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَتَلَاقَى الْعِبَادُ. وَقَالَ
مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: يَلْتَقِي الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ وَالْخُصُومُ.
وَقِيلَ: يَلْتَقِي الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي فِيهِ
الْمَرْءُ مَعَ عَمَلِهِ (2) .
{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } خَارِجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ ظَاهِرُونَ لَا
يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ، { لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ } مِنْ أَعْمَالِهِمْ
وَأَحْوَالِهِمْ، { شَيْءٌ } يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ }
__________
(1) في "ب" أنكرتم.
(2) ذكر هذه الأقوال القرطبي: 15 / 300.
فُلَا أَحَدٌ يُجِيبُهُ، فَيُجِيبُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ: { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } الَّذِي قَهَرَ الْخَلْقَ بِالْمَوْتِ.
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
{
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ
الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا
شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ
(19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا
يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا
مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ
(21) }
{ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يُجْزَى الْمُحْسِنَ
بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، { لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ } يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ إِذْ كَلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، نَظِيرُهُ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَزِفَتِ الْآزِفَةُ"( النَّجْمِ-57 ) أَيْ:
قَرُبَتِ الْقِيَامَةُ { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } وَذَلِكَ أَنَّهَا
تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْخَوْفِ حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الْحَنَاجِرِ،
فَلَا هِيَ تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، وَلَا هِيَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
فَيَمُوتُوا وَيَسْتَرِيحُوا، { كَاظِمِينَ } مَكْرُوبِينَ مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا
وَحُزْنًا، وَالْكَظْمُ تَرَدُّدُ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فِي
الْقَلْبِ حَتَّى يَضِيقَ بِهِ. { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } قَرِيبٌ
يَنْفَعُهُمْ، { وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } فَيَشْفَعُ فِيهِمْ.
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } أَيْ: خِيَانَتَهَا وَهِيَ مُسَارَقَةُ
النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ نَظَرُ الْأَعْيُنِ
إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } .
{ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } [يَعْنِي
الْأَوْثَانَ] (1) { لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ شَيْئًا
وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، قَرَأَ نَافِعٌ [وَابْنُ عَامِرٍ] (2) :
"تَدْعُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. { إِنَّ
اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً }
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "مِنْكُمْ" بِالْكَافِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
مَصَاحِفِهِمْ، { وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ {
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }
يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "ب".
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) }
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) }
{ ذَلِكَ } أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، { بِأَنَّهُمْ كَانَتْ
تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ
مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا } يَعْنِي فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ { اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } قَالَ قَتَادَةُ:
هَذَا غَيْرُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ
قَتْلِ الْوِلْدَانِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-أَعَادَ
الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَعِيدُوا عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ (1) {
وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } لِيَصُدُّوهُمْ بِذَلِكَ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى
وَمُظَاهَرَتِهِ، { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ } وَمَا مَكَرُ فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ وَاحْتِيَالُهُمْ، { إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أَيْ: يَذْهَبُ كَيْدُهُمْ
بَاطِلًا وَيَحِيقُ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } لِمَلَئِهِ، { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } وَإِنَّمَا
قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي خَاصَّةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ
قَتْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أَيْ: وَلْيَدْعُ مُوسَى
رَبَّهُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا فَيَمْنَعَهُ مِنَّا، {
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ } يُغَيِّرَ، { دِينَكُمْ } الَّذِي أَنْتُمْ
عَلَيْهِ، { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } قَرَأَ يَعْقُوبُ
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ "أَوْ أَنْ يَظْهَرَ " وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"وَأَنْ يَظْهَرَ " وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ
وَحَفْصٌ "يُظْهِرَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى
التَّعْدِيَةِ، { الْفَسَادَ } نُصِبَ لِقَوْلِهِ: "أَنْ يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ" حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلَانِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ عَلَى اللُّزُومِ،
"الْفَسَادُ" رُفِعَ وَأَرَادَ بِالْفَسَادِ تَبْدِيلَ الدِّينِ
وَعِبَادَةَ غَيْرِهِ.
__________
(1) ذكره القرطبي: 15 / 305.
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ
جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) }
{ وَقَالَ مُوسَى } لَمَّا تَوَعَّدَهُ فِرْعَوْنُ بِالْقَتْلِ، { إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } .
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمُؤْمِنِ: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ
قِبْطِيًّا ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الَّذِي حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ:
"وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى"( الْقِصَصِ-20 ) ،
وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَمَجَازُ الْآيَةِ: وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ اسْمُهُ حِزْئِيلَ
عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ
اسْمُهُ [جُبْرَانَ] (1) . وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي آمَنَ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ حَبِيبًا (2) { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ }
لِأَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ
} أَيْ: بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ } 110/أ لَا يَضُرُّكُمْ ذَلِكَ، { وَإِنْ يَكُ صَادِقًا }
فَكَذَّبْتُمُوهُ، { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْكُلُّ، أَيْ: إِنْ قَتَلْتُمُوهُ وَهُوَ
صَادِقٌ أَصَابَكُمْ مَا يَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّيْثُ:
"بَعْضُ" صِلَةٌ، يُرِيدُ: يُصِبُكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ. وَقَالَ
أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْحِجَاجِ كَأَنَّهُ قَالَ:
أَقَلُّ مَا فِي صِدْقِهِ أَنْ يُصِيبَكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وَفِي
بَعْضِ ذَلِكَ هَلَاكُكُمْ، فَذَكَرَ الْبَعْضَ لِيُوجِبَ الْكُلَّ، { إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي } إِلَى دِينِهِ، { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } [مُشْرِكٌ] (3) {
كَذَّابٌ } عَلَى اللَّهِ.
__________
(1) في "ب" جبريل.
(2) هذا القول الأخير ذكره السيوطي في الدر المنثور: 7 / 285، وذكر القولين
السابقين الطبري: 24 / 58 وقال مرجحا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي،
القول الذي قاله السدي من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون، قد أصغى لكلامه،
واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله، وقيله ما قال، وقال له:
ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن
يعاجل هذا القائل له ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله، لأنه لم يكن يستنصح بني
إسرائيل، لاعتداده إياهم أعداء له، فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلا،
ولكنه لما كان من ملأ قومه، استمع قوله، وكف عما كان هم به في موسى" اهـ.
(3) زيادة من "ب".
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ
عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا
شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ من ربكم" (1)
.
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ
يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ
إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ
الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ
(30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) }
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } غَالِبِينَ
فِي أَرْضِ مِصْرَ، { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ } مَنْ يَمْنَعُنَا
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، { إِنْ جَاءَنَا } وَالْمَعْنَى لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
فَلَا تَتَعَرَّضُوا لِعَذَابِ اللَّهِ بِالتَّكْذِيبِ، وَقَتْلِ النَّبِيِّ
فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ حَلَّ بِكُمْ، { قَالَ فِرْعَوْنُ
مَا أُرِيكُمْ } مِنَ الرَّأْيِ وَالنَّصِيحَةِ، { إِلَّا مَا أَرَى } لِنَفْسِي.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا أُعْلِمُكُمْ إِلَّا مَا أَعْلَمُ، { وَمَا أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } مَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى.
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ } أَيْ: مِثْلَ عَادَتِهِمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى التَّكْذِيبِ
حَتَّى أَتَاهُمُ الْعَذَابُ، { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ }
أَيْ: لَا يُهْلِكُهُمْ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُدْعَى كُلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ وَيُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
فَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ، وَأَصْحَابُ النَّارِ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ، وَيُنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَيُنَادَى
بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، أَلَا إِنَّ فَلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَدْ سَعِدَ
سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَفُلَانَ ابن فُلَانٍ قَدْ شَقِيَ
شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيُنَادَى حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ:
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا
مَوْتَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة المؤمن: 8 / 553-554.
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
وَقَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: "يَوْمَ التَّنَادِّ" بِتَشْدِيدِ
الدَّالِّ أَيْ: يَوْمَ التَّنَافُرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هَرَبُوا فَنَدَّوْا فِي
الْأَرْضِ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ إِذَا شَرَدَتْ عَنْ أَرْبَابِهَا.
قَالَ الضَّحَّاكُ: وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا زَفِيرَ النَّارِ نَدَّوْا هَرَبًا
فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنَ الْأَقْطَارِ إِلَّا وَجَدُوا الْمَلَائِكَةَ
صُفُوفًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا"( الحاقة-17 )
وقوله: "يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا من
أقطار السموات وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا" (1) .( الرَّحْمَنِ-33 )
{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) }
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 311.
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) }
{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ إِلَى
النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَارِّينَ غَيْرَ مُعْجِزِينَ { مَا لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } يَعْصِمُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } . { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ } يَعْنِي
يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ "مِنْ قَبْلُ" أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُوسَى، {
بِالْبَيِّنَاتِ } يَعْنِي قَوْلَهُ: "أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ
أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ"( يُوسُفَ-39 ) { فَمَا زِلْتُمْ فِي
شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، { حَتَّى إِذَا هَلَكَ } مَاتَ { قُلْتُمْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } أَيْ: أَقَمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ
وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُجَدِّدُ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، { كَذَلِكَ
يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } مُشْرِكٌ، { مُرْتَابٌ } شَاكٌّ.
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا
تَفْسِيرٌ لِلْمُسْرِفِ الْمُرْتَابِ يَعْنِي هُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِ اللَّهِ أَيْ: فِي إِبْطَالِهَا بِالتَّكْذِيبِ { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ }
حُجَّةٍ { أَتَاهُمْ } [مِنَ اللَّهِ] (1) { كَبُرَ مَقْتًا } أَيْ: كَبُرَ ذَلِكَ
الْجِدَالُ مَقْتًا، { عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ
عَامِرٍ "قَلْبٍ" بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِضَافَةِ،
دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "عَلَى قَلْبِ كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ".
__________
(1) زيادة من "ب".
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) }
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
{
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
(41) }
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } لوزيره: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا } وَالصَّرْحُ:
الْبِنَاءُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ وَإِنْ بَعُدَ،
وَأَصْلُهُ مِنَ التَّصْرِيحِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، { لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ } . { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } يَعْنِي: طُرُقَهَا وَأَبْوَابَهَا
مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } قِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ بِرَفْعِ الْعَيْنِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ" وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ الْعَيْنِ وَهِيَ
قِرَاءَةُ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَلَى جَوَابِ "لَعَلَّ" بِالْفَاءِ، {
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ } يَعْنِي مُوسَى، { كَاذِبًا } فِيمَا يَقُولُ إِنَّ لَهُ
رِبًّا غَيْرِي، { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ
السَّبِيلِ } قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ: "وَصُدَّ" بِضَمِّ
الصَّادِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ" قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: صَدَّهُ اللَّهُ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْفَتْحِ أَيْ: صَدَّ فِرْعَوْنُ النَّاسَ عَنِ السَّبِيلِ. { وَمَا كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } يَعْنِي: وَمَا كَيْدُهُ فِي إِبْطَالِ آيَاتِ
مُوسَى إِلَّا فِي خَسَارٍ وَهَلَاكٍ. { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ
اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } طريق الهدى.
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } مُتْعَةٌ
تَنْتَفِعُونَ بِهَا مُدَّةً ثُمَّ تَنْقَطِعُ، { وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ
الْقَرَارِ } الَّتِي لَا تَزُولُ.
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِمْ
فِيمَا يُعْطَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ. { وَيَا قَوْمِ مَا لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ } يَعْنِي: مَا لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ: مَا لِي
أَرَاكَ حَزِينًا؟ أَيْ: مَا لَكَ؟ يَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْكُمْ؟ كَيْفَ هَذِهِ
الْحَالُ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، {
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ } ؟ إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ،
ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ
وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
(43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) }
{ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ
كَفَرَ، الغفار لذنوب 110/ب أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
{ لَا جَرَمَ } حَقًّا، { أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أَيْ: إِلَى
الْوَثَنِ، { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ } قَالَ
الْسُّدِّيُّ: لَا يَسْتَجِيبُ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ،
يَعْنِي لَيْسَتْ لَهُ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ لَهُ دَعْوَةٌ
إِلَى عِبَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَدَّعِي
الرُّبُوبِيَّةَ، وَلَا تَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ تَتَبَرَّأُ
مِنْ عَابِدِيهَا. { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } مَرْجِعُنَا إِلَى
اللَّهِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ، { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ }
الْمُشْرِكِينَ، { هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } .
{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ حِينَ لَا
يَنْفَعُكُمُ الذِّكْرُ، { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ تَوَعَّدُوهُ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُمْ، { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ } يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، ثُمَّ خَرَجَ الْمُؤْمِنُ
مِنْ بَيْنِهِمْ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا }
[مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الشَّرِّ] (1) قَالَ قَتَادَةُ: نَجَا مَعَ مُوسَى
وَكَانَ قِبْطِيًّا، { وَحَاقَ } نَزَلَ، { بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }
الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارُ فِي الْآخِرَةِ.
وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { النَّارُ } هِيَ رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ
السُّوءِ، { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } صَبَاحًا وَمَسَاءً،
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ سُودٍ
يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى النَّارِ،
وَيُقَالُ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
(2) .
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 468، والقرطبي: 15 / 318.
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
وَقَالَ
قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: تُعْرَضُ رُوحُ كُلِّ
كَافِرٍ عَلَى النَّارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَا دَامَتِ الدُّنْيَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ
عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ
أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ
إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1) .
ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُسْتَقَرِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ
وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ: "السَّاعَةُ" "ادْخُلُوا"
بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَالْوَصْلِ، وَبِضَمِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَضَمِّ
الْخَاءِ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا يَا "آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"أَدْخِلُوا" بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَكَسْرِ الْخَاءِ مِنَ الْإِدْخَالِ،
أَيْ: يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَلْوَانَ الْعَذَابِ غَيْرَ الَّذِي كَانُوا
يُعَذَّبُونَ بِهِ مُنْذُ أُغْرِقُوا.
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا
نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ
(49) }
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي: 3 /
243، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار
عليه وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه برقم: (2866): 4 / 2199.
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{
قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى
قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) }
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } أَيْ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ، يَعْنِي أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ، { فَيَقُولُ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } فِي
الدُّنْيَا، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ }
وَالتَّبَعُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا فِي قَوْلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ،
وَوَاحِدُهُ تَابِعٌ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ،
وَجَمْعُهُ أَتْبَاعٌ.
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ
بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ } حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ
الْعَذَابُ، { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا
مِنَ الْعَذَابِ } .
{ قَالُوا } يَعْنِي خَزَنَةُ جهنم لهم، { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا } أَنْتُمْ إذًا رَبَّكُمْ،
إِنَّا لَا نَدْعُو لَكُمْ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلَالٍ }
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
أَيْ:
يُبْطِلُ وَيُضِلُّ وَلَا يَنْفَعُهُمْ.
{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى
وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
(55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِالْحُجَّةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعُذْرِ. وَقِيلَ:
بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ
قَدْ كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ مَنْصُورُونَ بِالْحُجَّةِ عَلَى
مَنْ خَالَفَهُمْ، وَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقَهْرِ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ
وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَنَصَرَهُمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلُوا بِالِانْتِقَامِ
مِنْ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا نَصَرَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا لَمَّا قُتِلَ، قُتِلَ
بِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَهُمْ مَنْصُورُونَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، {
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُومُ
الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وَعَلَى
الْكَفَّارِ بِالتَّكْذِيبِ.
{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } إِنِ اعْتَذَرُوا عَنْ
كُفْرِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَابُوا لَمْ يَنْفَعْهُمْ، { وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ } الْبُعْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } يَعْنِي
جَهَنَّمَ.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } قَالَ مُقَاتِلٌ: الْهُدَى مِنَ
الضَّلَالَةِ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
الْكِتَابَ } [التَّوْرَاةَ] (1) .
{ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } .
{ فَاصْبِرْ } يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَذَاهُمْ، { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } فِي إِظْهَارِ
دِينِكَ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِكَ { حَقٌّ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَسَخَتْ آيَةُ
الْقِتَالِ آيَةَ الصَّبْرِ (2) ، { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } هَذَا تَعَبُّدٌ
مِنَ اللَّهِ لِيَزِيدَهُ بِهِ دَرَجَةً وَلِيَصِيرَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ، {
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } صَلِّ شَاكِرًا لِرَبِّكَ { بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكَارِ } قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَاةَ
الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ } مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَالصَّدْرُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) راجع فيما سبق: 3 / 32 تعليق (1).
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
مَوْضِعُ
الْقَلْبِ، فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْقَلْبِ لِقُرْبِ الْجِوَارِ، { إِلَّا كِبْرٌ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ إِلَّا مَا فِي
صُدُورِهِمْ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعَظَمَةِ، { مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } قَالَ
مُجَاهِدٌ: مَا هُمْ بِبَالِغِي مُقْتَضَى ذَلِكَ الْكِبَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ مُذِلُّهُمْ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا تَكَبُّرٌ عَلَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَمَعٌ فِي أَنْ يَغْلِبُوهُ (1) وَمَا هُمْ
بِبَالِغِي ذَلِكَ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ صَاحِبَنَا الْمَسِيحَ بْنَ
دَاوُدَ -يَعْنُونَ الدَّجَّالَ-يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَيَبْلُغُ
سُلْطَانُهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَيْنَا (2) ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، {
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) }
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } مَعَ عِظَمِهِمَا، { أَكْبَرُ } أَعْظَمُ
فِي الصُّدُورِ، { مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } أَيْ: مِنْ إِعَادَتِهِمْ بَعْدَ
الْمَوْتِ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } يَعْنِي الْكُفَّارَ، { لَا
يَعْلَمُونَ } حَيْثُ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ خَالِقِهَا.
وَقَالَ قَوْمٌ: "أَكْبَرُ" [أَيْ: أَعْظَمُ] (3) مِنْ خَلْقِ
الدَّجَّالِ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } يَعْنِي الْيَهُودَ
الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ.
وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ
السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ،
أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ،
[أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ] (5) حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ عن قتادة 111/أ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: "إِنَّ
بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ سِنِينَ: سَنَةٌ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا،
وَالْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ
قَطْرِهَا، وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، وَالثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ
قَطْرَهَا كُلَّهُ، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ، فَلَا يَبْقَى ذَاتَ ظِلْفٍ وَلَا
ذَاتَ ضِرْسٍ مِنَ الْبَهَائِمِ إِلَّا هَلَكَ، وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ فِتْنَتِهِ
أَنَّهُ يَأْتِي الْأَعْرَابِيَّ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ
إِبِلَكَ أَلَيْسَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ قَالَ:
__________
(1) في غريب القرآن: (أن تقتلوه) راجع القرطين لابن مطرف: 2 / 106.
(2) انظر: الدر المنثور: 7 / 294.
(3) زيادة من "ب".
(4) أخرجه مسلم في الفتن، باب: في بقية من أحاديث الدجال، برقم: (2946): 4 /
2266-2267.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
فَيَقُولُ:
بَلَى، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ نَحْوُ إِبِلِهِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ضُرُوعًا
وَأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً، قَالَ: وَيَأْتِي الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ أَخُوهُ وَمَاتَ
أَبُوهُ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأَخَاكَ أَلَسْتَ
تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ الشَّيْطَانُ نَحْوَ
أَبِيهِ وَنَحْوَ أَخِيهِ". قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَالْقَوْمُ فِي اهْتِمَامٍ
وَغَمٍّ مِمَّا حَدَّثَهُمْ، قَالَتْ: فَأَخَذَ بِلُحْمَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ:
مَهْيَمْ أَسْمَاءُ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا
بِذِكْرِ الدَّجَّالِ، قَالَ: "إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا حَيٌّ فَأَنَا
حَجِيجُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ رَبِّي خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ"،
قَالَتْ أَسْمَاءُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّا لَنَعْجِنُ
عَجِينًا فَمَا نَخْبِزُهُ حَتَّى نَجُوعَ فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ؟
قَالَ: "يُجْزِيهِمْ مَا يُجْزِئُ أَهْلَ السَّمَاءِ مِنَ التَّسْبِيحِ
وَالتَّقْدِيسِ" (1) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ
شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ،
وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ السَّعَفَةِ فِي
النَّارِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا
الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ:
"إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ،
لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ
يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِأَعْوَرَ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا
يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى
عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ
عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" (4) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ،
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ،
__________
(1) أخرجه عبد الرازق في المصنف 11 / 391، ومن طريقه الإمام أحمد: 6 / 453، وذكره
الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 344-345 وقال: "رواه كله أحمد والطبراني من
طرق، وفي إحداها: يكون قبل خروجه سنون خمس جدب، وفيه شهر بن حوشب، وفيه ضعف، وقد
وثق" والمصنف في شرح السنة: 15 / 60-61.
(2) أخرجه عبد الرازق في المصنف: 11 / 392، ومن طريقه الإمام أحمد: 6 / 454،
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 347 ونسبه إلى الطبراني وأعله بشهر، قال:
"ولا يحتمل مخالفته للأحاديث الصحيحة أنه يلبث في الأرض أربعين يوما وفي هذا
أربعين سنة" والمصنف في شرح السنة: 15 / 62.
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قول الله عز وجل: "ولقد أرسلنا نوحا إلى
قومه" 6 / 370، والمصنف في شرح السنة: 15 / 49.
(4) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: "ولتصنع على عيني"
13 / 389.
حَدَّثَنَا
شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ
حِرَاشٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:
انْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ:
حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الدَّجَّالِ؟ قَالَ: "إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً
وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تَحْرِقُ، وَأَمَّا
الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ
مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ
طَيِّبٌ" فَقَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُهُ، تَصْدِيقًا لِحُذَيْفَةَ
(1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمْرٍو وَهُوَ الْأَوْزَاعِيُّ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ
الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ مِنْ نِقَابِهَا إِلَّا
عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، [ثُمَّ] (2) تَرْجُفُ
الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ
وَمُنَافِقٍ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ الْكُشْمِهَينِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي
الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَهِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ، حَتَّى يَنْزِلَ
دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ،
وَهُنَاكَ يَهْلِكُ" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ
الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ
أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ (5) " (6) وَيَرْوِيهِ
أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَعَ الدَّجَّالِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ
يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو تَاجٍ وَسَيْفٍ مُحَلًّى" (7) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الفتن، باب ذكر الدجال وصفته ومن معه برقم: (2934 / 2935) 4 /
2250 والمصنف في شرح السنة: 15 / 52.
(2) في "أ": يوم.
(3) أخرجه البخاري في فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة: 4 / 95، ومسلم
في الفتن، باب قصة الجساسة برقم: (2943): 4 / 2265، والمصنف في شرح السنة: 7 /
326.
(4) أخرجه مسلم في الحج، باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها. برقم:
(1380) 2 / 1005، والمصنف في شرح السنة: 7 / 326.
(5) الطيلسان الأخضر.
(6) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (كتاب الجامع): 11 / 393، والمصنف في شرح السنة:
15 / 62، وفيه أبو هارون العبدي وهو متروك.
(7) قطعة من حديث طويل رواه ابن ماجه في الفتن، باب: فتنة الدجال.. برقم (4077) 2
/ 1359-1363، وأخرجه الحاكم مختصرا، وصححه على شرط مسلم: 4 / 536-537، وعزاه في
كنز العمال: 14 / 296 لابن خزيمة والضياء المقدسي.
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) }
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ }
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ "تَتَذَكَّرُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ وَآخِرَهَا خَبَرٌ عَنْ
قَوْمٍ.
{ إِنَّ السَّاعَةَ } أَيْ: الْقِيَامَةَ { لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } .
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أَيِ: اعْبُدُونِي دُونَ
غَيْرِي أُجِبْكُمْ وَأُثِبْكُمْ وَأَغْفِرْ لَكُمْ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ
الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ جَعَلَ الْإِنَابَةَ اسْتِجَابَةً.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ عَنْ يُسَيْعٍ الْكِنْدِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى
الْمِنْبَرِ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ" ثُمَّ قَرَأَ:
"ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الدَّوْرَقِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيُّ بِبَغْدَادَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
بُدَيْلٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
صَالِحٍ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ" (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء: 2 / 141، والترمذي في التفسير - تفسير
سورة المؤمن - 9 / 121-122 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في
التفسير: 2 / 253، وابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء برقم (3828): 2 / 1258،
وابن حبان في الأدعية، باب ما جاء في فضل الدعاء برقم: (2396) ص (595)، والحاكم: 1
/ 490 وصححه ووافقه الذهبي، والطيالسي: 1 / 153، والطبري: 24 / 79، والمصنف في شرح
السنة: 5 / 184.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات: 9 / 313، وابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء
برقم: (3827): 2 / 1258، والإمام أحمد: 2 / 442، والحاكم: 1 / 491 والطبري: 24 /
79، والمصنف في شرح السنة: 5 / 188، وأبو صالح الخوزي: ضعفه ابن معين. وانظر: فتح
الباري: 11 / 95.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
وَقِيلَ:
الدُّعَاءُ هُوَ الذِّكْرُ وَالسُّؤَالُ، { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } قَرَأَ ابن كثير 111/ب وَأَبُو
جَعْفَرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: "سَيُدْخَلُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ
الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ،
"دَاخِرِينَ" صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ.
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) }
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } .
{ كَذَلِكَ } يَعْنِي كَمَا أُفِكْتُمْ عَنِ الْحَقِّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ
كَذَلِكَ، { يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } فِرَاشًا، { وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً } سَقْفًا كَالْقُبَّةِ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } قَالَ
مُقَاتِلٌ: خَلَقَكُمْ فَأَحْسَنَ خَلْقَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ ابْنُ
آدَمَ قَائِمًا مُعْتَدِلًا يَأْكُلُ وَيَتَنَاوَلُ بِيَدِهِ، وَغَيْرُ ابْنِ
آدَمَ يَتَنَاوَلُ بِفِيهِ. { وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } قِيلَ: مِنْ
غَيْرِ رِزْقِ الدَّوَابِّ { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ } قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ
خَبَرٌ وَفِيهِ إِضْمَارُ الْأَمْرِ، مَجَازُهُ: فَادْعُوهُ وَاحْمَدُوهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى إِثْرِهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (1) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 24 / 81، والحاكم: 2 / 438 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه" والبيهقي في الأسماء والصفات: 1 / 179 موقوفا على ابن
عباس -رضي الله عنه- وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 304 نسبته لابن المنذر
وابن مردويه.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) }
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
{
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا
شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى
أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ
الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) }
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ } وَذَلِكَ حِينَ دُعِيَ إِلَى الْكُفْرِ.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } أَيْ: أَطْفَالًا { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ } أَيْ: مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَصِيرَ شَيْخًا، { وَلِتَبْلُغُوا } جَمِيعًا، { أَجَلًا مُسَمًّى }
وَقْتًا مَعْلُومًا مَحْدُودًا لَا تُجَاوِزُونَهُ، يُرِيدُ أَجَلَ الْحَيَاةِ
إِلَى الْمَوْتِ، { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أَيْ: لِكَيْ تَعْقِلُوا
تَوْحِيدَ رَبِّكُمْ وَقُدْرَتَهُ.
{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ }
يَعْنِي: الْقُرْآنَ، يَقُولُونَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، { أَنَّى
يُصْرَفُونَ } كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ دِينِ الْحَقِّ. قِيلَ: هُمُ
الْمُشْرِكُونَ (1) . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ (2) .
{ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ } [يُجَرُّونَ]
(3) .
__________
(1) ذكره الطبري: 24 / 83.
(2) أخرجه الطبري: 24 / 83.
(3) زيادة من "ب".
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) }
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
{
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) }
{ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } قَالَ مُقَاتِلٌ: تُوقَدُ
بِهِمُ النَّارُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَصِيرُونَ وَقُودًا لِلنَّارِ. { ثُمَّ
قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يَعْنِي
الْأَصْنَامَ، { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } فَقَدْنَاهُمْ فَلَا نَرَاهُمْ { بَلْ
لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا } قِيلَ: أَنْكَرُوا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ. وَقَالَ
الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَيْ: لَمْ نَكُنْ نَصْنَعُ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا،
أَيْ: ضَاعَتْ عِبَادَتُنَا لَهَا، كَمَا يَقُولُ مَنْ ضَاعَ عَمَلُهُ: مَا كُنْتُ
أَعْمَلُ شَيْئًا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { كَذَلِكَ } أَيْ: كَمَا أَضَلَّ
هَؤُلَاءِ، { يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } .
{ ذَلِكُمْ } الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ، { بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ }
تَبْطَرُونَ وَتَأْشَرُونَ، { فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ } تَفْرَحُونَ وَتَخْتَالُونَ.
{ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } بِنَصْرِكَ، { حَقٌّ فَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } مِنَ الْعَذَابِ فِي حَيَاتِكَ، { أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ } قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ ذَلِكَ بِهِمْ، { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
} .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ }
خَبَرَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، { وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ
لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } بِأَمْرِ اللَّهِ
وَإِرَادَتِهِ، { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } قَضَاؤُهُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْأُمَمِ، { قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا } بَعْضَهَا،
{ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } فِي
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَلْبَانِهَا { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً
فِي صُدُورِكُمْ } تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَاتِكُمْ، { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ } أَيْ: عَلَى الْإِبِلِ فِي الْبَرِّ وَعَلَى السُّفُنِ فِي
الْبَحْرِ. نَظِيرُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ"( الْإِسْرَاءِ-70 ) .
{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ
بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) }
{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } دَلَائِلَ قُدْرَتِهِ، { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ
تُنْكِرُونَ } .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا
فِي الْأَرْضِ } يَعْنِي: مَصَانِعَهُمْ وَقُصُورَهُمْ، { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ
} لَمْ يَنْفَعْهُمْ، { مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى
الِاسْتِفْهَامِ، وَمَجَازُهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ كَسْبُهُمْ؟
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا } رَضُوا { بِمَا
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَعْلَمُ،
لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، سَمَّى ذَلِكَ عِلْمًا عَلَى مَا يَدَّعُونَهُ
وَيَزْعُمُونَهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَهْلٌ. { وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } يَعْنِي: تَبَرَّأْنَا
مِمَّا كُنَّا نَعْدِلُ بِاللَّهِ.
{ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } عذابنا، {
سُنَّةَ اللَّهِ } قِيلَ: نَصْبُهَا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: كَسُنَّةِ
اللَّهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ:
احْذَرُوا سُنَّةَ اللَّهِ { الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } وَتِلْكَ السُّنَّةُ
أَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ آمَنُوا، وَلَا يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
} بِذَهَابِ الدَّارَيْنِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافِرُ خَاسِرٌ فِي كُلِّ
وَقْتٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ خُسْرَانُهُمْ إِذَا رَأَوُا
الْعَذَابَ.
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
سُورَةُ
فُصِّلَتْ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ
حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) }
{ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ الْأَخْفَشُ:
"تَنْزِيلٌ" مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } . { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } بُيِّنَتْ آيَاتُهُ، {
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، وَلَوْ
كَانَ بِغَيْرِ لِسَانِهِمْ ما علموه 112/أ وَنُصِبَ قُرْآنًا بِوُقُوعِ
الْبَيَانِ عَلَيْهِ أَيْ: فَصَّلْنَاهُ قُرْآنًا.
{ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } نَعْتَانِ لِلْقُرْآنِ أَيْ: بَشِيرًا لِأَوْلِيَاءِ
اللَّهِ، وَنَذِيرًا لِأَعْدَائِهِ، { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ } لَا يَصْغُونَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا.
{ وَقَالُوا } يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ } فِي
أَغْطِيَةٍ، { مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } فَلَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ، { وَفِي
آذَانِنَا وَقْرٌ } صَمَمٌ فَلَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّا فِي
تَرْكِ الْقَبُولِ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَفْهَمُ وَلَا يَسْمَعُ، {
وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } خِلَافٌ فِي الدِّينِ وَحَاجِزٌ فِي
الْمِلَّةِ فَلَا نُوَافِقُكَ عَلَى مَا تَقُولُ، { فَاعْمَلْ } أَنْتَ عَلَى
دِينِكَ، { إِنَّنَا عَامِلُونَ } عَلَى دِينِنَا.
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: نزلت (حم) السجدة بمكة،
وأخرج ابن مردويه عن الزبير- رضي الله عنه- مثله. انظر: الدر المنثور: 7 / 308.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
{
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
(8) }
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } يَعْنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ وَلَوْلَا
الْوَحْيُ مَا دَعَوْتُكُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } قَالَ الْحَسَنُ: عَلَّمَهُ اللَّهُ التَّوَاضُعَ، {
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَلَا تَمِيلُوا
عَنْ سَبِيلِهِ، { وَاسْتَغْفِرُوهُ } مِنْ ذُنُوبِكُمْ، { وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ } .
{ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ لَا
يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (1) وَهِيَ زَكَاةُ الْأَنْفُسِ،
وَالْمَعْنَى: لَا يُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُقِرُّونَ بِالزَّكَاةِ، وَلَا يَرَوْنَ
إِيتَاءَهَا وَاجِبًا، وَكَانَ يُقَالُ: الزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ
فَمَنْ قَطَعَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ. (2) وَقَالَ الضَّحَّاكُ
وَمُقَاتِلٌ: لَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }
.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: غَيْرُ
مَنْقُوصٍ، وَمِنْهُ "الْمَنُونُ" لِأَنَّهُ يُنْقِصُ مُنَّةَ
الْإِنْسَانِ وَقُوَّتَهُ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى
وَالْهَرْمَى، إِذَا عَجَزُوا عَنِ الطَّاعَةِ يُكْتَبُ لَهُمُ الْأَجْرُ
كَأَصَحِّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ. (3)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُّودِ
عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْعَبْدَ
إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ قِيلَ
لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ: اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا
حَتَّى أُطْلِقَهُ أَوْ أَكْفِتَهُ إِلَيَّ". (4)
__________
(1) ذكر السيوطي في الدر المنثور: 7 / 313 عن ابن عباس قال: "لا يشهدون أن لا
إله إلا الله" وعزا هذا لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في
الأسماء والصفات.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 313 لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة،
بلفظ: "الزكاة قنطرة الإسلام، من قطعها برىء ونجا، ومن لم يقطعها هلك".
(3) انظر البحر المحيط: 7 / 485.
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع: 11 / 196، والإمام أحمد: 2 / 203.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 303): " رواه أحمد وإسناده صحيح". والمصنف
في شرح السنة: 5 / 240-241، وله شاهد عند البخاري.
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
{
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } يَوْمُ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، { وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } .
{ وَجَعَلَ فِيهَا } أَيْ فِي الْأَرْضِ، { رَوَاسِيَ } جِبَالًا ثَوَابِتَ، {
مِنْ فَوْقِهَا } مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ، { وَبَارَكَ فِيهَا } أَيْ: فِي
الْأَرْضِ، بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ
وَالثِّمَارِ، { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ:
قَسَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ
وَالضَّحَّاكُ: قَدَّرَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأُخْرَى
لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ (1) .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَدَّرَ الْخُبْزَ لِأَهْلِ قُطْرٍ، وَالتَّمْرَ لِأَهْلِ
قُطْرٍ، وَالذُّرَةَ لِأَهْلِ قُطْرٍ، وَالسَّمَكَ لِأَهْلِ قُطْرٍ، وَكَذَلِكَ
أَقْوَاتُهَا. { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } يُرِيدُ خَلَقَ مَا فِي الْأَرْضِ،
وَقَدَّرَ الْأَقْوَاتَ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ
فَهُمَا مَعَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، رَدَّ الْآخِرَ عَلَى
الْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ، كَمَا تَقُولُ: تَزَوَّجْتُ أَمْسِ امْرَأَةً
وَالْيَوْمَ ثِنْتَيْنِ، وَإِحْدَاهُمَا هِيَ الَّتِي تَزَوَّجْتَهَا بِالْأَمْسِ،
{ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "سَوَاءٌ" رَفْعٌ
عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: هِيَ سَوَاءٌ [وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالْجَرِّ عَلَى
نَعْتِ قَوْلِهِ: "فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"سَوَاءً"] (2) نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ: اسْتَوَتْ سَوَاءً
أَيِ: اسْتِوَاءً، وَمَعْنَاهُ: سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ
قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَنْ سَأَلَ عَنْهُ فَهَكَذَا الْأَمْرُ سَوَاءٌ لَا
زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ: فِي كَمْ خُلِقَتِ الْأَرْضُ
وَالْأَقْوَاتُ؟
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أَيْ: عَمَدَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، {
وَهِيَ دُخَانٌ } وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَانُ بُخَارَ الْمَاءِ، { فَقَالَ لَهَا
وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أَيِ: ائْتِيَا مَا آمُرُكُمَا
أَيِ: افْعَلَاهُ، كَمَا يُقَالُ: ائْتِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ، أَيِ: افعله.
وقال طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ائْتِيَا: أَعْطِيَا (3) ، يَعْنِي أَخْرِجَا مَا
خَلَقْتُ فِيكُمَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 342-343.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه الطبري: 24 / 98-99.
[قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ]: (1) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَّا أَنْتِ يَا سَمَاءُ
فَأَطْلِعِي شَمْسَكِ وَقَمَرَكِ وَنُجُومَكِ، وَأَنْتِ يَا أَرْضُ فَشُقِّي
أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ وَنَبَاتَكِ، وَقَالَ لَهُمَا: افْعَلَا مَا
آمُرُكُمَا طَوْعًا وَإِلَّا أَلْجَأْتُكُمَا إِلَى ذَلِكَ [حَتَّى تَفْعَلَاهُ
كَرْهًا] (2) فَأَجَابَتَا بِالطَّوْعِ، (3) وَ{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
[وَلَمْ يَقُلْ طَائِعَتَيْنِ] (4) ، لِأَنَّهُ ذَهَبَ به إلى السموات وَالْأَرْضِ
وَمَنْ فِيهِنَّ، مَجَازُهُ: أَتَيْنَا بِمَا فِينَا طَائِعِينَ، فَلَمَّا
وَصَفَهُمَا بِالْقَوْلِ أَجْرَاهُمَا فِي الْجَمْعِ مُجْرَى مَنْ يَعْقِلُ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر الدر المنثور: 7 / 316-317، القرطبي: 15 / 343-344.
(4) زيادة من "ب".
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا
لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ (14) }
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أَيْ: أَتَمَّهُنُ وَفَرَغَ
مِنْ خَلْقِهِنَّ، { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } قَالَ عَطَاءٌ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا
فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا
وَنُجُومَهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَأَوْحَى إِلَى كُلِّ سَمَاءٍ مَا أَرَادَ مِنَ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمْعَةِ.
{ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } كَوَاكِبَ، { وَحِفْظًا }
لَهَا وَنَصَبَ "حِفْظًا" عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: حَفِظْنَاهَا
بِالْكَوَاكِبِ حِفْظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُّونَ السَّمْعَ، {
ذَلِكَ } الَّذِي ذُكِرَ مِنْ صُنْعِهِ، { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } فِي مِلْكِهِ، {
الْعَلِيمِ } بِحِفْظِهِ (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنْ أَعْرَضُوا }
يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، {
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ } خَوَّفْتُكُمْ، { صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ
وَثَمُودَ } أَيْ: هَلَاكًا مِثْلَ هَلَاكِهِمْ، وَالصَّاعِقَةُ الْمُهْلِكَةُ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
{ إِذْ جَاءَتْهُمُ } يعني: عادا وثمودا، { الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أَرَادَ بِقَوْلِهِ: { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الرُّسُلَ
الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى آبَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ }
يَعْنِي: وَمِنْ بَعْدِ
__________
(1) في "ب": بخلقه.
الرُّسُلِ
الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى آبَائِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، هُودٌ
وَصَالِحٌ، فَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ "مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ"
رَاجِعَةٌ إِلَى [عَادٍ وَثَمُودَ] (1) وَفِي قَوْلِهِ: [ { وَمِنْ خَلْفِهِمْ }
رَاجِعَةٌ إلى الرسل] (2) 112/ب { أَنْ لَا } بِأَنْ لَا { تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ } بَدَلَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ، {
مَلَائِكَةً } أَيْ: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا دَعْوَةَ [الْخَلْقِ] (3) لَأَنْزَلَ
مَلَائِكَةً، { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْأَصْفَهَانِيُّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَبِيدِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مَجْدَةَ بْنِ الْعُرْيَانِ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْمَلَأ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَبُو جَهْلٍ:
قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا
بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ، فَأَتَاهُ فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَتَانَا
بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: وَاللَّهِ لَقَدْ
سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالْكِهَانَةَ وَالسِّحْرِ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا،
وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ أَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ لَا فَأَتَاهُ فَلَمَّا خَرَجَ
إِلَيْهِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَبِمَ تَشْتُمُ
آلِهَتَنَا؟ وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الرِّيَاسَةَ عَقَدْنَا
لَكَ أَلْوِيَتَنَا فَكُنْتَ رَأْسًا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْبَاءَةُ
زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ بَنَاتِ قُرَيْشٍ، وَإِنْ
كَانَ بِكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ،
فَلَمَّا فَرَغَ، قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" "حم تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ"، إِلَى قَوْلِهِ: "
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ
وَثَمُودَ"، الْآيَةَ. فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ
بِالرَّحِمِ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قُرَيْشٍ فَاحْتَبَسَ
عَنْهُمْ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا نَرَى
عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَعْجَبَهُ طَعَامُهُ
وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ،
فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا
حَبَسَكَ عَنَّا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَكَ
طَعَامُهُ، قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا
مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ، فَغَضِبَ عُتْبَةُ وَأَقْسَمَ أَنْ لَا
يُكَلِّمَ مُحَمَّدًا أَبَدًا، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ
أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ
فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا
سِحْرٍ، وَقَرَأَ السُّورَةَ إِلَى قَوْلِهِ: "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ" الْآيَةَ
فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ
أَنَّ مُحَمَّدًا
__________
(1) في "أ" الرسل.
(2) ساقط من "أ".
(3) في "أ" الحق.
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
إِذَا
قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ. (1)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ
رَبِيعَةَ كَانَ سَيِّدًا حَلِيمًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي
قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحْدَهُ
فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ
وَأُكَلِّمُهُ وَأُعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ مِنَّا بَعْضَهَا،
فَنُعْطِيَهُ وَيَكُفَّ عَنَّا، وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا
أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ
وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ فَقُمْ إِلَيْهِ
فَكَلِّمْهُ، فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ
عَلِمْتَ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ،
وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَهُمْ،
وَسَفَّهْتَ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ آلِهَتَهُمْ، وَكَفَّرْتَ مَنْ مَضَى مِنْ
آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا أَبَا
الْوَلِيدِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ
بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا
الَّذِي بِكَ رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ،
وَلَعَلَّ هَذَا شِعْرٌ جَاشَ بِهِ صَدْرُكَ، فَإِنَّكُمْ لَعَمْرِي بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ يَقْدِرُونَ على ذلك عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُكُمْ،
حَتَّى إِذَا فَرَغَ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أو قد فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ مِنِّي،
قَالَ: أَفْعَلُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا"، ثُمَّ مَضَى فِيهَا يَقْرَأُ،
فَلَمَّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهُ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ
مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْتَمِعُ مِنْهُ، حَتَّى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ
سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ فَأَنْتَ وَذَاكَ، فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ
أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ
إِلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ فَقَالَ: وَرَائِي
أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ قَطُّ، مَا هُوَ
بِالشِّعْرِ وَلَا السِّحْرِ وَلَا الْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،
أَطِيعُونِي، خَلُّوا مَا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ
وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ،
فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيْتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ
عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، فَأَنْتُمْ أَسْعَدُ
النَّاسِ بِهِ، فَقَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ،
قَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. (2)
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً }
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 310 للبيهقي في الدلائل، وابن عساكر،
والأجلح فيه لين.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 309 لابن إسحاق: 1 / 293 من (سيرة ابن
هشام)، وابن المنذر والبيهقي في الدلائل وابن عساكر.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
وَذَلِكَ
أَنْ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَقَالُوا: مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ نَحْنُ نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنَّا بِفَضْلِ
قُوَّتِنَا، وَكَانُوا ذَوِي أَجْسَامٍ طِوَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا
عَلَيْهِمْ: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ
الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ
فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) } .
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } عَاصِفَةً شَدِيدَةَ الصَّوْتِ،
مِنَ الصِّرَّةِ وَهِيَ الصَّيْحَةُ. وَقِيلَ: هِيَ الْبَارِدَةُ مِنَ الصِّرِّ
وَهُوَ الْبَرْدُ، { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ
وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ "نَحْسَاتٍ" بِسُكُونِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا أي: نكدات مشؤومات ذَاتِ نُحُوسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَدَامَتِ الرِّيَاحُ
عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ، { لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ } أَيْ:
عَذَابَ الْهُونِ وَالذُّلِّ، { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ
أَخْزَى } أَشَدُّ إِهَانَةً { وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } .
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } دَعَوْنَاهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَّا لَهُمْ سَبِيلَ الهدى. وقيل: 113/أ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْلِهِ: "هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ"(
الْإِنْسَانِ-3 ) ، { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } فَاخْتَارُوا
الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ } [أَيْ:
هَلَكَةُ الْعَذَابِ] (1) ، { الْهُونِ } أَيْ: ذِي الْهُونِ، أَيِ: الْهَوَانِ،
وَهُوَ الَّذِي يُهِينُهُمْ وَيُخْزِيهِمْ، { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } . {
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ
اللَّهِ إِلَى النَّارِ } قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: "نَحْشُرُ"
بِالنُّونِ، "أَعْدَاءَ" نَصْبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ
وَرَفْعِهَا وَفَتَحَ الشِّينَ "أَعْدَاءُ" رَفْعٌ أَيْ: يُجْمَعُ إِلَى
النَّارِ، { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يُسَاقُونَ وَيُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ،
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِيَتَلَاحَقُوا.
__________
(1) ساقط من "أ".
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) }
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
{
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ
سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ
اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) }
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } جاؤوا النَّارَ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ } أَيْ: بَشْرَاتُهُمْ، { بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } قَالَ الْسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالْجُلُودِ
الْفُرُوجُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ بِمَا كَتَمَتِ
الْأَلْسُنُ مِنْ عَمَلِهِمْ.
{ وَقَالُوا } يَعْنِي الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ، {
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جَوَابِ الْجُلُودِ، {
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
{ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ } أَيْ: تَسْتَخْفُونَ [عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ]. (1) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَتَّقُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَظُنُّونَ. {
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ
وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ،
أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، أَوْ
قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلٌ فِقْهُ
قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟
قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا،
وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا
أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ
وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا
تَعْمَلُونَ". (2) قِيلَ: الثَّقَفِيُّ، عَبْدُ يَالِيْلَ، وَخَتْنَاهُ
الْقُرَشِيَّانِ: رَبِيعَةُ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة حم السجدة، باب: "وذلكم ظنكم الذي
ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين" 8 / 562، ومسلم في صفات المنافقين
وأحكامهم برقم: (2775): 4 / 2141.
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
{
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ
قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ
أَرْدَاكُمْ } أَهْلَكَكُمْ، أَيْ: ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا
مِمَّا تَعْمَلُونَ، أَرْدَاكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَرَحَكُمْ فِي النَّارِ،
{ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فَقَالَ:
{ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } مَسْكَنٌ لَهُمْ، { وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا } يَسْتَرْضُوا وَيَطْلُبُوا الْعُتْبَى، { فَمَا هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ } الْمَرْضِيْنَ، وَالْمُعْتَبُ الَّذِي قُبِلَ عِتَابُهُ
وَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، يُقَالُ: أَعْتَبَنِي فَلَانٌ، أَيْ: أَرْضَانِي
بَعْدَ إِسْخَاطِهِ إِيَّايَ، وَاسْتَعْتَبْتُهُ: طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يَعْتِبَ،
أَيْ: يَرْضَى.
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ } أَيْ: بَعَثْنَا وَوَكَّلْنَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
هَيَّأْنَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَبَّبْنَا لَهُمْ. { قُرَنَاءَ } نُظَرَاءَ
مِنَ الشَّيَاطِينِ حَتَّى أَضَلُّوهُمْ، { فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
} مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى آثَرُوهُ عَلَى الْآخِرَةِ، { وَمَا خَلْفَهُمْ }
مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَإِنْكَارِ
الْبَعْثِ، { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ } [مَعَ أُمَمٍ] (1) . {
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ } .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، { لَا تَسْمَعُوا
لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْغَطُوا
فِيهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوصِي إِلَى بَعْضٍ إِذَا رَأَيْتُمْ مُحَمَّدًا
يَقْرَأُ فَعَارِضُوهُ بِالرَّجَزِ وَالشِّعْرِ وَاللَّغْوِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
وَالْغَوْا فِيهِ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَكْثِرُوا
الْكَلَامَ فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ (2) . وَقَالَ الْسُّدِّيُّ:
صِيحُوا فِي وَجْهِهِ. { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } مُحَمَّدًا عَلَى قِرَاءَتِهِ.
{ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي } يَعْنِي بِأَسْوَأِ الَّذِي، أَيْ: بِأَقْبَحِ الَّذِي، {
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرج الطبري: 24 / 112 قول مجاهد، وذكر القرطبي أكثر الأقوال الأخري: 15 /
356.
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) }
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
{
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) }
{ ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، { جَزَاءُ أَعْدَاءِ
اللَّهِ } ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ فَقَالَ: { النَّارُ } أَيْ: هُوَ
النَّارُ، { لَهُمْ فِيهَا } أَيْ: فِي النَّارِ، { دَارُ الْخُلْدِ } دَارُ
الْإِقَامَةِ لَا انْتِقَالَ مِنْهَا، { جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا
يَجْحَدُونَ } .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ: فِي النَّارِ يَقُولُونَ. { رَبَّنَا
أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } يَعْنُونَ إِبْلِيسَ
وَقَابِيلَ بْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ لِأَنَّهُمَا سَنَّا الْمَعْصِيَةَ،
{ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } فِي النَّارِ، { لِيَكُونَا مِنَ
الْأَسْفَلِينَ } لِيَكُونَا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَكُونَا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا } سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا. (1) وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "الِاسْتِقَامَةُ" أَنْ
تَسْتَقِيمَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَا تَرُوغَ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ.
(2) وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ
لِلَّهِ. (3) وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَدَّوُا الْفَرَائِضَ (4) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ (5) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَمِلُوا
بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لَحِقُوا بِاللَّهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَقَامُوا عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَرْتَدُّوا. وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ
رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 321-322 لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن
منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري: 24 / 115، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 322 لابن المبارك
وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 496.
(4) أخرجه الطبري: 24 / 115.
(5) أخرجه الطبري: 24 / 115، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 322 لابن المنذر
وابن أبي حاتم.
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا قَامُوا مِنْ
قُبُورِهِمْ. (1) قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجِرَاحِ: الْبُشْرَى تَكُونُ فِي ثَلَاثِ
مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ. { أَلَّا
تَخَافُوا } مِنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخَافُوا عَلَى مَا
تَقْدَمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. { وَلَا تَحْزَنُوا } عَلَى مَا
خَلَّفْتُمْ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. (2)
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى
ذُنُوبِكُمْ فَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكُمْ (3) ، { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } .
{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ
فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا
مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) }
{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ } تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَنَزَّلُ
عَلَيْهِمْ بِالْبِشَارَةِ: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ أَنْصَارُكُمْ
وَأَحِبَّاؤُكُمْ، { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [أَيْ: فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ نَحْنُ
الْحَفَظَةُ الَّذِينَ كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ
فِي الْآخِرَةِ] (4) يَقُولُونَ لَا نُفَارِقُكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
{ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ } مِنَ الْكَرَامَاتِ
وَاللَّذَّاتِ، { وَلَكُمْ فِيهَا } فِي الْجَنَّةِ، { مَا تَدَّعُونَ }
تَتَمَنَّوْنَ.
{ نُزُلًا } رِزْقًا، { مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ }
113/ب إِلَى طَاعَتِهِ، { وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
} قَالَ ابْنُ سِيرِينَ [وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ]: (5) هُوَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ. (6) وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي أَجَابَ اللَّهَ
فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ إِلَيْهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا
فِي إِجَابَتِهِ، وَقَالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (7)
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ. (8)
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 496، زاد المسير: 7 / 254.
(2) أخرجه الطبري: 24 / 116، وذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 100.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 496.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) زيادة من "ب".
(6) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 325 لعبد بن حميد وابن المنذر.
(7) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 325 لعبد بن حميد وابن المنذر.
(8) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 325 لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه
من وجه عن عائشة.
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمُؤَذِّنُ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، "وَعَمِلَ
صَالِحًا": صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: هُوَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْأَذَانِ
وَالْإِقَامَةِ. (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ
الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
أَيُّوبَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن زيد المقري، حَدَّثَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَ كُلِّ
أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ:
"لِمَنْ شَاءَ". (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ
بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
زَيْدٍ الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ
الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ". (3)
{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ (34) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ }
قَالَ الْفَرَّاءُ: "لَا" هَاهُنَا صِلَةٌ، مَعْنَاهُ: وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، يَعْنِي الصَّبْرُ وَالْغَضَبُ، وَالْحِلْمُ
وَالْجَهْلُ، وَالْعَفْوُ وَالْإِسَاءَةُ. { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَبِالْحِلْمِ عِنْدَ
الْجَهْلِ، وَبِالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ. { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ } يَعْنِي: إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ خَضَعَ لَكَ عَدُوُّكَ،
وَصَارَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ، { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }
كَالصَّدِيقِ وَالْقَرِيبِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ شِدَّةِ
عَدَاوَتِهِ بِالْمُصَاهَرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ وَلِيًّا
بِالْإِسْلَامِ، حَمِيمًا بِالْقَرَابَةِ. (4)
__________
(1) أخرجه الطبري: 24 / 118، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 325 للخطيب في
تاريخ بغداد.
(2) أخرجه البخاري في الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء: 2 / 110، ومسلم في
صلاة المسافرين، باب بين كل أذانين صلاة برقم: (838): 1 / 573، والمصنف في شرح
السنة: 2 / 293.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب في الدعاء بين الأذان والإقامة: 1 / 283،
والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة: 1
/ 624-625 قال أبو عيسى: "حديث أنس حديث حسن صحيح"، والإمام أحمد: 3 /
119 وابن حبان في الأذان، باب فضل الأذان والمؤذن وإجابته برقم (296) ص 97،
والمصنف في شرح السنة: 2 / 289.
(4) انظر: البحر المحيط: 7 / 498.
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) }
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
{
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ
مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) }
{ وَمَا يُلَقَّاهَا } مَا يُلَقَّى هَذِهِ الْخَصْلَةَ وَهِيَ دَفْعُ
السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } عَلَى كَظْمِ
الْغَيْظِ وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ } فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْحَظُّ
الْعَظِيمُ": الْجَنَّةُ، أَيْ: مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا مَنْ وَجَبَتْ لَهُ
الْجَنَّةُ.
{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ } لِاسْتِعَاذَتِكَ وَأَقْوَالِكَ، { الْعَلِيمُ } بِأَفْعَالِكَ
وَأَحْوَالِكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَهُنَّ } إِنَّمَا قَالَ: "خَلَقَهُنَّ" بِالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ
أَجْرَاهَا عَلَى طَرِيقِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَلَمْ يُجْرِهَا عَلَى طَرِيقِ
التَّغْلِيبِ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ } .
{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا } عَنِ السُّجُودِ، { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ }
يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا
يَسْأَمُونَ } لَا يَمَلُّونَ وَلَا يَفْتُرُونَ.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ } دَلَائِلِ قُدْرَتِهِ، { أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً }
يَابِسَةً غَبْرَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي
أَدِلَّتِنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا بِالْمُكَاءِ
وَالتَّصْدِيَةِ وَاللَّغْوِ وَاللَّغَطِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَكْذِبُونَ فِي
آيَاتِنَا. قَالَ الْسُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ وَيُشَاقُّونَ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
قَالَ
مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. (1)
{ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ،
{ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قِيلَ: هُوَ حَمْزَةُ،
وَقِيلَ: عُثْمَانُ. وَقِيلَ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ }
أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } عَالَمٌ
فَيُجَازِيكُمْ بِهِ.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
(43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) }
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ } بِالْقُرْآنِ، (2) { لَمَّا جَاءَهُمْ }
ثُمَّ أَخَذَ فِي وَصْفِ الذِّكْرِ وَتَرَكَ جَوَابَ: "إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا"، عَلَى تَقْدِيرِ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ يُجَازَوْنَ
بِكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ: "أُولَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ". { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } قَالَ
الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَرِيمٌ عَلَى
اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: أَعَزَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِزًّا فَلَا يَجِدُ
الْبَاطِلُ إِلَيْهِ سَبِيلًا (3) .
وَهُوَ قَوْلُهُ: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ } قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: الْبَاطِلُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ أَوْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ (4) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنْ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ،
فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَوْ يُزَادَ فِيهِ فَيَأْتِيَهُ
الْبَاطِلُ مَنْ خَلْفِهِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى "الْبَاطِلُ":
الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَأْتِيهِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ،
وَلَا يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِ كِتَابٌ فَيُبْطِلُهُ. { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ } ثُمَّ عَزَّى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
تَكْذِيبِهِمْ.
فَقَالَ: { مَا يُقَالُ لَكَ } مِنَ الْأَذَى، { إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ
مِنْ قَبْلِكَ } يَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ قِيلَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ
قَبْلَكَ: سَاحِرٌ، كَمَا يُقَالُ لَكَ وَكُذِّبُوا كَمَا كُذِّبْتَ، { إِنَّ
رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ بِكَ { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }
لِمَنْ أَصَرَّ عَلَى التَّكْذِيبِ.
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ } أَيْ: جَعَلَنَا هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي تَقْرَؤُهُ
عَلَى النَّاسِ، { قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا } بِغَيْرِ
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 366.
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر: الدر المنثور: 7 / 332.
(4) انظر: الطبري: 24 / 125.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
لُغَةِ
الْعَرَبِ، { لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } هَلَّا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ
بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى نَفْهَمَهَا، { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } يَعْنِي:
أَكِتَابٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ
الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ
عَرَبِيٌّ وَالْمُنَزَّلُ أَعْجَمِيٌّ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى يَسَارٍ، غُلَامِ عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ،
وَكَانَ يَهُودِيًّا أَعْجَمِيًّا، يُكْنَى أَبَا فَكِيهَةَ، فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ يَسَارٌ فَضَرَبَهُ سَيِّدُهُ، وَقَالَ:
إِنَّكَ تُعَلِّمُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ يَسَارٌ: هُوَ يُعَلِّمُنِي، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: (1)
{ قُلْ } يَا مُحَمَّدُ، { هُوَ } يَعْنِي الْقُرْآنُ، { لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ } 114/أ هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الْقُلُوبِ،
وَقِيلَ: شِفَاءٌ مِنَ الْأَوْجَاعِ.
{ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }
قَالَ قَتَادَةُ: عَمُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَصُمُّوا عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُونَ
بِهِ، { أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
وَلَا يَفْهَمُونَ كَمَا أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يَسْمَعْ
وَلَمْ يَفْهَمْ، وَهَذَا مَثَلٌ لِقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا يُوعَظُونَ بِهِ
كَأَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ مِنْ حَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) }
__________
(1) انظر: فيما سبق تفسير سورة النحل: 5 / 44-45.
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
{
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ
شَهِيدٍ (47) }
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } فَمُصَدِّقٌ
وَمُكَذِّبٌ كَمَا اخْتَلَفَ قَوْمُكَ فِي كِتَابِكَ، { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ
بِالْقُرْآنِ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } لَفَرَغَ مِنْ عَذَابِهِمْ وَعَجَّلَ
إِهْلَاكَهُمْ، { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } مِنْ صِدْقِكَ، { مُرِيبٍ }
مُوْقِعٍ لَهُمُ الرِّيبَةَ.
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }.
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } أَيْ: عِلْمُهَا إِذَا سُئِلَ عَنْهَا
مَرْدُودٌ إِلَيْهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، { وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ
مِنْ أَكْمَامِهَا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ:
"ثَمَرَاتٍ"، عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
"ثَمَرَةٍ"
عَلَى التَّوْحِيدِ، { مِنْ أَكْمَامِهَا } أَوْعِيَتِهَا، وَاحِدُهَا: كِمٌّ. (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْكُفَرَّى (2) قَبْلَ
أَنْ تَنْشَقَّ. { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }
[إِلَّا بِإِذْنِهِ] (3) ، يَقُولُ: يُرَدُّ إِلَيْهِ عِلْمُ السَّاعَةِ كَمَا
يُرَدُّ إِلَيْهِ عِلْمُ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجَ. { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ }
يُنَادِي اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، { أَيْنَ شُرَكَائِي } الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ أَنَّهَا آلِهَةٌ، { قَالُوا } يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، { آذَنَّاكَ }
أَعْلَمْنَاكَ، { مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ } أَيْ: مِنْ شَاهِدٍ بِأَنَّ لَكَ
شَرِيكًا لَمَّا عاينوا العذاب تبرأوا مِنَ الْأَصْنَامِ.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ
الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ
بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ
قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ
عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) }
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ } يَعْبُدُونَ، { مِنْ قَبْلُ } فِي
الدُّنْيَا { وَظَنُّوا } أَيْقَنُوا، { مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } مَهْرَبٍ.
{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ } لَا يَمَلُّ الْكَافِرُ، { مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ
} أَيْ: لَا يَزَالُ يَسْأَلُ رَبَّهُ الْخَيْرَ، يَعْنِي الْمَالَ وَالْغِنَى
وَالصِّحَّةَ، { وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ } الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ، { فَيَئُوسٌ }
مِنْ رُوحِ اللَّهِ، { قَنُوطٌ } مِنْ رَحْمَتِهِ.
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا } آتَيْنَاهُ خَيْرًا وَعَافِيَةً
وَغِنًى، { مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ } مِنْ بَعْدِ شِدَّةٍ وَبَلَاءٍ
أَصَابَتْهُ، { لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } أَيْ: بِعَمَلِي وَأَنَا مَحْقُوقٌ
بِهَذَا، { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ: لَسْتُ عَلَى يَقِينٍ
مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى، أَيِ: الْجَنَّةُ، أَيْ: كَمَا أَعْطَانِي فِي
الدُّنْيَا سَيُعْطِينِي فِي الْآخِرَةِ. { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِمَا عَمِلُوا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لنقفنهم (4) على
مساوىء أَعْمَالِهِمْ، { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } .
__________
(1) الكم: بالكسر وعاء الطلع وغطاء النور.
(2) هو كم العنب قبل أن ينور.
(3) زيادة من "ب".
(4) في "أ" لنفقهنهم.
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ
أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) }
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } كَثِيرٍ وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ
الطُّولَ وَالْعَرْضَ فِي الْكَثْرَةِ، فَيُقَالُ: أَطَالَ فَلَانٌ الْكَلَامَ
وَالدُّعَاءَ وَأَعْرَضَ، أَيْ: أَكْثَرَ. { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ } هَذَا
الْقُرْآنُ، { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } خِلَافٍ لِلْحَقِّ بَعِيدٍ عَنْهُ، أَيْ: فَلَا أَحَدَ
أَضَلُّ مِنْكُمْ.
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: يَعْنِي مَنَازِلَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. { وَفِي أَنْفُسِهِمْ }
بِالْبَلَاءِ وَالْأَمْرَاضِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الْآفَاقِ يَعْنِي: وَقَائِعَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ،
وَفِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: "فِي الْآفَاقِ": مَا
يُفْتَحُ مِنَ الْقُرَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمِينَ، (1) "وَفِي أَنْفُسِهِمْ": فَتْحُ مَكَّةَ. { حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } يَعْنِي: دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ:
الْقُرْآنُ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنْ
قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: "فِي الْآفَاقِ" يَعْنِي: أَقْطَارَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالنَّبَاتِ
وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، "وَفِي أَنْفُسِهِمْ" مِنْ لَطِيفِ
الصَّنْعَةِ وَبَدِيعِ الْحِكْمَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
(2)
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } قال مقاتل: أو
لم يَكْفِ بِرَبِّكَ شَاهِدًا أَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ
الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْكِفَايَةِ هَاهُنَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ
بَيَّنَ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا فِيهِ كفاية، يعني: أو لم يَكْفِ بِرَبِّكَ
لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ.
{ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ } فِي شَكٍّ مِنَ
الْبَعْثِ، { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْمًا.
__________
(1) انظر: ابن كثير في تفسيره: 4 / 106.
(2) انظر: القرطبي: 15 / 374-375.
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
سُورَةُ
الشُّورَى مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) }
{ حم عسق } سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِمَ يُقَطَّعُ حم عسق وَلَمْ
يُقَطَّعْ كهيعص؟ فَقَالَ: لِأَنَّهَا سُورَةٌ أَوَائِلُهَا حم، فَجَرَتْ مَجْرَى
نَظَائِرِهَا، فَكَانَ "حم" مبتدأ و"عسق" خَبَرَهُ،
وَلِأَنَّهُمَا عُدَّا آيَتَيْنِ، وَأَخَوَاتُهَا مثل: "كهيعص" و"المص"
و"المر" عُدَّتْ آيَةً وَاحِدَةً.
وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي "كهيعص"
وَأَخَوَاتِهَا أَنَّهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي لَا غَيْرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي
"حم" فَأَخْرَجَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ حَيِّزِ الْحُرُوفِ وَجَعَلَهَا
فِعْلًا وَقَالَ: مَعْنَاهَا حَمَّ أَيْ: قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ. (2)
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ:
ح حِلْمُهُ، م مَجْدُهُ، ع عِلْمُهُ، س سَنَاؤُهُ، ق قُدْرَتُهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ
بِهَا.
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: ح حَرْبٌ يَعِزُّ
فِيهَا الذَّلِيلُ وَيَذِلُّ فِيهَا الْعَزِيزَ مِنْ قُرَيْشٍ، م مُلْكٌ
يَتَحَوَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، ع عَدُوٌّ لِقُرَيْشٍ يقصدهم، س سيء،
يَكُونُ فِيهِمْ، ق قُدْرَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ فِي خَلْقِهِ.
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير- رضي الله عنهم-: نزلت (حم عسق)
بمكة. وذكر صاحب البحر المحيط: 7 / 507 "أنها مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة
وجابر. وقال ابن عباس: مكية إلا أربع آيات من قوله: "قل لا أسألكم عليه أجرا
إلا المودة في القربى" إلى آخر الأربع آيات فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل:
فيها مدني قوله "ذلك الذي يبشر الله عباده" إلى "الصدور"،
انظر: الدر المنثور: 7 / 335.
(2) انظر: القرطبي: 16 / 1، وراجع فيما سبق: 1 / 58-59. وفي هذا الجزء ص
"142" تعليق "4".
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ
صَاحِبِ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ "حم عسق". (1)
فَلِذَلِكَ قَالَ:
{ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ } . { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ } قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ "يُوحَى" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ:
"وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ"(
الزُّمَرِ-65 ) ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ، { اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ } [تَبْيِينٌ لِلْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُوحِي؟ فَقِيلَ:
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]. (2)
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "يُوحِي" بِكَسْرِ الْحَاءِ، إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَخْبَارَ
الْغَيْبِ.
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
(4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
(6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ
فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) }
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ
منها تتفطر 114/ب فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ:
"اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدَا" نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ:
"وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدا تكاد
السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ"( مَرْيَمَ 88-90 ) . { وَالْمَلَائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، { أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ }
يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَيُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا، { وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } لَمْ يُوَكِّلْكَ اللَّهُ بِهِمْ حَتَّى تُؤْخَذَ
بِهِمْ.
{ وَكَذَلِكَ } مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا، { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } مَكَّةَ، يَعْنِي: أَهْلَهَا، { وَمَنْ حَوْلَهَا } يَعْنِي
قُرَى الْأَرْضِ كُلَّهَا، { وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } أَيْ: تُنْذِرُهُمْ
بِيَوْمِ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ
والآخرين وأهل السموات وَأَهْلَ الْأَرْضِينَ { لَا رَيْبَ فِيهِ } لَا شَكَّ
__________
(1) انظر: زاد المسير: 7 / 271.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
فِي
الْجَمْعِ أَنَّهُ كَائِنٌ ثُمَّ بَعْدَ الْجَمْعِ يَتَفَرَّقُونَ. { فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
الْخَشْمَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ،
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ
بْنُ كُرَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ
الثَّعْلَبِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ
الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا
هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي أَبُو قُبَيْلٍ
الْمُعَافِرِيُّ عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ
يَوْمٍ قَابِضًا عَلَى كَفَّيْهِ وَمَعَهُ كِتَابَانِ، فَقَالَ: "أَتُدْرُونَ
مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟" قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:
"لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ
وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ، وَقَبْلَ أَنْ
يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ
فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، [ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ:
هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ
وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا
نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ
هُمْ فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ، فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا بِنَاقِصٍ
مِنْهُمْ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] (1) ،
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ
الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ
عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ
عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، ثُمَّ قَالَ: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ" فَضْلٌ
مِنَ اللَّهِ، "وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ"، عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ". (2)
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
(8) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى"( الْأَنْعَامِ-35 ) ، { وَلَكِنْ
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ } فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، {
وَالظَّالِمُونَ } الْكَافِرُونَ، { مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ } يَدْفَعُ عَنْهُمُ
الْعَذَابَ، { وَلَا نَصِيرٍ } يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّارِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) أخرجه الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن: 6 / 350-352،
والنسائي في التفسير: 2 / 265، وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 154، والإمام أحمد: 2
/ 167، والطبري: 25 / 9، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 337 لابن المنذر وابن
مردويه. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (848).
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ
إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ (13) }
{ أَمِ اتَّخَذُوا } [بَلِ اتَّخَذُوا، أَيْ: الْكَافِرُونَ] (1) ، { مِنْ دُونِهِ
} [أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ] (2) ، { أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ }
[قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (3) : وَلِيُّكَ يَا مُحَمَّدُ
وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَكَ، { وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ } مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، { فَحُكْمُهُ
إِلَى اللَّهِ } يَقْضِي فِيهِ وَيَحْكُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَصْلِ
الَّذِي يُزِيلُ الرَّيْبَ، { ذَلِكُمُ اللَّهُ } الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفِينَ هُوَ، { رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .
{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
} مِنْ مِثْلِ خَلْقِكُمْ حَلَائِلَ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ "مِنْ
أَنْفُسِكُمْ" لِأَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. { وَمِنَ
الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أَصْنَافًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، { يَذْرَؤُكُمْ }
يَخْلُقُكُمْ، { فِيهِ } أَيْ: فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقِيلَ:
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَسَلًا بَعْدَ نَسْلٍ
مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: "فِي"، بِمَعْنَى الْبَاءِ،
أَيْ: يَذْرَؤُكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُكَثِّرُكُمْ بِالتَّزْوِيجِ. {
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } "مِثْلُ" صِلَةٌ، أَيْ: لَيْسَ هُوَ
كَشَيْءٍ، فَأَدْخَلَ الْمِثْلَ لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: "فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ" ( الْبَقَرَةِ-137 ) ، وَقِيلَ: الْكَافُ
صِلَةٌ، مَجَازُهُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ. { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } مَفَاتِيحُ الرِّزْقِ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ. {
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ
بِيَدِهِ، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ } بَيَّنَ وَسَنَّ لَكُمْ،
{ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } وَهُوَ أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: أَوْصَيْنَاكَ وَإِيَّاهُ يَا مُحَمَّدُ دِينًا وَاحِدًا. { وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } مِنْ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
الْقُرْآنِ
وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى } وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْآيَةِ: فَقَالَ قَتَادَةُ: تَحْلِيلُ
الْحَلَالِ وَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: تَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ
وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا وَصَّاهُ بِإِقَامِ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ لَهُ،
فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ. (1) وَقِيلَ: هُوَ مَا
ذَكَرَ مِنْ بَعْدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } بَعَثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بِإِقَامَةِ
الدِّينِ وَالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَرْكِ الْفُرْقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ.
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } مِنَ التَّوْحِيدِ
وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ قَالَ: { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ }
يَصْطَفِي إِلَيْهِ (2) مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ، { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ } يُقْبِلُ إِلَى طَاعَتِهِ.
{ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ
يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) }
{ وَمَا تَفَرَّقُوا } يَعْنِي أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرَ
فِي سُورَةِ الْمُنْفَكِّينَ. { إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ }
بِأَنَّ الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، { بَغْيًا
بَيْنَهُمْ } أَيْ: لِلْبَغْيِ، قَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي بَغْيًا بَيْنَهُمْ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ } فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَهُوَ
يَوْمُ الْقِيَامَةِ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَكَفَرَ،
يَعْنِي أَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْمُكَذِّبِينَ فِي الدُّنْيَا، { وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ } يعني 115/أ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، { مِنْ
بَعْدِهِمْ } مِنْ بَعْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ
مُشْرِكِي مَكَّةَ. { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أَيْ: مَنَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أَيْ: فَإِلَى ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ دَعَوْتُ إِلَى
فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءَ
مِنَ التَّوْحِيدِ، { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } اثْبُتْ عَلَى الدِّينِ
الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ،
__________
(1) انظر: زاد المسير: 7 / 276، القرطبي: 16 / 11.
(2) في "ب" لدينه.
{
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
كِتَابٍ } أَيْ: آمَنْتُ بِكُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا، { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ
بَيْنَكُمُ } [أَنْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ] (1) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: أُمِرْتُ أَنْ لَا أَحِيفَ عَلَيْكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا
افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ
فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْيَاءِ، { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } يَعْنِي: إِلَهُنَا وَاحِدٌ، وَإِنِ
اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُنَا، فَكَلٌّ يُجَازَى بِعَمَلِهِ، { لَا حُجَّةَ } لَا
خُصُومَةَ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (2) ،
فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ وَأُمِرَ بِالدَّعْوَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيبُ خُصُومَةٌ، { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } فِي
الْمَعَادِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر فيما سبق: 3 / 33 تعليق (1).
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ
دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ
أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) }
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ } يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ
قَالُوا: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ،
فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ. (1) { مِنْ بَعْدِ مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ } [أَيْ: اسْتَجَابَ لَهُ] (2) النَّاسُ فَأَسْلَمُوا وَدَخَلُوا
فِي دِينِهِ لِظُهُورِ مُعْجِزَتِهِ، { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } خُصُومَتُهُمْ
بَاطِلَةٌ، { عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }
فِي الْآخِرَةِ. { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ
} قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: سُمِّيَ الْعَدْلُ مِيزَانًا
لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالتَّسْوِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ
الْبَخْسِ { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } وَلَمْ يَقُلْ
قَرِيبَةً لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَمَجَازُهُ: الْوَقْتُ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَكَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّاعَةَ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا تَكْذِيبًا: مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا }
ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ آتِيَةٍ، { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ }
أَيْ: خَائِفُونَ، { مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } أَنَّهَا آتِيَةٌ
لَا رَيْبَ فِيهَا،
__________
(1) انظر: الطبري: 25 / 19.
(2) زيادة من "ب".
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
{
أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ } يُخَاصِمُونَ، وَقِيلَ: تَدْخُلُهُمُ
الْمِرْيَةُ وَالشَّكُّ، { فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَفِيٌّ بِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: بَارٌّ بِهِمْ.
قَالَ الْسُّدِّيُّ: رَفِيقٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ
حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ
"يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ"( الْبَقَرَةِ-212 )، وَكُلُّ مَنْ رَزَقَهُ
اللَّهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَذِي رُوحٍ فَهُوَ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ
يَرْزُقَهُ. قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: اللُّطْفُ فِي الرِّزْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ رِزْقَكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ
لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْكَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. (1) { وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ } . { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } الْحَرْثُ فِي
اللُّغَةِ: الْكَسْبُ، يَعْنِي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْآخِرَةَ، {
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } بِالتَّضْعِيفِ بِالْوَاحِدِ عَشَرَةً إِلَى مَا شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، { وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا } يُرِيدُ
بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا، { نُؤْتِهِ مِنْهَا } قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: نُؤْتِهِ
بِقَدْرِ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا قَالَ: "عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ"( الْإِسْرَاءِ-18 ). { وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ نَصِيبٍ } لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلْآخِرَةِ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي،
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ أَحْمَدُ
بْنُ مَنِيعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بُشِّرَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالسَّنَا وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ
وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ
لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ" (2) .
__________
(1) انظر: القرطبي: 16 / 16.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 5 / 134، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10 / 220
"رواه أحمد وابنه من طرق، ورجال أحمد رجال الصحيح". وابن حبان في موارد
الظمآن برقم: (2501) ص 618، والحاكم: 4 / 311 وصححه ووافقه الذهبي، والمصنف في شرح
السنة: 14 / 335.
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) }
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ شَكُورٌ (23) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ
مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، يَقُولُ: أَمْ لَهُمْ
آلِهَةٌ سَنُّوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَرَعُوا لَهُمْ دِينًا غَيْرَ
دِينِ الْإِسْلَامِ.
{ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ } لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي كَلِمَةِ
الْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، حَيْثُ قَالَ: "بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ"( الْقَمَرِ-46
) ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } لَفَرَغَ مِنْ عَذَابِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ فِي
الدُّنْيَا، { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ } الْمُشْرِكِينَ، { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
} فِي الْآخِرَةِ.
{ تَرَى الظَّالِمِينَ } الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { مُشْفِقِينَ }
وَجِلِينَ، { مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } جَزَاءُ كَسْبِهِمْ وَاقِعٌ
بِهِمْ، { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ
الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ } .
{ ذَلِكَ الَّذِي } ذَكَرْتُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، { يُبَشِّرُ اللَّهُ
عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ، {
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَيْسَرَةَ قال: سمعت طاووسًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا-أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: "إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى"، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
عَجِلْتَ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ
مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ
تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. (1)
وَكَذَلِكَ روى الشعبي وطاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: "إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة (حم عسق)، باب: "إلا المودة في
القربى" 8 / 564.
يَعْنِي:
أَنْ تحفظوا قرابتي وتودوتي وَتَصِلُوا رَحِمِي. (1) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ،
وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَجْرًا
إِلَّا أَنْ تَحْفَظُونِي فِي قَرَابَتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (2) ، وَلَيْسَ
كَمَا يَقُولُ الْكَذَّابُونَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى
الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا اللَّهَ وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ
(3) ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، قَالَ: هُوَ الْقُرْبَى إِلَى اللَّهِ، يَقُولُ:
إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا أن تودوا 115/ب قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي
وَتَحْفَظُونِي فِيهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَرَابَتِهِ قِيلَ: هُمْ فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَأَبْنَاؤُهُمَا،
وَفِيهِمْ نَزَلَ: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ"( الْأَحْزَابِ-33 ) .
وَرُوِّينَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي تَارِكٌ
فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ
فِي أَهْلِ بَيْتِي"، قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟
قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. (4)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ،
حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي
يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي
أَهْلِ بَيْتِهِ. (5)
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَقَارِبِهِ
وَيُقَسَّمُ فِيهِمُ الْخُمْسُ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ،
الَّذِينَ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إِسْلَامٍ. (6)
وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ،
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَهُمْ فِيهَا بِمَوَدَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِلَةِ رَحِمِهِ (7) ،
فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَآوَاهُ
__________
(1) عزاه ابن حجر لأحمد بن منيع بإسناد صحيح. انظر: المطالب العالية: 3 / 368.
(2) عزاه ابن حجر لأحمد بن منيع بإسناد صحيح. انظر: المطالب العالية: 3 / 368.
(3) انظر: الطبري: 25 / 23.
(4) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 268. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 103 "رواه
أحمد والطبراني ورجال أحمد فيهم قزعة بن سويد، وثقه ابن معين وغيره، وفيه ضعف،
وبقية رجاله ثقات"، والحاكم: 2 / 443-444 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه، ووافقه الذهبي، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 347 عزوه لابن أبي حاتم
وابن مردويه.
(5) قطعة من حديث أخرجه مسلم في فضائل الصحابة: باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، برقم: (2408): 4 / 1873.
(6) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 7 / 78.
(7) انظر: زاد المسير: 7 / 285.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
الْأَنْصَارُ
وَنَصَرُوهُ أَحَبَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُلْحِقَهُ بِإِخْوَانِهِ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَيْثُ قالوا: "وما أسئلكم عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ"(
الشُّعَرَاءِ-109 ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "قُلْ مَا سَأَلَتْكُمْ مِنْ
أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ"، فَهِيَ
مَنْسُوخَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: "قل ما أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ"( الزُّمَرِ-86 ) ، وَغَيْرِهَا
مِنَ الْآيَاتِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَالْحُسَيْنُ
بْنُ الْفَضْلِ.
وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّ مَوَدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَّ الْأَذَى عَنْهُ وَمَوَدَّةَ أَقَارِبِهِ،
وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ فَرَائِضِ
الدِّينِ، وَهَذِهِ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَلَا يَجُوزُ
الْمَصِيرُ إِلَى نَسْخِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ: "إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"، لَيْسَ
بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَجْرًا فِي
مُقَابَلَةِ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنِّي
أُذَكِّرُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَأُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي مِنْكُمْ،
كَمَا رُوِّينَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: "أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ
فِي أَهْلِ بَيْتِي".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا
} أَيْ: مَنْ يَزِدْ (1) طَاعَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا بِالتَّضْعِيفِ، {
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِلذُّنُوبِ، { شَكُورٍ } لِلْقَلِيلِ حَتَّى
يُضَاعِفَهَا.
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ
عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) }
{ أَمْ يَقُولُونَ } بَلْ يَقُولُونَ يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، { افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } قَالَ
مُجَاهِدٌ: يَرْبُطُ عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ
أَذَاهُمْ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُفْتَرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي يَطْبَعُ
عَلَى قَلْبِكَ فَيُنْسِيكَ الْقُرْآنَ وَمَا أَتَاكَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ
لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ لَفَعَلَ بِهِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } قَالَ
الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ: وَاللَّهُ يَمْحُو
الْبَاطِلَ. وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ الْوَاوَ فِي
الْمُصْحَفِ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: "وَيَدْعُ
الإنسان"( الإسراء-11 ) و"سندع الزَّبَانِيَةَ"( الْعَلَقِ-18 ) ،
أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ يَمْحُوهُ اللَّهُ، { وَيُحِقُّ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ } أَيِ: الْإِسْلَامَ بِمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ فَعَلَ
اللَّهُ ذَلِكَ فَمَحَا بَاطِلَهُمْ وَأَعْلَى كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، { إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: "قُلْ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"،
وَقَعَ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنْهَا شَيْءٌ وَقَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَحُثَّنَا
عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمُ
اتَّهَمُوهُ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ؟ فَنَزَلَ:
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } .
__________
(1) في "ب": يكتسب.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
{
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) }
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } (1) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَهْلَ طَاعَتِهِ، قِيلَ
التَّوْبَةُ تَرْكُ الْمَعَاصِيَ نِيَّةً وَفِعْلًا وَالْإِقْبَالُ عَلَى
الطَّاعَةِ نِيَّةً وَفِعْلًا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: التَّوْبَةُ
الِانْتِقَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَذْمُومَةِ إِلَى الْأَحْوَالِ
الْمَحْمُودَةِ. { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } إِذَا تَابُوا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوِيدٍ
قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَلَّهُ أَفْرَحُ
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ، أَظُنُّهُ قَالَ: [فِي بَرِّيَّةٍ] (2)
مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَزَلَ فَنَامَ
فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ضَلَّتْ (3) رَاحِلَتُهُ، فَطَافَ عَلَيْهَا حَتَّى
أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، فَقَالَ: أَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ كَانَتْ رَاحِلَتِي
فَأَمُوتُ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ فَأَغْفَى فَاسْتَيْقَظَ فَإِذْ هُوَ بِهَا عِنْدَهُ
عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ". (4)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ عَمُّهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ
أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ
كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا
طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا،
وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا
قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ:
اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ
الْفَرَحِ". (5)
{ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } فَيَمْحُوهَا إِذَا تَابُوا. { وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ "تَفْعَلُونَ"
بِالتَّاءِ، وَقَالُوا: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ بَيْنَ خَبَرَيْنِ عَنْ قَوْمٍ، فَقَالَ: قَبْلَهُ عَنْ
عِبَادِهِ، وَبَعْدَهُ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
__________
(1) انظر: القرطبي: 16 / 26.
(2) في "ب" بدوية.
(3) في "ب" هلكت.
(4) أخرجه البخاري في الدعوات، باب التوبة: 11 / 102، ومسلم في التوبة، باب في
الحض على التوبة والفرح بها، برقم: (2744): 4 / 2103، واللفظ له، والمصنف في شرح
السنة: 5 / 84-85.
(5) أخرجه مسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم: (2747) 4 /
2104، والمصنف في شرح السنة: 5 / 87-88.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ
الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا
يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) }
{ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا } 116/أ [أَيْ: وَيُجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا]
(1) ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إِذَا دَعَوْهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: وَيُثِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا. { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } سِوَى
ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْهُ:
يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ: فِي
إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ.
{ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } .
{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ:
فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (2) "وَلَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ" وَسَّعَ اللَّهُ الرِّزْقَ { لِعِبَادِهِ } { لَبَغَوْا }
لَطَغَوْا وَعَتَوْا، { فِي الْأَرْضِ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغْيُهُمْ طَلَبُهُمْ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ
وَمَرْكَبًا بَعْدَ مَرْكَبٍ وَمَلْبَسًا بَعْدَ مَلْبَسٍ. { وَلَكِنْ يُنَزِّلُ }
أَرْزَاقَهُمْ { بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } كَمَا يَشَاءُ نَظَرًا مِنْهُ
لِعِبَادِهِ، { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَفِيدُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ
بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ
الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ
الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ
بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنِّي لَأَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ
اللَّيْثُ الْحَرْدُ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ بِمِثْلِ
أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ يَتَقَرَّبُ
إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ
سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ،
وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ
تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا
أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي
الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَسْأَلُنِي الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ
أَنْ لَا يَدْخُلَهُ عَجَبٌ فَيُفْسِدُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي
الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ
أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ
لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لِأَفْسَدَهُ
ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ
إِلَّا الصِّحَّةُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 434.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
وَلَوْ
أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ
لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ
ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ إِنِّي عَلِيمٌ
خَبِيرٌ". (1)
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا
يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ } الْمَطَرَ، {
مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا يَئِسَ النَّاسُ مِنْهُ،
وَذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الشُّكْرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حَبَسَ اللَّهُ
الْمَطَرَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى قَنِطُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ
اللَّهُ الْمَطَرَ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ، { وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ }
يَبْسُطُ مَطَرَهُ، كَمَا قَالَ: "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ".( الْأَعْرَافِ-75 ) { وَهُوَ الْوَلِيُّ
} لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، { الْحَمِيدُ } عِنْدَ خَلْقِهِ.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ
دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } يَعْنِي: يَوْمَ
الْقِيَامَةِ.
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ "بِمَا كَسَبَتْ" بِغَيْرِ فَاءٍ، وَكَذَلِكَ
هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، فَمَنْ حَذَفَ الْفَاءَ جَعَلَ "مَا" فِي
أَوَّلِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ بِمَا كسبت أيديكم. { وَيَعْفُوا
عَنْ كَثِيرٍ } قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ
إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ". (2)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى
الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنِي الْأَزْهَرُ بْنُ رَاشِدٍ الْبَاهِلِيُّ عَنِ الْخَضِرِ
بْنِ الْقَوَّاسِ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ قَالَ:
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 353 لابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء
والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر في
تاريخه، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (338).
(2) أخرجه هناد مرسلا في الزهد: 1 / 519، وله شواهد عند الترمذي من حديث أبي موسى
الأشعري وعند الطبراني من حديث البراء. انظر: التعليق على كتاب الزهد في الموضع
السابق. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 354 لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كسبت أيديكم ويعفوا
عَنْ كَثِيرٍ"، قَالَ: وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: "مَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ
عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ فِي
الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ". (1)
قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا مِنْ نَكْبَةٍ أَصَابَتْ عَبْدًا فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا
بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُ إِلَّا بِهَا، أَوْ دَرَجَةٍ لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيُبَلِّغَهَا إِلَّا بِهَا.
{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) }
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 85، والحاكم: 4 / 388، وزاد السيوطي في الدر المنثور:
7 / 354 عزوه لابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبي يعلى وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. وقال الهيثمي (7 / 104): "فيه أزهر بن
راشد وهو ضعيف".
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ
كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ (35) }
{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } بِفَائِتِينَ، { فِي الْأَرْضِ } هَرَبًا
يَعْنِي لا تعجزونني حيث ما كُنْتُمْ وَلَا تَسْبِقُونَنِي، { وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي } يَعْنِي: السُّفُنَ،
وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ وَهِيَ السَّائِرَةُ، { فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ }
أَيِ: الْجِبَالِ، [قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُصُورُ، وَاحِدُهَا عَلَمٌ] (1) ،
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: كُلُّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ
فَهُوَ عَلَمٌ.
{ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ } الَّتِي تُجْرِيهَا، { فَيَظْلَلْنَ } يَعْنِي:
الْجَوَارِيَ، { رَوَاكِدَ } ثَوَابِتَ، { عَلَى ظَهْرِهِ } عَلَى ظَهْرِ
الْبَحْرِ لَا تَجْرِي، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
أَيْ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُؤْمِنِ الصَّبْرُ فِي الشِّدَّةِ
وَالشُّكْرُ فِي الرَّخَاءِ.
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ } يُهْلِكْهُنَّ وَيُغْرِقْهُنَّ، { بِمَا كَسَبُوا } أَيْ:
بِمَا كَسَبَتْ رُكْبَانُهَا مِنَ الذُّنُوبِ، { وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } مِنْ
ذُنُوبِهِمْ [فَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهَا] (2) .
{ وَيَعْلَمَ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: "وَيَعْلَمُ"
بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ
بَرَاءَةَ: "وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ"( التَّوْبَةِ-15 ) ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الصَّرْفِ، وَالْجَزْمُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
إِذَا
صُرِفَ عَنْهُ مَعْطُوفُهُ نُصِبَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ"( آلِ عِمْرَانَ-142 ) ، صُرِفَ مَنْ حَالِ الْجَزْمِ إِلَى
النَّصْبِ اسْتِخْفَافًا وَكَرَاهِيَةً لِتَوَالِي الْجَزْمِ. { الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أَيْ: يَعْلَمُ الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا صَارُوا إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْبَعْثِ أَنْ لَا
مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
{ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) }
{ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ } [مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا] (1) ، { فَمَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لَيْسَ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ }
[مِنَ الثَّوَابِ] (2) ، { خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ } فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي
أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَهُمَا يَتَمَتَّعَانِ بِهَا فَإِذَا صَارَا
إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ.
{ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ } قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: "كَبِيرَ الْإِثْمِ" عَلَى الْوَاحِدِ هَاهُنَا، وَفِي
سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "كَبَائِرَ" بِالْجَمْعِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْكَبَائِرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (3) {
وَالْفَوَاحِشَ } قَالَ الْسُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَمُقَاتِلٌ: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }
يَحْلُمُونَ وَيَكْظِمُونَ الغيظ ويتجاوزون. 116/ب
{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ
إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ، { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ } يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَبْدُو لَهُمْ وَلَا يَعْجَلُونَ { وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ } الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ، { هُمْ
يَنْتَصِرُونَ } يَنْتَقِمُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ يَعْفُونَ
عَنْ ظَالِمِيهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"، وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ،
وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا
فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
قَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ
مَكَّةَ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى
انْتَصَرُوا مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ (4) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر فيما سبق: 2 / 201-204.
(4) انظر: زاد المسير: 7 / 291.
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ
ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ
لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) }
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فَقَالَ: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا } [سَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً] (1) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً
لِتَشَابُهِهِمَا فِي الصُّورَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْقِصَاصَ فِي
الْجِرَاحَاتِ وَالدِّمَاءِ. (2)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيٌّ: هُوَ جَوَابُ الْقَبِيحِ إِذَا قَالَ: أَخْزَاكَ
اللَّهُ تَقُولُ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، وَإِذَا شَتَمَكَ فَاشْتُمْهُ بِمِثْلِهَا
مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَدِيَ. (3)
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَا قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا"؟ قَالَ: أَنْ
يَشْتُمَكَ رَجُلٌ فَتَشْتُمَهُ، وَأَنْ يَفْعَلَ بِكَ فَتَفْعَلَ بِهِ، فَلَمْ
أَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَسَأَلَتْ هِشَامَ بْنَ حُجَيْرَةَ عَنْ هَذِهِ
الْآيَةِ؟ فَقَالَ: الْجَارِحُ إِذَا جَرَحَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ أَنْ
يَشْتُمَكَ فَتَشْتُمَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْعَفْوَ فَقَالَ: { فَمَنْ عَفَا } عَمَّنْ ظَلَمَهُ، { وَأَصْلَحَ
} بِالْعَفْوِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَالِمِهِ، { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } قَالَ
الْحَسَنُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ
عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ. فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا، ثُمَّ قَرَأَ
هَذِهِ الْآيَةَ. (4) { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } قَالَ ابْنُ عباس:
الذين يبدؤون بِالظُّلْمِ.
{ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أَيْ: بَعْدَ ظُلْمِ الظَّالِمِ إِيَّاهُ،
{ فَأُولَئِكَ } يَعْنِي الْمُنْتَصِرِينَ، { مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ }
بِعُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ.
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } يبدؤون
بِالظُّلْمِ، { وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } يَعْمَلُونَ فِيهَا
بِالْمَعَاصِي، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
{ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ } فَلَمْ يَنْتَصِرْ، { إِنَّ ذَلِكَ } الصَّبْرَ
وَالتَّجَاوُزَ، { لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } حَقِّهَا وَجَزْمِهَا. قَالَ
مُقَاتِلٌ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ:
الصَّابِرُ يُؤْتَى بِصَبْرِهِ الثَّوَابَ فَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ أَتَمُّ
عَزْمًا.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 293.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 523، زاد المسير: 7 / 293.
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور: 7 / 359.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) }
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ
طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي
عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ
مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) }
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ } فَمَا لَهُ
مِنْ أَحَدٍ يَلِي هِدَايَتَهُ بَعْدَ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَيَمْنَعُهُ
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ }
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } يَسْأَلُونَ
الرَّجْعَةَ فِي الدُّنْيَا. { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أَيْ: عَلَى
النَّارِ، { خَاشِعِينَ } خَاضِعِينَ مُتَوَاضِعِينَ، { مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ
مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } خَفِيِّ النَّظَرِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ
يُسَارِقُونَ النَّظَرَ إِلَى النَّارِ خَوْفًا مِنْهَا وَذِلَّةً فِي
أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: "مِنْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِطَرْفٍ
خَفِيٍّ ضَعِيفٍ مِنَ الذُّلِّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ" لِأَنَّهُ لَا يَفْتَحُ عَيْنَهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ بِبَعْضِهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ
يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَالنَّظَرُ بِالْقَلْبِ خَفِيٌّ. { وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } قِيلَ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ صَارُوا إِلَى النَّارِ،
وَأَهْلِيهِمْ بِأَنْ صَارُوا لِغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. { أَلَا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ } .
{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ } طَرِيقٍ إِلَى الصَّوَابِ وَإِلَى
الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى، قَدِ
انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْخَيْرِ.
{ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ } أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ وَهُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ { مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ } تلجأون إِلَيْهِ { يَوْمَئِذٍ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ } مِنْ مُنْكِرٍ يُغَيِّرُ مَا بِكُمْ.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ
كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ
مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) }
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا } عَنِ الْإِجَابَةِ، { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ } مَا عَلَيْكَ، { إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا
أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْغِنَى
وَالصِّحَّةَ. { فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } قَحْطٌ، { بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } أَيْ: لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ يَنْسَى وَيَجْحَدُ بِأَوَّلِ شِدَّةٍ جَمِيعَ مَا
سَلَفَ مِنَ النِّعَمِ.
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا بِمَا
يُرِيدُ، { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا } فَلَا يَكُونُ
لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، قِيلَ: مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرُهَا بِالْأُنْثَى
قَبْلَ الذَّكَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْإِنَاثِ، { وَيَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } فَلَا يَكُونُ لَهُ أُنْثَى.
{ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا
فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، { وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا }
فَلَا يَلِدُ وَلَا يُولَدُ لَهُ. قِيلَ: هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا } يَعْنِي: لُوطًا لَمْ يُولَدْ لَهُ
ذَكَرٌ إِنَّمَا وُلِدَ لَهُ ابْنَتَانِ، { وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ }
يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، { أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، { وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ
عَقِيمًا } يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُمَا،
وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كَافَّةِ
النَّاسِ. { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْيًا } وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا،
كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَنْظُرْ مُوسَى إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا" (1) يُوحِي إِلَيْهِ فِي
الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ، { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } يُسْمِعُهُ
كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ، كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (146): لم أجده.
{
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } إِمَّا جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، {
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } أَيْ: يُوحِيَ ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى
الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ.
قَرَأَ نَافِعٌ: "أَوْ يُرْسِلُ" بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، "فَيُوحِي" سَاكِنَةَ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِنَصْبِ اللَّامِ وَالْيَاءِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْوَحْيِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولًا. { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) }
{ وَكَذَلِكَ } أَيْ: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى سَائِرِ رُسُلِنَا، { أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُبُوَّةً. وَقَالَ
الْحَسَنُ: رَحْمَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: وَحْيًا. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: جِبْرِيلَ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ
دِينَارٍ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. { مَا كُنْتَ تَدْرِي } قَبْلَ الْوَحْيِ، { مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يَعْنِي شَرَائِعَ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمَهُ،
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: (1) "الْإِيمَانُ" فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ: الصَّلَاةُ، وَدَلِيلُهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ"( الْبَقَرَةِ 143 ) .
وَأَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعْبُدُ اللَّهَ قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ
يَتَبَيَّنْ لَهُ شَرَائِعُ دِينِهِ.
{ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْإِيمَانَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. { نَهْدِي بِهِ } نُرْشِدُ بِهِ، { مَنْ
نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي } أَيْ لَتَدْعُو، { إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } يَعْنِي الْإِسْلَامَ.
{ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } أَيْ: أُمُورُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا فِي
الْآخِرَةِ.
__________
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة: 2 / 160.
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
سُورَةُ
الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ (4) }
{ حم } { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَبَانَ
طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ، وَأَبَانَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ
الْأُمَّةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ.
{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قَوْلُهُ:
"جَعَلْنَاهُ" أَيْ: صَيَّرْنَا قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابَ عَرَبِيًّا.
وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ. وَقِيلَ: سَمَّيْنَاهُ. وَقِيلَ: وَصَفْنَاهُ، يُقَالُ:
جَعَلَ فُلَانٌ زَيْدًا أَعْلَمَ النَّاسِ، أَيْ وَصَفَهُ، هَذَا كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ
إِنَاثًا"( الزُّخْرُفِ-19 ) وَقَوْلُهُ: "جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ"(
الْحِجْرِ-91 ) ، وَقَالَ: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ"(
التَّوْبَةِ-19 ) ، كُلُّهَا بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ.
{ وَإِنَّهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ، { فِي أُمِّ الْكِتَابِ } فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ. قَالَ قَتَادَةُ: "أُمُّ الْكِتَابِ": أَصْلُ الْكِتَابِ،
وَأُمُّ كُلِّ شَيْءٍ: أَصْلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ
اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ،
فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، (2) ثُمَّ قَرَأَ "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
لَدَيْنَا"، فَالْقُرْآنُ مُثَبَّتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ"( الْبُرُوجِ-21 ) . { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } قَالَ قَتَادَةُ:
يُخْبِرُ عَنْ مَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِهِ، أَيْ: إِنْ كَذَّبْتُمْ بِالْقُرْآنِ يَا
أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لَعَلِيٌّ رَفِيعٌ شَرِيفٌ مُحْكَمٌ مِنَ
الْبَاطِلِ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 365 لابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: نزلت بمكة سورة "حم" الزخرف.
(2) أخرجه الطبري: 25 / 48، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 366 لابن أبي
حاتم. وانظر: السنة لابن أبي عاصم مع ظلال الجنة للألباني: 1 / 48-50.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
{
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ
بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) }
{ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } يُقَالُ: ضَرَبْتُ عَنْهُ
وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ إِذَا تَرَكْتُهُ وأمسكت عنه، و"الصفح" مَصْدَرُ
قَوْلِهِمْ صَفَحْتَ عَنْهُ إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُوَلِّيَهُ
صَفْحَةَ وَجْهِكَ [وَعُنُقِكَ] (1) ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ.
وَمَعْنَاهُ: أَفَنَتْرُكُ عَنْكُمُ الْوَحْيَ وَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ
الْقُرْآنِ فَلَا نَأْمُرُكُمْ [وَلَا نَنْهَاكُمْ] (2) مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ
أَسْرَفْتُمْ فِي كُفْرِكُمْ وَتَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ؟ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى
الْإِنْكَارِ، أَيْ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّهُ
أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَادَ عَلَيْهِمْ
بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ مَا
شَاءَ اللَّهُ. (3)
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَفَنُضْرِبُ عَنْكُمْ بِتَذْكِيرِنَا إِيَّاكُمْ صَافِحِينَ
مُعْرِضِينَ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَفَنَطْوِي عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا فَلَا تُدْعَوْنَ
وَلَا تُوعَظُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَفَنَتْرُكُكُمْ سُدًى لَا نَأْمُرُكُمْ
وَلَا نَنْهَاكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: أَفَنُعْرِضُ عَنْكُمْ
وَنَتْرُكُكُمْ فَلَا نُعَاقِبَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ. (4) { أَنْ كُنْتُمْ
قَوْمًا مُسْرِفِينَ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"إِنْ كُنْتُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى مَعْنَى: إِذْ كُنْتُمْ،
كَقَوْلِهِ: "وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"( آلِ
عِمْرَانَ-139 ) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ، عَلَى مَعْنَى: لِأَنْ
كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [مُشْرِكِينَ] (5) .
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ } أَيْ
وَمَا كَانَ يَأْتِيهِمْ، { مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ، يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
{ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أَيْ أَقْوَى مِنْ قَوْمِكَ، يَعْنِي
الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، { وَمَضَى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ } أَيْ صِفَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمْ وَعُقُوبَتُهُمْ، فَعَاقِبَةُ
هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ فِي الْإِهْلَاكِ.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أَيْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه الطبري: 25 / 49.
(4) انظر: الطبري: 25 / 49.
(5) زيادة من "ب".
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
{
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ } أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا، وَأَقَرُّوا بِعِزِّهِ
وَعِلْمِهِ ثُمَّ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ
لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ. إِلَى هَاهُنَا تَمَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ.
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) }
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا
عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ
عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
ثُمَّ ابْتَدَأَ دَالًّا عَلَى نَفْسِهِ بِصُنْعِهِ فَقَالَ: { الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
} إِلَى مَقَاصِدِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ.
{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } أَيْ بِقَدْرِ حَاجَتِكُمْ
إِلَيْهِ لَا كَمَا أَنْزَلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ بِغَيْرِ قَدْرٍ حَتَّى
أَهْلَكَهُمْ. { فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ } أَيْ كَمَا
أَحْيَيْنَا هَذِهِ الْبَلْدَةَ [الْمَيْتَةَ] (1) بِالْمَطَرِ كَذَلِكَ، {
تُخْرَجُونَ } مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً.
{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ } أَيِ الْأَصْنَافَ { كُلَّهَا } { وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ.
{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } ذَكَرَ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ رَدَّهَا إِلَى
"مَا". { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ
عَلَيْهِ } بِتَسْخِيرِ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، { وَتَقُولُوا
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } ذَلَّلَ لَنَا هَذَا، { وَمَا كُنَّا
لَهُ مُقْرِنِينَ } مُطِيقِينَ، وَقِيلَ: ضَابِطِينَ.
{ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } لَمُنْصَرِفُونَ فِي الْمَعَادِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ،
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّهُ شَهِدَ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَكِبَ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي
الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ،
ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
__________
(1) زيادة من "ب".
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
كُنَّا
لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، ثُمَّ حَمِدَ ثَلَاثًا
وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ،
فَقَالَ: مَا يُضْحِكُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 117/ب فَعَلَ مَا فَعَلْتُ، وَقَالَ مِثْلَ مَا
قُلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْنَا: مَا يُضْحِكُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ:
"الْعَبْدُ"، أَوْ قَالَ: "عَجِبْتُ لِلْعَبْدِ إِذَا قَالَ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا أَنْتَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا هُوَ". (1)
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ
(15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي
الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } أَيْ
نَصِيبًا وَبَعْضًا وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَمَعْنَى
الْجَعْلِ-هَاهُنَا-الْحُكْمُ بِالشَّيْءِ وَالْقَوْلُ، كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ
زَيْدًا أَفْضَلَ النَّاسِ، أَيْ وَصَفْتُهُ وَحَكَمْتُ بِهِ، { إِنَّ
الْإِنْسَانَ } يَعْنِي الْكَافِرَ، { لَكَفُورٌ } جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، {
مُبِينٌ } ظَاهِرُ الْكُفْرَانِ.
{ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ
وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: اتَّخَذَ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ، { وَأَصْفَاكُمْ
بِالْبَنِينَ } ؟ كقوله: "فأصفاكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ"( الْإِسْرَاءِ-40
) .
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا } بِمَا جَعَلَ
لِلَّهِ شَبَهًا، وَذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ كُلِّ شَيْءٍ يُشْبِهُهُ، يَعْنِي إِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْبَنَاتِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ:
"وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ"،( النَّحْلِ-58 ) مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَيْظِ.
{ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ:
"يُنَشَّأُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ،
أَيْ يُرَبَّى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ
وَتَخْفِيفِ الشِّينِ، أَيْ يَنْبُتُ وَيَكْبُرُ، { فِي الْحِلْيَةِ } فِي
الزِّينَةِ يَعْنِي النِّسَاءَ، { وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } فِي
الْمُخَاصَمَةِ غَيْرُ مُبِينٍ لِلْحُجَّةِ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا ركب: 3 / 410، والترمذي في
الدعوات، باب: ما جاء ما يقول إذا ركب دابة: 9 / 408-409 وقال: "هذا حديث حسن
صحيح" والنسائي في عمل اليوم والليلة ص (349)، والإمام أحمد: 1 / 115، وابن
حبان في الأذكار، باب: ما يقول إذا ركب الدابة برقم: (2381) ص (591)، والحاكم: 2 /
98 من طريق ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو، وقال: "هذا حديث صحيح
على شرط مسلم ولم يخرجاه"، والمصنف في شرح السنة: 5 / 138-139. وانظر:
الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية لابن علان: 5 / 125-126.
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
مِنْ
ضَعْفِهِنَّ وَسَفَهِهِنَّ، قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَلَّمَا
تَتَكَلَّمُ امْرَأَةٌ فَتُرِيدُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهَا إِلَّا
تَكَلَّمَتْ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهَا. (1)
وَفِي مَحَلِّ "مَنْ" ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الرَّفْعُ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الإضمار، مجازه: أو من ينشؤ فِي الْحِلْيَةِ
يَجْعَلُونَهُ بَنَاتِ اللَّهِ، وَالْخَفْضُ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: "مِمَّا
يَخْلُقُ"، وَقَوْلِهِ: "بِمَا ضَرَبَ".
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا
لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ
بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) }
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا }
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو: "عِبَادُ الرَّحْمَنِ"
بِالْبَاءِ وَالْأَلِفِ بَعْدَهَا وَرَفْعِ الدَّالِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"بَلْ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ"( الْأَنْبِيَاءِ-26 ) ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "عِنْدَ الرَّحْمَنِ" بِالنُّونِ وَنَصْبِ الدَّالِ عَلَى
الظَّرْفِ، وَتَصْدِيقُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ"( الْأَعْرَافِ-206 ) الْآيَةَ، { أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } قَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِينِ الْهَمْزَةِ
الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حِينَ
خُلِقُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: "أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا
وَهُمْ شَاهِدُونَ"( الصَّافَّاتِ-150 ) ، { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ }
عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، { وَيُسْأَلُونَ } عَنْهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ سَأَلَهُمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا يُدْرِيكُمْ
أَنَّهُمْ إِنَاثٌ؟" قَالُوا: سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَنَحْنُ نَشْهَدُ
أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا، (2) فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "ستكتب شهادتهم
ويسئلون"، عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ.
{ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ،
قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي
الْأَوْثَانَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَجِّلْ عُقُوبَتَنَا عَلَى عِبَادَتِنَا
إِيَّاهَا لِرِضَاهُ مِنَّا بِعِبَادَتِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { مَا لَهُمْ
بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } فِيمَا يَقُولُونَ { إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } مَا
هُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ مِنَّا
بِعِبَادَتِهَا، وَقِيلَ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ
الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَإِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ } أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ بِأَنْ
يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، { فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ }
__________
(1) أخرجه الطبري: 25 / 57، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 195، وزاد السيوطي في
الدر: 7 / 370 عزوه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) انظر: زاد المسير 7 / 307، وقد عزاه للبغوي، وقال: "وهو منقطع".
=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق