8مصاحف

الخميس، 30 يونيو 2022

مجلد 2 وز3.تفسير البغوي

 

مجلد 2. معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)

مِنْهَا حَتَّى يُطَافَ بِهِمَا جَمِيعًا { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } فَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، وَالْعُمْرَةُ: الزِّيَارَةُ، وَفِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَشْرُوعَيْنِ قَصْدٌ وَزِيَارَةٌ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَحَ أَيْ مَالَ عَنِ الْقَصْدِ { أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أَيْ يَدُورَ بِهِمَا، وَأَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ صَنَمَانِ أَسَافُ وَنَائِلَةُ، وَكَانَ أَسَافُ عَلَى الصَّفَا وَنَائِلَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِلصَّنَمَيْنِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِمَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَكُسِرَتِ الْأَصْنَامُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَحَرَّجُونَ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَجْلِ الصَّنَمَيْنِ فَأَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (1) .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَوُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ سَيْرَيْنِ وَمُجَاهِدٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ دَمٌ (2) .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُؤَمَّلٍ الْعَائِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي بِنْتُ أَبِي تِجْرَاةَ -اسْمُهَا حَبِيبَةُ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ -قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ
__________
(1) أخرج البخاري عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا بن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 2 / 183، أحكام القرآن لابن العربي: 1 / 48، أحكام القرآن للجصاص: 1 / 118-122. ابن كثير: 1 / 347.

مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ نَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ حَتَّى لَأَقُولُ إِنِّي لِأَرَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فَمَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ "فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الْآيَةَ. (2)
قَالَ عَاصِمٌ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّفَا يَقُولُ "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ" فَبَدَأَ بِالصَّفَا. وَقَالَ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدْعُو وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ: كَانَ إِذَا نَزَلَ مِنَ الصَّفَا مَشَى حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي يَسْعَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. (3)
__________
(1) رواه الدارقطني: عن ابن المبارك بقوله: أخبرني معروف بن مشكان أخبرني منصور بن عبد الرحمن عن أم صفية قالت: أخبرتني نسوة من بني عبد الدار اللائي أدركن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح ومعروف بن مشكان صدوق لا نعلم من تكلم فيه ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين - عن التعليق المغني 2 / 255. الطبراني: في الكبير وفيه عبد الله بن المؤمل وثقة ابن حبان وقال يخطئ وضعفه غيره (المجمع: 3 / 247) أحمد: 6 / 422 عن حبيبة بنت أبي تجزئة والصحيح بنت أبي تجراة انظر أسد الغابة 7 / 59. والمصنف في شرح السنة: 7 / 141.
(2) أخرجه البخاري في التفسير: 8 / 175، ومسلم في الحج: 2 / 928، والمصنف في شرح السنة: 7 / 139.
(3) رواه مسلم: في الحج - باب: حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (1218) 2 / 886 مطولا من حديث جابر المشهور. والمصنف في شرح السنة: 7 / 136.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

قَالَ مُجَاهِدٌ: -رَحِمَهُ اللَّهُ -حَجَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ وَعَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوَانِيَّتَانِ (1) ، فَطَافَ الْبَيْتَ ثُمَّ صَعِدَ الصَّفَا وَدَعَا ثُمَّ هَبَطَ إِلَى السَّعْيِ وَهُوَ يُلَبِّي فَيَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَبَّيْكَ عَبْدِي وَأَنَا مَعَكَ فَخَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاجِدًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ "فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا"( 184-الْبَقَرَةِ ) بِمَعْنَى يَتَطَوَّعُ وَوَافَقَ يَعْقُوبُ فِي الْأُولَى وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: فَمَنْ تَطَوَّعَ: أَيْ زَادَ فِي الطَّوَافِ بَعْدَ الْوَاجِبِ. وَقِيلَ مَنْ تَطَوَّعَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ سَائِرَ الْأَعْمَالِ يَعْنِي فِعْلَ غَيْرِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةٍ وَصَلَاةٍ وَطَوَافٍ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ } مُجَازٍ لِعَبْدِهِ بِعَمَلِهِ { عَلِيمٌ } بِنِيَّتِهِ. وَالشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَ لِعَبْدِهِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ. يَشْكُرُ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي الْكَثِيرَ.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةَ الرَّجْمِ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ (2) { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } وَأَصْلُ اللَّعْنِ الطَّرْدُ وَالْبُعْدُ { وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } أَيْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ اللَّاعِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالَ عَطَاءٌ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَقَالَ الْحَسَنُ: جَمِيعُ عِبَادِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا تَلَاعَنَ اثْنَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَجَعَتِ تِلْكَ اللَّعْنَةُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّاعِنُونَ الْبَهَائِمُ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ وَأَمْسَكَ الْمَطَرُ وَقَالَتْ هَذَا مِنْ شُؤْمِ ذُنُوبِ بَنِي آدَمَ ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } مِنَ الْكُفْرِ { وَأَصْلَحُوا } أَسْلَمُوا وَأَصْلَحُوا الْأَعْمَالَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ { وَبَيَّنُوا } مَا كَتَمُوا { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ وَأَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ { وَأَنَا التَّوَّابُ }
__________
(1) القطوانية: عباءة بيضاء قصيرة الحمل، والنون زائدة، النهاية: 4 / 85.
(2) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل، وخارجة بن زيد أخو الحرث بن الخزرج نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله فيهم (إن الذين يكتمون ...) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1 / 390.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

الرَّجَّاعُ بِقُلُوبِ عِبَادِي الْمُنْصَرِفَةِ عَنِّي إِلَيَّ { الرَّحِيمُ } بِهِمْ بَعْدَ إِقْبَالِهِمْ عَلَيَّ.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) }
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ } أَيْ لعنة الملائكة 22/ب { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } قَالَ أبو العالية: هذايوم الْقِيَامَةِ يُوقَفُ الْكَافِرُ فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَالْمَلْعُونُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ فَكَيْفَ يَلْعَنُ نَفْسَهُ؟ قِيلَ يَلْعَنُ نَفْسَهُ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا"( 25-الْعَنْكَبُوتِ ) وَقِيلَ إِنَّهُمْ يَلْعَنُونَ الظَّالِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَمَنْ يَلْعَنُ الظَّالِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَهُ
{ خَالِدِينَ فِيهَا } مُقِيمِينَ فِي اللَّعْنَةِ وَقِيلَ فِي النَّارِ { لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } لَا يُمْهَلُونَ وَلَا يُؤَجَّلُونَ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُنْظَرُونَ فَيَعْتَذِرُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ"( 36-الْمُرْسَلَاتِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ وَانْسُبْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ (1) وَالْوَاحِدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ أَخْبَرَنَا بَكْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ" { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } و{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (2) .
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (548-549) ومراجع التحقيق فيه.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب الدعاء 2 / 45 والترمذي: في الدعوات - باب: ما جاء في جامع الدعوات عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9 / 447 وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه: في الدعاء - باب: اسم الله الأعظم "3855" 2 / 1267. والدارمي: في فضائل القرآن، باب: فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي: 2 / 450. وأحمد 6 / 461 عن أسماء بنت يزيد. والمصنف في شرح السنة 5 / 39 وقال حديث غريب كلهم من حديث عبيد الله بن أبي زياد عن شهر بن حوشب وعبيد الله بن أبي زياد ليس بالقوي قال أبو داود أحاديثه مناكير، ميزان الاعتدال 3 / 8 تقريب التهذيب، الضعفاء والمتروكين للنسائي ص 156. وشهر بن حوشب ليس بالقوي وكثير الأوهام والإرسال، ميزان الاعتدال 2 / 283 تقريب التهذيب الضعفاء والمتركين للنسائي ص 134.

قَالَ أَبُو الضُّحَى (1) لِمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ إِنَّ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1 / 395 وقد عزاه لوكيع والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وأبي الشيخ في العظة والبيهقي في شعب الإيمان.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) }
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ذَكَرَ السَّمَاوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْأَرْضَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ كُلَّ سَمَاءٍ لَيَسَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، وَالْأَرْضُونَ كُلُّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التُّرَابُ، فَالْآيَةُ فِي السَّمَاوَاتِ سُمْكُهَا وَارْتِفَاعُهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ وَلَا عِلَاقَةٍ وَمَا تَرَى فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَالْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَدُّهَا وَبَسْطُهَا وَسِعَتُهَا وَمَا تَرَى فِيهَا مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْجَوَاهِرِ وَالنَّبَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أَيْ تَعَاقُبُهُمَا فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ يَخْلُفُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِذَا ذَهَبَ أَحَدُهُمَا جَاءَ الْآخَرُ خَلْفَهُ أَيْ بَعْدَهُ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً"( 62-الْفُرْقَانِ ) قَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ اخْتِلَافَهُمَا فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَاللَّيْلُ جَمْعُ لَيْلَةٍ، وَاللَّيَالِي جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالنَّهَارُ جَمْعُهُ نُهُرٌ وَقَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ }( 37-يس ).
{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } يَعْنِي السُّفُنَ وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ يُؤَنَّثُ وَفِي الْوَاحِدِ يُذَكَّرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِي الْوَاحِدِ وَالتَّذْكِيرِ "إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ"( 140-الصَّافَّاتِ ) وَقَالَ فِي الْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ "حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ"( 22-يُونُسَ ).
{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } الْآيَةُ فِي الْفُلْكِ تَسْخِيرُهَا وَجَرَيَانُهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَهِي مُوقَرَةٌ لَا تَرْسُبُ تَحْتَ الْمَاءِ { بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } يَعْنِي رُكُوبَهَا وَالْحَمْلَ عَلَيْهَا فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ وَأَنْوَاعِ الْمُطَالِبِ { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ } يَعْنِي الْمَطَرَ قِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمَاءِ السَّحَابَ، يَخْلُقُ اللَّهُ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ ثُمَّ مِنَ السَّحَابِ يَنْزِلُ وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ الْمَعْرُوفَةَ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَاءَ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّحَابِ ثُمَّ مِنَ السَّحَابِ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ { فَأَحْيَا بِهِ } أَيْ بِالْمَاءِ { الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أَيْ

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

بَعْدَ يُبُوسَتِهَا وَجُدُوبَتِهَا { وَبَثَّ فِيهَا } أَيْ فَرَّقَ فِيهَا { مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ }
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الرِّيحِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَكُلُّ رِيحٍ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا أَلِفٌ وَلَا لَامٌ اخْتَلَفُوا فِي جَمْعِهَا وَتَوْحِيدِهَا إِلَّا فِي الذَّارِيَاتِ "الرِّيحَ الْعَقِيمَ"( 41-الذَّارِيَاتِ ) اتَّفَقُوا عَلَى تَوْحِيدِهَا وَفِي الْحَرْفِ الْأَوَّلِ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ "الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ"( 46-الرُّومِ ) اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِهَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ سَائِرَهَا عَلَى الْجَمْعِ، وَالْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا، وَالرِّيحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَتَصْرِيفُهَا أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ إِلَى الْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ وَالْقَبُولِ وَالدَّبُّورِ وَالنَّكْبَاءِ (1) .
وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا أَنَّهَا تَارَةً تَكُونُ لَيِّنًا وَتَارَةً تَكُونُ عَاصِفًا وَتَارَةً تَكُونُ حَارَّةً وَتَارَةً تَكُونُ بَارِدَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْظَمُ جُنُودِ اللَّهِ الرِّيحُ وَالْمَاءُ وَسُمِّيَتِ الرِّيحُ رِيحًا لِأَنَّهَا تُرِيحُ النُّفُوسَ قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي: مَا هَبَّتْ رِيحٌ إِلَّا لِشِفَاءِ سَقِيمٍ أَوْ لِسَقَمِ صَحِيحٍ وَالْبِشَارَةُ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الرِّيَاحِ فِي الصَّبَا وَالشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ أَمَّا الدَّبُّورُ فَهِي الرِّيحُ الْعَقِيمُ لَا بِشَارَةَ فِيهَا وَقِيلَ الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ لِلرَّحْمَةِ وَأَرْبَعَةٌ لِلْعَذَابِ. فَأَمَّا الَّتِي لِلرَّحْمَةِ الْمُبَشِّرَاتُ وَالنَّاشِرَاتُ وَالذَّارِيَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَأَمَّا الَّتِي لِلْعَذَابِ فَالْعَقِيمُ وَالصَّرْصَرُ فِي الْبَرِّ وَالْعَاصِفُ وَالْقَاصِفُ فِي الْبَحْرِ { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } أَيِ الْغَيْمِ الْمُذَلَّلِ سُمِّيَ سَحَابًا لِأَنَّهُ يَنْسَحِبُ أَيْ يَسِيرُ فِي سُرْعَةٍ كَأَنَّهُ يَسْحَبُ أَيْ يَجُرُّ { بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فَيَعْلَمُونَ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَالِقًا وَصَانِعًا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ثَلَاثَةٌ لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ تَجِيءُ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ وَالسَّحَابُ.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } أَيْ أَصْنَامًا يَعْبُدُونَهَا { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أَيْ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُحِبُّونَ الْأَصْنَامَ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوهَا مَعَ اللَّهِ فَسَوَّوْا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَوْثَانِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أَيْ أَثْبَتُ وَأَدُومُ عَلَى حُبِّهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَ عَلَى اللَّهِ مَا سِوَاهُ وَالْمُشْرِكُونَ إِذَا اتَّخَذُوا صَنَمًا ثُمَّ رَأَوْا أَحْسَنَ مِنْهُ طَرَحُوا الْأَوَّلَ وَاخْتَارُوا الثَّانِيَ قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْكَافِرَ يُعْرِضُ عَنْ مَعْبُودِهِ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ وَيُقْبِلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فَقَالَ: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }( 65-الْعَنْكَبُوتِ ) وَالْمُؤْمِنُ لَا يُعْرِضُ عَنِ اللَّهِ فِي السَّرَّاءِ
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 3 / 275-276، الدر المنثور: 1 / 396-397.

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ (1) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ أَحْرَقَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى رُؤْيَةِ الْأَصْنَامِ (2) أَنْ يَدْخُلُوا جَهَنَّمَ مَعَ أَصْنَامِهِمْ فَلَا يَدْخُلُونَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ: "إِنْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِي فَادْخُلُوا جَهَنَّمَ" فَيَقْتَحِمُونَ فِيهَا فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ أَحَبُّوهُ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ الْمَعْبُودُ بِالْمَحَبَّةِ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَتَمُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"( 54-الْمَائِدَةِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَلَوْ تَرَى بِالتَّاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَجَوَابُ لَوْ هَاهُنَا مَحْذُوفٌ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعِتْ بِهِ"( الرَّعْدِ-31 ) يَعْنِي لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ مَعْنَاهُ وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي شِدَّةِ الْعَذَابِ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، قِيلَ: مَعْنَاهُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: أَيُّهَا الظَّالِمُ لَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَوْ أَشْرَكُوا فِي شِدَّةِ الْعِقَابِ لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَعْنَاهُ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ أَيْ لَوْ رَأَوْا شِدَّةَ عَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَعَرَفُوا مَضَرَّةَ الْكُفْرِ وَأَنَّ مَا اتَّخَذُوا مِنَ الْأَصْنَامِ لَا يَنْفَعُهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ يَرَوْنَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا { الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أَيْ بِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا مَعْنَاهُ لَرَأَوْا وَأَيْقَنُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ إِنَّ الْقُوَّةَ وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْكَلَامُ تَامٌّ عِنْدَ قَوْلِهِ { إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } مَعَ إِضْمَارِ الْجَوَابِ
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) }
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ } هَذَا فِي يوم القيامة 23/أ حِينَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْقَادَةَ وَالْأَتْبَاعَ فَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هم الشياطين يتبرأون مِنَ الْإِنْسِ { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ } أَيْ عَنْهُمُ { الْأَسْبَابُ } أَيِ الصِّلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَرَابَاتِ وَالصَّدَاقَاتِ وَصَارَتْ مُخَالَّتُهُمْ عَدَاوَةً، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْأَرْحَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ"( 101-الْمُؤْمِنُونَ ) وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانُوا
__________
(1) انظر: الوسيط للواحدي: 1 / 236.
(2) في هامش (أ): لأن من الكفار من يعبد النار إلى آخر العمر، ثم يحرق نفسه فداء للصنم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا"( 23-الْفُرْقَانِ ).
وَأَصْلُ السَّبَبِ مَا يُوصَلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ ذَرِيعَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ مَوَدَّةٍ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْحَبْلِ سَبَبٌ وَلِلطَّرِيقِ سَبَبٌ
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } يَعْنِي الْأَتْبَاعَ { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أَيْ رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } أَيْ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ { كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } الْيَوْمَ { كَذَلِكَ } أَيْ كَمَا أَرَاهُمُ الْعَذَابَ كَذَلِكَ { يُرِيهِمُ اللَّهُ } وقيل كتبرئ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يُرِيهِمُ اللَّهُ { أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ } نَدَامَاتٍ { عَلَيْهِمْ } جَمْعُ حَسْرَةٍ قِيلَ يُرِيهِمُ اللَّهُ مَا ارْتَكَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ فَيَتَحَسَّرُونَ لِمَ عَمِلُوا، وَقِيلَ يُرِيهِمْ مَا تَرَكُوا مِنَ الْحَسَنَاتِ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَضْيِيعِهَا وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ رَجَاءَ أَنْ تُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا عُذِّبُوا عَلَى مَا كَانُوا يَرْجُونَ ثَوَابَهُ تَحَسَّرُوا وَنَدِمُوا. قَالَ السُّدِّيُّ: تُرْفَعُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَإِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ فَيُقَالُ لَهُمْ تِلْكَ مَسَاكِنُكُمْ لَوْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ حِينَ يندمون (1) ويتحسرون {وَمَاهُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ فِيمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ طَيِّبًا، قِيلَ: مَا يُسْتَطَابُ وَيُسْتَلَذُّ، وَالْمُسْلِمُ يَسْتَطِيبُ الْحَلَالَ وَيَعَافُ الْحَرَامَ، وَقِيلَ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ آثَارُهُ وَزَلَّاتُهُ، وَقِيلَ هِيَ النُّذُرُ فِي الْمَعَاصِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمُحَقَّرَاتُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: طُرُقُهُ { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ وَقِيلَ مُظْهِرُ الْعَدَاوَةِ، وَقَدْ أَظْهَرَ عَدَاوَتَهُ بِإِبَائِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ وَغُرُورِهِ إِيَّاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَأَبَانَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا ثُمَّ ذَكَرَ عَدَاوَتَهُ
فَقَالَ: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ } أَيْ بِالْإِثْمِ وَأَصْلُ السُّوءِ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَ يَسُوءُ سوأ وَمَسَاءَةً أَيْ أَحْزَنَهُ، وَسَوَّأْتُهُ فَسَاءَ أَيْ حَزَّنْتُهُ فَحَزِنَ { وَالْفَحْشَاءِ } الْمَعَاصِي وَمَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. رَوَى بَاذَانُ عَنِ ابْنِ
__________
(1) انظر الطبري 3 / 296.

عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَحْشَاءُ مِنَ الْمَعَاصِي مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَالسُّوءُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَا حَدَّ فِيهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الزِّنَا وَقِيلَ هِيَ الْبُخْلُ { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } تَحْرِيمُ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } قِيلَ هَذِهِ قِصَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي لَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَيْ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَهُمْ كَانُوا خَيْرًا وَأَعْلَمَ مِنَّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1) ، وَقِيلَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ عَائِدَةٌ إِلَى قَوْلِهِ "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا"( 165-الْبَقَرَةِ ) { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أَيْ مَا وَجَدْنَا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا } عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ عَائِدَةٌ إِلَى النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا } { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ } قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بَل نَّتَّبِعُ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي النُّونِ. وَكَذَلِكَ يُدْغِمُ لَامَ هَلْ وَبَلْ فِي التَّاءِ وَالثَّاءِ وَالزَّايِ وَالسِّينِ وَالصَّادِ وَالطَّاءِ وَالظَّاءِ وَوَافَقَ حَمْزَةُ فِي التَّاءِ وَالثَّاءِ وَالسِّينِ { مَا أَلْفَيْنَا } مَا وَجَدْنَا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا } التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ.
قَالَ تَعَالَى: { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أَيْ كَيْفَ يَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وَآبَاؤُهُمْ { لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } وَالْوَاوُ فِي "أَوَلَوْ" وَاوُ الْعَطْفِ، وَيُقَالُ لَهَا وَاوُ التَّعَجُّبِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّوْبِيخِ وَالْمَعْنَى أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، لَفْظُهُ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ. أَيْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ أَمْرَ الدُّنْيَا { وَلَا يَهْتَدُونَ } ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كفروا كمثل الذين يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ } وَالنَّعِيقُ وَالنَّعْقُ صَوْتُ الرَّاعِي بِالْغَنَمِ مَعْنَاهُ مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الْكُفَّارِ فِي وَعْظِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَثَلِ الرَّاعِي الَّذِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ، وَقِيلَ مَثَلُ وَاعِظِ الْكُفَّارِ وَدَاعِيهِمْ مَعَهُمْ كَمَثَلِ الرَّاعِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ وَهِيَ لَا تَسْمَعُ { إِلَّا دُعَاءً } صَوْتًا { وَنِدَاءً } فَأَضَافَ الْمَثَلَ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ"( 82-يُوسُفَ ) مَعْنَاهُ كَمَا أَنَّ الْبَهَائِمَ تَسْمَعُ صَوْتَ الرَّاعِي وَلَا تَفْهَمُ وَلَا تَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهَا، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ
__________
(1) انظر تفسير الطبري 3 / 305.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

بِوَعْظِكَ إِنَّمَا يَسْمَعُ صَوْتَكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ كَمَثَلِ الْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا الصَّوْتَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لِلْمَنْعُوقِ بِهِ وَالْكَلَامُ خَارِجٌ عَنِ النَّاعِقِ وَهُوَ فَاشٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَقْبَلُونَ الْكَلَامَ لِإِيضَاحِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، يَقُولُونَ فُلَانٌ يَخَافُكَ كَخَوْفِ الْأَسَدِ، أَيْ كَخَوْفِهِ مِنَ الْأَسَدِ. وَقَالَ تَعَالَى "مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ"( 76-الْقَصَصِ ) وَإِنَّمَا الْعُصْبَةُ تَنُوءُ بِالْمَفَاتِيحِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَاءِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ وَلَا تَعْقِلُ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ فَلَا يُنْتَفَعُ مِنْ نَعِيقِهِ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ فِي غِنَاءٍ مِنَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُعَاءِ الْآلِهَةِ وَعِبَادَتِهَا إِلَّا الْعَنَاءُ وَالْبَلَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى "إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ"( 14-فَاطِرٍ ).
وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَاءِ الْأَوْثَانِ كَمَثَلِ الَّذِي يَصِيحُ فِي جَوْفِ الْجِبَالِ فَيَسْمَعُ صَوْتًا يُقَالُ لَهُ: الصَّدَى لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ مِنْهُ النَّاعِقُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً { صُمٌّ } تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ: كَأَنَّهُ أَصَمُّ { بُكْمٌ } عَنِ الْخَيْرِ لَا يَقُولُونَهُ { عُمْيٌ } عَنِ الْهُدَى لَا يُبْصِرُونَهُ { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ } حَلَالَاتِ { مَا رَزَقْنَاكُمْ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا"( 51-الْمُؤْمِنُونَ ) وَقَالَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (1)
__________
(1) أخرجه مسلم: في الزكاة - باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب برقم (1015) 2 / 703. والمصنف في شرح السنة: 8 / 7-8.

{ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } عَلَى نِعَمِهِ { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ثُمَّ بَيَّنَ المحرمات فقال: 23/ب
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَيْتَةَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ يُشَدِّدُونَ الْبَعْضَ. وَالْمَيْتَةُ كُلُّ مَا لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ مِمَّا يُذْبَحُ { والدم } أراد به الدم الجاري يدل عليه قوله تعالى "أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا"( 145-الْأَنْعَامِ ) وَاسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنَ الْمَيْتَةِ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ وَمِنَ الدَّمِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ فَأَحَلَّهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، الْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ، أَحْسَبُهُ قَالَ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ" (1) { وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ } أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاللَّحْمِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُهُ { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أَيْ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالطَّوَاغِيتِ، وَأَصْلُ الْإِهْلَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ. وَكَانُوا إِذَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِذِكْرِهَا فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ ذَابِحٍ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ مُهِلٌّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } قَالَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ. { فَمَنِ اضْطُرَّ } بِكَسْرِ النُّونِ وَأَخَوَاتِهِ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَوَافَقَ أَبُو عَمْرٍو إِلَّا فِي اللَّامِ وَالْوَاوِ مِثْلُ "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ"( 110-الْإِسْرَاءِ ) وَيَعْقُوبُ إِلَّا فِي الْوَاوِ، وَوَافَقَ ابْنُ عَامِرٍ فِي التَّنْوِينِ، وَالْبَاقُونَ كُلُّهُمْ بِالضَّمِّ، فَمَنْ كَسَرَ قَالَ: لِأَنَّ الْجَزْمَ يُحَرَّكُ إِلَى الْكَسْرِ، وَمَنْ ضَمَّ فَلِضَمَّةِ أَوَّلِ الْفِعْلِ نَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَمَعْنَاهُ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَيْ أُحْوِجَ وَأُلْجِئَ إِلَيْهِ { غَيْرَ } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَإِذَا رَأَيْتَ { غَيْرَ } يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا { لَا } فَهِيَ حَالٌ، وَإِذَا صَلَحَ فِي مَوْضِعِهَا { إِلَّا } فَهِيَ اسْتِثْنَاءٌ { بَاغٍ وَلَا عَادٍ } أَصْلُ الْبَغْيِ قَصْدُ الْفَسَادِ، يُقَالُ بَغَى الْجُرْحُ يَبْغِي بَغْيًا إِذَا تَرَامَى إِلَى الْفَسَادِ، وَأَصْلُ الْعُدْوَانِ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ يُقَالُ عَدَا عَلَيْهِ عَدْوًا وَعُدْوَانًا إِذَا ظَلَمَ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } فَقَالَ بَعْضُهُمْ { غَيْرَ بَاغٍ } أَيْ: خَارِجٍ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلَا عَادٍ: مُعْتَدٍ عَاصٍ بِسَفَرِهِ، بِأَنْ خَرَجَ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ لِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهَا وَلَا أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ الْمُسَافِرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ إِبَاحَتَهُ لَهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى فَسَادِهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ رَاجِعَانِ
__________
(1) رواه ابن ماجه: في الأطعمة - باب الكبد والطحال برقم (3314) 2 / 1102 من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف (التقريب - ميزان الاعتدال)، والإمام أحمد في المسند 2 / 97 عن ابن عمر، والشافعي في المسند: 2 / 173 واللفظ له. والبيهقي: 1 / 254 موقوفا ثم قال: هذا إسناد صحيح. والدارقطني: 4 / 272، وعزاه الزيلعي في نصب الراية: 4 / 202 للشافعي وعبد بن حميد وابن حبان في الضعفاء وابن عدي، وقال: له طريق آخر. والحديث أخرجه البغوي أيضا في شرح السنة: 11 / 244. والحديث والله أعلم موقوف على ابن عمر، وهو في حكم المرفوع انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم الحديث (1118).

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

إِلَى الْأَكْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِهِ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ { غَيْرَ بَاغٍ } لَا تَأْكُلُهُ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ { وَلَا عَادٍ } أَيْ لَا يَعْدُو لِشِبَعِهِ. وَقِيلَ { غَيْرَ بَاغٍ } أَيْ غَيْرَ طَالِبِهَا وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا { وَلَا عَادٍ } أَيْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ مَا حُدَّ لَهُ فَمَا يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا قُوتًا مِقْدَارَ مَا يَمْسِكُ رَمَقَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ { غَيْرَ بَاغٍ } أَيْ مُسْتَحِلٍّ لَهَا { وَلَا عَادٍ } أَيْ مُتَزَوِّدٍ مِنْهَا. وَقِيلَ { غَيْرَ بَاغٍ } أَيْ غَيْرَ مُجَاوِزٍ لِلْقَدْرِ الَّذِي أُحِلَّ لَهُ { وَلَا عَادٍ } أَيْ لَا يُقَصِّرُ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ فَيَدَعُهُ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ دَخْلَ النَّارَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مِقْدَارُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَشْبَعَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { غَيْرَ بَاغٍ } مُفَارِقٍ لِلْجَمَاعَةِ { وَلَا عَادٍ } مُبْتَدِعٍ مُخَالِفٍ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلْمُبْتَدِعِ فِي تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } أَيْ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهَا { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِمَنْ أَكَلَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ { رَحِيمٌ } حَيْثُ رَخَّصَ لِلْعِبَادِ فِي ذَلِكَ.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } "نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ كَانُوا يُصِيبُونَ مِنْ سَفَلَتِهِمُ الْهَدَايَا وَالْمَآكِلَ وَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِمْ خَافُوا ذَهَابَ مَأْكَلِهِمْ وَزَوَالَ رِيَاسَتِهِمْ، فَعَمَدُوا إِلَى صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَيَّرُوهَا ثُمَّ أَخْرَجُوهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَتِ السَّفَلَةُ إِلَى النَّعْتِ الْمُغَيَّرِ وَجَدُوهُ مُخَالِفًا لِصِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَّبِعُوهُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } (2) يَعْنِي صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتَهُ { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أَيْ بِالْمَكْتُومِ { ثَمَنًا قَلِيلًا } أَيْ عِوَضًا يَسِيرًا يَعْنِي الْمَآكِلَ الَّتِي يُصِيبُونَهَا مِنْ سَفَلَتِهِمْ { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } يَعْنِي إِلَّا مَا يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ وَهُوَ الرِّشْوَةُ وَالْحَرَامُ وَثَمَنُ الدِّينِ، فَلَمَّا كَانَ يُفْضِي ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَكَأَنَّهُمْ أَكَلُوا النَّارَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا فِي بُطُونِهِمْ { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِالرَّحْمَةِ وَبِمَا يَسُرُّهُمْ إِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ بِالتَّوْبِيخِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِمْ غَضْبَانَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ
__________
(1) انظر أحكام القرآن للجصاص: 1 / 156-166، أحكام القرآن لابن العربي: 1 / 55-57.
(2) أخرجه الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1 / 409.

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَضْبَانَ { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أَيْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } قَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: هو ما: اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ مَا الَّذِي صَبَّرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَأَيُّ شَيْءٍ يُصَبِّرُهُمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ وَلَكِنْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إِلَى النَّارِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ أَيْ مَا أَدْوَمَهُمْ عَلَيْهِ
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يَعْنِي ذَلِكَ الْعَذَابَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَأَنْكَرُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَحَلُّهُ نَصْبٌ مَعْنَاهُ فِعْلُنَا ذَلِكَ بِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ أَيْ فِعْلُهُمُ الَّذِي يَفْعَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ"( 7-الْبَقَرَةِ ) { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ } فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ { لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أَيْ فِي خِلَافٍ وَضَلَالٍ بَعِيدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ: لَيْسَ الْبِرَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا، فَمَنْ رَفَعَهَا جَعَلَ { الْبِرَّ } اسْمَ لَيْسَ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: أَنْ تَوَلَّوْا، تَقْدِيرُهُ: لَيْسَ الْبِرُّ تَوْلِيَتَكُمْ وُجُوهَكُمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى "مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا"( 25-الْجَاثِيَةِ ). وَالْبِرُّ كُلُّ عَمَلِ خَيْرٍ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَنَى بِهَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَزَعَمَ كُلُّ

فَرِيقٍ مِنْهُمْ: أَنَّ الْبِرَّ فِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِرَّ غَيْرُ دِينِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَلَكِنَّهُ مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصَلَّى الصَّلَاةَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وجبت له 24/أ الْجَنَّةُ.
وَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ وَحُدِّدَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: { لَيْسَ الْبِرَّ } (1) أَيْ كُلُّهُ أَنْ تُصَلُّوا قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَا تَعْمَلُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ { وَلَكِنَّ الْبِرَّ } مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ. { وَلَكِنَّ الْبِرَّ } قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَلَكِنْ خَفِيفَةَ النُّونِ الْبِرُّ رُفِعَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ الْبِرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } جَعَلَ مَنْ وهي اسم خبر لِلْبِرِّ وَهُوَ فِعْلٌ وَلَا يُقَالُ الْبِرُّ زِيدَ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهِ قِيلَ لَمَّا وَقَعَ مَنْ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ جَعَلَهُ خَبَرًا لِلْبِرِّ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الِاسْمَ خَبَرًا لِلْفِعْلِ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِيِّ
فَجَعَلَ نَبَاتَ اللِّحَى خَبَرًا لِلْفَتَى وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَّلِ عَنِ الثَّانِي كَقَوْلِهِمُ الْجُودُ حَاتِمٌ أَيِ الْجُودُ جُودُ حَاتِمٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ"( 163-آلِ عِمْرَانَ ) أَيْ ذُو دَرَجَاتٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى"( 132-طه ) أَيْ لِلْمُتَّقِي وَالْمُرَادُ مِنَ الْبِرِّ هَاهُنَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى.
{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ } { وَالْكِتَابِ } يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ { وَالنَّبِيِّينَ } أَجْمَعَ { وَآتَى الْمَالَ } أَعْطَى الْمَالَ { عَلَى حُبِّهِ } اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَالِ أَيْ أَعْطَى الْمَالَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ الْمَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ أَنَا أَبُو زُرْعَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ
__________
(1) انظر: الطبري: 3 / 337-338، الواحدي: 1 / 250.

كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ" (1) .
وَقِيلَ هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى.
{ ذَوِي الْقُرْبَى } أَهْلَ الْقَرَابَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنِ الرَّبَابِ عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ يَمُرُّ عَلَيْكَ وَيُقَالُ لِلْمُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ لِمُلَازَمَتِهِ الطَّرِيقَ، وَقِيلَ: هُوَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" (3) { وَالسَّائِلِينَ } يَعْنِي الطَّالِبِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي بُجَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بُجَيْدٍ عَنْ جَدَّتِهِ وَهِيَ أُمُّ بُجَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" وَفِي رِوَايَةٍ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ لَمْ تَجِدِي شَيْئًا إِلَّا ظِلْفًا مُحْرَقًا فَادْفَعِيهِ إِلَيْهِ" (4) قَوْلُهُ تَعَالَى { وَفِي الرِّقَابِ } يَعْنِي الْمُكَاتِبِينَ قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ،
__________
(1) رواه البخاري: في الزكاة - باب: فضل صدقة الصحيح الشحيح: 3 / 284-585 وفي الوصايا. ومسلم: في الزكاة - باب: بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح برقم (1032) 2 / 716. والمصنف في شرح السنة: 6 / 172-173.
(2) رواه الترمذي: في الزكاة - باب ما جاء في الصدقة على القرابة: 3 / 324 وقال: حديث حسن. والنسائي: في الزكاة: باب: الصدقة على الأقارب: 5 / 92. وابن ماجه: في الزكاة: باب: فضل الصدقة: (1844) 1 / 591. والدارمي: في الزكاة باب: الصدقة على القرابة: 1 / 397. وأحمد: 4 / 18،214 عن سلمان بن عامر. وابن حبان: في موارد الظمآن ص 112 والحاكم: 1 / 407 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (انظر مجمع الزوائد: 3 / 117). والمصنف في شرح السنة: 6 / 192. (ورجاله ثقات إلا الرباب أم الرائح قال الحافظ في التقريب مقبولة وفي الميزان (الرباب بنت صليع عن عمها سلمان بن عامر لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها).
(3) رواه البخاري: في الرقاق - باب: حفظ اللسان: 11 / 308 وفي النكاح والأدب. مسلم: في الإيمان: باب الحث على إكرام الجار برقم (47) 1 / 68. والمصنف في شرح السنة: 14 / 212.
(4) رواه أبو داود: في الزكاة - باب: حق السائل: 2 / 251. والترمذي: في الزكاة - باب: ما جاء في حق السائل: 3 / 332 وقال حسن صحيح. والنسائي في الزكاة باب تفسير المسكين 5 / 86. وصححه الحاكم 1 / 417 ووافقه الذهبي. وابن حبان 6 / 383 بلفظ ردوا السائل ولو بظلف. وأحمد: 6 / 382 بسند قوي. والمصنف في شرح السنة 6 / 175.

وَقِيلَ: عِتْقُ النَّسَمَةِ وَفَكُّ الرَّقَبَةِ وَقِيلَ: فِدَاءُ الْأُسَارَى { وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } وَأَعْطَى الزَّكَاةَ { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ } فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ { إِذَا عَاهَدُوا } يَعْنِي إِذَا وَعَدُوا أَنْجَزُوا، وَإِذَا حَلَفُوا وَنَذَرُوا أَوْفَوْا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْفَوْا، وَإِذَا قَالُوا صَدَقُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا أَدَّوْا، وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ قَوْلِهِ وَالْمُوفُونَ قِيلَ هُوَ عَطْفٌ عَلَى خَبَرٍ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: وَهُمُ الْمُوفُونَ كَأَنَّهُ عَدَّ أَصْنَافًا ثُمَّ قَالَ: هُمْ وَالْمُوفُونَ كَذَا، وَقِيلَ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ يَعْنِي وَهُمُ الْمُوفُونَ ثُمَّ قَالَ { وَالصَّابِرِينَ } وَفِي نَصْبِهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَصْبُهَا عَلَى تَطَاوُلِ الْكَلَامِ وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ تُغَيِّرَ الْإِعْرَابِ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ وَالنَّسَقُ وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ"( سورةالمائدة-162 ) { وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى } ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَعْنِي الصَّابِرِينَ، وَقِيلَ نَصْبُهُ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ ذَوِي الْقُرْبَى أَيْ وَآتَى الصَّابِرِينَ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ الْكَلَامَ عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ [كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِفْرَادَ الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ فَلَا يُتْبِعُونَهُ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَيَنْصِبُونَهُ فَالْمَدْحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ"] (1) ( 162-النِّسَاءِ ).
وَالذَّمُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا"( 61-الْأَحْزَابِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى { فِي الْبَأْسَاءِ } أَيِ الشِّدَّةِ وَالْفَقْرِ { وَالضَّرَّاءِ } الْمَرَضِ وَالزَّمَانَةِ { وَحِينَ الْبَأْسِ } أَيِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ.
أَخْبَرَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو ذَرٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّالِحَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حِبَّانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ
__________
(1) ساقط من "أ".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ (1) . يَعْنِي إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } فِي إِيمَانِهِمْ { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَيَّيْنِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا قَتْلَى وَجِرَاحَاتٍ لَمْ يَأْخُذْهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَتْ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَقَالُوا جَمِيعًا كَانَ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ طُولٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ وَكَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْرِ مُهُورٍ فَأَقْسَمُوا: لَنَقْتُلَنَّ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرَّ مِنْهُمْ وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ، وَجَعَلُوا جِرَاحَاتِهِمْ ضِعْفَيْ جِرَاحَاتِ أُولَئِكَ فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فَرَضُوا وَأَسْلَمُوا (2) .
قَوْلُهُ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ { فِي الْقَتْلَى } وَالْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالدِّيَاتِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَصَّ الْأَثَرَ إِذَا اتَّبَعَهُ فَالْمَفْعُولُ بِهِ يَتْبَعُ مَا فُعِلَ بِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُمَاثَلَةَ فَقَالَ: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَجُمْلَةُ الْحُكْمِ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا تَكَافَأَ الدَّمَانِ مِنَ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْعَبِيدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْأَحْرَارِ مِنَ الْمُعَاهِدِينَ أَوِ الْعَبِيدِ مِنْهُمْ قُتِلَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمُ الذَّكَرُ إِذَا قُتِلَ بِالذَّكَرِ وَبِالْأُنْثَى، وَتُقْتَلُ الْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا وَالِدٌ بِوَلَدٍ، وَلَا مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ، وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ سوى القرآن؟ 24/ب فَقَالَ لَا
__________
(1) رواه مسلم في الجهاد والسير باب: في غزوة حنين عن البراء 3 / 1776. والحاكم في المستدرك: 2 / 143 بلفظ: كنا إذا حمي.
(2) انظر: الطبري: 3 / 359، الوسيط للواحدي: 1 / 254.

وَالَّذِي خَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ عَبَدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" (1) . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُقَادُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ" (2) . وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَإِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يُوجِبِ الْقِصَاصَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ، وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ. "رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخِطَّابِ قَتَلَ سَبْعَةً أَوْ خَمْسَةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً، وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ جَمِيعًا" (3) وَيَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ كَمَا يَجْرِي فِي النُّفُوسِ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الصَّحِيحَ السَّوِيَّ يُقْتَلُ بِالْمَرِيضِ الزَّمِنِ، وَفِي الْأَطْرَافِ لَوْ قَطَعَ يَدًا شَلَّاءَ أَوْ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ لَا تُقْطَعُ بِهَا الصَّحِيحَةُ الْكَامِلَةُ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ لَا يَجْرِي إِلَّا بَيْنَ حُرَّيْنِ أَوْ حُرَّتَيْنِ وَلَا يَجْرِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا بَيْنَ الْعَبِيدِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ الطَّرَفُ فِي الْقِصَاصِ مَقِيسٌ عَلَى النَّفْسِ (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ السَّهْمِيَّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْوَ، فَأَبَوْا فَعَرَضُوا الْأَرْشَ (5) فَأَبَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَوْا إِلَّا الْقِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ" فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (6) .
__________
(1) البخاري: في الديات - باب: لا يقتل مسلم بالكافر: 12 / 260. والمصنف في شرح السنة: 10 / 171.
(2) أخرجه أبو داود: في الحدود - باب: في إقامة الحد في المسجد: 6 / 292 عن حكيم بن حزام بلفظ: (نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار وأن تقام فيه الحدود) قال المنذري: في إسناده محمد بن عبد الله بن المهاجر الشعيثي النصري الدمشقي: وثقة غير واحد وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. الترمذي: في الديات - باب: ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا 4 / 656 وقال: هذا حديث لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعا إلا من حديث إسماعيل بن مسلم المكي وإسماعيل تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وابن ماجه في الديات: 2 / 888، والدارمي في الديات: 2 / 190، وصححه الحاكم: 4 / 369، والبيهقي في السنن: 8 / 39.
(3) رواه البخاري: في الديات - باب: إذا أصاب قوم من رجل 12 / 226-227. والمصنف في شرح السنة: 10 / 182-183.
(4) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1 / 171 وما بعدها.
(5) الأرش: دية الجراحة.
(6) رواه البخاري في الصلح - باب الصلح في الدية 5 / 306. والمصنف في شرح السنة: 10 / 166.

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

قَوْلُهُ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أَيْ تُرِكَ لَهُ وَصُفِحَ عَنْهُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَرَضِيَ بِالدِّيَةِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: الْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَقَوْلُهُ { مِنْ أَخِيهِ } أَيْ مِنْ دَمِ أَخِيهِ وَأَرَادَ بِالْأَخِ الْمَقْتُولَ وَالْكِنَايَتَانِ فِي قَوْلِهِ { لَهُ } { مِنْ أَخِيهِ } تَرْجِعَانِ إِلَى مَنْ وَهُوَ الْقَاتِلُ، وَقَوْلُهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ إِذَا عَفَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ لِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الدَّمِ قَدْ بَطَلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ عَلَى الطَّالِبِ لِلدِّيَةِ أَنْ يَتَّبِعَ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا يُطَالِبُ بِأَكْثَرِ مِنْ حَقِّهِ.
{ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أَيْ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَدَاءُ الدِّيَةِ بِالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ، أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِحْسَانِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى الدِّيَةِ فَلَهُ أَخْذُ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْقَاتِلُ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا دِيَةَ لَهُ إِلَّا بِرِضَاءِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَحُجَّةُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ كَانَ حَتْمًا فِي التَّوْرَاةِ عَلَى الْيَهُودِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُ الدِّيَةِ، وَكَانَ فِي شَرْعِ النَّصَارَى الدِّيَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْقِصَاصُ، فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ عَنِ الدِّيَةِ تَخْفِيفًا مِنْهُ وَرَحْمَةً.
{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } فَقَتَلَ الْجَانِيَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَقَبُولِ الدِّيَةِ { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أَنْ يُقْتَلَ قِصَاصًا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الْعَفْوَ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَصِيرُ كَافِرًا بِالْقَتْلِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَهُ بَعْدَ الْقَتْلِ بِخِطَابِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } وَأَرَادَ بِهِ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ، فَلَمْ يَقْطَعِ الْأُخُوَّةَ بَيْنَهُمَا بِالْقَتْلِ.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أَيْ بَقَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاصِدَ لِلْقَتْلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ
__________
(1) رواه البخاري: مطولا عن أبي هريرة في الديات - باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين 12 / 205، والشافعي في المسند: 2 / 99.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

يُقْتَلُ يَمْتَنِعُ عَنِ الْقَتْلِ، فَيَكُونُ فِيهِ بَقَاؤُهُ وَبَقَاءُ مَنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ، وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ: "الْقَتْلُ قَلَّلَ الْقَتْلَ" وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ: "الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ" وَقِيلَ مَعْنَى الْحَيَاةِ سَلَامَتُهُ مِنْ قِصَاصِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا اقتص منه حيي فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ { يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أَيْ تَنْتَهُونَ عَنِ الْقَتْلِ مَخَافَةَ الْقَوَدِ.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أَيْ جَاءَهُ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَآثَارُهُ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } أَيْ مَالًا نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ"( 272-الْبَقَرَةِ ) { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فَرِيضَةً فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَهُ مَالٌ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ (1) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (2) فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ وُجُوبَهَا صَارَ مَنْسُوخًا فِي حَقِّ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَرِثُونَ وَبَقِيَ وُجُوبُهَا فِي حَقِّ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابن عباس وطاووس وَقَتَادَةَ والحسن قال طاووس: مَنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ سَمَّاهُمْ وَتَرَكَ ذَوِي قَرَابَتِهِ مُحْتَاجِينَ انْتُزِعَتْ مِنْهُمْ وَرُدَّتْ إِلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ صَارَ مَنْسُوخًا فِي حَقِّ الْكَافَّةِ وَهِيَ حَتْمِيَّةٌ فِي حَقِّ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ.
__________
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي القاسم بن سلامة ص (16)، أحكام القرآن للجصاص: 1 / 203-207.
(2) حديث صحيح رواه أبو داود: في الوصايا: باب - في الوصية للوارث: 4 / 150. والترمذي: في الوصايا - باب: ما جاء لا وصية لوارث: 6 / 309. وقال حديث حسن صحيح. والنسائي: في الوصايا: 6 / 247. وابن ماجه: في الوصايا: 2712و2714-2 / 905-906. وأحمد: 4 / 186-5 / 267 عن عمرو بن خارجة وجزء من حديث عن أبي أمامة الباهلي. والمصنف في شرح السنة: 5 / 288-289. وفي الباب عن ابن عباس، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن جابر، وعن زيد بن أرقم وعن علي، وعن خارجة بن عمرو الجمحي وعن البراء. انظر نصب الراية 4 / 403،405.

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا طَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بِالْمَعْرُوفِ } يُرِيدُ يُوصِي بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا يُوصِي لِلْغَنِيِّ وَيَدَعُ الْفَقِيرَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْوَصِيَّةُ لِلْأَخَلِّ فَالْأَخَلِّ أَيِ الْأَحْوَجِ فَالْأَحْوَجِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ (2) أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ جَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ لَا قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟ قَالَ لَا قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس بأيديهم" 25/أ (3) .
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ، قَالَتْ كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. قَالَتْ كَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ، قَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَاتْرُكْ لِعِيَالِكَ (4)
وَقَالَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمْسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبْعِ وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبْعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ فَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَتْرُكْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُوصِي بِالسُّدْسِ أَوِ الْخُمْسِ أَوِ الرُّبْعِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إِنَّمَا كَانُوا يُوصُونَ بِالْخُمْسِ أَوِ الرُّبْعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { حَقًّا } نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَقِيلَ عَلَى الْمَفْعُولِ أَيْ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ حَقًّا { عَلَى الْمُتَّقِينَ }
__________
(1) رواه البخاري: في الوصايا - باب: الوصايا وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصية الرجل مكتوبة عنده 5 / 355. ومسلم: في الوصية: برقم (1627) 3 / 1249. والمصنف في شرح السنة: 5 / 277.
(2) في أ: ابن أبي عوزة والتصحيح من شرح السنة.
(3) رواه البخاري: في الوصايا - باب أن يترك ورثته أغنياء خير ... 5 / 363. ومسلم: في الوصية - باب الوصية بالثلث برقم (1628) 3 / 1250. والمصنف في شرح السنة: 5 / 282-283.
(4) أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي (الدر المنثور للسيوطي 1 / 423).

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

الْمُؤْمِنِينَ
{ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ بَدَّلَهُ } أَيْ غَيَّرَ الْوَصِيَّةَ فِي الْأَوْصِيَاءِ أَوِ الْأَوْلِيَاءِ أَوِ الشُّهُودِ { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } أي بعد ما سَمِعَ قَوْلَ الْمُوصِي، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ مَعَ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ مُؤَنَّثَةً، وَقِيلَ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِيصَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ"( 275-الْبَقَرَةِ ) رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الْوَعْظِ { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } وَالْمَيِّتُ بَرِيءٌ مِنْهُ { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لِمَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي { عَلِيمٌ } بِتَبْدِيلِ الْمُبَدِّلِ، أَوْ سَمِيعٌ لِوَصِيَّتِهِ عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِ.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

{ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { فَمَنْ خَافَ } أَيْ عَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ"( 229-الْبَقَرَةِ ) أَيْ عَلِمْتُمْ { مِنْ مُوصٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا"( 13-الشُّورَى ) "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ"( 8-الْعَنْكَبُوتِ ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ"( 11-النِّسَاءِ ) "مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ"( 12-النِّسَاءِ ) { جَنَفًا } أَيْ جَوْرًا وَعُدُولًا عَنِ الْحَقِّ، وَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ { أَوْ إِثْمًا } أَيْ ظُلْمًا، قَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ: الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَضَرَ مَرِيضًا وَهُوَ يُوصِي فَرَآهُ يَمِيلُ إِمَّا بِتَقْصِيرٍ أَوْ إِسْرَافٍ، أَوْ وَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْجَنَفِ فَيَنْظُرُ لِلْمُوصَى وَلِلْوَرَثَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ الْمَيِّتُ فِي وَصِيَّتِهِ أَوْ جَارَ مُتَعَمِّدًا فَلَا حَرَجَ عَلَى وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ أَوْ وَالِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصْلِحَ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ، وَيَرُدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَيْ: فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقال طاووس: جَنَفَةٌ تَوْلِيجَةٌ، وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لِبَنِي بَنِيهِ يُرِيدُ ابْنَهُ وَلِوَلَدِ ابْنَتِهِ وَلِزَوْجِ ابْنَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ ابْنَتَهُ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ يُمْضُونَ وَصِيَّةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى "فمن بدله بعد ما سَمِعَهُ" الْآيَةَ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ الْمَالَ كُلَّهُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ، ثُمَّ نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا" الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَعَجَزَ الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَجَزَ الْمُوصِي أَنْ يُصْلِحَ فَانْتَزَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَفَرَضَ الْفَرَائِضَ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ أَوِ الْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ

يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ" ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } إِلَى قَوْلِهِ { غَيْرَ مُضَارٍّ } (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } أَيْ فُرِضَ وَأُوجِبَ، وَالصَّوْمُ وَالصِّيَامُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ يُقَالُ: صَامَ النَّهَارُ إِذَا اعْتَدَلَ وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا بَلَغَتْ كَبِدَ السَّمَاءِ وَقَفَتْ وَأَمْسَكَتْ عَنِ السَّيْرِ سُوَيْعَةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا"( 26-مَرْيَمَ ) أَيْ صَمْتًا لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ الصَّوْمُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مَعَ النِّيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّشْبِيهِ (2) فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ صَوْمُ مَنْ قَبَلْنَا مِنَ الْعَتَمَةِ إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ كَمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَرَادَ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّصَارَى كَمَا فُرِضَ عَلَيْنَا، فَرُبَّمَا كَانَ يَقَعُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي مَعَايِشِهِمْ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ عُلَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا صِيَامَهُمْ فِي فَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَجَعَلُوهُ فِي الرَّبِيعِ وَزَادُوا فِيهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَفَّارَةً لِمَا صَنَعُوا فَصَارَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ إِنَّ مَلِكَهُمُ اشْتَكَى فَمَهُ فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إِنْ هُوَ بَرِئَ مِنْ وَجَعِهِ أَنْ يَزِيدَ فِي صَوْمِهِمْ. أُسْبُوعًا فَبَرِئَ فَزَادَ فِيهِ أُسْبُوعًا ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَوَلِيَهُمْ مَلِكٌ آخَرُ فَقَالَ: أَتِمُّوهُ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصَابَهُمْ مَوْتَانِ، فَقَالُوا زِيدُوا فِي صِيَامِكُمْ فَزَادُوا عَشْرًا قَبْلُ وَعَشْرًا بَعْدُ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا لَأَفْطَرْتُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَيُقَالُ مِنْ شَعْبَانَ وَيُقَالُ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى فُرِضَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ فَصَامُوا قَبْلَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبَعْدَهَا يَوْمًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْقَرْنُ الْآخَرُ يَسْتَنُّ بِسُنَّةِ الْقَرْنِ الَّذِي قَبْلَهُ حَتَّى صَارُوا إِلَى خَمْسِينَ يَوْمًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
__________
(1) أخرجه أبو داود في الوصايا، باب: الحيف في الوصية: 2 / 902. والترمذي: في الوصايا - باب ما جاء في الوصية بالثلث: 6 / 304 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. والمصنف في شرح السنة: 5 / 286. وأخرجه ابن ماجه في الوصايا، باب: الحيف في الوصية: 2 / 902. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 14 / 163 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وقال: إسناده صحيح، ورواية ابن ماجه كرواية المسند.
(2) انظر: تفسير الطبري: 3 / 410 وما بعدها.

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يَعْنِي بِالصَّوْمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَصْلَةٌ إِلَى التَّقْوَى لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَكَسْرِ الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: لَعَلَّكُمْ تَحْذَرُونَ عَنِ الشَّهَوَاتِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ
{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) }
{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } قِيلَ: كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَاجِبًا، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَصَامُوا كَذَلِكَ مِنَ الرَّبِيعِ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَمْرُ الْقِبْلَةِ وَالصَّوْمِ، وَيُقَالُ: نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَأَيَّامٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الجمعة لسبع عشر لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَازِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ" (1) .
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } شَهْرُ رَمَضَانَ وَهِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَنَصَبَ أَيَّامًا عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَقِيلَ: عَلَى التَّفْسِيرِ، وَقِيلَ: عَلَى هُوَ خَبَرُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ { مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، وَالْعَدَدُ وَالْعِدَّةُ وَاحِدٌ { مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ غَيْرِ أَيَّامِ مَرَضِهِ وَسَفَرِهِ، وَأُخَرُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لَكِنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ فَلِذَلِكَ نُصِبَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَحُكْمِهَا فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الصيام - باب: صوم يوم عاشوراء 4 / 102. وفي الحج. وفي فضائل الصحابة، وفي التفسير. ومسلم: في الصيام - باب صوم يوم عاشوراء برقم (1125) 2 / 792. والمصنف في شرح السنة: 6 / 212.

مُخَيَّرِينَ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا وَيَفْدُوا، خَيَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَمْ يَتَعَوَّدُوا الصَّوْمَ، ثُمَّ نَسَخَ التَّخْيِيرَ وَنَزَلَتِ الْعَزِيمَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ خَاصَّةٌ فِي حق الشيخ 25/ب الْكَبِيرِ الَّذِي يُطِيقُ الصَّوْمَ، وَلَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ رُخِّصَ لَهُ فِي أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرَضِ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لِلصَّوْمِ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وَثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ لِلَّذِينِ لَا يُطِيقُونَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَمَعْنَاهُ: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ فِي حَالِ الشَّبَابِ فَعَجَزُوا عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ فَعَلَيْهِمُ الْفِدْيَةُ بَدَلَ الصَّوْمِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِهَا، أَيْ يُكَلَّفُونَ الصَّوْمَ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ الصَّوْمَ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ فَهُمْ يُكَلَّفُونَ الصَّوْمَ وَلَا يُطِيقُونَهُ، فَلَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا وَيُطْعِمُوا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَعَلَ الْآيَةَ مُحْكَمَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ مُضَافًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ: "كَفَّارَةٌ طَعَامُ" أَضَافَ الْفِدْيَةَ إِلَى الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَحَبَّ الْحَصِيدِ"( 9-ق ) وَقَوْلِهِمْ مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَرَبِيعُ الْأَوَّلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: فِدْيَةٌ وَكَفَّارَةٌ مُنَوَّنَةً، طَعَامُ رُفِعَ وَقَرَأَ مَسَاكِينَ بِالْجَمْعِ هُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَالْآخَرُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَمَنْ جَمَعَ نَصَبَ النُّونَ وَمَنْ وَحَّدَ خَفَضَ النُّونَ وَنَوَّنَهَا، وَالْفِدْيَةُ: الْجَزَاءُ، وَيَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنَ الطَّعَامِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، هَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ صَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَا كَانَ الْمُفْطِرُ يَتَقَوَّتُهُ يَوْمَهُ الَّذِي أَفْطَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ عَشَاءَهُ وَسَحُورَهُ.
{ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } أَيْ زَادَ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فَأَطْعَمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينَيْنِ فَأَكْثَرَ، قَالَهُ مجاهد وعطاء وطاووس، وَقِيلَ: مَنْ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَأَعْطَى صَاعًا وَعَلَيْهِ مُدٌّ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ذَهَبَ إِلَى النَّسْخِ قَالَ مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْفِدْيَةِ، وَقِيلَ: هَذَا فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ لَوْ تَكَلَّفَ الصَّوْمَ وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِمُؤْمِنٍ مُكَلَّفٍ فِي إِفْطَارِ رَمَضَانَ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: أَحَدُهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَالثَّانِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَالثَّالِثُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الْقَضَاءِ (1) أَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فَالْحَامِلُ
__________
(1) استعمل الكفارة هنا بمعنى الفدية كما جاء في السياق، وإلا فإن الكفارة تجب على من أفسد صومه في رمضان بجماع أثم به بسبب الصوم.

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا فَإِنَّهُمَا تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ وَعَلَيْهِمَا مَعَ الْقَضَاءِ الْفِدْيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ قَوْمٌ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ فَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ.
وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الْقَضَاءِ فَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ (1)
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) }
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَيَّامَ الصِّيَامِ فَقَالَ: { شَهْرُ رَمَضَانَ } رَفْعُهُ عَلَى مَعْنَى هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَسُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ، وَأَمَّا رَمَضَانُ فَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ كَمَا يُقَالُ شَهْرُ اللَّهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّهْرِ سُمِّيَ بِهِ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ وَهُمْ كَانُوا يَصُومُونَهُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فَكَانَتْ تُرَمَّضُ فِيهِ الْحِجَارَةُ فِي الْحَرَارَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } سُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ وَالْآيَ وَالْحُرُوفَ وَجُمِعَ فِيهِ الْقَصَصُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ.
وَأَصْلُ الْقَرْءِ الْجَمْعُ وَقَدْ يُحْذَفُ الْهَمْزُ مِنْهُ فَيُقَالُ، قَرَيْتَ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْقُرَانَ بِفَتْحِ الرَّاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ الشَّافِعِيُّ وَيَقُولُ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنَّهُ اسْمٌ لِهَذَا الْكِتَابِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَرُوِيَ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"( 1-الْقَدْرِ )، وَقَوْلِهِ: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ"( 3-الدُّخَانِ ) وَقَدْ نَزَلَ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ"( 106-الْإِسْرَاءِ ) فَقَالَ أُنْزِلُ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجُومًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ( 75-الْوَاقِعَةِ ) قَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أَمَا كَانَ يَنْزِلُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ جَبْرَائِيلُ كَانَ يُعَارِضُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ مَا نَزَلَ إِلَيْهِ فَيُحْكِمُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ، وَيُنْسِيهِ مَا يَشَاءُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَيُرْوَى فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 2 / 288-289، أحكام القرآن للجصاص: 1 / 218-228.

شَهْرِ رَمَضَانَ لِسِتٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هُدًى لِلنَّاسِ } مِنَ الضَّلَالَةِ، وَهُدًى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْقَطْعِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَعْرِفَةٌ وَهُدًى نَكِرَةٌ { وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى } أَيْ دَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ { وَالْفُرْقَانِ } أَيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أَيْ فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي الْحَضَرِ فَأَدْرَكَهُ الشَّهْرُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ الشَّهْرُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَبِهِ قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أَيِ الشَّهْرَ كُلَّهُ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَلْيَصُمْهُ أَيِ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ مِنْكُمُ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَلْيَصُمْ مَا شَهِدَ مِنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَانُوا يأخذون بالأحدث فلأحدث مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَبَاحَ الْفِطْرَ لِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَأَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي النَّاسِخِ ثُبُوتَهُ فِي الْمَنْسُوخِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرَضِ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ، فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرَضِ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ. قَالَ طَرِيفُ بْنُ تَمَّامٍ الْعُطَارِدِيُّ دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ يَأْكُلُ فَقَالَ: إِنَّهُ وُجِعَتْ أُصْبُعِي هَذِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي تَجُوزُ مَعَهُ الصلاة قاعدأ 26/أ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَرَضٌ يُخَافُ مَعَهُ مِنَ الصَّوْمِ زِيَادَةُ عِلَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إِذَا أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَفْطَرَ وَإِنْ لَمْ يُجْهِدْهُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ. وَأَمَّا السَّفَرُ، فَالْفِطْرُ فِيهِ مُبَاحٌ وَالصَّوْمُ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ وَمَنْ صَامَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ" (3) وَذَلِكَ عِنْدَ الْآخَرِينَ فِي حَقِّ مَنْ
__________
(1) رواه أحمد 4 / 107 عن واثلة بن الأسقع. انظر مسند الشاميين من مسند الإمام أحمد تحقيق على محمد جماز 1 / 201 وفيه عمران بن داور - بفتح الواو وبعدها راء - أبو العوام، القطان البصري صدوق يهم، ورمي برأي الخوارج من السابعة (التقريب). رواه الطبراني والبيهقي في الشعب (انظر فيض القدير: 3 / 57)، وذكره ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 286 من رواية أبي يعلى عن جابر، وقال: هذا مقلوب، وإنما هو عن واثلة، فيحرر.
(2) رواه البخاري: في الصوم - باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر 4 / 180 وفي الجهاد والمغازي. ومسلم في الصيام - باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر برقم (1113) 2 / 784. والمصنف في شرح السنة: 6 / 310.
(3) سيأتي ص 189.

يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا آدَمُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا هَذَا صَائِمٌ، فَقَالَ "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ" (1) .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ مَا حَدَّثَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو أُمَيَّةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنَا الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ" (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَنَسٍ وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرُهُمَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ أَصْبَحَ مُقِيمًا صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، أَمَّا الْمُسَافِرُ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِالِاتِّفَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ وَصَامَ بَعْضُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَالَ "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
__________
(1) رواه البخاري: في الصوم - باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن ظلل عليه واشتد الحر 4 / 183. ومسلم: في الصيام - باب جواز الصوم والفطر في رمضان للمسافر برقم (1115) 2 / 786. والمصنف في شرح السنة: 6 / 308.
(2) رواه البخاري: في الصوم - باب لم يعب أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم بعضا 4 / 186. ومسلم: في الصيام - باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر برقم (1116 ، 1118) 2 / 786-787. والمصنف في شرح السنة: 6 / 306-307.
(3) رواه مسلم: في الصيام - باب جواز الصيام والفطر في شهر رمضان للمسافر برقم (1114) 2 / 785. والمصنف في شرح السنة: 6 / 311، والشافعي في المسند: 1 / 268-269.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ { وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْعُسْرَ وَالْيُسْرَ وَنَحْوَهُمَا بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالسُّكُونِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا خُيِّرَ رَجُلٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَاخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا إِلَّا كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ"( 3-الْمَائِدَةِ ) وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَاوُ النَّسَقِ، وَاللَّامُ لَامُ كَيْ، تَقْدِيرُهُ: وَيُرِيدُ لِكَيْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، أَيْ لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ أَيَّامِ الشَّهْرِ بِقَضَاءِ مَا أَفْطَرْتُمْ فِي مَرَضِكُمْ وَسَفَرِكُمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أَيْ عَدَدَ أَيَّامِ الشَّهْرِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ أَخْبَرَنَا حَاجِبُ ابن أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا" (2) .
{ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ } وَلِتُعَظِّمُوا اللَّهَ { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أَرْشَدَكُمْ إِلَى مَا رَضِيَ بِهِ مِنْ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَخَصَّكُمْ بِهِ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تَكْبِيرَاتُ لَيْلَةِ الْفِطْرِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، وَشَبَّهَ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ حَاجًّا فَذِكْرُهُ التَّلْبِيَةُ.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَثَوَابِ الصَّائِمِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِيِّ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سِرَاجٍ الطَّحَّانُ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سَهْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا
__________
(1) رواه البخاري: في الصوم - باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأيتم الهلال فصوموا ... 4 / 119. وفي الطلاق. ومسلم: في الصيام - باب جوب صوم رمضان لرؤية الهلال برقم (1080) 2 / 759. والمصنف في شرح السنة: 6 / 228، والشافعي في المسند: 1 / 272.
(2) المصنف في شرح السنة: 6 / 237 وهو ملفق من حديثين عند البخاري ومسلم (انظر: البخاري في الصوم) 4 / 119، 127، 128 ومسلم: في الصيام: برقم (1082، 1188) 2 / 762، 765.

دَخَلَ رَمَضَانُ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَوْفَانِيُّ الْهَرَوِيُّ بِهَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ التُّجِيبِيُّ الْمِصْرِيُّ بِهَا الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّحَّاسِ (3) قِيلَ لَهُ أَخْبَرَكُمْ أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْعَنَزِيُّ الْبَصْرِيُّ بِمَكَّةَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ؟ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (4) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ خَلَفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نِزَارٍ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسَدٍ الصَّفَّارُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْعَنَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسٍ السَّعْدِيُّ أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بن المسيب 26/ب عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ
__________
(1) رواه البخاري: في الصوم: باب هل يقال رمضان ... 4 / 112 وفي بدء الخلق. ومسلم: في الصيام: باب فضل شهر رمضان برقم (1079) 2 / 758. والمصنف في شرح السنة: 6 / 215.
(2) رواه الترمذي: في الصوم - باب ما جاء في فضل شهر رمضان 3 / 359-360. وابن ماجه: في الصيام - باب ما جاء في فضل شهر رمضان برقم (1642) 1 / 526. والحاكم: 1 / 421 ورجاله ثقات إلا أن أبا بكر بن عياش لما كبر ساء حفظه وله شاهد بتقوى به من حديث عطاء بن السائب عن عرفجه. وأحمد: 4 / 311-312 و5 / 411 عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه سلم. والنسائي: 4 / 130 وابن خزيمة: 3 / 188. والمصنف في شرح السنة: 6 / 215.
(3) يوجد بعض الأخطاء في السند تم تصحيحها من شرح السنة.
(4) رواه البخاري: في التراويح - باب: من صام رمضان إيمانا واحتسابا 4 / 115 وفي التعبير. مسلم: في صلاة المسافرين - باب: الترغيب في قيام رمضان برقم (760) 1 / 524. والمصنف في شرح السنة: 6 / 217.

مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ -وَفِي رِوَايَةٍ قَدْ أَطَلَّكُمْ بِالطَّاءِ -أَطَلَّ: أَشْرَفَ، شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهَرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، شَهْرٌ جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ -أَيِ الْمُسَاهَمَةِ -وَشَهْرٌ يُزَادُ فِيهِ الرِّزْقُ وَمَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ" قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا نُفَطِّرُ بِهِ الصَّائِمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ لِمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا، أَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ" (1) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بُكَيْرٍ الْكُوفِيُّ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ الصَّائِمُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيْهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ" (3) .
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة: 3 / 191-192 في الصوم - باب فضل شهر رمضان وقال فيه: إن صح الخبر، وفيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف (التقريب - ميزان الاعتدال) وذكره والمنذري في الترغيب: 2 / 94-95 وقال: رواه ابن خزيمة في صحيحه .. ورواه من طريقه البيهقي، ورواه أبو الشيخ وابن حبان في الثواب باختصار عنهما.
(2) رواه البخاري: في الصوم - باب: فضل الصوم: 4 / 103 وفي اللباس وفي التوحيد. ومسلم: في الصيام - باب: فضل الصوم برقم (1151) 2 / 806. والمصنف في شرح السنة: 6 / 221.
(3) رواه البخاري: في الصوم - باب: الريان للصائمين 4 / 111. ومسلم: في الصيام - باب فضل الصوم برقم (1152) 2 / 808. والمصنف في شرح السنة: 6 / 219-220.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ فَيُشَفَّعَانِ" (1) .
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ يَهُودُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ يَسْمَعُ رَبُّنَا دُعَاءَنَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَإِنَّ غِلَظَ كُلِّ سَمَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سَأَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أَمْ بِعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ" (2) وَفِيهِ إِضْمَارٌ كَأَنَّهُ قَالَ: فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ مِنْهُمْ بِالْعِلْمِ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ كَمَا قَالَ "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"( 16-ق ).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ" (3) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 1 / 554. قال المنذري رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم. انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 84.
(2) لم نقف على الراوية الأولى ولكن في سندها الكلبي وهو كذاب (التقريب). وأما الرواية الثانية فقد أخرجها ابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جده قال: جاء رجل ... فأنزل الله (وإذا سألك عبادي عني) الدر المنثور: 1 / 469.
(3) رواه البخاري، في التوحيد - باب: وكان الله سميعا بصيرا 13 / 372. ومسلم: في الذكر والدعاء والتوبة - باب استحباب خفض الصوت بالذكر برقم (4704) 4 / 2076 .

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ غَيْرُ قَالُونَ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِثْبَاتِ الْيَاءَاتِ الْمَحْذُوفَةِ مِنَ الْخَطِّ وَحَذْفِهَا فِي التِّلَاوَةِ، وَيُثْبِتُ يَعْقُوبُ جَمِيعَهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِ مَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي الْخَطِّ وَصْلًا وَوَقْفًا { فَلْيَسْتَجِيبُوا } قِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، أَيْ: فَلْيُجِيبُوا لِي بِالطَّاعَةِ، وَالْإِجَابَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ وَإِعْطَاءُ مَا سُئِلَ فَالْإِجَابَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعَطَاءُ، وَمِنَ الْعَبْدِ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أَيْ لِيَسْتَدْعُوا مِنِّي الْإِجَابَةَ، وَحَقِيقَتُهُ فَلْيُطِيعُونِي { وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } لِكَيْ يَهْتَدُوا، فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَقَدْ يُدْعَى كَثِيرًا فَلَا يُجِيبُ؟ قُلْنَا: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ قِيلَ معنى الدعاء ههنا الطَّاعَةُ، وَمَعْنَى الْإِجَابَةِ الثَّوَابُ، وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ خَاصٌّ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُمَا عَامًّا، تَقْدِيرُهُمَا: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } إِنْ شِئْتُ، كَمَا قَالَ: "فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ"( 41-الْأَنْعَامِ ) أَوْ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِنْ وَافَقَ الْقَضَاءَ أَوْ: أُجِيبُهُ إِنْ كَانَتِ الْإِجَابَةُ خَيْرًا لَهُ أَوْ أُجِيبُهُ إِنْ لَمْ يَسْأَلْ مُحَالًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَانِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ زَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلْ" قَالُوا وَمَا الِاسْتِعْجَالُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّ، فَلَا أَرَاكَ تَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَدَعُ

الدُّعَاءَ" (1) .
وَقِيلَ هُوَ عَامٌّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ { أُجِيبُ } أَيْ أَسْمَعُ، وَيُقَالُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَكْثَرُ مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَأَمَّا إِعْطَاءُ الْمُنْيَةِ فَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِيهَا، وَقَدْ يُجِيبُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، وَالْوَالِدُ وَلَدَهُ ثُمَّ لَا يُعْطِيهِ سُؤْلَهُ فَالْإِجَابَةُ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ عِنْدَ حُصُولِ الدَّعْوَةِ، وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُخَيِّبُ دُعَاءَهُ، فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ مَا سَأَلَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ لَهُ ادَّخَرَ لَهُ الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ بِهِ سُوءًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ، اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ" (2) وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجِيبُ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي الوقت ويؤخر 27/أ إِعْطَاءَ مُرَادِهِ لِيَدْعُوَهُ فَيَسْمَعَ صَوْتَهُ وَيُعَجِّلُ إِعْطَاءَ مَنْ لَا يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ يَبْغَضُ صَوْتَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ لِلدُّعَاءِ آدَابًا وَشَرَائِطَ وَهِيَ أَسْبَابُ الْإِجَابَةِ فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِجَابَةِ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْإِجَابَةَ.
__________
(1) رواه البخاري مختصرا في الدعوات - باب: يستجاب للعبد ما لم يستعجل: 11 / 140. ومسلم: في الذكر والدعاء والتوبة - باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل برقم (2735) 4 / 2095 واللفظ له. والمصنف في شرح السنة: 5 / 190.
(2) رواه الترمذي: في الدعوات - باب: في انتظار الفرج عن جابر: 10 / 24 وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه. والحاكم: 1 / 493 وصححه ووافقه الذهبي. وأحمد: 3 / 18 عن أبي سعيد الخدري. والمصنف في شرح السنة: 5 / 186.

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } فَالرَّفَثُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْإِفْضَاءِ وَالدُّخُولِ وَالرَّفَثُ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّفَثُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرِّجَالُ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ إِذَا أَفْطَرَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ أَوْ يَرْقُدَ قَبْلَهَا، فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْ رَقَدَ قَبْلَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالنِّسَاءُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقَعَ أَهْلَهُ بَعْدَمَا صَلَّى الْعِشَاءَ فَلَمَّا اغْتَسَلَ أَخَذَ يَبْكِي وَيَلُومُ نَفْسَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَاطِئَةِ، إِنِّي رَجَعْتُ إلى أهلي بعد ما صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ فَوَجَدْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْتُ أَهْلِي فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا كُنْتَ جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ" فَقَامَ رِجَالٌ وَاعْتَرَفُوا بِمِثْلِهِ فَنَزَلَ فِي عُمْرَ وَأَصْحَابِهِ: (1) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير: 3 / 498، وقال الشيخ شاكر: هذا الحديث بالإسناد مسلسل بالضعفاء، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن جرير وابن أبي حاتم: 1 / 476.

{ أُحِلَّ لَكُمْ } أَيْ أُبِيحُ لَكُمْ { لَيْلَةَ الصِّيَامِ } أَيْ فِي لَيْلَةِ الصِّيَامِ { الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } أَيْ سَكَنٌ لَكُمْ { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } أَيْ سَكَنٌ لَهُنَّ دَلِيلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا"( 189-الْأَعْرَافِ ) وَقِيلَ لَا يَسْكُنُ شَيْءٌ كَسُكُونِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِبَاسًا لِتَجَرُّدِهِمَا عِنْدَ النَّوْمِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَالثَّوْبِ الَّذِي يَلْبَسُهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُنَّ فِرَاشٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ وَقِيلَ: اللِّبَاسُ اسْمٌ لِمَا يُوَارِي الشَّيْءَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتْرًا لِصَاحِبِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أَحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينِهِ" (1) { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ تَخُونُونَهَا وَتَظْلِمُونَهَا بِالْمُجَامَعَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، قَالَ الْبَرَاءُ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ" { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } تَجَاوَزَ عَنْكُمْ { وَعَفَا عَنْكُمْ } مَحَا ذُنُوبَكُمْ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } جَامِعُوهُنَّ حَلَالًا سُمِّيَتِ الْمُجَامَعَةُ مُبَاشَرَةً لِتَلَاصُقِ بَشْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ، { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أَيْ فَاطْلُبُوا مَا قَضَى اللَّهُ لَكُمْ، وَقِيلَ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَعْنِي الْوَلَدَ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ابْتَغُوا الْوَلَدَ إِنْ لَمْ تَلِدْ هَذِهِ فَهَذِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ: وَابْتَغُوا الرُّخْصَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ اسْمُهُ أَبُو صِرْمَةَ بْنُ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَنَسِ بْنِ أَبِي صِرْمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَلَّ نَهَارَهُ يَعْمَلُ فِي أَرْضٍ لَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا أَمْسَى رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ بِتَمْرٍ، وَقَالَ لِأَهْلِهِ قَدِّمِي الطَّعَامَ فَأَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُطْعِمَهُ شَيْئًا سَخِينًا فَأَخَذَتْ تَعْمَلُ لَهُ سَخِينَةً، وَكَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَنَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ طَعَامِهِ إِذْ هِيَ بِهِ قَدْ نَامَ وَكَانَ قَدْ أَعْيَا وَكَلَّ فَأَيْقَظَتْهُ فَكَرِهَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا مَجْهُودًا، فَلَمْ يَنْتَصِفِ النَّهَارُ حَتَّى
__________
(1) ورد بلفظ (من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي). رواه ابن الجوزي في العلل عن أنس رفعه وقال: لا يصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه آفات منها يزيد الرقاشي قال أحمد: لا يكتب عنه شيء كان منكر الحديث. وقال النسائي: منكر الحديث وفيه هياج، قال أحمد: متروك الحديث. وقال يحيى ليس بشيء وفيه مالك بن سليمان وقد قدحوا فيه. العلل المتناهية 2 / 122. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس 2 / 313. ورواه الحاكم بلفظ (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني. قال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي 2 / 161.

غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يَا أبا قيس مالك أَمْسَيْتَ طَلِيحًا (1) فذكر له ماله فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } (2) يَعْنِي فِي لَيَالِي الصَّوْمِ { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } يَعْنِي بَيَاضَ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، سُمِّيَا خَيْطَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْدُو فِي الِابْتِدَاءِ مُمْتَدًّا كَالْخَيْطِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ ثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } وَلَمْ يَنْزِلْ قَوْلُهُ: { مِنَ الْفَجْرِ } فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ { مِنَ الْفَجْرِ } فَعَلِمُوا إِنَّمَا يَعْنِي بِهِمَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلَتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَإِلَى اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَغَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ "إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنْ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" قَالَ "كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ" (4) وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَجْرَ فَجْرَانِ كَاذِبٌ وَصَادِقٌ، فَالْكَاذِبُ يَطْلُعُ أَوَّلًا مُسْتَطِيلًا كَذَنَبِ السِّرْحَانِ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ فَبِطُلُوعِهِ لَا يَخْرُجُ اللَّيْلُ وَلَا يَحْرُمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، ثُمَّ يَغِيبُ فَيَطْلُعُ بَعْدَهُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ مُسْتَطِيرًا يَنْتَشِرُ سَرِيعًا فِي الْأُفُقِ، فَبِطُلُوعِهِ يَدْخُلُ النَّهَارُ وَيَحْرُمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ.
__________
(1) الطليح: الساقط من الإعياء والجهد والهزال.
(2) رواه البخاري: في الصوم باب قول الله جل ذكره: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم) 4 / 129.
(3) رواه البخاري: في الصوم - باب: قول الله تعالى: وكلوا واشربوا حتى ... 4 / 132.
(4) رواه البخاري: في الأذان - باب: أذان الأعمى إذا كان له من يخيره 2 / 99. ومسلم: في الصيام - باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر برقم (1092) 2 / 768 والمصنف في شرح السنة: 2 / 298.

أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ وَيُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَا أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ سَوَادَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فَالصَّائِمُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَيَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِذَا غَرَبَتْ حَصَلَ الْفِطْرُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعَتْ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [وَقَدْ نَوَيْتُمْ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِنَّ فِي الْمَسَاجِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ] (3) وَالْعُكُوفُ هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاعْتِكَافُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الله النعيمي 27/ب أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ" (4) وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لِلرَّجُلِ مِنْهُمُ الْحَاجَةُ إِلَى أَهْلِهِ خَرَجَ إِلَيْهَا فَجَامَعَهَا ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى يَفْرَغُوا مِنَ اعْتِكَافِهِمْ، فَالْجِمَاعُ حَرَامٌ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ وَيَفْسُدُ
__________
(1) رواه مسلم: في الصيام - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر برقم (1094) 2 / 770. والمصنف في شرح السنة: 2 / 300.
(2) رواه البخاري: في الصوم عن عبد الله بن أبي أوفى - باب: الصوم في السفر والإفطار 4 / 179. رواه مسلم: في الصيام عن عبد الله بن أبي أوفى - باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار برقم (1101) 2 / 772. والمصنف في شرح السنة: 6 / 259.
(3) ساقط من (ب) ومن المطبوع.
(4) رواه البخاري: في الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأواخر 4 / 271. ورواه مسلم: في الاعتكاف - باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان برقم (1172) 2 / 831. والمصنف في شرح السنة: 6 / 391.

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

بِهِ الِاعْتِكَافُ، أَمَّا مَا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْمُبَاشَرَاتِ كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِالشَّهْوَةِ، فَمَكْرُوهٌ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الِاعْتِكَافُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْحَجُّ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَبْطُلُ بِهَا اعْتِكَافُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ إِنْ أَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا كَالصَّوْمِ، وَأَمَّا اللَّمْسُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّلَذُّذُ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الِاعْتِكَافُ لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ أَدْنَى إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } يَعْنِي تِلْكَ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ، حُدُودُ أَيْ: مَا مَنَعَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ السُّدِّيُّ: شُرُوطُ اللَّهِ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: فَرَائِضُ اللَّهِ، وَأَصْلُ الْحَدِّ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْبَوَّابِ حَدَّادٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ، وَحُدُودُ اللَّهِ مَا مَنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا { فَلَا تَقْرَبُوهَا } فَلَا تَأْتُوهَا { كَذَلِكَ } هَكَذَا { يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } لِكَيْ يَتَّقُوهَا فَيَنْجُوا مِنَ الْعَذَابِ.
{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي امْرِئِ الْقَيْسِ بن عايش لكندي ادَّعَى عَلَيْهِ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدَانَ الْحَضْرَمِيُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضًا أَنَّهُ غَلَبَنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ( أَلَكَ بَيِّنَةٌ )؟ قَالَ لَا قَالَ:( فَلَكَ يَمِينُهُ ) فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ) (2) فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } أَيْ لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ أَيْ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ، وَأَصْلُ الْبَاطِلِ الشَّيْءُ الذَّاهِبُ، وَالْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ أَنْوَاعٌ، قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ وَالنَّهْبِ وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ اللَّهْوِ كَالْقِمَارِ وَأُجْرَةِ الْمُغَنِّي وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ { وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } أَيْ تُلْقُوا أُمُورَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَرْبَابِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، وَأَصْلُ الْإِدْلَاءِ: إِرْسَالُ الدَّلْوِ وَإِلْقَاؤُهُ فِي الْبِئْرِ يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ، وَدَلَاهُ يَدْلُوهُ إِذَا أَخْرَجَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ أَثِمَ بِمَنْعِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا
__________
(1) رواه البخاري: في الاعتكاف - باب المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل 4 / 286. والمصنف في شرح السنة: 6 / 400.
(2) رواه مسلم: في الإيمان - باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (139) 1 / 123.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

تُخَاصِمْ وَأَنْتَ ظَالِمٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنْ يُقِيمَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَقَوْلُهُ { وَتُدْلُوا } فِي مَحَلِّ الْجَزْمِ بِتَكْرِيرِ حَرْفِ النَّهْيِ، مَعْنَاهُ وَلَا تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْكُلُوا بِالْبَاطِلِ وَتَنْسِبُونَهُ إِلَى الْحُكَّامِ، قَالَ قَتَادَةُ: لَا تُدْلِ بِمَالِ أَخِيكَ إِلَى الْحَاكِمِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ ظَالِمٌ فَإِنَّ قَضَاءَهُ لَا يُحِلُّ حَرَامًا، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ: إِنِّي لَأَقْضِي لَكَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ ظَالِمًا وَلَكِنْ لَا يَسَعُنِي إِلَّا أَنْ أَقْضِيَ بِمَا يَحْضُرُنِي مِنَ الْبَيِّنَةِ وَإِنَّ قَضَائِي لَا يُحِلُّ لَكَ حَرَامًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا } طَائِفَةً { مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ } بِالظُّلْمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَقْطَعُ بِهَا مَالَ أَخِيهِ { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ قَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَمْتَلِئَ نُورًا ثُمَّ يَعُودُ دَقِيقًا كَمَا بَدَأَ وَلَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ (2) ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } وَهِيَ جَمْعُ هِلَالٍ مِثْلُ رِدَاءٍ وَأَرْدِيَةٍ سُمِّيَ هِلَالًا لِأَنَّ النَّاسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ إِذَا صَرَخَ حِينَ يُولَدُ وَأَهَلَّ الْقَوْمُ بِالْحَجِّ إِذَا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } جَمْعُ مِيقَاتٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَوْقَاتَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ وَآجَالَ الدُّيُونِ وَعَدَدَ النِّسَاءِ وَغَيْرَهَا، فَلِذَلِكَ خَالَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ دَائِمَةٌ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }
__________
(1) رواه البخاري: في الأحكام - باب: موعظة الإمام للخصوم 13 / 157 وفي الشهادات. ورواه مسلم: في الأقضية - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة برقم (1713) 3 / 1337. والمصنف في شرح السنة: 10 / 110.
(2) أخرجه ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس انظر الدر المنثور للسيوطي 1 / 490 .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَدْخُلْ حَائِطًا وَلَا بَيْتًا وَلَا دَارًا مِنْ بَابِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ نَقَبَ نَقْبًا فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ لِيَدْخُلَ مِنْهُ وَيَخْرُجَ أَوْ يَتَّخِذَ سُلَّمًا فَيَصْعَدَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخَيْمَةِ وَالْفُسْطَاطِ وَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِرًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحُمْسِ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ [وَخُزَاعَةُ وَثَقِيفٌ وَخَثْعَمٌ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنُو مُضَرَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سُمُّوا حُمْسًا لِتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَالْحَمَاسَةُ الشِّدَّةُ وَالصَّلَابَةُ] (1) فَدَخْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْتًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَدَخْلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ عَلَى أَثَرِهِ مِنَ الْبَابِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِمَ دَخَلْتَ مِنَ الْبَابِ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ فَدَخَلْتُ عَلَى أَثَرِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنِّي أَحْمَسُ" فَقَالَ الرَّجُلُ إِنْ كُنْتَ أَحْمَسِيًّا فَإِنِّي أَحْمَسِيٌّ رَضِيتُ بِهَدْيِكَ وَسَمْتِكَ وَدِينِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ نَاسٌ مَنَ الْأَنْصَارِ إِذَا أَهَّلُوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُهِلًّا بِالْعُمْرَةِ فَتَبْدُو لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَيَرْجِعُ وَلَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ فَيَفْتَحُ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ فِي حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ فَدَخَلَ حُجْرَةً فَدَخْلَ رَجُلٌ عَلَى أَثَرِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ لِأَنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنِّي أَحْمَسُ" فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ وَأَنَا أَحْمَسُ يَقُولُ وَأَنَا عَلَى دِينِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } (3) .
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وابن عامر 28/أ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: والغيوب وَالْجُيُوبَ وَالْعُيُونَ وَشُيُوخًا بِكَسْرِ أَوَائِلِهِنَّ لِمَكَانِ الْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ عَلَى الْأَصْلِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "جِيُوبِهِنَّ" بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ "الْغِيُوبَ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } أَيِ: الْبِرُّ: بِرُّ مَنِ اتَّقَى.
{ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } فِي حَالِ الْإِحْرَامِ { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) }
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى
__________
(1) ساقط من نسخة (ب).
(2) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قيس بن جبير النهشلي انظر الدر المنثور للسيوطي 1 / 492. وانظر تفسير الطبري 3 / 556.
(3) أخرجه ابن جرير عن الزهري انظر تفسير الطبري 3 / 558.

رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا بِقَوْلِهِ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِهَا، وَقِيلَ نُسِخَ بِقَوْلِهِ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ آيَةً وَقَوْلُهُ { وَلَا تَعْتَدُوا } أي لا تبدؤهم بِالْقِتَالِ وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُقَاتِلِينَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: { وَلَا تَعْتَدُوا } أَيْ لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَالرُّهْبَانَ وَلَا مَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ الْقُهُسْتَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي تُرَابٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّرَسُوسِيُّ أَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ: "اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لَا تَغْلُوا وَلَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلِيدًا وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا" (1) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ لِلْعُمْرَةِ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُخَلُّوا لَهُ مَكَّةَ عَامَ قَابِلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَخَافُوا أَنْ لَا تَفِيَ قُرَيْشٌ بِمَا قَالُوا وَأَنْ يَصُدُّوهُمْ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَكَرِهَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْحَرَمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يَعْنِي مُحْرِمِينَ { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } يَعْنِي قُرَيْشًا { وَلَا تَعْتَدُوا } فَتَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ مُحْرِمِينَ { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
__________
(1) رواه مسلم: في الجهاد - باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ... برقم (1731) 3 / 1357. والمصنف في شرح السنة: 11 / 11.

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } قِيلَ نُسِخَتِ الْآيَةُ الْأُولَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَصْلُ الثَّقَافَةِ الْحِذْقُ وَالْبَصَرُ بِالْأُمُورِ، وَمَعْنَاهُ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ بَصُرْتُمْ مُقَاتَلَتَهُمْ وَتَمَكَّنْتُمْ مِنْ قَتْلِهِمْ { وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ

{ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يَعْنِي شِرْكُهُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: { وَلَا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ } بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِنَّ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى مَعْنَى وَلَا تَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَتَلْنَا بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ مِنَ الْقِتَالِ وَكَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَا يَحِلُّ بِدَايَتُهُمْ بِالْقِتَالِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ قَوْلُهُ { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أَيْ حَيْثُ أَدْرَكْتُمُوهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ فِي بَرَاءَةٌ فَهِيَ نَاسِخَةٌ مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ.
{ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }
{ فَإِنِ انْتَهَوْا } عَنِ الْقِتَالِ وَالْكُفْرِ { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أَيْ غَفُورٌ لِمَا سَلَفَ رَحِيمٌ بِالْعِبَادِ
{ وَقَاتِلُوهُمْ } يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أَيْ شِرْكٌ يَعْنِي قَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا فَلَا يُقْبَلُ مِنَ الْوَثَنِيِّ إِلَّا الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ { وَيَكُونَ الدِّينُ } أي الطاعة والعبادة { لله } وحده فلا يعبد شيء دونه.
قَالَ نَافِعٌ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ قَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، قَالَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا"( 9-الْحُجُرَاتِ ) قَالَ يَا ابْنَ أَخِي: لَأَنْ أُعَيَّرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا أُقَاتِلَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِالْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا"( 93-النِّسَاءِ ) قَالَ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } قَالَ قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا يَقْتُلُونَهُ أَوْ يُعَذِّبُونَهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ؟ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ { فَإِنِ انْتَهَوْا } عَنِ الْكُفْرِ وَأَسْلَمُوا { فَلَا عُدْوَانَ } فَلَا سَبِيلَ { إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى "أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ"( 28-الْقَصَصِ ) وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْعُدْوَانُ الظُّلْمُ، أَيْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَلَا نَهْبَ وَلَا أَسْرَ وَلَا قَتْلَ { إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الشِّرْكِ وَمَا يُفْعَلُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَكُونُ ظُلْمًا، وَسَمَّاهُ عُدْوَانًا عَلَى طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ وَالْمُقَابَلَةِ، كَمَا قَالَ { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا"( 40-الشُّورَى ) وَسُمِّيَ الْكَافِرُ

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

ظَالِمًا لِأَنَّهُ يَضَعُ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَصَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَامَهُ ذَلِكَ وَيَرْجِعَ الْعَامَ الْقَابِلَ فَيَقْضِيَ عُمْرَتَهُ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَهُ ذَلِكَ وَرَجَعَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَقَضَى عُمْرَتَهُ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى { الشَّهْرُ الْحَرَامُ } يَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ الَّذِي دَخَلْتُمْ فِيهِ مَكَّةَ وَقَضَيْتُمْ فِيهِ عُمْرَتَكُمْ سَنَةَ سَبْعٍ { بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } يَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ الَّذِي صُدِدْتُمْ فِيهِ عَنِ الْبَيْتِ سَنَةَ سِتٍّ { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } جَمْعُ حُرْمَةٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَهَا لِأَنَّهُ أَرَادَ حُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَحُرْمَةَ الْإِحْرَامِ، وَالْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُمَاثَلَةُ وَهُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِالْفَاعِلِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، وَقِيلَ هَذَا فِي أَمْرِ الْقِتَالِ مَعْنَاهُ: إِنْ بَدَءُوكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَاتِلُوهُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ قِصَاصٌ بِمَا فَعَلُوا فِيهِ { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } وَقَاتِلُوهُمْ { بِمِثْلِ مَا اعْتُدِيَ عَلَيْكُمْ } سُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ عَلَى ازْدِوَاجِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا"( 40-الشُّورَى ) { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } 28/ب
{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَرَادَ بِهِ الْجِهَادَ وَكُلَّ خَيْرٍ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْجِهَادِ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قِيلَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { بِأَيْدِيكُمْ } زَائِدَةٌ، يُرِيدُ: وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ، أَيْ أَنْفُسَكُمْ { إِلَى التَّهْلُكَةِ } عَبَّرَ عَنِ النَّفْسِ بِالْأَيْدِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى "بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"( 30-الشُّورَى ) أَيْ بِمَا كَسَبْتُمْ، وَقِيلَ الْبَاءُ فِي مَوْضِعِهَا، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَيِ الْهَلَاكِ، وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ كُلُّ شَيْءٍ يَصِيرُ عَاقِبَتُهُ إِلَى الْهَلَاكِ، أَيْ وَلَا تَأْخُذُوا فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَالْهَلَاكُ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَالْعَرَبُ لَا تَقُولُ لِلْإِنْسَانِ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَّا فِي الشِّرْكِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِي الْبُخْلِ وَتَرَكِ الْإِنْفَاقِ. يَقُولُ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ حُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَهْمٌ أَوْ مِشْقَصٌ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي لَا أَجِدُ شَيْئًا، وَقَالَ: السُّدِّيُّ بِهَا: أَنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَوْ عِقَالًا { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } وَلَا تَقُلْ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ، وَقَالَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ قَالَ رَجُلٌ: أُمِرْنَا بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْفَقْنَا أَمْوَالَنَا بَقِينَا فُقَرَاءَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيهَا: لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فِي حَقٍّ خِيفَةُ الْعَيْلَةِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ

بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو غَسَّانَ أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ أَخْبَرَنَا وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ عَنْ بَشَّارِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ غُضَيْفٍ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعُودُهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فِي سبيل الله فسبعمائة، وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا" (1)
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانَ رِجَالٌ يَخْرُجُونَ فِي الْبُعُوثِ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ فَإِمَّا أَنْ يَقْطَعَ بِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ كَانُوا عِيَالًا فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُنْفِقُهُ فَلَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ وَلَا قُوتٍ فَيُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَالتَّهْلُكَةُ: أَنْ يَهْلِكَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ أَوْ بِالْمَشْيِ، وَقِيلَ: أُنْزِلَتِ الْآيَةُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَعَزَّ دِينَهُ وَنَصَرَ رَسُولَهُ قُلْنَا فِيمَا بَيْنَنَا: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا أَهْلَنَا وَأَمْوَالَنَا حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ وَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فَلَوْ رَجَعْنَا إِلَى أَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا فَأَقَمْنَا فِيهَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فَالتَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكُ الْجِهَادِ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى كَانَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا بِقُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَتُوُفِّيَ هُنَاكَ وَدُفِنَ فِي أَصْلِ سُورِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ" (2) .
__________
(1) رواه الترمذي: في فضائل الجهاد - باب: ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله 5 / 254 وقال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث الركين بن ربيع. في الترمذي والنسائي عن خريم بن فاتك بدون زيادة (ومن أنفق نفقة على أهله ..). أخرجه النسائي: في الجهاد - باب: فضل النفقة في سبيل الله: 6 / 49. والمصنف في شرح السنة: 10 / 359 عن خريم وإسناده صحيح.
(2) رواه مسلم: في الإمارة - باب: ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو برقم (1910) 3 / 1517. والمصنف في شرح السنة: 10 / 375.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: الْإِلْقَاءُ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: هُوَ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ: قَدْ هَلَكْتُ لَيْسَ لِي تَوْبَةٌ فَيَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَمِكُ فِي الْمَعَاصِي، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"( 87-يُوسُفَ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَحْسِنُوا } [أَيْ أَحْسِنُوا أَعْمَالَكُمْ وَأَخْلَاقَكُمْ وَتَفَضَّلُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (1) ]
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قَرَأَ عَلْقَمَةُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ { وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَاخْتَلَفُوا فِي إِتْمَامِهِمَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يُتِمَّهُمَا بِمَنَاسِكِهِمَا وَحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وأَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ .. الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَحَلْقُ الرَّأْسِ أَوِ التَّقْصِيرُ. وَلِلْحَجِّ تَحَلُّلَانِ، وَأَسْبَابُ التَّحَلُّلِ ثَلَاثَةٌ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالْحَلْقُ، فَإِذَا وُجِدَ شَيْئَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، وَبِالثَّلَاثِ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي، وَبَعْدَ التحلل الأول تستبيح جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ إِلَّا النِّسَاءَ، وَبَعْدَ الثَّانِي يَسْتَبِيحُ الْكُلَّ، وَأَرْكَانُ الْعُمْرَةِ أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْحَلْقُ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير وطاووس: تَمَامُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ مُسْتَأْنَفَيْنِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قَالَ أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَامُ الْعُمْرَةِ أَنْ تُعْمَلَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، [فَإِنْ كَانَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ] (2) ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى حَجَّ فَهِيَ مُتْعَةٌ، وَعَلَيْهِ فِيهَا الْهَدْيُ إِنْ وَجَدَهُ، أَوِ الصِّيَامُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَتَمَامُ الْحَجِّ أَنْ يُؤْتَى بِمَنَاسِكِهِ كُلِّهَا حَتَّى لَا يَلْزَمَ عَامِلَهُ دَمٌ بِسَبَبِ قِرَانٍ وَلَا مُتْعَةٍ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِتْمَامُهَا أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ حَلَالًا وَيَنْتَهِيَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِتْمَامُهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ لَهُمَا، وَلَا تَخْرُجَ لِتِجَارَةٍ وَلَا لِحَاجَةٍ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْوَفْدُ كَثِيرٌ وَالْحَاجُّ قَلِيلٌ، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى وُجُوبِهَا وَهُوَ قَوْلُ عُمْرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ الْعُمْرَةَ لَقَرِينَةُ الْحَجِّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ" وَبِهِ قال عطاء وطاووس وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ وَبِهِ قَالَ( الشَّافِعِيُّ ) (3) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } عَلَى مَعْنَى أَتِمُّوهُمَا إِذَا دَخَلْتُمْ فِيهِمَا، أَمَّا ابْتِدَاءُ الشُّرُوعِ فِيهَا
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) ساقط من "أ".
(3) في ب: الشعبي.

فَتَطَوُّعٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُمَا بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: { لَا وَأَنْ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } (1) وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أي ابتدءوهما، فَإِذَا دَخَلْتُمْ فِيهِمَا فَأَتِمُّوهُمَا فَهُوَ أَمْرٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْإِتْمَامِ أَيْ أَقِيمُوهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ"( 187-البقرة ) أي ابتدءوه وَأَتِمُّوهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجِّ الْمَبْرُورِ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ" (2) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ تطوع، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَصُورَةُ الْإِفْرَادِ أَنْ يُفْرِدَ الْحَجَّ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ منه يعتمر 29/أ وَصُورَةُ التَّمَتُّعِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَيَحُجُّ فِي هَذَا الْعَامِ، وَصُورَةُ الْقِرَانِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَفْتَتِحَ الطَّوَافَ فَيَصِيرُ قَارِنًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعَ ثُمَّ الْقِرَانَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ
__________
(1) رواه الترمذي: في الحج - باب: ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟ 3 / 679 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي تصحيحه له نظر: فإن في سنده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ولعل تصحيح الترمذي هذه الرواية لمجيئها من طرق أخرى. رواه أحمد: 3 / 316 عن جابر بن عبد الله. ورواه البيهقي: في السنن وقال: المحفوظ عن جابر موقوف كذا رواه ابن جريج وروي عن جابر بخلاف ذلك مرفوعا من حديث ابن لهيعة وكلاهما ضعيف (انظر التلخيص الحبير: 2 / 226).
(2) رواه الترمذي في الحج - باب: ما جاء في ثواب الحج العمرة 3 / 538-539 وقال: حسن صحيح غريب. ورواه النسائي: في الحج - باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة: 5 / 115-116. ورواه ابن ماجه: في المناسك - باب: فضل الحج والعمرة: 2 / 964 برقم (2887). ورواه ابن خزيمة: في المناسك - باب: الأمر بالمتابعة بين الحج والعمرة 4 / 130. وأخرجه أحمد: 1 / 387، 3 / 446-447 عن عبد الله بن مسعود، وعن عامر بن ربيعة. والمصنف في شرح السنة: 7 / 7 عن عبد الله بن مسعود. وهو صحيح بشواهده.

فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، وَلَا نَعْرِفُ غَيْرَهُ وَلَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ (2) ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ (3) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مُلَاسٍ النُّمَيْرِيُّ أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ" (4) .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلِيَتَحَلَّلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ شَيْءٍ حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ
__________
(1) رواه البخاري: في الحج - ياب التمتع والقران والإفراد بالحج 3 / 421 واللفظ له. ورواه مسلم: في الحج - باب: بيان وجوه الإحرام برقم (1211) 2 / 870. والمصنف في شرح السنة: 7 / 63.
(2) جزء من حديث حجة النبي صلى الله عليه رواه مسلم في الحج - باب: حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (1218) 2 / 886. والمصنف في شرح السنة: 7 / 65.
(3) رواه الترمذي: في الحج باب ما جاء في إفراد الحج 2 / 552 - 553. والدارقطن 2 / 239، وفي سنده عبد الله بن نافع الصائغ ضعيف جدا، انظر سنن الدارقطني مع التعليق 2 / 38. وأخرج مسلم في صححه في الحج باب في الإفراد في الحج عن نافع عن ابن عمر قال: أهللنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجمع مفردا، وفي رواية ابن عون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل بالحج مفردا 2 / 905.
(4) رواه مسلم: في الحج - باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة برقم (1232) 2 / 905.

يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءِ حُرِمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ.
وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قد اختلف الرِّوَايَةُ فِي إِحْرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ كَلَامًا مُوجَزًا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْهُمُ الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَكُلٌّ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ أَمْرَ نُسُكِهِ وَيَصْدُرُ عَنْ تَعْلِيمِهِ، فَأُضِيفَ الْكُلُّ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَى أنه أمر به وَأَذِنَ فِيهَا وَيَجُوزُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِضَافَةُ( الشَّيْءِ ) (2) إِلَى الْآمِرِ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ لَهُ كَمَا يُقَالُ بَنَى فُلَانٌ دَارًا، وَأُرِيدَ أَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَائِهَا، وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ الْإِفْرَادَ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَدَّمَهَا عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ لِتَقَدُّمِ صُحْبَةِ جَابِرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَّنَ سِيَاقَهُ لِابْتِدَاءِ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَآخِرِهَا، وَلِفَضْلِ حِفْظِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ" إِلَى التَّمَتُّعِ، وَقَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لِأَنَّ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةَ ثُمَّ مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَإِفْرَادَ الْحَجِّ وَالْقِرَانَ، وَاسِعٌ كُلُّهُ وَقَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى الْحَجِّ إِلَّا وَقَدِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ بِالْحَجِّ (3) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مُتَعَارِضَةٌ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي [حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (4) وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (5) فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا".
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمُتْعَةِ: صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا لَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ -لَا يُنَافِي التَّمَتُّعَ لِأَنَّ
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري في الحج - باب: من ساق البدن معه 3 / 539. ومسلم: في الحج - باب: وجوب الدم على المتمتع برقم (1227) 2 / 901. والمصنف في شرح السنة: 7 / 66-68.
(2) وفي "ب" الفعل.
(3) انظر: اختلاف الحديث للشافعي، بهامش الأم: 7 / 404-409.
(4) جزء من حديث ابن عمر السابق عند الشيخين.
(5) ساقط من "أ".

خُرُوجَهُمْ كَانَ لِقَصْدِ الْحَجِّ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَى أَنْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُتْعَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الإحْصَارِ الَّذِي يُبِيحُ لِلْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَانِعٍ يَمْنَعُهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالْمَعْنَى فِي إِحْرَامِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ أَوْ ضَلَالِ رَاحِلَةٍ، يُبِيحُ لَهُ التَّحَلُّلَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَقَالُوا: لِأَنَّ الْإِحْصَارَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ حَبْسُ الْعِلَّةِ أَوِ الْمَرَضِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ يُقَالُ: مِنْهُ أُحْصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسِ عَدُوٍّ أَوْ سَجْنٍ يُقَالُ: مِنْهُ حَصَرَ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَاهُنَا حَبْسَ الْعَدُوِّ إِحْصَارًا قِيَاسًا عَلَى الْمَرَضِ إِذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ ابن عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" (1) .
قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَا صِدْقٌ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بِحَبْسِ الْعَدُوِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وروي معناه 29/ب عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالُوا الْحَصْرُ وَالْإِحْصَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ حَصَرْتُ الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَأَحْصَرَهُ الْعَدُوُّ إِذَا مَنَعَهُ عَنِ السَّيْرِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ ذَلِكَ حَبْسًا مِنْ جِهَةِ الْعَدُوِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } وَالْأَمْنُ يَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ، وَضَعَّفُوا حَدِيثَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وَالْعَرَجِ إِذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْإِحْرَامِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ كَانَتْ وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" (2) .
ثُمَّ الْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِذَبْحِ الْهَدْيِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَالْهَدْيُ شَاةٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
__________
(1) رواه أبو داود: في المناسك باب الإحصار 2 / 368 ونقل المنذري تحسينه عن الترمذي وأقره وعزاه للنسائي. والترمذي: في الحج - باب: ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج 4 / 8 وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه: في المناسك - باب المحصر برقم (3077) 2 / 1028 وأحمد: 3 / 450 عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، وعزاه ابن حجر في الفتح 4 / 7 لابن السكن في كتاب الصحابة وقال: ليس بعيدا من الصحة. والدارمي: في المناسك - باب: في المحصر بعدو 2 / 61. والمصنف في شرح السنة: 7 / 288.
(2) رواه مسلم: في الحج - باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه برقم (1208) 2 / 869.

وَمَحِلُّ ذَبْحِهِ حَيْثُ أُحْصِرَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِهَا، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَيَبْعَثُ بِهَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَيُوَاعِدُ مَنْ يَذْبَحُهُ هُنَاكَ ثُمَّ يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي الْمُحْصَرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَفِي قَوْلٍ لَا بَدَلَ لَهُ (1) فَيَتَحَلَّلُ وَالْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ بَدَلٌ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ، فَفِي قَوْلٍ عَلَيْهِ صَوْمُ التَّمَتُّعِ، وَفِي قَوْلٍ تُقَوَّمُ الشَّاةُ بِدَرَاهِمَ وَيَجْعَلُ الدَّرَاهِمَ طَعَامًا فَيَتَصَدَّقُ، بِهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْإِطْعَامِ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا كَمَا فِي فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى سَتْرِ رَأْسِهِ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ إِلَى لُبْسِ قَمِيصٍ، أَوْ مَرَضٍ فَاحْتَاجَ إِلَى مُدَاوَاتِهِ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَفِدْيَتُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّعْدِيلِ فَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ يُقَوِّمُ الشَّاةَ بِدَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمُ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. ثُمَّ الْمُحْصَرُ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِغَرَضٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ الْغَرَضُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ فَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [أَيْ فَعَلَيْهِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْهَدْيِ] (2) وَمَحَلُّهُ رَفْعٌ وَقِيلَ: مَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْ فَاهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ وَالْهَدْيُ جَمْعُ هَدِيَّةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، وَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْيُسْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْلَاهُ بَدَنَةٌ وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ وَأَدْنَاهُ شَاةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } اخْتَلَفُوا فِي الْمَحِلِّ الَّذِي يحل المحصر يبلغ هَدْيِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ذَبْحُهُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَمَعْنَى مَحِلِّهِ: حَيْثُ يَحِلُّ ذَبْحُهُ فِيهِ وَأَكْلُهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ" "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، فَوَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ فَاخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى تَنْحَرَ بَدَنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ وَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بَدَنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ
__________
(1) في "ب" لا بدل له.
(2) ساقط من "أ".

يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا" (1) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحِلُّ هَدْيِ الْمُحْصَرِ الْحَرَمُ، فَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَمَحِلُّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَمَحِلُّهُ يَوْمَ يَبْلُغُ هَدْيُهُ الْحَرَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } مَعْنَاهُ لَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إِلَّا أَنْ تَضْطَرُّوا إِلَى حَلْقِهِ لِمَرَضٍ أَوْ لِأَذًى فِي الرَّأْسِ مِنْ هَوَامٍّ أَوْ صُدَاعٍ { فَفِدْيَةٌ } فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحَيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ خَلَفٍ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزِلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوَيُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } أَيْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ { أَوْ صَدَقَةٍ } أَيْ ثَلَاثَةِ آصُعٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ { أَوْ نُسُكٍ } وَاحِدَتُهَا نَسِيكَةٌ أَيْ ذَبِيحَةٌ، أَعْلَاهَا بَدَنَةٌ وَأَوْسَطُهَا بَقَرَةٌ وَأَدْنَاهَا شَاةٌ، أَيَّتَهَا شَاءَ ذَبْحَ، فَهَذِهِ الْفِدْيَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ أَوْ يَصُومَ أَوْ يَتَصَدَّقَ، وَكُلُّ هَدْيٍ أَوْ طَعَامٍ يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ يَكُونُ بِمَكَّةَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ إِلَّا هَدْيًا يَلْزَمُ الْمُحْصَرَ فَإِنَّهُ يَذْبَحُهُ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } أَيْ من خوفكم وبرأتم مِنْ مَرَضِكُمْ { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمُتْعَةِ فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَمَنْ أُحْصِرَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ وَلَمْ يَتَحَلَّلْ فَقَدِمَ مَكَّةَ يَخْرُجُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَاسْتَمْتَعَ بِإِحْلَالِهِ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْعُمْرَةِ إِلَى السَّنَةِ الْمُسْتَقْبِلَةِ ثُمَّ حَجَّ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِذَلِكَ الْإِحْلَالِ إِلَى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } وَقَدْ حَلَلْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ بَعْدَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ تَقْضُوا عُمْرَةً، وَأَخَّرْتُمُ الْعُمْرَةَ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، فَاعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَلَلْتُمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِإِحْلَالِكُمْ إِلَى الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمْتُمْ بِالْحَجِّ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ مُعْتَمِرًا مِنْ أُفُقٍ مِنَ الْآفَاقِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَقَامَ حَلَالًا بِمَكَّةَ حَتَّى أَنْشَأَ مِنْهَا الْحَجَّ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ إِلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَمَعْنَى التَّمَتُّعِ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْعُمْرَةِ بِمَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ إِلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ.
__________
(1) رواه البخاري: في الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 5 / 329 -333.
(2) رواه البخاري في المحصر باب قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا) 4 / 12. ومسلم في الحج باب جواز حلق الرأس للمحرم برقم (1201) 2 / 860.

وَلِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ أربع شرائط: أحدهما أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي مَكَّةَ وَلَا يَعُودُ إِلَى الْمِيقَاتِ لِإِحْرَامِهِ، الرَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَتَى وُجِدَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَهُوَ دَمُ شَاةٍ يَذْبَحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَوْ ذبحها قبله بعد ما أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَدِمَاءِ الْجِنَايَاتِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يوم النحر 30/أ كَدَمِ الْأُضْحِيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أَيْ صُومُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَلَوْ صَامَ قَبْلَهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ صَوْمِ الثَّلَاثِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أَيْ صُومُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ وَبَلَدِكُمْ، فَلَوْ صَامَ السَّبْعَةَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } ذَكَرَهَا عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا كَانُوا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحِسَابِ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى فَضْلِ شَرْحٍ وَزِيَادَةِ بَيَانٍ، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ يَعْنِي فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثَلَاثَةٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فَهِيَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّوْمِ بَدَلَ الْهَدْيِ وَقِيلَ: كَامِلَةٌ بِشُرُوطِهَا وَحُدُودِهَا، وَقِيلَ لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ أَيْ فَأَكْمِلُوهَا وَلَا تَنْقُصُوهَا { ذَلِكَ } أَيْ هَذَا الْحُكْمُ { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَاخْتَلَفُوا فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وبه قال طاووس مِنَ التَّابِعِينَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَهْلُ عَرَفَةَ وَالرَّجِيعِ وَضَجْنَانَ وَنَخْلَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ مَنْ كَانَ وَطَنُهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، وَقِيلَ هُمْ أَهْلُ الْمِيقَاتِ فَمَا دُونَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَدَمُ الْقِرَانِ كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْمَكِّيُّ إِذَا قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ". فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (1) .
__________
(1) رواه البخاري: في الحج باب قوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) 3 / 433.

وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَفَوَاتُهُ يَكُونُ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قَابَلٍ وَالْفِدْيَةُ وَهِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ كَفِدْيَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ هَنَّادَ بْنَ الْأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا الْعَدَدَ، كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمْرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ بِالْبَيْتِ وَاسْعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَانْحَرُوا هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ، ثُمَّ احْلِقُوا أَوْ قَصِّرُوا ثُمَّ ارْجِعُوا، فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَحُجُّوا وَاهْدُوا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (1) .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } فِي أَدَاءِ الْأَوَامِرِ { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنَاهِي.
__________
(1) انظر: الموطأ: 1 / 383 ووصله البيهقي: 5 / 175 وأخرجه المصنف في شرح السنة: 7 / 292.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَهِيَ: شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَتِسْعٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ صَحِيحٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، فَمَنْ قَالَ عَشْرٌ عَبَّرَ بِهِ عَنِ اللَّيَالِي وَمَنْ قَالَ تِسْعٌ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ آخِرَ أَيَّامِهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعِ وَإِنَّمَا قَالَ أَشْهُرٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهِيَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لِأَنَّهَا وَقْتٌ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْوَقْتَ تَامًّا بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَتَقُولُ الْعَرَبُ أَتَيْتُكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَإِنَّمَا أَتَاهُ فِي سَاعَةٍ مِنْهُ، وَيَقُولُ زُرْتُكَ الْعَامَ، وَإِنَّمَا زَارَهُ فِي بَعْضِهِ، وَقِيلَ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُسَمَّى الِاثْنَانِ جَمَاعَةً جَازَ أَنْ يُسَمَّى الِاثْنَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ جَمَاعَةً وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَقَالَ "فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا"( 4-التَّحْرِيمِ ) أَيْ قَلَبَاكُمَا، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ بِالْأَشْهُرِ شَوَّالًا وَذَا الْقِعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ كُمَّلًا لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْحَاجِّ أُمُورٌ بَعْدَ عَرَفَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، مِثْلُ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالْبَيْتُوتَةِ بِمِنًى فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أَيْ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ

الْحَجَّ بِالْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وطاووس وَمُجَاهِدٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ بِغَرَضِ الْحَجِّ فِيهَا فَلَوِ انْعَقَدَ فِي غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، كَمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الصَّلَوَاتِ بِالْمَوَاقِيتِ ثُمَّ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ عَنِ الْفَرْضِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ: فَجَمِيعُ أَيَّامِ السَّنَةِ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَجِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فَكَانَ إِذَا حُمِّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ { فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ } بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّفَثِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ هُوَ الْجِمَاعُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّفَثُ غِشْيَانُ النِّسَاءِ وَالتَّقْبِيلُ وَالْغَمْزُ، وَأَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْفُحْشِ مِنَ الْكَلَامِ قَالَ حُصَيْنُ بْنُ قَيْسٍ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَنَبِ بَعِيرِهِ فَجَعَلَ يَلْوِيهِ وَهُوَ يَحْدُو وَيَقُولُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فَقُلْتُ لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ، قَالَ طاووس: (1) الرَّفَثُ التَّعْرِيضُ لِلنِّسَاءِ بِالْجِمَاعِ وَذِكْرُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الرَّفَثُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إِذَا حَلَلْتُ أَصَبْتُكِ، وَقِيلَ: الرَّفَثُ الْفُحْشُ وَالْقَوْلُ الْقَبِيحُ، أَمَّا الْفُسُوقُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَعَاصِي كُلُّهَا وَهُوَ قَوْلُ طاووس وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّبِيعِ وَالْقُرَظِيِّ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ فِي حَالِ
__________
(1) رواه ابن جرير بسند صحيح: 4 / 127.

الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَأَخْذِ الْأَشْعَارِ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ؛ هُوَ السِّبَابُ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" (1) وَقَالَ الضَّحَّاكُ هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ"( 11-الْحُجُرَاتِ ).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا آدَمُ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ أبو الحكم 30/ب قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِدَالُ أَنْ يُمَارِيَ صَاحِبَهُ وَيُخَاصِمَهُ حَتَّى يُغْضِبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمُ الْحَجُّ الْيَوْمَ وَيَقُولَ بَعْضُهُمُ الْحَجُّ غَدًا، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: كَانَتْ قُرَيْشٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ بِمِنًى قَالَ هَؤُلَاءِ: حَجُّنَا أَتَمُّ مِنْ حَجِّكُمْ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: حَجُّنَا أَتَمُّ مِنْ حَجِّكُمْ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَدْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ: "اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ" (3) قَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهُ عُمْرَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَهَذَا جِدَالُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يَقِفُونَ مَوَاقِفَ مُخْتَلِفَةً كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ مَوْقِفَهُ مَوْقِفُ إِبْرَاهِيمَ يَتَجَادَلُونَ فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَبَعْضُهُمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحُجُّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحُجُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَكُلٌّ يَقُولُ مَا فَعَلْتُهُ فَهُوَ الصَّوَابُ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أَيِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْحَجِّ عَلَى مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (4) قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَأُبْطِلُ النَّسِيءُ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ نَفْيٌ، وَمَعْنَاهَا نَهْيٌ، أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا وَلَا تُجَادِلُوا، كَقَوْلِهِ
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله 1 / 110. ومسلم في الإيمان باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" برقم (116) 1 / 81، والمصنف في شرح السنة: 1 / 76.
(2) رواه البخاري في الحج باب فضل الحج المبرور 3 / 382. ومسلم: في الحج باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1350) 2 / 983، والمصنف في شرح السنة: 7 / 4.
(3) سبق تخريجه انظر فيما سبق ص (225).
(4) قطعة من حديث رواه البخاري في الأضاحي باب من قال الأضحى يوم النحر 10 / 7. ومسلم: في القسامة باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم (1679) 3 / 1305. والمصنف في شرح السنة 7 / 216.

تَعَالَى "لَا رَيْبَ فِيهِ" أَيْ لَا تَرْتَابُوا "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فَيُجَازِيكُمْ بِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ وَيَقُولُونَ نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا يُطْعِمُنَا؟ فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، وَرُبَّمَا يُفْضِي بِهِمُ الْحَالُ إِلَى النَّهْبِ وَالْغَصْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَتَزَوَّدُوا } أَيْ مَا تَتَبَلَّغُونَ بِهِ وَتَكْفُونَ بِهِ وُجُوهَكُمْ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الْكَعْكُ وَالزَّبِيبُ وَالسَّوِيقُ وَالتَّمْرُ وَنَحْوُهَا { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } مِنَ السُّؤَالِ وَالنَّهْبِ { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } يَا ذَوِي الْعُقُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِيهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا (1) ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا قَوْمٌ نَكْرِي فِي هَذَا الْوَجْهِ، يَعْنِي إِلَى مَكَّةَ، فَيَزْعُمُونَ أَنْ لَا حَجَّ لَنَا، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ كَمَا يُحْرِمُونَ وَتَطُوفُونَ كَمَا يَطُوفُونَ وَتَرْمُونَ كَمَا يَرْمُونَ؟ قُلْتُ بَلَى، قَالَ: أَنْتَ حَاجٌّ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أَيْ حَرَجٌ { أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا } أَيْ رِزْقًا { مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي بِالتِّجَارَةِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ { فَإِذَا أَفَضْتُمْ } دَفَعْتُمْ، وَالْإِفَاضَةُ: دَفْعٌ بِكَثْرَةٍ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَفَاضَ الرَّجُلُ مَاءً أَيْ صَبَّهُ { مِنْ عَرَفَاتٍ } هِيَ جَمْعُ عَرَفَةَ، جَمْعٌ بِمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةً وَاحِدَةً كَقَوْلِهِمْ ثَوْبُ أَخْلَاقٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَأَجْلِهِ سُمِّيَ الْمَوْقِفُ عَرَفَاتٍ وَالْيَوْمُ عَرَفَةَ فَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَنَاسِكَ وَيَقُولُ عَرَفْتَ؟ فَيَقُولُ عَرَفْتُ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ عَرَفَاتٍ وَالْيَوْمُ عَرَفَةَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ وَقَعَ بِالْهِنْدِ وَحَوَّاءُ بِجَدَّةَ فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ صَاحِبَهُ فَاجْتَمَعَا بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَتَعَارَفَا فَسُمِّيَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ لَمَّا أَذَّنَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ وَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ وَنَعَتَهَا لَهُ فَخَرَجَ فَلَّمَا بَلَغَ الْجَمْرَةَ (2) عِنْدَ الْعَقَبَةِ اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْطَانُ لِيَرُدَّهُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ فَطَارَ، فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ ذَهَبَ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَتَى ذَا الْمَجَازِ، فَلَّمَا نَظَرَ إِلَيْهِ لَمْ يَعْرِفْهُ فَجَازَ فَسُمِّيَ ذَا الْمَجَازِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَعَرَفَهَا بِالنَّعْتِ فَسُمِّيَ الْوَقْتُ عَرَفَةَ وَالْمَوْضِعُ عَرَفَاتٍ حَتَّى إِذَا أَمْسَى ازْدَلَفَ إِلَى جَمْعٍ،
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع: 4 / 321 وفي الحج 3 / 395 والمصنف في شرح السنة: 8 / 3.
(2) في المخطوطتين الشجرة والصحيح الجمرة كما جاء في أكثر التفاسير كابن كثير.

أَيْ قَرُبَ إِلَى جَمْعٍ، فَسُمِّيَ الْمُزْدَلِفَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ ابْنِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوَّى يَوْمَهُ أَجْمَعَ أَيْ فَكَّرَ، أَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الرُّؤْيَا أَمْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَسُمِّيَ الْيَوْمُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ ثَانِيًا فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَسُمِّيَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَرِفُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِذُنُوبِهِمْ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنَ الْعَرْفِ وَهُوَ الطِّيبُ، وَسُمِّيَ مِنًى لِأَنَّهُ يُمَنَّى فِيهِ الدَّمُ أَيْ يُصَبُّ فَيَكُونُ فِيهِ الْفُرُوثُ وَالدِّمَاءُ وَلَا يَكُونُ الْمَوْضِعُ طَيِّبًا وَعَرَفَاتٌ طَاهِرَةٌ عَنْهَا فَتَكُونُ طَيِّبَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } بِالدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ { عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إِلَى الْمَحْسَرِ، وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ وَلَا الْمَحْسَرُ مِنَ الْمَشْعَرِ، وَسُمِّيَ مَشْعَرًا مِنَ الشِّعَارِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ لِأَنَّهُ مِنْ مَعَالِمَ الْحَجِّ، وَأَصْلُ الْحَرَامِ: مِنَ الْمَنْعِ فَهُوَ، مَمْنُوعٌ أَنْ يُفْعَلَ فِيهِ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، وَسُمِّيَ الْمُزْدَلِفَةُ جَمْعًا: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ، وَالْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ تَكُونُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.
قَالَ طاووس كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ (1) كَيْمَا نُغِيرُ فَأَخَّرَ اللَّهُ هَذِهِ وَقَدَّمَ هَذِهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَقَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا" (2) .
وَقَالَ جَابِرٌ: "دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنِ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ" (3) .
__________
(1) جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الداخل منها إلى مكة.
(2) رواه البخاري: في الحج باب النزول بين عرفة وجمع 3 / 519 ومسلم في الحج - باب الإفاضة في عرفات إلى مزدلفة برقم (1280) 2 / 934.
(3) رواه مسلم في الحج باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (1218) 2 / 886. والمصنف في شرح السنة: 7 / 65.

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أخبرنا زهير 31/أ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الْأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلَاهُمَا قَالَ لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } أَيْ وَاذْكُرُوهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا ذَكَرَكُمْ بِالْهِدَايَةِ فَهَدَاكُمْ لِدِينِهِ وَمَنَاسِكِ حَجِّهِ { وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أَيْ وَقَدْ كُنْتُمْ، وَقِيلَ: وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ إِلَّا مِنَ الضَّالِّينَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ"( 186-الشُّعَرَاءِ ) أَيْ: وَمَا نَظُنُّكَ إِلَّا مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ "مِنْ قَبْلِهِ" رَاجِعَةٌ إِلَى الْهُدَى، وَقِيلَ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ.
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، كَانَتْ قُرَيْشٌ وَحُلَفَاؤُهَا وَمَنْ دَانَ بِدِينِهَا، وَهُمُ الْحُمْسُ، يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ، وَقُطَّانُ حَرَمِهِ، فَلَا نُخَلِّفُ الْحَرَمَ وَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ، وَيَتَعَظَّمُونَ أَنْ يَقِفُوا مَعَ سَائِرِ الْعَرَبِ بِعَرَفَاتٍ، وَسَائِرُ النَّاسِ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَإِذَا أَفَاضَ النَّاسُ مَنْ عَرَفَاتٍ أَفَاضَ الْحُمْسُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقِفُوا بِعَرَفَاتٍ وَيُفِيضُوا مِنْهَا إِلَى جَمْعٍ مَعَ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سُنَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَاطَبَ بِهِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } مِنْ جَمْعٍ أَيْ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَقَالُوا لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ مِنْ جَمْعٍ، فَكَيْفَ يُسَوِّغُ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ؟ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
وَقِيلَ: ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ وَأَفِيضُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا"( 17-الْبَلَدِ ) وَأَمَّا النَّاسُ فَهُمُ الْعَرَبُ كُلُّهُمْ غَيْرُ الْحُمْسِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّاسُ هَاهُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ"( 54-النِّسَاءِ ) وَأَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ وَيُقَالُ هَذَا الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ وَيَكُونُ
__________
(1) رواه البخاري: في الحج باب النزول بين عرفة وجمع 3 / 519. ومسلم في الحج باب استحباب إذا دفع الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة برقم (1281) 2 / 391 واللفظ له. والمصنف في شرح السنة 7 / 185.

لِسَانَ قَوْمِهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّاسُ هَاهُنَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي بِالْيَاءِ وَيُقَالُ: هُوَ آدَمُ نَسِيَ عَهْدَ اللَّهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهُ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ (1) ، قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوِيدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا لِلْإِبِلِ فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ (2) ، { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } " (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } أَيْ فَرَغْتُمْ مِنْ حَجِّكُمْ وَذَبَحْتُمْ نَسَائِكَكُمْ، أَيْ ذَبَائِحَكُمْ، يُقَالُ: نَسَكَ الرَّجُلُ يَنْسُكُ نُسُكًا إِذَا ذَبَحَ نَسِيكَتَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِمِنًى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا فَرَغَتْ مِنَ الْحَجِّ وَقَفَتْ عِنْدَ الْبَيْتِ فَذَكَرَتْ مَفَاخِرَ آبَائِهَا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ وَقَالَ: فَاذْكُرُونِي فَأَنَا الَّذِي فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكُمْ وَبِآبَائِكُمْ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكُمْ وَإِلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ الْآبَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ يَلْهَجُ (4) بِذِكْرِ أَبِيهِ لَا بِذِكْرِ غَيْرِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ فَاذْكُرُوا اللَّهَ لَا غَيْرَ كَذِكْرِ الصَّبِيِّ أَبَاهُ أَوْ أَشَدَّ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } فَقِيلَ قَدْ يَأْتِي عَلَى الرَّجُلِ الْيَوْمُ وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ أَبَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ أَنْ تَغْضَبَ لِلَّهِ إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ لِوَالِدَيْكَ إِذَا شُتِمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } يَعْنِي: وَأَشَدَّ ذِكْرًا، وَبَلْ أَشَدَّ، أَيْ وَأَكْثَرَ ذِكْرًا { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْحَجِّ إِلَّا الدُّنْيَا يَقُولُونَ اللَّهُمَّ أَعْطِنَا غَنَمًا وَإِبِلًا وَبَقَرًا وَعَبِيدًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فَيَقُولُ يَارَبِّ: إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ كَبِيرَ الْجَفْنَةِ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا
__________
(1) رواه البخاري: في الحج - باب: السير إذا دفع من عرفة 3 / 118.
(2) السير السريع فبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا أن تكلف الإسراع في السير ليس مما يتقرب به.
(3) رواه البخاري: في الحج. باب: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسكينة عند الإفاضة 3 / 523. ومسلم في الحج. باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة برقم (1282) 2 / 932.
(4) في: أ: يُلْهَمُ.

أَعْطَيْتَهُ، قَالَ قَتَادَةُ هَذَا عَبْدٌ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا لَهَا أَنْفَقَ وَلَهَا عَمِلَ وَنَصَبَ { وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } حَظٍّ وَنَصِيبٍ
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَسَنَتَيْنِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً: امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً: الْجَنَّةُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنِيفِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَلَّادٍ أَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ وَابْنُ لَهِيعَةَ قَالَا أَخْبَرَنَا شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ" (1) وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً: الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، الْجَنَّةُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ حِبَّانَ: { فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } رِزْقًا حَلَالًا وَعَمَلًا صَالِحًا، { وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } الْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ (2) ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ أَحْسَنَ عِبَادَةَ، رَبِّهِ فَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ( نَفَضَ بِيَدِهِ ) (3) فَقَالَ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ قَلَّتْ بَوَاكِيهِ قَلَّ تُرَاثُهُ" (4) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الدُّنْيَا عَافِيَةً وَفِي الْآخِرَةِ عَافِيَةً. وَقَالَ عَوْفٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالْقُرْآنَ وَأَهْلًا وَمَالًا فَقَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً.
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْكُرْكَانِيُّ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمِشٍ
__________
(1) رواه مسلم: في الرضاع باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة برقم (1467) 2 / 1090. والمصنف في شرح السنة 9 / 11.
(2) "خفيف الحاذ" أي: خفيف الحال، قليل المال، وأصله: قلة اللحم، والحال والحاذ واحد، وهو ما وقع عليه اللبد من متن الفرس، انظر: شرح السنة: 14 / 246.
(3) وفي (ب) نقد بيده.
(4) رواه الترمذي: في الزهد باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه 7 / 12 وقال هذا حديث حسن. وابن ماجه: في الزهد باب ما لا يؤبه له 2 / 1379 وقال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف أيوب بن سليمان، قال فيه أبو حاتم: مجهول وتبعه على ذلك الذهبي في الطبقات وغيرها، وصدقة بن عبد الله متفق على تضعيفه. ورواه أحمد: 5 / 252-255 عن أبي أمامة. ورواه المصنف في شرح السنة 14 / 246. وفي إسناده علي بن يزيد بن أبي زياد الألهاني أبو عبد الملك الدمشقي ضعيف من السادسة (التقريب).

الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُوسُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ السِّمْسَارُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْحَنْظَلِيُّ الرَّازِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ: "هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبَنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدنيا فقال: 31/ب سُبْحَانَ اللَّهِ إِذَنْ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَلَا تُطِيقُهُ فَهَلَّا قُلْتَ "اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (1) .
أَخْبَرَنَا [أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا] (2) أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَجَّاجِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن الدعولي أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِشْكَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبِيْدٍ مَوْلَى السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: فِيمَا بَيْنَ رُكْنِ بَنِيَ جُمَحَ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ } حَظٌّ { مِمَّا كَسَبُوا } مِنَ الْخَيْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } يَعْنِي إِذَا حَاسَبَ فَحِسَابُهُ سَرِيعٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَقْدِ يَدٍ وَلَا وَعْيِ صَدْرٍ وَلَا إِلَى رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرٍ.
قَالَ الْحَسَنُ: أَسْرَعُ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِتْيَانُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ لِأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ قَرِيبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ"( 17-الشُّورَى ).
__________
(1) رواه مسلم: في الذكر باب كراهية الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا برقم (2688) 4 / 2068.
(2) ساقط من "أ".
(3) رواه البخاري: في الدعوات باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ربنا آتنا .. ) 11 / 191. ومسلم: في الذكر باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة .. ) برقم (2690) 4 / 2070.
(4) رواه أبو داود في المناسك باب الدعاء في الطواف 2 / 381. وأحمد: 3 / 411 عن عبد الله بن السائب. وصححه ابن حبان برقم (1001) في الحج، والحاكم: 1 / 455 ووافقه الذهبي وعزاه المنذري في مختصر أبي داود للنسائي. والمصنف في شرح السنة 7 / 128.

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ } يَعْنِي التَّكْبِيرَاتِ أَدْبَارَ الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ يُكَبَّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَوْقَاتِ { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى وَرَمْيِ

الْجِمَارِ، سُمِّيَتْ مَعْدُودَاتٍ لِقِلَّتِهِنَّ كَقَوْلِهِ: "دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ"( 20-يُوسُفَ ) وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهُنَّ يَوْمُ النَّحْرِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَعَنْ عَلَيٍّ قَالَ: الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَرُوِيَ عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ" (1) .
وَمِنَ الذِّكْرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: التَّكْبِيرُ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَرُوِيَ عَنْ عُمْرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا يُكَبِّرَانِ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ خَلْفَ الصَّلَاةِ وَفِي الْمَجْلِسِ وَعَلَى الْفِرَاشِ وَالْفُسْطَاطِ وَفِي الطَّرِيقِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا وَيَتَأَوَّلَانِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالتَّكْبِيرُ أَدْبَارَ الصَّلَاةِ مَشْرُوعٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ وَغَيْرِ الْحَاجِّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُبْتَدَأُ التَّكْبِيرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيُخْتَتَمُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ آخَرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُبْتَدَأُ التَّكْبِيرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيُخْتَتَمُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ يُبْتَدَأُ عَقِيبَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَيُخْتَتَمُ بَعْدَ الصُّبْحِ مِنْ آخَرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ وَذِكْرُ الْحَاجِّ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ التَّلْبِيَةُ وَيَأْخُذُونَ فِي التَّكْبِيرِ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَفْظُ التَّكْبِيرِ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ يَقُولَانِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا نَسَقًا -وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْنِ يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } أَرَادَ أَنَّ مَنْ نَفَرَ مِنَ الْحَاجِّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وَذَلِكَ أَنَّ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ بِمِنًى اللَّيْلَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَرْمِي كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً، عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَرُخِّصَ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ (2) ثُمَّ كُلُّ مَنْ رَمَى الْيَوْمَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ فَيَدَعَ الْبَيْتُوتَةَ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ وَرَمَى يَوْمَهَا فَذَلِكَ لَهُ وَاسِعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وَمَنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ حَتَّى يَرْمِيَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ ثُمَّ يَنْفِرَ، قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ }
__________
(1) رواه مسلم: في الصيام باب تحريم صوم أيام التشريق برقم (1141) 2 / 800. والمصنف في شرح السنة 6 / 351.
(2) عن ابن عباس قال: استأذن العباس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له (متفق عليه). وعن عاصم بن عدي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن ومالك والشافعي وابن حبان والحاكم وانظر: نيل الأوطار للشوكاني 6 / 187 و190.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

يَعْنِي لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ تَعَجَّلَ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي تَعْجِيلِهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ حَتَّى يَنْفِرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } فِي تَأَخُّرِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ { فَمَنْ تَعَجَّلَ } فَقَدْ تَرَخَّصَ { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } بِالتَّرَخُّصِ { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } بِتَرْكِ التَّرَخُّصِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ رَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ، لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ، كَمَا رَوَيْنَا مَنْ "حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمٍ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (1) وَهَذَا قَوْلُ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِمَنِ اتَّقَى } أَيْ لِمَنِ اتَّقَى أَنْ يُصِيبَ فِي حَجِّهِ شَيْئًا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ" قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا جُعِلَتْ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى فِي حَجِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ { لِمَنِ اتَّقَى } الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا حَتَّى تَخْلُوَ (2) أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَهَبَ إئمه إِنِ اتَّقَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ [ { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تُجْمَعُونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ] (3) .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ وَاسْمُهُ أُبَيٌّ وَسُمِّيَ الْأَخْنَسَ لِأَنَّهُ خَنَسَ يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَنْ قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْكَلَامِ، حُلْوَ الْمَنْظَرِ، وَكَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُجَالِسُهُ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَيَقُولُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مُنَافِقًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْنِي مَجْلِسَهُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (4) أَيْ تَسْتَحْسِنُهُ وَيَعْظُمُ فِي قَلْبِكَ، وَيُقَالُ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَعْجَبَنِي كَذَا وَفِي الْكَرَاهِيَةِ وَالْإِنْكَارِ عَجِبْتُ مِنْ كَذَا { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } يَعْنِي قَوْلَ الْمُنَافِقِ: وَاللَّهِ إِنِّي بِكَ مُؤْمِنٌ وَلَكَ مُحِبٌّ { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أَيْ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، يُقَالُ لَدَدْتَ يَا هَذَا وَأَنْتَ تَلِدُّ لَدًّا وَلَدَادَةً، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى خَصْمِهِ قُلْتَ: لَدَّهُ يَلِدُّهُ لَدًّا، يُقَالُ: رَجُلٌ أَلَدُّ وَامْرَأَةٌ لَدَّاءُ وَقَوْمٌ لُدٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا"( 97-مَرْيَمَ ). قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَدِيدَيِ الْعُنُقِ وَهُمَا صَفْحَتَاهُ، وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ فِي أَيِّ وَجْهٍ أَخَذَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ فِي أَبْوَابِ الْخُصُومَةِ غَلَبَ،
__________
(1) سبق تخريجه - انظر: ص227.
(2) يعني: تنقضي.
(3) ساقط من: ب.
(4) انظر: الطبري: 4 / 229، أسباب النزول للواحدي ص (96).

وَالْخِصَامُ مَصْدَرُ خَاصَمَهُ خِصَامًا وَمُخَاصَمَةً قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ جَمْعُ خَصْمٍ يُقَالُ: خَصْمٌ وَخِصَامٌ وَخُصُومٌ مِثْلُ بَحْرٍ وَبِحَارٍ وَبُحُورٍ قَالَ الْحَسَنُ: أَلَدُّ الْخِصَامِ أَيْ كَاذِبُ الْقَوْلِ، قَالَ قَتَادَةُ: شَدِيدُ الْقَسْوَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَيَعْمَلُ بِالْخَطِيئَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَلَدُّ الْخَصِمُ" (1)
{ وَإِذَا تَوَلَّى } أَيْ أَدْبَرَ وَأَعْرَضَ عَنْكَ { سَعَى فِي الْأَرْضِ } أَيْ عَمِلِ فِيهَا، وَقِيلَ: سَارَ فِيهَا وَمَشَى { لِيُفْسِدَ فِيهَا } قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَطَعَ الرَّحِمَ وَسَفَكَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } وَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْنَسَ (2) كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَقِيفٍ خُصُومَةٌ فَبَيَّتَهُمْ لَيْلَةً فَأَحْرَقَ زُرُوعَهُمْ وَأَهْلَكَ مَوَاشِيَهُمْ (3)
قَالَ مُقَاتِلٌ: خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ مُقْتَضِيًا مَالَا لَهُ عَلَى غَرِيمٍ فَأَحْرَقَ لَهُ كُدْسًا وَعَقَرَ لَهُ أَتَانًا، وَالنَّسْلُ: نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ وَالنَّاسُ مِنْهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: { وَإِذَا تَوَلَّى } أَيْ مَلَكَ الْأَمْرَ وَصَارَ وَالِيًا { سَعَى فِي الْأَرْضِ } قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ } قَالَ إِذَا وَلِيَ فَعَمِلَ بالعدوان والظلم فأمسك اللَّهُ الْمَطَرَ وَأَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أَيْ لَا يَرْضَى بِالْفَسَادِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَطْعُ الدِّرْهَمِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } أَيْ خِفِ اللَّهَ { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } أَيْ حَمَلَتْهُ الْعِزَّةُ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِ بِالْإِثْمِ أَيْ بِالظُّلْمِ، وَالْعِزَّةُ: التَّكَبُّرُ وَالْمَنَعَةُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ } لِلْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، فَأَقَامَ الْبَاءَ مَقَامَ اللَّامِ.
قَوْلُهُ { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أَيْ كَافِيهِ { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أَيِ الْفِرَاشُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ: لِلْعَبْدِ اتَّقِ اللَّهَ فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: اتَّقِ اللَّهَ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } أَيْ لِطَلَبِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَرِيَّةِ الرَّجِيعِ وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ: إِنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا فَابْعَثْ إِلَيْنَا نَفَرًا مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِكَ يُعَلِّمُونَنَا دِينَكَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَكْرًا مِنْهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ وَمَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَخَالِدَ بْنَ بُكَيْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْبَلَوِيَّ وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ
__________
(1) رواه البخاري: في التفسير باب الألد الخصم 13 / 180. ومسلم: في العلم باب الألد الخصم برقم (2668) 4 / 2054. والمصنف في شرح السنة 10 / 97.
(2) الأخنس بن شريق - بشين مفتوحة وراء مكسورة وقاف في آخره - رجل من ثقيف.
(3) انظر: تفسير الواحدي: 1 / 302، أسباب النزول له أيضا ص (58).

ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحِ الْأَنْصَارِيَّ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ فَسَارُوا فَنَزَلُوا بِبَطْنِ الرَّجِيعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُمْ تَمْرُ عَجْوَةٍ فَأَكَلُوا فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَأَبْصَرَتِ النَّوَى فَرَجَعَتْ إِلَى قَوْمِهَا بِمَكَّةَ وَقَالَتْ: قَدْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ أَهْلُ يَثْرِبَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَكِبَ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ مَعَهُمُ الرِّمَاحُ حَتَّى أَحَاطُوا بِهِمْ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذَكَرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ فَاقْتَفَوْا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمُ التَّمْرَ فِي مَنْزِلٍ نَزَلُوهُ فَقَالُوا: تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لجأوا إِلَى فَدْفَدٍ (1) فَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَقَتَلُوا مَرْثَدًا وَخَالِدًا وَعَبْدَ اللَّهُ بْنَ طَارِقٍ، وَنَثَرَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ كِنَانَتَهُ وَفِيهَا سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَقَتَلَ بِكُلِّ سَهْمٍ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي حَمَيْتُ دِينَكَ صَدْرَ النَّهَارِ فَاحِمِ لَحْمِي آخِرَ النَّهَارِ، ثُمَّ أَحَاطَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ أَرَادُوا حَزَّ رَأْسِهِ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَهَا يَوْمَ أُحُدٍ لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ فِي قَحْفِهِ الْخَمْرَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ رِجْلًا مِنَ الدَّبْرِ (2) -وَهِيَ الزَّنَابِيرُ -فَحَمَتْ عَاصِمًا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَسُمِّيَ حَمِيَّ الدَّبْرِ فَقَالُوا دَعُوهُ حَتَّى تسمي فَتَذْهَبَ عَنْهُ فَنَأْخُذَهُ فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ وَأَمْطَرَتْ مَطَرًا كَالْعَزَالِي (3) فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ غَدِيرًا فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا بِهِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَحَمَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّارِ وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ أَعْطَى اللَّهَ تَعَالَى عَهْدًا أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ الدَّبْرَ مَنَعَتْهُ يَقُولُ: عَجَبًا لَحِفْظِ اللَّهِ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ كَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا فَمَنَعَهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ عَاصِمٌ فِي حَيَاتِهِ.
وَأَسَرَ الْمُشْرِكُونَ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ فَذَهَبُوا بِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، فَأَمَّا خُبَيْبٌ فَابْتَاعَهُ بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لِيَقْتُلُوهُ بِأَبِيهِمْ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ فَاسْتَعَارَ مِنْ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسَى لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ فَمَا رَاعَ الْمَرْأَةَ إِلَّا خُبَيْبٌ قَدْ أَجْلَسَ الصَّبِيَّ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ خُبَيْبٌ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ إِنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قُطْفًا مِنْ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، إِنْ كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهَ خُبَيْبًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ وَأَرَادُوا أَنْ يَصْلِبُوهُ فَقَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا (4) الصَّلَاةَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَوْلَا أَنْ يَحْسَبُوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ، اللَّهُمَّ احْصِهِمْ
__________
(1) الفدفد: المكان الصلب الغليظ المرتفع وفي أ: قُدَيْر.
(2) الكثير من الدّبْر.
(3) العزالي: جمع العزلاء وهو فم المزادة الأسفل، شبه اتساع المطر واندفاعه بالذي يخرج من فم المزادة.
(4) كل ذي روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبرا.

عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَصَلَبُوهُ حَيًّا فَقَالَ اللَّهُمَّ: إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ حَوْلِي يُبَلِّغُ سَلَامِي رَسُولَكَ فَأَبْلِغْهُ سَلَامِي، ثُمَّ قَامَ أَبُو سِرْوَعَةَ عقبة بن الحرث فَقَتَلَهُ.
وَيُقَالُ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُ سَلَامَانُ، أَبُو مَيْسَرَةَ، مَعَهُ رُمْحٌ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْ خُبَيْبٍ فَقَالَ لَهُ خُبَيْبٌ: اتَّقِ اللَّهَ فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلَّا عُتُوًّا فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } يَعْنِي سَلَامَانَ. وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَبَعَثَهُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُسَمَّى نِسْطَاسَ إِلَى التَّنْعِيمِ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الْآنَ بِمَكَانِكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَإِنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ يُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ النِّسْطَاسُ. فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْخَبَرُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَيُّكُمْ( يُنْزِلُ ) (1) خُبَيْبًا عَنْ خَشَبَتِهِ وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَصَاحِبِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَخَرَجَا يَمْشِيَانِ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنَانِ بِالنَّهَارِ حَتَّى أَتَيَا التنعيم ليلأ 31/ب وَإِذَا حَوْلَ الْخَشَبَةِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَائِمُونَ نَشَاوَى فَأَنْزَلَاهُ فَإِذَا هُوَ رَطْبٌ يَنْثَنِي لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَدُهُ عَلَى جِرَاحَتِهِ وَهِيَ تَبِضُّ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ، فَحَمَلَهُ الزُّبَيْرُ عَلَى فَرَسِهِ وَسَارَا فَانْتَبَهَ الْكُفَّارُ وَقَدْ فَقَدُوا خُبَيْبًا فَأَخْبَرُوا قُرَيْشًا فَرَكِبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، فَلَمَّا لَحِقُوهُمَا قَذَفَ الزُّبَيْرُ خُبَيْبًا فَابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ فَسُمِّيَ بَلِيعَ الْأَرْضِ.
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا جَرَّأَكُمْ عَلَيْنَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَفَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَقَالَ: أَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأُمِّي صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ وَصَاحِبِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَسَدَانِ رَابِضَانِ يُدَافِعَانِ عَنْ شِبْلَيْهِمَا فَإِنْ شِئْتُمْ نَاضَلْتُكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ نَازَلْتُكُمْ وَإِنْ شِئْتُمُ انْصَرَفْتُمْ، فَانْصَرَفُوا إِلَى مَكَّةَ، وَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلُ عِنْدَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتُبَاهِي بِهَذَيْنِ مِنْ أَصْحَابِكَ فَنَزَلَ فِي الزُّبَيْرِ وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } حِينَ شَرَيَا أَنْفُسَهُمَا لِإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عَنْ خَشَبَتِهِ (2) .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ حِينَ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) في أ غزل.
(2) انظر فتح الباري: 7 / 378 -379 وعيون الأثر لابن سيد الناس: 2 / 56-66.

فَعَذَّبُوهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أَمْ مَنْ غَيْرِكُمْ فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي وَتَذَرُونِي وَدِينِي؟ فَفَعَلُوا، وَكَانَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ رَاحِلَةً وَنَفَقَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ فِي رِجَالٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَبِحَ بَيْعُكَ يَا أَبَا يَحْيَى، فَقَالَ لَهُ صُهَيْبٌ: وَبَيْعُكَ فَلَا تَتَحَسَّرْ، قَالَ صُهَيْبٌ: مَا ذَاكَ؟ فَقَالَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ: أَقْبَلَ صُهَيْبٌ مُهَاجِرًا نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَنَثَلَ مَا كَانَ فِي كِنَانَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَقَدْ عَلِمْتُمْ إِنِّي لَمِنْ أَرْمَاكُمْ رَجُلًا وَاللَّهِ لَا أَضَعُ سَهْمًا مِمَّا فِي كِنَانَتِي إِلَّا فِي قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ بِكُلِّ سَهْمٍ فِي كِنَانَتِي ثُمَّ أَضْرِبَ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِي ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَالِي بِمَكَّةَ وَخَلَّيْتُمْ سَبِيلِي قَالُوا: نَعَمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَتَدْرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِ يَلْقَى الْكَافِرَ فَيَقُولُ لَهُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقُولَهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَاللَّهِ لَأَشْرِيَنَّ نَفْسِي لِلَّهِ. فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ وَحْدَهُ حَتَّى قُتِلَ.
وَقِيلَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَى مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ يَقُومُ فَيَأْمُرُ هَذَا بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ وَأَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، قَالَ وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي لِلَّهِ فَقَاتَلَهُ فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ لِذَلِكَ، وَكَانَ عَلِيٌّ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: اقْتَتَلَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنْسَانًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } فَقَالَ عُمْرُ { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ "أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" (2) .
__________
(1) انظر: تفسير الواحدي 1 / 304، ابن كثير: 1 / 437، أسباب النزول للواحدي ص(58) طبقات ابن سعد: 3 / 227-228.
(2) رواه أبو داود: في الملاحم باب الأمر والنهي عن أبي سعيد الخدري 6 / 191. والترمذي: في الفتن باب أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر 6 / 395 عن أبي سعيد الخدري وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، (ويشهد له حديث أبي أمامة). والنسائي: في البيعة باب فضل من تكلم بالحق عند سلطان جائر 7 / 161. وابن ماجه: في الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2 / 1329. وأحمد: 3 / 19 جزء من حديث عن أبي سعيد الخدري - 4 / 324 عن طارق بن شهاب 5 / 251-256 عن أبي أمامة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْكِسَائِيُّ السِّلْمَ هَاهُنَا بِفَتْحِ السِّينِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ" بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَسْرِ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ النَّضِيرِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ السَّبْتَ وَيَكْرَهُونَ لُحْمَانَ الإبل وألبانها بعد ما أَسْلَمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللَّهِ فَدَعْنَا فَلْنَقُمْ بِهَا فِي صَلَاتِنَا بِاللَّيْلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } (1) أَيْ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَعْمَالِهِمْ { كَافَّةً } أَيْ جَمِيعًا، وَقِيلَ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ إِلَى مُنْتَهَى شَرَائِعِهِ كَافِّينَ عَنِ الْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَصْلُ السِّلْمِ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلصُّلْحِ سِلْمٌ، قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فَعَدَّ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَالْحَجَّ، وَالْعُمْرَةَ، وَالْجِهَادَ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ: قَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ.
{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أَيْ آثَارَهُ فِيمَا زَيَّنَ لَكُمْ مِنْ تَحْرِيمِ السَّبْتِ وَلُحُومِ الْإِبِلِ وَغَيْرِهِ { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّحَّانُ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَاهُ عُمْرُ فَقَالَ إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنْ يَهُودَ فَتُعْجِبُنَا، أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا؟ فَقَالَ: "أَمُتَهَوِّكُونَ (2) أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي" (3) .
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (97).
(2) التهوك كالتهور، وهو الوقوع بالأمر بغير روية، والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير.
(3) رواه أحمد 3 / 387 - عن جابر. وابن أبي عاصم في السنة 10 / 27، والدارمي 1 / 115، وابن عبد البر في جامع بيان العلم ص339 وله شواهد عند أبي يعلى بنحوه 2 / 426-427. أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث: 3 / 28-29. قال الهيثمي في المجمع 1 / 174 وفيه مجالد بن سعيد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما. والمصنف في شرح السنة 1 / 270. وحسنه الألباني فذكر له شواهد كثيرة. انظر إرواء الغليل 6 / 34-38 ظلال الجنة 1 / 27.

{ فَإِنْ زَلَلْتُمْ } أَيْ ضَلَلْتُمْ، وَقِيلَ: مِلْتُمْ، يُقَالُ زَلَّتْ قَدَمُهُ تَزِلُّ زَلَّا وَزَلَلًا إِذَا دَحَضَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشِّرْكَ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَزِلُّ زَالُّونَ مِنَ النَّاسِ فَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ وَأَوْعَدَ فِيهِ لِيَكُونَ لَهُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أَيِ الدَّلَالَاتُ الْوَاضِحَاتُ { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } فِي نِقْمَتِهِ { حَكِيمٌ } فِي أَمْرِهِ، فَالْعَزِيزُ: هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ وَالْحَكِيمُ: ذُو الْإِصَابَةِ فِي الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { هَلْ يَنْظُرُونَ } أَيْ هَلْ يَنْظُرُ التَّارِكُونَ الدُّخُولَ فِي السِّلْمِ وَالْمُتَّبِعُونَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ يُقَالُ: نَظَرْتُهُ وَانْتَظَرْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ بِذِكْرِ الْوَجْهِ أَوْ إِلَى، لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ { إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ } جَمْعُ ظُلَّةٍ { مِنَ الْغَمَامِ } السَّحَابِ الْأَبْيَضِ الرَّقِيقِ سُمِّيَ غَمَامًا لِأَنَّهُ يَغُمُّ أَيْ يَسْتُرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ غَيْرُ السَّحَابِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِيهِهِمْ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَهَيْئَةِ الضَّبَابِ أَبْيَضُ، قَالَ الْحَسَنُ: فِي سُتْرَةٍ مِنَ الْغَمَامِ فَلَا يَنْظُرُ [إِلَيْهِ] (1) أَهْلُ الْأَرْضِ { وَالْمَلَائِكَةُ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْغَمَامِ، تَقْدِيرُهُ: مَعَ الْمَلَائِكَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَقْبَلَ الْأَمِيرُ فِي الْعَسْكَرِ، أَيْ مَعَ الْعَسْكَرِ، وقرأ الباقون الرفع عَلَى مَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا شَاكَلَهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْإِنْسَانُ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلَ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ، عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ، وَكَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يَقُولُونَ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ قِرَاءَتُهُ، وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يفسره إلأ 33/أ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُضِيَ الْأَمْرُ } أَيْ وَجَبَ الْعَذَابُ، وَفُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ فَصْلُ { اللَّهِ } (2) الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ.
__________
(1) في ب: إليهم.
(2) زيادة من (ب).

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أَيْ سَلْ يَا مُحَمَّدُ يَهُودَ الْمَدِينَةِ { كَمْ آتَيْنَاهُمْ } أَعْطَيْنَا آبَاءَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ { مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } دَلَالَةٍ وَاضِحَةٍ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِثْلَ الْعَصَا وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ، وَفَلْقِ

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

الْبَحْرِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الدَّلَالَاتُ الَّتِي آتَاهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ وَمَنْ يُبَدِّلْ } يُغَيِّرْ { نِعْمَةَ اللَّهِ } كِتَابَ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَهْدُ اللَّهُ وَقِيلَ: مَنْ يُنْكِرُ الدَّلَالَةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُزَيِّنَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّزْيِينُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ الْحَسَنَةَ وَالْمَنَاظِرَ الْعَجِيبَةَ، فَنَظَرَ الْخَلْقُ إِلَيْهَا بِأَكْثَرِ مِنْ قَدْرِهَا فَأَعْجَبَتْهُمْ فَفُتِنُوا بِهَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِمَا بَسَطَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَيُكَذِّبُونَ بِالْمَعَادِ { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي يستهزءون بِالْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا وَأَمْثَالَهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَيَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَغْلِبُ بِهِمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِغَيْرِ قِتَالٍ (1) { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } لِفَقْرِهِمْ { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا } يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لِأَنَّهُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَهُمْ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَذَافِرِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْمَسَاكِينَ وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ وَإِذَا أَهْلُ الْجَدِّ (2) مَحْبُوسُونَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ" (3) .
__________
(1) انظر: الوسيط: 1 / 308، الدر المنثور: 1 / 581.
(2) الغني.
(3) قطعة من حديث أخرجه البخاري عن أنس: في النكاح باب رقم (87) 9 / 298، والمصنف في شرح السنة: 14 / 266.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا" (1) .
{ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي كَثِيرًا بِغَيْرِ مِقْدَارٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْحِسَابُ فَهُوَ قَلِيلٌ، يُرِيدُ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَبْسُطُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مِنْ غَيْرِ تَبِعَةٍ يَرْزُقُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُحَاسِبُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: هَذَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَعْنَاهُ: يُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَبْسُطُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَا يُعْطِي كُلَّ أَحَدٍ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ بَلْ يُعْطِي الْكَثِيرَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَا يُعْطِي الْقَلِيلَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ، وَلَا يُحَاسَبُ فِيمَا يَرْزُقُ وَلَا يُقَالُ لِمَ أَعْطَيْتَ هَذَا وَحَرَمْتَ هَذَا؟ وَلِمَ أَعْطَيْتَ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ ذَاكَ؟ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لا يخاف نفاذ خَزَائِنِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِأَنَّ الْحِسَابَ مِنَ الْمُعْطِي إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يخاف من نفاذ خَزَائِنِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ آدَمَ وَحْدَهُ، كَانَ أُمَّةً وَاحِدَةً، قَالَ سُمِّيَ الْوَاحِدُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسْلِ وَأَبُو الْبَشَرِ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى حَوَّاءَ وَنَشَرَ مِنْهُمَا النَّاسَ فَانْتَشَرُوا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ فَاخْتَلَفُوا { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ } قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: كَانَ النَّاسُ مِنْ وَقْتِ وَفَاةِ آدَمَ إِلَى مَبْعَثِ نُوحٍ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ أَمْثَالَ الْبَهَائِمِ، فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا وَغَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ (2) . وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَ النَّاسُ مِنْ وَقْتِ آدَمَ إِلَى مَبْعَثِ نُوحٍ وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي زَمَنِ نُوحٍ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا، فَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ بُعِثَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ النَّبِيِّينَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ هُمْ أَهْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ وَفَاةِ نُوحٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّةً وَاحِدَةً كُفَّارًا كُلُّهُمْ فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَقِيلَ: كَانَ الْعَرَبُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ غَيَّرَهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ
__________
(1) رواه البخاري: في النكاح باب الأكفاء في الدين 9 / 132.
(2) يرد هذا قول قتادة وعكرمة وهو مروي عن ابن عباس موقوفا وإسناده صحيح على شرط البخاري (انظر ابن كثير: 1 / 443 تخريج الوادعي).

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ حِينَ عُرِضُوا عَلَى آدَمَ، وَأُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِهِ وَأَقَرُّوا بِالْعُبُودِيَّةِ أُمَّةً وَاحِدَةً مُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطُّ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ آدَمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فبعث الله النبيين"( 19-يُونُسَ ) وَجُمْلَتُهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَالرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِ الْعَلَمِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ نَبِيًّا { مُبَشِّرِينَ } بِالثَّوَابِ مَنْ آمَنَ وَأَطَاعَ { وَمُنْذِرِينَ } مُحَذِّرِينَ بِالْعِقَابِ مَنْ كَفَرَ وَعَصَى { وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أَيِ الْكُتُبَ، تَقْدِيرُهُ وَأَنْزَلَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْكِتَابَ { بِالْحَقِّ } بِالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ { لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ { لِيَحْكُمَ } بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ هَاهُنَا وَفِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي النُّورِ مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَحْكُمُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا { الْحُكْمُ } (1) بِهِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، أَيْ لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ ذَكَرَهُ عَلَى سِعَةِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ"( 29-الْجَاثِيَةِ ). وَقِيلَ مَعْنَاهُ لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بِكِتَابِهِ { فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ } أَيْ فِي الْكِتَابِ { إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ } أَيْ أُعْطُوا الْكِتَابَ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } يَعْنِي أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَ الْفِرَّاءُ: وَلِاخْتِلَافِهِمْ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا كُفْرُ بَعْضِهِمْ بِكِتَابِ بَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ ببعض"( 150-النساء ) 32/ب وَالْآخَرُ تَحْرِيفُهُمْ كِتَابَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ"( 46-النِّسَاءِ ) وَقِيلَ الْآيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابُهُ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ { بَغْيًا } ظُلْمًا وَحَسَدًا { بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } أَيْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ { مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } بِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فِيهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَشْرِقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَغْرِبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ فَهَدَانَا اللَّهُ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَيَّامِ، فَأَخَذَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ وَالنَّصَارَى الْأَحَدَ فَهَدَانَا اللَّهُ لِلْجُمُعَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَانَ نَصْرَانِيًّا فَهَدَانَا اللَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى فَجَعَلَتْهُ الْيَهُودُ لِفِرْيَةٍ وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَهَدَانَا اللَّهُ لِلْحَقِّ فِيهِ { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ
__________
(1) في ب: يحكم.

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْبَرْدِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَأَنْوَاعِ الْأَذَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ"( 10-الْأَحْزَابِ ) وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْمَدِينَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الضُّرُّ، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِلَا مَالٍ وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَآثَرُوا رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسَرَّ قَوْمٌ النِّفَاقَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ { أَمْ حَسِبْتُمْ } أَيْ: أَحَسِبْتُمْ، وَالْمِيمُ صِلَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ حَسِبْتُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ } وَمَا صِلَةٌ { مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا } شَبَّهَ الَّذِينَ مَضَوْا { مِنْ قَبْلِكُمْ } النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ } الْفَقْرُ وَالشِّدَّةُ وَالْبَلَاءُ { وَالضَّرَّاءُ } الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ { وَزُلْزِلُوا } أَيْ حُرِّكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَخُوِّفُوا { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } مَا زَالَ الْبَلَاءُ بهم حتى استبطؤوا النَّصْرَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } قَرَأَ نَافِعٌ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بِالرَّفْعِ مَعْنَاهُ حَتَّى قَالَ الرَّسُولُ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي يَلِي حَتَّى فِي مَعْنَى الْمَاضِيَ وَلَفْظُهُ( لَفْظُ ) (1) الْمُسْتَقْبَلِ فَلَكَ فِيهِ الْوَجْهَانِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، فَالنَّصْبُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ حَتَّى تَنْصِبُ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ، وَالرَّفْعُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمَاضِي، وَحَتَّى لَا تَعْمَلُ فِي الْمَاضِي.
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) }
__________
(1) زيادة من "ب".

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } نَزَلَتْ فِي عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ذَا مَالٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَاذَا نَتَصَدَّقُ وَعَلَى مَنْ نُنْفِقُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } وَفِي قَوْلِهِ { مَاذَا } وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ نَصْبًا بِقَوْلِهِ { يُنْفِقُونَ } تَقْدِيرُهُ أَيَّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا بِمَا، وَمَعْنَاهُ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ } أَيْ مِنْ مَالٍ { فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } يُجَازِيكُمْ بِهِ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ فَنُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

فَقَالَ عَطَاءٌ: الْجِهَادُ تَطَوُّعٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى"( 95-النِّسَاءِ ) وَلَوْ كَانَ الْقَاعِدُ تَارِكًا فَرْضًا لَمْ يَكُنْ يَعِدُهُ الْحُسْنَى، وَجَرَى بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ: الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ الْخُوَارَزْمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ أُبَيٍّ الْفُرَاتِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ كُلَيْبٍ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ السَّعِيدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ" (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْجِهَادَ فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ مِثْلُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: كَتَبَ اللَّهُ الْجِهَادَ عَلَى النَّاسِ غَزْوًا أَوْ قُعُودًا، فَمَنْ غَزَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ قَعَدَ فَهُوَ عُدَّةٌ إِنِ اسْتُعِينَ بِهِ أَعَانَ وَإِنِ اسْتُنْفِرَ نَفَرَ وَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ قَعَدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } أَيْ شَاقٌّ عَلَيْكُمْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: هَذَا الْكُرْهُ مِنْ حَيْثُ نُفُورُ الطَّبْعِ عَنْهُ لِمَا فِيهِ، مِنْ مُؤْنَةِ الْمَالِ وَمَشَقَّةِ النَّفْسِ وَخَطَرِ الرُّوحِ، لَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } يَعْنِي أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ ثُمَّ أَحَبُّوهُ فَقَالُوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لِأَنَّ فِي الْغَزْوِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا الظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا } يَعْنِي الْقُعُودَ عَنِ الْغَزْوِ { وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ وَالْأَجْرِ { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) رواه مسلم: في الإمارة باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو برقم (1910) 3 / 1517.

بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْتِ أَبِيهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيَّ وَعُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيَّ وَعُتَبَةَ بْنَ غَزَوَانَ السُّلَمِيَّ وَأَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ وَعَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ وَوَاقِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَخَالِدَ بْنَ بُكَيْرٍ وَكَتَبَ لِأَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كِتَابًا وَقَالَ لَهُ: "سِرْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَلَا تَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ حَتَّى تَسِيرَ يَوْمَيْنِ فَإِذَا نَزَلْتَ فَافْتَحِ الْكِتَابَ وَاقْرَأْهُ عَلَى أَصْحَابِكَ ثُمَّ امْضِ لِمَا أَمَرْتُكَ وَلَا تَسْتَكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ" فَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَيْنِ ثُمَّ نَزَلَ وَفَتَحَ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ: فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ فَتَرْصُدَ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ لَعَلَّكَ تَأْتِينَا مِنْهَا بِخَيْرٍ، فَلَمَّا نَظَرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّهُ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْطَلِقْ وَمِنْ كَرِهَ فَلْيَرْجِعْ، ثُمَّ مَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفَرْعِ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ بَحْرَانُ أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ وَمَضَى بِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلُوا بَطْنَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ مَرَّتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وأدما وتجارة 34/أ مِنْ تِجَارَةِ الطَّائِفِ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَخُوهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّانِ فَلَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَابُوهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ذُعِرُوا مِنْكُمْ فَاحْلِقُوا رَأْسَ رَجُلٍ مِنْكُمْ وَلِيَتَعَرَّضْ لَهُمْ فَحَلَقُوا رَأْسَ عُكَاشَةَ فَوْقَ ثُمَّ أَشْرَفُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: قَوْمَ عَمَّارٍ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّنُوهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ جُمَادَى وَهُوَ مِنْ رَجَبٍ فَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ وَقَالُوا لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمُ اللَّيْلَةَ لِيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ وَلَيَمْتَنِعُنَّ مِنْكُمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي مُوَاقَعَةِ الْقَوْمِ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّهْمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [وَهُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ فِي الْهِجْرَةِ وَأَدَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى وَرَثَتِهِ مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَهْدٌ، وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ سَنَتَيْنِ أَنْ لَا يُقَاتِلَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ] (1)
وَاسْتَأْسَرَ الْحَكَمَ وَعُثْمَانَ فَكَانَا أَوَّلَ أَسِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَفْلَتَ نَوْفَلٌ فَأَعْجَزَهُمْ، وَاسْتَاقَ الْمُؤْمِنُونَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ فَسَفَكَ فِيهِ الدِّمَاءَ وَأَخَذَ الْحَرَائِبَ وَعَيَّرَ بِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الصُّبَاةِ
__________
(1) ساقط من (ب).

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

اسْتَحْلَلْتُمُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَقَاتَلْتُمْ فِيهِ!
وَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِابْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ قَتَلْنَا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ ثُمَّ أَمْسَيْنَا فَنَظَرْنَا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ فَلَا نَدْرِي أَفِي رَجَبٍ أَصَبْنَاهُ أَمْ فِي جُمَادَى؟ وَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ فَعَزَلَ مِنْهَا الْخُمْسَ، فَكَانَ أَوَّلَ خُمْسٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَسَّمَ الْبَاقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ، وَكَانَ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسِيرَيْهِمْ فَقَالَ "بَلْ نَقِفُهُمْ حَتَّى يَقْدَمَ سَعْدٌ وَعُقْبَةُ وَإِنْ لَمْ يَقْدَمَا قَتَلْنَاهُمَا بِهِمَا" فَلَمَّا قَدِمَا فَادَاهُمَا، فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا وَأَمَّا نَوْفَلٌ فَضَرَبَ بَطْنَ فَرَسِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْخَنْدَقَ فَوَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ مَعَ فَرَسِهِ فَتَحَطَّمَا جَمِيعًا فَقَتَلَهُ اللَّهُ، فَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ جِيفَتَهُ بِالثَّمَنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوهُ فَإِنَّهُ خَبِيثُ الْجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ، فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } يَعْنِي رَجَبًا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهِ.
{ قِتَالٍ فِيهِ } أَيْ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ { قُلْ } يَا مُحَمَّدُ { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } عَظِيمٌ، تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ فَصَدُّكُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ { وَكُفْرٌ بِهِ } أَيْ كُفْرُكُمْ بِاللَّهِ { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أَيِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقِيلَ وَصَدُّكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أَيْ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ { مِنْهُ أَكْبَرُ } وَأَعْظَمُ وِزْرًا { عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ } أَيِ الشِّرْكُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أَيْ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ إِلَى مُؤْمِنِي مَكَّةَ إِذَا عَيَّرَكُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَيِّرُوهُمْ أَنْتُمْ بِالْكُفْرِ وَإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَمَنْعِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ: { وَلَا يَزَالُونَ } يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا مَصْدَرَ لَهُ مِثْلُ عَسَى { يُقَاتِلُونَكُمْ } يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ { حَتَّى يَرُدُّوكُمْ } يَصْرِفُوكُمْ { عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ } جَزْمٌ بِالنَّسَقِ { وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ } بَطَلَتْ { أَعْمَالُهُمْ } حَسَنَاتُهُمْ { فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قَالَ أَصْحَابُ السَّرِيَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نُؤْجَرُ عَلَى وَجْهِنَا هَذَا، وَهَلْ نَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ سَفَرُنَا هَذَا غَزْوًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا } فَارَقُوا عَشَائِرَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ { وَجَاهَدُوا } الْمُشْرِكِينَ { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } طَاعَةً
__________
(1) أورده ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 2 / 251 وما بعدها ورواه البيهقي في سننه الكبرى: 9 / 12 بسند صحيح عن الزهري عن عروة مرسلا وقد وصله هو وابن أبي حاتم من طريق سليمان التميمي عن الحضرمي عن أبي السوار عن جندب أبي عبد الله. وسنده صحيح إن كان الحضرمي هذا هو ابن لاحق، (انظر: تخريج الألباني لأحاديث فقه السيرة للغزالي ص230،231) أسباب النزول ص (99-102).

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

لِلَّهِ، فَجَعَلَهَا جِهَادًا، { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) }

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

{ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَإِنَّهُمَا مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ مَسْلَبَةٌ لِلْمَالِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَهِيَ: "وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا"( 67-النَّحْلِ ) فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا وَهِيَ لَهُمْ حَلَالٌ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِي مَسْأَلَةِ عُمْرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ" فَتَرَكَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ { إِثْمٌ كَبِيرٌ } وَشَرِبَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } إِلَى أَنْ صَنَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُمْ بِخَمْرٍ فَشَرِبُوا وَسَكِرُوا، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَقَدَّمُوا بَعْضَهُمْ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقَرَأَ "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" هَكَذَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ بِحَذْفِ "لَا" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"( 43-النِّسَاءِ ) فَحَرَّمَ السُّكْرَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَهَا قَوْمٌ، وَقَالُوا لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ، وَتَرَكَهَا قَوْمٌ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ حِينِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَشْرَبُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَيُصْبِحُ وَقَدْ زَالَ عَنْهُ السُّكْرُ، وَيَشْرَبُ بَعْدَ صلاة الصبح فيصحوا إِذَا جَاءَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَاتَّخَذَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ صَنِيعًا وَدَعَا رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَكَانَ قَدْ شَوَى لَهُمْ رَأْسَ بَعِيرٍ، فَأَكَلُوا مِنْهُ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ حَتَّى أَخَذَتْ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمُ افْتَخَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ( وَانْتَسَبُوا ) (2) وَتَنَاشَدُوا الْأَشْعَارَ، فَأَنْشَدَ سَعْدٌ قَصِيدَةً فِيهَا هِجَاءٌ لِلْأَنْصَارِ وَفَخْرٌ لِقَوْمِهِ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِحْيَ الْبَعِيرِ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ سَعْدٍ فَشَجَّهُ مُوضِحَةً (3) فَانْطَلَقَ سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَا إِلَيْهِ الْأَنْصَارِيَّ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا
__________
(1) انظر: الوسيط للواحدي: 1 / 316، أسباب النزول ص (102-103) المستدرك للحاكم: 2 / 278.
(2) من (ب).
(3) الشجة بالرأس تكشف العظم.

رَأْيَكَ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: إِلَى قَوْلِهِ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } .
وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ بِأَيَّامٍ فَقَالَ عُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ، قَالَ أَنَسٌ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ لِلْعَرَبِ عَيْشٌ أَعْجَبَ مِنْهَا وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْخَمْرِ (1) .
[وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الآية في 34/أ سُورَةِ الْمَائِدَةِ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فَخَرَجْنَا بِالْحِبَابِ (2) إِلَى الطَّرِيقِ فَصَبَبْنَا مَا فِيهَا فَمِنَّا كَسَرَ صَبَّهُ وَمِنَّا مَنْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ وَالطِّينِ، وَلَقَدْ غُودِرَتْ (3) أَزِقَّةُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ حِينًا فَلَمَّا مُطِرَتِ اسْتَبَانَ فِيهَا لَوْنُ الْخَمْرِ وَفَاحَتْ مِنْهَا رِيحُهَا] (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرَ فَضِيخِكُمْ (5) وَإِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَفُلَانًا وَفُلَانًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. فَقَالُوا أَهْرِقْ هَذِهِ الْقِلَالَ يَا أَنَسُ قَالَ فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلَا رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ (6) .
عَنْ أَنَسٍ: سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَعُونَهَا فِي الدِّنَانِ حَتَّى تَخْتَمِرَ وَتَتَغَيَّرَ، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى صَفَا صَفْوُهَا، وَرَسَبَ كَدَرُهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَاهِيَّةِ الْخَمْرِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ أَوِ الرُّطَبِ الَّذِي اشْتَدَّ وَغَلًا مِنْ غَيْرِ عَمَلِ النَّارِ فِيهِ، وَاتَّفَقَتِ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَمْرَ نَجِسٌ يُحَدُّ شَارِبُهُ وَيَفْسُقُ وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا، وَذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَتَعَدَّى هَذَا وَلَا يَحْرُمُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِمَا كَالْمُتَّخَذِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالْفَانِيدِ (7) إِلَّا أَنْ يُسْكَرَ مِنْهُ فَيَحْرُمُ، وَقَالُوا إِذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ حَتَّى ذَهَبَ نِصْفُهُ فَهُوَ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَإِنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ قَالُوا هُوَ حَلَالٌ مُبَاحٌ شُرْبُهُ إِلَّا أَنَّ السُّكْرَ مِنْهُ حَرَامٌ، وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ أَنِ ارْزُقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ.
وَرَأَى أَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا طُبِخَ الْعَصِيرُ أَدْنَى طَبْخٍ صَارَ حَلَالًا وَهُوَ قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَهُوَ خَمْرٌ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ يُحَدُّ شَارِبُهُ.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 1 / 605،606.
(2) الخابيه فارسية معربة.
(3) تُرِكَتْ.
(4) ساقط من (ب).
(5) شراب يتخذ من البسر.
(6) رواه مسلم: في الأشربة - باب: تحريم الخمر ... برقم (1980) 3 / 1571.
(7) نوع من الحلوى.

وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ (1) فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" (2)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ" (3) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُهَا وَلَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ" (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ أَنَا يَحْيَى، بْنُ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ" (5) وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ
__________
(1) نبيذ العسل.
(2) رواه مالك: في الموطأ كتاب الأشربة برقم (9) ورواه البخاري: في الأشربة: باب الخمر من العسل 10 / 41. ومسلم: في الأشربة باب بيان أن كل مسكر خمر (2001) 3 / 1585. والمصنف في شرح السنة 11 / 350.
(3) رواه أبو داود: في الأشربة باب النهي عن المسكر 5 / 266. والترمذي: في الأشربة - باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام 5 / 606 وقال: حديث حسن غريب. وابن حبان: في الأشربة - باب: في قليل ما أسكر كثيره رقم (1385) ص 336 موارد الظمآن. وابن ماجه: في الأشربة - باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام رقم (3393-3394) 2 / 1125. والمصنف في شرح السنة: 11 / 351. وانظر التلخيص الحبير: 4 / 73.
(4) رواه البخاري: في الأشربة - باب: قوله تعالى: إنما الخمر والميسر ... 10 / 30. ومسلم: في الأشربة - باب: بيان أن كل مسكر خمر برقم (2003) 3 / 1587. والمصنف في شرح السنة: 11 / 355 وشيخ شيخه فيه: (عبد الغافر بن محمد).
(5) رواه البخاري: في الأشربة - باب: ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل ... 10 / 45. والمصنف في شرح السنة: 11 / 351.

خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْبُرِّ خَمْرًا وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا" (1) فَثَبَتَ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ أَوِ الرُّطَبِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلَاءَ، وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ، فَجَلَدَهُ عُمْرُ الْحَدَّ تَامًّا (2) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ فِي الطِّلَاءِ فَهُوَ فِيمَا طُبِخَ حَتَّى خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْكِرًا. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَاذِقِ (3) فَقَالَ سَبَقَ مُحَمَّدٌ الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْمَيْسِرِ } يَعْنِي الْقِمَارَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَيْسِرُ: مَفْعِلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ يَسَرَ لِي الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ يَيْسِرُ يَسْرًا وَمَيْسِرًا، ثُمَّ قِيلَ لِلْقِمَارِ مَيْسِرٌ وَلِلْمُقَامِرِ يَاسِرٌ وَيَسِرٌ، وَكَانَ أَصْلُ الْمَيْسِرِ فِي الْجَزُورِ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الثَّرْوَةِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَشْتَرُونَ جزورا فينحرونها ويجزؤونها عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ ثُمَّ يُسْهِمُونَ عَلَيْهَا بِعَشَرَةِ قِدَاحٍ يُقَالُ لَهَا الْأَزْلَامُ وَالْأَقْلَامُ، لِسَبْعَةٍ مِنْهَا أَنْصِبَاءُ وَهِيَ: الْفَذُّ وَلَهُ نَصِيبٌ وَاحِدٌ، وَالتَّوْأَمُ وَلَهُ نَصِيبَانِ، وَالرَّقِيبُ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَالْحِلْسُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ، وَالنَّافِسُ وَلَهُ خَمْسَةٌ، وَالْمُسْبِلُ وَلَهُ سِتَّةٌ، وَالْمُعَلَّى وَلَهُ سَبْعَةٌ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا: لَا أَنْصِبَاءَ لَهَا وَهِيَ الْمَنِيحُ وَالسَّفِيحُ وَالْوَغْدُ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقِدَاحَ فِي خَرِيطَةٍ تُسَمَّى الرَّبَابَةَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ عَدْلٍ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى الْمُجِيلَ وَالْمُفِيضَ، ثُمَّ يُجِيلُهَا وَيُخْرِجُ قَدَحًا مِنْهَا بِاسْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَأَيُّهُمْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَخَذَ نَصِيبَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَخْرُجُ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّتِي لَا أَنْصِبَاءَ لَهَا كَانَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا وَيَغْرَمُ ثَمَنَ الْجَزُورِ كُلَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا وَلَا يَغْرَمُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَدَحُ لَغْوًا ثُمَّ يَدْفَعُونَ ذَلِكَ الْجَزُورَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ وَهُوَ أَصْلُ الْقِمَارِ الَّذِي كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنْوَاعُ الْقِمَارِ كُلُّهَا، قَالَ طاووس وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ
__________
(1) رواه أبو داود: في الأشربة - باب: الخمر مم هي؟ 5 / 262. والترمذي: في الأشربة - باب: ما جاء في الحبوب التي تتخذ منها الخمر وفي سنده إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي وهو صدوق فيه لين. وقال الترمذي: هذا حديث غريب وللحديث شواهد وذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر كما تقدم. وأخرجه أحمد: 4 / 267 عن النعمان بن بشير.
(2) رواه البخاري معلقا في الأشربة باب الباذق ومن نهى عن كل مسكر في الأشربة، 10 / 62. مالك في الموطأ باب الحد في الخمر موصولا عن الزهري عن السائب بن زيد وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينه عن الزهري سمع السائب بن يزيد يقول: قام عمر على المنبر فقال: ذكر لي أن عبيد الله بن عمر وأصحابه شربوا شرابا - فساقه. والمصنف في شرح السنة 11 / 353، وسنده صحيح.
(3) ما طبخ من عصير العنب أدنى طبخ فصار شديدا وهو مسكر.

قِمَارٌ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ وَالْكِعَابِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ أَنَّهُمَا مِنَ الْمَيْسِرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } وِزْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَقَوْلِ الْفُحْشِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِثْمٌ كَثِيرٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْبَاءِ فَالْإِثْمُ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ"( 91-الْمَائِدَةِ ) { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فَمَنْفَعَةُ الْخَمْرِ اللَّذَّةُ عِنْدَ شُرْبِهَا وَالْفَرَحُ وَاسْتِمْرَاءُ الطَّعَامِ وَمَا يُصِيبُونَ مِنَ الرِّبْحِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَمَنْفَعَةُ الْمَيْسِرِ إِصَابَةُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ وَارْتِفَاقُ الْفُقَرَاءِ بِهِ. وَالْإِثْمُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ مَالُهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ سَاءَهُ ذَلِكَ فَعَادَى صَاحِبَهُ فَقَصَدَهُ بِالسُّوءِ.
{ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: إِثْمُهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نفعهما قبل 35/أ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالُوا مَاذَا نُنْفِقُ؟ فَقَالَ { قُلِ الْعَفْوَ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْعَفْوَ بِالرَّفْعِ، مَعْنَاهُ: الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْوُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، عَلَى مَعْنَى قُلْ: أَنْفِقُوا الْعَفْوَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْعَفْوِ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ يَكْتَسِبُونَ الْمَالَ وَيُمْسِكُونَ قَدْرَ النَّفَقَةِ وَيَتَصَدَّقُونَ بِالْفَضْلِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: التَّصَدُّقُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى حَتَّى لَا يَبْقَى كَلًّا عَلَى النَّاسِ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْكُوفِيُّ أَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" (1) وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا"( 67-الْفَرْقَانِ ) وَقَالَ طاووس: مَا يَسُرَ، وَالْعَفْوُ: الْيُسْرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ( وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ) "خُذِ الْعَفْوَ"( 199-الْأَعْرَافِ ) أَيِ الْمَيْسُورَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا
__________
(1) رواه البخاري: في الزكاة - باب: لا صدقة إلى عن ظهر غنى 3 / 294 وفي النفقات. ومسلم: في الزكاة - باب: أن اليد العليا خير من اليد السفلى برقم (1034) 2 / 717. والمصنف في شرح السنة: 6 / 187.

الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: "أَنْتَ أَعْلَمُ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ عَلَى الْوَاحِدِ وَهُوَ يُخَاطِبُ جَمَاعَةً، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَعْنَاهَا الْقَبِيلُ كَأَنَّهُ قَالَ: كَذَلِكَ أَيُّهَا الْقَبِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ خِطَابَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى خِطَابِ الْأُمَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ"( 1-الطَّلَاقِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } قِيلَ: مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَتَحْبِسُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يُصْلِحُكُمْ فِي مَعَاشِ الدُّنْيَا وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِيَ فِيمَا يَنْفَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهَا هَكَذَا: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا فَتَزْهَدُوا فِيهَا وَفِي إِقْبَالِ الْآخِرَةِ وَبَقَائِهَا فَتَرْغَبُوا فِيهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"( 152-الْأَنْعَامِ ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا" الْآيَةَ( 10-النِّسَاءِ ) تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى تَحَرُّجًا شَدِيدًا حَتَّى عَزَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى عَنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى كَانَ يُصْنَعُ لِلْيَتِيمِ طَعَامٌ فَيَفْضَلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَتْرُكُونَهُ وَلَا يَأْكُلُونَهُ حَتَّى يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: { قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أَيِ( الْإِصْلَاحُ لِأَمْوَالِهِمْ ) (2) مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ وَلَا أَخْذِ عَوِضٍ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَعْظَمُ أَجْرًا، لِمَا لَكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ، وَخَيْرٌ لَهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَوَفُّرِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَعَامِ نَفْسِهِ وَلَا يُوَسِّعُ مِنْ طَعَامِ الْيَتِيمِ { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ } هَذِهِ إِبَاحَةُ الْمُخَالَطَةِ أَيْ وَإِنْ تُشَارِكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَخْلِطُوهَا بِأَمْوَالِكُمْ فِي نَفَقَاتِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ وَخَدَمِكُمْ وَدَوَابِّكُمْ فَتُصِيبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عِوَضًا عَنْ قِيَامِكُمْ بِأُمُورِهِمْ وَتُكَافِئُوهُمْ عَلَى مَا تُصِيبُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ { فَإِخْوَانُكُمْ } أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَالْإِخْوَانُ يُعِينُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُصِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ وَالرِّضَا { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } لِأَمْوَالِهِمْ { مِنَ الْمُصْلِحِ } لَهَا يَعْنِي الَّذِي يَقْصِدُ بِالْمُخَالَطَةِ
__________
(1) أخرجه أبو داد في الزكاة، باب صلة الرحم: 2 / 260، وقال المنذري: في إسناده محمد بن عجلان. والنسائي في الزكاة، باب اليد العليا: 5 / 62. والإمام أحمد في المسند: 2 / 251، 471 عن أبي هريرة وصححه الحاكم على شرط مسلم: 1 / 415. وابن حبان في موارد الظمآن برقم (828)، والشافعي 2 / 418،419. والبغوي في شرح السنة: 6 / 193، وانظر تعليق المحقق. ومحمد بن عجلان، صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من الخامسة (التقريب 2 / 190 وميزان الاعتدال 3 / 644).
(2) زيادة من (ب).

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

الْخِيَانَةَ وَإِفْسَادَ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنَ الَّذِي يَقْصِدُ الْإِصْلَاحَ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } أَيْ لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَمَا أَبَاحَ لَكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَوْبِقًا لَكُمْ، وَأَصْلُ الْعَنَتِ الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ. وَمَعْنَاهُ: كَلَّفَكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } وَالْعَزِيزُ الَّذِي يَأْمُرُ بِعِزَّةٍ -سَهَّلَ عَلَى الْعِبَادِ أَوْ شَقَّ عَلَيْهِمْ { حَكِيمٌ } فِيمَا صَنَعَ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَتَرْكِ الْإِعْنَاتِ.
{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِيُخْرِجَ مِنْهَا نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا، فَلَمَّا قَدِمَهَا سَمِعَتْ بِهِ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ يُقَالُ لَهَا عِنَاقُ، وَكَانَتْ خَلِيلَتَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَتَتْهُ وَقَالَتْ: يَا أَبَا مَرْثَدٍ أَلَا تَخْلُو؟ فَقَالَ لَهَا وَيْحَكِ يَا عَنَاقُ إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِي؟ قَالَ نَعَمْ، وَلَكِنْ أَرْجِعُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْتَأْمِرُهُ، فَقَالَتْ أَبِي تَتَبَرَّمُ؟ ثُمَّ اسْتَغَاثَتْ عَلَيْهِ فَضَرَبُوهُ ضَرْبًا شَدِيدًا، ثُمَّ خَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ بِمَكَّةَ وَانْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ عَنَاقَ وَمَا لَقِيَ بِسَبَبِهَا وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (1) .
وَقِيلَ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ فِي حَقِّ الْكِتَابِيَّاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ"( 5-الْمَائِدَةِ ) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَطْلَقْتُمُ اسْمَ الشِّرْكِ عَلَى مَنْ لَا يُنْكِرُ إِلَّا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ فَارِسٍ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ الْوَثَنِيَّاتِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ فُرَافِصَةَ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَتْ تَحْتَهُ، وَتَزَوَّجَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَصْرَانِيَّةً، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً [فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلِّ سَبِيلَهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فَقَالَ: لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ] (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } بِجِمَالِهَا وَمَالِهَا، نَزَلَتْ فِي خَنْسَاءَ وَلِيدَةٍ سَوْدَاءَ، كَانَتْ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: يَا خَنْسَاءُ قَدْ ذُكِرْتِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، عَلَى سَوَادِكِ وَدَمَامَتِكِ
__________
(1) انظر: الطبري: 4 / 368، الوسيط: 1 / 320-321.
(2) ساقط من (ب).

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءَ فَغَضِبَ عَلَيْهَا وَلَطَمَهَا ثُمَّ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتُصَلِّي فَقَالَ: "هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَأُعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: أَتَنْكِحُ أَمَةً؟ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ حُرَّةً مُشْرِكَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1) قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } هَذَا إِجْمَاعٌ: لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَنْكِحَ الْمُشْرِكَ { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ } يعني المشركين 35/ب { يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أَيْ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } أَيْ بِقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أَيْ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيهِ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يَتَّعِظُونَ.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاشَانِيُّ أَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن عمر اللؤلؤي أَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتْ مِنْهُمُ الْمَرْأَةُ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } الْآيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ" فَقَالَتِ الْيَهُودُ مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بشير إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ فِي الْمَحِيضِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا فَظَنَنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا (2) .
__________
(1) رواه ابن جرير الطبري عن السدي مرسلا 4 / 368 بتحقيق أحمد شاكر.
(2) رواه مسلم: في الحيض - باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها ... برقم (302) 1 / 246. والمصنف في شرح السنة 2 / 125.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } أَيْ عَنِ الْحَيْضِ وَهُوَ مَصْدَرٌ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا كَالسَّيْرِ وَالْمَسِيرِ، وَأَصْلُ الْحَيْضِ الِانْفِجَارُ وَالسَّيَلَانُ وَقَوْلُهُ { قُلْ هُوَ أَذًى } أَيْ قَذَرٌ، وَالْأَذَى كُلُّ مَا يُكْرَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } أَرَادَ بِالِاعْتِزَالِ تَرْكَ الْوَطْءِ { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } أَيْ لَا تُجَامِعُوهُنَّ، أَمَّا الْمُلَامَسَةُ وَالْمُضَاجَعَةُ مَعَهَا فَجَائِزَةٌ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا قَبِيصَةُ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كِلَانَا جُنُبٌ وَكَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَتَّزِرَ فَيُبَاشِرَنِي وَأَنَا حَائِضٌ وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ أَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "حِضْتُ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمِيلَةِ فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضِي فَلَبِسْتُهَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَنِيفِيُّ أَنَا أَبُو الْحَارِثِ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاهِرِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَكِيمٌ (3) أَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَا صَدَقَةُ أَنَا وَكِيعٌ أَنَا مِسْعَرٌ وَسُفْيَانُ عَنِ الْمِقْدَامِ (4) بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قَالَتْ: "كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ فَأُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعٍ فِي وَأَتَعَرَّقُ الْعَرَقَ فَيَتَنَاوَلُهُ فَيَضَعُ فَاهُ فِي مَوْضِعِ فِي" (5) .
فَوَطْءُ الْحَائِضِ حَرَامٌ، وَمَنْ فَعَلَهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ، إِنْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ (6) إِلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، لِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
__________
(1) رواه البخاري في الحيض باب مباشرة الحائض 1 / 403. والمصنف في شرح السنة: 2 / 131.
(2) رواه البخاري في الحيض - باب النوم مع الحائض وهي في ثيابها 1 / 422. ومسلم: في الحيض - باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد برقم (296) 1 / 243. والمصنف في شرح السنة: 2 / 129.
(3) في شرح السنة: محمد بن حليم - باللام.
(4) في شرح السنة: المقداد بن شريح وهو خطأ.
(5) رواه مسلم: في الحيض - باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها برقم (300) 1 / 245 -246. والمصنف في شرح السنة: 2 / 134.
(6) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3 / 87.

أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ: "إِنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطًا فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ صُفْرَةً فَنِصْفُ دِينَارٍ" (1) .
وَيُرْوَى هَذَا مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَمْنَعُ الْحَيْضُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَوُجُوبَهَا، وَيَمْنَعُ جَوَازَ الصَّوْمِ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ النُّفَسَاءُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ الضَّبِّيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنَّا نَحِيضُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَطْهُرُ فَيَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصِّيَامِ وَلَا يَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ" (2) .
وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَلَا الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَلَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ غِشْيَانُهَا.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَا الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَا أبو علي اللؤلؤي أَنَا أَبُو دَاوُدَ أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ أَنَا أَفْلَتُ بْنُ خليفة قال: حدثني جَسْرَةُ بِنْتُ دَجَاجَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ" (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { حَتَّى يَطْهُرْنَ } قَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ يَعْنِي: حَتَّى يَغْتَسِلْنَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ، فَخَفَّفَ، وَمَعْنَاهُ حَتَّى يَطْهُرْنَ مِنَ الْحَيْضِ وَيَنْقَطِعَ
__________
(1) رواه الدارمي: في الوضوء - باب: من قال عليه الكفارة: 1 / 255 وانظر تحفة الأحوذي: 1 / 421-422. والمصنف في شرح السنة: 2 / 127 مع التعليق. وإسناده ضعيف لضعف عبد الكريم بن أبي المخارق (التقريب - ميزان الاعتدال). ذكره النسائي في الضعفاء والمتروكين.
(2) رواه البخاري: في الحيض - باب: لا تقضي الحائض الصلاة 1 / 421 وليس فيها تعرض لقضاء الصوم. ومسلم: في الحيض - باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة برقم (335) 1 / 265.
(3) رواه أبو داود: كتاب الطهارة - باب: في الجنب يدخل المسجد: 1 / 157 قال المنذري: وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير وفيه زيادة، وذكر بعده حديث عائشة ... سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر ثم قال: هذا أصح، وقال الخطابي: وضعفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت راويه مجهول، لا يصح الاحتجاج بحديثه (انظر مختصر المنذري: 1 / 158). والبيهقي: 2 / 442-443. وقد ضعفه الألباني وقال: وفيه جسرة بنت دجاجة، قال البخاري: وعند جسرة عجائب قال البيهقي وهذا إن صح فمحمول في الجنب على المكث فيه دون العبور بدليل الكتاب، (إرواء الغليل: 1 / 210-212).

دَمُهُنَّ { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } يَعْنِي اغْتَسَلْنَ { فَأْتُوهُنَّ } أَيْ فَجَامِعُوهُنَّ { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أَيْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ مِنْهُ، وَهُوَ الْفَرْجُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ، وَقَالَ ابن عباس: طؤوهن فِي الْفَرْجِ وَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيِ اتَّقُوا الْأَدْبَارَ، وَقِيلَ { مِنْ } بِمَعْنَى { فِي } أَيْ فِي حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْفَرْجُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ"( 9-الْجُمُعَةِ ) أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ { فَأْتُوهُنَّ } الْوَجْهَ الَّذِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَأْتُوهُنَّ وَهُوَ الطُّهْرُ، وَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ دُونَ الْفُجُورِ، وَقِيلَ: لَا تَأْتُوهُنَّ صَائِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ: وَأْتُوهُنَّ وَغِشْيَانُهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِمَّا مَنَعَهُ الْحَيْضُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ أَوْ تَتَيَمَّمْ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إِلَّا تَحْرِيمُ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْحَائِضَ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا بِاللَّيْلِ وَنَوَتِ الصَّوْمَ فَوَقْعَ غُسْلُهَا بِالنَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهَا، وَالطَّلَاقُ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَكُونُ بِدْعِيًّا، وَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْلَ الْغُسْلِ لَا يَكُونُ بِدْعِيًّا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَهِيَ عِدَّةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ غِشْيَانُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وطاووس: إِذَا غَسَلَتْ فَرْجَهَا جَازَ لِلزَّوْجِ غِشْيَانُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ.
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ أَوْ تَتَيَمَّمْ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ وطئها بشرطين: 36/أ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَالْغُسْلِ، فَقَالَ { حَتَّى يَطْهُرْنَ } يَعْنِي مِنَ الْحَيْضِ { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } يَعْنِي اغْتَسَلْنَ { فَأْتُوهُنَّ } وَمَنْ قَرَأَ يَطَّهَّرْنَ بِالتَّشْدِيدِ فَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ: الْغُسْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا"( 6-الْمَائِدَةِ ) أَيْ فَاغْتَسِلُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَبْلَ الْغُسْلِ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } قَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَالْكَلْبِيُّ: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالنَّجَاسَاتِ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَّابِينَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ لَا يَعُودُونَ فِيهَا وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنْهَا لَمْ يُصِيبُوهَا، وَالتَّوَّابُ: الَّذِي كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا"( 25-الْإِسْرَاءِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَا ابْنُ الْمُنَادِي أَنَا يُونُسُ أَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } يَقُولُ أَدْبِرْ وَأَقْبِلْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ (1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي: في التفسير، وقال: هذا حديث حسن غريب 8 / 324 والإمام أحمد عن ابن عباس 1 / 297 وعزاه المباركفوري لأبي داود وابن ماجه، انظر تحفة الأحوذي 8 / 324 وابن كثير 1 / 463. وعزاه السيوطي أيضا لعبد بن حميد والنسائي وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والبيهقي والضياء. انظر: الدر المنثور: 1 / 629.

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ أَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا: إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (1) .
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ إِنَّا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ شِئْتَ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي، حَتَّى سَرَى أَمْرُهُمَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } الْآيَةَ يَعْنِي مَوْضِعَ الْوَلَدِ { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ وَأَنَّى حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ يَكُونُ سُؤَالًا عَنِ الْحَالِ وَالْمَحَلِّ مَعْنَاهُ: كَيْفَ شِئْتُمْ وَحَيْثُ شِئْتُمْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ { أَنَّى شِئْتُمْ } إِنَّمَا هُوَ الْفَرْجُ، وَمِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ { حَرْثٌ لَكُمْ } أَيْ مَزْرَعٌ لَكُمْ وَمَنْبَتٌ لِلْوَلَدِ، بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَدْبَارِ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ هُوَ الْقُبُلُ لَا الدُّبُرُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ هَذَا فِي الْعَزْلِ، يَعْنِي إِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْزِلُوا وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: حَرْثُكَ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِشْ، وَإِنْ شِئْتَ فَارْوِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تُسْتَأْمَرُ الْحُرَّةُ فِي الْعَزْلِ وَلَا تُسْتَأْمَرُ الْجَارِيَةُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ الْعَزْلَ وَقَالُوا: هُوَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ، وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كُنْتُ أَمْسِكُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } فَقَالَ أَتَدْرِي فِيمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قُلْتُ لَا قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (2) .
وَيُحْكَى عَنْ مَالِكٍ إِبَاحَةُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَقِيَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عُمَرَ مَا حَدِيثٌ يُحَدِّثُ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا بِإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فَقَالَ: كَذَبَ الْعَبْدُ وَأَخْطَأَ، إِنَّمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يُؤْتَوْنَ فِي فُرُوجِهِنَّ مِنْ أَدْبَارِهِنَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَدْبَارِ مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَطِيبِ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا عُمَرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي
__________
(1) رواه البخاري: في التفسير: سورة البقرة - باب: نساؤكم حرث لكم 8 / 189. ومسلم: في النكاح - باب: جواز مجامعة امرأته في قبلها من قدامها ...... برقم (1435) 2 / 1058. والمصنف في شرح السنة: 6 / 105.
(2) عزاه السيوطي للدارقطني في غرائب مالك. انظر: الدر المنثور: 1 / 636.

أَدْبَارِهِنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فِي أَيِّ الْخُرْمَتَيْنِ أَوْ فِي أَيِّ الْخَرَزَتَيْنِ أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ أَمِنَ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ أَوْ مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ أَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ النَّهَاوَنْدِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانَ أَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } قَالَ عَطَاءٌ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ قَالَ مُجَاهِدٌ { وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } يَعْنِي إِذَا أَتَى أَهْلَهُ فَلْيَدْعُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا" (3) . وَقِيلَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يَعْنِي: طَلَبَ الْوَلَدِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ" (4) وَقِيلَ: هُوَ التَّزَوُّجُ بِالْعَفَافِ لِيَكُونَ الْوَلَدُ صَالِحًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ
__________
(1) مسند الشافعي: 2 / 360. وابن حبان: (1299) وصححه. وأحمد: 5 / 213 عن خزيمة بلفظ "فإن الله لا يستحي من الحق .." الطحاوي: 2 / 25 وسنده صحيح (انظر الفتح: 8 / 143).
(2) رواه أبو داود: في النكاح - باب جامع في النكاح: 3 / 77. وابن ماجه: في النكاح - باب: النهي عن إتيان النساء في أدبارهن برقم (1923) 2 / 619. بلفظ: لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها، وقال في الزوائد: إسناده صحيح. والمصنف في شرح السنة: 9 / 106.
(3) رواه البخاري: في النكاح - باب: ما يقول الرجل إذا أتى أهله: 9 / 28. ومسلم: في النكاح باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم (1434) 2 / 1058.
(4) رواه مسلم: في الوصية - باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته برقم (1631)3 / 1255. والمصنف في شرح السنة: 1 / 300.

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" (1) وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْأَفْرَاطِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابن شهاب 36/ب عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" (2) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يَعْنِي الْخَيْرَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } صَائِرُونَ إِلَيْهِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) }
__________
(1) رواه البخاري: في النكاح - باب الأكفاء في الدين: 9 / 131. ومسلم: في النكاح - باب: استحباب نكاح ذات الدين برقم (1466) 2 / 1086. والمصنف في شرح السنة: 9 / 8.
(2) رواه البخاري: في الأيمان والنذور - باب: قول الله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم: 11 / 541. ومسلم: في البر والصلة والآداب - باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه برقم (2632) 4 / 2028. والمصنف في شرح السنة: 5 / 450.

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَتَنِهِ عَلَى أُخْتِهِ بَشِيرِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ شَيْءٌ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمَهُ وَلَا يُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ فِيهِ قَالَ: قَدْ حَلَفْتُ بِاللَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَلَا يَحِلُّ لِي إِلَّا أَنْ تَبِرَّ بِيَمِينِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ حِينَ خَاضَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ (2) ، وَالْعُرْضَةُ: أَصْلُهَا الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّابَّةِ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ عُرْضَةٌ، لِقُوَّتِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ هُوَ عُرْضَةٌ لَهُ حَتَّى قَالُوا لِلْمَرْأَةِ هِيَ عُرْضَةُ النِّكَاحِ إِذَا صَلَحَتْ لَهُ وَالْعُرْضَةُ كُلُّ مَا يَعْتَرِضُ فَيَمْنَعُ عَنِ الشَّيْءِ وَمَعْنَى الْآيَةِ { لَا تَجْعَلُوا } الْحَلِفَ بِاللَّهِ سَبَبًا مَانِعًا لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى يُدْعَى أَحَدُكُمْ إِلَى صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ بِرٍّ فَيَقُولُ حَلَفْتُ بِاللَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَهُ، فَيَعْتَلُّ بِيَمِينِهِ فِي تَرْكِ الْبِرِّ { أَنْ تَبَرُّوا } مَعْنَاهُ أَنْ لَا تَبِرُّوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى "يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا"( 176-النِّسَاءِ ) أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا { وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
__________
(1) انظر: أسباب النزول ص (110)، الوسيط: 1 / 324.
(2) أخرجه الطبري: 4 / 423.

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } اللَّغْوُ كُلُّ مُطْرَحٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اللَّغْوِ فِي الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مَا يَسْبِقُ إِلَى اللِّسَانِ عَلَى عَجَلَةٍ لِصِلَةِ الْكَلَامِ، مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَقَصْدٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ وَكَلَّا وَاللَّهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ (2) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ: أَيْمَانُ اللَّغْوِ مَا كَانَتْ فِي الْهَزْلِ وَالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَةِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَنْ شَيْءٍ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَكْحُولٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالُوا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَلَيٌّ: هُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْغَضَبِ، وَبِهِ قَالَ طاووس وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْيَمِينُ فِي الْمَعْصِيَةِ لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، بَلْ يَحْنَثُ وَيُكَفِّرُ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَيُكَفِّرُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ؟ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَتُهُ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا وَكُلُّ يَمِينٍ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَفِيَ بِهَا فَلَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَوْ أَمَرْتُهُ بِالْكَفَّارَةِ لَأَمَرْتُهُ أَنْ يُتِمَّ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ تَقُولُ لِإِنْسَانٍ أَعْمَى اللَّهُ بَصَرِي إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا [أَخْرَجَنِي اللَّهُ مِنْ مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غَدًا، وَيَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ إِنْ فَعَلَ كَذَا] (3) . فَهَذَا كُلُّهُ لَغْوٌ لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِهِ وَلَوْ آخَذَهُمْ بِهِ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ "وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ"( 11-يُونُسَ )، وَقَالَ "وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ"( 11-الْإِسْرَاءِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } أَيْ عَزَمْتُمْ وَقَصَدْتُمْ إِلَى الْيَمِينِ، وَكَسَبَ الْقَلْبُ الْعَقْدَ وَالنِّيَّةَ { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِاللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ: فَالْيَمِينُ بِاللَّهِ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِي أَعْبُدُهُ، وَالَّذِي أُصَلِّي لَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْيَمِينُ بِأَسْمَائِهِ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَنَحْوَهُ، وَالْيَمِينُ بِصِفَاتِهِ كَقَوْلِهِ: وَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ
__________
(1) رواه مسلم: في الإيمان - باب: ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها برقم (1649) 3 / 2272.
(2) رواه أبو داود: في الإيمان - باب: لغو اليمين 4 / 359 وقال المنذري (وذكر أن غير واحد رواه عن عطاء عن عائشة موقوفا). انظر: الزيلعي في نصب الراية: 3 / 293.
(3) ساقط من (أ).

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

وَنَحْوَهَا، فَإِذَا حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَحَنِثَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ كَانَ، إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ حَالَةَ مَا حَلَفَ فَهُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالُوا إِنْ كَانَ عَالِمًا فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَهُوَ يَمِينُ اللَّغْوِ عِنْدَهُمْ وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مِثْلَ أَنْ قَالَ: وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَنَبِيِّ اللَّهِ، أَوْ حَلَفَ بِأَبِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَلَفَ، وَهُوَ يَمِينٌ مَكْرُوهَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ" (1) .
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } يُؤْلُونَ أَيْ يَحْلِفُونَ، وَالْأَلْيَةُ: الْيَمِينُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: الْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضِرَارِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَا يُحِبُّ امْرَأَتَهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ، فَيَحْلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا أَبَدًا، فَيَتْرُكُهَا لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ، وَكَانُوا عَلَيْهِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَضَرَبَ اللَّهُ لَهُ أَجَلًا فِي الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَبَدًا أَوْ سَمَّى مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، يَكُونُ مُولِيًا، فلا يتعرض له قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّهَا يُوقَفُ وَيُؤْمَرُ
__________
(1) رواه البخاري: في الأيمان - باب: لا تحلفوا بآبائكم 11 / 530. ومسلم: في الأيمان والنذور - باب: النهي عن الحلف بغير الله برقم (1646) 3 / 1266. وزاد عمر قال: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عله وسلم نهى عنها ذاكرا ولا أثرا، انظر شرح السنة للمصنف حول الحلف واليمين 10 / 3-8.

بِالْفَيْءِ أَوْ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمَرْأَةِ، وَالْفَيْءُ هُوَ الرُّجُوعُ عَمَّا قَالَهُ بِالْوَطْءِ، إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِالْقَوْلِ، فإن لم يفء ولم يُطَلِّقْ طَلَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَاحِدَةً، وَذَهَبَ إِلَى الْوُقُوفِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عُمْرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عُمَرَ، قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَقُولُ بِوَقْفِ الْمُولِي. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ: تَقَعُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا، بَلْ هُوَ حَالِفٌ، فَإِذَا وَطِئَهَا قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْوَقْفِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ بَقَاءَ الْمُدَّةِ شَرْطٌ لِلْوَقْفِ وَثُبُوتِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْءِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ مَضَتِ الْمُدَّةُ. وَعِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوَقْفِ يَكُونُ مُولِيًا، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فِي حَقِّ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ جَمِيعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهَا ضُرِبَتْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الطَّبْعِ، وَهُوَ قِلَّةُ صَبْرِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَتَنَصَّفُ مُدَّةُ الْعُنَّةِ بِالرِّقِّ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ بِرِقِّ الزَّوْجِ، كَمَا قَالَا فِي الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أَيِ انْتِظَارُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالتَّرَبُّصُ: التَّثَبُّتُ وَالتَّوَقُّفُ { فَإِنْ فَاءُوا } رَجَعُوا عَنِ الْيَمِينِ بِالْوَطْءِ { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَإِذَا وَطِئَ خَرَجَ عَنِ الْإِيلَاءِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ لَا فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ قَرَّبْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ صِرْتِ طَالِقًا، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ فَهُوَ مُولٍ لِأَنَّ الْمُولِيَ مَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرٌ بِالْوَطْءِ، وَيُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنْ فَاءَ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوِ الْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ، وَإِنِ الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يَلْزَمُهُ مَا الْتُزِمَ فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْإِعْتَاقِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } أَيْ حَقَّقُوهُ بِالْإِيقَاعِ { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } { عَلِيمٌ } بِنِيَّاتِهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا زَوْجُهَا، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الْعَزْمَ، وَقَالَ: { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا وَالْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يُسْمَعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ } أَيِ الْمُخَلَّيَاتُ مِنْ حِبَالِ أَزْوَاجِهِنَّ { يَتَرَبَّصْنَ } يَنْتَظِرْنَ { بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَلَا يَتَزَوَّجْنَ، وَالْقُرُوءُ: جَمْعُ قَرْءٍ، مِثْلُ فَرْعٍ، وَجَمْعُهُ الْقَلِيلُ أَقْرُؤٌ وَالْجَمْعُ الْكَثِيرُ أَقْرَاءٌ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ

الْعِلْمِ فِي الْقُرُوءِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ وَهُوَ قَوْلُ عُمْرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأصحاب الرأي 37/أ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ "دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ" (1) وَإِنَّمَا تَدَعُ الْمَرْأَةُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَالزُّهْرِيِّ وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" (2) .
فَأَخْبَرَ أَنَّ زَمَانَ الْعِدَّةِ هُوَ الطُّهْرُ، وَمِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْغَزْوِ وَلَمْ يَغْشَ نِسَاءَهُ فَتَضِيعُ أَقْرَاؤُهُنَّ وَإِنَّمَا تُضَيَّعُ بِالسَّفَرِ زَمَانَ الطُّهْرِ لَا زَمَانَ الْحَيْضَةِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إِذَا شَرَعَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا أَطْهَارًا وَتَحْسِبُ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ قَرْءًا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا طَعَنَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحَيْضُ يَقُولُ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ يَقَعُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، يُقَالُ أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا حَاضَتْ وَأَقْرَأَتْ: إِذَا طَهُرَتْ، فَهِيَ مَقْرِئٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَصْلِهِ فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْوَقْتُ لِمَجِيءِ الشَّيْءِ وَذَهَابِهِ، يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ لِقُرْئِهِ وَلِقَارِئِهِ أَيْ لِوَقْتِهِ الَّذِي يَرْجِعُ فِيهِ وَهَذَا قَارِئُ الرِّيَاحِ أَيْ وَقْتُ هُبُوبِهَا، قَالَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُذَلِيُّ: كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ
أَيْ لِوَقْتِهَا، وَالْقَرْءُ يَصْلُحُ لِلْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَأْتِي لِوَقْتٍ، وَالطُّهْرُ مِثْلُهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَرْأِ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْجَمْعُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةَ سَلًّا قَطُّ أَيْ لَمْ تَضُمَّ رَحِمُهَا عَلَى وَلَدٍ وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْمِقْرَاةِ وَهِيَ الْحَوْضُ أَيْ جَمَعْتُهُ، بِتَرْكِ هَمْزِهَا، فَالْقَرْءُ هَاهُنَا احْتِبَاسُ الدَّمِ وَاجْتِمَاعُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّرْجِيحُ
__________
(1) رواه أبو داود: في الطهارة - باب: من قال تغتسل من طهر إلى طهر 1 / 191. والترمذي: في الطهارة - باب: ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة 1 / 393. وابن ماجه: في الطهارة - باب: ما جاء في المستحاضة 1 / 204. والدارقطني: في الحيض - 1 / 212 وانظر نصب الراية: 1 / 202-204.
(2) رواه البخاري في الطلاق - باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها برقم: (1471) 3 / 1093. والمصنف في شرح السنة: 9 / 202-203.

فِيهِ لِلطُّهْرِ لِأَنَّهُ يَحْبِسُ الدَّمَ وَيَجْمَعُهُ، وَالْحَيْضُ يُرْخِيهِ وَيُرْسِلُهُ، وَجُمْلَةُ الْحُكْمِ فِي الْعِدَدِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، سَوَاءٌ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى "وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ"( 4-الطَّلَاقِ ) فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا نَظَرَ: إِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، سَوَاءٌ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ تَحِيضُ، أَوْ لَا تَحِيضُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"( 234-الْبَقَرَةِ ) وَإِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا"( 49-الْأَحْزَابِ ).
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ نَظَرَ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ قَطُّ أَوْ بَلَغَتْ فِي الْكِبَرِ سِنَّ الْآيِسَاتِ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ"( 4-الطَّلَاقِ ).
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَقَوْلُهُ { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ كَالْحُرَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَفِي الْوَفَاةِ عِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، وَفِي الطَّلَاقِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا قَرْءَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَشَهْرٌ وَنِصْفٌ: وَقِيلَ شَهْرَانِ كَالْقُرْأَيْنِ فِي حَقِّ مَنْ تَحِيضُ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ وَيُطَلِّقُ طَلْقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ بِحَيْضَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي الْحَيْضَ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلَ مُرَاجَعَتَهَا فَتَقُولُ: قَدْ حِضْتُ الثَّالِثَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْحَمْلَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ كِتْمَانُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي رَحِمِهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ لِتُبْطِلَ حَقَّ الزَّوْجِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَالْوَلَدِ { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنَاتِ وَإِنْ كَانَتِ الْمُؤْمِنَةُ وَالْكَافِرَةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءً كَمَا تَقُولُ، أَدِّ حَقِّي إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا، يَعْنِي أَدَاءَ الْحُقُوقِ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ.
{ وَبُعُولَتُهُنَّ } يَعْنِي أَزْوَاجَهُنَّ جَمْعُ بَعْلٍ، كَالْفُحُولَةِ جَمْعُ فَحْلٍ، سُمِّيَ الزَّوْجُ بَعْلًا لِقِيَامِهِ بِأُمُورِ زَوْجَتِهِ وَأَصْلُ الْبَعْلِ السَّيِّدُ وَالْمَالِكُ { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } أَوْلَى بِرَجْعَتِهِنَّ إِلَيْهِمْ { فِي ذَلِكَ } أَيْ إِنْ أَرَادُوا بِالرَّجْعَةِ الصَّلَاحَ وَحَسُنَ الْعِشْرَةِ لَا الْإِضْرَارَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَإِذَا قَرُبَ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، رَاجَعَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا مُدَّةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ إِذَا قَرُبَ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَلَّقَهَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ تَطْوِيلَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا { وَلَهُنَّ } أَيْ لِلنِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ مِثْلُ

الَّذِي عَلَيْهِنَّ لِلْأَزْوَاجِ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَاهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِامْرَأَتِي كَمَا تُحِبُّ امْرَأَتِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ طَرَفَةَ السِّجْزِيُّ أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ أَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا حَمَّادٌ أَنَا أَبُو قَزَعَةَ سُوِيْدُ بْنُ حُجَيْرٍ الْبَاهِلِيُّ عَنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: "أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَأَنْ تَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحَ، وَلَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ" (1)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَرَدَ قِصَّةَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ خُطْبَتَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ: "فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عِوَانٌ عِنْدَكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ: كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ" (2) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أحمد الطوسي، 37/ب أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَنَا يَعْلَى بْنُ عَبَيْدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِكُمْ" (3) .
__________
(1) رواه أبو داود في النكاح - باب: حق المرأة على زوجها 3 / 67-68. وابن ماجه: في النكاح - باب: في حق المرأة على الزوج برقم (1850) 1 / 593. رواه أحمد: 4 / 446-447 و5 / 3-5 جزء من حدث عن معاوية بن حيدة. والمصنف في شرح السنة: 9 / 160.
(2) سبق تخريجه ص (219) هامش رقم (2). هو جزء من حديث حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه مسلم في الحج - باب: حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم:(1218) 2 / 886.
(3) أبو داود: في السنة: بلفظ (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا): 7 / 44 وبهذا اللفظ أخرجه الدارمي في الرقاق باب: في حسن الخلق: 2 / 323. والترمذي: في الرضاع - باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها 4 / 325 وقال: حسن صحيح. وابن حبان: (1926) وصححه. وأحمد: 2 / 250 و472 عن أبي هريرة. والمصنف في شرح السنة: 9 / 180.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا سَاقَ إِلَيْهَا مِنَ الْمَهْرِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالْجِهَادِ، وَقِيلَ بِالْعَقْلِ، وَقِيلَ بِالشَّهَادَةِ، وَقِيلَ بِالْمِيرَاثِ، وَقِيلَ بِالدِّيَةِ وَقِيلَ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ بِالرَّجْعَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِالْإِمَارَةِ وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ مَعْنَاهُ فَضِيلَةٌ فِي الْحَقِّ { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ أَنَا حُذَيْفَةُ أَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ خَرَجَ فِي غَزَاةٍ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى رِجَالًا يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا" (1) .
{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي الِابْتِدَاءِ يُطَلِّقُونَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَلَا عِدَدٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، فَإِذَا قَارَبَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ ثُمَّ رَاجَعَهَا يَقْصِدُ مُضَارَّتَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } يَعْنِي الطَّلَاقَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ عَقِيبَهُ مَرَّتَانِ، فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجِ آخَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } قِيلَ: أَرَادَ بِالْإِمْسَاكِ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: الْإِمْسَاكُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، يَعْنِي إِذَا رَاجَعَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ كُلُّ مَا
__________
(1) رواه ابن ماجه: في النكاح: باب حق الزوج على المرأة برقم (1853) 1 / 595. وأبو داود: في النكاح: باب في حق الزوج على المرأة 3 / 67. وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (1290) ص 314 وأحمد: 4 / 381، عن عبد الله بن أبي أوفى. 5 / 228 عن معاذ بن جبل 6 / 76 عن عائشة بلفظ آخر. والمصنف في شرح السنة: 9 / 158. وذكره الهيثمي في المجمع 4 / 309 وقال: رواه بتمامة البزار وأحمد باختصار ورجاله رجال الصحيح.

يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ، مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أَنْ يَتْرُكَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقِيلَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَصَرِيحُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ثَلَاثَةٌ: الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الصَّرِيحُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَحَسْبُ، وَجُمْلَةُ الْحُكْمِ فِيهِ أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجُوزُ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ خَالَعَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِإِذْنِهَا، وَإِذْنِ وَلِيِّهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ، مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ، فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجِ آخَرَ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ رَقِيقًا، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَدَدُ الطَّلَاقِ بِالزَّوْجِ، فَالْحُرُّ يَمْلِكُ عَلَى زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ، يَعْنِي يُعْتَبَرُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ حَالُ الرَّجُلِ وَفِي قَدْرِ الْعِدَّةِ حَالُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَرْأَةِ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ فَيَمْلِكُ الْعَبْدُ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ وَلَا يَمْلِكُ الْحُرُّ عَلَى زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ } أَعْطَيْتُمُوهُنَّ { شَيْئًا } الْمُهُورَ وَغَيْرَهَا ثُمَّ اسْتَثْنَى الْخُلْعَ فَقَالَ { إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَيُقَالُ: حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَكَانَتْ تَبْغَضُهُ وَهُوَ يُحِبُّهَا فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ فَأَتَتْ أَبَاهَا فَشَكَتْ إِلَيْهِ زَوْجَهَا وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ يُسِيءُ إِلَيَّ وَيَضْرِبُنِي فَقَالَ: ارْجِعِي إِلَى زَوْجِكِ فَإِنِّي أَكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَزَالَ رَافِعَةً يَدَيْهَا تَشْكُو زَوْجَهَا قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ وَبِهَا أَثَرُ الضَّرْبِ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى زَوْجِكِ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ أَبَاهَا لَا يَشْكِيهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَتْ إِلَيْهِ زَوْجَهَا وَأَرَتْهُ آثَارًا بِهَا مِنْ ضَرْبِهِ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَنَا وَلَا هُوَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثَابِتٍ فَقَالَ: "مَا لَكَ وَلِأَهْلِكَ؟" فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا غَيْرَكَ، فَقَالَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ فَكَرِهَتْ أَنْ تَكْذِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهَا فَقَالَتْ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ قَدْ خَشِيتُ أَنْ يُهْلِكَنِي فَأَخْرِجْنِي مِنْهُ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتُ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْكَ خِلَافَهُ ، هُوَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ مَحَبَّةً لِزَوْجَتِهِ، وَلَكِنِّي أَبْغَضُهُ فَلَا أَنَا وَلَا هُوَ، قَالَ ثَابِتٌ: قَدْ أَعْطَيْتُهَا حَدِيقَةً فَلْتَرُدَّهَا عَلَيَّ وَأُخَلِّي سَبِيلَهَا فَقَالَ لَهَا: "تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَتَمْلِكِينَ أَمْرَكِ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا ثَابِتُ خُذْ

مِنْهَا مَا أَعْطَيْتَهَا وَخَلِّ سَبِيلَهَا" (1) فَفَعَلَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا زَاهِرُ بْنُ جَمِيلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ أَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إن ثابت مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلَّا أَنْ يَخَافَا } أَيْ يَعْلَمَا { أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ { إِلَّا أَنْ يَخَافَا } بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمَا، يَعْنِي: يَعْلَمُ الْقَاضِي وَالْوَلِيُّ ذَلِكَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { فَإِنْ خِفْتُمْ } فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ خَافَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { يَخَافَا } بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يَعْلَمُ الزَّوْجَانِ مِنْ أَنْفُسِهِمَا { أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } تَخَافُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَعْصِيَ اللَّهَ فِي أَمْرِ زَوْجِهَا، وَيَخَافُ الزَّوْجُ إِذَا لَمْ تُطِعْهُ امْرَأَتُهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهَا، فَنَهَى اللَّهُ الرَّجُلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنِ امْرَأَتِهِ شَيْئًا مِمَّا آتَاهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، فَقَالَتْ: لَا أُطِيعُ لَكَ أمرا ولا أطالك مَضْجَعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أَيْ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا مِنْهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ { عَلَيْهِمَا } الزَّوْجَ دُونَ الْمَرْأَةِ، فَذَكَرَهُمَا جَمِيعًا لِاقْتِرَانِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى "نَسِيَا حُوتَهُمَا"( 61-الْكَهْفِ )، وَإِنَّمَا النَّاسِي فَتَى مُوسَى دُونَ مُوسَى وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ لا جناح 38/أ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لَا جُنَاحَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي النُّشُوزِ إِذَا خَشِيَتِ الْهَلَاكَ وَالْمَعْصِيَةَ، وَلَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وَأَعْطَتْ بِهِ الْمَالَ، لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ إِتْلَافِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلَا عَلَى الزَّوْجِ فِيمَا أَخَذَ مِنْهَا مِنَ الْمَالِ إِذَا أَعْطَتْهُ طَائِعَةً، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أن الخلع جائز على أَكْثَرِ مِمَّا أَعْطَاهَا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَجُوزُ بِأَكْثَرِ مِمَّا أَعْطَاهَا مِنَ الْمَهْرِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَأْخُذُ مِنْهَا جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا بَلْ يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عَلَى غَيْرِ حَالِ النُّشُوزِ غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْوَصْلَةِ بِلَا سَبَبٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنَجْوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
__________
(1) رواه مختصرا أبو داود عن حبيبة بنت سهل الأنصارية في الطلاق - باب في الخلع 3 / 143. والنسائي من حديث الربيع بنت معوذ في الطلاق - باب عدة المختلعة 6 / 186. وابن جرير في التفسير 4 / 554. وانظر الكافي الشاف ص19-20.
(2) رواه البخاري: في الطلاق - باب: الخلع وكيف الطلاق فيه 9 / 395. والمصنف في شرح السنة - 9 / 194.

مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُسْتَمْلِي أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ شَاكِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَبَّابٍ أَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقَ" (1) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنَجْوَيْهِ أَنَا ابْنُ أُبَيٍّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أُبَيٌّ أَنَا أُسَامَةُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الجنة" (2) .
وقال طاووس: الْخُلْعُ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ خَوْفِ النُّشُوزِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالْآيَةُ حَرَّجَتْ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَالِ خَوْفِ النُّشُوزِ غَالِبًا، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ على مال فقلبت وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ وَانْتُقِصَ بِهِ الْعَدَدُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْخُلْعِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ يُنْتَقَصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ لَا يُنْتَقَصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قال عكرمة وطاووس وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْخُلْعَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ، { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
__________
(1) حديث ضعيف رواه أبو داود في الطلاق - باب: في كراهية الطلاق" 3 / 92. وابن ماجه: في الطلاق - باب رقم (1) برقم (2018)، والدارقطني في الطلاق عن معاذ: 4 / 35. والحاكم: 2 / 196 وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قال المنذري: والمشهور فيه هو المرسل وهو غريب، وقال البيهقي وفي رواية ابن أبي شيبة (يعني محمد بن عثمان) عن عبد الله بن عمر، موصولا ولا أراه يحفظه، والمصنف في شرح السنة 9 / 195. وإن ما قاله أبو حاتم والدارقطني والبيهقي هو الراجح أن الحديث مرسل وضعفه الألباني في إرواء الغليل 7 / 106 فلينظر (انظر مختصر المنذري 3 / 93 وانظر: التلخيص الحبير لابن حجر: 3 / 205.
(2) رواه أبو داود: في الطلاق - باب: الخلع: 3 / 142. والترمذي: في الطلاق - باب: ما جاء في المختلعات 4 / 367 وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه: في الطلاق - باب: كراهية الخلع للمرأة برقم (2055) 1 / 662. والدارمي: في الطلاق - باب: النهي عن أن تسأل المرأة زوجها طلاقها 2 / 162. وأحمد: 5 / 277،283 عن ثوبان. والمصنف في شرح السنة 9 / 195 وإسناده قوي.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أَيْ هَذِهِ أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَحُدُودُ اللَّهِ، مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ { فَلَا تَعْتَدُوهَا } فَلَا تُجَاوِزُوهَا { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } أَيْ مِنْ بَعْدِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أَيْ: غَيْرَ الْمُطَلِّقِ فَيُجَامِعُهَا، وَالنِّكَاحُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ وَالْعَقْدَ جَمِيعًا، نَزَلَتْ فِي تَمِيمَةَ وَقِيلَ فِي عَائِشَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ الْقُرَظِيِّ كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمِّهَا رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَتِيكٍ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ" قَالَتْ نَعَمْ قَالَ: "لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ" (1) .
وَرُوِيَ أَنَّهَا لَبِثَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي قَدْ مَسَّنِي فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبْتِ بِقَوْلِكِ الْأَوَّلِ فَلَنْ نُصَدِّقَكِ فِي الْآخَرِ. فَلَبِثَتْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجِعُ إِلَى زَوْجِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ زَوْجِي الْآخَرَ قَدْ مَسَّنِي وَطَلَّقَنِي فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: قَدْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَيْتِهِ وَقَالَ لَكِ مَا قَالَ فَلَا تَرْجِعِي إِلَيْهِ، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَتَتْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَتْ لَهُ: مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَئِنْ رَجَعْتِ إِلَيْهِ لَأَرْجُمَنَّكِ" (2) . قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } يَعْنِي فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَمَا جَامَعَهَا { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يَعْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ { أَنْ يَتَرَاجَعَا } يَعْنِي بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ { إِنْ ظَنَّا } أَيْ عَلِمَا وَقِيلَ رَجَوَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } أَيْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الصَّلَاحُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ إِنْ عَلِمَا أَنَّ نِكَاحَهُمَا عَلَى غَيْرِ الدُّلْسَةِ، وَأَرَادَ بِالدُّلْسَةِ التَّحْلِيلَ، وَهُوَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالُوا: إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا زَوْجًا آخَرَ لِيُحَلِّلَهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ: فَإِنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِي النِّكَاحِ
__________
(1) رواه البخاري: في الطلاق - باب: من قال لامرأته أنت علي حرام 9 / 371. ومسلم: في النكاح - باب: لا تحل المطلقة ثلاثة لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره برقم (1433) 2 / 1055. والمصنف في شرح السنة: 9 / 232.
(2) انظر الكافي الشاف لابن حجر ص20 وقد عزاه لعبد الرزاق وهي عنده مختصرة / المصنف 6 / 347.

مَعَ الثَّانِي أَنَّهُ يُفَارِقُهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَيَحْصُلُ بِهِ التَّحْلِيلُ وَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ إِذَا كَانَ فِي عَزْمِهَا ذَلِكَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ أَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ أَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ هُوَ الْجَزَرِيُّ عَنْ أَبِي وَاصِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: "لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ" (1) وَقَالَ نَافِعٌ أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَانْطَلَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ فَتَزَوَّجَهَا لِيَحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَقَالَ: لَا إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ" (2) { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يَعْنِي يَعْلَمُونَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
__________
(1) حديث ابن مسعود وله طريقان الأول عن أبي قيس عن هزيل بن عبد الرحمن عنه بلفظ: (لعن رسول الله المحلل والمحلل له). أخرجه الترمذي في النكاح - باب ما جاء في المحلل والمحلل له 4 / 264 وقال هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في الطلاق مطولا - باب إحلال المطلقة ثلاثا وما فيه من التغليظ 6 / 149. والدارمي في النكاح - باب في النهي عن التحليل 5 / 158. والبيهقي 7 / 208. وأحمد 1 / 448 ، 462. وقال الحافظ في التلخيص 3 / 170 (وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري). والطريق الآخر عن أبي الواصل. أخرجها أحمد 1 / 450 ، 451 وأبو الواصل مجهول كما قال الحسيني وذكر الحافظ طريقا ثالثة أخرجها عبد الرزاق من طريق عبد الله بن مرة عن الحارس عن ابن مسعود، والحارث هذا هو الأعور الكوفي وهو ضعيف وقالوا كذاب. وله طرق أخرى عن أبي هريرة، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وعقبة بن عامر. رواها أبو داود وابن ماجه والترمذي وأحمد وغيرهم. فالحديث صحيح. انظر إرواء الغليل 6 / 307-311.
(2) صححه الحاكم على شرط الشيخين: 2 / 199.

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى ثَابِتَ بْنَ يَسَارٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى إِذَا قَرُبَ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا. (1) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 5 / 10.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أَيْ أَشْرَفْنَ عَلَى أَنْ يَبِنَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا انْقَضَتْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ إِمْسَاكُهَا، فَالْبُلُوغُ هَاهُنَا بُلُوغُ مُقَارَبَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ } حَقِيقَةُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْبُلُوغُ يَتَنَاوَلُ الْمَعْنَيَيْنِ، يُقَالُ: بَلَغَ الْمَدِينَةَ إِذَا قَرُبَ مِنْهَا وَإِذَا دَخَلَهَا { فَأَمْسِكُوهُنَّ } أَيْ رَاجَعُوهُنَّ { بِمَعْرُوفٍ } قِيلَ الْمُرَاجَعَةُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا وَأَنْ يُرَاجِعَهَا بِالْقَوْلِ لَا بِالْوَطْءِ.
{ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أَيِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَيَكُنَّ أَمْلَكَ بِأَنْفُسِهِنَّ { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } أَيْ لَا تَقْصِدُوا بِالرَّجْعَةِ الْمُضَارَّةَ بِتَطْوِيلِ الْحَبْسِ { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي أضر 38/ب بِنَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } قَالَ الْكَلْبِيُّ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: "فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الشَّرْعِ فَهُوَ مُتَّخِذٌ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، وَيُعْتِقُ وَيَقُولُ: مِثْلَ ذَلِكَ [وَيَنْكِحُ وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ] (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْجَوْهَرِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَبِيبِ بْنِ أَرْدَكَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ مَاهَكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ" (2) . { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } بِالْإِيمَانِ { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ } يَعْنِي: الْقُرْآنَ { وَالْحِكْمَةَ } يَعْنِي: السُّنَّةَ، وَقِيلَ: مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ { يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
__________
(1) ساقط من (أ).
(2) رواه أبو داود: في الطلاق - باب: في الطلاق على الهزل 3 / 118-119. والترمذي: في الطلاق - باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق 4 / 362 وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه: في الطلاق - باب: من طلق أو نكح أو راجع لاعبا برقم (2039) 1 / 658. والحاكم: 2 / 197 وصححه والدارقطني في السنن 3 / 256-257. وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه: قال النسائي: منكر الحديث ووثقه غيره، قال الحافظ فهو على هذا حسن (تحفة الأحوذي: 4 / 362). والمصنف في شرح السنة 9 / 219 انظر التلخيص الحبير 3 / 207 وإرواء الغليل 6 / 224-228.

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) }
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ يَسَارٍ أُخْتِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ، كَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْبَدَّاحِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَجْلَانَ فَطَلَّقَهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟ لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } فَقُلْتُ: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجْتُهَا إِيَّاهُ (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أَيِ انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } أَيْ لَا تَمْنَعُوهُنَّ عَنِ النِّكَاحِ، وَالْعَضْلُ: الْمَنْعُ، وَأَصْلُهُ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، يُقَالُ: عَضَلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا نَشِبَ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَضَاقَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ، وَالدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي لَا يُطَاقُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ إِذْ لَوْ كَانَتْ تَمْلِكُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَضْلٌ وَلَا لِنَهْيِ الْوَلِيِّ عَنِ الْعَضْلِ مَعْنًى، وَقِيلَ الْآيَةُ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ لِمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِضْرَارِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ خِطَابٌ مَعَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
{ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } بِعَقْدٍ حَلَالٍ وَمَهْرٍ جَائِزٍ { ذَلِكَ } أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنَ النَّهْيِ { يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُوَحَّدًا، وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُخَاطَبَةِ الْجَمْعِ: ذَلِكُمْ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى تَوَهَّمُوا أَنَّ الْكَافَ مِنْ نَفْسِ الْحَرْفِ وَلَيْسَ بِكَافِ خِطَابٍ فَقَالُوا ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا هَذَا كَانَتِ الْكَافُ مُوَحَّدَةً مَنْصُوبَةً فِي الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ قِيلَ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ وَحَّدَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ } أَيْ خَيْرٌ لَكُمْ { وَأَطْهَرُ } لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَاقَةُ حُبٍّ لَمْ يؤمن أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا، وَلَمْ يؤمن مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْهُمَا مَا لَعَلَّهُمَا أَنْ يَكُونَا بَرِيئَيْنِ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْثَمُونَ { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } أَيْ يَعْلَمُ مِنْ حُبِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ.
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي: 9 / 183، وفي التفسير: 8 / 192.

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } يَعْنِي: الْمُطَلَّقَاتُ اللَّاتِي لَهُنَّ أَوْلَادٌ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ يُرْضِعْنَ، خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ إِيجَابٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ الْإِرْضَاعُ إِذَا كَانَ يُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُ الْوَلَدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: "فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ"( -الطَّلَاقِ ) فَإِنْ رَغِبَتِ الْأُمُّ فِي الْإِرْضَاعِ فَهِيَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أَيْ سَنَتَيْنِ، وَذَكَرَ الْكَمَالَ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ"( 196-الْبَقَرَةِ ) وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ كَامِلَيْنِ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَوَلِ حَوْلًا وَبَعْضَ الشَّهْرِ شَهْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ )( 197-الْبَقَرَةِ )، وَإِنَّمَا هُوَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ وَقَالَ: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ }( 203-الْبَقَرَةِ )، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّلُ فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ يَوْمٍ، وَيُقَالُ أَقَامَ فُلَانٌ بِمَوْضِعِ كَذَا حَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا أَقَامَ بِهِ حَوْلًا وَبَعْضَ آخَرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا حَوْلَانِ كَامِلَانِ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَدِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ حَدٌّ لِبَعْضِ الْمَوْلُودِينَ، فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا إِذَا وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهَا تُرْضِعُهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهَا تُرْضِعُهُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِنْ وَضَعَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهَا تُرْضِعُهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِنْ وَضَعَتْ لِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهَا تُرْضِعُهُ عِشْرِينَ شَهْرًا، كُلُّ ذَلِكَ تَمَامُ ثَلَاثِينَ شَهْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }( 15-الْأَحْقَافِ ).
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حَدٌّ لِكُلِّ مَوْلُودٍ بِأَيِّ وَقْتٍ وُلِدَ لَا يَنْقُصُ رَضَاعُهُ عَنْ حَوْلَيْنِ إِلَّا بِاتِّفَاقِ الْأَبَوَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْفِطَامَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالثَّوْرِيِّ وَرِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: بَيَانُ أَنَّ الرَّضَاعَ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ مَا يَكُونُ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَلَا يَحْرُمُ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْوَالِدَاتِ إِرْضَاعَ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فَقَالَ: { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } أَيْ هَذَا مُنْتَهَى الرَّضَاعَةِ وَلَيْسَ فِيهَا دُونَ ذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مِقْدَارِ صَلَاحِ الصَّبِيِّ وَمَا يَعِيشُ بِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } يَعْنِي الْأَبَ { رِزْقُهُنَّ } طَعَامُهُنَّ { وَكِسْوَتُهُنَّ } لِبَاسُهُنَّ { بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } أَيْ طَاقَتَهَا { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ

وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ بِرَفْعِ الرَّاءِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ { لَا تُكَلَّفُ } وَأَصْلُهُ تُضَارِرْ فَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ تُضَارَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَقَالُوا: لَمَّا أُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ حُرِّكَتْ إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ وَهُوَ النَّصْبُ وَمَعْنَى الْآيَةِ { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } فَيُنْزَعُ الْوَلَدُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ رَضِيَتْ بِإِرْضَاعِهِ { وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أَيْ لَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ إِلَى أَبِيهِ بَعْدَمَا أَلِفَهَا، تُضَارُّهُ بِذَلِكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ } فَتُكْرَهُ عَلَى إِرْضَاعِهِ إِذَا كَرِهَتْ إِرْضَاعَهُ، وَقَبِلَ الصَّبِيُّ مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهَا { وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُعْطَى الْأُمُّ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ لَهَا إِذَا لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ غَيْرِهَا.
فَعَلَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَصْلُ الْكَلِمَةِ لَا تُضَارِرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَالْوَالِدَةُ وَالْمَوْلُودُ لَهُ مَفْعُولَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لَهُمَا وَتَكُونُ تُضَارَّ بِمَعْنَى تُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ وَالْمَعْنَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ } فَتَأْبَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا لِيَشُقَّ عَلَى أَبِيهِ { وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ } أَيْ لَا يُضَارَّ الْأَبُ أُمَّ الصَّبِيِّ، فَيَنْزِعُهُ مِنْهَا وَيَمْنَعُهَا مِنْ إِرْضَاعِهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَرْجِعُ الإضرار إلى 39/أ الْوَالِدَيْنِ يُضَارُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضِّرَارُ رَاجِعًا إِلَى الصَّبِيِّ، أَيْ لَا يُضَارَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّبِيَّ، فَلَا تُرْضِعُهُ الْأُمُّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ لَا يُنْفِقُ الْأَبُ أَوْ يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْأُمِّ حَتَّى يُضَرَّ بِالصَّبِيِّ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً وَمَعْنَاهُ { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } وَلَا أَبٌ بِوَلَدِهِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْوَارِثِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ، مَعْنَاهُ: وَعَلَى وَارِثِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ وَلَهُ مَالٌ وَرِثَهُ مِثْلُ الَّذِي كَانَ عَلَى أَبِيهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ وَارِثٍ هُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَصَبَةُ الصَّبِيِّ مِنَ الرِّجَالِ مِثْلُ: الْجَدِّ وَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَهُوَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ أُجْبِرَتْ عَصَبَتُهُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ عَلَى أَنْ يَسْتَرْضِعُوهُ، وَقِيلَ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ مَنْ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالُوا: يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِ كُلُّ وَارِثٍ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ عَصَبَةً كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْ كَانَ ذَا رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَوْلُودِ، فَمَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ مِثْلُ ابْنِ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ هُوَ الصَّبِيُّ نَفْسُهُ، الَّذِي هُوَ وَارِثُ أَبِيهِ الْمُتَوَفَّى تَكُونُ أُجْرَةُ رَضَاعِهِ وَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى الْأُمِّ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّبِيِّ إِلَّا الْوَالِدَانِ، وَهُوُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقِيلَ هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدَيِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ وَفَاةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَى الْأَبِ مِنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ.
وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّفَقَةَ، بَلْ مَعْنَاهُ وَعَلَى الْوَارِثِ تَرْكُ الْمُضَارَّةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ { فَإِنْ أَرَادَا } يَعْنِي الْوَالِدَيْنِ { فِصَالًا } فِطَامًا قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ { عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا } أَيِ اتِّفَاقِ الْوَالِدَيْنِ

{ وَتَشَاوُرٍ } أَيْ يُشَاوِرُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى يُخْبِرُوا أَنَّ الْفِطَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ، وَالْمُشَاوَرَةُ اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمَا فِي الْفِطَامِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ } أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ مَرَاضِعَ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِمْ إِذَا أَبَتْ أُمَّهَاتُهُمْ يُرْضِعْنَهُمْ أَوْ تَعْذُرُ لِعِلَّةٍ بِهِنَّ، أَيِ: انْقِطَاعُ لَبَنٍ أَوْ أَرَدْنَ النِّكَاحَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ } إِلَى أُمَّهَاتِهِمْ { مَا آتَيْتُمْ } مَا سَمَّيْتُمْ لَهُنَّ مِنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ بِقَدْرِ مَا أَرْضَعْنَ، وَقِيلَ إِذَا سَلَّمْتُمْ أُجُورَ الْمَرَاضِعِ إِلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ { مَا آتَيْتُمْ } وَفِي الرُّومِ "وَمَا أَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا"( 39-الرُّومِ ) بِقَصْرِ الْأَلْفِ وَمَعْنَاهُ مَا فَعَلْتُمْ يُقَالُ: أَتَيْتُ جَمِيلًا إِذَا فَعَلْتُهُ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لَا بِمَعْنَى تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ يَعْنِي إِذَا سَلَّمْتُمْ لِأَمْرِهِ وَانْقَدْتُمْ لِحُكْمِهِ، وَقِيلَ إِذَا سَلَّمْتُمْ لِلِاسْتِرْضَاعِ عَنْ تَرَاضٍ وَاتِّفَاقٍ دُونَ الضِّرَارِ { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } أَيْ يَمُوتُونَ وَتُتَوَفَّى آجَالُهُمْ، وَتَوَفَّى وَاسْتَوْفَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَعْنَى التَّوَفِّي أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } يَتْرُكُونَ أَزْوَاجًا { يَتَرَبَّصْنَ } يَنْتَظِرْنَ { بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } أَيْ يَعْتَدِدْنَ بِتَرْكِ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ وَالنُّقْلَةِ عَلَى فِرَاقِ أَزْوَاجِهِنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ إِلَّا أَنْ يَكُنَّ حَوَامِلَ فَعِدَّتُهُنَّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي الِابْتِدَاءِ حَوْلًا كَامِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ"(_240-الْبَقَرَةِ ) ثُمَّ نُسِخَتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ يَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَاجِبَةً عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ } فَجَعَلَ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جناح عليكم فيما فَعَلْنَ"( 240-الْبَقَرَةِ ) فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا.
وَقَالَ: عَطَاءٌ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهِ وَسَكَنَتْ فِي وصيتها وإن شاء خَرَجَتْ، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَهِيَ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا تَدْهِينَ رَأْسِهَا بِأَيِّ دُهْنٍ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ طِيبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَهَا تَدْهِينُ جَسَدِهَا بِدُهْنٍ لَا طِيبَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَلَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ أَوْ فِيهِ زِينَةٌ كَالْكُحْلِ الْأَسْوَدِ وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ الْفَارِسِيِّ

الَّذِي لَا زِينَةَ فِيهِ فَإِنِ اضْطُرَّتْ إِلَى كُحْلٍ فِيهِ زِينَةٌ فَرَخَّصَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَكْتَحِلُ بِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ بِالنَّهَارِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيَّ صَبْرًا فَقَالَ "إِنَّهُ يَشِبُّ (1) الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ" (2) .
وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخِضَابُ وَلَا لُبْسُ الْوَشْيِ وَالدِّيبَاجِ وَالْحُلِيِّ وَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْبِيضِ مِنَ الثِّيَابِ وَلُبْسُ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ، وَلَا تَلْبَسُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ لِلزِّينَةِ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَخْضَرِ النَّاضِرِ وَالْأَصْفَرِ، وَيَجُوزُ مَا صُبِغَ لِغَيْرِ زِينَةٍ كَالسَّوَادِ وَالْكُحْلِيِّ وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَلْبَسُ الْمَصْبُوغَ بِحَالٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ، خَلُوقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَدَهَنَتْ بِهِ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِهِ بَطْنَهَا ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" (3) .
وَقَالَتْ زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعَتْ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ:
جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتُكَحِّلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ" (4) قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوَلِ؟
__________
(1) يشب: يلونه ويحسنه، النهاية لابن الأثير.
(2) رواه أبو داود في الطلاق: باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها 3 / 201-202. والنسائي: في الطلاق - باب: الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر 6 / 204.
(3) رواه البخاري: في الطلاق - باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر عشرا 9 / 484 وفي الجنائز. ومسلم: في الطلاق - باب: وجوب الإحداد برقم (1486) 2 / 1124. والمصنف في شرح السنة: 9 / 306-307.
(4) قطعة من الحديث السابق.

فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا (1) أَيْ بَيْتًا صَغِيرًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ أَوْ شاة أو طيرا فَتَفْتَضُّ بِهِ، أَيْ تَمْسَحُ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فترمي بها، 39/ب ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَفْتَضُّ أَيْ تَمْسَحُ جِلْدَهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَنَّ فِيهَا يُنْفَخُ الرُّوحُ فِي الْوَلَدِ، وَيُقَالُ إِنَّ الْوَلَدَ يَرْتَكِضُ أَيْ يَتَحَرَّكُ فِي الْبَطْنِ لِنِصْفِ مُدَّةِ الْحَمْلِ أربعة أشهر وعشرا قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَشْرًا بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ أَرَادَ اللَّيَالِيَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَبْهَمَتِ الْعَدَدَ بَيْنَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ غَلَّبَتْ عَلَيْهَا اللَّيَالِيَ فَيَقُولُونَ صُمْنَا عَشْرًا وَالصَّوْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنَّهَارِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْرَ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُدَدَ أَيْ عَشْرَ مُدَدٍ كُلُّ مُدَّةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوَّجُهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهَا تَنْتَظِرُ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى أَرَادَ بِالْقُصْرَى سُورَةُ الطَّلَاقِ "وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ( 4-الطَّلَاقِ ) نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى "يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَحَمَلَهُ عَلَى النَّسْخِ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ خَصُّوا الْآيَةَ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ وَهُوَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَةَ نَفَسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ. (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أَيِ انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } أَيْ مِنَ اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ دُونَ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْعَقْدَ إِلَى الْوَلِيِّ، وَقِيلَ فِيمَا فَعَلْنَ مِنَ التَّزَيُّنِ
__________
(1) الحفش بالكسر الدرج، وقيل: الحفش البيت الصغير الذليل القريب السمك سمي به لضيقه. النهاية لابن الأثير.
(2) رواه البخاري: في الطلاق باب: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن 9 / 469. ومسلم: في الطلاق - باب : انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل برقم( 1485 ) 2\1123.

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

لِلرِّجَالِ زِينَةً لَا يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ { بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وَالْإِحْدَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنِ الطَّلَاقِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَضَعَ مَا يُشَوِّقُ قَلْبَ الزَّوْجِ إِلَيْهَا لِيُرَاجِعَهَا، وَفِي الْبَائِنَةِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي: لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } أَيِ النِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ وَأَصْلُ التَّعْرِيضِ هُوَ التَّلْوِيحُ بِالشَّيْءِ، وَالتَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ وَالتَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ مُبَاحٌ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، مَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ، إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ، وَإِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، وَإِنَّكِ عَلَيَّ لَكَرِيمَةٌ، وَإِنِّي فيك لراغب، وإني مِنْ غَرَضِي أَنْ أَتَزَوَّجَ وَإِنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ بِالْحَلَالِ أَعْجَبَنِي وَلَئِنْ تَزَوَّجْتُكِ لَأُحْسِنَنَّ إِلَيْكِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ أَنْكِحِينِي وَالْمَرْأَةُ تُجِيبُهُ بِمِثْلِهِ إِنْ رَغِبَتْ فِيهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُهْدِيَ لَهَا وَيَقُومَ بِشَغْلِهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ شَأْنِهِ.
رُوِيَ أَنَّ سُكَيْنَةَ بِنْتَ حَنْظَلَةَ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ فِي عِدَّتِهَا وَقَالَ: يَا بِنْتَ حَنْظَلَةَ أَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتِ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقَّ جَدِّي عَلَيَّ وَقِدَمِي فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَتْ سُكَيْنَةُ أَتَخْطُبُنِي وَأَنَا فِي الْعِدَّةِ وَأَنْتَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَخْبَرْتُكِ بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ فِي عِدَّةِ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مُتَحَامِلٌ عَلَى يَدِهِ حَتَّى أَثَّرَ الْحَصِيرُ فِي يَدِهِ مِنْ شِدَّةِ تَحَامُلِهِ عَلَى يَدِهِ (1) .
وَالتَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ جَائِزٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فُرْقَةِ الْحَيَاةِ نُظِرَ: إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لِمَنْ بَانَتْ مِنْهُ نِكَاحُهَا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُبَانَةِ بِاللِّعَانِ وَالرَّضَاعِ: يَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لِلزَّوْجِ نِكَاحُهَا كَالْمُخْتَلِعَةِ وَالْمَفْسُوخِ نِكَاحُهَا يَجُوزُ لِزَوْجِهَا خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا.
وَهَلْ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ تَعْرِيضًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعَاوَدَةَ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ كَالرَّجْعِيَّةِ لَا يَجُوزُ لِلْغَيْرِ تَعْرِيضُهَا بِالْخِطْبَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } الْخِطْبَةُ الْتِمَاسُ النِّكَاحِ وَهِيَ مَصْدَرُ خَطَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ يَخْطُبُ خِطْبَةً، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخِطْبَةُ الذِّكْرُ، وَالْخِطْبَةُ التَّشَهُّدُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مَنْ ذِكْرِ النِّسَاءَ عِنْدَهُنَّ، { أَوْ أَكْنَنْتُمْ } أَضْمَرْتُمْ { فِي أَنْفُسِكُمْ } نِكَاحَهُنَّ يُقَالُ: أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ وَكَنَنْتُهُ لُغَتَانِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ أَخْفَيْتُهُ فِي نَفْسِي وَكَنَنْتُهُ سَتَرْتُهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يَدْخُلَ فَيُسَلِّمَ وَيُهْدِيَ إِنْ
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في كتاب النكاح، راه الدارقطني من رواية محمد بن الصلت عن عبد الرحمن بن سليمان، وهو ابن الغسيل انظر: الكافي الشاف لابن حجر ص21.

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

شَاءَ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بِقُلُوبِكُمْ { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } اخْتَلَفُوا فِي السِّرِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الزِّنَا كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ أَجْلِ الزَّنْيَةِ وَهُوَ يَتَعَرَّضُ بِالنِّكَاحِ وَيَقُولُ لَهَا: دَعِينِي فَإِذَا أَوْفَيْتِ عِدَّتَكِ أَظْهَرْتُ نِكَاحَكِ، هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَرِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَيْ لَا يَنْكِحُهَا سِرًّا فَيُمْسِكُهَا فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَا تَفُوتِينِي بِنَفْسِكِ فَإِنِّي نَاكِحُكِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ لَا يَأْخُذُ مِيثَاقَهَا أَنْ لَا تَنْكِحَ غَيْرَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَنْكِحُهَا وَلَا يَخْطُبُهَا فِي الْعِدَّةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: السِّرُّ هُوَ الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ لَا تَصِفُوا أَنْفُسَكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ فَيَقُولُ آتِيكِ الْأَرْبَعَةَ وَالْخَمْسَةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَيُذْكَرُ السِّرُّ وَيُرَادُ بِهِ الجماع قال امرئ الْقَيْسِ: أَلَّا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْقَوْمِ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي
إِنَّمَا قِيلَ لِلزِّنَا وَالْجِمَاعِ سِرٌّ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي خَفَاءٍ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } أَيْ لَا تُحَقِّقُوا الْعَزْمَ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَسَمَّاهَا اللَّهُ كِتَابًا لِأَنَّهَا فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ" أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } أَيْ فَخَافُوا اللَّهَ { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ.
{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أَيْ وَلَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ لَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 40/أ "مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ" (1) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " مَا لَمْ تَمَاسُّوهُنَّ " بِالْأَلْفِ هَاهُنَا وَفِي الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ لِأَنَّ بَدَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُلَاقِي بَدَنَ صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا"( 3-الْمُجَادَلَةِ ) وَقَرَأَ الْبَاقُونَ { تَمَسُّوهُنَّ }
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الكافي الشاف ص21: "لم أجده".

بِلَا أَلِفٍ لِأَنَّ الْغِشْيَانَ يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الرَّجُلِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ"( 47-آلِ عِمْرَانَ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أَيْ تُوجِبُوا لَهُنَّ صَدَاقًا فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْوَجْهُ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ الْمُطَلِّقِ قِيلَ: الطَّلَاقُ قَطْعُ سَبَبِ الْوَصْلَةِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ" (1) .
فَنَفَى الْجُنَاحَ عَنْهُ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ أَرْوَحَ مِنَ الْإِمْسَاكِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا سَبِيلَ لِلنِّسَاءِ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ بِصَدَاقٍ وَلَا نَفَقَةٍ، وَقِيلَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَطْلِيقِهِنَّ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْتُمْ حَائِضًا كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ طَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهِنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَطْلِيقُهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ { وَمَتِّعُوهُنَّ } أَيْ أَعْطُوهُنَّ مِنْ مَالِكُمْ مَا يَتَمَتَّعْنَ بِهِ وَالْمُتْعَةُ وَالْمَتَاعُ مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزَّادِ { عَلَى الْمُوسِعِ } أَيْ عَلَى الْغَنِيِّ { قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ } أَيِ الْفَقِيرِ { قَدَرُهُ } أَيْ إِمْكَانُهُ وَطَاقَتُهُ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ قَدَرُهُ بِفَتْحِ الدَّالِّ فِيهِمَا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِهِمَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَقِيلَ: الْقَدْرُ بِسُكُونِ الدَّالِ الْمَصْدَرُ وَبِالْفَتْحِ الِاسْمُ، مَتَاعًا: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مَتِّعُوهُنَّ { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وَبَيَانُ حُكْمِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ تَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا مُتْعَةَ لَهَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهَا لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى "وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ"( 241-الْبَقَرَةِ ) وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا الْمَهْرَ بِمُقَابَلَةِ مَا أُتْلِفَ عَلَيْهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبِضْعِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى وَحْشَةِ الْفِرَاقِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا مُتْعَةَ إِلَّا لِوَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا لِوَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يَمَسَّهَا زَوْجُهَا فَحَسْبُهَا نِصْفُ الْمَهْرِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: مُتْعَتَانِ يَقْضِي بِإِحْدَاهُمَا السُّلْطَانُ وَلَا يَقْضِي بِالْأُخْرَى بَلْ تَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) سبق تخريجه، عند قوله تعالى "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله".

فَأَمَّا الَّتِي يَقْضِي بِهَا السُّلْطَانُ فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وَالَّتِي تَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَقْضِي بِهَا السُّلْطَانُ فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الْمَسِيسِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }
وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ أَوْ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ"( 241-الْبَقَرَةِ ) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: "فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا"( 49-الْأَحْزَابِ ) وَقَالَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أَيْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُتْعَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَالْأَمْرُ بِهَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى شُرَيْحٍ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا تَأْبَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا تَأْبَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْلَاهَا خَادِمٌ وَأَوْسَطُهَا ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ، وَدُونَ ذَلِكَ وِقَايَةٌ أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْوَرِقِ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: أَعْلَاهَا عَلَى الْمُوسِعِ خَادِمٌ وَأَوْسَطُهَا ثَوْبٌ وَأَقَلُّهَا أَقَلُّ مَا لَهُ ثَمَنٌ، وَحَسُنَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَطَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَتَهُ وَحَمَّمَهَا جَارِيَةً سَوْدَاءَ أَيْ مَتَّعَهَا وَمَتَّعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَةً لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ: "مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ".
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَبْلَغُهَا إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ قَدْرُ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا لَا يُجَاوَزُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَمِنْ حُكْمِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَالِغَةً بِرِضَاهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلِلْمَرْأَةِ مُطَالَبَتُهُ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا صَدَاقًا، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّهَا هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَالدُّخُولِ فِي تَقْرِيرِ الْمُسَمَّى كَذَلِكَ فِي إِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُسَمًّى وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا صَدَاقُ نِسَائِهَا وَلَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةٍ مِنَّا مِثْلَ

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

مَا قَضَيْتَ فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: فِي حَدِيثِ بَرْوَعَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَعْرَابِيٍّ مِنْ أَشْجَعَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: الْجِمَاعُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا لَوْ خَلَا الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ نِصْفَ الْمَهْرِ، وَلَمْ يُوجِبِ الْعِدَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ لَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أُرْخِيَتِ السُّتُورُ فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ، وَمِثْلُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ عُمَرَ عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَيْهَا إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا لَا عَلَى تَقْدِيرِ الصَّدَاقِ، وَقِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ "فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ"( 49-الْأَحْزَابِ ) فَقَدْ كَانَ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ مَتَاعٌ فَنُسِخَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَوْجَبَ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَفْرُوضَ لَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ وَلَا متاع لها.
40/ب وَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } أَيْ سَمَّيْتُمْ لَهُنَّ مَهْرًا { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أَيْ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ } يَعْنِي النِّسَاءَ أَيْ إِلَّا أَنْ تَتْرُكَ الْمَرْأَةُ نَصِيبَهَا فَيَعُودُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ الْمَرْأَةُ بِتَرْكِ نَصِيبِهَا إِلَى
__________
(1) رواه أبو داود في النكاح - باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات 3 / 51-53. والترمذي: في النكاح - باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها، وقال حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وقد روي عنه من غير وجه 4 / 299-301. والنسائي: في النكاح - باب: إباحة التزوج بغير صداق: 6 / 121-122. وابن ماجه: في النكاح - باب: الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك برقم (1891) 1 / 609. وابن حبان: برقم (1263-1264-1265) ص 308 من موارد الظمآن. والإمام أحمد في المسند: 4 / 279-280 عن ابن مسعود. وانظر: نصب الراية 3 / 201-202 التلخيص الحبير 3 / 191-192. إرواء الغليل 6 / 357-360.

الزَّوْجِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ، أَوْ يَعْفُو وَلِيُّهَا فَيَتْرُكُ نَصِيبَهَا إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِكْرًا أَوْ غَيْرَ جَائِزَةِ الْأَمْرِ فَيَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّهَا وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ عَفْوُ الْوَلِيِّ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِكْرًا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا يَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهَا تَرْكُ الشَّيْءِ مِنَ الصَّدَاقِ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الطَّلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا، وَقَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ الْمَرْأَةُ بِتَرْكِ نَصِيبِهَا فَيَعُودُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ أَوْ يَعْفُو الزَّوْجُ بِتَرْكِ نَصِيبِهِ فَيَكُونُ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهُ الْآيَةِ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ نِكَاحِ نَفْسِهِ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } موضعه رفع الابتداء أَيْ فَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، أَيْ إِلَى التَّقْوَى، وَالْخِطَابُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ إِذَا اجْتَمَعَا كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُذَكَّرِ مَعْنَاهُ: وَعَفْوُ بَعْضِكُمْ عَنْ بَعْضٍ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } أَيْ إِفْضَالَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِإِعْطَاءِ الرَّجُلِ تَمَامَ الصَّدَاقِ أَوْ تَرْكِ الْمَرْأَةِ نَصِيبَهَا، حَثَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْإِحْسَانِ { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } أَيْ وَاظِبُوا وَدَاوِمُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا وَحُدُودِهَا وَإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، ثُمَّ خَصَّ مِنْ بَيْنِهَا الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهَا، وَالْوُسْطَى تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ، وَوَسَطُ الشَّيْءِ: خَيْرُهُ وَأَعْدَلُهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمْرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ وَجَابِرٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } وَالْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ مَخْصُوصَةٌ بِطُولِ الْقِيَامِ وَبِالْقُنُوتِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ بَيْنِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ اللَّهُ: "وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا"( 78-الْإِسْرَاءِ )، يَعْنِي تَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، فَهِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي دِيوَانِ اللَّيْلِ وَدِيوَانِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْ جَمْعٍ وَهِيَ لَا تُقْصَرُ وَلَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ النَّهَارِ وَهِيَ أَوْسَطُ صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الطُّولِ.

أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أبو علي اللؤلؤي أَنَا أَبُو دَاوُدَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الزِّبْرِقَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، فَنَزَلَتْ: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } (1) .
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } "صَلَاةِ الْعَصْرِ" { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } (2) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ حَفْصَةَ مِثْلُ ذَلِكَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قُلْنَا لِعُبَيْدَةَ سَلْ عَلِيًّا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهَا صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" (3) وَلِأَنَّهَا صَلَاتَيْ نَهَارٍ وَصَلَاتَيْ لَيْلٍ، وَقَدْ خَصَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّغْلِيظِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَا هِشَامٌ أَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ: كُنَّا مَعَ
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: عن زيد بن ثابت 5 / 183. وأبو داود في الصلاة باب وقت العصر: 1 / 240. والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1 / 167. والطبري في التفسير: 5 / 206، والبيهقي: 1 / 458، وعزاه السيوطي أيضا للبخاري في تاريخه الكبير وأبي يعلى والطبراني، انظر: الدر المنثور: 1 / 720، تفسير الطبري بتعليق محمود شاكر 5 / 207.
(2) رواه مسلم: في المساجد - باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر برقم (629) 1 / 437. والمصنف في شرح السنة 2 / 232.
(3) رواه البخاري: في تفسير سورة البقرة - باب: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى: 8 / 195. ومسلم: في المساجد - باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر برقم (627) 1 / 436. والمصنف في شرح السنة: 2 / 233-234.

بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" (1) .
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: هِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا وَسَطٌ لَيْسَ بِأَقَلِّهَا وَلَا بِأَكْثَرِهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا بِعَيْنِهَا، أَبْهَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيضًا لِلْعِبَادِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ جَمِيعِهَا كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَسَاعَةَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَأَخْفَى الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ لِيُحَافِظُوا عَلَى جَمِيعِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } أَيْ مُطِيعِينَ، قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وطاووس؛ وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "أُمَّةً قَانِتًا"( 120-النَّحْلِ ) أَيْ مُطِيعًا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ صَلَاةٌ يَقُومُونَ فِيهَا عَاصِينَ فَقُومُوا أَنْتُمْ لِلَّهِ فِي صَلَاتِكُمْ مُطِيعِينَ، وَقِيلَ الْقُنُوتُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى نَزَلَتْ { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ (2) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَاشِعِينَ، وَقَالَ: مِنَ الْقُنُوتِ طُولُ الرُّكُوعِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَالرُّكُودُ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ، كَانَ الْعُلَمَاءُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَلْتَفِتَ أَوْ يَقْلِبَ الْحَصَى أَوْ يَعْبَثَ بِشَيْءٍ أَوْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَّا نَاسِيًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْقُنُوتِ طُولُ الْقِيَامِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 41/أ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "طُولُ الْقُنُوتِ" (3) وَقِيلَ { قَانِتِينَ } أَيْ دَاعِينَ.
__________
(1) رواه البخاري: في المواقيت: باب: من ترك العصر 2 / 31 باب التبكير في الصلاة في يوم غيم. والمصنف في شرح السنة: 2 / 213-237.
(2) رواه البخاري: في العمل في الصلاة - باب: ما ينهى من الكلام ف الصلاة 3 / 73 وفي التفسير. ومسلم: في المساجد - باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة برقم (539) 1 / 383.
(3) رواه مسلم: في صلاة المسافرين - باب: أفضل الصلاة طول القنوت برقم (756) 1 / 520. والمصنف في شرح السنة: 3 / 152-153.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

دَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، (1) وَقِيلَ مَعْنَاهُ مُصَلِّينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ"( 9-الزُّمَرِ ) أَيْ مُصَلٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا } { فَرِجَالًا } أَيْ رَجَّالَةً يُقَالُ: رَاجِلٌ وَرِجَالٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ وَنَائِمٍ وَنِيَامٍ { أَوْ رُكْبَانًا } عَلَى دَوَابِّهِمْ وَهُوَ جَمْعُ رَاكِبٍ، مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تُصَلُّوا قَانِتِينَ مُوَفِّينَ لِلصَّلَاةِ حَقَّهَا لِخَوْفٍ فَصَلُّوا مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِكُمْ أَوْ رُكْبَانًا عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّكُمْ، وَهَذَا فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُسَايَفَةِ يُصَلِّي حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبَلِهَا وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَصَدَهُ سَبُعٌ أَوْ غَشِيَهُ سَيْلٌ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فَعَدَا أَمَامَهُ مُصَلِّيًا بِالْإِيمَاءِ يَجُوزُ.
وَالصَّلَاةُ فِي حَالِ الْخَوْفِ عَلَى أَقْسَامٍ فَهَذِهِ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُنْتَقَصُ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ بِالْخَوْفِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً (2) وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وطاووس وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ يُصَلِّي فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ رَكْعَةً، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا كُنْتَ فِي الْقِتَالِ وَضَرَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقُلْ "سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَاذْكُرِ اللَّهَ فَتِلْكَ صَلَاتُكَ" { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } أَيْ فَصَلَّوُا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَامَّةً بِحُقُوقِهَا { كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } يَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ { وَيَذَرُونَ } أَيْ يَتْرُكُونَ { أَزْوَاجًا } أَيْ زَوْجَاتٍ { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَصِيَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى
__________
(1) رواه البخاري في الوتر - باب: القنوت قبل الركوع وبعده 2 / 490 ورواية البخاري عن أنس قال "قنت رسول الله صلى الله عليه سلم شهرا يدعو على رعل وذكوان وقد روى الحديث أحمد وأبو داود في الصلاة باب القنوت في الصلوات. والمصنف في شرح السنة: 3 / 122.
(2) رواه مسلم: في المسافرين - باب: صلاة المسافرين وقصرها برقم (687) 1 / 479.

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ أَيْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةَ { مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ } مَتَاعًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُنَّ مَتَاعًا، وَالْمَتَاعُ نَفَقَةُ سَنَةٍ لِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَسَكَنِهَا وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ بِنَزْعِ حَرْفٍ عَلَى الصِّفَةِ أَيْ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ حَكِيمُ بْنُ الْحَارِثِ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَهُ أَوْلَادٌ وَمَعَهُ أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ فَمَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِدَيْهِ وَأَوْلَادَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ وَلَمْ يُعْطِ امْرَأَتَهُ شَيْئًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهَا مِنْ تَرِكَةِ زَوْجِهَا حَوْلًا كَامِلًا وَكَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حَوْلًا كَامِلًا وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْوَارِثِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَيْتِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَكَانَتْ نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا وَاجِبَةٌ فِي مَالِ زَوْجِهَا تِلْكَ السَّنَةَ مَا لَمْ تَخْرُجْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاثُ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَكَانَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِهَا فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى نَفَقَةَ الْحَوْلِ بِالرُّبْعِ وَالثُّمْنِ، وَنَسَخَ عِدَّةَ الْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ خَرَجْنَ } يَعْنِي مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِ الْوَرَثَةِ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يَا أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ { فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } يَعْنِي التَّزَيُّنَ لِلنِّكَاحِ، وَلِرَفْعِ الْجُنَاحِ عَنِ الرِّجَالِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ إِذَا خَرَجْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ.
وَالْآخَرُ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ لِأَنَّ مُقَامَهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلًا غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا خَيَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ حَوْلًا وَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَبَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ فَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى إِلَى أَنْ نَسَخَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } إِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ الْمُتْعَةِ هَاهُنَا لِزِيَادَةِ مَعْنًى، وَذَلِكَ أَنَّ فِي غَيْرِهَا بَيَانَ حُكْمِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي الْمُتْعَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } إِلَى قَوْلِهِ { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }( 236-الْبَقَرَةِ ) قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ } جَعَلَ الْمُتْعَةَ لَهُنَّ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فَقَالَ: { حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الشِّرْكَ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: كَانَتْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا: دَاوَرْدَانُ قِبَلَ وَاسِطَ بِهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهَا وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ، فَهَلَكَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الَّذِينَ خَرَجُوا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا: أَصْحَابُنَا كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا لَبَقِينَا، وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ إِلَى أَرْضٍ لَا وَبَاءَ بِهَا، فَوَقَعَ الطَّاعُونُ مِنْ قَابَلٍ فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَخَرَجُوا حَتَّى نَزَلُوا وَادِيًا أَفْيَحَ (1) فَلَمَّا نَزَلُوا الْمَكَانَ الَّذِي يَبْتَغُونَ فِيهِ النَّجَاةَ نَادَاهُمْ مَلِكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فلما جاء سرع (2) بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" (3) فَرَجَعَ عُمْرُ مِنْ سَرْغَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّمَا فَرُّوا مِنَ الْجِهَادِ وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، فَعَسْكَرُوا ثُمَّ جَبَنُوا وَكَرِهُوا الْمَوْتَ فَاعْتَلَوْا وَقَالُوا لِمَلِكِهِمْ: إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَأْتِيهَا بِهَا الْوَبَاءُ فَلَا نَأْتِيهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ مِنْهَا الْوَبَاءُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ فَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ يَعْقُوبَ وَإِلَهَ مُوسَى قَدْ تَرَى مَعْصِيَةَ عِبَادِكَ فَأَرِهِمْ آيَةً فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْفِرَارَ مِنْكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: مُوتُوا، عُقُوبَةً لَهُمْ، فَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَتْ دَوَابُّهُمْ كَمَوْتِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَتَى عَلَيْهِمْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ حَتَّى انْتَفَخُوا وَأَرْوَحَتْ أَجْسَادُهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ فَعَجَزُوا
__________
(1) واسعا.
(2) بفتح أوله وسكون ثانيه ثم غين معجمة والمهملة لغة فيه: أول الحجاز وآخر الشام، وقيل: قرية بوادي تبوك انظر مراصد الإطلاع 2 / 707-708.
(3) رواه مالك في الموطأ كتاب الجامع برقم 22،23،24. رواه البخاري: في الطب باب: ما يذكر في الطاعون 10 / 179. ومسلم: في السلام - باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها برقم (2219) 4 / 1742.

عَنْ دَفْنِهِمْ، فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ حَظِيرَةً دُونَ السِّبَاعِ وَتَرَكُوهُمْ فِيهَا (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ عَدَدِهِمْ، قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: كَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَقَالَ وَهْبٌ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: عَشَرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَوْلَى الْأَقَاوِيلِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ "وَهُمْ أُلُوفٌ" وَالْأُلُوفُ جَمْعُ الْكَثِيرِ وَجَمْعُهُ الْقَلِيلُ آلَافٌ، وَلَا يُقَالُ لِمَا دُونَ عَشَرَةِ آلَافٍ أُلُوفٌ، قَالُوا: فَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ وَقَدْ بَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ وَعَرِيَتْ عِظَامُهُمْ فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيلُ بْنُ بُودَى ثَالِثُ خُلَفَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَيِّمَ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ بَعْدَ مُوسَى يُوشَعَ بْنَ نُونٍ (2) ثُمَّ كَالِبَ بْنَ يُوقَنَّا ثُمَّ حِزْقِيلَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَجُوزِ لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ عَجُوزًا فَسَأَلَتِ اللَّهَ الْوَلَدَ بَعْدَ مَا كَبِرَتْ وَعَقِمَتْ فَوَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لها، قال 41/ب الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ ذُو الْكِفْلِ وَسُمِّيَ حِزْقِيلُ ذَا الْكِفْلِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِسَبْعِينَ نَبِيًّا وَأَنْجَاهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، فَلَمَّا مَرَّ حِزْقِيلُ عَلَى أُولَئِكَ الْمَوْتَى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ مُتَعَجِّبًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ نَعَمْ: فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ وَقِيلَ: دَعَا حِزْقِيلُ رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ كَانُوا قَوْمُ حِزْقِيلَ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ خَرَجَ حِزْقِيلُ فِي طَلَبِهِمْ فَوَجَدَهُمْ مَوْتَى فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ كُنْتُ فِي قَوْمٍ يَحْمَدُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيُقَدِّسُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ فَبَقِيتُ وَحِيدًا لَا قَوْمَ لِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنِّي جَعَلْتُ حَيَاتَهُمْ إِلَيْكَ، قَالَ حِزْقِيلُ: احْيَوْا بِإِذْنِ اللَّهِ فَعَاشُوا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ قَالُوا حِينَ أُحْيَوْا، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَعَاشُوا دَهْرًا طَوِيلًا وَسَحْنَةُ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ دَسَمًا مِثْلَ الْكَفَنِ حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَإِنَّهَا لَتُوجَدُ الْيَوْمَ فِي ذَلِكَ السِّبْطِ مِنَ الْيَهُودِ تِلْكَ الرِّيحُ، قَالَ قَتَادَةُ:
__________
(1) ذكر ابن عطية رحمه الله بعض الروايات في ذلك ثم قال: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف بعدهم: أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا اغترار مغتر. وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين، من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالجهاد، هذا قول الطبري، وهو ظاهر وصف الآية، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها" المحرر الوجيز لابن عطية: 2 / 345.
(2) ذكر ابن كثير - رحمه الله هذا القول عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وقال: قال: ابن جرير يعني أفرايم بن يوسف بن يعقوب وهذا القول بعيد لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان ذلك في زمان داود عليه السلام كما هو مصرح به في القصة، وقد كان بين داود وموسى ماينيف على ألف سنة والله أعلم. ابن كثير: 1 / 533 بتخريج الوادعي.

مَقَتَهُمُ اللَّهُ عَلَى فِرَارِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ فَأَمَاتَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ ثُمَّ بُعِثُوا لِيَسْتَوْفُوا مُدَّةَ آجَالِهِمْ [وَلَوْ جَاءَتْ آجَالُهُمْ] (1) مَا بُعِثُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ تَرَ } أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ بِإِعْلَامِي إِيَّاكَ، وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ.
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هُوَ تَعْجِيبٌ يَقُولُ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَهُمْ؟ كَمَا تَقُولُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ؟ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ أَلَمْ تَرَ وَلَمْ يُعَايِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا وَجْهُهُ { إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ } جَمْعُ أَلْفٍ وَقِيلَ مُؤْتَلِفَةٌ قُلُوبُهُمْ جَمْعُ آلِفٍ مِثْلُ قَاعِدٍ وَقَعُودٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَدَدُ { حَذَرَ الْمَوْتِ } أَيْ خَوْفَ الْمَوْتِ { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا } أَمْرُ تَحْوِيلٍ كَقَوْلِهِ "كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ"( 65-الْبَقَرَةِ ) { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } بَعْدَ مَوْتِهِمْ { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قِيلَ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ عَلَى الْخُصُوصِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } أَمَّا الْكُفَّارُ فَلَمْ يَشْكُرُوا وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَمْ يَبْلُغُوا غَايَةَ الشُّكْرِ.
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: هَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُحْيَوْا أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا: وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، أَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } الْقَرْضُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُعْطِيهِ الْإِنْسَانُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ، فَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَمَلَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَلَى رَجَاءِ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ قَرْضًا، لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقَرْضُ مَا أَسْلَفْتَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ، وَأَصْلُ الْقَرْضِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، سُمِّيَ بِهِ الْقَرْضُ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْطِيهِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَقِيلَ فِي الْآيَةِ اخْتِصَارٌ مَجَازُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ عِبَادَ اللَّهِ وَالْمُحْتَاجِينَ مِنْ خَلْقِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"( 57-الْأَحْزَابِ ) أَيْ يُؤْذُونَ عِبَادَ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يوم القيامة يا ابن آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُقْرِضُ اللَّهَ } أَيْ يُنْفِقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ { قَرْضًا حَسَنًا } قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاقِدِيُّ: يَعْنِي مُحْتَسِبًا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مِنْ مَالٍ حَلَالٍ وَقِيلَ لَا يَمُنُّ بِهِ وَلَا يُؤْذِي { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ " فَيُضَعِّفَهُ " وَبَابُهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَوَافَقَ أَبُو عَمْرٍو فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "فَيُضَاعِفَهُ " بِالْأَلْفِ مُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ، وَدَلِيلُ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) رواه مسلم: في البر - باب: فضل عيادة المريض برقم (2569) 4 / 1990.

{ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } لِأَنَّ التَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِنَصْبِ الْفَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقِيلَ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِرَفْعِ الْفَاءِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: يُقْرِضُ { أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قَالَ السُّدِّيُّ هَذَا التَّضْعِيفُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ يَبْسُطُ، هَاهُنَا وَفِي الْأَعْرَافِ، بَسْطَةً، بِالسِّينِ كَنَظَائِرِهِمَا، وَقَرَأَهُمَا الْآخَرُونَ بِالصَّادِّ قِيلَ يَقْبِضُ بِإِمْسَاكِ الرِّزْقِ وَالنَّفْسِ وَالتَّقْتِيرِ وَيَبْسُطُ بِالتَّوْسِيعِ وَقِيلَ يَقْبِضُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَيَبْسُطُ بِالْخَلَفِ وَالثَّوَابِ، وَقِيلَ هُوَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ فَمَنْ أَمَاتَهُ فَقَدْ قَبَضَهُ وَمَنْ مَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ فَقَدْ بَسَطَ لَهُ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْقُلُوبِ، لَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ، قَالَ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْقُلُوبِ فَلَا يَنْشَطُ بِخَيْرٍ وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا فَيُقَدِّمُ لِنَفْسِهِ خَيْرًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ "الْقُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا اللَّهُ كَيْفَ يَشَاءُ" (1) الْحَدِيثَ.
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أَيْ إِلَى اللَّهِ تَعُودُونَ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى التُّرَابِ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ مِنَ التُّرَابِ خَلَقَهُمْ وَإِلَيْهِ يَعُودُونَ.
__________
(1) رواه مسلم: في القدر - باب: تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء برقم (2654) 4 / 2045. والمصنف في شرح السنة 1 / 165.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } وَالْمَلَأُ مِنَ الْقَوْمِ: وُجُوهُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ، وَأَصْلُ الْمَلَأِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْجَيْشِ وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ { مِنْ بَعْدِ مُوسَى } أَيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِ مُوسَى { إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ } وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ النَّبِيِّ فَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ افْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُهُ شَمْعُونُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَمْعُونَ، لِأَنَّ أُمَّهُ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ سَمْعُونَ تَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَائِي وَالسِّينُ تَصِيرُ شِينًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَهُوَ شَمْعُونُ بْنُ صَفِيَّةَ بْنِ عَلْقَمَةَ مِنْ وَلَدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ إِشْمَوِيلُ وَهُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَالَ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ إِشْمَوِيلُ وَهُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ بْنَ يَالَ بْنِ عَلْقَمَةَ.

وَقَالَ وَهْبٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ سَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ لَمَّا مَاتَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَفَ بَعْدَهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، يُقِيمُ فِيهِمُ التَّوْرَاةَ وَأَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمْ كَالِبُ كَذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ خَلَفَ حِزْقِيلُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ونسوا عهد لله حَتَّى عَبَدُوا الْأَوْثَانَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ نَبِيًّا فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى يُبْعَثُونَ إِلَيْهِمْ بِتَجْدِيدِ مَا نَسُوا مِنَ التَّوْرَاةِ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِ إِلْيَاسَ الْيَسَعَ فَكَانَ فِيهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ، وَخَلَفَ فِيهِمُ الْخُلُوفُ وَعَظُمَتِ الْخَطَايَا فَظَهَرَ لَهُمْ عَدُوٌّ يُقَالُ لَهُ الْبِلْشَاثَا، وَهُمْ قَوْمُ جَالُوتَ كَانُوا يَسْكُنُونَ سَاحِلَ بَحْرِ الرُّومِ بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِينَ وَهُمُ الْعَمَالِقَةُ فظهروا على 42/أ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَلَبُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَرْضِهِمْ وَسَبَوْا كَثِيرًا مِنْ ذَرَارِيهِمْ وَأَسَرُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِهِمْ أربعين وأربعمائة غلاما، فَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، وَلَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُمْ بَلَاءً وَشِدَّةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَبِيٌّ يُدِيرُ أَمْرَهُمْ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةً حُبْلَى فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ رَهْبَةً أَنْ تَلِدَ جَارِيَةً فَتُبَدِّلَهَا بِغُلَامٍ لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَلَدِهَا وَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَسَمَّتْهُ إِشْمَوِيلَ تَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَائِي، فَكَبِرَ الْغُلَامُ فَأَسْلَمَتْهُ لِيَتَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَفَلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْغُلَامُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى جَنْبِ الشَّيْخِ وَكَانَ لَا يَأْتَمِنُ عَلَيْهِ أَحَدًا فَدَعَاهُ جِبْرِيلُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ يَا إِشْمَوِيلُ، فَقَامَ الْغُلَامُ فَزِعًا إِلَى الشَّيْخِ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ دَعَوْتَنِي؟ فَكَرِهَ الشَّيْخُ أن يقول لئلا فَيَفْزَعُ الْغُلَامُ فَقَالَ يَا بُنَيَّ ارْجِعْ فَنَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَنَامَ ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ الْغُلَامُ يَا أَبَتِ دَعَوْتَنِي؟ فَقَالَ ارْجِعْ فَنَمَّ فَإِنْ دَعْوَتُكَ الثَّالِثَةَ فَلَا تُجِبْنِي( فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَنَامَ ) (1) فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ ظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَكَ فِيهِمْ نَبِيًّا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا: اسْتَعْجَلْتَ بِالنُّبُوَّةِ وَلَمْ تَنَلْكَ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ قِوَامُ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْمُلُوكِ وَطَاعَةِ الْمُلُوكِ لِأَنْبِيَائِهِمْ، فَكَانَ الْمَلِكُ هُوَ الَّذِي يَسِيرُ بِالْجُمُوعِ، وَالنَّبِيُّ يُقِيمُ لَهُ أَمْرَهُ وَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِرُشْدِهِ وَيَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنْ رَبِّهِ، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِشْمَوِيلَ نَبِيًّا فَلَبِثُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً بِأَحْسَنِ حَالٍ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ جَالُوتَ وَالْعَمَالِقَةِ مَا كَانَ فَقَالُوا لِإِشْمَوِيلَ: { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } جَزْمٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ فَلَمَّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ } اسْتِفْهَامُ شَكٍّ.
قَرَأَ نَافِعٌ: عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ كُلَّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { عَسَى رَبُّكُمْ } { إِنْ كُتِبَ } فُرِضَ { عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } مَعَ ذَلِكَ الْمَلِكِ { أَلَّا تُقَاتِلُوا } أَنْ لَا تَفُوا بِمَا تَقُولُوا مَعَهُ { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ دُخُولِ أَنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْعَرَبُ لا تقول مالك أَنْ لَا تَفْعَلَ وَإِنَّمَا يُقَالُ مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ؟ قِيلَ: دُخُولُ أَنْ وَحَذْفُهَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ
__________
(1) ساقط من ب، ومن المطبوع.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا لَكَ أَنْ لَا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ"( 32-الْحِجْرِ ) وَالْحَذْفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"( 8-الْحَدِيدِ ) وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ وَمَا لَنَا فِي أَنْ لَا نُقَاتِلَ فَحَذَفَ "فِي" وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ وَمَا يَمْنَعُنَا أَنْ لَا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا مَنَعَكَ أن لا تَسْجُدَ"( 12-الْأَعْرَافِ ) وَقَالَ الْأَخْفَشُ: "أَنْ" هَاهُنَا زَائِدَةٌ مَعْنَاهُ: وَمَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } أَيْ أُخْرِجَ مَنْ غُلِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْعُمُومُ وَبَاطِنُهُ الْخُصُوصُ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لِنَبِيِّهِمُ: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ وَإِنَّمَا أُخْرِجَ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا مُجِيبِينَ لِنَبِيِّهِمْ: إِنَّمَا كُنَّا نَزْهَدُ فِي الْجِهَادِ إِذْ كُنَّا مَمْنُوعِينَ فِي بِلَادِنَا لَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا عَدُوُّنَا، فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ مِنَّا فَنُطِيعُ رَبَّنَا فِي الْجِهَادِ وَنَمْنَعُ نِسَاءَنَا وَأَوْلَادَنَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا } أَعْرَضُوا عَنِ الْجِهَادِ وَضَيَّعُوا أَمْرَ اللَّهِ { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } الَّذِينَ عَبَرُوا النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْغُرْفَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } وَذَلِكَ أَنَّ إِشْمَوِيلَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا فَأَتَى بِعَصَا وَقَرْنٍ (1) فِيهِ دُهْنُ الْقُدْسِ وَقِيلَ: لَهُ إِنَّ صَاحِبَكُمُ الَّذِي يَكُونُ مَلِكًا طَوُلُهُ طُولُ هَذِهِ الْعَصَا وَانْظُرْ هَذَا الْقَرْنَ الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ فَنَشَّ (2) الدُّهْنُ الَّذِي فِي الْقَرْنِ فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَادَّهِنْ بِهِ رَأْسَهُ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ طَالُوتُ اسْمُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ شَاوِلُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ سُمِّيَ طَالُوتَ لِطُولِهِ وَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِرَأْسِهِ وَمَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ رَجُلًا دَبَّاغًا يَعْمَلُ الْأَدِيمَ (3) قَالَهُ وَهْبٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ رَجُلًا سَقَّاءً يَسْقِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ مِنَ النِّيلِ فَضَلَّ حِمَارُهُ فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ، وَقِيلَ كَانَ خَرَبَنْدَجًا، وَقَالَ وَهْبٌ: بَلْ ضَلَّتْ حُمُرٌ لِأَبِي طَالُوتَ فَأَرْسَلَهُ وَغُلَامًا لَهُ فِي طَلَبِهَا فَمَرَّ بِبَيْتِ إِشْمَوِيلَ فَقَالَ الْغُلَامُ لِطَالُوتَ: لَوْ دَخَلْنَا عَلَى هَذَا النَّبِيِّ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَمْرِ الْحُمُرِ لِيُرْشِدَنَا وَيَدْعُوَ لَنَا، فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَهُ يَذْكُرَانِ لَهُ شَأْنَ الْحُمُرِ إِذْ نَشَّ الدُّهْنُ الَّذِي فِي الْقَرْنِ فَقَامَ إِشْمَوِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَاسَ
__________
(1) أراد القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها.
(2) نش الماء ينش نشا ونشيشأ: إذا صوت عند الغليان.
(3) الجلد أول ما يدبغ فإذا رد في الدباغ مرة أخرى فهو اللديم.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

طَالُوتَ بِالْعَصَا فَكَانَتْ طُولَهُ، فَقَالَ لِطَالُوتَ قَرِّبْ رَأْسَكَ فَقَرَّبَهُ فَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أُمَلِّكَكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ طَالُوتُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ سِبْطِي أَدْنَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْتِي أَدْنَى بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟( قَالَ بَلَى ) (1) قَالَ فَبِأَيِّ آيَةٍ قَالَ: بِآيَةِ أَنَّكَ تَرْجِعُ وَقَدْ وَجَدَ أَبُوكَ حُمُرَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا { قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أَيْ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا { وَنَحْنُ أَحَقُّ } أَوْلَى { بِالْمُلْكِ مِنْهُ } وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ: سِبْطُ نُبُوَّةٍ وَسِبْطُ مَمْلَكَةٍ، فَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ سِبْطَ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ وَمِنْهُ كَانَ مُوسَى وَهَارُونُ وَسِبْطُ الْمَمْلَكَةِ سِبْطُ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ وَمِنْهُ كَانَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَلَمْ يَكُنْ طَالُوتُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ وَكَانُوا عَمِلُوا ذَنْبًا عَظِيمًا، كَانُوا يَنْكِحُونَ النِّسَاءَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ نَهَارًا فَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَنَزَعَ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ عَنْهُمْ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ سِبْطَ الْإِثْمِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ذَلِكَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا هُوَ فَقِيرٌ { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ } اخْتَارَهُ { عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً } فَضِيلَةً وَسَعَةً { فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَقْتِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَتَاهُ الْوَحْيُ حِينَ أُوتِيَ الْمُلْكَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ } بِالْحَرْبِ وَفِيِ( الْجِسْمِ ) بِالطُّولِ وَقِيلَ الْجِسْمُ بِالْجَمَالِ وَكَانَ طَالُوتُ أَجْمَلَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْلَمَهُمْ { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قِيلَ الْوَاسِعُ ذُو السَّعَةِ وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي عَنْ غِنًى، وَالْعَلِيمُ الْعَالِمُ، وَقِيلَ الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَالْعَلِيمُ بِمَا يَكُونُ فَقَالُوا لَهُ: فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ }
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } وَكَانَتْ قِصَّةُ التَّابُوتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ تَابُوتًا عَلَى آدَمَ فِيهِ صُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَانَ مِنْ عُودِ الشِّمْشَاذِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَكَانَ عِنْدَ آدَمَ إِلَى أَنْ مَاتَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ شِيثَ ثُمَّ تَوَارَثَهَا أَوْلَادُ آدَمَ إِلَى أَنْ بَلَغَ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ ثُمَّ عِنْدَ يَعْقُوبَ ثُمَّ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُوسَى فَكَانَ مُوسَى يَضَعُ فِيهِ التَّوْرَاةَ وَمَتَاعًا مِنْ مَتَاعِهِ، فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تَدَاوَلَتْهُ
__________
(1) ساقط من(أ).

أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى وَقْتِ إِشْمَوِيلَ وَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى (1) { فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } اخْتَلَفُوا في السكينة 42/ب مَا هِيَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِيحٌ خَجُوجٌ هَفَّافَةٌ لَهَا رَأْسَانِ وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: شَيْءٌ يُشْبِهُ الْهِرَّةَ لَهُ رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرَّةِ وَذَنَبٌ كَذَنَبِ الْهِرَّةِ وَلَهُ جَنَاحَانِ، وَقِيلَ لَهُ عَيْنَانِ لَهُمَا شُعَاعٌ وَجَنَاحَانِ مِنْ زُمُرُّدٍ وَزَبَرْجَدٍ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا صَوْتَهُ تَيَقَّنُوا بِالنَّصْرِ وَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا وَضَعُوا التَّابُوتَ قُدَّامَهُمْ فَإِذَا سَارَ سَارُوا وَإِذَا وَقَفَ وَقَفُوا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هِيَ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ يَغْسِلُ فِيهِ قُلُوبَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هِيَ رُوحٌ مِنَ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تُخْبِرُهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ (2) ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَيَسْكُنُونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: السَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنَ السُّكُونِ أَيْ طُمَأْنِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَفِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ التَّابُوتُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ وَسَكَنُوا (3) { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ أَنْفُسَهُمَا كَانَ فِيهِ لَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَرُضَاضِ الْأَلْوَاحِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ وَكَانَ فِيهِ عَصَا مُوسَى وَنَعْلَاهُ وَعِمَامَةُ هَارُونَ وَعَصَاهُ وَقَفِيزٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ التَّابُوتُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِذَا حَضَرُوا الْقِتَالَ قَدَّمُوهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَلَمَّا عَصَوْا وَفَسَدُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَمَالِقَةَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى التَّابُوتِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لِعَيْلَى الْعَالِمِ الَّذِي رَبَّى إِشْمَوِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنَانِ شَابَّانِ وَكَانَ عَيْلَى حَبْرَهُمْ وَصَاحِبَ قُرْبَانِهِمْ فَأَحْدَثَ ابْنَاهُ فِي الْقُرْبَانِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لِعَيْلَى مَنُوطُ الْقُرْبَانِ الَّذِي كَانُوا يَنُوطُونَهُ بِهِ كُلَّابَيْنِ، فَمَا أَخْرَجَا كَانَ لِلْكَاهِنِ الَّذِي يَنُوطُهُ، فَجَعَلَ ابْنَاهُ كَلَالِيبَ وَكَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَتَشَبَّثَانِ بِهِنَّ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِشْمَوِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْطَلِقْ إِلَى عَيْلَى فَقُلْ لَهُ مَنَعَكَ حُبُّ الْوَلَدِ مِنْ أَنْ تَزْجُرَ ابْنَيْكَ عَنْ أَنْ يُحْدِثَا فِي قُرْبَانِي وَقُدْسِي وَأَنْ يَعْصِيَانِي فَلَأَنْزِعَنَّ الْكَهَانَةَ مِنْكَ وَمِنْ وَلَدِكَ وَلَأُهْلِكَنَّكَ وَإِيَّاهُمْ، فَأَخْبَرَ إِشْمَوِيلُ عَيْلَى بِذَلِكَ فَفَزِعَ فَزَعًا شَدِيدًا فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَدُوٌّ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ
__________
(1) هذا الكلام عن التابوت وهيئته وتوارثه ... إلخ ليس فيه شيء ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو ثبت ما جاء في التفسير له عن بعض الصحابة أو التابعين، فإنه يبقى محتملا للصدق والكذب، لأن ثبوت القول ونسبته للصحابي في هذه الأمور لا يعني صحته في واقع الأمر، وعلى كل حال لا يتوقف فهم الآيات الكريمة على شيء مما ذكر، والله أعلم.
(2) ليس في السنة الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على شيء من هذا التفسير للسكينة، وهي منقولة عن أهل الكتاب، ولسنا بحاجة إلى شيء من ذلك لتفسير الآية الكريمة، وانظر: الإسرائيليات والموضوعات للشيخ أبي شهبة ص(240).
(3) قال ابن عطية، رحمه الله، مرجحا هذا المعنى: "والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا: فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال: عزم عزيمة، وقطع قطيعة". المحرر الوجيز لابن عطية: 2 / 361. وانظر: تفسير الطبري: 5 / 329-230.

فَأَمَرَ ابْنَيْهِ أَنْ يَخْرُجَا بِالنَّاسِ فَيُقَاتِلَا ذَلِكَ الْعَدُوَّ فَخَرَجَا وَأَخْرَجَا مَعَهُمَا التابوت فلما تهيؤوا لِلْقِتَالِ جَعَلَ عَيْلَى يَتَوَقَّعُ الْخَبَرَ مَاذَا صَنَعُوا فَجَاءَهُ رَجُلٌ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدِ انْهَزَمُوا وَأَنَّ ابْنَيْكَ قَدْ قُتِلَا قَالَ فَمَا فَعَلَ التَّابُوتُ؟ قَالَ ذَهَبَ بِهِ الْعَدُوُّ، فَشَهِقَ وَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ مِنْ كُرْسِيِّهِ وَمَاتَ فَمَرَجَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَفَرَّقُوا إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ طَالُوتَ مَلِكًا فَسَأَلُوهُ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ.
وَكَانَتْ قِصَّةُ التَّابُوتِ، أَنَّ الَّذِينَ سَبَوُا التَّابُوتَ أَتَوْا بِهِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ يُقَالُ لَهَا ازْدَوَدُ وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتِ صَنَمٍ لَهُمْ، وَوَضَعُوهُ تَحْتَ الصَّنَمِ الْأَعْظَمِ، فَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ وَالصَّنَمُ تَحْتَهُ فَأَخَذُوهُ وَوَضَعُوهُ فَوْقَهُ وَسَمَّرُوا قَدَمِيِ الصَّنَمِ عَلَى التَّابُوتِ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُ الصَّنَمِ وَرِجْلَاهُ وَأَصْبَحَ مُلْقًى تَحْتَ التَّابُوتِ وَأَصْبَحَتْ أَصْنَامُهُمْ مُنَكَّسَةً فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْتِ الصَّنَمِ وَوَضَعُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ مَدِينَتِهِمْ فَأَخَذَ أَهْلَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَجَعٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى هَلَكَ أَكْثَرُهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ إِلَهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، فَأَخْرِجُوهُ إِلَى قَرْيَةِ كَذَا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَأْرًا فَكَانَتِ الْفَأْرَةُ تَبِيتُ مَعَ الرَّجُلِ فَيُصْبِحُ مَيِّتًا قَدْ أَكَلَتْ مَا فِي جَوْفِهِ فَأَخْرَجُوهُ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَدَفَنُوهُ فِي مَخْرَأَةٍ لَهُمْ فَكَانَ كُلُّ مَنْ تَبَرَّزَ هُنَاكَ أَخَذَهُ الْبَاسُورُ وَالْقُولَنْجُ فَتَحَيَّرُوا، فَقَالَتْ لَهُمُ امْرَأَةٌ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ سَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَزَالُونَ تَرَوْنَ مَا تَكْرَهُونَ مَا دَامَ هَذَا التَّابُوتُ فِيكُمْ فَأَخْرِجُوهُ عَنْكُمْ، فَأَتَوْا بِعَجَلَةٍ بِإِشَارَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَحَمَلُوا عَلَيْهَا التَّابُوتَ ثُمَّ عَلَّقُوهَا عَلَى ثَوْرَيْنِ وَضَرَبُوا جَنُوبَهُمَا فَأَقْبَلَ الثَّوْرَانِ يَسِيرَانِ وَوَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا فَأَقْبَلَا حَتَّى وَقَفَا عَلَى أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَسَرَا نَيْرَيْهِمَا وَقَطَعَا حِبَالَهُمَا وَوَضَعَا التَّابُوتَ فِي أَرْضٍ فِيهَا حَصَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَجَعَا إِلَى أَرْضِهِمَا فَلَمْ يُرَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا بِالتَّابُوتِ فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ } أَيْ تَسُوقُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ التَّابُوتُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ فَلَمَّا وَلِيَ طَالُوتُ الْمُلْكَ حَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَوَضَعَتْهُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ بَلْ كَانَ التَّابُوتُ فِي التِّيهِ خَلَّفَهُ مُوسَى عِنْدَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ فَبَقِيَ هُنَاكَ فَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ فَأَقَرُّوا بِمُلْكِهِ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } لَعِبْرَةً { لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ
__________
(1) كل هذا من أخبار بني إسرائيل الذين غيروا وبدلوا، فالله أعلم بصحتها.

التَّابُوتَ وَعَصَا مُوسَى فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَةَ وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) .
__________
(1) يقول الشيخ أبو شهبة رحمه الله: "والذي نقطع به، ويجب الإيمان به: أنه كان في بني إسرائيل تابوت - أي صندوق - من غير بحث في حقيقته، وهيئته، ومن أين جاء، إذ ليس في ذلك خبر صحيح عن المعصوم، وأن هذا التابوت كان فيه مخلفات من مخلفات موسى وهارن - عليهما السلام - مع احتمال أن يكون تعيين ذلك في بعض ما ذكرنا آنفا - مما سبق في البغوي وغيره من روايات - وأن هذا التابوت كان مصدر سكينة وطمأنينة لبني اسرائيل، ولا سيما عند قتالهم عدوهم، وأنه عاد إلى بني إسرائيل، تحمله الملائكة، من غير بحث في الطريق التي حملته بها الملائكة، وبذلك: كان التابوت آية دالة على صدق طالوت في كنه ملكا عليهم، وما وراء ذلك من الأخبار التي سمعتها: لم يقم عليها دليل" انظر: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص 243. وأما الأستاذ سيد قطب، رحمه الله، فقد أعرض عن كل هذه الروايات الإسرائيلية، ليعرض لنا ما توحي إليه الآيات الكريمة من دروس مستخلصة من تجارب تلك الأمم السابقة، مما جاء القرآن الكريم لتثبيته في النفوس المؤمنة وتربيتها عليه، انظر: في ظلال القرآن: 2 / 260 وما بعدها، طبع دار الشروق.

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } أَيْ خَرَجَ بِهِمْ، وَأَصْلُ الْفَصْلِ: الْقَطْعُ، يَعْنِي قَطَعَ مُسْتَقَرَّهُ شَاخِصًا إِلَى غَيْرِهِ فَخَرَجَ طَالُوتُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْجُنُودِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ أَلْفًا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا كَبِيرٌ لِهَرَمِهِ أَوْ مَرِيضٌ لِمَرَضِهِ أَوْ مَعْذُورٌ لِعُذْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا التَّابُوتَ لَمْ يَشُكُّوا فِي النَّصْرِ، فَتَسَارَعُوا إِلَى الْجِهَادِ، فَقَالَ طَالُوتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِي كُلِّ مَا أَرَى، لَا يَخْرُجْ مَعِي رَجُلٌ بَنَى بِنَاءً لَمْ يَفْرَغْ مِنْهُ وَلَا صَاحِبُ تِجَارَةٍ يَشْتَغِلُ بِهَا وَلَا رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَبْنِ بِهَا وَلَا أَبْتَغِي إِلَّا الشَّبَابَ النَّشِيطَ الْفَارِغَ فَاجْتَمَعَ لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفًا مِمَّنْ شَرَطَهُ وَكَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ فَشَكَوْا قِلَّةَ الْمَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْمِيَاهَ قَلِيلَةٌ لَا تَحْمِلُنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَنَا نَهْرًا.
{ قَالَ } طَالُوتُ { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ } مُخْتَبِرُكُمْ لِيَرَى طَاعَتَكُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ -{ بِنَهَرٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ نَهْرُ فِلَسْطِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ عَذْبٌ { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِي وَطَاعَتِي { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ } يَشْرَبْهُ { فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو "غَرْفَةً" بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْغُرْفَةُ بِالضَّمِّ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْكَفِّ مِنَ الْمَاءِ إِذَا غُرِفَ، وَالْغَرْفَةُ: بِالْفَتْحِ الِاغْتِرَافُ فَالضَّمُّ اسْمٌ وَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَلِيلِ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا، فَقَالَ

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

السِّدِّيُّ: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ (1) .
وَيُرْوَى ثَلَاثَمِائَةٍ وثلاثة عشر 43/أ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى النَّهْرِ وَقَدْ أُلْقِيَ عَلَيْهِمُ الْعَطَشُ فَشَرِبَ مِنْهُ الْكُلُّ إِلَّا هَذَا الْعَدَدَ الْقَلِيلَ فَمَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً كَمَا أَمَرَ اللَّهُ قَوِيَ قَلْبُهُ وَصَحَّ إِيمَانُهُ وَعَبَرَ النَّهْرَ سَالِمًا وَكَفَتْهُ تِلْكَ الْغُرْفَةُ الْوَاحِدَةُ لِشُرْبِهِ وَحَمْلِهِ وَدَوَابَّهُ، وَالَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ اسْوَدَّتْ شِفَاهُهُمْ وَغَلَبَهُمُ الْعَطَشُ فَلَمْ يَرْوُوا وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ وَجَبَنُوا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فَلَمْ يُجَاوِزُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا الْفَتْحَ.
وَقِيلَ كُلُّهُمْ جَاوَزُوا وَلَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } يَعْنِي النَّهْرَ { هُوَ } يَعْنِي طَالُوتَ { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } يَعْنِي الْقَلِيلَ { قَالُوا } يَعْنِي الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَكَانُوا أَهْلَ شَكٍّ وَنِفَاقٍ { لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالسُّدِّيُّ: فَانْحَرَفُوا وَلَمْ يُجَاوِزُوا { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } يَسْتَيْقِنُونَ { أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ } الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ طَالُوتَ { كَمْ مِنْ فِئَةٍ } جَمَاعَةٍ وَهِيَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَجَمْعُهُ فِئَاتٌ وَفِئُونَ فِي الرَّفْعِ وَفِئِينَ فِي الْخَفْضِ وَالنَّصْبِ { قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } بِقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ.
{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) }
{ وَلَمَّا بَرَزُوا } يَعْنِي طَالُوتَ وَجُنُودَهُ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } الْمُشْرِكِينَ وَمَعْنَى بَرَزُوا صَارُوا بِالْبِرَازِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ وَاسْتَوَى { قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا } أَنْزَلَ وَاصْبُبْ { صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } قُلُوبَنَا { وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }
{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أَيْ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } وَصِفَةُ قَتْلِهِ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ (2)
__________
(1) رواه البخاري في المغازي: باب: عدة أصحاب بدر. 7 / 290.
(2) هذه الأقوال عن أهل التفسير بمجملها من الإسرائيليات، ونحن في غنية عنه مما ف أيدينا من الكتاب والسنة، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على ما ذكروه، ولسنا في حاجة إلى شيء من هذا في فهم القرآن وتدبره، فلا تلق إليه بالا ... وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أن ذلك مما ذكر في الإسرائيليات انظر تفسير ابن كثير 1 / 537 طبع دار الأرقم. الإسرائيليات والموضوعات لشيخ أبي شهبة ص248-249.

عَبَرَ النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ فِيمَنْ عَبَرَ إِيشَا أَبُو دَاوُدَ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ ابْنًا لَهُ وَكَانَ دَاوُدُ أَصْغَرَهُمْ وَكَانَ يَرْمِي بِالْقَذَّافَةِ فَقَالَ لِأَبِيهِ يَوْمًا يَا أَبَتَاهُ مَا أَرْمِي بِقَذَّافَتِي شَيْئًا إِلَّا صَرَعَتْهُ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقَكَ فِي قَذَّافَتِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ لَقَدْ دَخَلْتُ بَيْنَ الْجِبَالِ فَوَجَدْتُ أَسَدًا رَابِضًا فَرَكِبْتُهُ فَأَخَذْتُ بِأُذُنَيْهِ فَلَمْ يَهْجُنِي، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ يُرِيدُهُ اللَّهُ بِكَ ثُمَّ أَتَاهُ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ إِنِّي لَأَمْشِي بَيْنَ الْجِبَالِ فَأُسَبِّحُ فَمَا يَبْقَى جَبَلٌ إِلَّا سَبَّحَ مَعِي، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ أَعْطَاكَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَرْسَلَ جَالُوتُ إِلَى طَالُوتَ أَنِ ابْرُزْ إِلَيَّ أَوْ أَبْرِزْ إِلَيَّ مَنْ يُقَاتِلُنِي فَإِنْ قَتَلَنِي فَلَكُمْ مُلْكِي وَإِنْ قَتَلْتُهُ فَلِي مُلْكُكُمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى طَالُوتَ فَنَادَى فِي عَسْكَرِهِ مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي وَنَاصَفْتُهُ مُلْكِي فَهَابَ النَّاسُ جَالُوتَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَسَأَلَ طَالُوتُ نَبِيَّهُمْ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى فَدَعَا اللَّهَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَى بِقَرْنٍ فِيهِ دُهْنُ الْقُدْسِ وَتَنُّورٍ فِي حَدِيدٍ فَقِيلَ إِنَّ صَاحِبَكُمُ الَّذِي يَقْتُلُ جَالُوتَ هُوَ الَّذِي يُوضَعُ هَذَا الْقَرْنُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَغْلِي الدُّهْنُ حَتَّى يَدْهُنَ مِنْهُ رَأْسَهُ وَلَا يَسِيلَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَكُونَ عَلَى رَأْسِهِ كَهَيْئَةِ الْإِكْلِيلِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّنُّورِ فَيَمْلَؤُهُ وَلَا يَتَقَلْقَلُ فِيهِ، فَدَعَا طَالُوتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَرَّبَهُمْ فَلَمْ يُوَافِقْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّ فِي وَلَدِ إِيشَا مَنْ يَقْتُلُ اللَّهُ بِهِ جَالُوتَ فَدَعَا طَالُوتُ إِيشَا فَقَالَ: اعْرِضْ عَلَيَّ بَنِيكَ فَأَخْرَجَ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَمْثَالَ السَّوَارِي (1) فَجَعَلَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى الْقَرْنِ فَلَا يَرَى شَيْئًا فَقَالَ: لِإِيشَا هَلْ بَقِيَ لَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُمْ فَقَالَ لَا فَقَالَ النَّبِيُّ: يَا رَبِّ إِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَا وَلَدَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ كَذَبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ رَبِّي كَذَّبَكَ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ لِي ابْنًا صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِقِصَرِ قَامَتِهِ وَحَقَارَتِهِ( فَخَلَّفْتُهُ ) (2) فِي الْغَنَمِ يَرْعَاهَا وَهُوَ فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ دَاوُدُ رَجُلًا قَصِيرًا مِسْقَامًا (3)
__________
(1) جمع سارية: وهي الأسطوانة، من حجارة أو آجر، وفي الحديث أنه نهى أن يصلي بين السواري، وذلك في صلاة الجماعة، من أجل انقطاع الصف.
(2) في أ فجعلته.
(3) رجل مسقام، وامرأة مسقام أيضا: أي كثير السقم لا يكاد يبرأ.

مِصْفَارًا (1) أَزْرَقَ (2) أَمْعَرَ (3) ، فَدَعَاهُ طَالُوتُ، وَيُقَالُ: بَلْ خَرَجَ طَالُوتُ إِلَيْهِ فَوَجَدَ الْوَادِيَ قَدْ سَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّرِيبَةِ الَّتِي كَانَ يُرِيحُ إِلَيْهَا، فَوَجَدَهُ يَحْمِلُ شَاتَيْنِ يُجِيزُ بِهِمَا السَّيْلَ وَلَا يَخُوضُ بِهِمَا الْمَاءَ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: هَذَا هُوَ لَا شَكَّ فِيهِ، هَذَا يَرْحَمُ الْبَهَائِمَ فَهُوَ بِالنَّاسِ أَرْحَمُ فَدَعَاهُ وَوَضَعَ الْقَرْنَ عَلَى رَأْسِهِ فَفَاضَ فَقَالَ طَالُوتُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ جَالُوتَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي وَأُجْرِي خَاتَمَكَ فِي مُلْكِي قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَهَلْ آنَسْتَ مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا تَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قَتْلِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَرْعَى فَيَجِيءُ الْأَسَدُ أَوِ النَّمِرُ أَوِ الذِّئْبُ فَيَأْخُذُ شَاةً فَأَقُومُ إِلَيْهِ فَأَفْتَحُ لِحْيَيْهِ عَنْهَا وَأَضْرِقُهَا إِلَى قَفَاهُ، فَرَدَّهُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَمَرَّ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي طَرِيقِهِ بِحَجَرٍ فَنَادَاهُ الْحَجَرُ يَا دَاوُدُ احْمِلْنِي فَإِنِّي حَجَرُ هَارُونَ الَّذِي قَتَلَ بِي مَلِكَ كَذَا، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِحَجَرٍ آخَرَ فَقَالَ: احْمِلْنِي فَإِنِّي حَجَرُ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ بِي مَلِكَ كَذَا وَكَذَا فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِحَجَرٍ آخَرَ فَقَالَ: احْمِلْنِي فَإِنِّي حَجَرُكَ الَّذِي تَقْتُلُ بِي جَالُوتَ فَوَضَعَهَا فِي مِخْلَاتِهِ، فَلَمَّا تَصَافُّوا لِلْقِتَالِ وَبَرَزَ جَالُوتُ وَسَأَلَ الْمُبَارَزَةَ انْتُدِبَ لَهُ دَاوُدُ فَأَعْطَاهُ طَالُوتُ فَرَسًا وَدِرْعًا وَسِلَاحًا فَلَبِسَ السِّلَاحَ وَرَكِبَ الْفَرَسَ وَسَارَ قَرِيبًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَنْ حَوْلَهُ جَبَنَ الْغُلَامُ فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِنْ لَمْ يَنْصُرْنِي لَمْ يُغْنِ عَنِّي هَذَا السِّلَاحُ شَيْئًا، فَدَعْنِي أُقَاتِلْ كَمَا أُرِيدُ، قَالَ: فَافْعَلْ مَا شِئْتَ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ دَاوُدُ مِخْلَاتَهُ فَتَقَلَّدَهَا وَأَخَذَ الْمِقْلَاعَ وَمَضَى نَحْوَ جَالُوتَ وَكَانَ جَالُوتُ مِنْ أَشَدِّ الرِّجَالِ وَأَقْوَاهُمْ، وَكَانَ يَهْزِمُ الْجُيُوشَ وَحْدَهُ وَكَانَ لَهُ بَيْضَةٌ (4) فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ رَطْلِ حَدِيدٍ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى دَاوُدَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَبْرُزُ إِلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَكَانَ جَالُوتُ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ (5) عَلَيْهِ السِّلَاحُ التَّامُّ، قَالَ: فَأَتَيْتَنِي بِالْمِقْلَاعِ وَالْحَجَرِ كَمَا يُؤْتَى الْكَلْبُ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْكَلْبِ، قَالَ لَا جَرَمَ لَأَقْسِمَنَّ لَحْمَكَ بَيْنَ سِبَاعِ الْأَرْضِ وَطَيْرِ السَّمَاءِ قَالَ دَاوُدُ: أَوْ يُقَسِّمُ اللَّهُ لَحْمَكَ، فَقَالَ دَاوُدُ: بِاسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَأَخْرَجَ حَجَرًا ثُمَّ أَخْرَجَ الْآخَرَ وَقَالَ: بِاسْمِ إِلَهِ إِسْحَاقَ وَوَضَعَهُ فِي مِقْلَاعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَ الثَّالِثَ وَقَالَ: بِاسْمِ إِلَهِ يَعْقُوبَ وَوَضَعَهُ فِي مِقْلَاعِهِ فَصَارَتْ كُلُّهَا حَجَرًا وَاحِدًا وَدَوَّرَ دَاوُدُ الْمِقْلَاعَ وَرَمَى بِهِ فَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الرِّيحَ حَتَّى أَصَابَ الْحَجَرَ أَنْفَ الْبَيْضَةِ فَخَالَطَ دِمَاغَهُ وَخَرَجَ مِنْ قَفَاهُ وَقَتَلَ مِنْ وَرَائِهِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا وَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَيْشَ وَخَرَّ جَالُوتُ قَتِيلًا فَأَخَذَهُ يَجُرُّهُ حَتَّى أَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ دَاوُدَ فَجَاءَ دَاوُدُ طَالُوتَ وَقَالَ انْجُزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، فَقَالَ: أَتُرِيدُ ابْنَةَ الْمَلِكِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؟ فَقَالَ دَاوُدُ: مَا
__________
(1) من قولهم اصفار لونه: غلبته الصفرة، وذلك من المرض والضعف.
(2) يريد أزرق العينين، وكانت العرب تتشاءم من الزرق.
(3) قليل الشعر.
(4) لباس الرأس في الحرب.
(5) سواد وبياض وارتفاع التحجيل إلى الفخذين.

شَرَطْتَ عَلَيَّ صَدَاقًا وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ فَقَالَ لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا مَا تُطِيقُ أَنْتَ رَجُلٌ جَرِيءٌ وَفِي حِيَالِنَا أَعْدَاءٌ لَنَا غُلْفٌ (1) فَإِذَا قَتَلْتَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ رَجُلٍ وَجِئْتَنِي بِغُلْفِهِمْ زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ كُلَّمَا قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ نَظَمَ غُلْفَتَهُ فِي خَيْطٍ حَتَّى نَظَمَ غُلْفَهُمْ فَجَاءَ بِهَا إِلَى طَالُوتَ فَأَلْقَى إِلَيْهِ وَقَالَ ادْفَعْ إِلَيَّ امْرَأَتِي فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَأَجْرَى خَاتَمَهُ فِي مُلْكِهِ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ وَأَحَبُّوهُ وَأَكْثَرُوا ذِكْرَهُ، فَحَسَدَهُ طَالُوتُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَأَخْبَرَ ذَلِكَ ابْنَةَ طَالُوتَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْعَيْنَيْنِ فَقَالَتْ لِدَاوُدَ إِنَّكَ مَقْتُولٌ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَالَ: وَمَنْ يَقْتُلُنِي؟ قالت أبي 43/ب قَالَ وَهَلْ أَجْرَمْتُ جُرْمًا قَالَتْ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا يَكْذِبُ وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَغِيبَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ حَتَّى تَنْظُرَ مِصْدَاقَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ لَا أَسْتَطِيعُ خُرُوجًا وَلَكِنِ ائْتِينِي بِزِقِّ (2) خَمْرٍ فَأَتَتْ بِهِ فَوَضَعَهُ فِي مَضْجَعِهِ عَلَى السَّرِيرِ وَسَجَاهُ (3) وَدَخَلَ تَحْتَ السَّرِيرِ فَدَخَلَ طَالُوتُ نِصْفَ اللَّيْلِ فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ بَعْلُكِ؟ فَقَالَتْ: هُوَ نَائِمٌ عَلَى السَّرِيرِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً فَسَالَ الْخَمْرُ فَلَمَّا وَجَدَ رِيحَ الشَّرَابِ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ مَا كَانَ أَكْثَرَ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ، وَخَرَجَ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا طَلَبْتُ مِنْهُ مَا طَلَبْتُ لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يَدَعَنِي حَتَّى يُدْرِكَ مِنِّي ثَأْرَهُ فَاشْتَدَّ حُجَّابُهُ وَحُرَّاسُهُ وَأَغْلَقَ دُونَهُ أَبْوَابَهُ، ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ لَيْلَةً وَقَدْ هَدَأَتِ الْعُيُونُ فَأَعْمَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَبَةَ وَفَتَحَ لَهُ الْأَبْوَابَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَوَضَعَ سَهْمًا عِنْدَ رَأْسِهِ وَسَهْمًا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَسَهْمًا عَنْ يَمِينِهِ وَسَهْمًا عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَالُوتُ بَصُرَ بِالسِّهَامِ فَعَرَفَهَا فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ تَعَالَى دَاوُدَ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ظَفِرْتُ بِهِ فَقَصَدْتُ قَتْلَهُ وَظَفِرَ بِي فَكَفَّ عَنِّي وَلَوْ شَاءَ لَوَضَعَ هَذَا السَّهْمَ فِي حَلْقِي وَمَا أَنَا بِالَّذِي آمَنُهُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْقَابِلَةُ أَتَاهُ ثَانِيًا وَأَعْمَى اللَّهُ الْحُجَّابَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَخَذَ إِبْرِيقَ طَالُوتَ الَّذِي كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَكُوزَهُ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ وَقَطَعَ شَعَرَاتٍ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَيْئًا مِنْ هُدْبِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَهَرَبَ وَتَوَارَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَالُوتُ وَرَأَى ذَلِكَ سَلَّطَ عَلَى دَاوُدَ الْعُيُونَ وَطَلَبَهُ أَشَدَّ الطَّلَبِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ طَالُوتَ رَكِبَ يَوْمًا فَوَجَدَ دَاوُدَ يَمْشِي فِي الْبَرِيَّةِ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَقْتُلُهُ فَرَكَضَ عَلَى أَثَرِهِ، فَاشْتَدَّ دَاوُدُ وَكَانَ إِذَا فَزِعَ لَمْ يُدْرَكْ، فَدَخَلَ غَارًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَنْكَبُوتِ فَنَسَجَ عَلَيْهِ بَيْتًا فَلَمَّا انْتَهَى طَالُوتُ إِلَى الْغَارِ وَنَظَرَ إِلَى بِنَاءِ الْعَنْكَبُوتِ قَالَ: لَوْ كَانَ دَخَلَ هَاهُنَا لَخَرَقَ بِنَاءَ الْعَنْكَبُوتِ فَتَرَكَهُ وَمَضَى، فَانْطَلَقَ دَاوُدُ وَأَتَى الْجَبَلَ مَعَ الْمُتَعَبِّدِينَ فَتَعَبَّدَ فِيهِ فَطَعَنَ الْعُلَمَاءُ وَالْعِبَادُ عَلَى طَالُوتَ فِي شَأْنِ دَاوُدَ فَجَعَلَ طَالُوتُ لَا يَنْهَاهُ أَحَدٌ عَنْ قَتْلِ دَاوُدَ إِلَّا قَتَلَهُ، وَأَغْرَى بِقَتْلِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى عَالِمٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُطِيقُ قَتْلَهُ إِلَّا قَتَلَهُ، حَتَّى أُتِيَ بِامْرَأَةٍ تَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَأَمَرَ خَبَّازَهُ بِقَتْلِهَا فَرَحِمَهَا
__________
(1) جمع أغلف، وهو الذي لم يختتن.
(2) الزق: (بكسر الزاي) جلد شاة يسلخ من رجل واحدة، ومن قبل رأسه وعنقه، ثم يعالج حتى يكون سقاء، وكانوا أكثر ما يتخذونه للخمر.
(3) غطاه ومد عليه ثوبا.

الْخَبَّازُ وَقَالَ: لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ إِلَى عَالِمٍ فَتَرَكَهَا فَوَقَعَ فِي قَلْبِ طَالُوتَ التَّوْبَةُ وَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْبُكَاءِ حَتَّى رَحِمَهُ النَّاسُ.
وَكَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ يَخْرُجُ إِلَى الْقُبُورِ فَيَبْكِي وَيُنَادِي: أَنْشُدُ اللَّهَ عَبْدًا يَعْلَمُ أَنَّ لِي تَوْبَةً إِلَّا أَخْبَرَنِي بِهَا، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِمْ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ الْقُبُورِ يَا طَالُوتُ أَمَا تَرْضَى أَنْ قَتَلْتَنَا حَتَّى تُؤْذِيَنَا أَمْوَاتًا فَازْدَادَ بُكَاءً وَحُزْنًا فَرَحِمَهُ الْخَبَّازُ فَقَالَ: مَا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ؟ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ لِي فِي الْأَرْضِ عَالِمًا أَسْأَلُهُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ الْخَبَّازُ: إِنَّمَا مَثَلُكَ مَثَلُ مَلِكٍ نَزَلَ قَرْيَةً عِشَاءً فَصَاحَ الدِّيكُ فَتَطَيَّرَ مِنْهُ فَقَالَ: لَا تَتْرُكُوا فِي الْقَرْيَةِ دِيكًا إِلَّا ذَبَحْتُمُوهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا صَاحَ الدِّيكُ فَأَيْقِظُونَا حَتَّى نُدْلِجَ فَقَالُوا لَهُ: وَهَلْ تَرَكْتَ دِيكًا نَسْمَعُ صَوْتَهُ؟ وَلَكِنْ هَلْ تَرَكْتَ عَالِمًا فِي الْأَرْضِ؟ فَازْدَادَ حُزْنًا وَبُكَاءً فَلَمَّا رَأَى الْخَبَّازُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتُكَ إِنْ دَلَلْتُكَ عَلَى عَالِمٍ لَعَلَّكَ أَنْ تَقْتُلَهُ قَالَ: لَا فَتَوَثَّقَ عَلَيْهِ الْخَبَّازُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْعَالِمَةَ عِنْدَهُ قَالَ: انْطَلِقْ بِي إِلَيْهَا أَسْأَلْهَا هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَإِذَا فَنِيَتْ رِجَالُهُمْ عَلِمَتْ نِسَاؤُهُمْ فَلَمَّا بَلَغَ طَالُوتُ الْبَابَ قَالَ الْخَبَّازُ إِنَّهَا إِذَا رَأَتْكَ فَزِعَتْ فَخَلَّفَهُ خَلْفَهُ ثُمَّ دَخَلَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: أَلَسْتُ أَعْظَمَ النَّاسِ مِنَّةً عَلَيْكِ أَنْجَيْتُكِ مِنَ الْقَتْلِ وَآوَيْتُكِ، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ لِي إِلَيْكِ حَاجَةً هَذَا طَالُوتُ يَسْأَلُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَغُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْفَرَقِ فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ لَا يُرِيدُ قَتْلَكِ وَلَكِنْ يَسْأَلُكَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ لِطَالُوتَ تَوْبَةً، وَلَكِنْ هَلْ تَعْلَمُونَ مَكَانَ قَبْرِ نَبِيٍّ؟ فَانْطَلَقَ بِهِمَا إِلَى قَبْرِ إِشْمَوِيلَ فَصَلَّتْ وَدَعَتْ ثُمَّ نَادَتْ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ فَخَرَجَ إِشْمَوِيلُ مِنَ الْقَبْرِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ التُّرَابِ فلما نظر إليهم ثَلَاثَتِهُمْ قَالَ: مَا لَكُمْ أَقَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ طَالُوتُ يَسْأَلُكَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ إِشْمَوِيلُ: يَا طَالُوتُ مَا فَعَلْتَ بَعْدِي؟ قَالَ: لَمْ أَدَعْ مِنَ الشَّرِّ شَيْئًا إِلَّا فَعَلْتُهُ وَجِئْتُ أَطْلُبُ التَّوْبَةَ قَالَ: كَمْ لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ عَشَرَةُ رِجَالٍ، قَالَ: مَا أَعْلَمُ لَكَ مِنْ تَوْبَةٍ إِلَّا أَنْ تَتَخَلَّى مِنْ مُلْكِكَ وَتَخْرُجَ أَنْتَ وَوَلَدُكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُقَدِّمَ وَلَدَكَ حَتَّى يُقْتَلُوا بَيْنَ يَدَيْكَ ثُمَّ تُقَاتِلَ أَنْتَ حَتَّى تُقْتَلَ آخِرَهُمْ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِشْمَوِيلُ إِلَى الْقَبْرِ وَسَقَطَ مَيِّتًا، وَرَجَعَ طَالُوتُ أَحْزَنَ مَا كَانَ رَهْبَةً أَنْ لَا يُتَابِعَهُ وَلَدُهُ وَقَدْ بَكَى حَتَّى سَقَطَتْ أَشْفَارُ عَيْنَيْهِ وَنَحُلَ جِسْمُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَوْلَادُهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ دُفِعْتُ إِلَى النَّارِ هَلْ كُنْتُمْ تَفْدُونَنِي؟ قَالُوا: نَعَمْ نَفْدِيكَ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ قَالَ: فَإِنَّهَا النَّارُ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ قَالُوا: فَاعْرِضْ عَلَيْنَا فَذَكَرَ لَهُمُ الْقِصَّةَ، قَالُوا: وَإِنَّكَ لِمَقْتُولٌ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَلَا خَيْرَ لَنَا فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكَ قَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا بِالَّذِي سَأَلْتَ، فَتَجَهَّزَ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ فَتَقَدَّمَ وَلَدُهُ وَكَانُوا عَشَرَةً فَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى قُتِلُوا ثُمَّ شَدَّ هُوَ بَعْدَهُمْ حَتَّى قُتِلَ فَجَاءَ قَاتِلُهُ إِلَى دَاوُدَ لِيُبَشِّرَهُ وَقَالَ: قَتَلْتُ عَدُوَّكَ فَقَالَ دَاوُدُ: مَا أَنْتَ بِالَّذِي تَحْيَا بَعْدَهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَكَانَ مُلْكُ طَالُوتَ إِلَى أَنْ قُتِلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَتَى بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى دَاوُدَ وَأَعْطَوْهُ خَزَائِنَ طَالُوتَ وَمَلَّكُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: مَلَكَ دَاوُدُ بَعْدَ قَتْلِ طَالُوتَ سَبْعَ سِنِينَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى مَلِكٍ وَاحِدٍ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ } يَعْنِي: النُّبُوَّةَ؛ جَمَعَ اللَّهُ لِدَاوُدَ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ، بَلْ كَانَ الْمُلْكُ فِي سِبْطٍ وَالنُّبُوَّةُ فِي سِبْطٍ، وَقِيلَ: الْمُلْكُ وَالْحِكْمَةُ هُوَ الْعِلْمُ مَعَ الْعَمَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ يَعْنِي: صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَكَانَ يَصْنَعُهَا وَيَبِيعُهَا وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَقِيلَ مَنْطِقُ الطَّيْرِ( وَكَلَامُ الْحُكْلِ ) (1) وَالنَّمْلِ وَالْكَلَامُ الْحَسَنُ وَقِيلَ هُوَ الزَّبُورُ وَقِيلَ هُوَ الصَّوْتُ الطَّيِّبُ وَالْأَلْحَانُ فَلَمْ يُعْطِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِثْلَ صَوْتِهِ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ تَدْنُو الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا وَتُظِلَّهُ الطَّيْرُ مُصِيخَةً لَهُ وَيَرْكُدَ الْمَاءُ( الْجَارِي ) (2) وَيَسْكُنَ الرِّيحُ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ سِلْسِلَةً مَوْصُولَةً بِالْمَجَرَّةِ وَرَأَسُهَا عِنْدَ صَوْمَعَتِهِ قُوَّتُهَا قُوَّةُ الْحَدِيدِ وَلَوْنُهَا لَوْنُ النَّارِ وَحِلَقُهَا مُسْتَدِيرَةٌ مُفَصَّلَةً بِالْجَوَاهِرِ مُدَسَّرَةً بِقُضْبَانِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فَلَا يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ حَدَثٌ إِلَّا صَلْصَلَتِ السِّلْسِلَةُ، فَعَلِمَ دَاوُدُ ذَلِكَ الْحَدَثَ، وَلَا يَمَسُّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، وَكَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا بَعْدَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ رُفِعَتْ، فَمَنْ تَعَدَّى عَلَى صَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ لَهُ حَقًّا أَتَى السِّلْسِلَةَ فَمَنْ كَانَ صَادِقًا مَدَّ يَدَهُ إِلَى السِّلْسِلَةِ فَتَنَاوَلَهَا، وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَنَلْهَا فَكَانَتْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ بِهِمُ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فَبَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِهَا أودع رجلأ 44/أ جَوْهَرَةً ثَمِينَةً فَلَمَّا اسْتَرَدَّهَا أَنْكَرَ فَتَحَاكَمَا إِلَى السِّلْسِلَةِ، فَعَمَدَ الَّذِي عِنْدَهُ الْجَوْهَرَةُ إِلَى عُكَّازَةٍ فَنَقَرَهَا وَضَمَّنَهَا الْجَوْهَرَةَ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا حَتَّى حَضَرَ السِّلْسِلَةَ فَقَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: رُدَّ عَلَيَّ الْوَدِيعَةَ فَقَالَ صَاحِبُهُ: مَا أَعْرِفُ لَكَ عِنْدِي مِنْ وَدِيعَةٍ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَتَنَاوَلِ السِّلْسِلَةَ، فَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ فَقِيلَ لِلْمُنْكِرِ قُمْ أَنْتَ فَتُنَاوَلْهَا فَقَالَ لِصَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ: خُذْ عُكَّازِي هَذِهِ فَاحْفَظْهَا حَتَّى أَتَنَاوَلَ السِّلْسِلَةَ فَأَخَذَهَا عِنْدَهُ ثُمَّ قَامَ الْمُنْكِرُ نَحْوَ السِّلْسِلَةِ فَأَخَذَهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْوَدِيعَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا عَلَيَّ قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ فَقَرِّبْ مِنِّي السِّلْسِلَةَ فَمَدَّ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا فَتَعَجَّبَ الْقَوْمُ وَشَكُّوا فِيهَا فَأَصْبَحُوا وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ السِّلْسِلَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ " دِفَاعُ اللَّهِ " ) بِالْأَلِفِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ وَهُوَ الدَّافِعُ وَحْدَهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْأَلِفِ قَالَ: قَدْ يَكُونُ الدِّفَاعُ مِنْ وَاحِدٍ مِثْلُ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَحْسَنَ اللَّهُ عَنْكَ الدِّفَاعَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِجُنُودِ الْمُسْلِمِينَ لَغَلَبَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْأَرْضِ، فَقَتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَخَرَّبُوا الْمَسَاجِدَ وَالْبِلَادَ، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْأَبْرَارِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ لَهَلَكَتِ الْأَرْضُ بِمَنْ فِيهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ
__________
(1) من ب، والحكل: ما لا يسمع له صوت.
(2) ساقط من (أ).

يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِ عَنِ الْكَافِرِ وَبِالصَّالِحِ عَنِ الْفَاجِرِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنَجْوَيْهِ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَرْجَةَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَا أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ أَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ أَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ وَبَرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحَ عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ" ثُمَّ قَرَأَ "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ" (1) { لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير: 5 / 374، وفيه يحيى بن سعيد العطار، ضعفه ابن معين وغيره، وقال أبو داود: "جائز الحديث" وقال محمد بن مصفى الحمصي الحافظ: ثقة. وترجمه البخاري في الكبير، فلم يذكر فيه جرحا. وقال ابن كثير بعد عزو الحديث للطبري: هذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد ضعيف جدا، التفسير 1 / 537، دار الأرقم وعزاه الهيثمي للطبراني في الكبير والأوسط، وقال: فيه يحيى بن سعيد وهو ضعيف انظر: مجمع الزوائد: 8 / 163-164، فيض القدير: 2 / 261.

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } أَيْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ آيَةً إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ نَبِيُّنَا مِثْلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَفُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ بِآيَاتٍ مِثْلُ: انْشِقَاقِ الْقَمَرِ بِإِشَارَتِهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ عَلَى مُفَارَقَتِهِ، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ، وَكَلَامِ الْبَهَائِمِ وَالشَّهَادَةِ بِرِسَالَتِهِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَأَظْهَرَهَا الْقُرْآنُ الَّذِي عَجَزَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي

سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، أَخْبَرَنَا (2) هُشَيْمٌ، أَنَا سَيَّارٌ، أَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ، أَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يعطهن أحد قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أَيْ مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ } ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ بِفَضْلِ اللَّهِ { وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } بِخُذْلَانِهِ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أَعَادَهُ تَأْكِيدًا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ فَضْلًا وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا.
سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْقَدَرِ؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ مُظْلِمٌ لَا تَسْلُكْهُ، فَأَعَادَ السُّؤَالَ فَقَالَ: بَحْرٌ عَمِيقٌ فَلَا تَلُجْهُ، فَأَعَادَ السُّؤَالَ، فَقَالَ: سِرُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ قَدْ خَفِيَ عَلَيْكَ فَلَا تُفَتِّشْهُ (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري: في الاعتصام بالكتاب والسنة - باب: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثت بجوامع الكلم 13 / 247 وفي فضائل القرآن. ومسلم: في الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (239) 1 / 134. والمصنف في شرح السنة 13 / 195-196.
(2) ساقط من "أ" والتصحيح من شرح السنة للمصنف، وفي المخطوط يسار بدلا من سيار.
(3) أخرجه البخاري: في أول كتاب التيمم - الباب الأول 1 / 436 وفي كتاب الصلاة وفي الجهاد وفي بدء الخلق والأنبياء ومسلم: في المساجد برقم (521) 1 / 370-371 والمصنف في شرح السنة 13 / 196.
(4) أخرجه مسلم: في المساجد ومواضع الصلاة برقم (523) 1 / 371 وفي رواية أخرى بعثت بجوامع الكلم. والمصنف في شرح السنة 13 / 197.
(5) رواه الآجري في الشريعة ص (202) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد: 4 / 629.

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } قَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ بِهِ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ بِهِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ وَالنَّفَقَةَ فِي الْخَيْرِ { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ } أَيْ لَا فِدَاءَ فِيهِ، سَمَّاهُ بَيْعًا لِأَنَّ الْفِدَاءَ شِرَاءُ نَفْسِهِ { وَلَا خُلَّةٌ } لَا صَدَاقَةَ { وَلَا شَفَاعَةٌ } إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ كُلَّهَا بِالنَّصْبِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ( الْآيَةَ 31 ) "لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ" وَفِي سُورَةِ الطُّورِ( الْآيَةَ 23 ) "لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ" وَقَرَأَ الْآخَرُونَ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَانِيُّ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنِ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي السَّلِيلِ (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَبَا الْمُنْذِرِ أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ" قُلْتُ { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: "لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ" ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا محمد بن وسف عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ قَالَ: فَخَلَّيْتُ سبيله
__________
(1) أبي السليل: هو ضريب بن نقيْر ويقال نقيل أبو السليل القيسي الجريري البصري، قال إسحاق بن منصور: عن يحيى بن معين: ثقة وذكره ابن حبان في الثقات: تهذيب التهذيب ج4 - ص401.
(2) أخرجه مسلم: في صلاة المسافرين وقصرها برقم (810) 1 / 156 برواية مختلفة. والمصنف ف شرح السنة 4 / 459. وقوله: (ليهنك العلم) أي: ليكن العلم هنيئا لك.

فأصبحت 44/ب فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ" فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ" فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ إِنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وَقَالَ: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ" قُلْتُ: لَا قَالَ "ذَاكَ شَيْطَانٌ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الْمَلِيكِيُّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ حِينَ يُصْبِحُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآيَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ "حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"( 2-غَافِرٍ ) حُفِظَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ حَتَّى يُصْبِحَ" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا .. 4 / 486-487، وفي بدء الخلق - باب صفة إبليس وجنوده 6 / 335-336 وفي فضائل القرآن. والمصنف في شرح السنة 4 / 460.
(2) أخرجه الترمذي: في فضائل القرآن - باب ما جاء في سورة البقرة وآية الكرسي 8 / 182 وقال هذا حديث غريب. وفي سنده عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكه (بالتصغير) كما في المغني وهو ضعيف من السابعة - التقريب. ميزان الاعتدال 2 / 550.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { اللَّهُ } رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِي { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ } الْبَاقِي الدَّائِمُ عَلَى الْأَبَدِ وَهُوَ مَنْ لَهُ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى { الْقَيُّومُ } قَرَأَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ "الْقَيَّامُ" وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ "الْقَيِّمُ" وَكُلُّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ { الْقَيُّومُ } الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ { شَيْءٍ } (1) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَقِيلَ هُوَ الْقَائِمُ بِالْأُمُورِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الَّذِي لَا يَزُولُ { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } السِّنَةُ: النُّعَاسُ وَهُوَ النَّوْمُ الْخَفِيفُ، وَالْوَسْنَانُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ يُقَالُ مِنْهُ وَسِنَ يسن وَسَنًا وَسِنَةً وَالنَّوْمُ هُوَ الثَّقِيلُ الْمُزِيلُ لِلْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ، قَالَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ: السِّنَةُ فِي الرَّأْسِ وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ، فَالسِّنَةُ أَوَّلُ النَّوْمِ وَهُوَ النُّعَاسُ، وَقِيلَ السِّنَةُ فِي الرَّأْسِ وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ فَهُوَ غَشْيَةٌ ثَقِيلَةٌ تَقَعُ عَلَى الْقَلْبِ تَمْنَعُ الْمَعْرِفَةَ بِالْأَشْيَاءِ، نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ النَّوْمَ لِأَنَّهُ آفَةٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْآفَاتِ وَلِأَنَّهُ تُغَيُّرٌ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" (2) . وَرَوَاهُ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ وَقَالَ: حِجَابُهُ النَّارُ.
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } مُلْكًا وَخَلْقًا { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } بِأَمْرِهِ { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أَمْرُ الدُّنْيَا { وَمَا خَلْفَهُمْ } أَمْرُ الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يَعْنِي الْآخِرَةَ لِأَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ عَلَيْهَا { وَمَا خَلْفَهُمُ } الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ يُخَلِّفُونَهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا مَضَى أَمَامَهُمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مَا يَكُونُ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، مَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مَا كَانَ بَعْدَ خَلْقِهِمْ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَيْ مَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَا خَلْفَهُمْ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } أَيْ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ { إِلَّا بِمَا شَاءَ } أَنْ يُطْلِعَهُمْ عَلَيْهِ يَعْنِي لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَّا بِمَا شَاءَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ }( 36-الْجِنِّ ) قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } أَيْ مَلَأَ وَأَحَاطَ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُرْسِيِّ فَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْعَرْشُ نَفْسُهُ
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) أخرجه مسلم: في الإيمان - باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام وفي قوله حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى والمصنف في شرح السنة: 1 / 173.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْكُرْسِيُّ مَوْضُوعٌ أَمَامَ الْعَرْشِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" أَيْ سِعَتُهُ مِثْلُ سِعَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي الْأَخْبَارِ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي جَنْبِ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيُّ فِي جَنْبِ الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ (1) .
وَقَالَ عَلَيٌّ وَمُقَاتِلٌ: كُلُّ قَائِمَةٍ مِنَ الْكُرْسِيِّ طُولُهَا مِثْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَهُوَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَيَحْمِلُ الْكُرْسِيَّ أَرْبَعَةُ أَمْلَاكٍ، لِكُلِّ مَلَكٍ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ، وَأَقْدَامُهُمْ فِي الصَّخْرَةِ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مَلَكٌ عَلَى صُورَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يَسْأَلُ لِلْآدَمِيِّينَ الرِّزْقَ وَالْمَطَرَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ، وَمَلَكٌ عَلَى صُورَةِ سَيِّدِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ الثَّوْرُ وَهُوَ يَسْأَلُ لِلْأَنْعَامِ الرِّزْقَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ وَعَلَى وَجْهِهِ غَضَاضَةٌ مُنْذُ عُبِدَ الْعِجْلُ، وَمَلَكٌ عَلَى صُورَةِ سَيِّدِ السِّبَاعِ وَهُوَ الْأَسَدُ يَسْأَلُ لِلسِّبَاعِ الرِّزْقَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ، [وَمَلَكٌ عَلَى صُورَةِ سَيِّدِ الطَّيْرِ وَهُوَ النَّسْرُ يَسْأَلُ الرِّزْقَ لِلطَّيْرِ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ] (2) وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مَا بَيْنَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَحَمَلَةِ الْكُرْسِيِّ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ ظُلْمَةٍ وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ غِلَظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ لَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَ حَمَلَةُ الْكُرْسِيِّ مِنْ نُورِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَ بِالْكُرْسِيِّ عِلْمَهُ (3) وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَحِيفَةِ الْعِلْمِ كُرَّاسَةٌ، وَقِيلَ: كُرْسِيُّهُ مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُلْكَ الْقَدِيمَ كُرْسِيًّا، { وَلَا يَئُودُهُ } أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يُقَالُ: آدَنِي الشَّيْءُ أَيْ أَثْقَلَنِي { حِفْظُهُمَا } أَيْ حِفْظُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ { وَهُوَ الْعَلِيُّ } الرَّفِيعُ فَوْقَ خَلْقِهِ وَالْمُتَعَالِي عَنِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَقِيلَ الْعَلِيُّ بِالْمُلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ { الْعَظِيمُ } الْكَبِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاةً -( الْمِقْلَاةُ مِنَ النِّسَاءِ ) (4) لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ -وَكَانَتْ تَنْذُرُ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ
__________
(1) أورده الطبري في التفسير برواية أخرى قال: حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد حدثني أبي قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس" 5 / 399. ورواه محمد بن أبي شيبة في كتاب العرش، وعزاه ابن كثير لابن مردويه، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 149 وفيه إبراهيم ابن هشام بن يحيى الغساني: متروك كذبه أبو حاتم وأبو زرعة، وطرق الحديث كلها واهية، فلا تعتضد لضعفها، انظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص 283.
(2) ساقط من (ب).
(3) نقل ذلك عنه الطبري في التفسير : 5 / 397-398، والبيهقي في الأسماء والصفات، فقال: "وروينا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "علمه" ثم قال: وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور المذكور مع العرش، انظر: الأسماء والصفات للبيهقي: 2 / 134-135.
(4) ساقط من (ب).

فَإِذَا عَاشَ وَلَدُهَا جَعَلَتْهُ فِي الْيَهُودِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وفيهم منهم 45/أ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ عَدَدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ فَأَرَادَتِ الْأَنْصَارُ اسْتِرْدَادَهُمْ وَقَالُوا: هُمْ أَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَيِّرُوا أَصْحَابَكُمْ فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَأَجْلُوهُمْ مَعَهُمْ" (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ نَاسٌ مُسْتَرْضَعِينَ فِي الْيَهُودِ مِنَ الْأَوْسِ فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ قَالَ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَرْضَعِينَ فِيهِمْ: لَنَذْهَبَنَّ مَعَهُمْ وَلَنَدِينَنَّ بِدِينِهِمْ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ، فَنَزَلَتْ { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (2) .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَانَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ابْنَانِ فَتَنَصَّرَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدِمَا الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى يَحْمِلُونَ الطَّعَامَ فَلَزِمَهُمَا أَبُوهُمَا وَقَالَ: لَا أَدَعُكُمَا حَتَّى تُسْلِمَا، فَتَخَاصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَدْخُلُ بِعْضِي النَّارَ وَأَنَا أَنْظُرُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَخَلَّى سَبِيلَهُمَا (3) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةً أُمِّيَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَأَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ فَمَنْ أَعْطَى مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ كَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } أَيِ الْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } يَعْنِي الشَّيْطَانَ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ طَاغُوتٌ، وَقِيلَ كُلُّ مَا يُطْغِي الْإِنْسَانَ، فَاعُولٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، زِيدَتِ التَّاءُ فِيهِ بَدَلًا مِنْ لَامِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ حَانُوتٌ وَتَابُوتٌ، فَالتَّاءُ فِيهَا مُبْدَلَةٌ مِنْ هَاءِ التَّأْنِيثِ { وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ } أَيْ تَمَسَّكَ وَاعْتَصَمَ بِالْعَقْدِ الْوَثِيقِ الْمُحْكَمِ فِي الدِّينِ، وَالْوُثْقَى تَأْنِيثُ الْأَوْثَقِ وَقِيلَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى السَّبَبُ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى: { لَا انْفِصَامَ لَهَا } لَا انْقِطَاعَ لَهَا { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } قِيلَ: لِدُعَائِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ { عَلِيمٌ } بِحِرْصِكَ عَلَى إِيمَانِهِمْ.
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 5 / 409-410 عن سعد بن جبير مرسلا، والبيهقي في السنن: 9 / 186، ونسبه السيوطي في الدر المنثور إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. وانظر تفسير النسائي 1 / 273،276، والنحاس في معاني القرآن 1 / 266 وللشوكاني كلام مفيد حول هذه الآية فلينظر فتح القدرير 1 / 275. وأخرج الواحدي بسنده قطعة منه دون قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قد خير أصحابكم ... أسباب النزول ص77.
(2) أسباب النزول للواحدي ص78، تفسير الطبري 5 / 411، وفي أسباب النزول للواحدي ص77 قال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له: صبيح، وكان يكرهه على الإسلام.
(3) عزاه ابن حجر في الكافي الشاف ص (23) للواحدي في أسباب النزول وكذلك البغوي، وهو عند الواحدي في ص78 دون سند.

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } نَاصِرُهُمْ وَمُعِينُهُمْ، وَقِيلَ: مُحِبُّهُمْ، وَقِيلَ مُتَوَلِّي أُمُورَهُمْ لَا يَكِلُهُمْ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِيُّ هِدَايَتِهِمْ { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ غَيْرُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، "وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ" فَالْمُرَادُ مِنْهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، سُمِّيَ الْكُفْرُ ظُلْمَةً لِالْتِبَاسِ طَرِيقِهِ وَسُمِّيَ الْإِسْلَامُ نُورًا لِوُضُوحِ طَرِيقِهِ { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَحُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ وَسَائِرَ رُءُوسِ الضَّلَالَةِ { يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } يَدْعُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، وَالطَّاغُوتُ يَكُونُ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَوَاحِدًا وَجَمْعًا، قَالَ تَعَالَى فِي الْمُذَكَّرِ وَالْوَاحِدِ: " { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ }( 60-النِّسَاءِ ) وَقَالَ فِي الْمُؤَنَّثِ : "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا"( 17-الزُّمَرِ ) وَقَالَ فِي الْجَمْعِ: { يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } فَإِنْ قِيلَ: قَالَ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ وَهُمْ كُفَّارٌ لَمْ يَكُونُوا فِي نُورٍ قَطُّ؟ قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لِمَا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، قَالُوا: مَنْعُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إِخْرَاجٌ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِأَبِيهِ أَخْرَجْتَنِي مِنْ مَالِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"( 37-يُوسُفَ ) وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي مِلَّتِهِمْ { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } مَعْنَاهُ هَلِ انْتَهَى إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ أَيْ خَاصَمَ وَجَادَلَ، وَهُوَ نُمْرُودُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، وَتَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ؟ { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } أَيْ لِأَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَطَغَى أَيْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُحَاجَّةُ مِنْ بَطَرِ الْمَلِكِ وَطُغْيَانِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ، مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنَانِ فَسُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَأَمَّا الْكَافِرَانِ فَنُمْرُودُ وَبُخْتَنَصَّرُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا كَسَّرَ إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ سَجَنَهُ نُمْرُودُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ لِيَحْرِقَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ هَذَا بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ قَحَطُوا عَلَى عَهْدِ نُمْرُودَ وَكَانَ النَّاسُ يَمْتَارُونَ (1) مِنْ عِنْدِهِ الطَّعَامَ، فَكَانَ إِذَا
__________
(1) يجلبون الطعام.=

3        معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)

أَتَاهُ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ الطَّعَامِ سَأَلَهُ مِنْ رَبُّكَ؟ فَإِنْ قَالَ أَنْتَ، بَاعَ مِنْهُ الطَّعَامَ، فَأَتَاهُ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ نُمْرُودُ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَاشْتَغَلَ بِالْمُحَاجَّةِ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ فَمَرَّ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ أَعْفَرَ فَأَخَذَ مِنْهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ أَهْلِهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَتَى أَهْلَهُ وَوَضَعَ مَتَاعَهُ نَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَتَاعِهِ فَفَتَحَتْهُ فَإِذَا هُوَ أَجْوَدُ طَعَامٍ مَا رَآهُ أَحَدٌ، فَأَخَذَتْهُ فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْهُ فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [وَهَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ تَقْدِيرُهُ قَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } (1) ] قَرَأَ حَمْزَةُ { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ "حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ"( 33-الْأَعْرَافِ ) وَ"عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ"( 146-الْأَعْرَافِ ) وَ"قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ"( 31-إِبْرَاهِيمَ ) وَ"آتَانِيَ الْكِتَابَ"( 30-مَرْيَمَ ) وَ"مَسَّنِيَ الضُّرُّ"( 83-الْأَنْبِيَاءِ ) وَ"عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"( 105-الْأَنْبِيَاءِ ) وَ"عِبَادِيَ الشَّكُورُ"( 13-سَبَأٍ ) وَ"مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ"( 41-ص ) وَ"إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ"( 38-الزُّمَرِ ) وَ"إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ"( 28-الْمُلْكِ ) أَسْكَنَ الْيَاءَ فِيهِنَّ حَمْزَةُ، وَوَافَقَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي "لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا" وَابْنُ عَامِرٍ "آيَاتِيَ الَّذِينَ" وَفَتَحَهَا الْآخَرُونَ، { قَالَ } نُمْرُودُ { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ { أَنَا } بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَالْمَدِّ فِي الْوَصْلِ إِذَا تَلَتْهَا أَلِفٌ مَفْتُوحَةٌ أَوْ مَضْمُومَةٌ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَوَقَفُوا جَمِيعًا بِالْأَلِفِ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: دَعَا نُمْرُودُ بِرَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَاسْتَحْيَا الْآخَرَ فَجَعَلَ تَرْكَ الْقَتْلِ إِحْيَاءً لَهُ، فَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى، لَا عَجْزًا، فَإِنَّ حُجَّتَهُ كَانَتْ لَازِمَةً لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِحْيَاءِ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: فَأَحْيِ مَنْ أَمَتَّ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَانْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى أَوْضَحَ مِنَ الْأُولَى.
{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } أَيْ تَحَيَّرَ
__________
(1) ساقط من (ب).

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

وَدَهِشَ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ بُهِتَ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَارِضَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَهُ: سَلْ أَنْتَ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْهُ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ لَوْ سَأَلَ ذَلِكَ دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ فَكَانَ زِيَادَةً فِي فَضِيحَتِهِ وَانْقِطَاعِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُ عَنْ تِلْكَ الْمُعَارَضَةِ إِظْهَارًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِ أَوْ مُعْجِزَةً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوقَةٌ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى، تَقْدِيرُهُ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ } وَإِلَى الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ هل رأيت 45/ب الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وَهَلْ رَأَيْتَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْمَارِّ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ عُزَيْرُ بْنُ شَرْخِيَا، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُوَ أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ، وَهُوَ الْخَضِرُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كَافِرٌ شَكَّ فِي الْبَعْثِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَقَالَ وَهْبٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ دَيْرُ سَابِرَ أَبَادَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُسْلِمُ باذ، وقيل ديرهرقل، وَقِيلَ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ فِيهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ، وَقِيلَ: هِيَ قَرْيَةُ الْعِنَبِ، وَهِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } سَاقِطَةٌ يُقَالُ: خَوِيَ الْبَيْتُ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَخْوِي خَوًى، مَقْصُورًا، إِذَا سَقَطَ وَخَوَى الْبَيْتُ بِالْفَتْحِ خَوَاءً مَمْدُودًا إِذَا خَلَا { عَلَى عُرُوشِهَا } سُقُوفِهَا، وَاحِدُهَا عَرْشٌ وَقِيلَ: كُلُّ بِنَاءٍ عَرْشٌ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ ثُمَّ وَقَعَتِ الْحِيطَانُ عَلَيْهَا.
{ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُنَبِّهٍ (1) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِرْمِيَاءَ إِلَى نَاشِيَةَ بْنِ أَمُوصَ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَدِّدُهُ فِي ذَلِكَ وَيَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَعَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِرْمِيَاءَ: أَنْ ذَكِّرْ قَوْمَكَ نِعَمِي وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ وَادْعُهُمْ إِلَيَّ، فَقَالَ إِرْمِيَاءُ إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي، عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي، مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُلْهِمُكَ، فَقَامَ إِرْمِيَاءُ فِيهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْوَقْتِ خُطْبَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً بَيَّنَ لَهُمْ فِيهَا ثَوَابَ الطَّاعَةِ وَعِقَابَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنِّي
__________
(1) القصة في الطبري: 5 / 447-454، ووهب بن منبه رحمه الله ولد سنة أربع وثلاثين مشهور في الرواية عن الإسرائيليات، فعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، فإنه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام ولهما عن أبي هريرة نسخة مشهورة أكثرها في الصحاح، رواها عنه معمر توفي سنة أربع عشرة ومائة، انظر تذكرة الحفاظ 1 / 100 سير أعلام النبلاء 4 / 544.

أَحْلِفُ بِعِزَّتِي لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَكِيمُ، وَلَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا فَارِسِيًّا أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ وَأَنْزِعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّحْمَةَ يَتْبَعُهُ عَدَدٌ مِثْلُ سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَاءَ إِنِّي مَهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ، وَيَافِثُ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَ إِرْمِيَاءُ ذَلِكَ صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابَهُ وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ فَلَمَّا سَمِعَ اللَّهُ تَضَرُّعَهُ وَبُكَاءَهُ نَادَاهُ: يَا أَرْمِيَاءُ أَشَقَّ عَلَيْكَ مَا أَوْحَيْتُ إِلَيْكَ قَالَ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَهْلِكْنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا أُسَرُّ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي لَا أُهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكَ، فَفَرِحَ إِرْمِيَاءُ بِذَلِكَ وَطَابَتْ نَفْسُهُ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُوسَى بِالْحَقِّ لَا أَرْضَى بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا فَاسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ فَقَالَ: إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبُّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ عَفَا عَنَّا فَبِرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَبِثُوا بَعْدَ الْوَحْيِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً وَتَمَادِيًا فِي الشَّرِّ وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكُهُمْ فَقَلَّ الْوَحْيُ، وَدَعَاهُمُ الْمَلِكُ إِلَى التَّوْبَةِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، فخرج في ست مائة أَلْفِ رَايَةٍ يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا فَصَلَ سَائِرًا أَتَى الْمَلِكَ الْخَبَرُ، فَقَالَ لِإِرْمِيَاءَ: أَيْنَ مَا زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْكَ؟ فَقَالَ إِرْمِيَاءُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ فَلَمَّا قَرُبَ الْأَجَلُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَاءَ مَلَكًا قَدْ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَاءُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَهْلِ رَحِمِي وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ وَلَمْ آتِ إِلَيْهِمْ إِلَّا حُسْنًا وَلَا يَزِيدُهُمْ إِكْرَامِي إِيَّاهُمْ إِلَّا إِسْخَاطًا لِي فَأَفْتِنِي فِيهِمْ، قَالَ: أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ وَصِلْهُمْ وَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ. فَانْصَرَفَ الْمَلَكُ فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَاءُ: أَمَا طَهُرَتْ أَخْلَاقُهُمْ لَكَ بَعْدُ؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا رَحْمَةً إِلَّا قَدَّمْتُهَا إِلَيْهِمْ وَأَفْضَلَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ إِرْمِيَاءُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ اسْأَلِ اللَّهَ الَّذِي يُصْلِحُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَنْ يُصْلِحَهُمْ، فَقَامَ الْمَلِكُ، فَمَكَثَ أَيَّامًا وَقَدْ نَزَلَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَكْثَرِ مِنَ الْجَرَادِ فَفَزِعَ مِنْهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالَ مَلِكُهُمْ لِإِرْمِيَاءَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيْنَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ. قَالَ: إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ الْمَلِكُ إِلَى إِرْمِيَاءَ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَضْحَكُ وَيَسْتَبْشِرُ بِنَصْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي وَعَدَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ يُفِيقُوا مِنَ الَّذِي هُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ الْمَلِكُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُصِيبُنِي مِنْهُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ، فَالْيَوْمَ رَأَيْتُهُمْ فِي عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ: فَقَالَ النَّبِيُّ: عَلَى أَيِّ عَمَلٍ رَأَيْتَهُمْ؟ قَالَ: عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ فَغَضِبَ اللَّهُ وَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا إِلَّا مَا دَعَوْتَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ لِيُهْلِكَهُمْ، فَقَالَ إِرْمِيَاءُ: يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ فَأَبْقِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ فَأَهْلِكْهُمْ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فَمِ إِرْمِيَاءَ، أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ وَخُسِفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِرْمِيَاءُ صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابَهُ وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى

رَأْسِهِ وَقَالَ: يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ أَيْنَ مِيعَادُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي؟ فَنُودِيَ أنه لم يصيبهم مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا بِفُتْيَاكَ وَدُعَائِكَ، فَاسْتَيْقَنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا فُتْيَاهُ وَأَنَّ ذَلِكَ السَّائِلَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَارَ إِرْمِيَاءُ حَتَّى خَالَطَ الْوُحُوشَ.
وَدَخَلَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَطِئَ الشَّامَ وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا فَيَقْذِفَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ففعلوا حتى ملؤوه، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بُلْدَانِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُمْ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ فَقَسَمَهُمْ بَيْنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ غِلْمَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ دَانْيَالُ وَحَنَانْيَا، وَفَرَّقَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَثُلُثًا قَتَلَهُمْ، وَثُلُثًا سَبَاهُمْ، وَثُلُثًا أَقَرَّهُمْ بِالشَّامِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ الْأُولَى الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمِهِمْ فَلَمَّا وَلَّى عَنْهُمْ بُخْتَنَصَّرُ رَاجِعًا إِلَى بَابِلَ وَمَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْبَلَ إِرْمِيَاءُ عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرُ عِنَبٍ فِي رَكْوَةٍ وَسَلَّةُ تِينٍ حَتَّى غَشَى إِيلِيَاءَ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهَا وَرَأَى خَرَابَهَا قَالَ: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } .
وَقَالَ الَّذِي قَالَ إِنَّ الْمَارَّ كَانَ عُزَيْرًا: وَإِنَّ بُخْتَنَصَّرَ لَمَّا خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَدِمَ بِسَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَابِلَ كَانَ فِيهِمْ عُزَيْرٌ وَدَانْيَالُ وَسَبْعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ دَاوُدَ فَلَمَّا نَجَا عُزَيْرٌ مِنْ بَابِلَ ارْتَحَلَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ هِرَقْلَ عَلَى شَطِّ دِجْلَةَ فَطَافَ فِي الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا، وَعَامَّةُ شَجَرِهَا حَامِلٌ فَأَكَلَ مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَجَعَلَ فَضْلَ الْفَاكِهَةِ فِي سَلَّةٍ وَفَضْلَ الْعَصِيرِ فِي زِقٍّ فَلَمَّا رَأَى خَرَابَ الْقَرْيَةِ وَهَلَاكَ أَهْلِهَا قَالَ: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } قَالَهَا تَعَجُّبًا لا شكأ 46/أ فِي الْبَعْثِ.
رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ وَهْبٍ قَالَ: ثُمَّ رَبَطَ إِرْمِيَاءُ حِمَارَهُ بِحَبْلٍ جَدِيدٍ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ النَّوْمَ فَلَمَّا نَامَ نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ الرُّوحَ مِائَةَ عَامٍ وَأَمَاتَ حِمَارَهُ، وَعَصِيرُهُ وَتِينُهُ عِنْدَهُ فَأَعْمَى اللَّهُ عَنْهُ الْعُيُونَ فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَذَلِكَ ضُحًى، وَمَنَعَ اللَّهُ السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ لَحْمَهُ فَلَمَّا مَضَى مِنْ مَوْتِهِ سَبْعُونَ سَنَةً أَرْسَلَ اللَّهُ مَلِكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ نُوشِكُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْفِرَ بِقَوْمِكَ فَتُعَمِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيلِيَاءَ حَتَّى يَعُودَ أَعْمَرَ مَا كَانَ، فَانْتَدَبَ الْمَلِكُ بِأَلْفِ قَهْرَمَانٍ (1) مَعَ كُلِّ قَهْرَمَانٍ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ عَامِلٍ وَجَعَلُوا يُعَمِّرُونَهُ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ دِمَاغَهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَمُتْ بِبَابِلَ وَرَدَّهُمْ جَمِيعًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهِ وَعَمَّرُوهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَثُرُوا حَتَّى عَادُوا عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا مَضَتِ الْمِائَةُ أَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ عَيْنَيْهِ، وَسَائِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، ثُمَّ أَحْيَا جَسَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ فَإِذَا عِظَامُهُ مُتَفَرِّقَةٌ بِيضٌ، تَلُوحُ فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي فَاجْتَمَعَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَاتَّصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ثُمَّ نُودِيَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا وَجِلْدًا
__________
(1) فارسي معرب، وهو من أمناء الملك.

فَكَانَتْ كَذَلِكَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَحْيَا، فَقَامَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَنَهَقَ، وَعَمَّرَ اللَّهُ إِرْمِيَاءَ فَهُوَ الَّذِي يَرَى فِي الْفَلَوَاتِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } أَيْ أَحْيَاهُ { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } أَيْ: كَمْ مَكَثْتَ؟ يُقَالُ: لَمَّا أَحْيَاهُ اللَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلِكًا فَسَأَلَهُ كَمْ لَبِثْتَ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا } وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَاتَهُ ضُحًى فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَأَحْيَاهُ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ فَقَالَ { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بَلْ بَعْضَ يَوْمٍ { قَالَ } الْمَلِكُ { بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ } يَعْنِي التِّينَ { وَشَرَابِكَ } يَعْنِي الْعَصِيرَ { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَكَانَ التِّينُ كَأَنَّهُ قُطِفَ فِي سَاعَتِهِ وَالْعَصِيرُ كَأَنَّهُ عُصِرَ فِي سَاعَتِهِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: كَأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ لَمْ يَتَسَنَّ بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَكَذَلِكَ "فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ"( 90-الْأَنْعَامِ ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْهَاءِ فِيهِمَا وَصْلًا وَوَقْفًا، فَمَنْ أَسْقَطَ الْهَاءَ فِي الْوَصْلِ جَعَلَ الْهَاءَ صِلَةً زَائِدَةً وَقَالَ: أَصْلُهُ يَتَسَنَّى فَحَذَفَ الْيَاءَ بِالْجَزْمِ وَأَبْدَلَ مِنْهُ هَاءً فِي الْوَقْفِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ مِنَ التَّسَنُّنِ بِنُونَيْنِ: وَهُوَ التَّغَيُّرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ"( 26-الْحَجِّ ) أَيْ مُتَغَيِّرٍ فَعُوِّضَتْ مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاءً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى"( 33-الْقِيَامَةِ ) أَيْ يَتَمَطَّطُ، وَكَقَوْلِهِ "وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"( 10-الشَّمْسِ ) وَأَصْلُهُ دَسَّيْتُهَا، وَمَنْ أَثْبَتَ الْهَاءَ فِي الْحَالَيْنِ جَعَلَ الْهَاءَ أَصْلِيَّةً لَامَ الْفِعْلِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أَصْلَ السَّنَةِ السَّنْهَةَ وَتَصْغِيرُهَا سُنَيْهَةٌ وَالْفِعْلُ مِنَ السَّانِهَةِ وَإِنَّمَا قَالَ: لَمْ يَتَسَنَّهْ وَلَمْ يُثَنِّهِ مَعَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ شَيْئَيْنِ رَدَّ التَّغْيِيرَ إِلَى أَقْرَبِ اللَّفْظَيْنِ وَهُوَ الشَّرَابُ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْآخَرِ { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ عِظَامٌ بِيضٌ فَرَكَّبَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِظَامَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَكَسَاهُ اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ وَأَحْيَاهُ وَهُوَ يَنْظُرُ { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } قِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أُدْخِلَتِ الْوَاوُ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ لِفِعْلٍ بَعْدَهَا مَعْنَاهُ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً أَيْ: عِبْرَةً وَدَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ عَادَ إِلَى قَرْيَتِهِ شَابًّا وَأَوْلَادُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ شُيُوخٌ وَعَجَائِزُ وَهُوَ أَسْوَدُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ نَنْشُرُهَا بِالرَّاءِ مَعْنَاهُ نُحْيِيهَا يُقَالُ: أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ إِنْشَارًا وَنَشْرَةً نشورا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ"( 22-عَبَسَ ) وَقَالَ فِي اللَّازِمِ "وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"( 15-الْمُلْكُ ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالزَّايِ أَيْ نَرْفَعُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَنَرُدُّهَا إِلَى مَكَانِهَا مِنَ الْجَسَدِ وَنُرَكِّبُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْشَازُ الشَّيْءِ رَفْعُهُ وَإِزْعَاجُهُ، يُقَالُ: أَنْشَزْتُهُ فَنَشَزَ أَيْ رَفَعْتُهُ فَارْتَفَعَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَرَادَ بِهِ عِظَامَ حِمَارِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا عُزَيْرًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَدْ هَلَكَ وَبَلِيَتْ عِظَامُهُ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا فَجَاءَتْ بِعِظَامِ الْحِمَارِ مِنْ كُلِّ سَهْلٍ وَجَبَلٍ وَقَدْ ذَهَبَتْ بِهَا الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ فَاجْتَمَعَتْ فَرُكِّبَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَصَارَ حِمَارًا مِنْ

عظام ليس فيه لَحْمٌ وَلَا دَمٌ { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ حِمَارًا لَا رُوحَ فِيهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ مَلَكٌ يَمْشِي حَتَّى أَخَذَ بِمَنْخَرِ الْحِمَارَ فَنَفَخَ فِيهِ فَقَامَ الْحِمَارُ وَنَهَقَ بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ أَرَادَ بِهِ عِظَامَ هَذَا الرَّجُلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُمِتْ حِمَارَهُ بَلْ أَمَاتَهُ هُوَ فَأَحْيَا اللَّهُ عَيْنَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَسَائِرَ جَسَدُهُ مَيِّتٌ، ثُمَّ قَالَ: انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فَنَظَرَ فَرَأَى حِمَارَهُ قَائِمًا وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ حَيًّا لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ مِائَةَ عَامٍ وَنَظَرَ إِلَى الرُّمَّةِ (1) فِي عُنُقِهِ جَدِيدَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِكَ كَيْفَ نُنْشِزُهَا وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُمَا: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالسَّدِّيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا أَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى عُزَيْرًا بَعْدَ مَا أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ رَكِبَ حِمَارَهُ حَتَّى أَتَى مَحَلَّتَهُ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ وَأَنْكَرَ النَّاسَ وَمَنَازِلَهُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَهْمٍ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً كَانَتْ عَرَفَتْهُ وَعَقَلَتْهُ فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ: يَا هَذِهِ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ وَبَكَتْ وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ، قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْنَاهُ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ لَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ كَانَ اللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي، قَالَتْ: فَإِنَّ عُزَيْرًا كَانَ رَجُلًا مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ وَيَدْعُو لِلْمَرِيضِ وَلِصَاحِبِ الْبَلَاءِ بِالْعَافِيَةِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ لِي بَصَرِي حَتَّى أَرَاكَ فَإِنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ، فَدَعَا رَبَّهُ وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى عَيْنَيْهَا فَصَحَّتَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ: قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا فَقَامَتْ صَحِيحَةً، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عُزَيْرٌ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ مائة سنة وثمانية عَشْرَةَ سَنَةً وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ فِي الْمَجْلِسِ، فَنَادَتْ هَذَا عُزَيْرٌ قَدْ جَاءَكُمْ، فَكَذَّبُوهَا، فَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةٌ مَوْلَاتُكُمْ دَعَا لِي رَبَّهُ فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَأَطْلَقَ رَجْلِي وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَنَهَضَ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَقَالَ وَلَدُهُ: كَانَ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ مِثْلُ الْهِلَالِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُزَيْرٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: لَمَّا رَجَعَ عُزَيْرٌ إِلَى قَوْمِهِ وَقَدْ أَحْرَقَ بُخْتَنَصَّرُ التَّوْرَاةَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ عَهْدٌ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَبَكَى عُزَيْرٌ عَلَى التَّوْرَاةِ فَأَتَاهُ مَلَكٌ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَسَقَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَمَثُلَتِ التَّوْرَاةُ فِي صَدْرِهِ فَرَجَعَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَبَعَثَهُ نَبِيًّا، فَقَالَ: أَنَا عُزَيْرٌ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ فَقَالَ: إِنِّي عُزَيْرٌ قَدْ بَعَثَنِي اللَّهُ إليكم لأجدد 46/ب لَكُمْ تَوْرَاتَكُمْ قَالُوا: أَمْلِهَا عَلَيْنَا، فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِمْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَقَالُوا: مَا جَعَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ فِي صَدْرِ رَجُلٍ بَعْدَمَا ذَهَبَتْ إِلَّا أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَسَتَأْتِي الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (2) .
__________
(1) بالضم، القطعة من الحبل.
(2) انظر: الدر المنثور: 2 / 27-28.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } ذَلِكَ عِيَانًا { قَالَ أَعْلَمُ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَجْزُومًا مَوْصُولًا عَلَى الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ اعْلَمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ أَعْلَمُ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ عُزَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَعْلَمُ { أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى دَابَّةٍ مَيِّتَةٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ جِيفَةَ حِمَارٍ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، قَالَ عَطَاءٌ: فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَةَ، قَالُوا: فَرَآهَا وَقَدْ تَوَزَّعَتْهَا دَوَابُّ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ، فَكَانَ إِذَا مَدَّ الْبَحْرُ جَاءَتِ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبَحْرِ فَأَكَلَتْ مِنْهَا فَمَا وَقَعَ مِنْهَا يَصِيرُ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا جَزَرَ الْبَحْرُ وَرَجَعَ جَاءَتِ السِّبَاعُ فَأَكَلْنَ مِنْهَا فَمَا سَقَطَ مِنْهَا يَصِيرُ تُرَابًا فَإِذَا ذَهَبَتِ السِّبَاعُ، جَاءَتِ الطَّيْرُ فَأَكَلَتْ مِنْهَا فَمَا سَقَطَ مِنْهَا قَطَّعَتْهَا الرِّيحُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَجَّبَ مِنْهَا وَقَالَ: يَا رَبِّ قَدْ عَلِمْتُ لَتَجْمَعَنَّهَا مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ وَأَجْوَافِ دَوَابِّ الْبَحْرِ فَأَرِنِي كَيْفَ تُحْيِيهَا لِأُعَايِنَ فَأَزْدَادَ يَقِينًا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى (1) { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } يَا رَبِّ عَلِمْتُ وَآمَنْتُ { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أَيْ لِيَسْكُنَ قَلْبِي إِلَى الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ عَيْنَ الْيَقِينِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ.
وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى نُمْرُودَ فَقَالَ "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ"( 258-الْبَقَرَةِ ) قَالَ نُمْرُودُ (2) أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَقَتَلَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ، وَأَطْلَقَ الْآخَرَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْصِدُ إِلَى جَسَدٍ مَيِّتٍ فَيُحْيِيهِ، فَقَالَ لَهُ نُمْرُودُ: أَنْتَ عَايَنَتْهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُولَ نَعَمْ فَانْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى، ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى. { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بِقُوَّةِ حُجَّتِي فَإِذَا قِيلَ أَنْتَ عَايَنْتَهُ فَأَقُولُ نَعَمْ قَدْ عَايَنْتُهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا سَأَلَ مَلَكُ الْمَوْتِ رَبَّهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَيُبَشِّرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَى إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَغْيَرَ النَّاسِ إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ بَابَهُ، فَلَمَّا جَاءَ وَجَدَ فِي دَارِهِ رَجُلًا فَثَارَ عَلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ وَقَالَ لَهُ: مَنْ أَذِنَ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ دَارِي؟ فَقَالَ: أَذِنَ لِي رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: صَدَقْتَ وَعَرَفَ أَنَّهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ جِئْتُ أُبَشِّرُكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَكَ خَلِيلًا فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: فَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يُجِيبَ اللَّهُ دُعَاءَكَ وَيُحْيِيَ اللَّهُ الْمَوْتَى بِسُؤَالِكَ، فَحِينَئِذٍ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي خَلِيلًا وَتُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُكَ (3) .
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص 79.
(2) نسب الواحدي هذا القول لمحمد بن إسحاق بن يسار، أسباب النزول ص (80).
(3) أسباب النزول للواحدي ص 81.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْلَمَ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، وَرَحِمَ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" (1) .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ وَهْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ وَقَالَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى" (2) .
حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَمْ يَشُكَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِبْرَاهِيمُ فِي أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى وَإِنَّمَا شَكَّا فِي أَنَّهُ هَلْ يُجِيبُهُمَا إِلَى مَا سَأَلَا وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، اعْتِرَافٌ بِالشَّكِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لَكِنْ فِيهِ نَفْيُ الشَّكِّ عَنْهُمَا، يَقُولُ: إِذَا لَمْ أَشُكَّ أَنَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِبْرَاهِيمُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَشُكَّ، وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالْهَضْمِ مِنَ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" وَفِيهِ الْإِعْلَامُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَعْرِضْ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ، وَلَكِنْ مِنْ قِبَلِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِالْعَيَانِ، فَإِنَّ الْعَيَانَ يُفِيدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ مَا لَا يُفِيدُهُ الِاسْتِدْلَالُ، وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ قَوْمٌ: شَكَّ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يَشُكَّ نَبِيُّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقَوْلَ تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَقْدِيمًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ } مَعْنَاهُ قَدْ آمَنْتَ فَلِمَ تَسْأَلُ؟ شَهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
يَعْنِي أَنْتُمْ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِزِيَادَةِ الْيَقِينِ.
{ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَخَذَ طاووسا وَدِيكًا وَحَمَامَةً وَغُرَابًا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَسْرًا بَدَلَ الْحَمَامَةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ خُذْ بَطَّةً خَضْرَاءَ وَغُرَابًا أَسْوَدَ وَحَمَامَةً بَيْضَاءَ وَدِيكًا أَحْمَرَ { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ قَطِّعْهُنَّ وَمَزِّقْهُنَّ، يُقَالُ صَارَ
__________
(1) أخرجه البخاري: في أحاديث الأنبياء - باب: قول الله عز وجل (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) 6 / 410-411.
(2) أخرجه مسلم: في الإيمان - باب: زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة برقم (151) 1 / 133. والمصنف في شرح السنة: 1 / 111.

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

يَصِيرُ صَيْرًا إِذَا قَطَعَ، وَانْصَارَ الشَّيْءُ انْصِيَارًا إِذَا انْقَطَعَ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ صَرَيْتُ أَصْرِي صَرْيًا إِذَا قَطَعْتُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { فَصُرْهُنَّ } بِضَمِّ الصَّادِ وَمَعْنَاهُ أَمِلْهُنَّ إِلَيْكَ وَوَجِّهْهُنَّ، يُقَالُ: صِرْتُ الشَّيْءَ أُصَوِّرُهُ إِذَا أَمَلْتُهُ، وَرَجُلٌ أَصْوَرُ إِذَا كَانَ مَائِلَ الْعُنُقِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَعْنَاهُ اجْمَعْهُنَّ وَاضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ يُقَالُ: صَارَ يُصَوِّرُ صَوْرًا إِذَا اجْتَمَعَ وَمِنْهُ قيل لجماعة النحل صَوْرٌ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِمَالَةِ وَالضَّمِّ قَالَ فِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ قَطِّعْهُنَّ فَحَذَفَهُ اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ: { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا } لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَصُرْهُنَّ مَعْنَاهُ قَطِّعْهُنَّ أَيْضًا، وَالصَّوْرُ الْقَطْعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا } قَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ { جُزْءًا } مُثَقَّلًا مَهْمُوزًا، وَالْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْهَمْزِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مُشَدَّدَةَ الزَّايِ بِلَا هَمْزٍ وَأَرَادَ بِهِ بَعْضَ الْجِبَالِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ تِلْكَ الطُّيُورَ وَيَنْتِفَ رِيشَهَا وَيَقْطَعَهَا وَيَخْلِطَ رِيشَهَا وَدِمَاءَهَا وَلُحُومَهَا بَعْضَهَا بِبَعْضٍ فَفَعَلَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَجْزَاءَهَا عَلَى الْجِبَالِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَجْزَاءِ وَالْجِبَالِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ: أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ طَائِرٍ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ وَيَجْعَلَهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْبُلٍ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعًا مِنْ كُلِّ طَائِرٍ وَقِيلَ: جَبَلٌ عَلَى جَانِبِ الشَّرْقِ، وَجَبَلٌ عَلَى جَانِبِ الْغَرْبِ، وَجَبَلٌ عَلَى جَانِبٍ الشَّمَالِ، وَجَبَلٌ عَلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ: جَزَّأَهَا سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ وَوَضَعَهَا عَلَى سَبْعَةِ أَجْبُلٍ وَأَمْسَكَ رُءُوسَهُنَّ ثم دعاهن: 47/أ تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعَلَتْ كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِ طَائِرٍ تَطِيرُ إِلَى الْقَطْرَةِ الْأُخْرَى، وَكُلُّ رِيشَةٍ تَطِيرُ إِلَى الرِّيشَةِ الْأُخْرَى، وَكُلُّ عَظْمٍ يَصِيرُ إِلَى الْعَظْمِ الْآخَرِ، وَكُلُّ بِضْعَةٍ تَصِيرُ إِلَى الْأُخْرَى، وَإِبْرَاهِيمُ يَنْظُرُ، حَتَّى لَقِيَتْ كُلُّ جُثَّةٍ بَعْضَهَا بَعْضًا فِي الْهَوَاءِ بِغَيْرِ رَأْسٍ ثُمَّ أَقْبَلْنَ إِلَى رُءُوسِهِنَّ سَعْيًا فَكُلَّمَا جَاءَ طَائِرٌ مَالَ بِرَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ دَنَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَأَخَّرَ، حَتَّى الْتَقَى كُلُّ طَائِرٍ بِرَأْسِهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } قِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْإِسْرَاعُ وَالْعَدْوُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَشْيُ دُونَ الطَّيَرَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"( 9-الْجُمُعَةِ ) أَيْ فَامْضُوا، وَالْحِكْمَةُ فِي الْمَشْيِ دُونَ الطَّيَرَانِ كَوْنُهُ أَبْعَدَ مِنَ الشُّبْهَةِ لِأَنَّهَا لَوْ طَارَتْ لِتَوِّهِمْ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الطَّيْرِ وَإِنَّ أَرْجُلَهَا غَيْرُ سَلِيمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ السَّعْيُ بِمَعْنَى الطَّيَرَانِ { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ مَثَلُ صَدَقَاتِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ { كَمَثَلِ } زَارِعِ { حَبَّةٍ } وَأَرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادَ، وَقِيلَ جَمِيعُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ { أَنْبَتَتْ }

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

أَخْرَجَتْ { سَبْعَ سَنَابِلَ } جَمْعُ سُنْبُلَةٍ { فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } فَإِنْ قِيلَ فَمَا رَأَيْنَا سُنْبُلَةً فِيهَا مِائَةُ حَبَّةٍ فَكَيْفَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِ؟ قِيلَ: ذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ، غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، وَمَا لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا جَازَ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، مَعْنَاهُ: { فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } فَمَا حَدَثَ مِنَ الْبَذْرِ الَّذِي كَانَ فِيهَا كَانَ مُضَاعَفًا إِلَيْهَا وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ فَقَالَ: كُلُّ سُنْبُلَةٍ أَنْبَتَتْ مِائَةَ حَبَّةٍ { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } قِيلَ مَعْنَاهُ يُضَاعِفُ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُضَاعِفُ عَلَى هَذَا وَيَزِيدُ لِمَنْ يَشَاءُ مَا بَيْنَ سَبْعٍ إِلَى سَبْعِينَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْأَضْعَافِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } غَنِيٌّ يُعْطِي عَنْ سَعَةٍ { عَلِيمٌ } بِنِيَّةِ مَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ.
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ صَدَقَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ عِنْدِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ فَأَمْسَكْتُ مِنْهَا لِنَفْسِي وَعِيَالِي أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ أَقْرَضْتُهَا رَبِّي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيمَا أَمْسَكْتَ لَكَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَجَهَّزَ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا (1) وَأَحْلَاسِهَا (2) فَنَزَلَتْ فِيهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: جَاءَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْخِلُ فِيهَا يَدَهُ وَيُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ "مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ" (3) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فِي طَاعَةِ اللَّهِ { ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا }
__________
(1) جمع قتب وهو الإكاف على قدر سنام البعير ليركب أو يحمل عليه.
(2) جمع حلس وهو كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله.
(3) رواه الترمذي: في المناقب - باب: 76-10 / 193 وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأحمد: في مسنده: 5 / 63 عن عبد الرحمن بن سمرة، وإسناده حسن.

وَهُوَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِعَطَائِهِ فَيَقُولَ أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَيَعُدُّ نِعَمَهُ عَلَيْهِ فَيُكَدِّرُهَا { وَلَا أَذًى } أَنْ يُعَيِّرَهُ فَيَقُولَ إِلَى كَمْ تَسْأَلُ وَكَمْ تُؤْذِينِي؟ وَقِيلَ مِنَ الْأَذَى هُوَ أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: { مَنًّا وَلَا أَذًى } أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْطَيْتُكَ وَأَعْطَيْتُ فَمَا شَكَرْتَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِذَا أَعْطَيْتَ رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ، فَحَظَرَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمَنَّ بِالصَّنِيعَةِ، وَاخْتَصَّ بِهِ صِفَةً لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْعِبَادِ تَعْيِيرٌ. وَتَكْدِيرٌ وَمِنَ اللَّهِ إِفْضَالٌ وَتَذْكِيرٌ { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } أَيْ ثَوَابُهُمْ { عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
{ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أَيْ كَلَامٌ حَسَنٌ وَرَدٌّ عَلَى السَّائِلِ جَمِيلٌ، وَقِيلَ عِدَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دُعَاءٌ صَالِحٌ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ { وَمَغْفِرَةٌ } أَيْ تَسْتُرُ عَلَيْهِ خَلَّتَهُ وَلَا تَهْتِكُ عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: بِتَجَاوُزٍ عَنْ ظَالِمِهِ، وَقِيلَ يَتَجَاوَزُ عَنِ الْفَقِيرِ إِذَا اسْتَطَالَ عَلَيْهِ عِنْدَ رَدِّهِ { خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ } يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ { يَتْبَعُهَا أَذًى } أَيْ مَنٌّ وَتَعْيِيرٌ لِلسَّائِلِ أَوْ قَوْلٌ يُؤْذِيهِ { وَاللَّهُ غَنِيٌّ } أَيْ مُسْتَغْنٍ عَنْ صَدَقَةِ الْعِبَادِ { حَلِيمٌ } لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي بِالصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ } أَيْ أُجُورَ صَدَقَاتِكُمْ { بِالْمَنِّ } عَلَى السَّائِلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى { وَالْأَذَى } لِصَاحِبِهَا ثُمَّ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا فَقَالَ { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ } أَيْ كَإِبْطَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ { رِئَاءَ النَّاسِ } أَيْ مُرَاءَاةً وَسُمْعَةً لِيَرَوْا نَفَقَتَهُ وَيَقُولُوا إِنَّهُ كَرِيمٌ سَخِيٌّ { وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } يُرِيدُ أَنَّ الرِّيَاءَ يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ وَلَا تَكُونُ النَّفَقَةُ مَعَ الرِّيَاءِ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ الْكَافِرَ مُعْلِنٌ بِكُفْرِهِ غَيْرُ مُرَاءٍ { فَمَثَلُهُ } أَيْ مَثَلُ هَذَا الْمُرَائِي { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } الْحَجَرِ الْأَمْلَسِ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ جَمْعًا فَوَاحِدُهُ صَفْوَانَةٌ وَمَنْ جَعَلَهُ وَاحِدًا فَجَمْعُهُ صُفِيٌّ { عَلَيْهِ } أَيْ عَلَى الصَّفْوَانِ { تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الْعَظِيمُ الْقَطْرِ { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أَيْ أَمْلَسَ، وَالصَّلْدُ الْحَجَرُ الصُّلْبُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفَقَةِ الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي وَالْمُؤْمِنَ الَّذِي يَمُنُّ بِصَدَقَتِهِ وَيُؤْذِي وَيُرِي النَّاسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَعْمَالًا كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بَطَلَ كُلُّهُ وَاضْمَحَلَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَذْهَبَ الْوَابِلُ مَا عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ فَتَرَكَهُ صَلْدًا { لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } أَيْ عَلَى ثَوَابِ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَعَمِلُوا فِي الدُّنْيَا { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ "الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ

جَزَاءً" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَارِثِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ أَبُو عُثْمَانَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ حَدَّثَهُ أَنَّ شُفَيًّا الْأَصْبَحِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بَرْجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ بِحَقٍّ، لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ اللَّهَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٍ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ فَقَالَ: بَلَى يا رب 47/ب قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ: فَبِمَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد: 5 / 428-429 عن محمود بن لبيد. ورواه ابن حبان في موارد الظمآن 2499 عن فضالة الأنصاري بمعناه. ص618. وانظر: النهج السديد صفحة 46. وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده جيد والمصنف في شرح السنة: 14 / 324.
(2) رواه الترمذي: في الزهد باب ما جاء في الرياء والسمعة 7 / 54 وقال: هذا حديث حسن غريب وعزاه في تحفة الأحوذي لابن خزيمة في صحيحه، وفي سنده الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني لين الحديث (التقريب).

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } أَيْ طَلَبَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ }

قَالَ قَتَادَةُ: احْتِسَابًا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: تَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ عَلَى يَقِينٍ بِالثَّوَابِ وَتَصْدِيقٍ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَخْرَجُوا خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوا، وَقِيلَ عَلَى يَقِينٍ بِإِخْلَافِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: يُثْبِتُونَ أَيْ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ أَمْضَى وَإِنْ كَانَ يُخَالِطُهُ شَكٌّ أَمْسَكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّثْبِيتُ بِمَعْنَى التَّثَبُّتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( 8-الْمُزَّمِّلِ ) أَيْ تَبَتُّلًا { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } أَيْ بُسْتَانٍ قَالَ( الْمُبَرِّدُ ) (1) وَالْفَرَّاءُ: إِذَا كَانَ فِي الْبُسْتَانِ نَخْلٌ فَهُوَ جَنَّةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَرْمٌ فَهُوَ فِرْدَوْسٌ { بِرَبْوَةٍ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِرَبْوَةٍ وَإِلَى رَبْوَةٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقَرَأَ الْأَخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْمُسْتَوِي الَّذِي تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ فَلَا يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَلَا يَعْلُو عَنِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا بِرَبْوَةٍ لِأَنَّ النَّبَاتَ عَلَيْهَا أَحْسَنُ وَأَزْكَى { أَصَابَهَا وَابِلٌ } مَطَرٌ شَدِيدٌ كَثِيرٌ { فَآتَتْ أُكُلَهَا } ثَمَرَهَا، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ، وَزَادَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ تَخْفِيفَ أُكُلِهِ وَالْأُكُلِ، وَخَفَّفَ أَبُو عَمْرٍو رُسُلَنَا وَرُسُلَكُمْ وَرُسُلَهُمْ وَسُبُلَنَا.
{ ضِعْفَيْنِ } أَيْ أَضْعَفَتْ فِي الْحَمْلِ قَالَ عَطَاءٌ: حَمَلَتْ فِي السَّنَةِ مِنَ الرِّيعِ (2) مَا يَحْمِلُ غَيْرُهَا فِي سَنَتَيْنِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَمَلَتْ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } أَيْ فَطَشٌّ، وَهُوَ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ الْخَفِيفُ وَيَكُونُ دَائِمًا.
قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النَّدَى، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعَمَلِ الْمُؤْمِنَ الْمُخْلِصِ فَيَقُولُ: كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ تَرِيعُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا تَخَلَّفُ سَوَاءٌ قَلَّ الْمَطَرُ أَوْ كَثُرَ، كَذَلِكَ يُضْعِفُ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمُؤْمِنَ الْمُخْلِصِ الَّذِي لَا يَمُنُّ وَلَا يُؤْذِي سَوَاءٌ قَلَّتْ نَفَقَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَّ إِذَا كَانَ يَدُومُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْوَابِلِ الشَّدِيدِ.
__________
(1) ساقط من ب.
(2) الغلة.

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) }
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى" [قَوْلُهُ أَيَوَدُّ يَعْنِي: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ أَيْ بُسْتَانٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ] (1) .
{ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ } أَوْلَادٌ صِغَارٌ ضِعَافٌ عَجَزَةٌ { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } الرِّيحُ الْعَاصِفُ الَّتِي تَرْتَفِعُ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهَا عَمُودٌ وَجَمْعُهُ أَعَاصِيرُ { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي يَقُولُ: عَمَلُهُ فِي حُسْنِهِ كَحُسْنِ الْجَنَّةِ يَنْتَفِعُ بِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الْجَنَّةِ بِالْجَنَّةِ، فَإِذَا كَبِرَ أَوْ ضَعُفَ وَصَارَ لَهُ أَوْلَادٌ ضِعَافٌ وَأَصَابَ جَنَّتَهُ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ فَصَارَ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهَا وَضَعُفَ عَنْ إِصْلَاحِهَا لِكِبَرِهِ وَضَعْفِ أَوْلَادِهِ عَنْ إِصْلَاحِهَا لِصِغَرِهِمْ وَلَمْ يَجِدْ هُوَ مَا يَعُودُ بِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَلَا أَوْلَادُهُ مَا يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْهِ فَبَقُوا جَمِيعًا مُتَحَيِّرِينَ عَجَزَةً لَا حِيلَةَ بِأَيْدِيهِمْ، كَذَلِكَ يُبْطِلُ اللَّهُ عَمَلَ هَذَا الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي حِينَ لَا مُغِيثَ (2) لَهُمَا وَلَا تَوْبَةَ وَلَا إِقَالَةَ.
قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ابْنُ أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ضَرَبْتَ مَثَلًا لِعَمَلٍ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِعَمَلِ الْمُرَائِي قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ" (3) { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ } خِيَارِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ: مِنْ حَلَالَاتِ { مَا كَسَبْتُمْ } بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْكَسْبِ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى طِيِّبٍ وَخَبِيثٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو
__________
(1) ساقط من ب.
(2) في "ب" مستعتب بدل مغيث.
(3) رواه البخاري في التفسير، تفسير سورة البقرة باب قوله (أيود أحدكم-8 / 201-202).

جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ بْنُ صَالِحٍ عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا نَجَاحُ بْنُ يَزِيدَ الْمُحَارِبِيُّ بِالْكُوفَةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ فَيَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارِكُ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادُهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ" (3) .
وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ التِّجَارَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَبَعْدَ الْحَوْلِ يُقَوِّمُ الْعُرُوضَ فَيُخْرِجُ مِنْ قِيمَتِهَا رُبْعَ الْعُشْرِ إِذَا كان قيمتها عشرون دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ" (4) .
وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: مَرَرْتُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى عُنُقِي أَدَمَةٌ (5)
__________
(1) رواه النسائي: في البيوع - باب الحث على الكسب: 7 / 240، وابن ماجه: في التجارات - باب الحث على الكسب: 2 / 723، والدارمي: بيوع - باب الكسب وعمل الرجل بيده: 2 / 247، وأحمد: 6 / 31،42 عن عائشة رضي الله عنها، وابن حبان: في صحيحه، موارد الظمآن (1091) ص 268، والمصنف في شرح السنة: 9 / 329 وإسناده صحيح.
(2) رواه البخاري: في البيوع - باب كسب الرجل وعمله بيده: 4 / 303. والمصنف في شرح السنة: 8 / 6.
(3) رواه أحمد: 1 / 387 جزء من حديث عبد الله بن مسعود، والبغوي في شرح السنة 8 / 10، وأخرج بعضه الحاكم في المستدرك: 1 / 24، 2 / 447، وذكره الهيثمي في المجمع: 10 / 90 وقال: رواه الطبراني موقوفا ورجاله رجال الصحيح، وضعفه الألباني في السلسة الضعيفة برقم (2822). المشكاة برقم (2771،2994). وفي إسناده الصباح بن محمد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي: ضعيف أفرط فيه ابن حبان - التقريب.
(4) رواه أبو داود: في الزكاة - باب العروض إذا كانت للتجارة 2 / 175 وسكت عنه المنذري والبيهقي: في السنن 4 / 146 قال ابن حجر في التلخيص الحبير: أخرجه الدارقطني والبزار من حديث سليمان بن سمرة عن أبيه وفي إسناده جهالة.
(5) جلد.

أَحْمِلُهَا فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تُؤَدِّي زَكَاتَكَ يَا حِمَاسُ؟ فَقُلْتُ: مَا لِي غَيْرُ هَذَا وَأَهَبُ (1) فِي الْقَرَظِ (2) ، فَقَالَ ذَاكَ مَالٌ، فَضَعْ، فَوَضَعْتُهَا فَحَسَبَهَا فَأَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } قِيلَ هَذَا بِإِخْرَاجِ الْعُشُورِ مِنَ الثِّمَارِ والحبوب واتفق 48/أ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِيجَابِ الْعُشْرِ فِي النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ وَفِيمَا يُقْتَاتُ مِنَ الْحُبُوبِ إِنْ كَانَ مَسْقِيًّا بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ مِنْ نَهْرٍ يَجْرِي الْمَاءُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَسْقِيًّا بِسَاقِيَةٍ أَوْ بِنَضْحٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا (4) الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ" (5) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ "يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زبيبا كما يؤدي زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا" (6) .
__________
(1) جمع إهاب وهو الجلد قبل أن يدبغ.
(2) القرظ: حب معروف يخرج من شجر العضاة تدبغ به الجلود.
(3) أخرجه الشافعي في مسنده: 1 / 229-230، والبيهقي في السنن: 4 / 147. والدارقطني: 2 / 125. وعزاه الحافظ ابن حجر للإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور عن سفيان عن يحيى بن سعيد، انظر التلخيص الحبير: 2 / 180. وضعفه الألباني في إرواء الغليل: 3 / 311 لأن أبا عمرو بن حماس "مجهول" كما قال الذهبي في الميزان.
(4) الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر.
(5) رواه البخاري: في الزكاة - باب: العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري 3 / 437. ومسلم: في الزكاة - باب: ما فيه العشر أو نصف العشر برقم (981) 2 / 675 عن جابر بلفظ آخر. والمصنف في شرح السنة: 6 / 42.
(6) الشافعي: 1 / 243. رواه النسائي: زكاة - باب شراء الصدقة 5 / 109. وابن ماجه: زكاة - باب خرص النخل والعنب 2 / 210-211. وأبو داود: في الزكاة - باب في خرص العنب 2 / 210-211. والترمذي: زكاة - باب ما جاء في الخرص 3 / 306 وقال حديث حسن غرب. والبيهقي: 4 / 122. والدارقطني: 2 / 132. والمصنف في شرح السنة: 6 / 37. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2 / 171 (ومداره على سعيد بن المسيب عن عتاب وقال أبو داود لم يسمع منه، وقال ابن القانع: لم يدركه، وقال المنذري: انقطاعه ظاهر لأن مولد سعيد في خلافه عمر ومات عتاب يوم مات أبو بكر وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر وقال أبو حاتم الصحيح عن سعيد بن المسيب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر عتابا: مرسل وهذه رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري قال النووي: هذا الحديث وإن كان مرسلا لكنه اعتضد بقول الأئمة).

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا سِوَى النَّخْلِ وَالْكُرُومِ، وَفِيمَا سِوَى مَا يُقْتَاتُ بِهِ مِنَ الْحُبُوبِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: يَجِبُ فِي الزَّيْتُونِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجِبُ الْعُشْرُ فِي جَمِيعِ الْبُقُولِ وَالْخَضْرَوَاتِ كَالثِّمَارِ إِلَّا الْحَشِيشَ وَالْحَطَبِ، وَكُلُّ ثَمَرَةٍ أَوْجَبْنَا فِيهَا الزَّكَاةَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَوَقْتُ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الِاجْتِنَاءِ وَالْجَفَافِ، وَكُلُّ حَبٍّ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْعُشْرَ فَوَقْتُ وُجُوبِهِ اشْتِدَادُ الْحَبِّ وَوَقْتُ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الدِّيَاسَةِ وَالتَّنْقِيَةِ، وَلَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ (1) عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ شَرَطَ النِّصَابَ بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ" (2) .
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ عُبَادَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ" (3) ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةَ فِي صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أخبرنا أبو جفر الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَيَمَّمُوا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِرِوَايَةِ الْبَزِّيِّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ فِي الْوَصْلِ فِيهَا وَفِي أَخَوَاتِهَا وَهِيَ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ مَوْضِعًا فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ تَاءَانِ أُسْقِطَتْ إِحْدَاهُمَا فَرَدَّ هُوَ السَّاقِطَةَ وَأَدْغَمَ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَمَعْنَاهُ لَا تَقْصِدُوا { الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ تُخْرِجُ إِذَا كَانَ جُذَاذُ النَّخْلِ
__________
(1) جمع وسق: وهو ستون صاعا بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) رواه مسلم: في الزكاة - برقم (979) 2 / 673. والمصنف: في شرح السنة: 5 / 499.
(3) رواه مسلم: في الزكاة - برقم (979) 2 / 674. والمصنف: في شرح السنة: 5 / 500.
(4) رواه البخاري: في الحرث والمزارعة - باب فضل الزرع والغرس 5 / 3 بلفظ ما من مسلم - وفي الأدب أيضا. والمصنف: في شرح السنة: 6 / 149.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

أَقْنَاءً (1) مِنَ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ فَيُعَلِّقُونَهُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْكُلُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَعْمِدُ فَيُدْخِلُ قِنْوَ الْحَشَفِ (2) وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عَنْهُ فِي كَثْرَةِ مَا يُوضَعُ مِنَ الْأَقْنَاءِ، فَنَزَلَ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ } أَيِ الْحَشَفَ وَالرَّدِيءَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ بِشَرَارِ ثِمَارِهِمْ وَرَذَالَةِ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْزِلُونَ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً لِأَنْفُسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ } الرَّدِيءَ { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } يَعْنِي الْخَبِيثَ { إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } الْإِغْمَاضُ غَضُّ الْبَصَرِ، وَأَرَادَ هَاهُنَا التَّجَوُّزَ وَالْمُسَاهَلَةَ، مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَجَاءَهُ بِهَذَا لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَغْمَضَ لَهُ عَنْ حَقِّهِ وَتَرَكَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَوْ وَجَدْتُمُوهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ مَا أَخَذْتُمُوهُ بِسِعْرِ الْجَيِّدِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَوْ أُهْدِيَ ذَلِكَ لَكُمْ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا عَلَى اسْتِحْيَاءٍ مِنْ صَاحِبِهِ وَغَيْظٍ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ؟ هَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ جَيِّدًا فَلَيْسَ لَهُ إِعْطَاءُ الرَّدِيءِ، لِأَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ شُرَكَاؤُهُ فِيمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَالِهِ رَدِيئًا فَلَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الرَّدِيءِ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ } عَنْ صَدَقَاتِكُمْ { حَمِيدٌ } مَحْمُودٌ فِي أَفْعَالِهِ.
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) }
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } أَيْ يُخَوِّفُكُمْ بِالْفَقْرِ، يُقَالُ وَعَدْتُهُ خَيْرًا وَوَعَدْتُهُ شَرًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخَيْرِ "وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً"( 20-الْفَتْحِ ) وَقَالَ فِي الشَّرِّ "النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا"( 72-الْحَجِّ ) فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ قُلْتَ فِي الْخَيْرِ: وَعَدْتُهُ وَفِي الشَّرِّ، أَوْعَدْتُهُ، وَالْفَقْرُ سُوءُ الْحَالِ وَقِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ، وَأَصْلُهُ مِنْ كَسْرِ الْفَقَارِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُكُمْ بِالْفَقْرِ وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ مَالَكَ فَإِنَّكَ إِذَا تَصَدَّقْتَ بِهِ افْتَقَرْتَ { وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ } أَيْ بِالْبُخْلِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلُّ الْفَحْشَاءِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الزِّنَا إِلَّا هَذَا { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ } أَيْ لِذُنُوبِكُمْ { فَضْلًا } أَيْ رِزْقًا خَلَفًا (3) { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } غَنِيٌّ { عَلِيمٌ }
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ (4) اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
__________
(1) جمع قنو: وهو عذق النخل.
(2) أردأ التمر.
(3) ساقط من نسخة ب.
(4) بمهملتين مثقلا ممدودا، أي دائمة.

وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ { قَالَ } وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا "أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَلَا تُوعِي (2) فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ: عِلْمُ الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ وَمَنْسُوخُهُ وَمُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَأَمْثَالُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْقُرْآنُ وَالْفَهْمُ فِيهِ، وَقَالَ: فِي الْقُرْآنِ مِائَةٌ وَتِسْعُ آيَاتٍ نَاسِخَةٌ وَمَنْسُوخَةٌ وَأَلْفُ آيَةِ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، لَا يَسَعُ الْمُؤْمِنِينَ تَرْكُهُنَّ حَتَّى يَتَعَلَّمُوهُنَّ، وَلَا تَكُونُوا كَأَهْلِ نَهْرَوَانَ تَأَوَّلُوا آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الكتاب جهلوأ 48/ب عِلْمَهَا فَسَفَكُوا بِهَا الدِّمَاءَ وَانْتَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَشَهِدُوا عَلَيْنَا بِالضَّلَالَةِ، فَعَلَيْكُمْ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مَنْ عَلِمَ فِيمَ أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا.
{ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْحِكْمَةُ خَبَرُهُ (4) ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ -يُؤْتِ الْحِكْمَةَ -بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ مَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، دَلِيلُ قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ، حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } قَالَ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ { فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ } يَتَّعِظُ { إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } ذَوُو الْعُقُولِ.
__________
(1) رواه البخاري: في تفسير سورة هود - باب: وكان عرشه على الماء - 8 / 352 وفي التوحيد. ومسلم: في الزكاة - باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993) 2 / 690. والمصنف: في شرح السنة: 6 / 154-155.
(2) الإيعاء جعل الشيء في الوعاء، وأصله الحفظ.
(3) رواه البخاري: في الهبة - باب: هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج 5 / 217. ومسلم: في الزكاة: باب: الحث في الإنفاق وكراهية الإحصاء برقم (1029) 2 / 713. والمصنف: في شرح السنة: 6 / 154.
(4) انظر: التبيان في إعراب القرآن للعكبري: 1 / 220.

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ } فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ { أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ } أَيْ: مَا أَوْجَبْتُمُوهُ [أَنْتُمْ] (1) عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَوَفَّيْتُمْ بِهِ { فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } يَحْفَظُهُ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُهَا لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى الْآخَرِ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا"( 112-النِّسَاءِ ) وَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتَهُ عَلَى "مَا" كَقَوْلِهِ: "وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ"( 231-الْبَقَرَةِ ) وَلَمْ يَقُلْ بِهِمَا { وَمَا لِلظَّالِمِينَ } الْوَاضِعِينَ الصَّدَقَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا بِالرِّيَاءِ أَوْ يَتَصَدَّقُونَ مِنَ الْحَرَامِ { مِنْ أَنْصَارٍ } أَعْوَانٍ يَدْفَعُونَ عَذَابَ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَهِيَ جَمْعُ نَصِيرٍ، مِثْلُ: شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ } أَيْ تُظْهِرُوهَا { فَنِعِمَّا هِيَ } أَيْ: نِعْمَتِ الْخَصْلَةُ هِيَ وَ"مَا" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ "وَهِيَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا فَإِذَا عُرِّفَتْ رُفِعَتْ، فَقُلْتَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَأَصْلُهُ نِعْمَ مَا فَوُصِلَتْ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ غَيْرَ وَرْشٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ: فَنِعْمَا بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِكَسْرِهِمَا، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
{ وَإِنْ تُخْفُوهَا } تُسِرُّوهَا { وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ } أَيْ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فِي السِّرِّ { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } وَأَفْضَلُ وَكُلٌّ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ صَادِقَةً وَلَكِنْ صَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ، وَفِي الْحَدِيثِ "صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ (2) .
__________
(1) ساقطة من ب.
(2) أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك في الزكاة - باب فضل الصدقة (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء) وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه عبد الله بن عيسى الخزاز 3 / 329-330 وعبد الله بن عيسى الخزاز أبو خلف منكر الحديث. قال النسائي: ليس بثقة: انظر ميزان الاعتدال: 2 / 470. وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط بأطول من هذا عن معاوية بن حيدة وفيه صدقة بن عبد الله وثقه دحيم وضعفه جماعة (تهذيب التهذيب: 4 / 365) وأيضا في الصغير والأوسط عن جعفر وفيه أصرم بن حوشب وهو ضعيف (مجمع الزوائد 3 / 115) والمصنف في شرح السنة: 6 / 133.

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" (1) .
وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أَمَّا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَالْإِظْهَارُ فِيهَا أَفْضَلُ حَتَّى يَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ، وَالنَّافِلَةُ فِي الْبَيْتِ [أَفْضَلُ] (2) وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَانَ الْإِخْفَاءُ فِيهَا خَيْرًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْإِظْهَارُ أَفْضَلُ حَتَّى لَا يُسَاءَ بِهِ الظَّنُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَبُو بَكْرٍ بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ أَيْ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، أَيْ وَيُكَفِّرُ اللَّهُ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ نَسَقًا عَلَى الْفَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ "فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" لِأَنَّ مَوْضِعَهَا جَزْمٌ بِالْجَزَاءِ، وَقَوْلُهُ وَمِنْ سَيِّئَاتِكُمْ قِيلَ "مِنْ" صِلَةٌ، تَقْدِيرُهُ نُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّبْعِيضِ، يَعْنِي: نُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ مِنَ الذُّنُوبِ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } قَالَ الْكَلْبِيُّ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ لَهُمْ قَرَابَةٌ
__________
(1) رواه البخاري، في الأذان - باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد 2 / 143. ومسلم: في الزكاة - باب: فضل إخفاء الصدقة برقم (1031) 2 / 715. والمصنف في شرح السنة: 2 / 354.
(2) ساقطة من نسخة ب.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

وَأَصْهَارٌ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا فَلَمَّا أَسْلَمُوا كَرِهُوا أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ وَأَرَادُوهُمْ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (1) كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَمَّا كَثُرَ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّصَدُّقِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَيْ تَحْمِلَهُمُ الْحَاجَةُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } فَتَمْنَعُهُمُ الصَّدَقَةَ لِيَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَاجَةً مِنْهُمْ إِلَيْهَا، { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَأَرَادَ بِهِ هِدَايَةَ التَّوْفِيقِ، أَمَّا هُدَى الْبَيَانِ وَالدَّعْوَةِ فَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطُوهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ.
{ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } أَيْ مَالٍ { فَلِأَنْفُسِكُمْ } أَيْ تَعْمَلُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } وَمَا جَحْدٌ، لَفْظُهُ نَفْيٌ وَمَعْنَاهُ نَهْيٌ، أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } شَرْطٌ كَالْأَوَّلِ وَلِذَلِكَ حَذَفَ النُّونَ مِنْهُمَا { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أَيْ يُوَفَّرُ لَكُمْ جَزَاؤُهُ، وَمَعْنَاهُ: يُؤَدِّي إِلَيْكُمْ، وَلِذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ إِلَّا { وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } لَا تُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، وَهَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تُوضَعَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهَا إِلَّا فِي الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ أَهْلُ السُّهْمَانِ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ.
{ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ هَذِهِ اللَّامِ: قِيلَ هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى مَوْضِعِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ "فَلِأَنْفُسِكُمْ" كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِلْفُقَرَاءِ، وَإِنَّمَا تُنْفِقُونَ لِأَنْفُسِكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الصَّدَقَاتُ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَقِيلَ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ كَذَا حَقٌّ وَاجِبٌ، وَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، كَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا عَشَائِرُ، وَكَانُوا فِي الْمَسْجِدِ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَيَرْضَخُونَ (2) النَّوَى بِالنَّهَارِ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ فِي كُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ، فَحَثَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّاسَ فَكَانَ مَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ أَتَاهُمْ بِهِ إِذَا أَمْسَى.
{ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فِيهِ أَقَاوِيلُ؛ قَالَ قَتَادَةُ -وَهُوَ أَوْلَاهَا -حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ } لَا يَتَفَرَّغُونَ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْمَعَاشِ وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، وَقِيلَ: حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَبَسَهُمُ الْفَقْرُ وَالْعُدْمُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَصَارُوا زَمْنَى، أَحْصَرَهُمُ الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ عَنِ الضَّرْبِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْجِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ: مِنْ كَثْرَةِ مَا جَاهَدُوا صَارَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا حَرْبًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، { يَحْسَبُهُمُ } قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة: يحسبهم وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص 83 بسنده عن سعيد بن جبير.
(2) يكسرون.

{ الْجَاهِل } بحالهم { أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أَيْ مِنْ تَعَفُّفِهِمْ عن السؤال 49/أ وَقَنَاعَتِهِمْ يَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُمْ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَالتَّعَفُّفُ التَّفَعُّلُ مِنَ الْعِفَّةِ وَهِيَ التَّرْكُ يُقَالُ: عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ وَتَعَفَّفَ إِذَا تَكَلَّفَ فِي الْإِمْسَاكِ.
{ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } السِّيمَاءُ وَالسِّيمِيَاءُ وَالسِّمَةُ: الْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الشَّيْءُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا هَاهُنَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ التَّخَشُّعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَثَرُ الْجُهْدِ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: صُفْرَةُ أَلْوَانِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَالضُّرِّ وَقِيلَ رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ، { لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } قَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ غَدَاءٌ لَا يَسْأَلُونَ عَشَاءً، وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ عَشَاءٌ لَا يَسْأَلُونَ غَدَاءً، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا أَصْلًا لِأَنَّهُ قَالَ: مِنَ التَّعَفُّفِ، وَالتَّعَفُّفِ تَرْكُ السُّؤَالِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ شَأْنِهِمْ لَمَا كَانَتْ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِالْعَلَامَةِ مِنْ حَاجَةٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ، لَيْسَ لَهُمْ سُؤَالٌ فَيَقَعُ فِيهِ إِلْحَافٌ، وَالْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ وَاللَّجَاجُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ" قَالُوا: فَمَنِ الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى فَيُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ" (2) .
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا" (3) .
__________
(1) رواه البخاري في الزكاة. باب: الاستعفاف عن المسألة 3 / 335. والمصنف في شرح السنة 6 / 112-113.
(2) رواه البخاري: في الزكاة - باب: قول الله تعالى (لا يسألون الناس إلحافا) 3 / 340 وفي التفسير. ومسلم: في الزكاة - باب: المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه يرقم (1039) 2 / 719. والمصنف في شرح السنة: 6 / 86.
(3) رواه أبو داود: في الزكاة - باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى 2 / 229 عن أبي سعيد الخدري بلفظ (من سأل وله أوقية فقد ألحف) وسكت عنه المنذري. والنسائي: في الزكاة - باب: إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها 5 / 98-99. وأحمد: 4 / 36 و5 / 430 واللفظ له عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد. والمصنف في شرح السنة: 6 / 84 وإسناده صحيح.

أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زكريا بن عدافر، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ الدَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ رِيَابٍ عَنْ كِنَانَةَ الْعَدَوِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحِمَالَةٍ فِي قَوْمِي فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فِي قَوْمِي وَأَتَيْتُكَ لِتُعِينَنِي فِيهَا قَالَ: "بَلْ نَتَحَمَّلُهَا عَنْكَ يَا قَبِيصَةُ وَنُؤَدِّيهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الصَّدَقَةِ" ثُمَّ قَالَ "يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ (1) فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشِهِ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَفِي رَجُلٍ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ حَلَّتْ لَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ الْقِوَامَ مِنَ الْعَيْشِ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَفِي رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحِمَالَةٍ فَيَسْأَلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَمْسَكَ، وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ" (3) .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ "خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } مَالٍ { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } وَعَلَيْهِ مَجَازٍ
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً } رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا وَبِدِرْهَمٍ سِرًّا وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً (5) .
__________
(1) آفة تهلك المال.
(2) رواه مسلم: في الزكاة - باب: من تحل له المسألة برقم (1044) 2 / 722 بألفاظ مقاربة. والمصنف في شرح السنة: 6 / 122 بلفظ: (إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة بين قوم، ورجل أصابته جائحة، فاجتاحت ماله، فيسأل حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أن قد أصابته حاجة، وأن قد حلت له المسألة وما سوى ذلك من المسائل سحت).
(3) الخموش مثل الخدوش في المعنى، والكدوح: آثار الخدوش، وكل أثر من خدش أو عض أو نحوه، فهو كدوح.
(4) رواه أبو داود: في الزكاة - باب: من يعطي من الصدقة وحد الغنى 2 / 226 وانظر ما قاله المنذري في مختصره والترمذي: في الزكاة - باب: من تحل له الزكاة 3 / 313،314 عن ابن مسعود وقال: حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث وقال ابن حجر: ضعيف رمي بالتشيع من الخامسة (تقريب). وابن ماجه: في الزكاة - باب من سأل عن ظهر عنى 1 / 589 وصححه الألباني في الصحيحة برقم (499) وصحيح ابن ماجه برقم (1490). والدارمي: في الزكاة - باب / 15 / من تحل له الصدقة 1 / 386. والمصنف في شرح السنة: 6 / 83.
(5) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 86 بسند حسن.

وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِدَنَانِيرَ كَثِيرَةٍ إِلَى أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، وَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ بِوَسَقٍ مَنْ تَمْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } الْآيَةَ عَنَى بِالنَّهَارِ عَلَانِيَةً: صَدَقَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَبِاللَّيْلِ سِرًّا: صَدَقَةَ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَمَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ يَرْتَبِطُونَ الْخَيْلَ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهَا تُعْلَفُ لَيْلًا وَنَهَارًا سِرًّا وَعَلَانِيَةً (1) . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (2) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قَالَ الْأَخْفَشُ: جَعَلَ الْخَبَرَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ "الَّذِينَ" بِمَعْنَى "مَنْ" وَجَوَابُ مَنْ بِالْفَاءِ بِالْجَزَاءِ، أَوْ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ أَنْفَقَ كَذَا فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ { وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
__________
(1) أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه سلم قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الخيل، يزيد وأبوه مجهولان. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب: كانت معه أربعة دراهم ....، وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب قال: الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهما في جيش العسرة، (انظر: لباب النقول للسيوطي ص 118 بهامش الجلالين، أسباب النزول للواحدي ص84-85.
(2) رواه البخاري في الجهاد باب من احتبس فرسا في سبيل الله 6 / 57 والمصنف في شرح السنة 10 / 388.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } أَيْ يُعَامِلُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَالِ { لَا يَقُومُونَ } يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ { إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ } أَيْ يَصْرَعُهُ { الشَّيْطَانُ } أَصْلُ الْخَبْطِ الضَّرْبُ وَالْوَطْءُ، وَهُوَ ضَرْبٌ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ يُقَالُ: نَاقَةٌ خَبُوطٌ لِلَّتِي تَطَأُ النَّاسَ وتضرب الأرض

بقوائهما { مِنَ الْمَسِّ } أَيِ الْجُنُونِ يُقَالُ: مُسَّ الرَّجُلُ فَهُوَ مَمْسُوسٌ إِذَا كَانَ مَجْنُونًا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ كَمِثْلِ الْمَصْرُوعِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ قَالَ: "فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رِجَالٍ كَثِيرٍ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ مُنَضَّدِينَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ -وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا -قَالَ: فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الْإِبِلِ الْمَنْهُومَةِ يَخْبِطُونَ الْحِجَارَةَ وَالشَّجَرَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْبُطُونِ قَامُوا، فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَيُصْرَعُونَ، ثُمَّ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَيَمِيلُ بِهِ بَطْنُهُ فَيُصْرَعُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْرَحُوا حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيَرِدُوهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، فَذَلِكَ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا والآخرة { قال } 49/ب وَآلُ فِرْعَوْنَ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ أَبَدًا { قَالَ } وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: "أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"( 46-غَافِرٍ ) قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أَيْ ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ لِقَوْلِهِمْ هَذَا وَاسْتِحْلَالِهِمْ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا حَلَّ مَالُهُ عَلَى غَرِيمِهِ فَطَالَبَهُ بِهِ فَيَقُولُ الْغَرِيمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ حَتَّى أَزِيدَكَ فِي الْمَالِ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا الزِّيَادَةُ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ بِالرِّبْحِ أَوْ عِنْدَ الْمَحَلِّ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَاعْلَمْ
__________
(1) رواه الأصبهاني من طريق أبي هارون العبدي، وهو واه. انظر: الترغيب والترهيب للمنذري: 3 / 9.

أَنَّ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا آتيتم من الربا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ" أَيْ لِيَكْثُرَ "فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ"( 39-الرُّومِ ) وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ غَيْرُ حَرَامٍ فِي الْجُمْلَةِ، إِنَّمَا الْمُحَرَّمُ زِيَادَةٌ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَرَجُلٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ -وَنَقَصَ أَحَدُهُمَا الْمِلْحَ أَوِ التَّمْرَ وَزَادَ أَحَدُهُمَا: مَنْ زَادَ وَازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى" (1) . وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُطَرِّفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ عَنْ عُبَادَةَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ.
وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ السِّتِّ بِالْأَوْصَافِ فِيهَا فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَالٍ تُوجَدُ فِيهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي جَمِيعِهَا وَاحِدٌ وَهُوَ النَّفْعُ وَأَثْبَتُوا الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الرِّبَا يَثْبُتُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِوَصْفٍ وَفِي الْأَشْيَاءِ الْمَطْعُومَةِ بِوَصْفٍ آخَرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ فَقَالَ قَوْمٌ: ثَبَتَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِوَصْفِ، النَّقْدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ قَوْمٌ: ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْوَزْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَثْبَتُوا الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْمَوْزُونَاتِ مِثْلِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالْقُطْنِ وَنَحْوِهَا.
وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الرِّبَا ثَبَتَ فِيهَا بِعِلَّةِ الْكَيْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَثْبَتُوا الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْمَكِيلَاتِ مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ كَالْجِصِّ وَالنَّوْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الطَّعْمُ مَعَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، فَكُلُّ مَطْعُومٍ وَهُوَ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا، وَلَا يَثْبُتُ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَثْبُتُ فِيهَا الرِّبَا بِوَصْفِ الطَّعْمِ، وَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمَطْعُومَةِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَالْأَدْوِيَةِ مَكِيلَةً كَانَتْ أَوْ مَوْزُونَةً لِمَا رُوِيَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ" (2) .
__________
(1) رواه مسلم: في المساقاة - باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) 3 / 1210. والمصنف في شرح السنة: 8 / 56.
(2) رواه مسلم: في المساقاة - باب: بيع الطعام مثلا بمثل برقم (1592) 3 / 1214 والمصنف في شرح السنة 8 / 58.

فَجُمْلَةُ مَالِ الرِّبَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا كَانَ ثَمَنًا أَوْ مَطْعُومًا، وَالرِّبَا نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسَاءِ، فَإِذَا بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ بِأَنْ بَاعَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِجِنْسِهِ أَوْ بَاعَ مَطْعُومًا بِجِنْسِهِ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا يَثْبُتُ فِيهِ كِلَا نَوْعَيِ الرِّبَا حَتَّى لَا يَجُوزَ إِلَّا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَيُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِيعَ بِجِنْسِهِ، فَيُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَإِذَا بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ نُظِرَ: إِنْ بَاعَ بِمَا لَا يُوَافِقُهُ فِي وَصْفِ الرِّبَا مِثْلَ أَنْ بَاعَ مَطْعُومًا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَلَا رِبَا فِيهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِغَيْرِ مَالِ الرِّبَا، أَوْ إِنْ بَاعَهُ بِمَا يُوَافِقُهُ مَعَ الْوَصْفِ مِثْلَ أَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ أَوْ بَاعَ مَطْعُومًا بِمَطْعُومٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ حَتَّى يَجُوزَ مُتَفَاضِلًا أَوْ جُزَافًا (1) وَيَثْبُتُ فِيهِ رِبَا النَّسَاءِ حَتَّى يُشْتَرَطَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ -إِلَى أَنْ قَالَ -إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ" فِيهِ إِيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ وَتَحْرِيمُ الْفَضْلِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَقَوْلُهُ "عَيْنًا بِعَيْنٍ" فِيهِ تَحْرِيمُ النَّسَاءِ، وَقَوْلُهُ "يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ" فِيهِ إِطْلَاقُ التَّفَاضُلِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مَعَ إِيجَابِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، هَذَا فِي رِبَا الْمُبَايَعَةِ.
وَمَنْ أَقْرَضَ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ أَفْضَلَ فَهُوَ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَكُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ } تَذْكِيرٌ وَتَخْوِيفٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفِعْلَ رَدًّا إِلَى الْوَعْظِ { فَانْتَهَى } عَنْ أَكْلِ الرِّبَا { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَيْ مَا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ قَبْلَ النَّهْيِ مَغْفُورٌ لَهُ { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } بَعْدَ النَّهْيِ إِنْ شَاءَ عَصَمَهُ حَيْثُ يَثْبُتُ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَإِنْ شَاءَ خَذَلَهُ حَتَّى يَعُودَ، وَقِيلَ: { مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } فِيمَا يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُحِلُّ لَهُ وَيُحَرُّمُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ شَيْءٌ { وَمَنْ عَادَ } بَعْدَ التَّحْرِيمِ إِلَى أَكْلِ الرِّبَا مُسْتَحِلًّا لَهُ { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالْمُصَوِّرَ" (2) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ
__________
(1) بيع الشيء لا يعلم كيله لا وزنه، فارسي معرب.
(2) رواه البخاري: في البيوع - باب: موكل الربا 4 / 314 وفي اللباس والطلاق. والمصنف في شرح السنة: 8 / 25.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: "هُمْ سَوَاءٌ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَخْلَدِيُّ، أَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 50/أ "الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالَّذِي يَنْكِحُ أُمَّهُ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } أَيْ يَنْقُصُهُ وَيُهْلِكُهُ وَيَذْهَبُ بِبَرَكَتِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } يَعْنِي لَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا حَجَّةً وَلَا صِلَةً { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ يُثَمِّرُهَا وَيُبَارِكُ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَيُضَاعِفُ بِهَا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ فِي الْعُقْبَى { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } بِتَحْرِيمِ الرِّبَا { أَثِيمٍ } فَاجِرٍ بِأَكْلِهِ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تُظْلَمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } قَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَا قَدْ أَسْلَفَا فِي التَّمْرِ فَلَمَّا حَضَرَ الْجُذَاذُ قَالَ لَهُمَا صَاحِبُ التَّمْرِ: إِنْ أَنْتُمَا أَخَذْتُمَا حَقَّكُمَا لَا يَبْقَى لِي مَا يَكْفِي عِيَالِي فَهَلْ لَكُمَا أَنْ تَأْخُذَا النِّصْفَ وَتُؤَخِّرَا النِّصْفَ وَأُضْعِفُ لَكُمَا؟ فَفَعَلَا فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ طَلَبَا الزِّيَادَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَسَمِعَا وَأَطَاعَا وَأَخَذَا رُءُوسَ أَمْوَالِهِمَا (3) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، نَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ "أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كُلِّهَا، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهَا
__________
(1) رواه مسلم: في المساقاة - باب: لعن آكل الربا وموكله برقم (1598) 3 / 1218. والمصنف في شرح السنة: 8 / 54.
(2) رواه ابن ماجه في التجارات - باب التغليظ في الربا 1 / 764 قال في الزوائد: وفي إسناده نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر متفق على تضعيفه وقال ابن حجر: نجيح بن عبد الرحمن السندي بكسر المهملة وسكون النون المدني، أبو معشر، وهو مولى بني هاشم مشهور بكنيته ضعيف من السادسة، أسن واختلط، مات سنة 170 ويقال: كان اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن هلال (تقريب). وانظر فيض القدير 4 / 51 وكشف الخفاء 1 / 508 فقد عزاه للحاكم والطبراني.
(3) أسباب النزول للواحدي ص 87.

مَوْضُوعَةٌ كُلُّهَا" (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ مِنْ ثَقِيفٍ، مَسْعُودٍ وَعَبْدِ يَالِيلَ وَحَبِيبٍ وَرَبِيعَةَ وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ الثَّقَفِيِّ، كَانُوا يُدَايِنُونَ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ مَخْزُومٍ وَكَانُوا يُرْبُونَ فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ أَسْلَمَ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ فَطَلَبُوا رِبَاهُمْ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ بَنُو الْمُغِيرَةِ: وَاللَّهِ مَا نُعْطِي الرِّبَا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ وَكَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكَّةَ فَكَتَبَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِصَّةِ الْفَرِيقَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ مَالًا عَظِيمًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (2) .
{ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ إِذَا لَمْ تَذَرُوَا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ فَآذِنُوا بِالْمَدِّ عَلَى وَزْنِ آمِنُوا، أَيْ فَأَعْلِمُوا غَيْرَكُمْ أَنَّكُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأُذُنِ أَيْ أَوْقِعُوا فِي الْآذَانِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ فَأْذَنُوا مَقْصُورًا بِفَتْحِ الذَّالِ أَيْ فَاعْلَمُوا أَنْتُمْ وَأَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُقَالُ لِآكِلِ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: حَرْبُ اللَّهِ: النَّارُ وَحَرْبُ رَسُولِ اللَّهِ: السَّيْفُ.
{ وَإِنْ تُبْتُمْ } أَيْ تَرَكْتُمُ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا وَرَجَعْتُمْ عَنْهُ { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ { وَلَا تُظْلَمُونَ } بِالنُّقْصَانِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ بَنُو عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ وَمَنْ كَانَ يُعَامِلُ بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِهِمْ: بَلْ نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَانِ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ، فَشَكَا بَنُو الْمُغِيرَةِ الْعُسْرَةَ وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الْغَلَّاتُ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخِّرُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ }
يَعْنِي وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُعْسِرًا، رَفَعَ الْكَلَامَ بِاسْمِ كَانَ وَلَمْ يأت لها بخير وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي النَّكِرَةِ، تَقُولُ، إن كان رجلا صالحا فَأَكْرِمْهُ، وَقِيلَ "كَانَ" بِمَعْنَى وَقَعَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عُسْرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ { فَنَظِرَةٌ } أَمْرٌ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ فَعَلَيْهِ نَظِرَةٌ { إِلَى مَيْسَرَةٍ } قَرَأَ نَافِعٌ مَيْسَرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ مَيْسُرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ مُضَافًا وَمَعْنَاهَا الْيَسَارُ وَالسَّعَةُ { وَأَنْ تَصَدَّقُوا } أَيْ تَتْرُكُوا رُءُوسَ أَمْوَالِكُمْ إِلَى الْمُعْسِرِ { خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قَرَأَ عَاصِمٌ تَصَدَّقُوا بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَالْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو الطِّيبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِيكَالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدَانَ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو بْنِ السَّرْحِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص 87، وسبق تخريج خطبة يوم عرفة في ص (219) هامش (2) وص (229).
(2) انظر: لباب النقول للسيوطي ص 119 ، 121.

ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ رَجُلًا بِحَقٍّ فَاخْتَبَأَ مِنْهُ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: الْعُسْرَةُ، فَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ فَحَلَفَ فَدَعَا بِصَكِّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَلَقَّتْ رُوحَ رَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ فَقَالُوا هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لَا قَالُوا: تَذْكُرُ، قَالَ: لَا إِلَّا أَنِّي رَجُلٌ كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَكُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى "تَجَاوَزُوا عَنْهُ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا زَائِدَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ" (3) .
فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كَهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بِمِنًى يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، قَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ قَالَ: "اشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
__________
(1) رواه مسلم: في المساقاة - باب: فضل إنظار المعسر برقم (1563) 3 / 1196. والمصنف في شرح السنة: 8 / 196 باللفظ نفسه.
(2) رواه البخاري: في البيوع، باب: من أنظر معسرا 4 / 307. ومسلم: في المساقاة - باب: فضل إنظار المعسر عن حذيفة برقم (1560) 3 / 1194. والمصنف في شرح السنة: 8 / 197.
(3) أخرجه مسلم: مطولا في الزهد - باب: حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر برقم (3006) 4 / 2301-2302 والمصنف في شرح السنة: 8 / 198.
(4) أخرجه البخاري في الوكالة - باب: الوكالة في قضاء الديون 4 / 483 وفي الاستقراض والهبة. ومسلم: في المساقاة - باب: من استسلف شيئا فقضى خيرا منه (وخيركم أحسنكم قضاء) برقم (1601) 3 / 1229. والمصنف في شرح السنة: 8 / 194.

مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فليتبع" (1) .
أَخْبَرَنَا 50/ب عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَعَمْ" فَلَمَّا أَدْبَرَ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ قُلْتَ؟" فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَعَمْ إِلَّا الدَّيْنَ" كَذَلِكَ قَالَ جِبْرِيلُ" (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَصِيرُونَ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: تُرَدُّونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَاشَ بَعْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تِسْعَ لَيَالٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَبْعَ لَيَالٍ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
__________
(1) أخرجه البخاري في الحوالات. باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة 4 / 464 ومسلم في المساقاة. باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة برقم (1564) 3 / 1197. والمصنف في شرح السنة 8 / 210.
(2) أخرجه الشافعي 2 / 226 والترمذي: في الجنائز - باب: ما جاء أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه 4 / 193 وقال هذا حديث حسن. وابن ماجه في الصدقات - باب: التشديد في الدين 2 / 806. وأحمد 2 / 440، 475، 508 عن أبي هريرة. والدارمي: في البيوع 52 باب: ما جاء في التشديد في الدين 2 / 262. وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات إلا عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو صدوق يخطئ: نيل الأوطار 5 / 14. والمصنف في شرح السنة: 8 / 202 وقال هذا حديث حسن.
(3) أخرجه مسلم: في الإمارة - باب: من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين برقم (1885) 3 / 1501. والمصنف في شرح السنة: 8 / 200.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا (1) .
__________
(1) في معرفة آخر ما نزل اختلاف، فقد روى الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) (النساء-176). وآخر سورة نزلت سورة براءة. وأخرج البخاري عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله، وعند أحمد وابن ماجه عن عمر: من آخر ما نزل آية الربا. وأخرج النسائي عن ابن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" (سورة البقرة-281) وأخرج مثله ابن جرير والفريابي، وهو مروي عن سعيد بن جبير ... إلخ وهناك أقوال أخرى، ويمكن التوفيق والجمع بين الأقوال بأن بعضها ينصب على آخر ما نزل من السور، وبعضها بالنسبة للآيات وبعضها بالنسبة لموضوع الآيات، فهي أواخر نسبية. انظر بالتفصيل: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1 / 101-106، بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا أَبَاحَ السَّلَمَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ".
قَوْلُهُ: { إِذَا تَدَايَنْتُمْ } أَيْ تَعَامَلْتُمْ بِالدَّيْنِ، يُقَالُ: دَايَنَتْهُ إِذَا عَامَلَتْهُ بِالدَّيْنِ وَإِنَّمَا قَالَ { بِدَيْنٍ } بَعْدَ قَوْلِهِ تَدَايَنْتُمْ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ قَدْ تَكُونُ مُجَازَاةً وَقَدْ تَكُونُ مُعَاطَاةً فَقَيَّدَهُ بِالدَّيْنِ لِيَعْرِفَ الْمُرَادَ مِنَ اللَّفْظِ، وَقِيلَ: ذَكَرَهُ

تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ"( 38-الْأَنْعَامِ ) { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } الْأَجَلُ مُدَّةٌ مَعْلُومَةُ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَالْأَجَلُ يَلْزَمُ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَفِي السَّلَمِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الطَّلَبُ قَبْلَ مَحَلِّهِ، وَفِي الْقَرْضِ لَا يلزم الأجل عن أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ { فَاكْتُبُوهُ } أَيِ اكْتُبُوا الَّذِي تَدَايَنْتُمْ بِهِ، بَيْعًا كَانَ أَوْ سَلَمًا أَوْ قَرْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِتَابَةِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاجِبَةٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ فَإِنْ تُرِكَ فَلَا بَأْسَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ"( 10-الْجُمُعَةِ ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَتْ كِتَابَةُ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَ الْكُلُّ بِقَوْلِهِ "فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فليؤد الذي ائتمن أَمَانَتَهُ" وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الْكِتَابَةِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ } أَيْ لِيَكْتُبْ كِتَابَ الدَّيْنِ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ { كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أَيْ بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا تَقْدِيمِ أَجْلٍ وَلَا تَأْخِيرٍ { وَلَا يَأْبَ } أَيْ لَا يَمْتَنِعُ { كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ } وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْكَاتِبِ وَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّاهِدِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا إِذَا طُولِبَ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ تَجِبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَاتِبٌ غَيْرُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ كَانَتْ عَزِيمَةً وَاجِبَةً عَلَى الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى "وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ" { كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } أَيْ كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } يَعْنِي: الْمَطْلُوبُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِهِ لِيَعْلَمَ مَا عَلَيْهِ، وَالْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، جَاءَ بِهِمَا الْقُرْآنُ، فَالْإِمْلَالُ هَاهُنَا، وَالْإِمْلَاءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"( 5-الْفُرْقَانِ ) { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } يَعْنِي الْمُمِلَّ { وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أَيْ وَلَا يَنْقُصْ مِنْهُ، أَيْ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْئًا.
{ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } أَيْ جَاهِلًا بِالْإِمْلَاءِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: طِفْلًا صَغِيرًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، السَّفِيهُ: الْمُبَذِّرُ الْمُفْسِدُ لِمَالِهِ أَوْ فِي دِينِهِ.
قَوْلُهُ { أَوْ ضَعِيفًا } أَيْ شَيْخًا كَبِيرًا وَقِيلَ هُوَ ضَعِيفُ الْعَقْلِ لِعَتَهٍ أَوْ جُنُونٍ { أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } لِخَرَسٍ أَوْ عَيٍّ أَوْ عُجْمَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْبَةٍ لَا يُمْكِنُهُ حُضُورَ الْكَاتِبِ أَوْ جَهْلٌ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } أَيْ قَيِّمُهُ { بِالْعَدْلِ } أَيْ بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِالْوَلِيِّ صَاحِبَ الْحَقِّ، يَعْنِي إِنْ عَجَزَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنَ الْإِمْلَالِ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّ الْحَقِّ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْعَدْلِ لِأَنَّهُ

أَعْلَمُ بِحَقِّهِ، { وَاسْتَشْهِدُوا } أَيْ وَأَشْهِدُوا { شَهِيدَيْنِ } أَيْ شَاهِدَيْنِ { مِنْ رِجَالِكُمْ } يَعْنِي الْأَحْرَارَ الْمُسْلِمِينَ، دُونَ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ وَالْكُفَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَجَازَ شُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } أَيْ لَمْ يَكُنِ الشَّاهِدَانِ رَجُلَيْنِ { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } أَيْ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْأَمْوَالِ حَتَّى تَثْبُتَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْعُقُوبَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَذَهَبُ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَالِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ غَالِبًا كَالْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعِ وَالثُّيُوبَةِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِهَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي الْعُقُوبَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } يَعْنِي مَنْ كَانَ مَرْضِيًّا فِي دِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَشَرَائِطُ [قَبُولِ] (1) الشَّهَادَةِ سَبْعَةٌ: الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَانْتِفَاءُ التُّهْمَةِ، فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ عِنْدَ النَّاسِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ، فَالَّذِي يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَجَوَّزَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ، وَأَجَازَهَا شُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا قَوْلَ لِلْمَجْنُونِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ" وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَالْمُرُوءَةُ شَرْطٌ، وَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِآدَابِ النَّفْسِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ تَارِكَهُ قَلِيلُ الْحَيَاءِ، وَهِيَ حُسْنُ الْهَيْئَةِ وَالسِّيرَةِ وَالْعِشْرَةِ وَالصِّنَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَظْهَرُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْهَا مَا يَسْتَحِي أَمْثَالُهُ مِنْ إِظْهَارِهِ فِي الْأَغْلَبِ يُعْلَمُ بِهِ قِلَّةُ مُرُوءَتِهِ وَتُرَدُّ شهادته، وانتفاء 51/أ التُّهْمَةِ شَرْطٌ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى الْعَدُوِّ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ عَدُوِّهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، كَالْوَارِثِ يَشْهَدُ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُ مُوَرِّثَهُ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ ضَرَرًا كَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَشْهَدُ بِجَرْحِ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سِرَاجٍ الطَّحَّانُ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
__________
(1) في نسخة ب (وجوب).

عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرْفَعُهُ "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا الْقَانِعِ (1) مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } قَرَأَ حَمْزَةُ إِنْ تَضِلَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ { فَتُذَكِّرُ } بِرَفْعِ الرَّاءِ، وَمَعْنَاهُ الْجَزَاءُ وَالِابْتِدَاءُ، وَمَوْضِعُ تَضِلُّ جَزْمٌ بِالْجَزَاءِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ فِي التَّضْعِيفِ "فَتُذَكِّرُ" رُفِعَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ مُبْتَدَأٌ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَنَصْبِ الرَّاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وتضل مَحَلُّهُ نَصْبٌ بِأَنْ فَتُذَكِّرَ مَنْسُوقٌ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ كَيْ تُذَكِّرَ { إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } وَمَعْنَى تَضِلُّ أَيْ تَنْسَى، يُرِيدُ إِذَا نَسِيَتْ إِحْدَاهُمَا شَهَادَتَهَا، تُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى فَتَقُولُ أَلَسْنَا حَضَرْنَا مَجْلِسَ كَذَا وَسَمِعْنَا كَذَا؟ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: فَتُذَكِّرَ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مُشَدَّدًا، وَذَكَرَ وَاذَّكَّرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمَا مُتَعَدِّيَانِ مِنَ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنَ الذِّكْرِ أَيْ تَجْعَلُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ذِكْرًا أَيْ تَصِيرُ شَهَادَتُهُمَا كَشَهَادَةِ ذِكْرٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى النِّسْيَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قِيلَ أَرَادَ بِهِ إِذَا مَا دُعُوا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةَ، سَمَّاهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَهُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ( فَهُوَ مُخَيَّرٌ ) (3) وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ، هَذَا فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا فَمَعْنَى الْآيَةِ "وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا" لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الشَّاهِدُ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَشْهَدْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْآيَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فِي التَّحَمُّلِ وَالْإِقَامَةِ إِذَا كَانَ فَارِغًا.
__________
(1) السائل.
(2) رواه الترمذي: في الشهادات - باب: فيمن لا تجوز شهادته 6 / 580-582 وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي ويزيد يضعف في الحديث ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه، وأخرجه الدارقطني والبيهقي وفيه (ولا ذي غمر لأخيه) وفي سنده يزيد بن زياد الدمشقي، وهو متروك كما عرفت، وقال أبو زرعة في العلل: (هو حديث منكر) وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي. وابن ماجه: في الأحكام - باب من لا تجوز شهادته: 2 / 2366 وفي الزوائد: في إسناده حجاج بن أرطاة وكان يدلس وقد رواه بالعنعنة، وهذه رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، (ذي غمر: الغمر: الحقد والعداوة). وأحمد: 2 / 204، 208، 225، 226 عن عبد الله بن عمرو. والمصنف في شرح السنة: 10 / 123 وقال: هذا حديث غريب ويزيد بن زياد الدمشقي منكر الحديث.
(3) ساقط من (ب) والكلام بصيغة الجمع.

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

{ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
{ وَلَا تَسْأَمُوا } أَيْ وَلَا تَمَلُّوا { أَنْ تَكْتُبُوهُ } وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَقِّ { صَغِيرًا } كَانَ الْحَقُّ { أَوْ كَبِيرًا } قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا { إِلَى أَجَلِهِ } إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ { ذَلِكُمْ } أَيِ الْكِتَابُ { أَقْسَطُ } أَعْدَلُ { عِنْدِ اللَّهِ } لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِهِ، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَعْدَلُ مِنْ تَرْكِهِ { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُذَكِّرُ الشُّهُودَ { وَأَدْنَى } وَأَحْرَى وَأَقْرَبُ إِلَى { أَلَّا تَرْتَابُوا } تَشُكُّوا فِي الشَّهَادَةِ { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } قَرَأَهُمَا

عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ عَلَى خَبَرِ كَانَ وَأُضْمِرَ الِاسْمُ، مَجَازُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً { حَاضِرَةً } (1) أَوِ الْمُبَايَعَةُ تِجَارَةً، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ الْكَوْنَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَقَعَ تِجَارَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَ الِاسْمَ فِي التِّجَارَةِ وَالْخَبَرَ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً دَائِرَةً بَيْنَكُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً يَدًا بِيَدٍ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ لَيْسَ فِيهَا أَجْلٌ { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا لا تَكْتُبُوهَا } يَعْنِي التِّجَارَةَ { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ عَزْمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِشْهَادُ وَاجِبٌ فِي صَغِيرِ الْحَقِّ وَكَبِيرِهِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئًا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى الْأَمَانَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى "فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا" الْآيَةَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } هَذَا نَهْيٌ لِلْغَائِبِ، وَأَصْلُهُ يُضَارِرْ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى الرَّائَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَنُصِبَتْ لِحَقِّ التَّضْعِيفِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَصْلُهُ يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَجَعْلِ الْفِعْلِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ، مَعْنَاهُ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ فَيَأْبَى أَنْ يَكْتُبَ وَلَا الشَّهِيدُ فَيَأْبَى أَنْ يَشْهَدَ، وَلَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ فَيَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ أَوْ يُحَرِّفُ مَا أُمْلِيَ عَلَيْهِ وَلَا الشَّهِيدُ فَيَشْهَدُ بِمَا لَمْ يُسْتَشْهَدْ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ طاووس وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ يُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ وَجَعَلُوا الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ مَفْعُولَيْنِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ الْكَاتِبَ أَوِ الشَّاهِدَ وَهُمَا عَلَى شُغْلٍ مُهِمٍّ، فَيَقُولَانِ: نَحْنُ عَلَى شُغْلٍ مُهِمٍّ فَاطْلُبْ غَيْرَنَا فَيَقُولُ الدَّاعِي إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمَا أَنْ تُجِيبَا وَيَلِحَّ عَلَيْهِمَا فَيَشْغَلُهُمَا عَنْ حَاجَتِهِمَا فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِطَلَبِ غَيْرِهِمَا { وَإِنْ تَفْعَلُوا } مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الضَّرَرِ { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أَيْ مَعْصِيَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْأَمْرِ { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَرُهُنٌ بِضَمِّ الْهَاءِ وَالرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَرِهَانٌ، وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ مِثْلُ بَغْلٍ وَبِغَالٍ وَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَالرُّهُنُ جَمْعُ الرِّهَانِ جَمْعُ الْجَمْعِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ (2) وَغَيْرُهُ: هُوَ جَمْعُ الرَّهْنِ أَيْضًا مِثْلُ سَقْفٍ وَسُقُفٍ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو وَإِنَّمَا قَرَأْنَا فَرُهُنٌ لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رِهَانِ الْخَيْلِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَرُهْنٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَالتَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ فِي الرُّهْنِ لُغَتَانِ مِثْلُ كُتْبٍ وَكُتُبٍ وَرُسْلٍ وَرُسُلٍ وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا آلَاتِ الْكَاتِبَةِ فَارْتَهِنُوا مِمَّنْ تُدَايِنُونَهُ رُهُونًا لِتَكُونَ وَثِيقَةً لَكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بالقبض، وقوله "فرهن مَقْبُوضَةٌ" أَيِ ارْتَهِنُوا وَاقْبِضُوا حَتَّى لَوْ رَهَنَ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَإِذَا سَلَّمَ لَزِمَ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ مَا دَامَ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ بَاقِيًا، وَيَجُوزُ فِي الْحَضَرِ الرَّهْنُ مَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إِلَّا فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْكَاتِبِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ
__________
(1) ساقط من نسخة (ب).
(2) في نسخة ب أبو عبيدة.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

خَرَجَ الْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَلَا عِنْدَ عَدَمِ كَاتِبٍ (1) { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ "فَإِنِ ائْتَمَنَ" يَعْنِي فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمِينًا عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَمْ يَرْتَهِنْ مِنْهُ شَيْئًا لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ.
{ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } أَيْ فَلْيَقْضِهِ عَلَى الْأَمَانَةِ { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } فِي أَدَاءِ الْحَقِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الشُّهُودِ وَقَالَ: { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } 51/ب إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى إِقَامَتِهَا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } أَيْ فَاجِرٌ قَلْبُهُ، قِيلَ: مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ كَإِيعَادِهِ عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، قَالَ: "فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ" وَأَرَادَ بِهِ مَسْخَ الْقَلْبِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } بَيَانُ الشَّهَادَةِ وَكِتْمَانِهَا { عَلِيمٌ }
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } مُلْكًا [وَأَهْلُهَا لَهُ عَبِيدٌ وَهُوَ مَالِكُهُمْ] (2) { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ خَاصَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ [خُصُوصِهَا] (3) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْآيَةِ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ (4) أَوْ تُخْفُوا الْكِتْمَانَ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي وَإِنْ تُعْلِنُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ أَوْ تُسِرُّوا يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ "لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" إِلَى أَنْ قَالَ "قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ"( 29-آلِ عِمْرَانَ ).
__________
(1) رواه البخاري: في الجهاد - باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه سلم والقميص في الحرب 6 / 99 ونصه: (توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير) عن عائشة. ومسلم: في المساقاة - باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر برقم (1603) 3 / 1226 عن عائشة بلفظ: ( اشترى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يهودي طعاما بنسيئة، فأعطاه درعا له رهنا)، والمصنف في شرح السنة: 8 / 182.
(2) ساقطة من ب.
(3) في ب تخصيصها.
(4) في ب معناه وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه أيها الشهود.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) }
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (1) .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ وَأُمَيَّةُ بْنُ بِسِطَامٍ الْعَيْشِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَا أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا رَوْحٌ وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" الْآيَةَ قَالَ: اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ نَعَمْ { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قَالَ نَعَمْ { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ نَعَمْ { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قَالَ نَعَمْ (2) .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَعْنَاهُ (3) ، ، وَقَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: قَدْ فَعَلْتُ، بَدَلَ
__________
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي القاسم بن سلامة ص27-28.
(2) رواه مسلم في الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، برقم (199) 1 / 115.
(3) انظر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق برقم (200) 1\ 116.

قَوْلِهِ نَعَمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَمُحَمَّدُ ابن كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعُرَنِيُّ، أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ" (1) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَرِدُ عَلَى الْإِخْبَارِ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَقَوْلُهُ { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } خَبَرٌ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَلْبِ كَسْبًا فَقَالَ "بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ"( 225-الْبَقَرَةِ ) فَلَيْسَ لِلَّهِ عَبْدٌ أَسَرَّ عَمَلًا أَوْ أَعْلَنَهُ مِنْ حَرَكَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ أَوْ هَمْسَةٍ فِي قَلْبِهِ إِلَّا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَغْفِرُ مَا يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ بِمَا يَشَاءُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"( 36-الْإِسْرَاءِ ). وَقَالَ الْآخَرُونَ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِبُ خَلْقَهُ بِجَمِيعِ مَا أَبْدَوْا مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ أَخْفَوْهُ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ مُعَاقَبَتَهُ عَلَى مَا أَخْفَوْهُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمُوهُ بِمَا يَحْدُثُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ وَالْأُمُورِ الَّتِي يَحْزَنُونَ عَلَيْهَا وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ حَتَّى الشَّوْكَةِ وَالْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيُرَوَّعُ لَهَا حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنَ الْكِيرِ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (3) .
__________
(1) رواه البخاري: في الإيمان- باب: إذا حَنِثَ ناسيا 11\ 549 وفي العتق والطلاق. ومسلم: في الإيمان- باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر برقم (202) 1\ 116-117. والمصنف في شرح السنة: 1\ 108.
(2) رواه الترمذي فى تفسير سورة البقرة 8\ 338 وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص (221). وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم. وأحمد 6\ 218 عن عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه الترمذي: في الزهد - باب في الصبر على البلاء 7\ 77 وقال: هذا حديث حسن غريب. والمصنف في شرح السنة: 5\ 245. ورواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبيد الله العرزمي وهو ضعيف - مجمع الزوائد 10\ 191-192. ميزان الاعتدال 2\ 585.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } يَعْنِي مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِمَّا عَزَمْتُمْ عَلَيْهِ { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَلَا تُبْدُوهُ وَأَنْتُمْ عَازِمُونَ عَلَيْهِ يُحَاسِبُكُمْ بِهِ اللَّهُ فَأَمَّا مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُكُمْ مِمَّا لَمْ تَعْزِمُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يُؤَاخِذُكُمْ بِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ"( 225-الْبَقَرَةِ ).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ: أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِالْهِمَّةِ قَالَ: إِذَا كَانَ عَزْمًا أُخِذَ بِهَا، وَقِيلَ مَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ الْإِخْبَارُ وَالتَّعْرِيفُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَتَعْمَلُوا بِهِ أَوْ تُخْفُوهُ مِمَّا أَضْمَرْتُمْ وَنَوَيْتُمْ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَيَجْزِيكُمْ بِهِ وَيُعَرِّفْكُمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ، وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ إِظْهَارًا لِعَدْلِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ يُؤَاخِذْكُمْ بِهِ، وَالْمُحَاسِبَةُ غَيْرُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّرَّادُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، أَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَا هَمَّامُ بن يحيى 52/أ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْنِي الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: أَيْ عَبْدِي أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ عَبْدِي تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (1) ( 18-هُودٍ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } رَفَعَ الرَّاءَ وَالْيَاءَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَجَزَمَهُمَا الْآخَرُونَ، فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْجَزْمُ عَلَى النَّسَقِ، رَوَى طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنَبِ الصَّغِيرِ، "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"( 230-الْأَنْبِيَاءِ ). قَوْلُهُ تَعَالَى: { آمَنَ الرَّسُولُ } أَيْ صَدَّقَ { بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } يَعْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَ الْفِعْلَ { وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: كِتَابِهِ، عَلَى الْوَاحِدِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَإِنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ"( 213-الْبَقَرَةِ ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ وَكُتُبِهِ بِالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ"( 136-النِّسَاءِ )، { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فَنُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ كَمَا فَعَلَتِ
__________
(1) رواه البخاري: في المظالم-باب: قوله تعالى (ألا لعنة الله على الظالمين) 5\ 96.

الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ لَا يُفَرِّقُ بِالْيَاءِ فَيَكُونُ خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَا يُفَرِّقُ الْكُلُّ وَإِنَّمَا قَالَ "بَيْنَ أَحَدٍ" وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحَادٍ لِأَنَّ الْأَحَدَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ"( 47-الْحَاقَّةِ ) { وَقَالُوا سَمِعْنَا } قَوْلَكَ { وَأَطَعْنَا } أَمْرَكَ.
رُوِيَ عَنْ حَكِيمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ، فَسَأَلَ بِتَلْقِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ { غُفْرَانَكَ } (1) وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيِ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، أَوْ نَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ { رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } ظَاهِرُ الْآيَةِ قَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَفِيهَا إِضْمَارُ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَقَالُوا لَا تُكَلِّفُنَا إِلَّا وُسْعَنَا، وَأَجَابَ أَيْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أَيْ طَاقَتَهَا، وَالْوُسْعُ: اسْمٌ لِمَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } كَمَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَسَّعَ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ فِيهِ إِلَّا مَا يَسْتَطِيعُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"( 185-الْبَقَرَةِ ) وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"( 78-الْحَجِّ ) وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } قَالَ: إِلَّا يُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّ الْوُسْعَ مَا دُونُ الطَّاقَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أَيْ لِلنَّفْسِ مَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ، لَهَا أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } مِنَ الشَّرِّ وَعَلَيْهَا وِزْرُهُ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا } أَيْ لَا تُعَاقِبْنَا { إِنْ نَسِينَا } جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ السَّهْوُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا نَسُوا شَيْئًا مِمَّا أُمِرُوا به أو أخطأوا عُجِّلَتْ لَهُمُ الْعُقُوبَةُ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْأَلُوهُ تَرْكَ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ"( 67-التَّوْبَةِ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ أَخْطَأْنَا } قِيلَ مَعْنَاهُ الْقَصْدُ وَالْعَمْدُ يُقَالُ: أَخْطَأَ فُلَانٌ إِذَا تَعَمَّدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيرًا"( 31-الْإِسْرَاءِ ) قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا يَعْنِي: إِنْ جَهِلْنَا أَوْ تَعَمَّدْنَا، وَجَعَلَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْخَطَإِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ وَالسَّهْوُ، لِأَنَّ مَا كَانَ عَمْدًا مِنَ الذَّنْبِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ بَلْ هُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالْخَطَأُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا
__________
(1) أخرج الطبري وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر قال: لما نزلت آمن الرسول، قال جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) حتى ختم السورة بمسألة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انظر تفسير الطبري: 6 / 129 والدر المنثور: 2 / 133.

اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } أَيْ عَهْدًا ثَقِيلًا وَمِيثَاقًا لَا نَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ فَتُعَذِّبُنَا بِنَقْضِهِ وَتَرْكِهِ { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } يَعْنِي الْيَهُودَ، فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ فَعَذَّبْتَهُمْ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي"( 81-آلِ عِمْرَانَ ) أَيْ عَهْدِي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُشَدِّدْ وَلَا تُغْلِظِ الْأَمْرَ عَلَيْنَا كَمَا شَدَدْتَ عَلَى مَنْ قَبِلْنَا مِنَ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً وَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ رُبْعِ أَمْوَالِهِمْ فِي الزَّكَاةِ وَمَنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ قَطَعَهَا وَمَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أَصْبَحَ وَذَنْبُهُ مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِهِ وَنَحْوَهَا مِنَ الْأَثْقَالِ وَالْأَغْلَالِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَعَطَاءٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَجَمَاعَةٍ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ"( 157-الْأَعْرَافِ ) وَقِيلَ: الْإِصْرُ ذَنْبٌ لَا تَوْبَةَ لَهُ، مَعْنَاهُ اعْصِمْنَا مِنْ مِثْلِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالْإِحْكَامُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أَيْ لَا تُكَلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا نُطِيقُهُ وَقِيلَ هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْوَسْوَسَةِ حُكِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْغُلْمَةُ، قِيلَ الْغُلْمَةُ: شِدَّةُ الشَّهْوَةِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: هُوَ الْحُبُّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: الْعِشْقُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ مَسْخُ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَقِيلَ هُوَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ الْفُرْقَةُ وَالْقَطِيعَةُ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاعْفُ عَنَّا } أَيْ تَجَاوَزْ وَامْحُ عَنَّا ذُنُوبَنَا { وَاغْفِرْ لَنَا } اسْتُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَنَا وَلَا تَفْضَحْنَا { وَارْحَمْنَا } فَإِنَّنَا لَا نَنَالُ الْعَمَلَ إِلَّا بِطَاعَتِكَ، وَلَا نَتْرُكُ مَعْصِيَتَكَ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ { أَنْتَ مَوْلَانَا } نَاصِرُنَا وَحَافَظُنَا وَوَلِيُّنَا { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" وَفِي قَوْلِهِ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ: "لَا أوأخذكم" { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } قَالَ: "لَا أَحْمِلُ عَلَيْكُمْ إِصْرًا" { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ: "لَا أُحَمِّلُكُمْ" { وَاعْفُ عَنَّا } إِلَى آخِرِهِ قَالَ "قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَغَفَرْتُ لَكُمْ، وَرَحِمْتُكُمْ وَنَصَرْتُكُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (2) .
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ إِذَا خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ قَالَ: آمِينَ.
__________
(1) لقد اشتهر بهذا اللفظ في كتب الفقه والأصول والمعروف ما أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رجاله كلهم ثقات ولكن يوجد فيه انقطاع بين ابن عباس وعطاء وأشار إلى هذا البوصيري في الزوائد فقال إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع وقد ورد بألفاظ أخرى يقوي بعضها بعضا. انظر إرواء الغليل للشيخ الألباني 1 / 123 والمعتبر في تخريج أحاديث المنهاج، والمختصر للزركشي ص154.
(2) ذكره الطبري عند تفسير الآية: 6 / 142-143 وانظر تعليق محمود شاكر في الحاشية.

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبة 52/ب أَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ فَوْقَهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ: "إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى"( 16-النَّجْمِ ) قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: وَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا مِنَ الْمُقْحِمَاتِ" (1) كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا يونس وأحمد بن شيبان قالا ثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي مسعود رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كَفَتَاهُ" (2) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا العلاء بن عبد الجبار، أنا حماد بن سلمة، أخبرنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان" (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، برقم (173): 1 / 157.
(2) رواه البخاري: في المغازي - باب: رقم 12-7 / 317-318 وفي فضائل القرآن. ومسلم: في صلاة المسافرين - باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة برقم (255) و(256) 1 / 554-555. والمصنف في شرح السنة: 4 / 464، واختلف في معناه فقيل: أجزأتاه عن قيام الليل، وقيل: كفتاه أجرا وفضلا، وقيل: كفتاه من كل شيطان أو من كل آفة.
(3) رواه الترمذي: في ثواب القرآن - باب: ما جاء في آخر سورة البقرة: 8 / 190 وقال: هذا حديث غريب. وابن حبان: في التفسير - تفسير سورة البقرة برقم (1726) ص 427 من موارد الظمآن. وأحمد: 4 / 274 عن النعمان بن بشير. والدارمي: في الفضائل - باب: فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي: 2 / 449. والمصنف في شرح السنة: 4 / 467 - وقال: هذا حديث غريب - انظر حاشية شرح السنة.

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ -مَدَنِيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { الم اللَّهُ } قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَفِي الْأَرْبَعَةِ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَؤُولُ إِلَيْهِمْ أَمْرُهُمُ: الْعَاقِبُ: أَمِيرُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمُ، الَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ: ثِمَالُهُمْ وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أُسْقُفُّهُمْ وَحَبْرُهُمْ .
دَخَلُوا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ فِي [جِمَالِ] (1) رِجَالِ بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، يَقُولُ مَنْ رَآهُمْ : مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مِثْلَهُمْ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَقَامُوا لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُمْ" فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ، [فَسَلَّمَ] (2) السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَسْلِمَا" قَالَا أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ قَالَ "كَذَبْتُمَا يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ ادِّعَاؤُكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ" قَالَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عِيسَى وَلَدًا لِلَّهِ فَمَنْ يَكُنْ أَبُوهُ؟ وَخَاصَمُوهُ جَمِيعًا فِي عِيسَى، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ"؟ قَالُوا بَلَى قَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ" قَالُوا: بَلَى، قَالَ : "فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟" قَالُوا: لَا قَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؟" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا مَا عُلِّمَ؟ " قَالُوا: لَا قَالَ: "فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ [وَرَبُّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ] (3) وَرَبُّنَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ وَيَشْرَبُ وَيُحْدِثُ؟"، قَالُوا: بَلَى قَالَ: "فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ؟" فَسَكَتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا (4) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب" فكلم .
(3) ساقط من "ب".
(4) أخرجه ابن إسحاق في السيرة: 2 / 45 - 46 من سيرة ابن هشام، والطبري في التفسير: 6 / 151 - 153 وعزاه السيوطي أيضا لابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير انظر الدر المنثور 2 / 141 - 142 .

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { الم اللَّهُ } مَفْتُوحُ الْمِيمِ، مَوْصُولٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا فَتْحُ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حُرِّكَ إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ وَقَرَأَ أَبُو يُوسُفَ وَيَعْقُوبُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ { الم اللَّهُ } مَقْطُوعًا سَكَّنَ الْمِيمَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ ثُمَّ قَطَعَ الْهَمْزَةَ لِلِابْتِدَاءِ وَأَجْرَاهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْطَعُ أَلِفَ الْوَصْلِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى { اللَّهُ } ابْتِدَاءٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ نَعْتٌ لَهُ.
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } أَيِ الْقُرْآنَ { بِالْحَقِّ } بِالصِّدْقِ { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْأَخْبَارِ وَبَعْضِ الشَّرَائِعِ { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ } وَإِنَّمَا قَالَ: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أُنْزِلَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ "نَزَّلَ" لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَصَّلًا وَالتَّنْزِيلُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّوْرَاةُ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: أَصْلُهَا وَوْرَيَةٌ عَلَى وَزْنِ فَوْعَلَةٍ مِثْلَ: دَوْحَلَةٍ وَحَوْقَلَةٍ، فَحُوِّلَتِ الْوَاوُ الْأُولَى تَاءً وَجُعِلَتِ الْيَاءُ الْمَفْتُوحَةُ أَلِفًا فَصَارَتْ تَوْرَاةً، ثُمَّ كُتِبَتْ بِالْيَاءِ عَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهَا تَفْعِلَةٌ مِثْلَ تَوْصِيَةٍ وَتَوْفِيَةٍ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا على لغة طيء فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ جَارَاةً، وَلِلتَّوْصِيَةِ تَوْصَاةً، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَرَى الزَّنْدُ إِذَا خَرَجَتْ نَارُهُ، وَأَوْرَيْتُهُ أَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ "( الْوَاقِعَةِ -71 ) فَسُمِّيَ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهَا نُورٌ وَضِيَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تعالى: " وضياء وذكرى لِلْمُتَّقِينَ "( الْأَنْبِيَاءِ -48 ) وَقِيلَ هِيَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهِيَ كِتْمَانُ [السِّرِّ] (1) وَالتَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ أَكْثَرُ التَّوْرَاةِ مَعَارِيضَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ.
وَالْإِنْجِيلُ: إِفْعِيلٌ مِنَ النَّجْلِ وَهُوَ الْخُرُوجُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَلَدُ نَجْلًا لِخُرُوجِهِ، فَسُمِّيَ الْإِنْجِيلُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ بِهِ دَارِسًا مِنَ الْحَقِّ عَافِيًا، وَيُقَالُ: هُوَ مِنَ النَّجَلِ وَهُوَ سَعَةُ الْعَيْنِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ سَعَةً لَهُمْ وَنُورًا، وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ تور، وتور مَعْنَاهُ الشَّرِيعَةُ، وَالْإِنْجِيلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أنقليون وَمَعْنَاهُ الْإِكْلِيلُ.
{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هُدًى لِلنَّاسِ } هَادِيًا لِمَنْ تَبِعَهُ وَلَمْ يُثَنِّهِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ { وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } الْمُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهَا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْفُرْقَانَ هُدًى لِلنَّاسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى،
__________
(1) في "ب" اليقين" .

أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ، حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَهَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى وَفْدِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى، حَيْثُ قَالُوا: عِيسَى وَلَدُ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلَّهِ وَلَدٌ وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّحِمِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مثل ذلك، 53/أ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ" أَوْ قَالَ: "يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" قَالَ: "وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ غَيْرُ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ غَيْرُ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق - باب: ذكر الملائكة: 6 / 303 وفي الأنبياء وفي القدر ومسلم في القدر - باب: كيفية الخلق الآدمي في بطنه أمه . . . برقم (2643) 4 / 2036 - 2037 والمصنف في شرح السنة: 1 / 128 - 129 .
(2) أخرجه مسلم في القدر - باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه . . . برقم (2644) 4 / 37 .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } مُبَيِّنَاتٌ مُفَصَّلَاتٌ، سُمِّيَتْ مُحْكَمَاتٍ مِنَ الْإِحْكَامِ، كَأَنَّهُ أَحْكَمَهَا فَمَنَعَ الْخَلْقَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا لِظُهُورِهَا وَوُضُوحِ مَعْنَاهَا { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أَيْ أَصْلُهُ الَّذِي يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا قَالَ: { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } وَلَمْ يَقُلْ أُمَّهَاتِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي تَكَامُلِهَا وَاجْتِمَاعِهَا كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ آيَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ: " وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً "( 50 -الْمُؤْمِنُونَ ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً { وَأُخَرُ } جَمْعُ أُخْرَى وَلَمْ يَصْرِفْهُ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ الْآخَرِ، مِثْلَ: عُمَرَ وَزُفَرَ { مُتَشَابِهَاتٌ } فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ فَرَّقَ هَاهُنَا بَيْنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَقَدْ جَعَلَ كُلَّ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؟ . فَقَالَ: " الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ "( 1-هُودٍ ) وَجَعَلَهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهًا [فِي مَوْضِعٍ آخَرَ] (1) فَقَالَ: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا "( 23 -الزُّمَرِ ).
قِيلَ: حَيْثُ جَعَلَ الْكُلَّ مُحْكَمًا، أَرَادَ أَنَّ الْكُلَّ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا هَزْلٌ، وَحَيْثُ جَعَلَ الْكُلَّ مُتَشَابِهًا أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَفِي الْحُسْنِ وَجَعَلَ هَاهُنَا بَعْضَهُ مُحْكَمًا وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُحْكَمَاتُ هُنَّ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ "( 151 ) وَنَظِيرُهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ "( 23 -الْإِسْرَاءِ ) الْآيَاتِ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَشَابِهَاتُ حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُحْكَمُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُتَشَابِهٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ "( 26 -الْبَقَرَةِ ) " وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ "( 100 -يُونُسَ ).
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ الَّذِي يعمل به، والمشتابه الْمَنْسُوخُ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مُحْكَمَاتُ الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ مَنْسُوخُهُ وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُحْكَمَاتُ مَا أَوْقَفَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى مَعْنَاهُ وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ، نَحْوَ الْخَبَرِ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَفَنَاءِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ غَيْرَ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا.
__________
(1) ساقط من "ب".

وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ وَتَكُونُ حُجَجُهَا وَاضِحَةً وَدَلَائِلُهَا لَائِحَةً لَا تَشْتَبِهُ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِالنَّظَرِ، وَلَا يَعْرِفُ الْعَوَامُّ تَفْصِيلَ الْحَقِّ فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُحْكَمُ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الْمَعْنَى وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ [بَاذَانَ] (1) الْمُتَشَابِهُ حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَنُظَرَاؤُهُمَا، أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ حُيَيٌّ: بَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْكَ { الم } فَنَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنَزَلَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا فَإِنِّي أَعْلَمُ مُدَّةَ مُلْكِ أُمَّتِكَ، هِيَ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً فَهَلْ أُنْزِلَ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ { المص } " قَالَ: فَهَذِهِ أَكْثَرُ هِيَ إِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، قَالَ: فَهَلْ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ { الر } " . قَالَ: هَذِهِ أَكْثَرُ هِيَ مِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً وَلَقَدْ خَلَطْتَ عَلَيْنَا فَلَا نَدْرِي أَبِكَثِيرِهِ نَأْخُذُ أَمْ بِقَلِيلِهِ وَنَحْنُ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (2) .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ وَقِيلَ شَكٌّ { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ . قَالَ الرَّبِيعُ: هُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ خَاصَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: "بَلَى" قَالُوا: حَسْبُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْيَهُودُ طَلَبُوا عِلْمَ أَجَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاسْتِخْرَاجَهَا بِحِسَابِ الْجُمَّلِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْخَوَارِجُ، وَكَانَ قَتَادَةُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } قَالَ: إِنْ لَمْ يكونوا الحرورية والسبأية فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ، وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْمُبْتَدِعَةِ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } -إِلَى قَوْلِهِ { أُولُو الْأَلْبَابِ } قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ " (3) .
__________
(1) ساقط من "ب" .
(2) أخرجه الطبري في التفسير مطولا: 1 / 216 - 218 وقال السيوطي في الدر المنثور: أخرجه ابن إسحاق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف الدر المنثور 1 / 57 وذكره ابن كثير في التفسير : 1 / 76 وقال: هذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به وانظر تعليق الشيخ محمود محمد شاكر على تفسير الطبري 1 / 218 - 220 .
(3) أخرجه البخاري في التفسير - في تفسير سورة آل عمران - باب : منه آيات محكمات : 8 / 209 ومسلم في العلم - باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه برقم : (2665) 4 / 2053 والمصنف في شرح السنة : 1 / 220 - 221 .

قَوْلُهُ تَعَالَى : { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } طَلَبَ الشِّرْكِ قَالَهُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ابْتِغَاءَ الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسِ لِيُضِلُّوا بِهَا جُهَّالَهُمْ { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } تَفْسِيرِهِ وَعِلْمِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى " سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا "( 78 -الْكَهْفِ ) وَقِيلَ: ابْتِغَاؤُهُ عَاقِبَتُهُ، وَهُوَ طَلَبُ أَجَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَّلِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى " ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "( 35 -الْإِسْرَاءِ ) أَيْ عَاقِبَةً .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ وَاوُ الْعَطْفِ يَعْنِي: أَنَّ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ "يَقُولُونَ" حَالًا مَعْنَاهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ، هَذَا كقوله تعالى: 53/ب " مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى "( 7 -الْحَشْرِ ) ثُمَّ قَالَ: " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ "( 8 -الْحَشْرِ ) إِلَى أَنْ قَالَ: " وَالَّذِينَ تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ "( 9 -الْحَشْرِ ) ثُمَّ قَالَ " وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ "( 10 -الْحَشْرِ ) وَهَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: " يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا "( 10 -الْحَشْرِ ) يَعْنِي هُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْفَيْءَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، أَيْ قَائِلِينَ عَلَى الْحَالِ .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ "وَالرَّاسِخُونَ" وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرِوَايَةُ طَاوُوسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَاخْتَارَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، وَقَالُوا: لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوِهَا، وَالْخَلْقُ مُتَعَبِّدُونَ فِي الْمُتَشَابِهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَفِي الْمُحْكَمِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ، وَمِمَّا يُصَدِّقُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَهَذَا قَوْلٌ أَقْيَسُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أَيِ الدَّاخِلُونَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَتْقَنُوا عِلْمَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْرِفَتِهِمْ شَكٌّ، وَأَصْلُهُ مِنْ رُسُوخِ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ ثُبُوتُهُ يُقَالُ: رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ يَرْسُخُ رُسْخَا وَرُسُوخًا وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ عُلَمَاءُ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

وَأَصْحَابِهِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ "( 162 -النِّسَاءِ ) يَعْنِي( الْمُدَارِسِينَ ) (1) عِلْمَ التَّوْرَاةِ وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ قَالَ: الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِمَا عَلِمَ الْمُتَّبِعُ لَهُ وَقِيلَ: الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ مَنْ وُجِدَ فِي عِلْمِهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: التَّقْوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَالتَّوَاضُعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ،وَالزُّهْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، وَالْمُجَاهَدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: بِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، فَرُسُوخُهُمْ فِي الْعِلْمِ قَوْلُهُمْ: آمَنَّا بِهِ، أَيْ بِالْمُتَشَابِهِ { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَمَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ { وَمَا يَذَّكَّرُ } وَمَا يَتَّعِظُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ { إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } ذَوُو الْعُقُولِ.
{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا } أَيْ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا أَيْ لَا تُمِلْهَا عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى كَمَا أَزَغْتَ قُلُوبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } وَفَّقْتَنَا لِدِينِكَ وَالْإِيمَانِ بِالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِكَ { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ } أَعْطِنَا مِنْ عِنْدِكَ { رَحْمَةً } تَوْفِيقًا وَتَثْبِيتًا لِلَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَجَاوُزًا وَمَغْفِرَةً { إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْقُرَشِيُّ يُعْرَفُ بِابْنِ الرَّوَّاسِ الْكَبِيرِ بِدِمَشْقَ، أَنَا أَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ، أَنَا صَدَقَةُ، أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ" وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ يَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَا سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ تُقَلِّبُهَا
__________
(1) في "ب" الدارسين.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن النواس: 4 / 182 وابن ماجه في المقدمة - باب فيما أنكرت الجهمية: 1 / 72 وقال في الزوائد: إسناد صحيح والمصنف في شرح السنة: 1 / 166.

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ" (1) .
{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة برقم (88) 1 / 34 والإمام أحمد في المسند: 4 / 408 عن أبي موسى الأشعري بإسناد صحيح والمصنف في شرح السنة: 1 / 164 .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ } أَيْ لِقَضَاءِ يَوْمٍ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي يَوْمٍ { لَا رَيْبَ فِيهِ } أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ { إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } مِفْعَالٌ مِنَ الْوَعْدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ } لَنْ تَنْفَعَ وَلَنْ تَدْفَعَ { عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ بِمَعْنَى عِنْدَ، أَيْ عِنْدَ اللَّهِ { شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ }
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ وَصَنِيعِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَأَمْرِ آلِ فِرْعَوْنَ وَشَأْنِهِمْ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، يُرِيدُ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَجُحُودِ الْحَقِّ كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، { وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كَفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ؛ مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ { كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ { بِذُنُوبِهِمْ } وَقِيلَ نَظْمُ الْآيَةِ: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } عِنْدَ حُلُولِ النِّقْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ مِثْلَ آلِ فِرْعَوْنَ وَكُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَخَذْنَاهُمْ فَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ فِيهِمَا، أَيْ أَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ مُشْرِكِي مَكَّةَ مَعْنَاهُ: قُلْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ: سَتُغْلَبُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ،

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ "إِنَّ اللَّهَ غَالِبُكُمْ وَحَاشِرُكُمْ إِلَى جَهَنَّمَ" (1) .
وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: الْيَهُودُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا لَمَّا هَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: هَذَا -وَاللَّهِ -النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَنَا بِهِ مُوسَى لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، وَأَرَادُوا اتِّبَاعَهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَى وَقْعَةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَنُكِبَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكُّوا فَغَلَبَ عليهم الشقاء، 54/أ فَلَمْ يُسْلِمُوا، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ فَنَقَضُوا ذَلِكَ الْعَهْدَ وَانْطَلَقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ لِيَسْتَفِزَّهُمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالِهِ وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا: أَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ" فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا أَغْمَارًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً وَإِنَّا وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْنَاكَ لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ } (2) تُهْزَمُونَ { وَتُحْشَرُونَ } فِي الْآخِرَةِ { إِلَى جَهَنَّمَ } { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } الْفِرَاشُ، أَيْ بِئْسَ مَا مُهِّدَ لَهُمْ يَعْنِي النَّارَ.
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } وَلَمْ يَقُلْ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ، وَالْآيَةُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ رَدَّهَا إِلَى الْبَيَانِ أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ بَيَانٌ، فَذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا ذُكِّرَ لِأَنَّهُ حَالَتِ الصِّفَةُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ، فَذُكِّرَ الْفِعْلُ وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَهَذَا وَجْهُهُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ أَيْ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ إِنَّكُمْ سَتَغْلِبُونَ. { فِي فِئَتَيْنِ } فِرْقَتَيْنِ وَأَصْلُهَا فَيْءُ الْحَرْبِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَفِيءُ إِلَى بَعْضٍ { الْتَقَتَا } يَوْمَ بَدْرٍ { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } طَاعَةِ اللَّهِ وَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا سَبْعَةٌ
__________
(1) أخرجه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق: 2 / 120 والطبري في التفسير: 6 / 227 وفي التاريخ: 2 / 479 .
(2) أخرجه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق : 2 / 120 والطبري في التفسير: 6 / 227 وفي التاريخ: 2 / 479 .

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَمِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَصَاحِبُ رَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَاحِبُ رَايَةِ الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا وَفَرَسَانِ فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو وَفَرَسٌ لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ وَأَكْثَرُهُمْ رَجَّالَةٌ وَكَانَ مَعَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ سِتَّةُ أَدْرُعٍ وَثَمَانِيَةُ سُيُوفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } أَيْ فِرْقَةٌ أُخْرَى كَافِرَةٌ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَكَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ رَأْسُهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَفِيهِمْ مِائَةُ فَرَسٍ وَكَانَتْ حَرْبُ بَدْرٍ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ يَعْنِي تَرَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَهْلَ مَكَّةَ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا حَضَرُوا قِتَالَ بَدْرٍ لِيَنْظُرُوا عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ فَرَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَرَأَوُا النُّصْرَةَ مَعَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً وَآيَةً، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهِ: فَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الرُّؤْيَةَ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَرَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ كَمَا هُمْ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: مِثْلَيْهِمْ وَهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ؟ قِيلَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَعِنْدَهُ دِرْهَمٌ أَنَا أَحْتَاجُ إِلَى مِثْلَيْ هَذَا الدِّرْهَمِ يَعْنِي إِلَى مِثْلَيْهِ سِوَاهُ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي -وَهُوَ الْأَصَحُّ -كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ أَنْفُسِهِمْ، قَلَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ قَلَّلَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي حَالَةٍ أُخْرَى حَتَّى رَأَوْهُمْ مِثْلَ عَدَدِ أَنْفُسِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يُضْعَفُونَ عَلَيْنَا ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. ثُمَّ قَلَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ عَدَدًا يَسِيرًا أَقَلَّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (1) حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي : تَرَاهُمْ سَبْعِينَ ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً قَالَ بَعْضُهُمُ: الرُّؤْيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَعْنِي يَرَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْهِمْ قَلَّلَهُمُ اللَّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْصَرِفُوا فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الْقِتَالِ كَثَّرَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ لِيَجْبُنُوا وَقَلَّلَهُمْ فِي أعين المؤمنين ليجترؤوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ "( 44 -الْأَنْفَالِ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَأْيَ الْعَيْنِ } أَيْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ نُصِبَ بِنَزْعِ حَرْفِ الصَّنْعَةِ { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْتُ { لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } لِذَوِي الْعُقُولِ، وَقِيلَ لِمَنْ أَبْصَرَ الْجَمْعَيْنِ.
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ مَا تَدْعُو النَّفْسُ إِلَيْهِ { مِنَ النِّسَاءِ }
__________
(1) ساقط من (أ) .

بَدَأَ بِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ { وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ } جَمْعُ قِنْطَارٍ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْقِنْطَارُ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [وَالضَّحَّاكُ] (1) أَلْفٌ وَمِائَتَا مِثْقَالٍ. وَعَنْهُمَا رِوَايَةٌ أُخْرَى اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَلْفُ [دِينَارٍ] (2) دِيَةُ أَحَدِكُمْ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْقِنْطَارُ دِيَةُ أَحَدِكُمْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ مِائَةُ أَلْفٍ وَمِائَةُ مَنٍّ وَمِائَةُ رَطْلٍ وَمِائَةُ مِثْقَالٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ يَوْمَ جَاءَ وَبِمَكَّةَ مِائَةُ رَجُلٍ قَدْ قَنْطَرُوا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ: ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ الْحَكَمُ: الْقِنْطَارُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ: مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً.
وَسُمِّيَ قِنْطَارًا مِنَ الْإِحْكَامِ، يُقَالُ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَحْكَمْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَنْطَرَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الْمُقَنْطَرَةِ } قَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُحَصَّنَةُ الْمُحْكَمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْكَثِيرَةُ الْمُنَضَّدَةُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَقَالَ يَمَانٌ: [الْمَدْفُونَةُ] (3) وَقَالَ السُّدِّيُّ الْمَضْرُوبَةُ الْمَنْقُوشَةُ حَتَّى صَارَتْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَقَالَ [الْفَرَّاءُ] (4) الْمُضَعَّفَةُ، فَالْقَنَاطِيرُ ثَلَاثَةٌ وَالْمُقَنْطَرَةُ تِسْعَةٌ { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } وَقِيلَ سُمِّيَ الذَّهَبُ ذَهَبًا لِأَنَّهُ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَالْفِضَّةُ لِأَنَّهَا تَنْفَضُّ أَيْ تَتَفَرَّقُ { وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } الْخَيْلُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَاحِدُهَا فَرَسٌ، كَالْقَوْمِ وَالنِّسَاءِ وَنَحْوِهِمَا، الْمُسَوَّمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَسْوِيمُهَا حُسْنُهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الرَّاعِيَةُ، يُقَالُ: أَسَامَ الْخَيْلَ وَسَوَّمَهَا قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمُعَلَّمَةُ مِنَ السِّيمَاءِ وَالسِّيمَاءُ الْعَلَامَةُ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سِيمَاهَا الشَّبَهُ وَاللَّوْنُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَقِيلَ: الْكَيُّ.
{ وَالْأَنْعَامِ } جَمْعُ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ { وَالْحَرْثِ } يَعْنِي الزَّرْعَ { ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْنَا { مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مَتَاعٌ يَفْنَى { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } أَيِ الْمَرْجِعِ، فِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1) ساقط من أ.
(2) في ب درهم.
(3) في ب المدقومة.
(4) في أ السدي.

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } قرأه العامة 54/ب بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْعُدْوَانِ وَالْعِدْوَانِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ } إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ مَحَلَّ الَّذِينَ خَفْضًا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا تَقْدِيرُهُ أَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ { رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا } صَدَّقْنَا { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } اسْتُرْهَا عَلَيْنَا وَتَجَاوَزْ عَنَّا { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ } إِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهَا عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ شِئْتَ خَفَضْتَهَا عَلَى النَّعْتِ، يَعْنِي الصَّابِرِينَ فِي أَدَاءِ الْأَمْرِ وَعَنِ ارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَعَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، وَالصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ فَصَدَقُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ { وَالْقَانِتِينَ } الْمُطِيعِينَ الْمُصَلِّينَ { وَالْمُنْفِقِينَ } أَمْوَالَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْمُصَلِّينَ بِالْأَسْحَارِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ بِالسَّحَرِ لِقُرْبِهِ مِنَ
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد . باب : كلام الرب مع أهل الجنة : 3 / 487 ومسلم في الجنة . باب : إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا برقم (2829) 4 / 2176 .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

الصُّبْحِ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ ثُمَّ اسْتَغْفَرُوا، وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْيِي اللَّيْلَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَسْحَرْنَا؟ فَأَقُولُ لَا فَيُعَاوِدُ الصَّلَاةَ فَإِذَا قُلْتُ: نَعَمْ قَعَدَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَدْعُو حَتَّى يُصْبِحَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، أَنَا قُتَيْبَةُ [بْنُ سَعِيدٍ] (1) أَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ" (2) .
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَكُنْ أَعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ يُصَوِّتُ مِنَ الْأَسْحَارِ وَأَنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ .
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَدِمَ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ: أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ بِصِفَةِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؟ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ عَرَفَاهُ بِالصِّفَةِ، فَقَالَا لَهُ: أَنْتَ مُحَمَّدٌ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَا لَهُ: وَأَنْتَ أَحْمَدُ؟ قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ" قَالَا لَهُ: فَإِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهِ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، فَقَالَ اسْأَلَا فَقَالَا أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَسْلَمَ الرَّجُلَانِ (3) .
قَوْلُهُ { شَهِدَ اللَّهُ } أَيْ بَيَّنَ اللَّهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تُبَيِّنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَكَمَ اللَّهُ [وَقِيلَ: عَلِمَ اللَّهُ] (4) وَقِيلَ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في التهجد . باب : الدعاء والصلاة من آخر الليل: 3 / 29 ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه برقم (758) 1 / 521 والمصنف في شرح السنة : 4 / 63 - 64 .
(3) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 2 / 401 - 402 والحديث من رواية الكلبي وهو متهم بالكذب . وانظر فيما سيأتي تفسير الآية (23) وأسباب النزول للواحدي ص (130).
(4) ساقط من "ب".

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَخَلَقَ الْأَرْزَاقَ قَبْلَ الْأَرْوَاحِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، فَشَهِدَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ كَانَ وَلَمْ تَكُنْ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا بَحْرٌ (1) فَقَالَ: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
وَقَوْلُهُ: { وَالْمَلَائِكَةُ } أَيْ وَشَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ قِيلَ: مَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ، وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْإِقْرَارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى { وَأُولُو الْعِلْمِ } يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُلَمَاءُ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي جَمِيعَ عُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. { قَائِمًا بِالْقِسْطِ } أَيْ بِالْعَدْلِ. وَنَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ شَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ { قَائِمًا بِالْقِسْطِ } أَيْ قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ، أَيْ مُدَبِّرٌ لَهُ وَمُتَعَهِّدٌ لِأَسْبَابِهِ، وَقَائِمٌ بِحَقِّ فُلَانٍ أَيْ مُجَازٍ لَهُ فَاللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُدَبِّرٌ رَازِقٌ مُجَازٍ بِالْأَعْمَالِ. { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) }
{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } يَعْنِي الدِّينَ الْمَرْضِيَّ الصَّحِيحَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "( 3 -الْمَائِدَةِ ) وَقَالَ " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ "( 85 -آلِ عِمْرَانَ ) وَفَتَحَ الْكِسَائِيُّ الْأَلِفَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ رَدًّا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيرُهُ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَشَهِدَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، أَوْ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَسَرَ الْبَاقُونَ الْأَلِفَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، يُقَالُ: أَسْلَمَ أَيْ دَخَلَ فِي السِّلْمِ وَاسْتَسْلَمَ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ [وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا بِهِ] (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو عَمْرٍو الْفُرَاتِيُّ، أَنَا أَبُو مُوسَى عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، أَنَا عَمَّارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تِجَارَةٍ فَنَزَلْتُ قَرِيبًا مِنَ الْأَعْمَشِ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتُ لَيْلَةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ إِلَى
__________
(1) للعلماء في هذه المسألة قولان: فمنهم من قال بأن الله خلق الأرواح أولا، ومنهم من قال بأن الله تعالى خلق الأجساد أولا ولكل من الفريقين أدلة استدل بها على قوله. انظر: الروح لابن القيم ص (156 - 175).
(2) ساقط من "أ".

الْبَصْرَةِ، فَإِذَا الْأَعْمَشُ قَائِمٌ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ثُمَّ قَالَ الْأَعْمَشُ : وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } قَالَهَا مِرَارًا قُلْتُ لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ وَوَدَّعْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ : إِنِّي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ آيَةً تُرَدِّدُهَا فَمَا بَلَغَكَ فِيهَا؟ [قَالَ لِي: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُحَدِّثْنِي] (1) قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِهَا إِلَى سَنَةٍ، فَكَتَبْتُ عَلَى بَابِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَأَقَمْتُ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ مَضَتِ السَّنَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لِعَبْدِي هَذَا عِنْدِي عَهْدًا، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ، أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ َ } قَالَ الْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حِينَ تَرَكُوا الْإِسْلَامَ أَيْ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، يَعْنِي بَيَانَ نَعْتِهِ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إسرائيل فاستودعهم 55/أ التَّوْرَاةَ وَاسْتَخْلَفَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَلَمَّا مَضَى الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ أَبْنَاءِ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ حَتَّى أَهْرَقُوا بَيْنَهُمُ الدِّمَاءَ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ يَعْنِي بَيَانَ مَا فِي التَّوْرَاةِ { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أَيْ طَلَبًا لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَابِرَةَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَعْنَاهَا { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } يَعْنِي الْإِنْجِيلَ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَرَّقُوا الْقَوْلَ فِيهِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أَيْ لِلْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
__________
(1) ساقط من المخطوط وأثبتناه من مجمع الزوائد.
(2) قال السيوطي : أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه والخطيب في تاريخه وابن النجار عن غالب القطان انظر : الدر المنثور للسيوطي 2 / 166 وذكره الهيثمي في المجمع 6 / 325 - 326 وقال: رواه الطبراني وفيه عمر بن المختار وهو ضعيف، وذكر ابن الجوزي له عدة روايات وقال : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفرد به عمر بن المختار، وعمر يحدث بالأباطيل قال العقيلي : لا يتابع عمار على حديثه ولا يعرف إلا به. انظر: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي: 1 / 102 - 103 ميزان الاعتدال للذهبي: 3 / 223 .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)

{ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ } أَيْ خَاصَمُوكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا لَسْنَا عَلَى مَا سَمَّيْتَنَا بِهِ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ نَسَبٌ، وَالدِّينُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَنَحْنُ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ } أَيِ انْقَدْتُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِقَلْبِي وَلِسَانِي وَجَمِيعِ جَوَارِحِي، وَإِنَّمَا خُصَّ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْجَوَارِحِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِيهِ بَهَاؤُهُ، فَإِذَا خَضَعَ وَجْهُهُ لِلشَّيْءِ خَضَعَ لَهُ جَمِيعُ جَوَارِحِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ أَخْلَصْتُ عَمَلِي لِلَّهِ { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } أَيْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي أَسْلَمَ كَمَا أَسْلَمْتُ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { اتَّبَعَنِي } عَلَى الْأَصْلِ وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ عَلَى الْخَطِّ لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ.
وَقَوْلُهُ: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ } يَعْنِي الْعَرَبَ { أَأَسْلَمْتُمْ } لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، أَيْ أَسْلِمُوا كَمَا قَالَ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ "( 91 -الْمَائِدَةِ ) أَيِ انْتَهُوا، { فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: أَسْلَمْنَا، فَقَالَ لِلْيَهُودِ: أَتَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَعَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالُوا: مَعَاذَ الله، وقال النصارى : أَتَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ (1) ؟ قَالُوا : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عِيسَى عَبْدًا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } أَيْ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ الْهِدَايَةُ { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } عَالِمٌ بِمَنْ يُؤْمِنُ وَبِمَنْ لَا يُؤْمِنُ .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } قَرَأَ حَمْزَةُ: وَيُقَاتِلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي عَلَى [أَنْبِيَاءِ] (2) بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ أَيْضًا فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجُوَيْهِ الدَّيْنَوَرِيُّ، أَنَا أَبُو نَصْرٍ مَنْصُورُ بْنُ جَعْفَرٍ النُّهَاوَنْدِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْجَارُودِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ( حِمْيَرَ ) (3) ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ الْخُزَاعِيِّ
__________
(1) ساقط من (أ).
(2) ساقط من (أ).
(3) في "أ" نمير وهو خطأ.

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا (1) أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا فِي آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَنْزَلَ الآية فيهم" (2) { فَبَشِّرْهُمْ } أَخْبِرْهُمْ { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَجِيعٍ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْفَاءَ عَلَى خَبَرِ إِنَّ وَتَقْدِيرُهُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ وَيَقْتُلُونَ فَبَشِّرْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا فَقَائِمٌ.
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
__________
(1) عطف "رجلا" على "نبيا" وفي الطبري: " أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف " عطفا على "رجل" .
(2) أخرجه الطبري في التفسير : 6 / 285 - 286 وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم : الدر المنثور : 2 / 168 وقال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف : رواه البزار والطبراني وابن أبي حاتم والثعلبي من حديثه وفيه أبو الحسن مولى بني أسد وهو مجهول. انظر: الكافي الشاف ص 25 .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ } بَطَلَتْ { أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِوَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وَبُطْلَانُ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُقْبَلَ وَفِي الْآخِرَةِ أَلَّا يُجَازَى عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } يَعْنِي الْيَهُودَ { يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ } اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ دُعُوا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ حُكْمًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ الْقُرْآنُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الْهُدَى فَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ التَّوْرَاةُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت المدارس عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

"فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1)
وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا وَكَانَ فِي كِتَابِهِمُ الرَّجْمُ، فَكَرِهُوا رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا فِيهِمْ فَرَفَعُوا أَمْرَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ فَحَكَمَ عَلَيْهِمَا بِالرَّجْمِ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ أَوْفَى وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو: جُرْتَ عَلَيْهِمَا يَا مُحَمَّدُ لَيْسَ عَلَيْهِمَا الرَّجْمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةُ" قَالُوا: قَدْ أَنْصَفَتْنَا قَالَ "فَمَنْ أَعْلَمُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ" قَالُوا رَجُلٌ أَعْوَرُ يَسْكُنُ فَدَكَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُورِيَّا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ وَصَفَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْتَ ابْنُ صُورِيَّا؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "أَنْتَ أَعْلَمُ الْيَهُودِ"؟ قَالَ: كَذَلِكَ يَزْعُمُونَ قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، فِيهَا الرَّجْمُ مَكْتُوبٌ، فَقَالَ لَهُ : "اقْرَأْ" فَلَمَّا أَتَى عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ كَفَّهُ عَلَيْهَا وَقَرَأَ مَا بَعْدَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَاوَزَهَا فَقَامَ فَرَفَعَ كَفَّهُ عَنْهَا ثُمَّ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّ الْمُحْصَنَ وَالْمُحْصَنَةَ إِذَا زَنَيَا وَقَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ رُجِمَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُبْلَى تُرُبِّصَ بِهَا حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَهُودِيَّيْنِ فَرُجِمَا، فَغَضِبَ الْيَهُودُ لِذَلِكَ وَانْصَرَفُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ } (2) { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) }
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ } وَالْغُرُورُ هُوَ الْإِطْمَاعُ فِيمَا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ { مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } وَالِافْتِرَاءُ اختلاق الكذب .
55/ب قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } أَيْ فَكَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ { لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ } [وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ] (3) { وَوُفِّيَتْ } [وُفِّرَتْ] { كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ } أَيْ جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير عن ابن عباس : 6 / 228 - 229 وابن شهاب في السيرة: 2 / 201 وعزاه السيوطي أيضا: لابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: الدر المنثور: 2 / 170 أسباب النزول ص (131).
(2) القصة من رواية الكلبي عن ابن عباس والكلبي هذا هو : أبو النضر محمد بن السائب الكلبي وهو متهم بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه كل ما حدثنكم به عن أبي صالح: كذب انظر: تهذيب التهذيب : 9 / 157 - 159 الاسرائيليات والموضوعات في التفسير للشيخ محمد أبو شهبة وقد ثبت رجم اليهودين اللذين زنيا في الكتب الستة انظر: نصب الراية للزيلعي : 3 / 326 - 327 .
(3) ساقط من "ب".

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ .
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } قَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ قَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ؟ وَهُمْ أَعَزُّ وَأَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَلَمْ يَكْفِ مُحَمَّدًا مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ حَتَّى طَمِعَ فِي مُلْكِ فَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { قُلِ اللَّهُمَّ } (1) قِيلَ : مَعْنَاهُ يَا اللَّهُ فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ زِيدَ الْمِيمُ فِي آخِرِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لِلْمِيمِ فِيهِ مَعْنًى، وَمَعْنَاهَا يَا أَللَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ أَيِ: اقْصِدْنَا، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِمْ: هَلُمَّ إِلَيْنَا، كَانَ أَصْلُهُ هَلْ أُمَّ إِلَيْنَا، ثُمَّ كَثُرَتْ فِي الْكَلَامِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ اسْتِخْفَافًا وَرُبَّمَا خَفَّفُوا أيضا فقالوا: لا هُمَّ، قَوْلُهُ { مَالِكَ الْمُلْكِ } [يَعْنِي يَا مَالِكَ الْمُلْكِ] (2) أَيْ مَالِكَ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا، وَقِيلَ يا مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: "أَنَا اللَّهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَمَالِكُ الْمُلُوكِ وَقُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِي فَإِنِ الْعِبَادُ أَطَاعُونِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً وَإِنْ عَصَوْنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فَلَا تَشْتَغِلُوا بِسَبِّ الْمُلُوكِ وَلَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أَعْطِفْهُمْ عَلَيْكُمْ " (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي مُلْكَ النُّبُوَّةِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ { وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } أَبِي جَهْلٍ وَصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَقِيلَ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ: الْعَرَبَ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ: فَارِسَ وَالرُّومَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، آتَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِمْ { وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } نَزَعَهُ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِخِلَافِهِمْ، وَقِيلَ تُؤْتِي مَنْ تَشَاءُ: آدَمَ وَوَلَدَهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } قَالَ عَطَاءٌ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ: فَارِسَ وَالرُّومَ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ حَتَّى دَخَلُوا مَكَّةَ فِي عَشْرَةِ آلَافٍ ظَاهِرِينَ عَلَيْهَا، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ: أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ حتى حُزَّت رؤوسهم وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (25) ذكره الواحدي في أسبابه ص (131) عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم ولم أجد له إسنادا.
(2) ساقط من (أ).
(3) رواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي فيه إبراهيم بن راشد وهو متروك مجمع الزوائد: 5 / 249 وقال الألباني : ضعيف جدا سلسلة الأحاديث الضعيفة : 1 / 68 .

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

تَشَاءُ بِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالطَّاعَةِ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالنَّصْرِ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْقَهْرِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْغِنَى وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَى وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } أَيْ بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا قَالَ تَعَالَى : " سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ "( 81 -النَّحْلِ ) أَيِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا { إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ } أَيْ تُدْخِلُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ { وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } حَتَّى يَكُونَ اللَّيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، فَمَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا زَادَ فِي الْآخَرِ { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "الْمَيِّتَ" بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي الْأَنْعَامِ وَيُونُسَ وَالرُّومِ وَفِي الْأَعْرَافِ "لِبَلَدٍ مَيِّتٍ" وَفِي فَاطِرٍ "إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ" زاد نافع " أو من كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ "( 122 -الْأَنْعَامِ ) وَ" لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا "( 12 -الْحُجُرَاتِ ) وَ" الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا "( 33 -يس ) فَشَدَّدَهَا، وَالْآخَرُونَ يُخَفِّفُونَهَا، وَشَدَّدَ يَعْقُوبُ " يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ " "لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا" قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: يُخْرِجُ الْحَيَوَانَ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَيُخْرِجُ النُّطْفَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَيِ الْفَرْخَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَيُخْرِجُ الْبَيْضَةَ مِنَ الطَّيْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَالْمُؤْمِنُ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ مَيِّتُ الْفُؤَادِ قَالَ الله تعالى : " أوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ "( 122 -الْأَنْعَامِ ) وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ الْحَبِّ الْيَابِسِ، وَيُخْرِجُ الْحَبَّ الْيَابِسَ مِنَ النَّبَاتِ الْحَيِّ النَّامِي { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ [وَلَا تَقْتِيرٍ] (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ، أَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ
__________
(1) في ب ولا تعسير.

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ( شَهِدَ اللَّهُ -إِلَى قَوْلِهِ -إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ -وَ -قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ -إِلَى قَوْلِهِ -بِغَيْرِ حِسَابٍ ) مُعَلَّقَاتٌ، مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ، قُلْنَ: يَا رَبُّ تُهْبِطُنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: بِي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَلَأُسْكِنَنَّهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ وَلَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِيَ الْمَكْنُونَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً وَلَقَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ وَلَأَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُمْ" (1) رَوَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ.
{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ { يَظُنُّونَ } (2) بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ لَا يَفْتِنُونَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، فَأَبَى أُولَئِكَ النَّفَرُ إِلَّا مُبَاطَنَتَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ وَيَأْتُونَهُمْ بِالْأَخْبَارِ وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ [فِعْلِهِمْ] (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أَيْ مُوَالَاةَ الْكُفَّارِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ { فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } [أَيْ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ] (4) ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ { إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } يَعْنِي: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ مَخَافَةً، قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ "تَقِيَّةً" عَلَى وَزْنِ بَقِيَّةٍ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِالْيَاءِ وَلَمْ يَكْتُبُوهَا بِالْأَلِفِ، مِثْلَ حَصَاةٍ وَنَوَاةٍ، وَهِيَ مَصْدَرٌ يقال تقيته 56/أ تُقَاةً وَتَقَى تَقِيَّةً وَتَقْوًى فَإِذَا قُلْتَ اتَّقَيْتَ كَانَ الْمَصْدَرُ الِاتِّقَاءَ، وَإِنَّمَا قَالَ تَتَّقُوا مِنَ الِاتِّقَاءِ ثُمَّ قَالَ: تُقَاةً وَلَمْ يَقُلِ اتِّقَاءً لِأَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ إِذَا كَانَ وَاحِدًا يَجُوزُ إِخْرَاجُ مَصْدَرِ أَحَدِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "( 8 -الْمُزَّمِّلِ )
__________
(1) لم نجد الحديث فيما بين أيدينا من كتب السنة وقد عزاه المصنف للحارث في مسنده وضعفه.
(2) في ب يظنوا. وفي الأسباب النزول للواحدي: "يباطنون نفرا" .
(3) في ب قولهم: وانظر: أسباب النزول ص (134).
(4) ساقط من أ .

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَمُبَاطَنَتِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ غَالِبِينَ ظَاهِرِينَ، أَوْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ يَخَافُهُمْ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِلَّ دَمًا حَرَامًا أَوْ مَالًا حَرَامًا، أَوْ يُظْهِرَ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّقِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَسَلَامَةِ النِّيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ "( 106 -النَّحْلِ ) ثُمَّ هَذَا رُخْصَةٌ، فَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَأَنْكَرَ قَوْمٌ التَّقِيَّةَ [الْيَوْمَ] (1) قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي [بُدُوِّ] (2) الْإِسْلَامِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدِّينِ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَقَالَ يَحْيَى الْبَكَّاءُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي أَيَّامِ الْحَجَّاجِ: إِنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقُولُ لَكُمُ التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ تَقِيَّةٌ إِنَّمَا التَّقِيَّةُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أَيْ يُخَوِّفُكُمُ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ عَلَى مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَمُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
{ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }
__________
(1) في أ إليهم .
(2) في ب جدة .

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
{ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ } أَيْ قُلُوبِكُمْ مِنْ مَوَدَّةِ الْكُفَّارِ { أَوْ تُبْدُوهُ } مُوَالَاتُهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا { يَعْلَمْهُ اللَّهُ } وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنْ تُسِرُّوا مَا فِي قُلُوبِكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّكْذِيبِ أَوْ تُظْهِرُوهُ، بِحَرْبِهِ وَقِتَالِهِ، يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَحْفَظْهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ ثُمَّ قَالَ: { وَيَعْلَمُ } رُفِعَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } يَعْنِي إِذَا كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شيء في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ تَخْفَى عَلَيْهِ مُوَالَاتُكُمُ الْكُفَّارَ وَمَيْلُكُمْ إِلَيْهِمْ بِالْقَلْبِ؟ { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } نَصَبَ يَوْمًا بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ أَيْ فِي يَوْمِ، وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيِ: اذْكُرُوا وَاتَّقُوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ { مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا } لَمْ يُبْخَسْ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا "( 49 -الْكَهْفِ ) { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ } جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَبَرًا فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ أَيْ تَجِدُ مُحْضَرًا مَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ [وَالشَّرِّ فَتُسَرُّ بِمَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ] (1) وجعله
__________
(1) ساقط من ب .

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

بعضهم خيرا مُسْتَأْنَفًا، دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ: قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَدَّتْ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا".
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا } أَيْ بَيْنَ النَّفْسِ { وَبَيْنَهُ } يَعْنِي وَبَيْنَ السُّوءِ { أَمَدًا بَعِيدًا } قَالَ السُّدِّيُّ: مَكَانًا بَعِيدًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْأَمَدُ الْأَجَلُ وَالْغَايَةُ الَّتِي يُنْتَهَى إِلَيْهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسُرُّ أَحَدَهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ أَبَدًا، وَقِيلَ يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَدْ نَصَبُوا أَصْنَامَهُمْ وَعَلَّقُوا عَلَيْهَا بَيْضَ النَّعَامِ وَجَعَلُوا فِي آذَانِهَا( الشُّنُوفَ ) (2) وَهُمْ يَسْجُدُونَ لَهَا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ" (3) فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ إِنَّمَا نَعْبُدُهَا حُبًّا لِلَّهِ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وَتَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ لِيُقَرِّبُوكُمْ إِلَيْهِ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، فَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ وَحُجَّتُهُ عَلَيْكُمْ، أَيِ اتَّبِعُوا شَرِيعَتِي وَسُنَّتِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فَحُبُّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَهُ وَإِيثَارُ طَاعَتِهِ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ، وَحُبُّ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ وَثَوَابُهُ لَهُمْ وَعَفْوُهُ عَنْهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَقِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أَعْرَضُوا عَنْ طَاعَتِهِمَا { فَإِنَّ اللَّهَ لايُحِبّ الْكَافِرِينَ } لَا يَرْضَى فِعْلَهُمْ وَلَا يَغْفِرُ لَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، أَنَا فُلَيْحٌ، أَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى" قَالُوا وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ
__________
(1) أسباب النزول للواحدي : ص (135).
(2) القرط .
(3) انظر : البحر المحيط : 2 / 431 وفي رواية الضحاك عن ابن عباس مجاهيل وأسباب النزول ص (135) .

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

الْجَنَّةَ وَمِنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ، أَنَا يَزِيدُ نَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ [وَأَثْنَى عَلَيْهِ]، (2) أَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهُهَا، فَقَالُوا: أَمَّا الدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ" (3)
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى هَؤُلَاءِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ { اصْطَفَى } اخْتَارَ، افْتَعَلَ مِنَ الصَّفْوَةِ وَهِيَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ { آدَمَ } أَبُو الْبَشَرِ { وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ } قِيلَ: أَرَادَ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِمْرَانَ أَنْفُسَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَرُونَ "( 248 -الْبَقَرَةِ ) يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: آلَ إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا آلَ عِمْرَانَ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ يَصْهُرَ بْنِ فَاهَتْ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَالِدُ } (4) مُوسَى وَهَارُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَوَهْبٌ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ أَشْهَمَ بْنِ أَمُونَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام - باب: الاقتداء بسنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 13 / 249 . والمصنف في شرح السنة: 1 / 192 - 193 .
(2) ساقط من ب .
(3) أخرجه البخاري في الاعتصام - باب: الاقتداء بسنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 13 / 249 . والمصنف في شرح السنة: 1 / 192 - 193 .
(4) في ب وآل .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ [وَالِدُ] مَرْيَمَ وَعِيسَى. وَقِيلَ: عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِهِمْ { عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً } اشْتِقَاقُهَا مِنْ ذَرَأَ بِمَعْنَى خَلَقَ، وَقِيلَ: مِنَ الذَّرِّ لِأَنَّهُ اسْتِخْرَاجُهُمْ مِنْ صلب آدم 56/ب كَالذَّرِّ، وَيُسَمَّى الْأَوْلَادُ وَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةً، فَالْأَبْنَاءُ ذُرِّيَّةٌ لِأَنَّهُ ذَرَأَهُمْ، وَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةٌ لِأَنَّهُ ذَرَأَ الْأَبْنَاءَ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ "( 41 -يس ) أَيْ آبَاءَهُمْ
{ ذُرِّيَّةً } نُصِبَ عَلَى مَعْنَى وَاصْطَفَى ذُرِّيَّةً { بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } أَيْ بَعْضُهَا مِنْ وَلَدِ بَعْضٍ، [وَقِيلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ] (1) وَقِيلَ: بَعْضُهَا عَلَى دِينِ بَعْضٍ { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } وَهِيَ حَنَّةُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ مَرْيَمَ، وَعِمْرَانُ هُوَ عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ وَلَيْسَ بِعِمْرَانَ أَبِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَهُمَا أَلْفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَ بنو ماثان رؤوس بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ وَقِيلَ: عِمْرَانُ بْنُ أَشْهَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } أَيْ جَعَلْتُ الَّذِي فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا نَذْرًا مِنِّي لَكَ { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَالنَّذْرُ: مَا يُوجِبُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ { مُحَرَّرًا } أَيْ عَتِيقًا خَالِصًا لِلَّهِ مُفْرَغًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَلِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ لَا أَشْغَلُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا أُخْلِصَ فَهُوَ مُحَرَّرٌ يُقَالُ: حَرَّرْتُ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقْتُهُ وَخَلَّصْتُهُ مِنَ الرِّقِّ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ الْمُحَرَّرُ إِذَا حُرِّرَ جُعِلَ فِي الْكَنِيسَةِ يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَكْنُسُهَا وَيَخْدِمُهَا وَلَا يَبْرَحُهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ إِنْ أَحَبَّ أَقَامَ وَإِنْ أَحَبَّ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّرًا إِلَّا الْغِلْمَانُ، وَلَا تَصْلُحُ لَهُ الْجَارِيَةُ لِمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْأَذَى، فَحَرَّرَتْ أَمُّ مَرْيَمَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَكَانَتِ الْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا وَعِمْرَانَ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ، وَكَانَتْ أَشْيَاعُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ يَحْيَى عِنْدَ زَكَرِيَّا، وَكَانَتْ حَنَّةُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ مَرْيَمَ عِنْدَ عِمْرَانَ، وَكَانَ قَدْ أُمْسِكَ عَنْ حَنَّةَ الْوَلَدُ حَتَّى أَسَنَّتْ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ بَصُرَتْ بِطَائِرٍ يُطْعِمُ فَرْخًا فَتَحَرَّكَتْ بِذَلِكَ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ فَدَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا وَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ رَزَقْتَنِي وَلَدًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
__________
(1) ساقط من "أ" .

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

فَيَكُونُ مِنْ سَدَنَتِهِ وَخَدَمَتِهِ، فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ فَحَرَّرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ مَا هُوَ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: وَيْحَكِ مَا صَنَعْتِ، أَرَأَيْتِ إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ أُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ؟ فَوَقَعَا جَمِيعًا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ فَهَلَكَ عِمْرَانُ وَحَنَّةُ حَامِلٌ بِمَرْيَمَ
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } أَيْ وَلَدَتْهَا إِذَا هِيَ جَارِيَةٌ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ "وَضَعَتْهَا" رَاجِعَةٌ إِلَى النَّذِيرِ لَا إِلَى مَا وُلِدَ لِذَلِكَ أُنِّثَ { قَالَتْ } حَنَّةُ وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ غُلَامًا { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى } اعْتِذَارًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بِجَزْمِ التَّاءِ إِخْبَارًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ وَضَعْتُ بِرَفْعِ التَّاءِ جَعَلُوهَا مِنْ كَلَامِ أَمِّ مَرْيَمَ { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } فِي خِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ وَالْعِبَادِ الَّذِينَ فِيهَا لِعَوْرَتِهَا وَضَعْفِهَا وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } وَمَرْيَمُ بِلُغَتِهِمُ الْعَابِدَةُ وَالْخَادِمَةُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ أَجْمَلَ النِّسَاءِ فِي وَقْتِهَا وَأَفْضَلَهُنَّ { وَإِنِّي أُعِيذُهَا } أَمْنَعُهَا وَأُجِيرُهَا { بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا } أَوْلَادَهَا { مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } فَالشَّيْطَانُ الطَّرِيدُ اللَّعِينُ، وَالرَّجِيمُ الْمَرْمِيُّ بِالشُّهُبِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ صَارِخًا مِنَ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى بن مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة آل عمران - باب: وإني أعيذها . . . 8 / 212 . وأخرجه مسلم في الفضائل . باب فضائل عيسى برقم (2366) د / 1838 . والمصنف في شرح السنة : 14 / 406 .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة 2 / 523 . والطبري في التفسير : 6 / 342. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية عن الإمام أحمد 2 / 57 وقال: وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه. وانظر تعليق الشيخ محمود شاكر على تفسير الطبري 6 / 342.

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
قَوْلُهُ { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أَيْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مَرْيَمَ مِنْ حَنَّةَ مَكَانَ الْمُحَرَّرِ، وَتَقَبَّلَ بِمَعْنَى قَبِلَ وَرَضِيَ، وَالْقَبُولُ مَصْدَرُ قَبِلَ يَقْبَلُ قَبُولًا مِثْلَ الْوَلُوعِ وَالْوَزُوعَ وَلَمْ يَأْتِ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهَا { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } مَعْنَاهُ: وَأَنْبَتَهَا فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا وَقِيلَ هَذَا مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ [اللَّفْظِ] (1) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [وَمَثَلُهُ شَائِعٌ كَقَوْلِكَ تَكَلَّمْتُ كَلَامًا وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } ] (2) أَيْ سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } يَعْنِي سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَكَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي الْعَامِ { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: أَخَذَتْ حَنَّةُ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا فَلَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمْلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الأحبار، أبناء هرون وَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَلُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي الْحَجَبَةُ مِنَ الْكَعْبَةِ فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةَ، فَتَنَافَسَ فِيهَا الْأَحْبَارُ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ قُرْبَانِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّكُمْ بِهَا، عِنْدِي خَالَتُهَا، فَقَالَتْ لَهُ الْأَحْبَارُ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ لِأَحَقِّ النَّاسِ لَهَا لَتُرِكَتْ لِأُمِّهَا الَّتِي وَلَدَتْهَا لَكِنَّا نَقْتَرِعُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ عِنْدَ مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ، فَانْطَلَقُوا وَكَانُوا [تِسْعَةً وَعِشْرِينَ] (3) رَجُلًا إِلَى نَهْرٍ جَارٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ قَلَمُهُ فِي الْمَاءِ فَصَعَدَ فَهُوَ أَوْلَى بِهَا.
وَقِيلَ: كَانَ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ اسْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ : كَانُوا يَكْتُبُونَ التَّوْرَاةَ فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ فِي الْمَاءِ [فَارْتَزَّ] (4) قَلَمُ زَكَرِيَّا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ وَانْحَدَرَتْ أَقْلَامُهُمْ وَرَسَبَتْ فِي النَّهْرِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ.
وَقِيلَ: جَرَى قَلَمُ زَكَرِيَّا مُصْعِدًا إِلَى أَعْلَى الْمَاءِ وَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ بِجَرْيِ الْمَاءِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: بَلْ ثَبَتَ قَلَمُ زَكَرِيَّا وَقَامَ فَوْقَ الْمَاءِ كَأَنَّهُ فِي طِينٍ، وَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ جَرْيَةِ الْمَاءِ
__________
(1) في ب الصدر.
(2) ساقط من أ.
(3) في ب سبعة وعشرين.
(4) في ب فارتز فيه رزا.

فَذَهَبَ بِهَا الْمَاءُ فَسَهَمَهُمْ وَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا، وَكَانَ زَكَرِيَّا رَأْسَ الْأَحْبَارِ وَنَبِيَّهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ فَيَكُونُ زَكَرِيَّا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْ ضَمَنَهَا اللَّهُ زَكَرِيَّا وَضَمَّهَا إِلَيْهِ بِالْقُرْعَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ زَكَرِيَّا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ أَيْ ضَمَّهَا زَكَرِيَّا إِلَى نَفْسِهِ وَقَامَ بِأَمْرِهَا، وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنُ آذَنَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صَدُوقَ، مِنْ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: زَكَرِيَّا مَقْصُورًا وَالْآخَرُونَ يَمُدُّونَهُ.
فَلَمَّا ضَمَّ زَكَرِيَّا مَرْيَمَ إِلَى نَفْسِهِ بَنَى لَهَا، بَيْتًا وَاسْتَرْضَعَ لَهَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أَمِّ يحيى حتى 57/أ إِذَا شَبَّتْ وَبَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ بَنَى لَهَا مِحْرَابًا فِي الْمَسْجِدِ، وَجُعِلَ بَابُهُ فِي وَسَطِهَا لَا يُرْقَى إِلَيْهَا إِلَّا بِالسُّلَّمِ مِثْلَ بَابِ الْكَعْبَةِ لَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ، وَكَانَ يَأْتِيهَا بِطَعَامِهَا وَشَرَابِهَا وَدُهْنِهَا كُلَّ يَوْمٍ { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } وَأَرَادَ بِالْمِحْرَابِ الْغُرْفَةَ، وَالْمِحْرَابُ أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ وَمُقَدَّمُهَا، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُقَالُ لِلْمَسْجِدِ أَيْضًا مِحْرَابٌ قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكُونُ الْمِحْرَابُ إِلَّا أَنْ يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِدَرَجَةٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا غُرْفَتَهَا { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } أَيْ فَاكِهَةً فِي غَيْرِ حِينِهَا، فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ لَكِ هَذَا؟ لِأَنَّ "أَنَّى" لِلسُّؤَالِ عَنِ الْجِهَةِ وَأَيْنَ لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمَكَانِ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أَيْ مِنْ قِطْفِ الْجَنَّةِ، قَالَ الْحَسَنُ: حِينَ وُلِدَتْ مَرْيَمُ لَمْ تَلْقُمْ ثَدْيًا قَطُّ، كَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ لَهَا زَكَرِيَّا: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَكَلَّمَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَصَابَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَزْمَةٌ وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهَا حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا فَخَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَضَعُفْتُ عَنْ حَمْلِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ فَأَيُّكُمْ يَكْفُلُهَا بَعْدِي؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ جَهِدْنَا وَأَصَابَنَا مِنَ السَّنَةِ مَا تَرَى، فَتَدَافَعُوهَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا مِنْ حَمْلِهَا بُدًّا، فَتَقَارَعُوا عَلَيْهَا بِالْأَقْلَامِ فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى رَجُلٍ نَجَّارٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ وَكَانَ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ فَحَمَلَهَا، فَعَرَفَتْ مَرْيَمُ فِي وَجْهِهِ شِدَّةَ مُؤْنَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ أَحْسِنْ بِاللَّهِ الظَّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُنَا، فَجَعَلَ يُوسُفُ يُرْزَقُ بِمَكَانِهَا مِنْهُ، فَيَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ بِمَا يُصْلِحُهَا فَإِذَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا فِي الْكَنِيسَةِ أَنْمَاهُ اللَّهُ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا فَيَرَى عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ، لَيْسَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِيهَا بِهِ يُوسُفُ، فَيَقُولُ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زَكَرِيَّا قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مَرْيَمَ بِالْفَاكِهَةِ فِي غَيْرِ حِينِهَا
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام: 2 / 49 فقد ذكره القصة مختصرة عن ابن إسحاق دون إسناد وفيها أنه خرج السهم على جريج الراهب.

مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصْلِحَ زَوْجَتِي وَيَهَبَ لِي وَلَدًا فِي غَيْرِ حِينِهِ مِنَ الْكِبَرِ فَطَمِعَ فِي الْوَلَدِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا قَدِ انْقَرَضُوا وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ شَاخَ وَأَيِسَ مِنَ الْوَلَدِ.

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هُنَالِكَ } أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فَدَخْلَ الْمِحْرَابَ [وَأَغْلَقَ الْبَابَ] (1) وَنَاجَى رَبَّهُ { قَالَ رَبِّ } أَيْ يَا رَبِّ { هَبْ لِي } أَعْطِنِي { مِنْ لَدُنْكَ } أَيْ مِنْ عِنْدِكَ { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أَيْ وَلَدًا مُبَارَكًا تَقِيًّا صَالِحًا رَضِيًّا، وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَهُوَ هَاهُنَا وَاحِدٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا "( 5 -مَرْيَمَ ) وَإِنَّمَا قَالَ: طَيِّبَةً لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } أَيْ سَامِعُهُ، وَقِيلَ مُجِيبُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ "( 25 -يس ) أَيْ فَأَجِيبُونِي
{ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَنَادَاهُ بِالْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ وَلِلْجَمْعِ مَعَ أَنَّ الذُّكُورَ إِذَا تَقَدَّمَ فِعْلُهُمْ وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَانَ التَّأْنِيثُ فِيهَا أَحْسَنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " قَالَتِ الْأَعْرَابُ "( 14 -الْحُجُرَاتِ ) وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُذَكِّرُ الْمَلَائِكَةَ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا نَرَى عَبْدَ اللَّهِ اخْتَارَ ذَلِكَ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي التَّاءِ وَالْيَاءِ فَاجْعَلُوهَا يَاءً وَذَكِّرُوا الْقُرْآنَ.
وَأَرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ هَاهُنَا: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ " يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ" يَعْنِي جِبْرِيلَ( بِالرُّوحِ ) بِالْوَحْيِ، وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِمْ: سَمِعْتُ هَذَا الْخَبَرَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ وَاحِدٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ "( 173 -آلِ عِمْرَانَ ) يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ "إِنَّ النَّاسَ" يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ الْقَائِلُ رَئِيسًا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ وَقَلَّ مَا يُبْعَثُ إِلَّا وَمَعَهُ جَمْعٌ، فَجَرَى عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أَيْ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ الْحَبْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ، فَيَفْتَحُ بَابَ الْمَذْبَحِ فَلَا يَدْخُلُونَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمَذْبَحِ يُصَلِّي، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ
__________
(1) في ب وغلق الأبواب .

شَابٍّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ فَفَزِعَ مِنْهُ فَنَادَاهُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا زَكَرِيَّا { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ { إِنَّ اللَّهَ } بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ تَقْدِيرُهُ: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالَتْ { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ بِإِيقَاعِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، قَرَأَ حَمْزَةُ يَبْشُرُكَ وَبَابُهُ بِالتَّخْفِيفِ كُلَّ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ: " فَبِمَ تُبَشِّرُونَ "( 54 -الْحِجْرِ ) فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى تَشْدِيدِهَا وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ هَاهُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي سُبْحَانَ وَالْكَهْفِ وعسق وَوَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي "عسق" وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مِنْ بَشَّرَ يُبَشِّرُ تَبْشِيرًا، وَهُوَ أَعْرَبُ اللُّغَاتِ وَأَفْصَحُهَا. دَلِيلُ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى " فَبَشِّرْ عِبَادِ "( الزَّمْرِ -17 ) " وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ "( 112 -الصَّافَّاتِ ) "قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ"( 55 -الْحِجْرِ ) وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ مِنْ بَشَرَ يَبْشُرُ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { بِيَحْيَى } هُوَ اسْمٌ لَا يُجَرُّ لِمَعْرِفَتِهِ وَلِلزَّائِدِ فِي أَوَّلِهِ مِثْلَ يَزِيدَ وَيَعَمُرَ، وَجَمْعُهُ يَحْيَوْنَ، مِثْلَ مُوسَوْنَ وَعِيسَوْنَ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ يَحْيَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ عُقْرَ أُمِّهِ، قَالَ قَتَادَةُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ حَتَّى لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ { مُصَدِّقًا } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ { بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ عِيسَى كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: كُنْ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَكَانَ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَلِمَةِ لِأَنَّهُ بِهَا كَانَ، وَقِيلَ : سُمِّيَ كَلِمَةً لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ كَمَا يُهْتَدَى بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: هِيَ بِشَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَرْيَمَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَلَامِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ نَبِيًّا بِلَا أَبٍ، فَسَمَّاهُ كَلِمَةً لِحُصُولِهِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ. وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَدَّقَهُ، وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَا ابْنَيِ الْخَالَةِ، ثُمَّ قُتِلَ يَحْيَى قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ { بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } أَيْ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْشِدْنِي كَلِمَةَ فُلَانٍ أَيْ قَصِيدَتَهُ.
قَوْلُهُ تعالى : { وَسَيِّدًا } فعيل مِنْ سَادَ يَسُودُ وَهُوَ الرَّئِيسُ الَّذِي يُتْبَعُ وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ، قَالَ الْمُفَضَّلُ: أَرَادَ سَيِّدًا فِي الدِّينِ. قَالَ الضحاك: السيد 57/ب الْحَسَنُ الْخُلُقَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: السَّيِّدُ الَّذِي يُطِيعُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: السَّيِّدُ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَيِّدٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، وَقِيلَ: الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ : السَّيِّدُ التَّقِيُّ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الَّذِي لَا يَحْسِدُ وَقِيلَ: الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي جَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَانِعُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وَقِيلَ: السَّخِيُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بُنِيَ سَلَمَةَ"؟ قَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ قَالَ: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ، لَكِنَّ سَيِّدَكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ" (1) .
__________
(1) روي هذا الحديث من طرق عن جابر وأبي هريرة وأنس مرفوعا وروي مرسلا عن حبيب بن أبي ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص (90) طبعه مكتبة الآداب وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب الأمثال برقم (89 - 95) ص 56 - 59 وأبو نعيم في الحلية: 7 / 317 والحاكم في المستدرك: 3 / 219 عن أبي هريرة بلفظ "بل سيدكم البراء بن معرور" وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني مجمع الزوائد : 3 / 315 . وانظر : الإصابة لابن حجر : 4 / 615 - 616 أسد الغابة لابن الأثير: 4 / 206 - 207 مجمع الزوائد: 9 / 314 - 315 / 126 - 127 .

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } الْحَصُورُ أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ. وَالْحَصُورُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَقْرَبُهُنَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ [وَقِيلَ : هُوَ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ] (1) لَهُ فَيَكُونُ الْحَصُورُ بِمَعْنَى الْمَحْصُورِ يَعْنِي الْمَمْنُوعَ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ وَقَدْ تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ الْحَصُورَ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ لِوَجْهَيْنِ { أَحَدُهُمَا } : لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى استحقاق الثناء، و{ الثاني } : أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ إِلْحَاقِ الْآفَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ.
{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { قَالَ رَبِّ } أَيْ يَا سَيِّدِي، قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: قَالَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَنَّى يَكُونُ } أَيْنَ يَكُونُ { لِي غُلَامٌ } أَيِ ابْنٌ { وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ } هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ وَقَدْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ وَشِخْتُ كَمَا يُقَالُ بَلَغَنِي الْجَهْدُ أَيْ أَنَا فِي الْجَهْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَقَدْ الْكِبَرُ وَأَدْرَكَنِي وَأَضْعَفَنِي. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ زَكَرِيَّا يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ابْنَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } أَيْ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ يُقَالُ: رَجُلٌ عَاقِرٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ، وَقَدْ عَقُرَ بِضَمِّ الْقَافِ يَعْقِرُ عُقْرًا، وَعُقَارَةً { قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ زَكَرِيَّا بَعْدَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى: { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ } أَكَانَ شَاكًّا فِي وَعْدِ اللَّهِ وَفِي قُدْرَتِهِ؟ قِيلَ : إِنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا سَمِعَ نِدَاءَ الْمَلَائِكَةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعْتَ لَيْسَ هُوَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ اللَّهِ لَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ كَمَا يُوحِي إِلَيْكَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَقَالَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي وَعْدِ اللَّهِ إِنَّمَا شَكَّ فِي كَيْفِيَّتِهِ أَيْ كَيْفَ ذَلِكَ؟
__________
(1) في "ب": "وقال سعيد بن المسيب: هو العنين الذي لا ماء له . . . ".

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أَيْ عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وَقْتَ حَمْلِ امْرَأَتِي فَأَزِيدُ فِي الْعِبَادَةِ شُكْرًا لَكَ { قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ } تَكُفَّ عَنِ الْكَلَامِ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَتُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِكَ عَلَى عِبَادَتِي، لَا أَنَّهُ حَبَسَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْكَلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ الْآيَةَ( 10 ) { أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } فَأَمَرَهُ بِالذِّكْرِ وَنَهَاهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَقَلَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ عُقُوبَةً لَهُ لِسُؤَالِهِ الْآيَةَ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَوْلُهُ { إِلَّا رَمْزًا } أَيْ إِشَارَةً، وَالْإِشَارَةُ قَدْ تَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَيْنِ وَبِالْيَدِ، وَكَانَتْ إِشَارَتُهُ بِالْإِصْبَعِ الْمُسَبِّحَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ يَكُونُ الرَّمْزُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ، وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ أَشْبَهَ الْهَمْسَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ بِهِ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا رَمْزًا { وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، وَالْعَشِيُّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمِنْهُ سُمِّيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، وَالْإِبْكَارُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ } يَعْنِي جِبْرِيلَ { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ } اخْتَارَكِ { وَطَهَّرَكِ } قِيلَ مِنْ مَسِيسِ الرِّجَالِ وَقِيلَ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ مَرْيَمُ لَا تَحِيضُ، وَقِيلَ: مِنَ الذُّنُوبِ { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } قِيلَ: عَلَى عَالَمِي زَمَانِهَا وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي أَنَّهَا وَلَدَتْ بِلَا أَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: بِالتَّحْرِيرِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ تُحَرَّرْ أُنْثَى.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " (1) وَرَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَشَارَ وَكِيعٌ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء . باب: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين 6 / 470 . ومسلم في فضائل الصحابة . باب : فضائل خديجة أم المؤمنين برقم (2430) 4 / 1886 . والمصنف في شرح السنة : 14 / 156.

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا آدَمُ، أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدِّيرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (2) .
{ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ شَفَاهًا أَيْ أَطِيعِي رَبَّكِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ لِرَبِّكِ [وَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ] (3) وَقِيلَ: الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ قَامَتْ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا وَسَالَتْ دَمًا وَقَيْحًا { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي } قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَلَيْسَ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ بَلْ لِلْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ { مَعَ الرَّاكِعِينَ } ولم يقل 58/أ مَعَ الرَّاكِعَاتِ لِيَكُونَ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْجَمَاعَةِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب قول الله تعالى (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون . . إلى قوله وكانت من القانتين): 6 / 446 وفي باب قوله تعالى : (إذ قالت الملائكة يا مريم . . ) 6 / 472 . ومسلم في فضائل الصحابة. باب : فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها برقم (2430) 4 / 1886 . والمصنف في شرح السنة : 14 / 163.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب : باب: فضل خديجة رضي الله عنها 10 / 389 وقال: هذا حديث صحيح والإمام أحمد في المسند عن أنس: 3 / 135 وفي كتاب فضائل الصحابة 2 / 755. وابن حبان : ص (549) من موارد الظمآن والحاكم : 3 / 157 وصححه ووافقه الذهبي . وأبو نعيم في الحلية . 2 / 344 وعزاه الهيتمي للطبراني في الأوسط وقال: فيه سليمان الشاذكوني وهو ضعيف : انظر مجمع الزوائد : 9 / 223 . والمصنف في شرح السنة : 14 / 157 والحديث صحيح .
(3) ساقط من ب .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) }

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَمَرْيَمَ وَعِيسَى { مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } أَيْ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ { وَمَا كُنْتَ } يَا مُحَمَّدُ { لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ } سِهَامَهُمْ فِي الْمَاءِ لِلِاقْتِرَاعِ { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } يَحْضُنُهَا وَيُرَبِّيهَا { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فِي كَفَالَتِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } إِنَّمَا قَالَ: اسْمُهُ رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى عِيسَى وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ مَسِيحًا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَعْنِي أَنَّهُ مُسِحَ مِنَ الْأَقْذَارِ وَطُهِّرَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ مَسَحَهُ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَسِيحَ الْقَدَمِ لَا أَخْمَصَ لَهُ، وَسُمِّيَ الدَّجَّالُ مَسِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، مِثْلُ عَلِيمٍ وَعَالِمٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ مَا مَسَحَ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِأَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُقِيمُ فِي مَكَانٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْمِيمُ فِيهِ زَائِدَةً. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ. وَيَكُونُ الْمَسِيحُ بِمَعْنَى الْكَذَّابِ وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ وَالْحَرْفُ مِنَ الْأَضْدَادِ { وَجِيهًا } أَيْ شَرِيفًا رَفِيعًا ذَا جَاهٍ وَقَدْرٍ { فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } عِنْدَ اللَّهِ
{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } صَغِيرًا قَبْلَ أَوَانِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قَالَ : " إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ "( الْآيَةَ -30 ) وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ أَنَا وَعِيسَى حَدَّثَنِي وَحَدَّثْتُهُ فَإِذَا شَغَلَنِي عَنْهُ إِنْسَانٌ سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَأَنَا أَسْمَعُ (1) قَوْلَهُ { وَكَهْلًا } قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِذَا اجْتَمَعَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: { وَكَهْلًا } بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: أَخْبَرَهَا أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَكْتَهِلَ، وَكَلَامُهُ بَعْدَ الْكُهُولَةِ إِخْبَارُهُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُعْجِزَةِ، وَقِيلَ: { وَكَهْلًا } نَبِيًّا بَشَّرَهَا بِنُبُوَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ مُعْجِزَةٌ وَفِي الْكُهُولَةِ دَعْوَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: { وَكَهْلًا } أَيْ حَلِيمًا. وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ الْكُهُولَةَ لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الْوُسْطَى فِي احْتِنَاكِ (2) السِّنِّ وَاسْتِحْكَامِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ { وَمِنَ الصَّالِحِينَ }
__________
(1) لا يتناسب هذا القول مع نص الآية الكريمة ولم يذهب إليه غير مجاهد وقد أورده المؤلف بصيغة التضعيف .
(2) في ب احتباك .

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

أَيْ: هُوَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ.
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) }
{ قَالَتْ رَبِّ } يَا سَيِّدِي تَقُولُهُ لِجِبْرِيلَ. وَقِيلَ: تَقُولُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } يُصِبْنِي رَجُلٌ، قَالَتْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا إِذْ لَمْ تَكُنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُولَدَ وَلَدٌ لَا أَبَ لَهُ { قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا } أَيْ كَوْنَ الشَّيْءِ { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } كَمَا يُرِيدُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } وَقِيلَ: رَدَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ } { وَيُعَلِّمُهُ } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } قَوْلُهُ: { الْكِتَابَ } أَيِ الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ { وَالْحِكْمَةَ } الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ { وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } عَلَّمَهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
{ وَرَسُولًا } أَيْ وَنَجْعَلُهُ رَسُولًا { إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } قِيلَ: كَانَ رَسُولًا فِي حَالِ الصِّبَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوسُفَ وَآخِرُهُمْ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَلَمَّا بُعِثَ قَالَ: { أَنِّي } قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّمَا فَتَحَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الرِّسَالَةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَنِّي { قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ } عَلَامَةٍ { مِنْ رَبِّكُمْ } تُصَدِّقُ قَوْلِي وَإِنَّمَا قَالَ: بِآيَةٍ وَقَدْ أَتَى بِآيَاتٍ لِأَنَّ الْكُلَّ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ صِدْقُهُ فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ: { أَنِّي } قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِإِنِّي { أَخْلُقُ } أَيْ أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ { لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ هَاهُنَا وَفِي الْمَائِدَةِ، وَالْهَيْئَةُ الصُّورَةُ الْمُهَيَّأَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَصْلَحْتُهُ { فَأَنْفُخُ فِيهِ } أَيْ فِي الطَّيْرِ { فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ } قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ خَلَقَ طَيْرًا كَثِيرًا، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ فَيَكُونُ طَائِرًا عَلَى الْوَاحِدِ هَاهُنَا. وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ذَهَبُوا إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْخُفَّاشَ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الطَّيْرِ خَلْقًا لِأَنَّ لَهَا ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَهِيَ تَحِيضُ. قَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، لِيَتَمَيَّزَ فِعْلُ الْخَلْقِ مِنْ فِعْلِ الْخَالِقِ،

وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْكَمَالَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ } أَيْ أَشْفِيهِمَا وَأُصَحِّحُهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَكْمَهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْأَعْمَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْأَعْمَشُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، { وَالْأَبْرَصُ } الَّذِي بِهِ وَضَحٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا دَاءَانِ عَيَاءَانِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الطِّبَّ، فَأَرَاهُمُ الْمُعْجِزَةَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ. قَالَ وَهْبٌ: رُبَّمَا اجْتَمَعَ عِنْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَرْضَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ أَلْفًا مَنْ أَطَاقَ مِنْهُمْ أَنْ يَبْلُغَهُ بَلَغَهُ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ مَشَى إِلَيْهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ يُدَاوِيهِمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى شَرْطِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) قَدْ أَحْيَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ، عَازِرَ وَابْنَ الْعَجُوزِ، وَابْنَةَ الْعَاشِرِ، وَسَامَ بْنَ نُوحٍ، فَأَمَّا عَازِرُ فَكَانَ صَدِيقًا لَهُ فَأَرْسَلَتْ أُخْتُهُ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ أَخَاكَ عَازِرَ يَمُوتُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَتَاهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: انْطَلِقِي بِنَا إِلَى قَبْرِهِ، فَانْطَلَقَتْ مَعَهُمْ إِلَى قَبْرِهِ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَامَ عَازِرُ وَوَدَكُهُ يَقْطُرُ فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَبَقِيَ وَوُلِدَ لَهُ .
وَأَمَّا ابْنُ الْعَجُوزِ مُرَّ بِهِ مَيِّتًا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَرِيرٍ يُحْمَلُ فَدَعَا اللَّهَ عِيسَى فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَنَزَلَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ، وَحَمَلَ السَّرِيرَ عَلَى عُنُقِهِ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَبَقِيَ وَوُلِدَ لَهُ .
وَأَمَّا ابْنَةُ الْعَاشِرِ كَانَ [أَبُوهَا] (2) رَجُلًا يَأْخُذُ الْعُشُورَ مَاتَتْ لَهُ بِنْتٌ بِالْأَمْسِ، فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ [بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ] (3) فَأَحْيَاهَا [اللَّهُ تَعَالَى] (4) وَبَقِيَتْ [بَعْدَ ذَلِكَ زَمَنًا] (5) وَوُلِدَ لَهَا . وَأَمَّا سَامُ بْنُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ إِلَى قَبْرِهِ فَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَقَدْ شَابَ نِصْفُ رَأْسِهِ خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَشِيبُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَقَالَ: قَدْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ دَعَوْتُكَ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مُتْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ يُعِيذَنِي اللَّهُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَدَعَا اللَّهَ فَفَعَلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُنَبِّئُكُمْ } وَأُخْبِرُكُمْ { بِمَا تَأْكُلُونَ } مِمَّا لَمَّ أُعَايِنْهُ { وَمَا تَدَّخِرُونَ } تَرْفَعُونَهُ { فِي بُيُوتِكُمْ } حَتَّى تَأْكُلُوهُ وَقِيلَ: كان يخبر 58/ب الرَّجُلَ بِمَا أَكَلَ الْبَارِحَةَ وَبِمَا يَأْكُلُ الْيَوْمَ وَبِمَا ادَّخَرَهُ لِلْعَشَاءِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْكُتَّابِ يُحَدِّثُ الْغِلْمَانَ بِمَا يَصْنَعُ آبَاؤُهُمْ وَيَقُولُ لِلْغُلَامِ: انْطَلِقْ فَقَدْ أَكَلَ أَهْلُكَ كَذَا وَكَذَا، وَرَفَعُوا لَكَ كَذَا وَكَذَا، فَيَنْطَلِقُ الصَّبِيُّ إِلَى أَهْلِهِ وَيَبْكِي عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعْطُوهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ . فَيَقُولُ: عِيسَى فَحَبَسُوا صِبْيَانَهُمْ عَنْهُ وَقَالُوا: لَا تَلْعَبُوا مَعَ هَذَا السَّاحِرِ فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَطْلُبُهُمْ فَقَالُوا: لَيْسُوا هَاهُنَا، فَقَالَ: فَمَا فِي هَذَا
__________
(1) انظر : البحر المحيط : 2 / 467 .
(2) ساقط من أ .
(3) ساقط من أ .
(4) ساقط من أ .
(5) ساقط من أ .

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

الْبَيْتِ؟ قَالُوا خَنَازِيرُ، قَالَ عِيسَى كَذَلِكَ يَكُونُونَ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمْ فَإِذَا هُمْ خَنَازِيرُ ففشى ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهَمَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ حَمَلَتْهُ عَلَى [حَمِيرٍ] (1) لَهَا وَخَرَجَتْ( هَارِبَةً مِنْهُمْ ) (2) إِلَى أَهْلِ مِصْرَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا هَذَا فِي الْمَائِدَةِ وَكَانَ خِوَانًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا كَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يخونوا ولا يخبؤا لِغَدٍ فَخَانُوا وخبؤا فَجَعَلَ عِيسَى يُخْبِرُهُمْ بِمَا أَكَلُوا مِنَ الْمَائِدَةِ وَبِمَا ادَّخَرُوا مِنْهَا فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ خَنَازِيرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الَّذِي ذَكَرْتُ { لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
{ وَمُصَدِّقًا } عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَرَسُولًا { لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } مِنَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ بِالْبَعْضِ الْكُلَّ يَعْنِي: كُلَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْبَعْضُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ كَقَوْلِ لَبِيدٍ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ تَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يَعْنِي: كُلَّ النُّفُوسِ (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي مَا ذَكَرَ مِنَ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا وَحَّدَهَا لِأَنَّهَا كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى رِسَالَتِهِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } أَيْ وَجَدَ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَرَفَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى { مِنْهُمُ الْكُفْرَ } وَأَرَادُوا قَتْلَهُ اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ وَ{ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ نَفَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَأُمُّهُ يَسِيحَانِ فِي الْأَرْضِ، فَنَزَلَ فِي قَرْيَةٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَضَافَهُمَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا،
__________
(1) في "ب" : على أتان.
(2) ساقط من "ب".
(3) ولم يرتض هذا ابن سيده فقال : وليس هذا عندي على ما ذهب إليه أهل اللغة من أن البعض في معنى الكل هذا نقض ولا دليل في هذا البيت لأنه إنما عنى ببعض النفوس نفسه. انظر: لسان العرب: 7 / 119 شرح المعلقات السبع للأنباري ص (573).

وَكَانَ لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ جَبَّارٌ مُتَعَدٍّ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَوْمًا مُهْتَمًّا حَزِينًا فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَمَرْيَمُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: مَا شَأْنُ زَوْجِكِ أَرَاهُ كَئِيبًا، قَالَتْ: لَا تَسْأَلِينِي، قَالَتْ: أَخْبِرِينِي لَعَلَّ اللَّهَ يُفَرِّجُ كُرْبَتَهُ، قَالَتْ: إِنَّ لَنَا مَلِكًا يَجْعَلُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا أَنْ يُطْعِمَهُ وَجُنُودَهُ وَيَسْقِيَهُمُ الْخَمْرَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَاقَبَهُ، وَالْيَوْمَ نَوْبَتُنَا وَلَيْسَ لِذَلِكَ عِنْدَنَا سَعَةٌ، قَالَتْ: فَقُولِي لَهُ لَا يَهْتَمُّ فَإِنِّي آمُرُ ابْنِي فَيَدْعُو لَهُ فَيُكْفَى ذَلِكَ، فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عِيسَى: إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ وَقَعَ شَرٌّ، قَالَتْ: فَلَا تُبَالِ فَإِنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَأَكْرَمَنَا، قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقُولِي لَهُ إِذَا اقْتَرَبَ ذَلِكَ فَامْلَأْ قُدُورَكَ وَخَوَابِيكَ مَاءً ثُمَّ أَعْلِمْنِي فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَحَوَّلَ مَاءُ الْقُدُورِ مَرَقًا وَلَحْمًا وَمَاءُ الْخَوَابِي خَمْرًا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ قَطُّ فَلَمَّا جَاءَ الْمَلِكُ أَكَلَ فَلَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ قَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا الْخَمْرُ قَالَ: مَنْ أَرْضِ كَذَا، قَالَ [الْمَلِكُ] (1) فَإِنَّ خَمْرِي مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ قَالَ: هِيَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى، فَلَمَّا خَلَطَ عَلَى الْمَلِكِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ قَالَ: فَأَنَا أُخْبِرُكَ عِنْدِي غُلَامٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَإِنَّهُ دَعَا اللَّهُ فَجَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا وَكَانَ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَكَانَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا دَعَا اللَّهَ حَتَّى جَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا [لَيُسْتَجَابُ لَهُ] (2) حَتَّى يُحْيِيَ ابْنِي، فَدَعَا عِيسَى فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ عِيسَى: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّهُ إِنْ عَاشَ وَقَعَ شَرٌّ، فَقَالَ الْمَلِكُ: لَا أُبَالِي أَلَيْسَ أَرَاهُ قَالَ عِيسَى: إِنْ أَحْيَيْتُهُ تَتْرُكُونِي وَأُمِّي نَذْهَبُ حَيْثُ نَشَاءُ، قَالَ: نَعَمْ فَدَعَا اللَّهَ فَعَاشَ الْغُلَامُ فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ قَدْ عَاشَ تَبَادَرُوا بِالسِّلَاحِ، وَقَالُوا: أَكَلَنَا هَذَا حَتَّى إِذَا دَنَا مَوْتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْنَا ابْنَهُ فَيَأْكُلُنَا كَمَا أَكَلَ أَبُوهُ فَاقْتَتَلُوا فَذَهَبَ عِيسَى وَأُمُّهُ فَمَرَّ بِالْحَوَارِيِّينَ وَهُمْ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نَصْطَادُ السَّمَكَ قَالَ: أَفَلَا تَمْشُونَ حَتَّى نَصْطَادَ النَّاسَ، قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ قَالَ: أَنَا عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ فَآمَنُوا بِهِ وَانْطَلَقُوا مَعَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مَعَ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ الْعَرَبُ: الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ أَيْ مَعَ الذَّوْدِ وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ "( 2 -النِّسَاءِ ) أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَى بِمَعْنَى فِي أَيْ مَنْ أَعْوَانِي فِي اللَّهِ أَيْ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، وَقِيلَ إِلَى فِي مَوْضِعِهِ مَعْنَاهُ مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ لِي وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَوَارِيِّينَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانُوا صَيَّادِينَ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ سُمُّوا حَوَارِيِّينَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَقِيلَ: كَانُوا مَلَّاحِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا قَصَّارِينَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَوِّرُونَ الثِّيَابَ أَيْ يُبَيِّضُونَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَلَّمَتْ مَرْيَمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَعْمَالٍ شَتَّى فَكَانَ آخِرُ مَا دَفَعَتْهُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ، وَكَانُوا قَصَّارِينَ وَصَبَّاغِينَ فَدَفَعَتْهُ إِلَى رَئِيسِهِمْ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ ثِيَابٌ وَعَرَضَ لَهُ سَفَرٌ، فَقَالَ لِعِيسَى: إِنَّكَ قَدْ تَعَلَّمْتَ هَذِهِ الْحِرْفَةَ وَأَنَا خَارِجٌ فِي سَفَرٍ لَا
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب": ليجاء به إلى.

أَرْجِعُ إِلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَهَذِهِ ثِيَابُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، وَقَدْ أَعْلَمْتُ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخَيْطٍ عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي يُصْبَغُ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَارِغًا مِنْهَا وَقْتَ قُدُومِي، وَخَرَجَ فَطَبَخَ عِيسَى جُبًّا وَاحِدًا عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ وَأَدْخَلَ جَمِيعَ الثِّيَابِ وَقَالَ: كُونِي بِإِذْنِ اللَّهِ عَلَى مَا أُرِيدَ مِنْكِ، فَقَدِمَ الْحَوَارِيُّ وَالثِّيَابُ كُلُّهَا فِي الْجُبِّ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: فَرَغْتُ مِنْهَا، قَالَ: أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: فِي الْجُبِّ، قَالَ: كُلُّهَا، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: لَقَدْ أَفْسَدْتَ تِلْكَ الثِّيَابَ فَقَالَ: قُمْ فَانْظُرْ، فَأَخْرَجَ عِيسَى ثَوْبًا أَحْمَرَ، وَثَوْبًا أَصْفَرَ، وَثَوْبًا أَخْضَرَ، إِلَى أَنْ أَخْرَجَهَا عَلَى الْأَلْوَانِ الَّتِي أَرَادَهَا، فَجَعَلَ الْحَوَارِيُّ يَتَعَجَّبُ فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَعَالَوْا فَانْظُرُوا فَآمَنَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَهُمُ الْحَوَارِيُّونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سُمُّوا حَوَارِيِّينَ لِصَفَاءِ [قُلُوبِهِمْ] (1) وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: سُمُّوا بِهِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ وَنُورِهَا، وَأَصْلُ الْحَوَرِ عِنْدَ الْعَرَبِ شِدَّةُ الْبَيَاضِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَحْوَرُ وَامْرَأَةٌ حَوْرَاءُ أَيْ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: الْحَوَارِيُّونَ هُمُ الْأَصْفِيَاءُ وَهُمْ كَانُوا أَصْفِيَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا قَالَ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْتُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُ لَهُمُ الْخِلَافَةُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْحَوَارِيُّونَ هُمُ الْوُزَرَاءُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَوَارِيُّونَ الْأَنْصَارُ، وَالْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ، وَالْحَوَارِيُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَاصَّةً الرَّجُلُ الَّذِي يستعين به 59/أ فِيمَا يَنُوبُهُ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ" (2) .
قَالَ سُفْيَانُ الْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلَّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَجَعْفَرٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍّ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
{ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } أَعْوَانُ دِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ } يَا عِيسَى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
__________
(1) في ب: لحومهم .
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة : باب: مناقب الزبير بن العوام: 7 / 79 - 80 وفي الجهاد والمغازي . ومسلم : في فضائل الصحابة: باب: من فضائل طلحة والزبير لاضي الله عنهما برقم: (2415) 4 / 1879 . والمصنف في شرح السنة: 14 / 122 .

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) }
{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ } مِنْ كِتَابِكَ { وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ } عِيسَى { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } الَّذِينَ شَهِدُوا لِأَنْبِيَائِكَ بِالصِّدْقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَعَ النَّبِيِّينَ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شَاهِدُ أُمَّتِهِ.

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالْبَلَاغِ.
{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَكَرُوا } يَعْنِي كُفَّارَ بني إسرائيل الذي أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وَبَرُّوا فِي قَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ إِخْرَاجِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَأُمَّهُ عَادَ إِلَيْهِمْ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ، وَصَاحَ فِيهِمْ بِالدَّعْوَةِ فهموا بقتله وتواطؤوا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ فَذَلِكَ مَكْرُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } فَالْمَكْرُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ: الْخُبْثُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، وَالْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ وَأَخْذُهُ بَغْتَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ كَمَا قَالَ: " سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ "( 182 -الْأَعْرَافِ ) وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ فَسَمَّى الْجَزَاءَ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ "( 15 -الْبَقَرَةِ ) " وَهُوَ خَادِعُهُمْ "( 142 -النِّسَاءِ ) وَمَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً بِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ إِلْقَاؤُهُ الشَّبَهَ عَلَى صَاحِبِهِمُ الَّذِي أَرَادَ قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عِيسَى اسْتَقْبَلَ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: قَدْ جَاءَ السَّاحِرُ ابْنُ السَّاحِرَةِ، وَالْفَاعِلُ ابْنُ الْفَاعِلَةِ، وَقَذَفُوهُ وَأَمَّهُ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ خَنَازِيرَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يَهُوذَا رَأْسُ الْيَهُودِ وَأَمِيرُهُمْ فَزِعَ لِذَلِكَ وَخَافَ دَعْوَتَهُ فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَارُوا إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ فَأَدْخَلَهُ فِي خَوْخَةٍ فِي سَقْفِهَا رَوْزَنَةٌ فَرَفْعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ، فَأَمَرَ يَهُوذَا رَأْسُ الْيَهُودِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ: طَطْيَانُوسُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَوْخَةَ وَيَقْتُلَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَرَ عِيسَى، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فَظَنُّوا أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ فِيهَا، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شِبْهَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا خَرَجَ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، قَالَ وَهْبٌ: طَرَقُوا عِيسَى فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَنَصَبُوا خَشَبَةً لِيَصْلُبُوهُ، فَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَمَعَ عِيسَى الْحَوَارِيِّينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَوْصَاهُمْ ثُمَّ قَالَ: لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ وَيَبِيعُنِي بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ، فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ، فَأَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى، فَرُفِعَ عِيسَى وَأُخِذَ الذي دلهم علي فَقَالَ: أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِهِ وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ عِيسَى، فَلَمَّا صُلِبَ شِبْهُ عِيسَى، جَاءَتْ مَرْيَمُ أُمُّ عِيسَى وَامْرَأَةٌ كَانَ عِيسَى دَعَا لَهَا فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ تَبْكِيَانِ عِنْدَ الْمَصْلُوبِ، فَجَاءَهُمَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُمَا: عَلَامَ تَبْكِيَانِ؟ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَنِي وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ، فَلَّمَا كَانَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اهْبِطْ عَلَى مَرْيَمَ الْمَجْدَلَانِيَّةِ اسْمُ مَوْضِعٍ فِي جَبَلِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْكِ عَلَيْكَ أَحَدٌ بُكَاءَهَا، وَلَمْ يَحْزَنْ حُزْنَهَا ثُمَّ لِيَجْتَمِعَ لَكَ الْحَوَارِيُّونَ فَبُثَّهُمْ فِي

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

الْأَرْضِ دُعَاةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَهْبَطَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَاشْتَعَلَ الْجَبَلُ حِينَ هَبَطَ نُورًا، فَجَمَعَتْ لَهُ الْحَوَارِيِّينَ فَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ دُعَاةً ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ الَّتِي تَدَخَّنَ فِيهَا النَّصَارَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْحَوَارِيُّونَ حَدَّثَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِلُغَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ عِيسَى إِلَيْهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
وَقَالَ السُّدِّيُّ : إِنَّ الْيَهُودَ حَبَسُوا عِيسَى فِي بَيْتٍ وَعَشْرَةً مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فَدَخْلَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَيُّكُمْ يُقْذَفُ عَلَيْهِ شَبَهِي فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَمَنَعَ اللَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ وَكَسَاهُ اللَّهُ الرِّيشَ وَأَلْبَسَهُ النُّورَ وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَطَارَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ مَعَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَكَانَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَائِيًّا أَرْضِيًّا، قَالَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ: حَمَلَتْ مَرْيَمُ بِعِيسَى وَلَهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوَلَدَتْ عِيسَى بِبَيْتِ لَحْمٍ مِنْ أَرْضِ أُورِي شَلِمَ لِمُضِيِّ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ غَلَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى أَرْضِ بَابِلَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَرَفَعَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ مَرْيَمُ بَعْدَ رَفْعِهِ سِتَّ سِنِينَ.
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) }
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } اختلفوا في بعض التَّوَفِّي هَاهُنَا، قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنِّي قَابِضُكَ وَرَافِعُكَ فِي الدُّنْيَا إِلَيَّ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي "( 117 -الْمَائِدَةِ ) أَيْ قَبَضْتَنِي إِلَى السَّمَاءِ وَأَنَا حَيٌّ، لِأَنَّ قَوْمَهُ إِنَّمَا تَنَصَّرُوا بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَعَلَى هَذَا لِلتَّوَفِّي تَأْوِيلَانِ، أَحَدُهُمَا: إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَافِيًا لَمْ يَنَالُوا مِنْكَ شَيْئًا، مِنْ قَوْلِهِمْ تَوَفَّيْتُ كَذَا وَاسْتَوْفَيْتُهُ إِذَا أَخَذْتُهُ تَامًّا وَالْآخَرُ: أَنِّي [مُسْتَلِمُكَ] (1) مِنْ قَوْلِهِمْ تَوَفَّيْتُ مِنْهُ كَذَا أَيْ تَسَلَّمْتُهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُرَادُ بِالتَّوَفِّي النَّوْمُ [وَكُلُّ ذِي عَيْنٍ نَائِمٌ] (2) وَكَانَ عِيسَى قَدْ نَامَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ نَائِمًا إِلَى السَّمَاءِ، مَعْنَاهُ: أَنِّي مُنَوِّمُكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ "( 60 -الْأَنْعَامِ ) أَيْ يُنِيمُكُمْ.
__________
(1) في "أ" مستسلمك.
(2) ساقط من "ب".

وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِالتَّوَفِّي الْمَوْتُ، رُوِيَ [عَنْ] (1) عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنِّي مُمِيتُكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ "( 11 -السَّجْدَةِ ) فَعَلَى هَذَا لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ وهب: توفى 59/ب اللَّهُ عِيسَى ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَفَّاهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ أَحْيَاهُ وَرَفَعَهُ، وَالْآخَرُ مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا مَعْنَاهُ أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِكَ مِنَ السَّمَاءِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ" (2) .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "وَتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَيَهْلَكُ الدَّجَّالُ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ" (3) .
وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ هَلْ تَجِدُ نُزُولَ عِيسَى فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ نَعَمْ: { وَكَهْلًا } وَلَمْ يَكْتَهِلْ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَكَهْلًا بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ مُخْرِجُكَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَمُنْجِيكَ مِنْهُمْ { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوا دِينَهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظَاهِرِينَ قَاهِرِينَ بِالْعِزَّةِ وَالْمَنْعَةِ وَالْحُجَّةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْحَوَارِيِّينَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الرُّومِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ النَّصَارَى فَهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ قَدْ ذَهَبَ مُلْكُهُمْ، وَمُلْكُ النَّصَارَى دَائِمٌ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاتِّبَاعُ بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ وَالْمَحَبَّةِ لَا اتِّبَاعَ الدِّينِ. { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } فِي الْآخِرَةِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء. باب: نزول عيسى بن مريم عليهما السلام: 6 / 490. ومسلم في الإيمان. باب: نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (155) 1 / 135 - 136 . والمصنف في شرح السنة: 15 / 80 - 81 .
(3) أخرجه أو داود - في الملاحم: باب: خروج الدجال: 6 / 177 وسكت عنه المنذري . وأحمد في المسند عن أبي هريرة: 2 / 406 ، 437 مطولا.

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

{ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَأَمْرِ عِيسَى .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }
{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا } بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجِزْيَةِ وَالذِّلَّةِ { وَالْآخِرَةِ } أَيْ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } قَرَأَ الْحَسَنُ وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ أَيْ نُوَفِّي أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أَيْ لَا يَرْحَمُ الْكَافِرِينَ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِالْجَمِيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ } أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَالْحَوَارِيِّينَ { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } [نُخْبِرُكَ بِهِ بِتِلَاوَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ] (1) { مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ ذِي الْحِكْمَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الذِّكْرُ الْحَكِيمُ أَيِ الْمُحْكَمُ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْبَاطِلِ وَقِيلَ: الذِّكْرُ الْحَكِيمُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ. وَقِيلَ مِنَ الْآيَاتِ أَيِ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا قَارِئُ كِتَابٍ أَوْ مَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَأَنْتَ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مالك تَشْتُمُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ: وَمَا أَقُولُ قَالُوا: تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ فَغَضِبُوا وَقَالُوا هَلْ رَأَيْتَ إِنْسَانًا قَطُّ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ } (2) فِي كَوْنِهِ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَثَلِ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ } يَعْنِي لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { كُنْ فَيَكُونُ } يَعْنِي فَكَانَ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَلَا تَكْوِينَ بَعْدَ الْخَلْقِ؟ قِيلَ مَعْنَاهُ ثُمَّ خَلَقَهُ ثُمَّ أَخْبَرَكُمْ أَنِّي قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فِي الْخَلْقِ كَمَا يَكُونُ فِي الْوِلَادَةِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ: أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ دِرْهَمًا ثُمَّ أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ دِرْهَمًا أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكَ أَنِّي أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ دِرْهَمًا. وَفِيمَا سَبَقَ مِنَ التَّمْثِيلِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ رَدُّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلٍ بِنَوْعِ شَبَهٍ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ عِيسَى إِلَى آدَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِنَوْعِ شَبَهٍ.
__________
(1) ساقط من أ .
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (136).

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أَيْ هُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الشَّاكِّينَ الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ.
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ } أَيْ جَادَلَكَ فِي عِيسَى أَوْ فِي الْحَقِّ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ { فَقُلْ تَعَالَوْا } وَأَصْلُهُ تَعَالَيُوا تَفَاعَلُوا مِنَ الْعُلُوِّ فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فَحُذِفَتْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: بِمَعْنَى تَعَالٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: ارْتَفِعْ. قَوْلُهُ { نَدْعُ } جُزِمَ لِجَوَابِ الْأَمْرِ وَعَلَامَةُ الْجَزْمِ سُقُوطُ الْوَاوِ { أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } قِيلَ: أَبْنَاءَنَا أَرَادَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَنِسَاءَنَا فَاطِمَةَ. وَأَنْفُسَنَا عَنَى نَفْسَهُ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ابْنَ عَمِّ الرَّجُلِ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ "( 11 -الْحُجُرَاتِ ) يُرِيدُ إِخْوَانَكُمْ وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ الْجَمَاعَةُ أَهْلُ الدِّينِ { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيْ نَتَضَرَّعُ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَجْتَهِدُ وَنُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: نَلْتَعِنُ وَالِابْتِهَالُ الِالْتِعَانُ يُقَالُ: عَلَيْهِ بَهْلَةُ اللَّهِ أَيْ لَعْنَتُهُ: { فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَفْدِ نَجْرَانَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ قَالُوا: حَتَّى نَرْجِعَ وَنَنْظُرَ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ نَأْتِيكَ غَدًا، فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا لِلْعَاقِبِ وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ مَا تَرَى؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَاللَّهِ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَعَاشَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَلَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَنَهْلِكَنَّ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَضِنًا لِلْحُسَيْنِ آخِذًا بِيَدِ الْحَسَنِ وَفَاطِمَةُ تَمْشِي خَلْفَهُ وَعَلِيٌّ خَلْفَهَا وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: "إِذَا أَنَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا" فَقَالَ أُسْقُفُّ نَجْرَانَ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى إِنِّي لِأَرَى وُجُوهًا لَوْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ جَبَلًا مِنْ مَكَانِهِ لِأَزَالَهُ فَلَا تَبْتَهِلُوا فَتَهْلَكُوا وَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْكُمْ نَصْرَانِيٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ: قَدْ رَأَيْنَا أَنْ لَا نُلَاعِنَكَ وَأَنْ نَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ وَنَثْبُتَ عَلَى دِينِنَا، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 60/أ /"فَإِنْ أَبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأَسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهِمْ" فَأَبَوْا فَقَالَ: "فَإِنِّي أُنَابِذُكُمْ" فَقَالُوا: مَا لَنَا بِحَرْبِ الْعَرَبِ طَاقَةٌ، وَلَكِنَّا نُصَالِحُكَ عَلَى أَنْ لَا تَغْزُوَنَا وَلَا تُخِيفَنَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ دِينِنَا عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كُلَّ عَامٍ أَلْفَيْ حُلَّةٍ أَلْفًا فِي صَفَرَ وَأَلْفًا فِي رَجَبٍ، فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَلَوْ تَلَاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا، وَلَاسْتَأْصَلَ اللَّهُ نَجْرَانَ وَأَهْلَهُ حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ، وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ حَتَّى هَلَكُوا" (1) .
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بطوله وابن مروان متروك متهم بالكذب. ثم أخرج أبو نعيم نحوه عن الشعبي مرسلا ومنه: (فإن أبيتم المباهلة فأسلموا . . . .) انظر الكافي الشاف ص 26 . وأخرجه الطبري في التفسير 6 / 479 - 480 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر ابن الزبير في قوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق) فذكره مرسلا. وانظر: الدر المنثور للسيوطي: 2 / 229 - 233 وابن كثير: 1 / 371 - 372 .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } النَّبَأُ الْحَقُّ { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ } وَ"مِنْ" صِلَةٌ تَقْدِيرُهُ وَمَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ { فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الْآيَةَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ الْمَدِينَةَ فَالْتَقَوْا مَعَ الْيَهُودِ فَاخْتَصَمُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَهُمْ عَلَى دِينِهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَلْ كَانَ يَهُودِيًّا وَهُمْ عَلَى دِينِهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ بَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَأَنَا عَلَى دِينِهِ فَاتَّبِعُوا دِينَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَكَ رِبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى رَبًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: يَا مُحَمَّدُ مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَقُولَ فِيكَ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ فِي عُزَيْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } (1) وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ قِصَّةٍ لَهَا شَرْحٌ كَلِمَةً وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَصِيدَةُ كَلِمَةً { سَوَاءٍ } عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مُسْتَوِيَةٍ، أَيْ أَمْرٍ مُسْتَوٍ يُقَالُ: دَعَا فَلَانَ إِلَى السَّوَاءِ، أَيْ إِلَى النَّصَفَةِ، وَسَوَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَسَطُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ "( 55 -الصَّافَّاتِ ) وَإِنَّمَا قِيلَ لِلنِّصْفِ سَوَاءٌ لِأَنَّ أَعْدَلَ الْأُمُورِ وَأَفْضَلَهَا أَوْسَطُهَا وَسَوَاءٌ نَعْتٌ لِكَلِمَةٍ إِلَّا أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ وَلَا تُؤَنَّثُ، فَإِذَا فَتَحْتَ السِّينَ مَدَدْتَ، وَإِذَا كَسَرْتَ أَوْ ضَمَمْتَ قَصَرْتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَكَانًا سُوًى"( 58 -طه ) ثُمَّ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ فَقَالَ: { أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ } وَمَحَلُّ أَنْ رَفْعٌ عَلَى إِضْمَارِ هِيَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
__________
(1) الدر المنثور: 2 / 235.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَقِيلَ: مَحَلُّهُ نَصْبٌ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ مَعْنَاهُ بِأَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَقِيلَ: مَحَلُّهُ خَفْضٌ بَدَلًا مِنَ الْكَلِمَةِ أَيْ تَعَالَوْا إِلَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ { وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًاوَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ "( 31 -التَّوْبَةِ ) وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ سُجُودُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ لَا تَسْجُدُوا لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا نُطِيعُ أَحَدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا } فَقُولُوا أَنْتُمْ لَهُمُ اشْهَدُوا { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } مُخْلِصُونَ بِالتَّوْحِيدِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكَفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، وَدَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا هُوَ :
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (1) .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ } تَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِكُمْ، وَإِنَّمَا دِينُكُمُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَقَدْ حَدَثَتِ الْيَهُودِيَّةُ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالنَّصْرَانِيَّةُ بَعْدَ نُزُولِ الْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ، وَكَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَلْفَا سَنَةٍ { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } بُطْلَانَ قَوْلِكُمْ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هَا أَنْتُمْ } بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ حَيْثُ كَانَ مَدَنِيٌّ، وَأَبُو عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَصْلِهِ
__________
(1) أخرجه البخاري : في التفسير تفسير سورة آل عمران باب: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم . . . 8 / 214 .

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُهُ: أَأَنْتُمْ وَهَا تَنْبِيهٌ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَصْلُهُ أَأَنْتُمْ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً كَقَوْلِهِمْ هَرَقْتَ الْمَاءَ وَأَرَقْتَ { هَؤُلَاءِ } أَصْلُهُ أُولَاءِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَاءُ التَّنْبِيهِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ، يَعْنِي يَا هَؤُلَاءِ أَنْتُمْ { حَاجَجْتُمْ } جَادَلْتُمْ { فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } يَعْنِي فِي أَمْرِ مُوسَى وَعِيسَى وَادَّعَيْتُمْ أَنَّكُمْ عَلَى دِينِهِمَا وَقَدْ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عَلَيْكُمْ { فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } وَلَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَقِيلَ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عَلْمٌ يَعْنِي فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا نَعْتَهُ فِي كِتَابِهِمْ، فَجَادَلُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ، وَلَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ؟ { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ثُمَّ بَرَّأَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ مِمَّا قَالُوا: فَقَالَ:
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُ الْمُؤْمِنِينَ (68) }
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى الدِّينِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ: الْحَنِيفُ: الَّذِي يُوَحِّدُ وَيَحُجُّ وَيُضَحِّي وَيُخْتَنُ وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ. وَهُوَ أَسْهَلُ الْأَدْيَانِ وَأَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } أَيْ: مَنِ اتَّبَعَهُ فِي زَمَانِهِ، { وَهَذَا النَّبِيُّ } يَعْنِي : مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالَّذِينَ آمَنُوا } مَعَهُ، يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِسْنَادِهِ، حَدِيثَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، لَمَّا هَاجَرَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ وَهَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة 60/ب وَكَانَ مِنْ أَمْرِ بَدْرٍ مَا كَانَ فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَقَالُوا: إِنَّ لَنَا فِي الَّذِينَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَأْرًا مِمَّنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ، فَاجْمَعُوا مَالًا وَأَهْدُوهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ لَعَلَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْكُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِكُمْ وَلْيُنْتَدَبْ لِذَلِكَ رَجُلَانِ مِنْ ذَوِي رَأْيِكُمْ فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ مَعَ الْهَدَايَا الْأُدُمَ وَغَيْرِهِ، فَرَكِبَا الْبَحْرَ وَأَتَيَا الْحَبَشَةَ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا لَهُ وَسَلَّمَا عَلَيْهِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّ قَوْمَنَا لَكَ نَاصِحُونَ شَاكِرُونَ وَلِصَلَاحِكَ مُحِبُّونَ وَإِنَّهُمْ بَعَثُونَا إِلَيْكَ لِنُحَذِّرَكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْكَ، لِأَنَّهُمْ قَوْمُ رَجُلٍ كَذَّابٍ خَرَجَ فِينَا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا السُّفَهَاءُ، وَإِنَّا كُنَّا قَدْ ضَيَّقْنَا عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ وَأَلْجَأْنَاهُمْ إِلَى شِعْبٍ بِأَرْضِنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَدْ قَتَلَهُمُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ بَعَثَ إِلَيْكَ ابْنَ عَمِّهِ لِيُفْسِدَ عَلَيْكَ دِينَكَ وَمُلْكَكَ وَرَعِيَّتَكَ فَاحْذَرْهُمْ وَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا لِنَكْفِيَكَهُمْ، وَقَالَا وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْكَ لَا يَسْجُدُونَ لَكَ وَلَا يُحَيُّونَكَ بِالتَّحِيَّةِ الَّتِي يُحَيِّيكَ بِهَا النَّاسُ رَغْبَةً عَنْ دِينِكَ وَسُنَّتِكَ، قَالَ: فَدَعَاهُمُ النَّجَاشِيُّ فَلَمَّا حَضَرُوا، صَاحَ جَعْفَرٌ بِالْبَابِ: يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ حِزْبُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: مُرُوا هَذَا الصَّائِحَ فَلْيُعِدْ كَلَامَهُ، فَفَعَلَ جَعْفَرٌ فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: نَعَمْ فَلْيَدْخُلُوا بِأَمَانِ اللَّهِ وَذِمَّتِهِ، فَنَظَرَ عَمْرُو بْنُ

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

الْعَاصِ إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُ كَيْفَ يَرْطُنُونَ بِحِزْبِ اللَّهِ وَمَا أَجَابَهُمْ بِهِ النَّجَاشِيُّ، فَسَاءَهُمَا ذَلِكَ ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ يَسْجُدُوا لَكَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَسْجُدُوا لِي وَتُحَيُّونِي بِالتَّحِيَّةِ الَّتِي يُحَيِّينِي بِهَا مَنْ أَتَانِي مِنَ الْآفَاقِ؟ قَالُوا: نَسْجُدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَمُلْكَكَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ التَّحِيَّةُ لَنَا وَنَحْنُ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا صَادِقًا فَأَمَرَنَا بِالتَّحِيَّةِ الَّتِي رَضِيَهَا اللَّهُ وَهِيَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَعَرَفَ النَّجَاشِيُّ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَأَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَالَ: أَيُّكُمُ الْهَاتِفُ: يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ حِزْبُ اللَّهِ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا، قَالَ: فَتَكَلَّمْ، قَالَ: إِنَّكَ مَلِكٌ مَنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَصْلُحُ عِنْدَكَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَلَا الظُّلْمُ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُجِيبَ عَنْ أَصْحَابِي فَمُرْ هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَلْيَتَكَلَّمْ أَحَدُهُمَا وَلْيُنْصِتِ الْآخَرُ فَتَسْمَعُ مُحَاوَرَتَنَا. فَقَالَ عَمْرٌو لِجَعْفَرٍ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ جَعْفَرٌ لِلنَّجَاشِيِّ: سَلْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَعَبِيدٌ نَحْنُ أَمْ أَحْرَارٌ؟ فَإِنْ كُنَّا عَبِيدًا أَبَقْنَا مِنْ أَرْبَابِنَا فَارْدُدْنَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أَعَبِيدٌ هُمْ أَمْ أَحْرَارٌ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: بَلْ أَحْرَارٌ كِرَامٌ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: نَجَوْا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ جَعْفَرٌ: سَلْهُمَا هَلْ أَهْرَقْنَا دَمًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُقْتَصُّ مِنَّا؟ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنْ كَانَ قِنْطَارًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا وَلَا قِيرَاطًا، قَالَ النَّجَاشِيُّ: فَمَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؟ قَالَ عَمْرٌو: كُنَّا وَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَأَمْرٍ وَاحِدٍ عَلَى دِينِ آبَائِنَا فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَابْتَغَوْا غَيْرَهُ فَبَعَثَنَا إِلَيْكَ قَوْمُهُمْ لِتَدْفَعَهُمْ إِلَيْنَا، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ وَالدِّينُ الَّذِي اتَّبَعْتُمُوهُ اصْدُقْنِي، قَالَ جَعْفَرٌ: أَمَّا الدِّينُ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ فَتَرَكْنَاهُ فَهُوَ دِينُ الشَّيْطَانِ، كُنَّا نَكْفُرُ بِاللَّهِ وَنَعْبُدُ الْحِجَارَةَ، وَأَمَّا الدِّينُ الَّذِي تَحَوَّلْنَا إِلَيْهِ فَدِينُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ جَاءَنَا بِهِ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ وَكِتَابٌ مِثْلَ كِتَابِ عِيسَى بن مَرْيَمَ مُوَافِقًا لَهُ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: يَا جَعْفَرُ تَكَلَّمْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَعَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ النَّجَاشِيُّ فَضُرِبَ بِالنَّاقُوسِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ قِسِّيسٍ وَرَاهِبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ النَّجَاشِيُّ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى هَلْ تَجِدُونَ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ نَبِيًّا مُرْسَلًا فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَدْ بَشَّرَنَا بِهِ عِيسَى وَقَالَ: مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ آمَنَ بِي وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِي، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِجَعْفَرٍ: مَاذَا يَقُولُ لَكُمْ هَذَا الرَّجُلُ وَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ وَمَا يَنْهَاكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ اللَّهِ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْمُرُ بِحُسْنِ الْجِوَارِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْيَتِيمِ وَيَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ مِمَّا يَقْرَأُ عَلَيْكُمْ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الدَّمْعِ وَقَالُوا: زِدْنَا يَا جَعْفَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الطَّيِّبِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الْكَهْفِ فَأَرَادَ عَمْرٌو أَنْ يُغْضِبَ النَّجَاشِيَّ فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَشْتُمُونَ عِيسَى وَأُمَّهُ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ فَلَمَّا أَتَى جَعْفَرٌ عَلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَفَعَ النَّجَاشِيُّ نُفْثَةً مِنْ سِوَاكِهِ قَدْرَ مَا تُقْذَى الْعَيْنُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَ الْمَسِيحُ عَلَى مَا تَقُولُونَ هَذَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي [يَقُولُ]: (1) آمِنُونَ مَنْ سَبَّكُمْ أَوْ آذَاكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرُوا وَلَا تَخَافُوا فَلَا دَهْوَرَةَ (2) الْيَوْمَ عَلَى حِزْبِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ عَمْرٌو: يَا نَجَاشِيُّ وَمَنْ حِزْبُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ وَصَاحِبُهُمُ الَّذِي جَاءُوا مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ وَادَّعَوْا فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ رَدَّ النَّجَاشِيُّ عَلَى عَمْرٍو وَصَاحِبِهِ الْمَالَ الَّذِي حَمَلُوهُ وَقَالَ: إِنَّمَا هَدِيَّتُكُمْ لِي رَشْوَةٌ فَاقْبِضُوهَا فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَنِي وَلَمْ يَأْخُذْ مِنِّي رِشْوَةً، قَالَ جَعْفَرٌ: فَانْصَرَفْنَا فَكُنَّا فِي خَيْرِ دَارٍ وَأَكْرَمِ جَوَارٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصُومَتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُ الْمُؤْمِنِينَ } (3) .
{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) }
__________
(1) ساقط من أ.
(2) دهورة: جمعه وقذفه في مهواة.
(3) أخرجه ابن إسحاق في السيرة عن أم سلمة: 1 / 211 - 215 ومن طريقه الإمام أحمد في المسند: 1 / 201 - 203 عن أم سلمة. وقال الهيثمي في المجمع: 6 / 27: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح" وذكره الواحدي في أسباب النزول ص (138 - 141).

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ دَعَاهُمُ الْيَهُودُ إِلَى دِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ { وَدَّتْ طَائِفَةٌ } (1) [تمنيت جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (2) يَعْنِي الْيَهُودَ { لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } عَنْ دِينِكُمْ وَيَرُدُّونَكُمْ إِلَى الْكُفْرِ { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَبَيَانَ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أَنَّ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَذْكُورٌ.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } تَخْلِطُونَ الْإِسْلَامَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَقِيلَ: لِمَ تَخْلِطُونَ الْإِيمَانَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْحَقُّ بِالْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْبَاطِلُ؟ وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى بِالْبَاطِلِ الَّذِي حَرَّفْتُمُوهُ وَكَتَبْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينَهُ حَقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا } الْآيَةَ. قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ : تَوَاطَأَ اثْنَا عَشَرَ حَبْرًا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ وَقُرَى عيينة وقال 61/ب بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ بِاللِّسَانِ دُونَ
__________
(1) أسباب النزول ص (142) .
(2) ساقط من ب .

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

الِاعْتِقَادِ ثُمَّ اكْفُرُوا آخِرَ النَّهَارِ وَقُولُوا: إِنَّا نَظَرْنَا فِي كُتُبِنَا وَشَاوَرْنَا عُلَمَاءَنَا فَوَجَدْنَا مُحَمَّدًا لَيْسَ بِذَلِكَ، وَظَهَرَ لَنَا كَذِبُهُ، فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ شَكَّ أَصْحَابُهُ فِي دِينِهِمْ وَاتَّهَمُوهُ وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِهِ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ (2) هَذَا فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ لَمَّا صُرِفَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ لِأَصْحَابِهِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ أَمْرِ الْكَعْبَةِ وَصَلُّوا إِلَيْهَا أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ اكْفُرُوا وَارْجِعُوا إِلَى قِبْلَتِكُمْ آخِرَ النَّهَارِ لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمْ أَعْلَمُ فَيَرْجِعُونَ إِلَى قِبْلَتِنَا، فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَى سِرِّهِمْ وَأَنْزَلَ { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا } { بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ } أَوَّلَهُ سُمِّيَ وَجْهًا لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ وَأَوَّلُ مَا يُوَاجِهُ النَّاظِرَ فَيَرَاهُ { وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فَيَشُكُّونَ وَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ.
{ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ { وَلَا تُؤْمِنُوا } أَيْ لَا تُصَدِّقُوا { إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } وَافَقَ مِلَّتَكُمْ وَاللَّامُ فِي "لِمَنْ" صِلَةٌ، أَيْ لَا تُصَدِّقُوا إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمُ الْيَهُودِيَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ "( 72 -النَّحْلِ ) أَيْ: رِدْفَكُمْ. { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْبَيَانَ بَيَانُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ، وَمَا بَعْدَهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَمَعْنَاهُ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْآيَاتِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لِأَنَّكُمْ أَصَحُّ دِينًا مِنْهُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لِسَفَلَتِهِمْ { وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } { أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } مِنَ الْعِلْمِ أَيْ: لِئَلَّا يُؤْتَى أَحَدٌ، وَ"لَا" فِيهِ مُضْمَرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا( النِّسَاءِ -176 ) أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا، يَقُولُ: لَا تُصَدِّقُوهُمْ لِئَلَّا يَعْلَمُوا مِثْلَ مَا عَلِمْتُمْ فَيَكُونُ لَكُمُ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، وَلِئَلَّا يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَيَقُولُوا: عَرَفْتُمْ أَنَّ دِينَنَا حَقٌّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ { إِنْ يُؤْتَى } بِكَسْرِ الْأَلِفِ، فَيَكُونُ قَوْلُ الْيَهُودِ تَامًّا عِنْدَ قَوْلِهِ: { إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ { إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى } أَنْ بِمَعْنَى الْجَحْدِ،
__________
(1) انظر: الطبري: 6 / 507 ، أسباب النزول ص (142).
(2) أسباب النزول ص (142 - 143).

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

أَيْ مَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ } يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يُجَادِلَكُمُ الْيَهُودُ بِالْبَاطِلِ فَيَقُولُوا: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { عِنْدَ رَبِّكُمْ } أَيْ عِنْدَ فَضْلِ رَبِّكُمْ بِكُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى كَمَا يُقَالُ: تَعَلَّقْ بِهِ أَوْ يُعْطِيكَ حَقَّكَ أَيْ حَتَّى يُعْطِيَكَ حَقَّكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مِنَ الدِّينِ وَالْحُجَّةِ حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ { آنْ يُؤْتَى } بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ تَحْسُدُونَهُ وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ، هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَقَالَا هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ { إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } بِأَنْ أَنْزَلَ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِكُمْ وَبَعَثَ نَبِيًّا حَسَدْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.
{ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قَوْلُهُ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ رُجُوعٌ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونُ "أَوْ" بِمَعْنَى أَنَّ لِأَنَّهُمَا حَرْفَا شَرْطٍ وَجَزَاءٍ يُوضَعُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ أَيْ وَإِنْ يُحَاجُّوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ : إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَنَحْنُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ نَظْمُ الْآيَةِ : أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يا معشر المؤكمنين حَسَدُوكُمْ فَقُلْ { إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } وَإِنْ حَاجُّوكُمْ { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ }
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَنِ الْيَهُودِ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تُؤْمِنُوا } كَلَامُ اللَّهِ يُثَبِّتُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَشُكُّوا عِنْدَ تَلْبِيسِ الْيَهُودِ وَتَزْوِيرِهِمْ فِي دِينِهِمْ، يَقُولُ لَا تُصَدِّقُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْ تَبِعْ دِينَكُمْ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ فِي دِينِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَوْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وَ{ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فَتَكُونُ الْآيَةُ كُلُّهَا خِطَابَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَلْبِيسِ الْيَهُودِ لِئَلَّا يَرْتَابُوا .
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } أَيْ بِنُبُوَّتِهِ { مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ أَخْبَرَ اللَّهُ

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ أَمَانَةً وَخِيَانَةً، وَالْقِنْطَارُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَالدِّينَارُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ الْقَلِيلِ، يَقُولُ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَدِّيهَا وَإِنْ قَلَّتْ قَالَ مُقَاتِلٌ: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } هُمْ مُؤْمِنُوا أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يَعْنِي: كُفَّارَ الْيَهُودِ، كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، أَوْدَعَهُ رَجُلٌ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ فَأَدَّاهَا إِلَيْهِ، { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يَعْنِي: فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ، اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ دِينَارًا فَخَانَهُ، قَوْلُهُ { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ { يُؤَدِّهْ } { لَا يُؤَدِّهْ } وَ{ نُصْلِهْ } وَ{ نُؤْتِهْ } وَ{ نُوَلِّهْ } سَاكِنَةَ الْهَاءِ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونُ وَيَعْقُوبُ بِالِاخْتِلَاسِ كَسْرًا، وَالْبَاقُونَ بِالْإِشْبَاعِ كَسْرًا، فَمَنْ سَكَّنَ الْهَاءَ قَالَ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَزْمِ وَهُوَ الْيَاءُ الذَّاهِبَةُ، وَمَنِ اخْتَلَسَ فَاكْتَفَى بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ، وَمَنْ أَشْبَعَ فَعَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَاءِ الْإِشْبَاعُ، { إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُلِحًّا يُرِيدُ يَقُومُ عَلَيْهِ يُطَالِبُهُ بِالْإِلْحَاحِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُوَاظِبًا أَيْ تُوَاظِبُ عَلَيْهِ بِالِاقْتِضَاءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَوْدَعْتَهُ ثُمَّ اسْتَرْجَعْتَهُ وَأَنْتَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ تُفَارِقْهُ رَدَّهُ إِلَيْكَ، فَإِنْ فَارَقْتَهُ وَأَخَّرْتَهُ أَنْكَرَهُ وَلَمْ يُؤَدِّهِ { ذَلِكَ } أَيْ : ذَلِكَ الِاسْتِحْلَالُ وَالْخِيَانَةُ، { بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أَيْ : فِي مَالِ الْعَرَبِ إِثْمٌ وَحَرَجٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: أَمْوَالُ الْعَرَبِ حَلَالٌ لَنَا، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى دِينِنَا ولا حرمة 61/أ لَهُمْ فِي كِتَابِنَا، وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ظُلْمَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا كَانَتْ لَنَا فَمَا فِي يَدِ الْعَرَبِ مِنْهَا فَهُوَ لَنَا وَإِنَّمَا ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِنَا إِيَّاهُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ: بَايَعَ الْيَهُودُ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا تَقَاضُوهُمْ بَقِيَّةَ أَمْوَالِهِمْ فَقَالُوا: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقٌّ، وَلَا عِنْدَنَا قَضَاءٌ لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، وَانْقَطَعَ الْعَهْدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ثُمَّ قَالَ رَدًّا عَلَيْهِمْ:
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) }
{ بَلَى } أَيْ: لَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ { مَنْ أَوْفَى } أَيْ: وَلَكِنَّ مَنْ أَوْفَى { بِعَهْدِهِ } أَيْ: بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي عَهْدِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُوفِي { وَاتَّقَى } الْكَفْرَ وَالْخِيَانَةَ وَنَقْضَ الْعَهْدِ، { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، أَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" (1) .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } قَالَ عِكْرِمَةُ : نَزَلَتْ فِي رُؤُوسِ الْيَهُودِ، كَتَمُوا مَا عَهِدَ اللَّهَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدَّلُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ غَيْرَهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِئَلَّا يَفُوتَهُمُ الْمَآكِلُ وَالرِّشَا الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالُوا: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: "هَاتِ بَيِّنَتَكَ أَوْ يَمِينَهُ " قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (2) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب علامة المنافق: 1 / 89 وفي المظالم باب وإذا خاصم فجر: 5 / 107، ومسلم في الإيمان باب بيان خصال المنافق برقم (106): 1 / 78. والمصنف في شرح السنة: 1 / 74.
(2) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور باب قول الله: "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا": 11 / 558 و11 / 544 بلفظ "من حلف على يمين كاذبة" وفي التفسير في تفسير سورة البقرة، وفي الإحكام، ومسلم في الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (220): 1 / 112 والمصنف في شرح السنة: 10 / 99.

الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضٌ فِي يَدِي أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ"؟ قَالَ: لَا قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ، قَالَ: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ" فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ لَهُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" (1) وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَقَالَ هُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ الْكِنْدِيُّ وَخَصْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدَانَ.
وَرُوِيَ لَمَّا هَمَّ أَنْ يَحْلِفَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَامْتَنَعَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ، وَأَقَرَّ لِخَصْمِهِ بِحَقِّهِ وَدَفْعَهُ إِلَيْهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ" قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مَنْ أَرَاكٍ" قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَا هُشَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } أَيْ: يَسْتَبْدِلُونَ { بِعَهْدِ اللَّهِ } وَأَرَادَ الْأَمَانَةَ، { وَأَيْمَانِهِمْ } الْكَاذِبَةِ { ثَمَنًا قَلِيلًا } أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، { أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } لَا نَصِيبَ لَهُمْ { فِي الْآخِرَةِ } وَنَعِيمِهَا، { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } كَلَامًا يَنْفَعُهُمْ وَيَسُرُّهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْغَضَبِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: إِنِّي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا كَانَ غَضِبَ عَلَيْهِ، { وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ: لَا يَرْحَمُهُمْ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُنِيلُهُمْ خَيْرًا، { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أَيْ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِالْجَمِيلِ وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَا سُفْيَانُ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (223): 1 / 123 - 124.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (218): 1 / 122 والمصنف في شرح السنة: 10 / 113.
(3) أخرجه البخاري في التفسير في تفسير سورة آل عمران باب "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم": 8 / 213.

زُرْعَةَ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قَالَ: قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" (1) فِي رِوَايَةٍ: "الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ".
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَنَا أُسَيْدٌ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ أَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَاقْتَطَعَهُ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَنَّهُ أُعْطِيَ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَالِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية . . . برقم (171): 1 / 102.
(2) أخرجه البخاري في المساقاة باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه: 5 / 43، وفي التوحيد باب قول الله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة": 13 / 423 وفيه: "ورجل منع فضل ماء" بدل ماله. ومسلم في الإيمان باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية. . برقم (108): 1 / 103 وفيه أيضا: " على فضل ماء" بدل مال. والمصنف في شرح السنة: 6 / 170 10 / 142.

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا } يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَفَرِيقًا أَيْ: طَائِفَةً، وَهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِرٍ وَشُعْبَةُ بْنُ عُمَرَ الشَّاعِرُ، { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } أَيْ: يَعْطِفُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَهُوَ مَا غَيَّرُوا مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةِ الرَّجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: لَوَى لِسَانَهُ عَلَى كَذَا أَيْ: غَيَّرَهُ، { لِتَحْسَبُوهُ } أي: لتظنوأ 62/أ مَا حَرَّفُوا { مِنَ الْكِتَابِ } الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } عَمْدًا، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَأَلْحَقُوا بِكِتَابِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ } الْآيَةَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُ رَبًّا فَقَالَ

تَعَالَى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يَعْنِي: عِيسَى { أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ } الْإِنْجِيلَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يَعْنِي مُحَمَّدًا { أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ } أَيِ الْقُرْآنَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ الْقُرَظِيَّ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرَّئِيسَ (2) مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ قَالَا يَا مُحَمَّدُ تُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ رَبًّا فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي اللَّهُ، وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي (3) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (4) { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } أَيْ مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا "( سُورَةُ، النُّورِ الْآيَةُ: 16 ) أَيْ مَا يَنْبَغِي لَنَا، وَالْبَشَرُ: جَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْقَوْمِ وَالْجَيْشِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، { أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ } الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَقِيلَ: إِمْضَاءَ الْحُكْمِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، { وَالنُّبُوَّةَ } الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ بِالْأَنْبِيَاءِ، { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا } أَيْ: وَلَكِنْ يَقُولُ كُونُوا، { رَبَّانِيِّينَ }
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: كُونُوا فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ وَقَالَ قَتَادَةُ: حُكَمَاءَ وَعُلَمَاءَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعَالِمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فُقَهَاءَ مُعَلِّمِينَ.
وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ نُصَحَاءَ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَجُلًا عَالِمًا يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، (5) الْعَالِمُ بِأَنْبَاءِ الْأُمَّةِ (6) مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ، وَالْأَحْبَارُ: الْعُلَمَاءُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ: الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ الْعِلْمِ الْبَصَارَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ.
قَالَ الْمُؤَرِّجُ : كُونُوا رَبَّانِيِّينَ تَدِينُونَ لِرَبِّكُمْ، مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، كَانَ فِي الْأَصْلِ رَبِّيٌّ فَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ لِلتَّفْخِيمِ، ثُمَّ أُدْخِلَتِ النُّونُ لِسُكُونِ الْأَلِفِ، كَمَا قِيلَ: صَنْعَانِيٌّ وَبَهْرَانِيٌّ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْمَ، وَيَقُومُونَ بِهِ وَيُرَبُّونَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِصِغَارِ الْعُلُومِ
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص (146).
(2) في ب "ليس" وهو خطأ. وفي الواحدي "الرييس" .
(3) في ب: بعثني.
(4) رواه ابن إسحاق في السيرة، وعنه أخرجه الطبري في التفسير: 6 / 539 وانظر: لباب النقول للسيوطي بهامش الجلالين ص 131.
(5) في أ: الآمر والناهي .
(6) الأمة: ساقط من: أ.

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

قَبْلَ كِبَارِهَا، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِإِصْلَاحِ شَيْءٍ وَإِتْمَامِهِ فَقَدْ رَبَّهُ يَرُبُّهُ، وَاحِدُهَا: "رَبَّانُ"( كَمَا قَالُوا: رَيَّانُ ) (1) وَعَطْشَانُ وَشَبْعَانُ وَعُرْيَانُ ثُمَّ ضُمَّتْ إِلَيْهِ يَاءُ النِّسْبَةِ (2) كَمَا قَالُوا: لِحْيَانِيٌّ وَرَقَبَانِيٌّ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَرُبُّ عِلْمَهُ، بِعَمَلِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. { بِمَا كُنْتُمْ } أَيْ: بِمَا أَنْتُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا "( سُورَةُ مَرْيَمَ الْآيَةُ 29 ) أَيْ: مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ { تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " تُعَلِّمُونَ " بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ " تَعْلَمُونَ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ: { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي: تقرؤون.
{ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) }
قَوْلُهُ { وَلَا يَأْمُرَكُمْ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِنَصْبِ الرَّاءِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى الْبَشَرِ، أَيْ: وَلَا يَأْمُرُ ذَلِكَ الْبَشَرُ، وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ "أَنْ" أَيْ: وَلَا أَنْ يَأْمُرَكُمْ ذَلِكَ الْبَشَرُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، مَعْنَاهُ: وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ: وَلَا يَأْمُرُكُمْ مُحَمَّدٌ، { أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } كَفِعْلِ قُرَيْشٍ وَالصَّابِئِينَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ مَا قَالُوا، { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، يَعْنِي: لَا يَقُولُ هَذَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } قَرَأَ حَمْزَةُ " لِمَا " بِكَسْرِ اللَّامِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ اللَّامَ فَهِيَ لَامُ الْإِضَافَةِ دَخَلَتْ عَلَى مَا، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يُرِيدُ لِلَّذِي آتَيْتُكُمْ أَيْ: أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لِأَجْلِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعْنِي أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ وَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ فَمَعْنَاهُ: لِلَّذِي آتَيْتُكُمْ بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْجَزَاءِ أَيْ: لَئِنْ آتَيْتُكُمْ وَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ وَجَوَابُ الْجَزَاءِ قَوْلُهُ { لَتُؤْمِنُنَّ }
__________
(1) ساقط من أ .
(2) في ب: التشبيه وهو خطأ.

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

قَوْلُهُ: { لَمَا آتَيْتُكُمْ } قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ " آتَيْنَاكُمْ " عَلَى التَّعْظِيمِ كَمَا قال: " وآتينا داوود زَبُورًا "( النِّسَاءِ -163 ) " وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا "( سُورَةُ مَرْيَمَ 12 ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِمُوَافَقَةِ الْخَطِّ وَلِقَوْلِهِ: { وَأَنَا مَعَكُمْ }
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى النَّبِيِّينَ خَاصَّةً أَنْ يُبَلِّغُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَنْصُرَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بِنُصْرَتِهِ إِنْ أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ مُوسَى أَنْ يُؤْمِنَ بِعِيسَى، وَمِنْ عِيسَى أَنْ يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
( وَقَالَ الْآخَرُونَ: بِمَا أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) (1) فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَرْسَلَ مِنْهُمُ النَّبِيِّينَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } وَإِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ النَّبِيِّينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ } فَأَرَادَ: أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَدِّقُوهُ وَيَنْصُرُوهُ إِنْ أَدْرَكُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّينَ، وَأُمَمِهِمْ جَمِيعًا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعَ الْمَتْبُوعِ عَهْدٌ عَلَى الْأَتْبَاعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَئِنْ بُعِثَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيَنْصُرُنَّهُ.
قَوْلُهُ: { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ } يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ حِينَ اسْتَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَنْبِيَاءُ فِيهِمْ كَالْمَصَابِيحِ وَالسُّرُجِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي } أَيْ: قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ عَهْدِي، وَالْإِصْرُ: الْعَهْدُ الثَّقِيلُ، { قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ } اللَّهُ تَعَالَى: { فَاشْهَدُوا } أَيْ: فَاشْهَدُوا أَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى أَتْبَاعِكُمْ، { وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشْهَدُوا، أَيْ: فَاعْلَمُوا، وَقَالَ سَعِيدُ بن المسيب 62/ب قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِمْ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ.
{ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) }
{ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } الْإِقْرَارِ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } الْعَاصُونَ الْخَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من أ.

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

{ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ } وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ } (1) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ { يَبْغُونَ } بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَمَا آتَيْتُكُمْ } ، { وَلَهُ أَسْلَمَ } خَضَعَ وَانْقَادَ، { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } فَالطَّوْعُ: الِانْقِيَادُ وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ، وَالْكُرْهُ: مَا كَانَ بِمَشَقَّةٍ وَإِبَاءٍ مِنَ النَّفْسِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ { طَوْعًا وَكَرْهًا } قَالَ الْحَسَنُ : أسلم أهل السموات طَوْعًا وَأَسْلَمَ مَنْ فِي الْأَرْضِ بَعْضُهُمْ طَوْعًا وَبَعْضُهُمْ كَرْهًا، خَوْفًا مِنَ السَّيْفِ وَالسَّبْيِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَوْعًا الْمُؤْمِنُ، وَكَرْهَا ذَلِكَ الْكَافِرُ، بِدَلِيلِ: " وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من في السموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ "( الرَّعْدِ -15 ) وَقِيلَ: هَذَا يَوْمُ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ لَهُمْ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى "( الْأَعْرَافِ -172 ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: طَوْعًا وَبَعْضُهُمْ: كَرْهًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُؤْمِنُ أَسْلَمَ طَوْعًا فَنَفَعَهُ، وَالْكَافِرُ أَسْلَمَ كَرْهًا فِي وَقْتِ الْبَأْسِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا "( غَافِرِ -85 ) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ اسْتِعَاذَتُهُمْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَارِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ "( الْعَنْكَبُوتِ -65 ).
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَوْعًا الَّذِي { وُلِدَ } (2) فِي الْإِسْلَامِ، وَكَرْهًا الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يُسْبَى مِنْهُمْ فَيُجَاءُ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ، { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } قَرَأَ بِالْيَاءِ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ كَمَا قَرَأَ { يَبْغُونَ } بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ قَرَأَ { يَبْغُونَ } بِالْيَاءِ وَ{ تُرْجَعُونَ } بِالتَّاءِ، وَقَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِي عَامٌّ، لِأَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 4 / 127، البحر المحيط لأبي حيان: 2 / 514، أسباب النزول للواحدي ص (146) .
(2) ساقط من: أ .

ذَكَرَ الْمِلَلَ وَالْأَدْيَانَ وَاضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: { آمَنَّا بِاللَّهِ } الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } نَزَلَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا مَكَّةَ كُفَّارًا، مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ جَحْدٌ، أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ { وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } وَذَلِكَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ لَمَّا لَحِقَ بِالْكُفَّارِ نَدِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَنْ سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) لَمَّا كَانَ مِنْهُ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ -وَاللَّهِ -مَا عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَصْدَقُ مِنْكَ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي
__________
(1) انظر: الطبري: 6 / 573، أسباب النزول ص (147).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

الْيَهُودِ كَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهِمْ (1) بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَوْهُ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا يَعْنِي: ذُنُوبًا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ أَشْرَكُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا أَيْ: أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا عَلَيْهِ (2) .
قَالَ الْحَسَنُ: ازْدَادُوا كُفْرًا كُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ كَفَرُوا بِهَا، فَازْدَادُوا كُفْرًا وَقِيلَ: ازْدَادُوا كُفْرًا بِقَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ رَيْبَ الْمَنُونِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، لَمَّا رَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَقَامُوا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ وَقَالُوا: نُقِيمُ عَلَى الْكُفْرِ مَا بَدَا لَنَا فَمَتَى أَرَدْنَا الرَّجْعَةَ يَنْزِلُ فِينَا مَا نَزَلَ فِي الْحَارِثِ، فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَنَزَلَ فِيمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الْآيَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَعَدَ اللَّهُ قَبُولَ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } قِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا( رَجَعُوا فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ ) (3) كَمَا قَالَ: " وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ " سُورَةُ النِّسَاءِ الْآيَةُ( 18 ) .
وَقِيلَ هَذَا فِي أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَيْثُ أَمْسَكُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ فَإِنْ سَاعَدَهُ الزَّمَانُ نَرْجِعُ إِلَى دِينِهِ، لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُتَرَبِّصُونَ غَيْرُ مُحَقِّقِينَ، وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ } أَيْ: قَدْرُ مَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنْ شَرْقِهَا إِلَى غَرْبِهَا، { ذَهَبًا } نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: عِشْرُونَ دِرْهَمًا. { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } قِيلَ: مَعْنَاهُ لَوِ افْتَدَى بِهِ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
__________
(1) ساقط من: ب وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (148)، الطبري: 6 / 578 - 579، الدر المنثور: 2 / 258.
(2) انظر: الدر المنثور: 2 / 258 - 259، أسباب النزول ص (148).
(3) في ب: إذا وقعوا في الحشرجة.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب من نوقش الحساب عذب: 11 / 400، وباب صفة الجنة والنار: 11 / 416، وفي الأنبياء باب خلق آدم وذريته. ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا برقم (2805): 4 / 2160، والمصنف في شرح السنة: 15 / 242.

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ } يَعْنِي: الْجَنَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: التَّقْوَى، وَقِيلَ: الطَّاعَةَ، وَقِيلَ: الْخَيْرَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال 63/أ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرَّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } أَيْ: مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكُمْ إِلَيْكُمْ، رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ إِنْفَاقٍ يَبْتَغِي بِهِ الْمُسْلِمُ وَجْهَ اللَّهِ حَتَّى الثَّمَرَةَ يَنَالُ بِهِ هَذَا الْبِرَّ وَقَالَ عَطَاءٌ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ أَيْ: شَرَفَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى حَتَّى تَتَصَدَّقُوا وَأَنْتُمْ أَصِحَّاءُ أَشِحَّاءُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْمَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" : 10 / 507، ومسلم في البر والصلة باب قبح الكذب وحسن الصدق برقم (2607) 4 / 2013، والمصنف في شرح السنة : 13 / 152 .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. أَوْ قَالَ: ذَلِكَ مَالُ رَابِحٍ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ" (1) .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولَاءَ يَوْمَ فُتِحَتْ فَدَعَا بِهَا فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ (2) .
وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ الْآيَةُ { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانَةٍ، هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: لَوْلَا أَنَّنِي لَا أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لَنَكَحْتُهَا (3) .
{ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أَيْ: يَعْلَمُهُ وَيُجَازِي بِهِ.
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ؟ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ لَا يَأْكُلُ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا وَأَنْتَ تَأْكُلُهَا، فَلَسْتَ عَلَى مِلَّتِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَقَالُوا: كُلُّ مَا نُحَرِّمُهُ الْيَوْمَ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (4) { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يُرِيدُ: سِوَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَلَالًا قَطُّ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة باب الزكاة على الأقارب: 3 / 325، وفي الوكالة باب إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله: 4 / 493، وفي التفسير تفسير سورة آل عمران باب: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" 8 / 223. وفي الوصايا والأشربة. وأخرجه مسلم في الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين. . . برقم (998): 2 / 693 والمصنف في شرح السنة: 6 / 189 - 190.
(2) الدر المنثور: 2 / 260 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) أخرجه الطبري من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد: 6 / 588، وانظر: الكافي الشاف لابن حجر ص 27، الدر المنثور: 2 / 260.
(4) انظر: البحر المحيط: 3 / 2، أسباب النزول ص (148) .

{ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ حُرْمَةِ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، بَلْ كَانَ الْكُلُّ حَلَالًا لَهُ وَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، يَعْنِي: لَيْسَتْ فِي التَّوْرَاةِ حُرْمَتُهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي سَبَبِهِ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ: لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سُقْمُهُ فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا فَحَرَّمَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الْعُرُوقُ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَكَى عِرْقَ النَّسَا وَكَانَ أَصْلُ وَجَعِهِ فِيمَا رَوَى جُوَيْبِرٌ وَمُقَاتِلٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ نَذَرَ إِنْ وَهَبَهُ اللَّهُ اثَّنَى عَشَرَ وَلَدًا وَأَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَحِيحًا أَنْ يَذْبَحَ آخِرَهُمْ فَتَلَقَّاهُ مَلَكٌ [مِنَ الْمَلَائِكَةِ] (1) فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ فَهَلْ لَكَ فِي الصِّرَاعِ، فَعَالَجَهُ فَلَمْ يَصْرَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَغَمَزَهُ الْمَلَكُ غَمْزَةً فَعَرَضَ لَهُ عِرْقُ النَّسَا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ أَصْرَعَكَ لَفَعَلْتُ وَلَكِنْ غَمَزْتُكَ هَذِهِ الْغَمْزَةَ لِأَنَّكَ كُنْتَ نَذَرْتَ إِنْ أَتَيْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَحِيحًا ذَبَحْتَ آخِرَ وَلَدِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَكَ بِهَذِهِ الْغَمْزَةِ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجًا، فَلَمَّا قَدِمَهَا يَعْقُوبُ أَرَادَ ذَبْحَ وَلَدِهِ وَنَسِيَ قَوْلَ الْمَلَكِ فَأَتَاهُ الْمَلَكُ وَقَالَ: إِنَّمَا غَمَزْتُكَ لِلْمَخْرَجِ وَقَدْ وُفِّيَ نَذْرُكَ فَلَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى وَلَدِكَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَقْبَلَ يَعْقُوبُ مِنْ حَرَّانَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ هَرَبَ مِنْ أَخِيهِ عِيصُو: وَكَانَ رَجُلًا بَطِيشًا قَوِيًّا فَلَقِيَهُ مَلَكٌ فَظَنَّ يَعْقُوبُ أَنَّهُ لِصٌّ فَعَالَجَهُ أَنْ يَصْرَعَهُ فَغَمَزَ الْمَلَكُ فَخِذَ يَعْقُوبَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَيَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَهَاجَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا وَلَقِيَ مِنْ ذَلِكَ بَلَاءً وَشِدَّةً وَكَانَ لَا يَنَامُ بِاللَّيْلِ مِنَ الْوَجَعِ، وَيَبِيتُ وَلَهُ زُقَاءٌ، أَيْ: صِيَاحٌ، فَحَلَفَ يَعْقُوبُ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ عِرْقًا وَلَا طَعَامًا فِيهِ عِرْقٌ، فَحَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ بَنُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّبِعُونَ الْعُرُوقَ يُخْرِجُونَهَا مِنَ اللَّحْمِ.
وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَصَابَ يعقوب عرق النس وَصَفَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ أَنْ يَجْتَنِبَ لُحْمَانَ الْإِبِلِ فَحَرَّمَهَا يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ لَحْمَ الْجَزُورِ تَعَبُّدًا لِلَّهِ تَعَالَى: فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى وَلَدِهِ (2) .
__________
(1) ساقط من : أ.
(2) انظر في هذه الأقوال: الدر المنثور: 2 / 263 - 264.

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حَالِ هَذَا الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِنَّمَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ قَالَ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَا يَأْكُلُهُ لِي وَلَدٌ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ { عَلَيْهِمْ } (1) فِي التَّوْرَاةِ وَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِظُلْمِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ "( سُورَةُ النِّسَاءِ الْآيَةُ 160 ) وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إِلَى أَنْ قَالَ: " ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ "( سُورَةُ الْأَنْعَامِ الْآيَةُ( 146 ) وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابُوا ذَنْبًا عَظِيمًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَعَامًا طَيِّبًا أَوْ صَبَّ عَلَيْهِمْ رِجْزًا وَهُوَ الْمَوْتُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَلَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا لِأَبِيهِمْ، ثُمَّ أَضَافُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: { قُلْ } يَا مُحَمَّدُ { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا } حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا قُلْتُمْ، { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فلم يأتوا. 63/ب فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) }
{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } سَبَبُ [نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ] (2) أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ قِبْلَتُنَا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَأَقْدَمُ، وَهُوَ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
__________
(1) ساقط من: أ.
(2) في أ: سبب نزولها.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ عِنْدَ خَلْقِ [السَّمَاءِ] (1) وَالْأَرْضِ، خَلَقَهُ اللَّهُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَتْ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ، هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ فِي الْأَرْضِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ تَحْتَ الْعَرْشِ بَيْتًا وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ أَنْ يَبْنُوا فِي الْأَرْضِ بَيْتًا عَلَى مِثَالِهِ وَقَدْرِهِ، فَبَنَوْا وَاسْمُهُ الضِّرَاحُ، وَأَمَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَوْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ، فَلَمَّا حَجَّهُ آدَمُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: بَرَّ حَجُّكَ يَا آدَمُ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ بَنَاهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ مُبَارَكٍ وُضِعَ [فِي الْأَرْضِ] (2) هُدًى لِلنَّاسِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَقِيلَ: أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يُحَجُّ إِلَيْهِ . وَقِيلَ : أَوَّلُ بَيْتٍ جُعِلَ قِبْلَةً لِلنَّاسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ: أَوَّلُ مَسْجِدٍ وَمُتَعَبَّدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } يَعْنِي الْمَسَاجِدَ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، أَنَا الْأَعْمَشُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } قَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ مَكَّةُ نَفْسُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الضحاك، والعرب تعاقبت بَيْنَ الْبَاءِ وَالْمِيمِ، فَتَقُولُ: سَبَّدَ رَأْسَهُ وَسَمَّدَهُ وَضَرْبَةُ لَازِبٍ وَلَازِمٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَكَّةُ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَمَكَّةُ اسْمُ الْبَلَدِ كُلِّهِ.
وَقِيلَ: بَكَّةُ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَالْمَطَافِ، سُمِّيَتْ بَكَّةَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا، أَيْ يَزْدَحِمُونَ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُصَلِّي بَعْضُهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضٍ وَيَمُرُّ بَعْضُهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضٍ.
__________
(1) في أ: "السموات" .
(2) ساقط من أ .
(3) انظر الطبري: 7 / 19- 22 وقد رجح هذا القول الأخير.
(4) أخرجه البخاري في الأنبياء باب حدثنا موسى بن إسماعيل: 6 / 407، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم (520): 1 / 370.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ، أَيْ تَدُقُّهَا فَلَمْ يَقْصِدْهَا جَبَّارٌ بِسُوءٍ إِلَّا قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا مَكَّةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ مَائِهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ وَامْتَكَّهُ إِذَا امْتَصَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ اللَّبَنِ، وَتُدْعَى أُمَّ رَحِمٍ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ بِهَا.
{ مُبَارَكًا } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: ذَا بَرَكَةٍ { وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمُؤْمِنِينَ { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ { آيَةٌ بَيِّنَةٌ } عَلَى الْوَاحِدَانِ، وَأَرَادَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } بِالْجَمْعِ فَذَكَرَ مِنْهَا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ [وَهُوَ الْحَجَرُ] (1) الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهِ فَانْدَرَسَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَسْحِ بِالْأَيْدِي، وَمِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْحَطِيمُ وَزَمْزَمُ وَالْمَشَاعِرُ كُلُّهَا، وَقِيلَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَمِنَ الْآيَاتِ فِي الْبَيْتِ أَنَّ الطَّيْرَ تَطِيرُ فَلَا تَعْلُو فَوْقَهُ، وَأَنَّ الْجَارِحَةَ إِذَا قَصَدَتْ صَيْدًا فَإِذَا دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ كَفَّتْ عَنْهُ، وَإِنَّهُ بَلَدٌ صَدَرَ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَبْرَارُ، وَإِنَّ الطَّاعَةَ وَالصَّدَقَةَ فِيهَا تُضَاعَفُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْرِيُّ، أَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } أَنْ يُحَاجَّ فِيهِ، وَذَلِكَ بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ أَمِنَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْغَارَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ "( سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ الْآيَةَ 67 ) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آمِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ "( سُورَةُ الْفَتْحِ الْآيَةَ 27 ) وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ "( الْبَقَرَةِ -197 ) أَيْ: لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا، حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا فَالْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ [لَا يُطْعَمُ] (3) وَلَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ فَيُقْتَلُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ،
__________
(1) ساقط من: أ.
(2) أخرجه البخاري في الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: 3 / 63، ومسلم في الحج - باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة برقم (1395): 2 / 1013، والمصنف في شرح السنة: 2 / 335.
(3) ساقط من: أ .

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاجِبَ بِالشَّرْعِ يُسْتَوْفَى فِيهِ أَمَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْجَرِيمَةَ فِي الْحَرَمِ يُسْتَوْفَى فِيهِ عُقُوبَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } أَيْ: وَلِلَّهِ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ { حِجُّ الْبَيْتَ } بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي هَذَا الْحَرْفِ خَاصَّةً، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَالْحَجُّ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وإيتاءِ الزكاة 64/أ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: وَلِوُجُوبِ الْحَجِّ خَمْسُ شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا عَلَى الْمَجْنُونِ، وَلَوْ حَجَّا بِأَنْفُسِهِمَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ وَلَا حُكْمَ [لِفِعْلِ] (2) الْمَجْنُونِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا عَلَى الْعَبْدِ، وَلَوْ حَجَّ صَبِيٌّ يَعْقِلُ، أَوْ عَبْدٌ يَصِحُّ حَجُّهُمَا تَطَوُّعًا لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ عَنْهُمَا فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ عُتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَمَا حَجَّ وَاجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ شَرَائِطُ [وُجُوبِ] (3) الْحَجِّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ ثَانِيًا، وَلَا يَجِبَ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ فَحَجَّ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرَضُ الْإِسْلَامِ.
وَالِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا [بِنَفْسِهِ] (4) وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِغَيْرِهِ، أَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِنَفْسِهِ عَلَى الذِّهَابِ وَوَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ الْخَطِيبُ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَعَدْنَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب دعاؤكم إيمانكم: 1 / 49 ومسلم في الإيمان: باب أركان الإيمان برقم (19): 1 / 45 والمصنف في شرح السنة: 1 / 17.
(2) في أ: قول .
(3) ساقط من: أ.
(4) في أ: "ببدنه".

ابْنِ عُمَرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: "الشَّعِثُ التَّفِلُ" فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْعَجُّ وَالثَّجُّ" فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ" (1) .
وَتَفْصِيلُهُ: أَنْ يَجِدَ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ، وَوَجَدَ الزَّادَ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ، فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَكُسْوَتُهُمْ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ، وَعَنْ دَيْنٍ يَكُونُ عَلَيْهِ، وَوَجَدَ رُفْقَةً يَخْرُجُونَ فِي وَقْتٍ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَهُ أَوْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ إِلَى وَقْتٍ لَا يَصِلُونَ إِلَّا أَنْ يَقْطَعُوا كُلَّ يَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ لَا يَلْزَمُهُمُ الْخُرُوجُ [فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ] (2) وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا فَإِنْ كَانَ فِيهِ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ رَصْدِيٍّ يَطْلُبُ شَيْئًا لَا يَلْزَمُهُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَنَازِلُ الْمَأْهُولَةُ مَعْمُورَةً يَجِدُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَاءَ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُدُوبَةٍ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا أَوْ غَارَتْ مِيَاهُهَا فَلَا يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الرَّاحِلَةَ لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ، أَوْ لَمْ يَجِدِ الزَّادَ وَلَكِنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ فَعَلَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَلْزَمُهُ.
أَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِالْغَيْرِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ، بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ بِهِ مَرَضٌ غَيْرُ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، لَكِنْ لَهُ مَالٌ يُمَكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَكِنْ بَذَلَ لَهُ وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ الطَّاعَةَ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ إِذَا كَانَ يَعْتَمِدُ صِدْقَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ [يَتَعَلَّقُ] (3) بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ مُسْتَطِيعٌ لِبِنَاءِ دَارٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِمَالِهِ أَوْ بِأَعْوَانِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْضُوبِ فِي الْمَالِ.
وَحُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَهُ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: 8 / 348، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه. والشافعي في ترتيب المسند: 1 / 284. وأخرجه ابن ماجه في المناسك باب ما يوجب الحج برقم (2896): 2 / 967 والدارقطني في السنن: 2 / 217 والمصنف في شرح السنة: 7 / 14. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: 2 / 221: "وطرقه كلها ضعيفة، وقد قال عبد الحق: إن طرقه كلها ضعيفة، وقال أبو بكر ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسندا والصحيح من الروايات رواية الحسن مرسلة".
(2) ساقط من: أ.
(3) في أ: "معلق".

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: جَحَدَ فَرْضَ الْحَجِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: الْحَجُّ إِلَى مَكَّةَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ كُفْرٌ بِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَلَمَاتِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَمْ تَحْبِسْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا" (2) .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ يَا أهل الكتاب لما تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ: لِمَ تَصْرِفُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ، { مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا }
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج باب وجوب الحج وفضله: 3 / 378، وفي باب حج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وباب حج المرأة عن الرجل، ومسلم في الحج باب الحج عن العاجز لزمانة أو هو محرم ونحوه برقم (1334): 2 / 973. والمصنف في شرح السنة: 7 / 25.
(2) روي هذا الحديث بألفاظ متقاربة عن عدد من الصحابة بطرق ضعيفة، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال العقيلي والدارقطني: لا يصح فيه شيء. قال ابن حجر: وله طرق أحدها: أخرجه سعيد بن منصور في السنن وأحمد وأبو يعلى والبيهقي من طرق عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة . . . وليث: ضعيف وشريك: سيئ الحفظ وقد خالفه سفيان فأرسله. ورواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط. . . فذكره مرسلا، وذكره ابن أبي شيبة عن ليث مرسلا، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى عن شريك عن ليث مخالفة للإسناد الأول. والثاني: عن علي مرفوعا: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا. . ورواه الترمذي وقال: غريب وفي إسناده مقال، والحارث يضعّف. كتاب الحج باب ما جاء من التغليظ في ترك الحج: 3 / 541. والثالث: عن أبي هريرة مرفوعا، رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القطابي عن أبي المهزم وهما متروكان. وله طرق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي عن عمر بن الخطاب. ثم قال: "وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط علم أن لهذا الحديث أصلا. ومحمله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع. والله أعلم". تلخيص الحبير: 2 / 222 - 223 الكافي الشاف ص 28. وانظر: نصب الراية للزيلعي: 4 / 410 - 411 .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)

تَطْلُبُونَهَا، { عِوَجًا } زَيْغًا وَمَيْلًا يَعْنِي: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بَاغِينَ لَهَا عِوَجًا؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعِوَجُ -بِالْكَسْرِ -فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعَوَجُ -بِالْفَتْحِ -فِي الْجِدَارِ، وَكُلِّ شَخْصٍ قَائِمٍ، { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا] (1) نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ شَاسَ بْنَ قَيْسٍ الْيَهُودِيَّ -وَكَانَ شَيْخًا عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ -مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسِ جَمْعِهِمْ يَتَحَدَّثُونَ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ، قَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ وَاجْلِسْ مَعَهُمْ ثُمَّ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ بُعَاثٌ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ مَعَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ وَتَكَلَّمَ فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ، أَوْسُ بْنُ قِبْطِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْتُهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا وَقَالَا قَدْ فَعَلْنَا السِّلَاحَ السِّلَاحَ مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةُ، وَهِيَ حَرَّةٌ فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، وَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ (2) الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلَّفَ بَيْنَكُمْ؟ تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا، اللَّهَ اللَّهَ !! فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نزغُة من 64/ب الشَّيْطَانِ وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ
__________
(1) في أ: "أن التوراة فيها مكتوب" .
(2) في أ: "إصر" .

الْآيَةَ (1) .
{ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } قَالَ جَابِرٌ: فَمَا رَأَيْتُ قَطُّ يَوْمًا أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبَ:
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص 29: "أخرجه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، وأخرجه ابن إسحاق في المغازي، وذكره ابن هشام فلم يذكر إسناد ابن إسحاق، وذكره الثعلبي والواحدي في أسبابه عن زيد ابن أسلم بغير إسناد". وعزاه السيوطي أيضا لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. انظر: الدر المنثور: 4 / 278 - 279، أسباب النزول للواحدي ص (149 - 150). الطبري: 7 / 55 - 56 وسيرة ابن هشام: 2 / 556 - 557.

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) }
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } يَعْنِي: وَلِمَ تَكْفُرُونَ؟ { وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ } الْقُرْآنُ، { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمَانِ بَيِّنَانِ: كِتَابُ اللَّهِ وَنَبِيُّ اللَّهِ أَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ فَقَدْ مَضَى وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَأَبْقَاهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْعَبْدِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَوْفٍ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حِبَّانَ [عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ] (1) قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُهُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَخُذُوا بِهِ فَحَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ } أَيْ: يَمْتَنِعْ بِاللَّهِ وَيَسْتَمْسِكْ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ، { فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } طريقا وَاضِحٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أَيْ: يُؤْمِنْ بِاللَّهِ، وَأَصْلُ الْعِصْمَةِ: الْمَنْعُ، فَكُلُّ مَانِعٍ شَيْئًا فَهُوَ عَاصِمٌ لَهُ.
__________
(1) زيادة من: ب.
(2) قطعة من حديث أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب برقم (2408): 4 / 1873 - 1874، والمصنف في شرح السنة: 14 / 117 - 118.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) }
قَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِتَالٌ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَافْتَخَرَ بَعْدَهُ مِنْهُمْ رَجُلَانِ: ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمٍ مِنَ الْأَوْسِ وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ الْأَوْسِيُّ: مِنَّا خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ، وَمِنَّا حَنْظَلَةُ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَفْلَحَ حَمِيُّ الدَّبْرِ، وَمِنَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ [لِمَوْتِهِ] (1) عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَرَضِيَ اللَّهُ بِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَقَالَ الْخَزْرَجِيُّ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ أَحْكَمُوا الْقُرْآنَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَمِنَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ خَطِيبُ الْأَنْصَارِ وَرَئِيسُهُمْ، فَجَرَى الْحَدِيثُ بَيْنَهُمَا فَغَضِبَا وَأَنْشَدَا الْأَشْعَارَ وَتَفَاخَرَا، فَجَاءَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَمَعَهُمُ السِّلَاحُ فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } (2) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ تُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَلَا تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَتَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَآبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَّقِي اللَّهَ عَبْدٌ حَقَّ تُقَاتِهِ حَتَّى يَخْزِنَ لِسَانَهُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ "( التَّغَابُنِ 16 ) فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسَ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ إِلَّا هَذَا. (3) .
{ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أَيْ: مُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ مُخْلِصُونَ مُفَوِّضُونَ أُمُورَكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ الْفُضَيْلُ: مُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِاللَّهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَبْدُوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُونَ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ عَلَى الْأَرْضِ لَأَمَرَّتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعِيشَتَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ وَلَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهُ"؟ (4) .
__________
(1) ساقط من: "أ" .
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (151).
(3) انظر الطبري: 7 / 68 - 69 فقد ذكر الرأيين ولم يرجح أحدهما ونقل الشيخ محمود شاكر عن النحاس أنه رجح القول بعدم النسخ فراجعه.
(4) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ما جاء في صفة شراب أهل النار: 7 / 307، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الزهد باب صفة النار برقم (4325) 2 / 1446، والحاكم في المستدرك: 2 / 294 وصححه على شرط الشيخين وابن حبان في موارد الظمآن للهيثمي ص 649، والإمام أحمد في المسند: 1 / 301 ، 338، والمصنف في شرح السنة: 15 / 246. وعزاه السيوطي أيضا: لابن المنذر وابن أبي حاتم والطيالسي والطبراني والبيهقي في البعث والنشور. . . انظر: الدر المنثور: 2 / 284. وانظر تفسير ابن كثير: 1 / 389. وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1582.

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } الْحَبْلُ: السَّبَبُ الَّذِي [يُتَوَصَّلُ] (1) بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ وَسُمِّيَ الْإِيمَانُ حَبْلًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى زَوَالِ الْخَوْفِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ" (2) وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بِحَبْلِ اللَّهِ: أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، { وَلَا تَفَرَّقُوا } كَمَا
__________
(1) في أ: "يوصل" .
(2) أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه في فضائل القرآن باب ما جاء في فضل القرآن: 8 / 218 - 221 وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 10 / 482. وله شاهد من حديث معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتن فعظمها فقال علي بن أبي طالب يا رسول الله فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه حديث ما قبلكم. . . . رواه الطبراني وفيه عمرو بن واقد وهو متروك انظر: مجمع الزوائد: 7 / 165. وأخرجه الدارمي عن عبد الله بن مسعود في فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن: 2 / 431، والحاكم في المستدرك: 1 / 555 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر، وقال الحافظ الذهبي: صالح ثقة أخرج له مسلم لكن إبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف. ورواه الطبراني أيضا قال الهيثمي: 7 / 164: وفيه إبراهيم بن مسلم الهجري وهو متروك، وابن أبي شيبة في المصنف: 10 / 482 - 483 وعبد الرزاق في المصنف: 2 / 375 من طريق ابن عيينة عن إبراهيم الهجري، وأورده في كنز العمال من رواية ابن أبي شيبة وعزاه ابن كثير أيضا لأبي عبيد القاسم بن سلام. تفسير ابن كثير: 4 / 582. وعزاه ابن حجر للبزار أيضا وإسحاق من طريق الحارث قال البزار: "لا نعلمه إلا من طريق علي، ولا نعلمه رواه عنه إلا الحارث. انظر: الكافي الشاف لابن حجر: ص 29. وقال: الحافظ ابن كثير بعد أن ساق رواية الترمذي: لم ينفرد بروايته حمزة الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث فبرئ حمزة من عهدته. . . . وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ساق حديث أبي عبيد عنه. انظر فضائل القرآن الملحق بالتفسير لابن كثير: 4 / 582.

[افْتَرَقَتِ] (1) الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّى اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ: كَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ بِسَبَبِ قَتِيلٍ، فَتَطَاوَلَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ إِلَى أَنْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ وَأَلَّفَ [بَيْنَهُمْ] (3) بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ سَبَبُ أُلْفَتِهِمْ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ شَرِيفًا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ وَنَسَبِهِ، قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بُعِثَ وَأُمِرَ بِالدَّعْوَةِ، فَتَصَدَّى لَهُ حِينَ سَمِعَ بِهِ وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَمَا الَّذِي مَعَكَ قَالَ: مَجَلَّةُ لُقْمَانَ يَعْنِي حِكْمَتَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) اعْرِضْهَا عَلَيَّ فَعَرَضَهَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَكَلَامٌ حَسَنٌ، مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ نُورًا وَهُدًى فَتَلَا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ [يَبْعُدْ] (5) مِنْهُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا [ لَقَوْلٌ] (6) حَسَنٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ قِبَلَ يَوْمِ بُعَاثٍ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَقُولُونَ: قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ.
ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رافع ومعه 65/أ فِئَةٌ مِنْ بَنِي الْأَشْهَلِ فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْكِتَابَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ، فَأَخَذَ أَبُو الْحَيْسَرِ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسٍ
__________
(1) في أ: "تفرقت".
(2) أخرجه مسلم في الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة . . . برقم (1715): 3 / 1340 وأخرج البخاري من حديث المغيرة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 1 / 202 - 203.
(3) في أ: "بين قلوبهم".
(4) زيادة من "أ" .
(5) في أ: "يبعده".
(6) في أ: "القرآن".

وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، فَصَمَتَ إِيَاسٌ وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ.
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَلَقِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا، وَهُمْ سِتَّةُ نَفَرٍ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِيٍّ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: أَمِنَ مَوَالِي يَهُودَ؟ قَالُوا: نَعَمْ: قَالَ: أَفَلَا تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ.
قَالُوا: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ بِهِ فِي الإسلام أن يهودًا كَانُوا مَعَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ أَوْثَانٍ وَشِرْكٍ، وَكَانُوا إِذَا كَانَ مِنْهُمْ شَيْءٌ قَالُوا: إِنَّ نَبِيًّا الْآنَ مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ نَتْبَعُهُ وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدُكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَصَدَّقُوهُ وَأَسْلَمُوا، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ بِكَ، وَسَنَقْدُمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزَّ مِنْكَ.
ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى فَشَا فِيهِمْ فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفٌ، وَمُعَاذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَهَؤُلَاءِ خَزْرَجِيُّونَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، وَعُوَيْمِرُ بْنُ سَاعِدَةَ مِنَ الْأَوْسِ، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنَّ سُتِرَ عَلَيْكُمْ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبَ.
قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ الْقَوْمُ بَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَكَانَ مُصْعَبٌ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، ثُمَّ إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبٍ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا، مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظُفَرَ،

فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا فَازْجُرْهُمَا، فَإِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ ابْنُ خَالَتِي وَلَوْلَا ذَاكَ لَكَفَيْتُكَهُ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَيِّدَيْ قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلُ إِلَى مُصْعَبٍ وَأَسْعَدَ وَهُمَا جَالِسَانِ فِي الْحَائِطِ، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَالَ لِمُصْعَبٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا فِي أَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ: أَنْصَفْتَ ثُمَّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَقَالَا وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ : تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ [ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ] (1) ثُمَّ قَامَ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الْآنَ، سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ فَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا قَالَ: أَحْلِفَ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النَّادِي قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا فَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيُحَقِّرُوكَ فَقَامَ سَعْدٌ [مُغْضَبًا] (2) مُبَادِرًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَخَذَ الْحَرْبَةِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا فَلَمَّا رَآهُمَا مُطْمَئِنِّينَ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، تَغْشَانَا فِي دَارِنَا بِمَا نَكْرَهُ وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ قَوْمِهِ، إِنْ يَتْبَعْكَ لَمْ يُخَالِفْكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَقْعُدُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ القرآن قالأ 65/ب فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ: قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ ثُمَّ [تُصَلِّي] (3) رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ فَأَقْبَلَ عَامِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ سَعْدٌ إِلَيْكُمْ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَمَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ، وَرَجَعَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَمُصْعَبٌ إِلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ مُسْلِمُونَ وَنِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ وَوَاقِفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الشَّاعِرُ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ.
قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةُ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -وَكَانَ قَدْ شَهِدَ ذَلِكَ -فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ أَخْبَرْنَاهُ وَكُنَّا نَكْتُمُ عَمَّنْ مَعَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِنَا أَمَرَنَا فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، وَدَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا، فَبِتْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ أُمُّ مَنِيعٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلَمَةَ، فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ -وَكَانَتِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا -إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مَنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأَيْنَا وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ فَمِنَ الْآنَ فَدَعُوهُ فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ.
قَالَ: فَقُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ: فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا شِئْتَ.
قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ [أَنْفُسَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ] (4) وَأَبْنَاءَكُمْ، قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي
__________
(1) زيادة من نشخة "أ".
(2) في أ: "مبغضا" وهو خطأ.
(3) في أ: : "تركع".
(4) ساقطة من: "أ" و"أنفسكم" ساقطة من "ب".

بَعْثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَنَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
قَالَ: [فَاعْتَرَضَ] (1) الْقَوْلَ -وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا يَعْنِي الْعُهُودَ، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: الدَّمُ الدَّمُ وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ أَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا كُفَلَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بن مَرْيَمَ" فَأَخْرَجُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَا تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نَهَكَتْ أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ وَأَشْرَافَكُمْ قَتْلَى أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ مِنْ تَهْلُكَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ فَخُذُوهُ فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ" قَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ثُمَّ تَتَابَعَ (2) الْقَوْمُ، فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ مَا سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ، هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ، ثُمَّ قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفضوا إِلَى رِحَالِكُمْ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ [لَنَمِيلَنَّ] (3) غَدًا عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ.
قَالَ فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا فَنِمْنَا عَلَيْهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جِلَّةُ قريش حتى جاؤونا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ صَاحِبَنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا
__________
(1) في أ: "فعرض" .
(2) في أ: (تبايع).
(3) في ب: (لنملين) .

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ [مِنْكُمْ] (1) قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ: مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ وَصَدَقُوا، وَلَمْ يَعْلَمُوا، وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ [الْمَخْزُومِيُّ] (2) وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ جَدِيدَانِ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً كَأَنِّي أريد أن 66/أ أُشْرِكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا يَا جَابِرُ أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إِلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا قَالَ يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَهْ وَاللَّهِ أَحْفَظْتَ الْفَتَى فَارْدُدْ إِلَيْهِ نَعْلَيْهِ، قَالَ: لَا أَرُدُّهُمَا فَأْلٌ -وَاللَّهِ -صَالِحٌ وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ [لَأَسْلُبَنَّهُ] (3) .
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَنْصَارُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ شَدَّدُوا الْعَقْدَ، فَلَمَّا قَدِمُوهَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَآذَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا" فَأَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ.
فَأَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، ثُمَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ ثُمَّ تَتَابَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَمَعَ اللَّهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا بِالْإِسْلَامِ، وَأَصْلَحَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ { إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً } قَبْلَ الْإِسْلَامِ { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بِالْإِسْلَامِ، { فَأَصْبَحْتُمْ } أَيْ فَصِرْتُمْ، { بِنِعْمَتِهِ } بِرَحْمَتِهِ وَبِدِينِهِ الْإِسْلَامِ، { إِخْوَانًا } فِي الدِّينِ وَالْوِلَايَةِ بَيْنَكُمْ { وَكُنْتُمْ } يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ { عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ } أَيْ عَلَى طَرَفِ حُفْرَةٍ مِثْلِ شَفَا الْبِئْرِ مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَمُوتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ، { فَأَنْقَذَكُمُ } اللَّهُ { مِنْهَا } بِالْإِيمَانِ، { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) }
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } أَيْ: كُونُوا أُمَّةً، { مِنْ } صِلَةٌ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ "
__________
(1) ساقط من (أ) .
(2) ساقط من (أ) .
(3) في أ: (لأستغلبنه).
(4) أخرج هذه القصة ابن إسحاق في المغازي 1 / 265 - 266 من سيرة ابن هشام مع الروض الأنف وعنه أخرجها الطبري في التفسير: 7 / 78 - 79.

( الْحَجِّ -30 ) لَمْ يُرِدِ اجْتِنَابَ بَعْضِ الْأَوْثَانِ بَلْ أَرَادَ فَاجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ { وَلْتَكُنْ } لَامُ الْأَمْرِ، { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } إِلَى الْإِسْلَامِ، { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، قَالَ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ (1) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيَسْفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ" (3) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدَّرَاوَرْدِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ الْقَسْمَلِيُّ، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الناس إنكم تقرؤون هَذِهِ الْآيَةَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَذَابِهِ" (4) .
__________
(1) في أ: عيسى بن محمد.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم (78): 1 / 69.
(3) أخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 6 / 391 وقال: هذا حديث حسن والإمام أحمد في المسند: 5 / 388 والمصنف في شرح السنة: 14 / 345. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والبزار عن أبي هريرة وفيه حبان بن علي وهو متروك وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى. مجمع الزوائد: 7 / 266.
(4) أخرجه أبو دواد في الملاحم باب الأمر والنهي: 6 / 187، وعزاه المنذري للنسائي، وأخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغيروا المنكر: 6 / 388 - 389 وفي التفسير سورة المائدة 8 / 422 - 423 وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه في الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4005): 2 / 1327 وأحمد في المسند: 1 / 7 وابن حبان ص (455) من موارد الظمآن والمصنف في شرح السنة: 14 / 344 وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر الصديق برقم (86 - 88) ص 130 - 131 وقال الحافظ ابن كثير في التفسير : 2 / 110 " وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ومنهم من رواه عنهم موقوفا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره". وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 4 / 88 - 89.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي أَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فأتوه فقالوا: مالك؟ فَقَالَ تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ (1) فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ" (2) .
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُبْتَدِعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُمُ الْحَرُورِيَّةُ بِالشَّامِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: وَقَفَ أَبُو أُمَامَةَ وَأَنَا مَعَهُ عَلَى رَأْسِ (3) الْحَرُورِيَّةِ بِالشَّامِ فَقَالَ: هُمْ كِلَابُ النَّارِ، كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "من سرّه أن سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ" (4) .
__________
(1) في أ: "ماء" .
(2) أخرجه البخاري في الشهادات باب القرعة في المشكلات: 5 / 292 بلفظه، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 342 بألفاظ مقاربة.
(3) في أ: "رؤوس".
(4) قطعة من حديث طويل في خطبة عمر بالجابية، أخرجه الترمذي: في الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة: 6 / 383 - 386 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد رواه ابن المبارك عن محمد بن سوقة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة: برقم (86 - 88): 1 / 42 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 1 / 106 - 107 والحاكم في المستدرك: 1 / 114 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وذكر له شاهدين. والإمام أحمد في المسند 1 / 18 عن عمر رضي الله عنه وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) }
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } { يَوْمَ } نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ: فِي يَوْمِ وَانْتِصَابُ الظَّرْفِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ، يُرِيدُ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ الْمُخْلِصِينَ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْمُنَافِقِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رُفِعَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، فَيَسْعَى كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى "( النِّسَاءِ -115 ) فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ حَزِنُوا فَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ مِنَ الْحُزْنِ، وَبَقِيَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا مِمَّا رُفِعَ لَهُمْ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَسْجُدُ لَهُ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا مُطِيعًا مُؤْمِنًا وَيَبْقَى أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لهم فيرفعون رؤوسهم وَوُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ الثَّلْجِ بَيَاضًا وَالْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ إِذَا نَظَرُوا إِلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ حَزِنُوا حُزْنًا شَدِيدًا فَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا لَنَا مُسْوَدَّةٌ وُجُوهُنَا فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ فَيَقُولُ الله للملائكة: " انظروا كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ "( الْأَنْعَامِ -24 ).
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: ابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ: إِشْرَاقُهَا واستبشَارُها وسُرورها بعلِمها وَبِثَوَابِ اللَّهِ، وَاسْوِدَادُهَا: حُزْنُهَا وَكَآبَتُهَا وَكُسُوفُهَا بِعَمَلِهَا وَبِعَذَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ "( يُونُسَ -26 ) وَقَالَ تَعَالَى: " وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وترهقُهم ذلة " 66/ب ( يُونُسَ -27 ) وَقَالَ: " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ "( الْقِيَامَةِ 22 -24 ) وَقَالَ " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ "( عَبَسَ 37 -40 ) .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } مَعْنَاهُ: يُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وَهُمْ (1) لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ حُكِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ: الْإِيمَانَ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، حِينَ قَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَقُولُ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ تَكَلَّمُوا بِالْإِيمَانِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَنْكَرُوا بِقُلُوبِهِمْ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ مِنْ أَهْلِ قِبْلَتِنَا، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: هُمُ الْخَوَارِجُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ (2) وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَنِّي وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي هَلْ شَعَرْتَ بِمَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ". (3) .
وَقَالَ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ أهله فما يؤوب إِلَيْهِمْ حَتَّى يَعْمَلَ عَمَلًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَخْرُجُ مَنْ أَهْلِهِ فَمَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَعْمَلَ عَمَلًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ النَّارَ ثُمَّ قَرَأَ { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } الْآيَةَ ثُمَّ نَادَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ -وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيَسْفُونِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا". (4) .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) }
__________
(1) زيادة من (ب).
(2) في أ: "من أمتي".
(3) أخرجه البخاري في كتاب الفتن باب ما جاء في قول الله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة": 13 / 3، ومسلم في الفضائل باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته برقم (2293): 4 / 1794 واللفظ له.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن برقم (118): 1 / 110 وأخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 15.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ } هَؤُلَاءِ أَهْلُ الطَّاعَةِ، { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } جَنَّةِ اللَّهِ . { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)

{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ }
{ وَلِلَّهِ ما في السموات وما فِي الْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) }
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ وَوَهْبَ بْنَ يَهُودَا (1) الْيَهُودِيَّيْنِ قَالَا لَهُمْ: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ وَدِينُنَا خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً الرُّوَاةُ وَالدُّعَاةُ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَكُونُ لِأَوَّلِنَا وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مضرب بن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَقَالَ: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيُنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ (2) " .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ
__________
(1) في ب: "يهود".
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب فضائل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 7 / 3، وفي الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور. ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل الصحابة برقم (2535): 4 / 1964 - 1965. والمصنف في شرح السنة: 14 / 67.

أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (1) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ { كُنْتُمْ } أَيْ: أَنْتُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا "( الْأَعْرَافِ -86 ) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ "( الْأَنْفَالِ -26 ) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ { لِلنَّاسِ } "مِنْ" صِلَةُ قَوْلِهِ " خَيْرَ أُمَّةٍ" أَيْ: أَنْتُمْ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ تَجِيئُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فَتُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ (2) .
قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ نَبِيٌّ قَبْلَهُ بِالْقِتَالِ فَهُمْ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ فَيُدْخِلُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ لِلنَّاسِ.
وَقِيلَ "لِلنَّاسِ" صِلَةُ قَوْلِهِ "أُخْرِجَتْ" مَعْنَاهُ: مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لِلنَّاسِ أُمَّةً خَيْرًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُبَيْشٍ الْمَقْرِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ: "إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو مَعْشَرٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِيرَكِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو الصَّلْتِ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُوَفِّي سَبْعِينَ أُمَّةً هِيَ أَخْيَرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنت متخذا خليلا: 7 / 21. ومسلم في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم برقم (2540): 4 / 1967 والمصنف في شرح السنة 14 / 69.
(2) أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا في تفسير آل عمران باب "كنتم خير أمة أخرجت للناس" 8 / 224 وبمعناه مرفوعا في الجهاد باب الأسارى في السلال: 6 / 145.
(3) أخرجه الترمذي في التفسير سورة آل عمران: 8 / 352 وقال: هذا حديث حسن وقد روى غير واحد هذا الحديث عن بهز بن حكيم نحو هذا ولم يذكروا فيه: كنتم خير أمة أخرجت للناس وابن ماجه في الزهد باب صفة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (4288): 2 / 1433، والدارمي في الرقاق باب في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم آخر الأمم: 2 / 313 والحاكم في المستدرك: 4 / 84 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد تابع سعيد بن إياس الجريري بهذا في رواية عن حكيم بن معاوية وأتى بزيادة في المتن. والطبري في التفسير: 2 / 25، 7 / 104 وأحمد في المسند: 4 / 447، 5 / 5. قال الحافظ ابن حجر في الفتح 8 / 325: "وهو حديث حسن صحيح". وانظر تعليق الشيخ محمود شاكر على الطبري: 2 / 25 - 26 و7 / 104.
(4) أخرجه ابن ماجه في الزهد باب صفة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (4288) 2 / 1433، وأحمد في المسند: 4 / 447 عن معاوية بن حيدة 5 / 5. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. مجمع الوائد: 10 / 397.

أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَا الْفَضْلُ، بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ يَحْيَى الْأَبَحُّ أَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التِّنِّيسِيُّ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 67/أ قَالَ: "إِنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهِمْ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاتِمٍ التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي لِأُمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْزُوقٍ، أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو سِنَانٍ يَعْنِي ضِرَارَ بْنَ مُرَّةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ" (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب باب حدثنا قتيبة: 8 / 170 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الدييع وأحمد في المسند: 3 / 130 - 143 عن أنس 4 / 319 عن عمار. وأخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في الأمثال ص 223. وقال ابن الربيع الشيباني في تمييز الطيب من الخبيث. . ص 168: "وقول النووي في فتاوه إنه ضعيف متعقب". ورواه الطبراني والبزار عن عمار قال الهيثمي في المجمع: 10 / 68: ورجال البزار رجال الصحيح غير الحسن بن قزعة وعبيد بن سليمان الأغر وهما ثقتان. وانظر: فيض القدير: 5 / 517.
(2) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: 1 / 397 "رواه الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري عن سعيد ابن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. . . ثم قال الدارقطني: انفرد به ابن عقيل عن الزهري ولم يروه عنه سواه، وتفرد به زهير بن محمد عن ابن عقيل، وتفرد به عمرو بن أبي سلمة عن زهير. وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ. . . ورواه الثعلبي. قلت: وفيه صدقة بن عبد الله ضعيف (تقريب) وعبد الله بن محمد: احتج به محمد بن إسماعيل وإسحاق وقال أبو حاتم وغيره: ليّن الحديث (المغني للذهبي).
(3) أخرجه الترمذي في الجنة باب ما جاء في كم صف أهل الجنة: 7 / 254 وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه في الزهد باب صفة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (429): 2 / 1434، والدارمي في الرقاق باب في صفوف أهل الجنة: 2 / 337، وأحمد في المسند: 1 / 453 عن ابن مسعود وفي" 5 / 347 عن بريدة. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1 / 82. وعزاه في تحفة الأحوذي: 7 / 254 للبيهقي في البعث والنشور ولابن حبان.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)

قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } أَيِ: الْكَافِرُونَ.
{ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) }
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ رُؤُوسَ الْيَهُودِ عَمَدُوا إِلَى مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ فَآذَوْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } يَعْنِي لَا يَضُرُّوكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ إِلَّا أَذًى بِاللِّسَانِ: وَعِيدًا وَطَعْنًا وَقِيلَ: كَلِمَةُ كُفْرٍ تَتَأَذَّوْنَ بِهَا { وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ } مُنْهَزِمِينَ، { ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } بَلْ يَكُونُ لَكُمُ النَّصْرُ عَلَيْهِمْ.
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } حَيْثُ مَا وُجِدُوا { إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } يَعْنِي : أَيْنَمَا وُجِدُوا اسْتُضْعِفُوا وَقُتِلُوا وَسُبُوا فَلَا يَأْمَنُونَ "إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ": عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَسْلَمُوا، { وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } الْمُؤْمِنِينَ بِبَذْلِ جِزْيَةٍ أَوْ أَمَانٍ يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ فَيَأْمَنُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } رَجَعُوا بِهِ ، { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ قَالَتْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شِرَارُنَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: فِيهِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ، فَتَرَكَ الْأُخْرَى اكْتِفَاءً بِذِكْرِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَالَ الْآخَرُونَ: تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ { لَيْسُوا سَوَاءً }
__________
(1) انظر أسباب النزول للواحدي ص (152).

وَهُوَ وَقْفٌ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ثُمَّ قَالَ: { لَيْسُوا سَوَاءً } يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَاسِقِينَ] (1) ثُمَّ وَصَفَ الْفَاسِقِينَ فَقَالَ: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } وَوَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ }
وَقِيلَ: قَوْلُهُ { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ابْتِدَاءٌ بِكَلَامٍ آخَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ جَرَى، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ سَوَاءٌ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ: لَا يَسْتَوِي الْيَهُودُ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَائِمَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ الثَّابِتَةُ عَلَى الْحَقِّ، الْمُسْتَقِيمَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مُهْتَدِيَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّعُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَادِلَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُطِيعَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ، وَقِيلَ: قَائِمَةٌ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الطَّرِيقَةُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَيْ ذُو أُمَّةٍ أَيْ: ذُو طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ.
{ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ } يقرؤون كِتَابَ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَّبِعُونَ { آنَاءَ اللَّيْلِ } سَاعَاتِهِ، وَاحِدُهَا: إِنًى مِثْلَ نِحًى وَأَنْحَاءَ، وَإِنًى وَآنَاءُ مِثْلَ: مِعًى وَأَمْعَاءٍ وَإِنًى مِثْلَ مِنًا وَأَمْنَاءٍ.
{ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أَيْ: يُصَلُّونَ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ فِي السُّجُودِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هِيَ صَلَاةُ الْعَتَمَةِ يُصَلُّونَهَا وَلَا يُصَلِّيهَا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ" الْآيَةَ يُرِيدُ: أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ الْعَرَبِ وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَثَمَانِيَةً مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى وَصَدَّقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ عِدَّةٌ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَمَحْمُودُ ابن مَسْلَمَةَ وَأَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ (2) بْنُ أَنَسٍ كَانُوا مُوَحِّدِينَ، يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَقُومُونَ بِمَا عَرَفُوا مِنْ شَرَائِعِ الْحَنِيفِيَّةِ حَتَّى جَاءَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَّقُوهُ وَنَصَرُوهُ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في ب: "صدقة".

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

{ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك هم الصالحون }
{ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ فِيهِمَا إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا لِقَوْلِهِ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } وَأَبُو عَمْرٍو يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُعْدَمُوا ثَوَابَهُ بَلْ يُشْكَرُ لَكُمْ وَتُجَازُونَ عَلَيْهِ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } بِالْمُؤْمِنِينَ .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أَيْ: لَا تَدْفَعُ أَمْوَالُهُمْ بِالْفِدْيَةِ وَلَا أَوْلَادُهُمْ بِالنُّصْرَةِ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تَارَةً بِفِدَاءِ الْمَالِ وَتَارَةً بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْأَوْلَادِ. { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهَا لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُفَارِقُونَهَا، كَصَاحِبِ الرَّجُلِ لَا يُفَارِقُهُ.
{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قِيلَ: أَرَادَ نَفَقَاتِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ بِبَدْرٍ وَأُحُدٍ عَلَى عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَفَقَةُ الْيَهُودِ عَلَى عُلَمَائِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي جَمِيعَ نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ [فِي الدُّنْيَا] (1) وَصَدَقَاتِهِمْ وَقِيلَ: أَرَادَ إِنْفَاقَ الْمُرَائِي الَّذِي لَا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا السَّمُومُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَقْتُلُ وَقِيلَ: (2) ] فِيهَا صِرٌّ أَيْ: صَوْتٌ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ، { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ } زَرْعَ قَوْمٍ، { ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، { فَأَهْلَكَتْهُ }
فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَثَلُ نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ فِي ذَهَابِهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَتْهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ فَأَهْلَكَتْهُ أَوْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ أَصْحَابُهُ مِنْهُ بِشَيْءٍ، { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } بِذَلِكَ، { وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ الْيَهُودَ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَاقَةِ وَالْحِلْفِ وَالْجِوَارِ وَالرَّضَاعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُصَافُونَ الْمُنَافِقِينَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ (1) فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أَيْ: أَوْلِيَاءَ وَأَصْفِيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ تَشْبِيهًا بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ الَّتِي تَلِي بَطْنَهُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا } 67/ب أَيْ: لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يَتْرُكُونَ جُهْدَهُمْ فِيمَا يُورِثُكُمُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَالْخَبَالُ: الشَّرُّ وَالْفَسَادُ، وَنُصِبَ "خَبَالًا" عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ يَأْلُو يَتَعَدَّى (2) إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَقِيلَ: بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِالْخَبَالِ كَمَا يُقَالُ أَوْجَعْتُهُ ضَرْبًا، { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } أَيْ: يَوَدُّونَ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الضُّرِّ وَالشَّرِّ وَالْهَلَاكِ. وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ } أَيِ: الْبُغْضُ، مَعْنَاهُ ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الْعَدَاوَةِ، { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } بِالشَّتِيمَةِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: بِإِطْلَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ } مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْغَيْظِ ، { أَكْبَرُ } أَعْظَمُ، { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }
{ هَا أَنْتُمْ } هَا تَنْبِيهٌ وَأَنْتُمْ كِنَايَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الذُّكُورِ، { أُولَاءِ } اسْمٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِمْ يُرِيدُ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، { تُحِبُّونَهُمْ } أَيْ: تُحِبُّونَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَكُمْ مِنَ
__________
(1) انظر أسباب النزول للواحدي (153) تفسير الطبري: 7 / 141 سيرة ابن هشام: 2 / 207.
(2) في أ: "لأن الألو تتعدى".

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ، { وَلَا يُحِبُّونَكُمْ } هُمْ لِمَا بَيْنَكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الدِّينِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُحِبُّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِمَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } يَعْنِي: بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ، { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا } وَكَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ { عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } يَعْنِي: أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ وَاحِدَتُهَا أُنْمُلَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، مِنَ الْغَيْظِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ ائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ، وَعَضُّ الْأَنَامِلِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَضٌّ، { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } أَيِ: ابْقَوْا إِلَى الْمَمَاتِ بِغَيْظِكُمْ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أَيْ: بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } أَيْ: تُصِبْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَغَنِيمَةٍ تَنَالُونَهَا مِنْهُمْ، وَتَتَابُعِ النَّاسِ فِي الدُّخُولِ فِي دِينِكُمْ، وَخِصْبٍ فِي مَعَايِشِكُمْ { تَسُؤْهُمْ } تُحْزِنْهُمْ، { وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } مَسَاءَةٌ بِإِخْفَاقِ سَرِيَّةٍ لَكُمْ أَوْ إِصَابَةِ عَدُوٍّ مِنْكُمْ، أَوِ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَكُمْ أَوْ جَدْبٍ أَوْ نَكْبَةٍ تُصِبْكُمْ { يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا } عَلَى أَذَاهُمْ { وَتَتَّقُوا } وَتَخَافُوا رَبَّكُمْ { لَا يَضُرُّكُمْ } أَيْ: لَا يَنْقُصُكُمْ، { كَيْدُهُمْ شَيْئًا } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ { لَا يَضُرُّكُمْ } بِكَسْرِ الضَّادِ خَفِيفَةٍ يُقَالُ: ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَهُوَ جَزْمٌ عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا مِثْلَ رَدَّ يَرُدُّ رَدًّا وَفِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْجَزْمَ وَأَصْلُهُ يَضْرُرْكُمْ فَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ وَنُقِلَتْ ضَمَّةُ الرَّاءِ الْأُولَى إِلَى الضَّادِ وَضُمَّتِ الثَّانِيَةُ اتِّبَاعًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ وَيُضْمَرُ فِيهِ الْفَاءُ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } عَالَمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَوْمُ الْأَحْزَابِ، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ آخِرِ السُّورَةِ فِي حَرْبِ أُحُدٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالْوَاقِدِيُّ: غَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْزِلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَشَى عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى أُحُدٍ فَجَعَلَ يَصُفُّ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَمَا يُقَوَّمُ الْقِدْحُ (1) .
__________
(1) انظر: الدر المنثور للسيوطي: 2 / 302.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالسُّدِّيُّ عَنْ رِجَالِهِمَا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا بِأُحُدٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِهِمُ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ وَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَهَا فَاسْتَشَارَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ فِينَا، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ. فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الرَّأْيُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الْأَكْلُبِ، لَا يَرَوْنَ أَنَا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرًا تُذْبَحُ، فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلَمًا فَأَوَّلْتُهَا هَزِيمَةً وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ" وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ (1) فَيُقَاتِلُوا فِي الْأَزِقَّةِ فَقَالَ رِجَالٌ (2) مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ فَاتَهُمْ يَوْمُ بَدْرٍ وَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ: اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا. فَلَمْ يَزَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُبِّهِمْ لِلِقَاءِ الْقَوْمِ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلَاحَ نَدِمُوا، وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ، فَقَامُوا وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: اصْنَعْ مَا رَأَيْتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يُقَاتِلَ" (3) .
وَكَانَ قَدْ أَقَامَ الْمُشْرِكُونَ بِأُحُدٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ فَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، بَعْدَمَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْجُمُعَةَ وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ مِنْ حَرْبِ أُحُدٍ مَا كَانَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } أَيْ: وَاذْكُرْ إِذَا غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ { تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ: تُنْزِلُ الْمُؤْمِنِينَ { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أَيْ: مَوَاطِنَ، وَمَوَاضِعَ لِلْقِتَالِ، يُقَالُ: بَوَّأْتُ الْقَوْمَ إذا وطنتهم وتبؤوا هُمْ إِذَا تَوَاطَنُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ "( يُونُسَ -93 ) وَقَالَ " أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا "( يُونُسَ -87 ) وَقِيلَ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في ب: "رجل".
(3) السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 126 وما بعدها مع الروض الأنف، المسند للإمام أحمد: 3 / 351، المستدرك للحاكم: 2 / 128 - 129 وصححه ووافقه الذهبي.

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

{ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) }
{ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا } أَيْ: تَجْبُنَا وَتَضْعُفَا وَتَتَخَلَّفَا وَالطَّائِفَتَانِ بَنُو سَلَمَةَ

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)

مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَدَنَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: فِي تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغُوا الشَّوْطَ (1) انْخَذَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ ورجع في ثلاث مائة وَقَالَ: عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلَادَنَا؟ فَتَبِعَهُمْ أَبُو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ فِي نَبِيِّكُمْ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَهَمَّتْ بَنُو سَلَمَةُ وَبَنُو حَارِثَةَ بِالِانْصِرَافِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَنْصَرِفُوا فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ (2) فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } نَاصِرُهُمَا وَحَافِظُهُمَا.
{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل، 68/أ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } بَنُو سَلَمَةُ وَبَنُو حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَاللَّهُ يَقُولُ: { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } (3) .
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ } وَبَدْرٌ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَقِيلَ: اسْمٌ لِبِئْرٍ هُنَاكَ، وَقِيلَ: كَانَتْ بَدْرٌ بِئْرًا لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ بَدْرٌ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ عَلَيْهِ.
يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } جَمْعُ: ذَلِيلٍ وَأَرَادَ بِهِ قِلَّةَ الْعَدَدِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، { فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ } اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ: " فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ "( الْأَنْفَالِ -9 ) ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا { بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ }
__________
(1) اسم موضع بين المدينة وأحد. (معجم البلدان).
(2) انظر : سيرة ابن هشام 2 / 128.
(3) أخرجه البخاري في المغازي باب "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا. . " 7 / 357.

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

{ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) }
{ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } فَصَبَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَاتَّقَوْا فَأَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ كَمَا وَعَدَ قَالَ الْحَسَنُ: وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ آلَافٍ رِدْءُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي الْمَعْرَكَةِ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَشْهَدُونَ الْقِتَالَ وَلَا يُقَاتِلُونَ، إِنَّمَا يَكُونُونَ عَدَدًا وَمَدَدًا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْجَلَى الْقَوْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ يَرْمِي وَفَتًى شَابٌّ يَتَنَبَّلُ لَهُ كُلَّمَا فَنِيَ النَّبْلُ أَتَاهُ بِهِ فَنَثَرَهُ فَقَالَ ارْمِ أَبَا إِسْحَاقَ مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا انْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ يُعْرَفْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ (1) وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ (2) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: "رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بيض ما رأبتهما قَبْلُ وَلَا بَعْدُ" يَعْنِي: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ (3) .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يُرِيدُ أَنْ يَمُدَّ الْمُشْرِكِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ } إِلَى قَوْلِهِ { مُسَوِّمِينَ } فَبَلَغَ كُرْزًا الْهَزِيمَةُ فَرَجَعَ فَلَمْ يَأْتِهِمْ وَلَمْ يَمُدَّهُمْ فَلَمْ يَمُدَّهُمُ اللَّهُ أَيْضًا بِالْخَمْسَةِ آلَافٍ، وَكَانُوا قَدْ أُمِدُّوا بِأَلْفٍ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ إِنْ صَبَرُوا عَلَى طَاعَتِهِ وَاتَّقَوْا مَحَارِمَهُ: أَنْ يَمُدَّهُمْ أَيْضًا فِي حُرُوبِهِمْ كُلِّهَا فَلَمْ يَصْبِرُوا إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، فَأَمَدَّهُمُ اللَّهُ حَتَّى حَاصَرُوا قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، قَالَ
__________
(1) في أ: "بدر" وانظر: فتح الباري: 7 / 349.
(2) أخرجه البخاري في المغازي باب: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" 7 / 358، وفي اللباس باب الثياب البيض، ومسلم في الفضائل باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد برقم (2306): 4 / 1802، والمصنف في شرح السنة: 13 / 292.
(3) أخرجه مسلم في الفضائل باب في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . .برقم (2306): 4 / 1802 .

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: كُنَّا مُحَاصِرِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ (1) مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْنَا فَرَجَعْنَا فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُسْلٍ فَهُوَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: وَضَعْتُمْ أَسْلِحَتَكُمْ وَلَمْ تَضَعِ الْمَلَائِكَةُ أَوْزَارَهَا؟ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِرْقَةٍ فَلَفَّ بِهَا رَأْسَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ، ثُمَّ نَادَى فِينَا فَقُمْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ (2) فَيَوْمَئِذٍ أَمَدَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَفَتَحَ لَنَا فَتْحًا يَسِيرًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْمَدَدَ إِنْ صَبَرُوا فَلَمْ يَصْبِرُوا فَلَمْ يُمَدُّوا بِهِ (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ } وَالْإِمْدَادُ: إِعَانَةُ الْجَيْشِ بِالْجَيْشِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالْإِعَانَةِ يُقَالُ فِيهِ: أُمِدُّهُ إِمْدَادًا وَمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الزِّيَادَةِ يُقَالُ: مَدَّهُ مَدًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ "( لُقْمَانَ -27 ) وَقِيلَ: الْمَدُّ فِي الشَّرِّ وَالْإِمْدَادُ فِي الْخَيْرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ "( الْبَقَرَةِ -15 ) " وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا "( مَرْيَمَ -79 ) وَقَالَ فِي الْخَيْرِ: { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } وَقَالَ: " وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ "( الْإِسْرَاءِ -26 ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ "( سُورَةُ الْأَنْعَامِ -111 ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ "( الْفَرْقَانِ -21 ) وَقَوْلُهُ: " وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا "( التَّوْبَةِ -26 ).
ثُمَّ قَالَ: { بَلَى } نَمُدُّكُمْ (4) { إِنْ تَصْبِرُوا } لِعَدُوِّكُمْ { وَتَتَّقُوا } أَيْ: مُخَالَفَةَ نَبِيِّكُمْ { وَيَأْتُوكُمْ } يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ { مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مِنْ وَجْهِهِمْ (5) هَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا رَجَعُوا لِلْحَرْبِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ غَضَبِهِمْ لِيَوْمِ بَدْرٍ، { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ } لَمْ يُرِدْ خَمْسَةَ آلَافٍ سِوَى مَا ذَكَرَ (6) مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ بَلْ أَرَادَ مَعَهُمْ وَقَوْلُهُ { مُسَوِّمِينَ } أَيْ: مُعَلِّمِينَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ الْوَاوَ فَأَرَادَ أَنَّهُمْ سَوَّمُوا خَيْلَهُمْ وَمَنْ فَتَحَهَا أَرَادَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَالتَّسْوِيمُ: الْإِعْلَامُ مِنَ السَّوْمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ.
__________
(1) لم يرد في كتب السيرة أن قريظة والنضير حوصروا في زمن واحد كما توهمه الرواية هنا وانظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 194 وما بعدها مع الروض الأنف، طبقات ابن سعد: 2 / 57 و74.
(2) انظر: المصنف لابن أبي شيبة 14 / 424 الاكتفاء في مغازي رسول الله . . .للكلاعي: 2 / 176.
(3) في ب "يمددهم".
(4) في أ: يمددكم.
(5) في أ: "وجوههم".
(6) في أ: ذكرنا.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعَلَامَةِ فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: كَانَتْ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ بِيضٌ قَدْ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ،( وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْكَلْبِيُّ: عَمَائِمُ صُفْرٌ مُرَخَّاةٌ عَلَى أَكْتَافِهِمْ ) (1) وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: كَانُوا قَدْ أَعْلَمُوا بِالْعِهْنِ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ وَأَذْنَابِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: "تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ فِي قَلَانِسِهِمْ وَمَغَافِرِهِمْ" (2) .
{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) }

قَوْلُهُ تَعَالِي (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ) يَعْنِي هَذَا الْوَعْدَ وَالْمَدَدَ ، (إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ) أَيْ : بِشَارَةً لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِ (وَلِتَطْمَئِنَّ) وَلِتَسْكُنَ (قُلُوبُكُمْ بِهِ) فَلَا تَجْزَعُوا مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يَعْنِي : لَا تُحِيلُوا بِالنَّصْرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجُنْدِ ، فَإِنَّ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْعِزَّ وَالْحُكْمَ لَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يَقُولُ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيَقْطَعَ طَرَفًا أَيْ: لِكَيْ يُهْلِكَ طَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ لِيَهْدِمَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الشِّرْكِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، فَقُتِلَ مِنْ قَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ وَمَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى حَرْبِ أُحُدٍ فَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ وَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْقَلَبَ عَلَيْهِمْ، { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَهْزِمَهُمْ وَقَالَ يَمَانٌ: يَصْرَعُهُمْ لِوُجُوهِهِمْ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَلْعَنُهُمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُهْلِكُهُمْ، وَقِيلَ: يُحْزِنُهُمْ، وَالْمَكْبُوتُ: الْحَزِينُ وَقِيلَ أَصْلُهُ: يَكْبِدَهُمْ أَيْ: يُصِيبُ الحزن والغيظ 68/ب أَكْبَادَهُمْ، وَالتَّاءُ وَالدَّالُ يَتَعَاقَبَانِ كَمَا يُقَالُ سَبَتَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ: إِذَا حَلَقَهُ، وَقِيلَ: يَكْبِتُهُمْ بِالْخَيْبَةِ، { فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ } يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَرْجُونَ مِنَ الظَّفَرِ بِكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } الْآيَةَ، اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ
__________
(1) زيادة من "أ".
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجهاد: 12 / 261 من طريق محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال. . . وأخرجه أيضا في المغازي: 14 / 358 من طريق أبي أسامة عن ابن عون عن عمير بن إسحاق مرسلا، ورواه الطبري في التفسير: 7 / 186. وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد. . فذكره. . ورواه ابن سعد في الطبقات: 2 / 16. وانظر: الكافي الشاف لابن حجر ص (31).

فِي أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْقُرَّاءِ، بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ أَمِيرُهُمُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَتَلَهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا، وَقَنَتَ شَهْرًا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا يَدْعُو عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ بِاللَّعْنِ وَالسِّنِينَ فَنَزَلَتْ: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْرِ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } (2) .
وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ (3) بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلِتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا [رَأْسَ] (4) نَبِيِّهِمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى (5) [اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (6) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ" فَنَزَلَتْ: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ (7) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (8) لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا
__________
(1) انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير باب ليس لك من الأمر شيء: 8 / 225 - 226.
(2) أخرجه البخاري في المغازي باب ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم: 7 / 365.
(3) في "أ": عبد الغفار.
(4) زيادة من "ب".
(5) في "أ": يدعوهم إلى الإسلام.
(6) أخرجه البخاري في المغازي: باب ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم: 7 / 365 ومسلم في الجهاد باب غزوة أحد برقم (1791): 3 / 1417.
(7) أخرجه البخاري عن ابن عمر بلفظ:"كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت: ليس لك من الأمر شيء" في المغازي باب ليس لك من الأمر شيء: 7 / 365. وبلفظ المصنف أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: 8 / 355 - 356 وقال: هذا حديث حسن غريب يستغرب من حديث عمر بن حمزة عن سالم وكذا رواه الزهري عن سالم عن أبيه. وأحمد في المسند: 2 / 93.
(8) انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 141.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

بِأَصْحَابِهِمْ مِنْ جَدْعِ الْآذَانِ وَالْأُنُوفِ وَقَطْعِ الْمَذَاكِيرِ، قَالُوا: لَئِنْ أَدَالَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ لَنَفْعَلَنَّ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا، وَلَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ فِيهِمْ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسْلِمُونَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } أَيْ: لَيْسَ إِلَيْكَ، فَاللَّامُ بِمَعْنَى "إِلَى" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ "( سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ -193 ) أَيْ: إِلَى الْإِيمَانِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }( قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (2) أَوْ: إِلَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ نَسَقٌ عَلَى قَوْلِهِ "لِيَقْطَعَ طَرَفًا" وَقَوْلُهُ: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } اعْتِرَاضٌ بَيْنَ نَظْمِ الْكَلَامِ وَنَظْمِ الْآيَةِ (3) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ أَمْرِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
ثُمَّ قَالَ: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } أَرَادَ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَالِ وَتَأْخِيرِ الطَّلَبِ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } فِي أَمْرِ الرِّبَا فَلَا تَأْكُلُوهُ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) }
__________
(1) انظر: الطبري: 7 / 198.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "ب" جاءت العبارة هكذا: اعتراض بين اللام ونظم الآية.

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) }
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لِكَيْ تُرْحَمُوا.
{ وَسَارِعُوا } قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ سَارِعُوا بِلَا وَاوٍ، { إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أَيْ بَادِرُوا وَسَابِقُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِلَى الْإِسْلَامِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: إِلَى التَّوْبَةِ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِلَى الْهِجْرَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهَا التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى.
{ وَجَنَّةٍ } أَيْ وَإِلَى جَنَّةٍ { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } أَيْ: عرضها كعرض السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: " وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ "( سُورَةُ الْحَدِيدِ -21 ) أَيْ: سَعَتُهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَرْضُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ طُولَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْأَغْلَبِ أَكْثَرُ مِنْ عَرْضِهِ يَقُولُ: هَذِهِ صِفَةُ عَرْضِهَا فَكَيْفَ طُولُهَا؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا وَصَفَ عَرْضَهَا فَأَمَّا طُولُهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ لا أنها كالسموات وَالْأَرْضِ لَا غَيْرَ، معناه: كعرض السموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ عِنْدَ ظَنِّكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " خَالِدِينَ فِيهَا ما دامت السمواتُ وَالْأَرْضُ "( سُورَةُ هُودٍ -107 ) يَعْنِي: عِنْدَ ظَنِّكُمْ وَإِلَّا فُهُمَا زَائِلَتَانِ، وَرُوِيَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالُوا: أَرَأَيْتُمْ قَوْلَهُ { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَرَأَيْتُمْ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ أَيْنَ يَكُونُ النَّهَارُ، وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ أَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلُ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَمِثْلُهَا فِي التَّوْرَاةِ (1) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ "( سُورَةُ الذَّارِيَاتِ -22 ) وَأَرَادَ بِالَّذِي وَعَدَنَا: الْجَنَّةَ فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ فَكَيْفَ يكون عرضُها السموات وَالْأَرْضَ؟ وَقِيلَ: إِنَّ بَابَ الْجَنَّةِ فِي السماء وعرضها السموات وَالْأَرْضُ كَمَا أَخْبَرَ، وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْجَنَّةِ: أَفِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ أَرْضٍ وَسَمَاءٍ تَسَعُ الْجَنَّةَ؟ قِيلَ: فَأَيْنَ هِيَ؟ قال: فوق السموات السَّبْعِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الجنة فوق السموات السَّبْعِ وَأَنَّ جَهَنَّمَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) }
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } أَيْ: فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْمُوجِبَةِ لِلْجَنَّةِ ذِكْرُ السَّخَاوَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 7 / 133، وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا محمد : أرأيت جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أرأيت هذا الليل قد كان ثم ليس شيء أين جعل؟ قال: الله أعلم. قال: فإن الله يفعل ما يشاء". موارد الظمآن ص (428) ورواه الحاكم في المستدرك: 1 / 36 وصححه على شرط الشيخين وقال الهيثمي في المجمع: 6 / 327: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح". وانظر: تفسير الطبري بتعليق الشيخ شاكر: 7 / 212.

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)

أَبُو عَمْرٍو الْفُرَاتِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْعَنْبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَازِمٍ الْبَغَوِيُّ بِمَكَّةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحِ بْنُ أَيُّوبَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَالْجَاهِلُ السَّخِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ" (1) .
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أَيِ: الْجَارِعِينَ الْغَيْظَ عِنْدَ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنْهُ، وَالْكَظْمُ: حَبْسُ الشَّيْءِ عند امتلائه 69/أ وَكَظْمُ الْغَيْظِ أَنْ يَمْتَلِئَ غَيْظًا فَيَرُدُّهُ فِي جَوْفِهِ وَلَا يُظْهِرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ "( سُورَةُ غَافِرٍ -18 ) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْفُرَاتِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بن محمد الإسفرايني، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ زَكَرِيَّا الْعَلَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَرْحُومٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ " . (2) .
{ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنِ الْمَمْلُوكِينَ سُوءَ الْأَدَبِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ: عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَأَسَاءَ إِلَيْهِمْ. { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (3) .
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: يَا
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في السخاء: 6 / 95 - 96 وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد وقد خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إنما يروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن محمد الوراق وهو ضعيف. المجمع: 3 / 127. وانظر: فيض القدير للمناوي: 4 / 139.
(2) أخرجه أبو دواد في الأدب باب فيمن كظم غيظا: 7 / 164 قال: المنذري وسهل بن معاذ بن أنس الجهني: ضعيف والذي روى عنه هذا الحديث: أبو مرحوم عبد الرحيم بم ميمون الليثي مولاهم المصري ولا يحتج بحديثه. وأخرجه الترمذي في البر والصلة باب في كظم الغيظ: 6 / 166 وقال: هذا حديث حسن غريب وأخرجه في القيامة أيضا. وأخرجه ابن ماجه في الزهد باب الحلم برقم (4186): 2 / 1400، وأحمد في المسند: 3 / 438. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 2 / 317: لعبد بن حميد والبيهقي في الشعب.
(3) في المطبوع هذه الزيادة: "عن الثوري: الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن تجارة". وليست في النسختين المخطوطتين.

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق