8. معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير
البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
بِأَبِي
أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي
الْخُرُوجِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نَعَمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
"بِالثَّمَنِ" قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ،
فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ
بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ:
ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ
بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ،
فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ،
كَبَائِتٍ فِيهَا، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى
يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى
عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، مِنْحَةً مِنْ
غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ،
فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفُهُمَا حَتَّى
يَنْعِقَ بِهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ،
وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عُدَيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَالْخِرِّيتُ:
الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ العاصِ بْنِ وَائِلٍ
السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا
إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ
بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقِ السَّوَاحِلِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ
الْمُدْلِجِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: أَنَّ
أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ:
جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَةَ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي
مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ،
حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ
رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ،
قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفَتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا
بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا،
ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلَتُ الْبَيْتَ
فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ،
فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذَتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ
الْبَيْتِ، فَخَطَّطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ، وَخَفَّضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى
أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَدَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ
مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ
يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ
بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي
وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، تَقْرُبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعَتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ
يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، فَسَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا
الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ
تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا
غُبَارٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ
بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ،
فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ
لَقِيَتُ مَا لَقِيَتُ
مِنَ
الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَلَتْ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ
وَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ
الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمَّ يَرْزُآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي شَيْئًا إِلَّا
أَنْ قَالَا أَخْفِ عَنَّا، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ
فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ، ثُمَّ مَضَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ
بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ
غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ
الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَمَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ،
فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطْمٍ
مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصَرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبْيَضِّيْنَ يَزُولُ بِهِمُ
السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا
مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ
الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فَتَلَقُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدِلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى
نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ
شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ
الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ
عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ
الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي
مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ،
غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ:
هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ. ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ، فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ
لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا بَلْ نَهِبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ
بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي
بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ
خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وأَطْهَرْ
وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ
وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِبَيْتِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.
قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ
هَذِهِ الْأَبْيَاتِ (1) .
قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الْغَارَ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجًا مِنْ
حَمَامٍ حَتَّى بَاضَا فِي أَسْفَلِ النَّقْبِ، وَالْعَنْكَبُوتَ حَتَّى نَسَجَتْ
بَيْتًا، وَفِي الْقِصَّةِ: أَنْبَتَ يَمَامَةً عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أعمِ أبصارهم 158/ب
عَنَّا فَجُعِلَ الطُّلَّبُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَوْلَ الْغَارِ يَقُولُونَ:
لَوْ دَخَلَا هَذَا الْغَارَ لَتَكَسَّرَ بَيْضُ الْحَمَامِ وَتَفَسَّخَ بَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } قِيلَ:
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ قَبْلُ، { وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ نَزَلُوا يَصْرِفُونَ وَجُوهَ
الْكَفَّارِ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ. وَقِيلَ: أَلْقَوُا الرُّعْبَ فِي
قُلُوبِ الْكُفَّارِ حَتَّى رَجَعُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ:
أَعَانَهُ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ
الْأَعْدَاءِ فِي الْغَارِ ثُمَّ أَظْهَرَ نَصْرَهُ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ
بَدْرٍ.
{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } وَكَلِمَتُهُمُ الشِّرْكُ،
وَهِيَ السُّفْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا } إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَوْلُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ كَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا: مَا قَدَّرُوا
بَيْنَهُمْ فِي الْكَيْدِ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: وَعْدُ اللَّهِ
أَنَّهُ نَاصِرُهُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: { وَكَلِمَةَ اللَّهِ } بِنَصْبِ التَّاءِ
عَلَى الْعَطْفِ { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأصحابه إلى المدينة: 7 / 230-233 والمصنف في شرح السنة: 13 / 354-362.
وقد اختصر جملا منه في التفسير، أشرنا إليها بنقاط.
(2) ذكر ذلك ابن عساكر عن زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة. وهو حديث غريب جدا، من
هذا الوجه كما قال الحافظ ابن كثير في البداية: 3 / 182.
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } قَالَ الْحَسَنُ
وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: شُبَّانًا وَشُيُوخًا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ. وَقَالَ عَطِيَّةُ
الْعَوْفِيُّ: رُكْبَانَا وَمُشَاةً. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: خِفَافًا مِنَ
الْمَالِ، أَيْ فُقَرَاءَ، وَثِقَالًا أَيْ: أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الثَّقِيلُ الَّذِي لَهُ الضَّيْعَةُ، فَهُوَ ثَقِيلٌ يَكْرَهُ أَنْ يَدَعَ
ضَيْعَتَهُ، وَالْخَفِيفُ الَّذِي لَا ضَيْعَةَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: خِفَافًا أَهْلُ الْمَيْسَرَةِ
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
مِنَ
الْمَالِ، وَثِقَالًا أَهْلُ الْعَسْرَةِ. وَقِيلَ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ،
أَيْ: مُقِلِّينَ مِنْهُ، وَثِقَالًا أَيْ: مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَقَالَ
الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ. وَقَالَ مُرَّةُ
الْهَمَذَانِيُّ: أَصِحَّاءُ وَمَرْضَى. وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَبَابٍ: عُزَّابًا
وَمُتَأَهِّلِينَ. وَقِيلَ: خِفَافًا مِنْ حَاشِيَتِكُمْ وَأَتْبَاعِكُمْ،
وَثِقَالًا مُسْتَكْثِرِينَ بِهِمْ. وَقِيلَ: خِفَافًا مُسْرِعِينَ خَارِجِينَ
سَاعَةَ سَمَاعِ النَّفِيرِ، وَثِقَالًا بَعْدَ التَّرَوِّي فِيهِ
وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ.
{ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قَالَ الزُّهْرِيُّ: خَرَجَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى الْغَزْوِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَقِيلَ
لَهُ: إِنَّكَ عَلِيلٌ صَاحِبُ ضُرٍّ، فَقَالَ: اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْخَفِيفَ
وَالثَّقِيلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِّي الْحَرْبَ كَثَّرْتُ السَّوَادَ وَحَفِظْتُ
الْمَتَاعَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (1) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ شَأْنُهَا عَلَى
النَّاسِ فَنَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ
وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} (2) الْآيَةَ.
ثُمَّ نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ:
(3) .
{ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا
لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) } .
{ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ، أَيْ: لَوْ كَانَ مَا
تَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا، أَيْ: غَنِيمَةً قَرِيبَةَ
الْمُتَنَاوَلِ، { وَسَفَرًا قَاصِدًا } أَيْ قَرِيبًا هَيِّنًا، { لَاتَّبَعُوكَ
} لَخَرَجُوا مَعَكَ، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أَيِ:
الْمَسَافَةُ، وَالشُّقَّةُ: السَّفَرُ الْبَعِيدُ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى
الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: الشُّقَّةُ الْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا، {
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ } يَعْنِي بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فِي أَيْمَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا
مُسْتَطِيعِينَ.
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ } قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: اثْنَانِ فَعَلَهُمَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا:
إِذْنُهُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَأَخْذُهُ الْفِدْيَةَ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ،
فَعَاتَبَهُ اللَّهُ كَمَا تَسْمَعُونَ.
__________
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ص (52)، أسباب النزول (283-284) ابن كثير: 2
/ 360.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي. الدر المنثور: 4 / 208.
(3) أسباب النزول للواحدي ص (284).
قَالَ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا اللُّطْفِ بَدَأَ بِالْعَفْوِ
قَبْلَ أَنْ يُعَيِّرَهُ بِالذَّنْبِ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَّرَهُ وَرَفَعَ مَحَلَّهُ بِافْتِتَاحِ
الْكَلَامِ بِالدُّعَاءِ لَهُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجْلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ إِذَا
كَانَ كَرِيمًا عِنْدَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مَا صَنَعْتَ فِي حَاجَتِي؟
وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ أَلَا زُرْتَنِي. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَدَامَ اللَّهُ
لَكَ الْعَفْوَ.
{ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } أَيْ: فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ { حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } فِي أَعْذَارِهِمْ، { وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }
فِيهَا، أَيْ: تَعْلَمَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَئِذٍ.
{ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أَيْ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي
التَّخَلُّفِ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } .
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أَيْ شَكَّتْ وَنَافَقَتْ، { فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } مُتَحَيِّرِينَ.
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ } إِلَى الْغَزْوِ، { لَأَعَدُّوا لَهُ } أي:
لهيؤوا لَهُ { عُدَّةً } أُهْبَةً وَقُوَّةً مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، {
وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } خُرُوجَهُمْ، { فَثَبَّطَهُمْ }
مَنَعَهُمْ وَحَبَسَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، { وَقِيلَ اقْعُدُوا } فِي بُيُوتِكُمْ،
{ مَعَ الْقَاعِدِينَ } يَعْنِي: مَعَ الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى. وَقِيلَ: مَعَ
النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقِيلَ } أَيْ: قَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اقْعُدُوا. وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَى قُلُوبِهِمْ وَأُلْهِمُوا
أَسْبَابَ الْخُذْلَانِ.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) } .
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى
جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ
وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ
نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ
بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا
فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا
أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا
وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) } .
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، فَضَرَبَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ،
وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَلَى [ذِي جَدَّةَ (1) ] أَسْفَلَ مِنْ
ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّفُ عَنْهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (2) { لَوْ خَرَجُوا } يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ { فِيكُمْ } أَيْ
مَعَكُمْ، { مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا } أَيْ: فَسَادًا وَشَرًّا. وَمَعْنَى
الْفَسَادِ: إِيقَاعُ الْجُبْنِ وَالْفَشَلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَهْوِيلِ
الْأَمْرِ، { وَلَأَوْضَعُوا } أَسْرَعُوا، { خِلَالَكُمْ } وَسَطَكُمْ بِإِيقَاعِ
الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَنَقْلِ الْحَدِيثِ مِنَ
الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ. وَقِيلَ: { وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ } أَيْ:
أَسْرَعُوا فِيمَا يُخِلُّ بِكُمْ. { يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أَيْ:
يَطْلُبُونَ لَكُمْ مَا تُفْتَنُونَ بِهِ، يَقُولُونَ: لَقَدْ جُمِعَ لَكُمْ كَذَا
وَكَذَا، وَإِنَّكُمْ مَهْزُومُونَ وَسَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ عَدْوُكُمْ وَنَحْوُ
ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يَعْنِي: الْعَيْبَ
وَالشَّرَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ، وَيُقَالُ: بَغَيْتُهُ
الشَّرَّ وَالْخَيْرَ أَبْغِيهِ بُغَاءً إِذَا الْتَمَسْتُهُ لَهُ، يَعْنِي:
بَغَيْتُ لَهُ.
{ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ
مُحِبُّونَ لَهُمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمْ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ، وَهُمُ
الْجَوَاسِيسُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مُطِيعُونَ لَهُمْ، أَيْ:
يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ وَيُطِيعُونَهُمْ. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
.
{ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ } أَيْ: طَلَبُوا صَدَّ أَصْحَابِكَ
عَنِ الدِّينِ وَرَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَخْذِيلَ النَّاسِ عَنْكَ قَبْلَ
هَذَا الْيَوْمِ، كَفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ
انْصَرَفَ عَنْكَ بِأَصْحَابِهِ. { وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ } وَأَجَالُوا
فِيكَ وَفِي إِبْطَالِ دِينِكَ الرَّأْيَ، بالتخذيل عنك 159/أ وَتَشْتِيتِ
أَمْرِكَ، { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ } النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، { وَظَهَرَ أَمْرُ
اللَّهِ } دِينُ اللَّهِ، { وَهُمْ كَارِهُونَ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي }
نَزَلَتْ فِي جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ
__________
(1) في "أ": (ذي حلوة). و"ذو جدة" الطريق الواضح المسلوك.
(2) أسباب النزول للواحدي ص (284).
أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَجَهَّزَ لِغَزْوَةِ
تَبُوكَ قَالَ: يَا أَبَا وَهْبٍ هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟
يَعْنِي الرُّومَ، تَتَّخِذُ مِنْهُمْ سِرَارِيَ وَوُصَفَاءَ، فَقَالَ جَدٌّ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي رَجُلٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ،
وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ بَنَاتَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ
عَنْهُنَّ، ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَلَا تَفْتِنِي بِهِنَّ وَأُعِينُكَ
بِمَالِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اعْتَلَّ جَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
عِلَّةٌ إِلَّا النِّفَاقُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَذِنْتُ لَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (1) : {
وَمِنْهُمْ } يَعْنِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ { مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي } فِي
التَّخَلُّفِ { وَلَا تَفْتِنِّي } بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَلَا
تُؤْثِمْنِي: { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } أَيْ: فِي الشِّرْكِ وَالْإِثْمِ
وَقَعُوا بِنِفَاقِهِمْ وَخِلَافِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ، {
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [مُطْبِقَةٌ بِهِمْ] (2)
وَجَامِعَةٌ لَهُمْ فِيهَا.
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } نُصْرَةٌ وَغَنِيمَةٌ، { تَسُؤْهُمْ } تُحْزِنْهُمْ،
يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، { وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } قَتْلٌ وَهَزِيمَةٌ، {
يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } حَذَرَنَا، أَيْ: أَخَذْنَا بِالْحَزْمِ فِي
الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ، { مِنْ قَبْلُ } أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذِهِ
الْمُصِيبَةِ، { وَيَتَوَلَّوْا } وَيُدْبِرُوا { وَهُمْ فَرِحُونَ } مَسْرُورُونَ
بِمَا نَالَكَ مِنَ الْمُصِيبَةِ.
{ قُلْ } لِهَمْ يَا مُحَمَّدُ { لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
} أَيْ: عَلَيْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ { هُوَ مَوْلَانَا } نَاصِرُنَا
وَحَافِظُنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي
الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } .
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } تَنْتَظِرُونَ بِنَا أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ،
{ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } إِمَّا النَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ أَوِ
الشَّهَادَةَ وَالْمَغْفِرَةَ. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ
فِي
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 14 / 287-288، أسباب النزول للواحدي ص (284-285).
(2) في "ب": (مطيفة بهم).
سَبِيلِهِ
لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ
كَلِمَتِهِ: أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ
الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوءتين إِمَّا: {
أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ } فَيُهْلِكَكُمْ كَمَا
أَهْلَكَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ، { أَوْ بِأَيْدِينَا } أَيْ: بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
إِنْ أَظْهَرْتُمْ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، { فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ
مُتَرَبِّصُونَ } قَالَ الْحَسَنُ: فَتَرَبَّصُوا مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ إِنَّا
مُتَرَبِّصُونَ مَوَاعِيدَ اللَّهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَاسْتِئْصَالِ مَنْ
خَالَفَهُ.
{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أَمْرٌ بِمَعْنَى الشَّرْطِ
وَالْجَزَاءِ، أَيْ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. نَزَلَتْ فِي جَدِّ
بْنِ قَيْسٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ، قَالَ أُعِينُكُمْ بِمَالِي،
يَقُولُ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا { لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ
إِنَّكُمْ } أَيْ: لِأَنَّكُمْ، { كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } .
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
" يُقْبَلَ " بِالْيَاءِ لِتُقَدِّمِ الْفِعْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى جَمْعٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ
النَّفَقَاتُ، فَأَنَّثَ الْفِعْلَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْفَاعِلَ مُؤَنَّثٌ، {
نَفَقَاتُهُمْ } صَدَقَاتُهُمْ، { إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَبِرَسُولِهِ } أَيِ: الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ كُفْرُهُمْ، { وَلَا
يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى } مُتَثَاقِلُونَ لِأَنَّهُمْ لَا
يَرْجُونَ عَلَى أَدَائِهَا ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عَلَى تَرْكِهَا عِقَابًا،
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ [ذَمَّ] (2) الْكَسَلَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا صَلَاةَ لَهُمْ أَصْلًا؟
قِيلَ: الذَّمُّ وَاقِعٌ عَلَى الْكَفْرِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الْكَسَلِ،
فَإِنَّ الْكُفْرَ مُكَسِّلٌ، وَالْإِيمَانَ مُنَشِّطٌ، { وَلَا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } لِأَنَّهُمْ يُعِدُّونَهَا مَغْرَمًا وَمَنْعَهَا
مَغْنَمًا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الخمس، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أحلت لكم الغنائم": 6 / 220، ومسلم في الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج
في سبيل الله، برقم (1876): 3 / 1496.
(2) في "أ": ذكر.
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ
مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ
مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) } .
{ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } وَالْإِعْجَابُ هُوَ
السُّرُورُ بِمَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، يَقُولُ: لَا تَسْتَحْسِنُ مَا أَنْعَمْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مِنَ
اللَّهِ فِي اسْتِدْرَاجٍ كَثَّرَ اللَّهُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، { إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فَإِنْ قِيلَ: أَيْ
تَعْذِيبٌ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِهَا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا؟
قِيلَ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ،
تَقْدِيرُهُ: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: التَّعْذِيبُ بِالْمَصَائِبِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يُعَذِّبُهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ
مِنْهَا وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يُعَذِّبُهُمْ بِالتَّعَبِ
فِي جَمْعِهِ، وَالْوَجَلِ فِي حِفْظِهِ، وَالْكُرْهِ فِي إِنْفَاقِهِ،
وَالْحَسْرَةِ عَلَى تَخْلِيفِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ، ثُمَّ يُقْدِمُ
عَلَى مَلِكٍ لَا يَعْذُرُهُ. { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ } أَيْ: تَخْرُجَ، {
وَهُمْ كَافِرُونَ } أَيْ: يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ.
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ، { وَمَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [يَخَافُونَ أَنْ يُظْهِرُوا
مَا هُمْ عَلَيْهِ] (1) .
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } حِرْزًا وَحِصْنًا وَمَعْقِلًا. وَقَالَ عَطَاءٌ:
مَهْرَبًا. وَقِيلَ: قَوْمًا يَأْمَنُونَ فِيهِمْ. { أَوْ مَغَارَاتٍ } غِيرَانًا
فِي الْجِبَالِ، جَمْعُ مَغَارَةٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَغُورُ فِيهِ، أَيْ
يَسْتَتِرُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَرَادِيبَ. { أَوْ مُدْخَلًا } مَوْضِعُ دخول فيه،
وأصل: مُدْتَخَلٌ مُفْتَعَلٌ، مِنْ أَدْخَلَ يُدْخِلُ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
مَحْرَزًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: سِرْبًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَفَقًا فِي
الْأَرْضِ كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَجْهًا يَدْخُلُونَهُ عَلَى
خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقُرِئَ:
{مَدْخَلًا} بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ
__________
(1) ساقط من "أ".
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
يَعْقُوبُ،
{ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ } لَأَدْبَرُوا إِلَيْهِ هَرَبًا مِنْكُمْ، { وَهُمْ
يَجْمَحُونَ } يُسْرِعُونَ فِي إِبَاءٍ وَنُفُورٍ لَا يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ شَيْءٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَوْ يَجِدُونَ مَخْلَصًا مِنْكُمْ وَمُهْرَبًا
لَفَارَقُوكُمْ.
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا
وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } الْآيَةُ
نَزَلَتْ فِي ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيِّ، وَاسْمُهُ حُرْقُوصُ بْنُ
زُهَيْرٍ، أَصْلُ الْخَوَارِجِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ،
أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا فِينَا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اعْدِلْ، فَقَالَ: "وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ
إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خَبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"،
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ
فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُ: "دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا
يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مع صيامهم، يقرؤون
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ
فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ
يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ، وَهُوَ قِدْحُهُ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ
يَنْظُرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ
وَالدَّمَ آيَتُهُمْ: رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ
الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ
فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ
هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَهُمْ
وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فَوُجِدَ، فَأُتِيَ
بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قال رجل 159/ب مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ [أَبُو
الْجَوَّاظِ] (2) : لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ
تَقْسِمْ بِالسَّوِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (3) { وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ: يَعِيبُكَ فِي أَمْرِهَا وَتَفْرِيقِهَا
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: 6 / 617-618، ومسلم
في الزكاة، باب ذكر قتال الخوارج وصفاتهم، برقم (1064) 2 / 744-745. والمصنف في
شرح السنة: 10 / 224.
(2) في "ب": (ذو الحواط).
(3) أسباب النزول للواحدي ص (286).
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
وَيَطْعَنُ
عَلَيْكَ فِيهَا. يُقَالُ: لَمَزَهُ وَهَمَزَهُ، أَيْ: عَابَهُ، يَعْنِي أَنَّ
الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يُعْطِي إِلَّا مَنْ
أَحَبِّ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ { يَلْمُزُكَ } حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
يَلْمُزُكَ أَيْ: يَرُوزُكَ يَعْنِي: يَخْتَبِرُكَ. { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا
رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } قِيلَ: إِنْ
أُعْطُوا كَثِيرًا فَرِحُوا وَإِنْ أُعْطُوا قَلِيلًا سَخِطُوا.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ
رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أَيْ: قَنَعُوا
بِمَا قَسَمَ لَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ }
كَافِينَا اللَّهُ، { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } مَا
نَحْتَاجُ إِلَيْهِ { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فِي أَنْ يُوَسِّعَ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِينَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ
أَمْوَالِ النَّاسِ. وَجَوَابُ "لَوْ " مَحْذُوفٌ أَيْ: لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ وَأَعْوَدَ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }
الْآيَةُ، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ سُهْمَانِ
الصَّدَقَاتِ وَجَعَلَهَا لِثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ. وَرُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ
الْحَارِثِ الصُدَائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى
حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ
تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى { لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } فَأَحَدُ أَصْنَافِ
الصَّدَقَةِ: الْفُقَرَاءُ، وَالثَّانِي: الْمَسَاكِينُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْحُسْنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ:
الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي يَسْأَلُ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ بِفَقِيرٍ مَنْ جَمَعَ الدِّرْهَمَ إِلَى
الدِّرْهَمِ وَالتَّمْرَةَ إِلَى التَّمْرَةِ، وَلَكِنْ مَنْ أَنْقَى
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب من يعطى من الصدقة: 2 / 230-231، والدارقطني في
الزكاة 2 / 137، والبيهقي في السنن: 4 / 174. وقال المنذري: في إسناده عبد الرحمن
بن زياد الأفريقي وقد تكلم فيه غير واحد.
نَفْسَهُ
وَثِيَابَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ: الْمُحْتَاجُ الزَّمِنُ، وَالْمِسْكِينُ:
الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ.
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَالْمَسَاكِينُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا حِرْفَةَ تَقَعُ
مِنْهُ مَوْقِعًا، زَمِنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ زَمِنٍ، والمسكين من كال لَهُ مَالٌ
أَوْ حِرْفَةٌ وَلَا يُغْنِيهِ، سَائِلًا أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ. فَالْمِسْكِينُ
عِنْدَهُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
"أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ" {الْكَهْفِ -79} أَثْبَتَ
لَهُمْ مِلْكًا مَعَ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ.
وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: الْفَقِيرُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ.
وَقَالَ القُتَيْبِيُّ: الْفَقِيرُ: الَّذِي لَهُ الْبُلْغَةُ مِنَ الْعَيْشِ،
وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ.
وَقِيلَ: الْفَقِيرُ مِنْ لَهُ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ، وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا
مِلْكَ لَهُ. وَقَالُوا: كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ
وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ" (غَافِرٍ -15)، وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ
إِلَى كُلِّ شَيْءٍ أَلَا تَرَى كَيْفَ حَضَّ عَلَى إِطْعَامِهِ، وَجَعَلَ طَعَامَ
الْكَفَّارَةِ لَهُ وَلَا فَاقَةَ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى سَدِّ
الْجَوْعَةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْفُقَرَاءُ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ،
وَالْمَسَاكِينُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ: الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ عِبَارَتَانِ عَنِ الْحَاجَةِ
وَضَعْفِ الْحَالِ، فَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي كَسَرَتِ الْحَاجَةُ
فِقَارَ ظَهْرِهِ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي ضَعُفَتْ نَفْسُهُ وَسَكَنَتْ عَنِ
الْحَرَكَةِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ،
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ، يَعْنِي: ابْنَ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عُدَيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا
أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَأَلَاهُ عَنِ الصَّدَقَةِ [فَصَعَّدَ فِيهِمَا
وَصَوَّبَ] (1) فَقَالَ: "إِنْ شئتما أعطيتكما ولاحظّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا
لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ" (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْغَنِىِّ الَّذِي يُمْنَعُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ: فَقَالَ
الْأَكْثَرُونَ: حَدُّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ سَنَةً،
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: حَدُّهُ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
__________
(1) ما بين القوسين من مسند الشافعي.
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب فيمن يعطى من الصدقة: 2 / 233، والنسائي في
الزكاة، باب مسألة الغني المكتسب: 5 / 99-100، والشافعي في المسند: 1 / 244،
والطحاوي في شرح معاني الآثار: 2 / 15، والمصنف في شرح السنة: 6 / 81. قال الإمام
أحمد: ما أجوده من حديث! انظر: التلخيص الحبير: 3 / 108.
وَقَالَ
قَوْمٌ: مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، لِمَا
رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا
يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ
خُدُوشٌ أَوْ كَدَوحٌ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: "خَمْسُونَ
دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ" (1) . وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ
وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى
الرَّجُلُ مِنَ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَقِيلَ:
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا لِمَا رُوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ
سَأَلَ إِلْحَافًا" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } وَهُمُ السُّعَاةُ الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَ قَبْضَ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَهْلِهَا وَوَضْعَهَا فِي حَقِّهَا،
فَيُعْطَوْنَ مَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، فُقَرَاءً كَانُوا أَوْ أَغْنِيَاءً،
فَيُعْطَوْنَ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: لَهُمُ الثُّمُنُ مِنَ الصَّدَقَةِ.
{ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } فَالصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
لِلصَّدَقَةِ هُمُ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ
مُسْلِمُونَ، وَقِسْمٌ كُفَّارٌ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ: فَقِسْمَانِ، قِسْمٌ
دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَنِيَّتُهُمْ ضَعِيفَةٌ فِيهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ تَأَلُّفًا كَمَا أَعْطَى
عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ
مِرْدَاسٍ ، أَوْ أَسْلَمُوا وَنِيَّتُهُمْ قَوِيَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمْ
شُرَفَاءُ فِي قَوْمِهِمْ مِثْلُ: عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ
بَدْرٍ، فَكَانَ يُعْطِيهِمْ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِمْ، وَتَرْغِيبًا
لِأَمْثَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يُعْطِيَهُمْ مِنْ خُمْسِ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَالْفَيْءِ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُعْطِيهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ بِإِزَاءِ قَوْمٍ كَفَّارٍ فِي مَوْضِعٍ مُتَنَاطٍ (3) لَا
تَبْلُغُهُمْ جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِمُؤْنَةٍ كَثِيرَةٍ وَهُمْ لَا
يُجَاهِدُونَ، إِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ أَوْ لِضَعْفِ حَالِهِمْ، فَيَجُوزُ
لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ.
وَقِيلَ: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ. وَمِنْهُمْ قَوْمٌ بِإِزَاءِ جَمَاعَةٍ مِنْ
مَانِعِي الزَّكَاةِ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ يَحْمِلُونَهَا إِلَى
الْإِمَامِ، فَيُعْطِيهِمُ الْإِمَامُ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلِّفَةِ مِنَ
الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغنى: 2 / 226،
والترمذي في الزكاة، باب ما جاء من تحل له الزكاة: 3 / 313-314 وقال: حديث حسن،
وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. وأخرجه النسائي في الزكاة، باب
حد الغنى: 5 / 97، وابن ماجه في الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى، برقم (1840): 1 /
589، والمصنف في شرح السنة: 6 / 83.
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب من يعطى من الصدقة: 2 / 228-229، والنسائي في
الزكاة، باب إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها: 5 / 98-99، والمصنف في شرح السنة:
6 / 84.
(3) متناط: متناءٍ بعيد.
رُوِيَ
أَنَّ عُدَيَّ بْنَ حَاتِمٍ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ بِثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ
الْإِبِلِ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْهَا ثَلَاثِينَ
بَعِيرًا.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ: فَهُوَ مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ مِنْهُمْ،
أَوْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، فَيُرِيدُ الْإِمَامُ أَنَّ يُعْطِيَ هَذَا حَذَرًا
مِنْ شَرِّهِ، أَوْ يُعْطِيَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُ في الإسلام 160/أ فَقَدْ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ خُمْسِ
الْخُمْسِ، كَمَا أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ لِمَا يَرَى مِنْ مَيْلِهِ
إِلَى الْإِسْلَامِ، أَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَلَهُ
الْحَمْدُ، وَأَغْنَاهُ أَنْ يُتَأَلَّفَ عَلَيْهِ رِجَالٌ، فَلَا يُعْطَى
مُشْرِكٌ تَأَلُّفًا بِحَالٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ مُنْقَطِعَةٌ وَسَهْمَهُمْ سَاقِطٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عِكْرِمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ،
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: سَهْمُهُمْ ثَابِتٌ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَهُوَ
قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي ثَوْرٍ،
وَقَالَ أَحْمَدُ: يُعْطَونَ إِنِ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَفِي الرِّقَابِ } وَالصِّنْفُ الْخَامِسُ: هُمُ
الرِّقَابُ، وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ، لَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يُشْتَرَى بِسَهْمِ الرِّقَابِ عَبِيدٌ فَيُعْتَقُونَ. وَهَذَا
قَوْلُ الْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْغَارِمِينَ } الصِّنْفُ السَّادِسُ هُمْ:
الْغَارِمُونَ، وَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ دَانُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي غَيْرِ
مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
مِنَ الْمَالِ مَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ وَفَاءٌ فَلَا
يُعْطَوْنَ، وَقِسْمٌ أَدَانُوا فِي الْمَعْرُوفِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ
فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ مَا يَقْضُونَ بِهِ دُيُونَهُمْ،
وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ
لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ
عَلَى الْمَسَاكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ، أَوْ لِعَامِلٍ
عَلَيْهَا" (1) .
وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَّصِلًا بِمَعْنَاهُ (2) .
__________
(1) رواه مرسلا: مالك في الموطأ، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذها:
1 / 268، وأبو داود في الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني: 2 / 234-235.
(2) أخرجه أبو داود في الموضع السابق نفسه، وابن ماجه في الزكاة برقم (1841): 1 /
590. والمصنف في شرح السنة: 6 / 89.
أَمَّا
مَنْ كَانَ دَيْنُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَرَادَ بِهَا: الْغُزَاةَ،
فَلَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، يُعْطَوْنَ إِذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى
الْغَزْوِ، وَمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَمْرِ الْغَزْوِ مِنَ: النَّفَقَةِ،
وَالْكُسْوَةِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْحُمُولَةِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَلَا
يُعْطَى مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَجِّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ أَنْ يُصَرَفَ سَهْمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى
الْحَجِّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ،
وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَابْنَ السَّبِيلِ } الصِّنْفُ الثَّامِنُ: هُمْ أَبْنَاءُ
السَّبِيلِ، فَكُلُّ مَنْ يُرِيدُ سَفَرًا مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا
يَقْطَعُ بِهِ الْمَسَافَةَ يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ بِقَدْرِ مَا يَقْطَعُ بِهِ
تِلْكَ الْمَسَافَةَ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي الْبَلَدِ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ
مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الضَّيْفُ.
وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ: ابْنُ السَّبِيلِ: الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَرِيضَةً } أَيْ: وَاجِبَةً { مِنَ اللَّهِ } وَهُوَ نَصْبٌ
عَلَى الْقَطْعِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: فَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ فَرِيضَةً. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَفِي جَوَازِ
صَرْفِهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ:
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا كُلُّهَا إِلَى
بَعْضِهِمْ مَعَ وُجُودِ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: يَجِبُ أَنْ تُقَسَّمَ زَكَاةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ
مَالِهِ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ
سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ، لِأَنَّ سَهْمَ
الْمُؤَلَّفَةِ سَاقِطٌ، وَسَهْمَ الْعَامِلِ إِذَا قُسِّمَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ
حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَى أَقَلِّ مِنْ
ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ إِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكَثُرُ، فَلَوْ فَاوَتَ
بَيْنَ أُولَئِكَ الثَّلَاثِ يَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ بَعْضِ
الْأَصْنَافِ إِلَّا وَاحِدٌ صُرِفَ حِصَّةُ ذَلِكَ الصِّنْفِ إِلَيْهِ مَا لَمْ
يَخْرُجْ عَنْ حَدِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنِ انْتَهَتْ حَاجَتُهُ وَفَضُلَ شَيْءٌ
رَدَّهُ إِلَى الْبَاقِينَ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الْكُلَّ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ
هَذِهِ الْأَصْنَافِ، أَوْ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا
سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ إِعْلَامًا مِنْهُ
أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُخْرَجُ عَنْ هَذِهِ
الْأَصْنَافِ،
لَا إِيجَابًا لِقَسْمِهَا بَيْنَهُمْ جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، قَالَ:
يَجُوزُ أَنْ يَضَعَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَتَفْرِيقُهَا أَوْلَى.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْإِجْزَاءَ
قَسَّمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ
وَاحِدٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ، وَيُقَدِّمُ
الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْخُلَّةِ وَالْحَاجَةِ، فَإِنْ رَأَى
الْخُلَّةَ فِي الْفُقَرَاءِ فِي عَامٍ أَكْثَرَ قَدَّمَهُمْ، وَإِنْ رَآهَا فِي
عَامٍ فِي صِنْفٍ آخَرَ حَوَّلَهَا إِلَيْهِمْ.
وَكُلُّ مَنْ دُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الصَّدَقَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ
الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ عَلَى قَدْرِ غِنَاهُ، فَإِذَا حَصَلَ
أَدْنَى اسْمُ الْغِنَى لَا يُعْطَى بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَرِفًا لَكِنَّهُ
لَا يَجِدُ آلَةَ حِرْفَتِهِ: فَيُعْطَى قَدْرَ مَا يُحَصِّلُ بِهِ آلَةَ
حِرْفَتِهِ، وَلَا يُزَادُ الْعَامِلُ عَلَى أَجْرِ عَمَلِهِ، وَالْمُكَاتَبُ
عَلَى قَدْرِ مَا يُعْتَقُ بِهِ، وَلِلْغَرِيمِ عَلَى قَدْرِ دَيْنِهِ، وَلِلْغَازِي
عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِهِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَالْمَقَامِ فِي مَغْزَاهُ
وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ
عَلَى قَدْرِ إِتْيَانِهِ مَقْصِدَهُ أَوْ مَآلَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ،
مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِيهِ: فَكَرِهَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ،
لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ،
أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ،
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْن إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الصَّيْفِيِّ عَنْ أَبِي مِعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ
فَقَالَ: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى
شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ،
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ
خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ
فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ
فَتَرُدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ
وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" (1) .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ أَغْنِيَاءِ كُلِّ قَوْمٍ تُرَدُّ عَلَى
فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْقَوْمِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نُقِلَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أُدِّيَ
مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ ذِمَّتِهِ، إِلَّا ما
__________
(1) أخرجه الشيخان وقد تقدم.
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
حُكي
160/ب عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ
صَدَقَةً حُمِلَتْ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ
خُرَاسَانَ.
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ
أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) } .
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } نَزَلَتْ
فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا يَنْبَغِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا
تَفْعَلُوا، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا تَقُولُونَ فَيَقَعُ بِنَا.
فَقَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْهُمْ: بَلْ نَقُولُ مَا شِئْنَا، ثُمَّ نَأْتِيهِ
فَنُنْكِرُ مَا قُلْنَا، وَنَحْلِفُ فَيُصَدِّقُنَا بِمَا نَقُولُ، فَإِنَّمَا
مُحَمَّدٌ أُذُنٌ (1) أَيْ: أُذُنٌ سَامِعَةٌ، يُقَالُ: فَلَانٌ أُذُنٌ وأُذُنَةٌ
عَلَى وَزْن فُعُلَةٍ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ كُلَّ مَا قِيلَ لَهُ وَيَقْبَلُهُ.
وَأَصْلُهُ مِنْ أَذِنَ يَأْذَنُ أُذُنًا أَيِ: اسْتَمَعَ. وَقِيلَ: هُوَ أُذُنٌ
أَيْ: ذُو أُذُنٍ سَامِعَةٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ رَجُلًا
أَذْلَمَ، ثَائِرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ، أَسْفَعَ
الْخَدَّيْنِ، مُشَوَّهَ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ
فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلَ بْنِ الْحَارِثِ"، وَكَانَ يَنِمُّ حَدِيثَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا
تَفْعَلْ، فَقَالَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ فَمَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَقَهُ،
فَنَقُولُ مَا شِئْنَا، ثُمَّ نَأْتِيهِ وَنَحْلِفُ بِاللَّهِ فَيُصَدِّقُنَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } قَرَأَهُ الْعَامَّةُ
بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: مُسْتَمِعُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ لَكُمْ، لَا مُسْتَمِعَ شَرٍّ
وَفَسَادٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ والبُرْجُمِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: { أُذُنٌ
خَيْرٌ لَكُمْ } مَرْفُوعَيْنِ مُنَوَّنَيْنِ، يَعْنِي: أَنْ يَسْمَعَ مِنْكُمْ
وَيُصَدِّقَكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَكُمْ وَلَا يَقْبَلُ
قَوْلَكُمْ، ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ } أَيْ: لَا بَلْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أَيْ: يُصَدِّقُ
الْمُؤْمِنِينَ وَيَقْبَلُ مِنْهُمْ لَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ. يُقَالُ:
أَمِنْتُهُ وَأَمِنْتُ لَهُ بِمَعْنَى صَدَّقْتُهُ. { وَرَحْمَةٌ } قَرَأَ
حَمْزَةُ: " وَرَحْمَةٍ " بِالْخَفْضِ عَلَى مَعْنَى أُذُنُ خَيْرٍ
لَكُمْ، وَأُذُنُ رَحْمَةٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَرَحْمَةٌ"
بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ، وَهُوَ رَحْمَةٌ { لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ } لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ. { وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص (286)، سيرة ابن هشام: 1 / 521.
(2) ذكره ابن إسحاق بلاغا: 1 / 521، وانظر: الطبري: 14 / 324، أسباب النزول ص
(286)والدر المنثور: 4 / 227.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ
يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا
ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ
اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) } .
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ:
اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ الْجُلَاسُ بْنُ سُوِيدٍ،
وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَوَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقًّا فَنَحْنُ شَرٌّ
مِنَ الْحَمِيرِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ
عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ، فَحَقَّرُوهُ وَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَغَضِبَ
الْغُلَامُ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقٌّ وَأَنْتُمْ شَرٌّ
مِنَ الْحَمِيرِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ، فَدَعَاهُمْ وَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَحَلَفُوا أَنَّ عَامِرًا كَذَّابٌ. وَحَلَفَ عَامِرٌ أَنَّهُمْ
كَذَبَةٌ فَصَدَّقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ
عَامِرٌ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا
عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَتَوْهُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ" { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يُخَالِفُ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَكُونُوا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ
الْعَظِيمُ } أَيِ: الْفَضِيحَةُ الْعَظِيمَةُ.
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } أَيْ: يَخْشَى الْمُنَافِقُونَ، { أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ } أَيْ: تُنَزَّلُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، { سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ
بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } أَيْ: بِمَا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْحَسَدِ
وَالْعَدَاوَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا يَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَيُسِرُّونَ وَيَخَافُونَ الْفَضِيحَةَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ وَالْمُبَعْثِرَةَ
وَالْمُثِيرَةَ، أَثَارَتْ مَخَازِيَهُمْ وَمَثَالِبَهُمْ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى ذِكْرَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِأَسْمَائِهِمْ
وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ ثُمَّ نَسَخَ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ رَحْمَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلَّا يُعَيِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لِأَنَّ أَوْلَادَهُمْ
كَانُوا مُؤْمِنِينَ.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 4 / 228، أسباب النزول ص: (287)، الطبري: 14 / 329.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
{
قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ } مُظْهِرٌ { مَا تَحْذَرُونَ } .
قَالَ ابْنُ كِيسَانَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ
الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الْعَقَبَةِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِهِ إِذَا
عَلَاهَا، وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مُسْلِمٌ يُخْفِيهِمْ شَأْنَهُ، وَتَنَكَّرُوا لَهُ
فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَدَّرُوا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ
يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ يَقُودُ بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ، وَحُذَيْفَةُ يَسُوقُ
بِهِ، فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ: اضْرِبْ وُجُوهَ رَوَاحِلَهُمْ فَضَرَبَهَا حَتَّى
نَحَّاهَا، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِحُذَيْفَةَ: مَنْ عَرَفْتَ مِنَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: لَمْ أَعْرِفْ مِنْهُمْ
أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"فَإِنَّهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلَّهُمْ، فَقَالَ
حُذَيْفَةُ: أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلَهُمْ؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ
تَقُولَ الْعَرَبُ. لَمَّا ظَفِرَ بِأَصْحَابِهِ أَقْبَلَ يَقْتُلُهُمْ، بَلْ
يَكْفِينَاهُمُ اللَّهُ بِالدُّبَيْلَةِ" (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ
عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قُلْنَا لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتَ قِتَالَكُمْ
أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَإِنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، أَوْ عَهْدًا
عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ:
مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا
لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي أُمَّتِي -قَالَ شُعْبَةُ
وَأَحْسَبُهُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ قَالَ فِي أُمَّتِي-اثْنَا عَشَرَ
مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا، حَتَّى يَلِجَ
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ،
سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ، حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ
صُدُورِهِمْ" (2) .
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ } الْآيَةُ، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَ
الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ، اثْنَانِ يَسْتَهْزِئَانِ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ،
وَالثَّالِثُ يَضْحَكُ.
قِيلَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَغْلِبُ الرُّومَ
وَيَفْتَحُ مَدَائِنَهُمْ مَا أَبْعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ!
وَقِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي
أَصْحَابِنَا الْمُقِيمِينَ بِالْمَدِينَةِ قُرْآنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ
وَكَلَامُهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى ذَلِكَ؛ فَقَالَ: احْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْبَ، فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ:
قُلْتُمْ
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 4 / 244.
(2) أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2779): 4 / 2143.
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
كَذَا
وَكَذَا، فَقَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، أَيْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ
وَنَخُوضُ فِي الْكَلَامِ كَمَا يَفْعَلُ الرَّكْبُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ
بِالْحَدِيثِ وَاللَّعِبِ.
قَالَ عمر (1) فلقد 161/أ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَشْتَدُّ
قُدَّامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحِجَارَةُ
تَنْكُبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، مَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَزِيدُ
عَلَيْهِ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ } أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ }
كِتَابِهِ، { وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } .
{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) } .
{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ
قَالَ: كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟.
قِيلَ: مَعْنَاهُ:أَظْهَرْتُمُ الْكَفْرَ بَعْدَمَا أَظْهَرْتُمُ الْإِيمَانَ.
{ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } أَيْ: نَتُبْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْكُمْ،
وَأَرَادَ بِالطَّائِفَةِ وَاحِدًا، { نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا
مُجْرِمِينَ } بِالِاسْتِهْزَاءِ. قَرَأَ عَاصِمٌ: "نَعْفُ" بِالنُّونِ
وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الْفَاءِ، "نُعَذِّبْ" بِالنُّونِ وَكَسْرِ
الذَّالِ، { طَائِفَةً } نُصِبَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "يُعْفَ"
بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ، { تُعَذَّبْ } بِالتَّاءِ وَفَتْحِ
الذَّالِ، "طَائِفٌ" رُفِعَ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الَّذِي عَفَا عَنْهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، هُوَ
مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيِّ، يُقَالُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَضْحَكُ
وَلَا يَخُوضُ، وَكَانَ يَمْشِي مُجَانِبًا لَهُمْ وَيُنْكِرُ بَعْضَ مَا
يَسْمَعُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَزَالُ أَسَمَعُ آيَةً تُقْرَأُ أُعْنَى بِهَا تَقْشَعِرُّ
الْجُلُودُ مِنْهَا، وَتَجِبُ (3) مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ
وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّا غُسِّلْتُ أَنَا
كُفِّنْتُ أَنَا دُفِنْتُ، فَأُصِيبَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عُرِفَ مَصْرَعُهُ غَيْرَهُ (4) .
__________
(1) هكذا في النسختين: "قال عمر". والصواب: "ابن عمر".
(2) انظر: تفسير الطبري: 14 / 333-334، أسباب النزول للواحدي ص (288)، الدر
المنثور: 4 / 230-231.
(3) وجب قلبه يجب وجيبا: خفق واضطرب.
(4) سيرة ابن هشام: 2 / 525. وفيه: مخشِّن بن حمير، ويقال: مَخْشِيّ.
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) } .
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ
أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ
وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ
اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ }
أَيْ: هُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ بِالِاجْتِمَاعِ
عَلَى النِّفَاقِ، { يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ } بِالشَّرَكِ وَالْمَعْصِيَةِ، {
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، { وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ } أَيْ: يُمْسِكُونَهَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا يَبْسُطُونَهَا بِخَيْرٍ، { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } تَرَكُوا
طَاعَةَ اللَّهِ، فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ فِي
الدُّنْيَا، وَمِنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَرَكَهُمْ فِي عَذَابِهِ، {
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } كَافِيَتُهُمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ،
{ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ } أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ } دَائِمٌ.
{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَيْ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قبلكم
بالعدول من أَمْرِ اللَّهِ، فَلُعِنْتُمْ كَمَا لُعِنُوا { كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ
قُوَّةً } بَطْشًا وَمَنَعَةً، { وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا
فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ } فَتَمَتَّعُوا أَوِ انْتَفَعُوا بِخَلَاقِهِمْ؛
بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَرَضُوا بِهِ عِوَضًا
عَنِ الْآخِرَةِ، { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ } أَيُّهَا الْكُفَّارُ
وَالْمُنَافِقُونَ، { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ
} وَسَلَكْتُمْ سَبِيلَهُمْ، { وَخُضْتُمْ } فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، {
كَالَّذِي خَاضُوا } أَيْ: كَمَا خَاضُوا. وَقِيلَ: كَالَّذِي يَعْنِي كَالَّذِينِ
خَاضُوا، وَذَلِكَ أَنَّ "الَّذِي" اسْمٌ نَاقِصٌ، مِثْلُ
"مَا" وَ"مَنْ" يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ،
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا"
ثُمَّ قَالَ: "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" (الْبَقْرَةِ -17).
{
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } أَيْ: كَمَا حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَخَسِرُوا كَذَلِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُكُمْ وَخَسِرْتُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ مِنَ الْيَمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا
بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ"، قُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ"؟ وَفِي
رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "فَهَلِ النَّاسُ إِلَّا هُمْ"، وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنْتُمْ أَشْبَهُ الْأُمَمِ
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَمْتًا وَهَدْيًا تَتَّبِعُونَ عَمَلَهُمْ حَذْوَ
الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ غَيْرَ أَنِّي لَا أَدْرِي أَتَعْبُدُونَ الْعِجْلَ أَمْ
لَا؟" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ يَأْتِهِمْ } يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، { نَبَأُ }
خَبَرُ، { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } حِينَ عَصَوْا رُسُلَنَا، وَخَالَفُوا
أَمْرَنَا كَيْفَ عَذَّبْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَهُمْ، فَقَالَ: {
قَوْمِ نُوحٍ } أُهْلِكُوا بِالطُّوفَانِ، { وَعَادٍ } أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ {
وَثَمُودَ } بِالرَّجْفَةِ، { وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ } بِسَلْبِ النِّعْمَةِ
وَهَلَاكِ نَمْرُودَ، { وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ } يَعْنِي قَوْمَ شُعَيْبٍ
أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } الْمُنْقَلِبَاتِ
الَّتِي جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ، { أَتَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } فَكَذَّبُوهُمْ وَعَصَوْهُمْ كَمَا فَعَلْتُمْ يَا
مَعْشَرَ الْكُفَّارِ، فَاحْذَرُوا تَعْجِيلَ النِّقْمَةِ، { فَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ } فِي الدِّينِ وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ وَالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ. {
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، {
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } عَنِ الشِّرْكِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لتتبعن سنن من كان قبلكم.." 13 / 300، ومسلم في العلم، باب اتباع سنن
اليهود والنصارى، برقم (2669): 4 / 2054، والمصنف في شرح السنة: 14 / 392.
وَالْمَعْصِيَةِ
وَمَا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ، { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } الْمَفْرُوضَةَ، {
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } مَنَازِلَ
طَيِّبَةً، { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أَيْ: بَسَاتِينُ خُلْدٍ وَإِقَامَةٍ،
يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ، أَيْ: وَسَطُهَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا
يُقَالُ لَهُ: "عَدَنٌ" حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ، لَهُ
خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَصْرٌ مِنْ ذَهَبٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ
صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ حَكَمٌ عَدْلٌ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: "عَدَنٌ" نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ
[جِنَانُهُ] (1) عَلَى حَافَّتَيْهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: "عَدَنٌ" أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي
الْجَنَّةِ، وَفِيهَا عَيْنُ التَّسْنِيمِ، وَالْجِنَانُ حَوْلَهَا، مُحْدِقَةٌ
بِهَا، وَهِيَ مُغَطَّاةٌ مِنْ حِينِ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى
يَنْزِلَهَا أَهْلُهَا: الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ
وَالصَّالِحُونَ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيهَا قُصُورُ الدُّرِّ
وَالْيَوَاقِيتُ وَالذَّهَبُ، فَتَهُبُّ رِيحٌ طَيِّبَةٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ
فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمْ كُثْبَانُ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ الْأَبْيَضِ.
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ: رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ أَكْبَرُ
مِنْ ذَلِكَ، { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } رَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا
أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فيقولون: ربنا ومالنا لَا نَرْضَى وَقَدْ
أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَفَلَا
أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ
أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ
عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (2) .
__________
(1) في "ب": (جنباته).
(2) أخرجه البخاري في التوحيد، باب كلام الرب مع أهل الجنة: 13 / 487، وفي الرقاق
أيضا، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة برقم
(2829) 4 / 2176، والمصنف في شرح السنة: 15 / 231-232.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ
أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا
لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
(74) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ } بِالسَّيْفِ
وَالْقَتْلِ، { وَالْمُنَافِقِينَ } وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ جِهَادِ
الْمُنَافِقِينَ، قال ابن 161/ب مَسْعُودٍ: بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَقَالَ لَا تَلَقَ
الْمُنَافِقِينَ إِلَّا بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ (1) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
بِاللِّسَانِ وَتَرْكِ الرِّفْقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِتَغْلِيظِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. { وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ } فِي الْآخِرَةِ،. { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
قَالَ عَطَاءٌ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ
حُجْرَةٍ فَقَالَ: "إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ
بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ"، فَلَمْ يَلْبَثُوا
أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ"؟
فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ، مَا
قَالُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوِيدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ
بِتَبُوكَ، فَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَسَمَّاهُمْ رِجْسًا وَعَابَهُمْ، فَقَالَ
جُلَاسٌ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لِنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ.
فَسَمِعَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَجَلْ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ
وَأَنْتُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ
فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْجُلَاسُ، فَقَالَ الْجُلَاسُ: كَذَبَ عَلَيَّ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِفَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَقَامَ الْجُلَاسُ عِنْدَ
الْمِنْبَرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
مَا قَالَهُ، وَلَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ عَامِرٌ، ثُمَّ قَامَ عَامِرٌ فَحَلَفَ
بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ قَالَهُ وَمَا
__________
(1) أخرجه الطبري عن ابن مسعود: 14 / 358. ومعنى: بوجه مكفهر: عابس منقبض، لا
طلاقة فيه ولا بشر ولا انبساط.
(2) أخرجه الطبري: 14 / 363، وصحح الشيخ شاكر إسناده. وزاد السيوطي نسبته للطبراني
وأبي الشيخ وابن مردويه. الدر المنثور: 4 / 241.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
كَذَبْتُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ
عَلَى نَبِيِّكَ تَصْدِيقَ الصَّادِقِ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ: آمِينَ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، حَتَّى بَلَغَ:
{ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ } فَقَامَ الْجُلَاسُ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَسْمَعُ [اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] (1) قَدْ عَرَضَ عَلَيَّ
التَّوْبَةَ، صَدَقَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فِيمَا قَالَهُ، لَقَدْ قُلْتُهُ وَأَنَا
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْهُ
وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ } أَيْ: أَظْهَرُوا الْكَفْرَ بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ
وَالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: هِيَ سَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْكُفْرِ قَوْلُ الْجُلَاسِ: لَئِنْ كَانَ
مُحَمَّدٌ صَادِقًا لِنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْكُفْرِ
قَوْلُهُمْ "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ"، (الْمُنَافِقِينَ -8 ) وَسَتَأْتِي تِلْكَ الْقِصَّةُ
[فِي مَوْضِعِهَا فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ] (2) { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ
يَنَالُوا } قَالَ مُجَاهِدٌ: هَمَّ الْمُنَافِقُونَ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ الَّذِي
سَمِعَ قَوْلَهُمْ: لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، لِكَيْ لَا يُفْشِيَهُ.
وَقِيلَ: هُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَقَفُوا عَلَى
الْعَقَبَةِ فِي طَرِيقِ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأمَرَهُ أَنْ
يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلَهُمْ، فَأَرْسَلَ حُذَيْفَةَ لِذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالُوا إِذَا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَقَدْنَا عَلَى
رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ تَاجًا، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ.
{ وَمَا نَقَمُوا } وَمَا كَرِهُوا وَمَا أَنْكَرُوا مِنْهُمْ، { إِلَّا أَنْ
أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } وَذَلِكَ أَنَّ مَوْلَى
الْجُلَاسِ قُتِلَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِدِيَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاسْتَغْنَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَانُوا قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَنْكٍ
مِنَ الْعَيْشِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَغْنَوْا بِالْغَنَائِمِ.
{ فَإِنْ يَتُوبُوا } مِنْ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ { يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ
يَتَوَلَّوْا } يُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ، { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا
أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا } بِالْخِزْيِ، { وَالْآخِرَةِ } أَيْ: وَفِي الْآخِرَةِ
بِالنَّارِ، { وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } الْآيَةُ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ حَامِدٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) زيادة من المطبوع.
مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ،
حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا مُعَانُ (1) بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ يَزِيدَ (2) عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ
خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ"، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ تَسِيرَ
الْجِبَالُ مَعِي ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَارَتْ" ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا فَوَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَ كُلَّ ذِي حَقِّ
حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالًا".
قَالَ: فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ
الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا وَهِيَ
تَنْمُو كَالدُّودِ، فَكَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَيُصَلِّي فِي غَنَمِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ،
ثُمَّ كَثُرَتْ وَنَمَتْ حَتَّى تَبَاعَدَ بِهَا عَنِ الْمَدِينَةِ، فَصَارَ لَا
يَشْهَدُ إِلَّا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فَنَمَتْ فَتَبَاعَدَ أَيْضًا حَتَّى
كَانَ لَا يَشْهَدُ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً. فَكَانَ إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ خَرَجَ يَتَلَقَّى النَّاسَ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ،
فَذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ
ثَعْلَبَةُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ ثَعْلَبَةُ غَنَمًا مَا
يَسَعُهَا وَادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ".
فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الصَّدَقَاتِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَرَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ
وَكَتَبَ لَهُمَا أَسْنَانَ الصَّدَقَةِ، كَيْفَ يَأْخُذَانِ؟ وَقَالَ لَهُمَا:
"مُرَّا بِثَعْلَبَةَ بن حاطب، و[بفلان]، رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَخُذَا
صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ
وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، انْطَلِقَا
حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ عُودَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَا وَسَمِعَ بِهِمَا
السُّلَمِيُّ فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ
ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمَا بِهَا فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: مَا هَذِهِ عَلَيْكَ.
قَالَ: خُذَاهُ فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، فَمَرَّا عَلَى النَّاسِ
فَأَخَذَا الصَّدَقَاتِ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُوْنِي
كِتَابَكُمَا فَقَرَأَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ،
اذْهَبَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي.
قَالَ فَأَقْبَلَا فَلَمَّا رَآهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَاهُ قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ
ثَعْلَبَةَ، ثُمَّ دَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِخَيْرٍ، فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ
ثَعْلَبَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ
اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } 162/أ الْآيَةَ، إِلَى
قَوْلِهِ: { وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ
__________
(1) في "أ" (معاذ) (بالذال).
(2) في الأصل: (زيد) وهو خطأ.
فَسَمِعَ
ذَلِكَ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُ فَقَالَ: وَيَحُكَ يَا ثَعْلَبَةُ لِقَدْ أَنْزَلَ
اللَّهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ الصَّدَقَةَ،
فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ،
فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُكَ وَقَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي،
فَلَمَّا أَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبِضَ
صَدَقَتَهُ، رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَقُبِضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: لِمَ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ أَنَا أَقْبَلُهَا؟ فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَقْبَلْهَا.
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ أَتَاهُ فَقَالَ: اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ
يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، أَنَا أَقْبَلُهَا
مِنْكَ؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَتَاهُ فَلَمْ يَقْبَلْهَا
مِنْهُ، وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ (1) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: أَتَى ثَعْلَبَةُ
مَجْلِسًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَشْهَدَهُمْ لَئِنْ آتَانِيَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ آتَيْتُ مِنْهُ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقِّهِ، وَتَصَدَّقَتُ مِنْهُ،
وَوَصَلْتُ الرَّحِمَ، وَأَحْسَنْتُ إِلَى الْقَرَابَةِ، فَمَاتَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ
[فَوَرَّثَهُ] (2) مَالًا فَلَمْ يَفِ بِمَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ (3) .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَمُعَتِّبِ
بْنِ قُشَيْرٍ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ
قُعُودٍ وَقَالَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ [مَالًا] (4)
لَنَصَّدَّقَنَّ، فَلَمَّا رَزَقَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَخِلَا بِهِ (5)
فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمِنْهُمْ } يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ { مَنْ عَاهَدَ
اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } وَلِنُؤَدِّيَن حَقَّ
اللَّهِ مِنْهُ. { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } نَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الصَّلَاحِ فِيهِ؛ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْخَيْرِ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 14 / 370-372، والواحدي في أسباب النزول ص (290-292)، وابن
الأثير في أسد الغابة: 1 / 284-285، وأشار إلى أنه مخرج عن ابن منده وأبي نعيم
وابن عبد البر في الاستيعاب 10 / 210، وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: "فيه علي
بن يزيد الألهاني، وهو متروك". وعزاه السيوطي في الدر: 4 / 246 والهيثمي في
المجمع: 7 / 21 للحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والعسكري في
الأمثال وابن مردويه وأبي نعيم في معرفة الصحابة، وابن عساكر. ومعان بن رفاعة
السلمي: لين الحديث، وعلي بن يزيد: ضعيف بمرة. فالخبر ضعيف. قال فيه ابن حجر:
"وهذا إسناد ضعيف جدا" وقال الشيخ محمود شاكر: "هو ضعيف كل الضعف
-ليس له شاهد من غيره- وفي بعض رواته ضعف شديد". وفي كون المراد بالآية ثعلبة
بن حاطب. نظر. فإنه بدري. وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية" وحكى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه تبارك وتعالى أنه قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم) فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه، وينزل فيه ما
ينزل؟ وثعلبة بن حاطب رضي الله عنه، الذي شهد بدرا، قتل في غزوة أحد، وفي هذ
الرواية أنه هلك في عهد عثمان رضي الله عنه، فتأكد أنه ليس هو ثعلبة بن حاطب البدري.
وانظر: الكافي الشاف ص (77)، الإصابة: 1 / 401، الحاوي للفتاوى: 2 / 183.
(2) في (أ): فورث منه.
(3) انظر: الطبري: 14 / 373-374، الدر المنثور: 4 / 247.
(4) ساقط من "أ".
(5) الطبري: 14 / 374-375.
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) }
.
"فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ". { فَأَعْقَبَهُم } فَأَخَلَفَهُمْ، { نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ
} أَيْ: صَيَّرَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمُ النِّفَاقَ، يُقَالُ: أَعْقَبَ فَلَانَا
نَدَامَةً إِذَا صَيَّرَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: عَاقَبَهُمْ
بِنِفَاقِ قُلُوبِهِمْ. يُقَالُ: عَاقَبْتُهُ وَأَعْقَبْتُهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. {
إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } يُرِيدُ حَرَمَهُمُ التَّوْبَةَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، { بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ } .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَيْسَفُونِيُّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِق ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا
وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائتُمِنَ خَانَ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ
وَنَجْوَاهُمْ } يَعْنِي: مَا أَضْمَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَمَا تَنَاجَوْا بِهِ
بَيْنَهُمْ، { وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الْآيَةُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ
آلَافٍ جِئْتُكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَاجْعَلْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَأَمْسَكْتُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ لِعِيَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ
وَفِيمَا أَمْسَكْتَ"، فَبَارَكَ اللَّهُ فِي
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب علامات المنافق: 1 / 89، ومسلم في الإيمان، باب
خصال المنافق، برقم (59): 1 / 78، والمصنف في شرح السنة: 1 / 72.
مَالِهِ
حَتَّى إِنَّهُ خَلَّفَ امْرَأَتَيْنِ يَوْم مَاتَ فَبَلَغَ ثُمُنُ مَالِهِ
لَهُمَا مِائَةً وَسِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَتَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ عَاصِمُ بْنُ
عُدَيٍّ الْعَجْلَانِيُّ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ. وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ
الْأَنْصَارِيُّ وَاسْمُهُ الْحَبَّابُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ بِتُّ لَيْلَتِي أَجُرُّ بِالْجَرِيرِ الْمَاءَ حَتَّى نِلْتُ صَاعَيْنِ
مِنْ تَمْرٍ فَأَمْسَكْتُ أَحَدَهُمَا لِأَهْلِي وَأَتَيْتُكَ بِالْآخَرِ
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْثُرَهُ
فِي الصَّدَقَةِ، فَلَمِزَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَقَالُوا: مَا أَعْطَى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَعَاصِمٌ إِلَّا رِيَاءً، وَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ
عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُذْكِّرَ بِنَفْسِهِ
لِيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (1)
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أَيْ: يَعِيبُونَ { الْمُطَّوِّعِينَ }
الْمُتَبَرِّعِينَ { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } يَعْنِي: عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَعَاصِمًا. { وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ
} أَيْ: طَاقَتُهُمْ، يَعْنِي: أَبَا عَقِيلٍ. وَالْجُهْدُ: الطَّاقَةُ،
بِالضَّمِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ
بِالْفَتْحِ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ
وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } يَسْتَهْزِئُونَ
مِنْهُمْ، { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } أَيْ: جَازَاهُمُ اللَّهُ عَلَى
السُّخْرِيَةِ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
__________
(1) انظر: الطبري: 14 / 383-388، الدر المنثور: 4 / 249-250.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا
يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ
تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) } .
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } لَفْظُهُ أَمْرٌ،
وَمَعْنَاهُ خَبَرٌ، تَقْدِيرُهُ: اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَذِكْرُ عَدَدِ السَّبْعِينَ
لِلْمُبَالِغَةِ فِي الْيَأْسِ عَلَى طَمَعِ الْمَغْفِرَةِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَخَّصَ لِي فَلَأَزِيدَنَّ
عَلَى السَّبْعِينَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ"، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ } (1) .
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ } عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَالْمُخَلَّفُ: الْمَتْرُوكُ
{ بِمَقْعَدِهِمْ } أَيْ بِقُعُودِهِمْ
__________
(1) الطبري: 14 / 395، الدر المنثور: 4 / 253.
{
خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ } قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مُخَالَفَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَارَ وَأَقَامُوا، { وَكَرِهُوا أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، {
قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } يَعْلَمُونَ
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا } فِي الدُّنْيَا، { وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } فِي
الْآخِرَةِ. تَقْدِيرُهُ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا فَسَيَبْكُونَ كَثِيرًا، {
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي،
أَنْبَأَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ [الْحُسَيْنِ
الْعَلَوِيُّ] قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنِ
الشَّرْقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ
كَثِيرًا" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا [أَبُو
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ] (2) يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
زَيْدٍ الثَّعْلَبِيِّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا
فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ فِي النَّارِ حَتَّى تَسِيلَ
دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الدُّمُوعُ،
فَتَسِيلُ الدِّمَاءُ فَتَقَرَّحُ الْعُيُونُ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُجْرِيَتْ
فِيهَا لَجَرَتْ" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله تعالى: "لا تسألوا عن أشياء إن تبد
لكم تسؤكم": 8 / 280، ومسلم في الفضائل، باب توقيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، برقم (2359): 4 / 1832، والمصنف في شرح السنة: 14 / 368-369.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وأضعف من فيه يزيد الرقاشي، وقد وُثِّق على ضعفه.
انظر: المجمع: 10 / 391، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 252.
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
قَوْلُهُ
تَعَالَى: { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ } أَيْ: رَدَّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ، { إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } يَعْنِي: مِنَ الْمُخَلَّفِينَ. وَإِنَّمَا
قَالَ: "طَائِفَةٍ مِنْهُمْ" لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَخَلَّفَ
عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ مُنَافِقًا، { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } مَعَكَ
فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى، { فَقُلْ } لَهُمْ { لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا } فِي
سَفَرٍ، { وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ } فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } أَيْ:
مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَقِيلَ مَعَ الزَّمْنَى والمرضى.
وقال 162/ب ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَقِيلَ: { مَعَ الْخَالِفِينَ } قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: صَاحِبٌ خَالِفٌ
إِذَا كَانَ مُخَالِفًا.
{ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
(85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ
رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ
الْقَاعِدِينَ (86) } .
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
} .
{ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الْآيَةَ. قَالَ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ: بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَهْلَكَكَ
حُبُّ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ
لِتُؤَنِّبَنِي، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي، وَسَأَلَهُ أَنْ
يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ
عَقِيلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ:
لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلِمَا قَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ
كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أَخِّرْ عَنِّي يَا
عُمَرُ" فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ،
لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ
عَلَيْهَا، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ
الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } إِلَى قَوْلِهِ: { وَهُمْ فَاسِقُونَ } قَالَ:
فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبَدِ اللَّهِ قَالَ:
أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ
عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ فِي فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا.
قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ هَارُونُ: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
[أَلْبِسْ أَبِي] قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِالْعَبَّاسِ
وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين.. 3 / 228.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ 3 / 214.
أُبَيٍّ
يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ عَبْدَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ
لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ
يُكَافِئَهُ (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِيمَا
فَعَلَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلَاتِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَاللَّهِ
إِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ"، وَرُوِيَ
أَنَّهُ أَسْلَمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَوْهُ يَتَبَرَّكُ
بِقَمِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
قَوْلُهُ: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ } وَلَا تَقِفْ عَلَيْهِ، وَلَا تَتَوَلَّ دَفْنَهُ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: قَامَ فَلَانٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ: إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ. { إِنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَمَا صَلَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا عَلَى مُنَافِقٍ وَلَا
قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى قُبِضَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ "
{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ
اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ } ذَوُو الْغِنَى وَالسَّعَةِ مِنْهُمْ
فِي الْقُعُودِ، { وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } فِي
رِحَالِهِمْ.
{ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } يَعْنِي النِّسَاءَ. وَقِيلَ: مَعَ
أَدْنِيَاءِ النَّاسِ وَسَفَلَتِهِمْ. يُقَالُ: فَلَانٌ خَالِفَةُ قَوْمِهِ إِذَا
كَانَ دُونَهُمْ. { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } .
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } يَعْنِي:
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب الكسوة للأسارى: 6 / 144.
(2) أخرجه الطبري: 14 / 409-410، والخازن: 3 / 108، وعزاه السيوطي لأبي الشيخ.
انظر: الدر المنثور: 4 / 259، أسباب النزول للواحدي ص (295).
الْحَسَنَاتِ،
وَقِيلَ: الْجَوَارِي الْحِسَانُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}، جَمْعُ خَيْرَةٍ (1) وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ [الْخَيْرَ] (2) لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ جَلَّ
ذِكْرُهُ: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ" (السَّجْدَةِ-17). { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ
لَهُمْ } الْآيَةُ، قَرَأَ يَعْقُوبُ وَمُجَاهِدٌ: { َ الْمُعْذِرُونَ }
بِالتَّخْفِيفِ وَهُمُ الْمُبَالِغُونَ فِي الْعُذْرِ، يُقَالُ فِي الْمَثَلِ:
"لَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ" أَيْ: بَالَغَ فِي الْعُذْرِ مَنْ
قَدَّمَ النِّذَارَةَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ " الْمُعَذِّرُونَ " بِالتَّشْدِيدِ
أَيِ: الْمُقَصِّرُونَ، يُقَالُ: عَذَّرَ أَيْ: قَصَّرَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْمُعَذِّرُونَ الْمُعْتَذِرُونَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ وَنُقِلَتْ
حَرَكَةُ التَّاءِ إِلَى الْعَيْنِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُعَذِّرُونَ هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بن الطفيل جاؤوا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ
فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ غَزَوْنَا مَعَكَ تُغير أعراب طيء
عَلَى حَلَائِلِنَا وَأَوْلَادِنَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَنْبَأَنِي اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ وَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ" (3) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ بِإِذْنِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
{ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ.
قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ مُسِيئًا قَوْمٌ
تَكَلَّفُوا عُذْرًا بِالْبَاطِلِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ: { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ } وَقَوْمٌ تَخْلَّفُوا عَنْ غَيْرِ
تَكَلُّفِ عُذْرٍ فَقَعَدُوا جُرْأَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ
__________
(1) قال الطبري: "الخيرات": هي خيرات الآخرة، وذلك، نساؤها، وجناتها،
ونعيمها. واحدتها: "خَيْرَة"، كما قال الشاعر: ولقد طَعَنْتُ مُجَامِعَ الرَّبَلاَتِ
... رَبَلاَتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الْمَلَكَاتِ
"والخيرة" من كل شيء، الفاضلة. انظر: تفسير الطبري: 14 / 414-415.
(2) في "أ": (الخيرات).
(3) انظر: البحر المحيط: 5 / 84.
(4) انظر: تفسير الطبري: 14 / 418.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
الْمُنَافِقُونَ
فَأَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى
الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ
عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا
يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) } .
ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْعُذْرِ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: { لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الزَّمْنَى وَالْمَشَايِخَ وَالْعَجَزَةَ.
وَقِيلَ: هُمُ الصِّبْيَانُ وَقِيلَ: النِّسْوَانُ، { وَلَا عَلَى الْمَرْضَى
وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ } يَعْنِي الْفُقَرَاءَ {
حَرَجٌ } مَأْثَمٌ. وَقِيلَ: ضِيقٌ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ، { إِذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } فِي مَغِيبِهِمْ وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ
وَالْعَمَلَ لِلَّهِ وَبَايَعُوا الرَّسُولَ. { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ
سَبِيلٍ } أَيْ: مِنْ طَرِيقٍ بِالْعُقُوبَةِ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَأَصْحَابِهِ (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن أَمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ
ضَرِيرَ الْبَصَرِ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ }
مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَلَا عَلَى هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ أَتَوْكَ وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ سُمُّوا الْبَكَّائِينَ: مَعْقِلُ بْنُ
يَسَارٍ، وَصَخْرُ بن خَنْسَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ،
وَعُلْبَةُ (3) بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ
بْنُ غَنَمَةَ (4) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزْنِيُّ، أَتَوْا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ قَدْ نَدَبَنَا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَكَ فَاحْمِلْنَا (5) .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: { لِتَحْمِلَهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلُوهُ
أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ.
وَقِيلَ سَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْخِفَافِ المرفوعة والنعال 163/أ
الْمَخْصُوفَةِ، لِيَغْزُوا مَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" تَوَلَّوْا، وَهُمْ
يَبْكُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }
__________
(1) انظر: الطبري: 14 / 420.
(2) قارن بالدر المنثور: 4 / 262.
(3) في الأصل: (علية)، وفي المطبوع: (عبلة). والتصويب من الروض الأنف للسهيلي: 2 /
321.
(4) في "أ" (عثمة).
(5) أخرجه الطبري: 14 / 423، وانظر: السيرة لابن هشام: 2 / 518، أسباب النزول
للواحدي ص (296)، إمتاع الأسماع للمقريزي: 1 / 448.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) } .
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ
إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ
إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) } .
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ } بِالْعُقُوبَةِ، { عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ }
فِي التَّخَلُّفِ { وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ
} مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، { وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ } .
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } يُرْوَى أَنَّ
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانُوا بِضْعَةً
وَثَمَانِينَ نَفَرًا، فَلَمَّا رَجَعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جاؤوا يَعْتَذِرُونَ بِالْبَاطِلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { قُلْ لَا
تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } لَنْ نُصَدِّقَكُمْ، { قَدْ نَبَّأَنَا
اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } فِيمَا سَلَفَ، { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ } فِي الْمُسْتَأْنَفِ أَتَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِكُمْ أَمْ تُقِيمُونَ
عَلَيْهِ؟ { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ } إِذَا
انْصَرَفْتُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ غَزْوِكُمْ، { لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ }
لِتَصْفَحُوا عَنْهُمْ وَلَا تُؤَنِّبُوهُمْ، { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ }
فَدَعَوْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ، { إِنَّهُمْ
رِجْسٌ } نَجِسٌ أَيْ: إِنَّ عَمَلَهُمْ قَبِيحٌ، { وَمَأْوَاهُمْ } فِي
الْآخِرَةِ، { جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي جَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ
وَأَصْحَابِهِمَا وَكَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ:
"لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ" (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حَلَفَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا
يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بَعْدَهَا، وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ
الْآيَةَ، وَنَزَلَ:
__________
(1) انظر الرواية عن ابن عباس مطولة في: الطبري: 14 / 426-427. وقوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجالسوهم..." عزاه السيوطي لابن أبي
حاتم وأبي الشيخ. انظر: الدر المنثور: 4 / 266.
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (1) .
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ
الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ
مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا
قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(99) } .
{ الْأَعْرَابُ } أَيْ: أَهْلُ الْبَدْوِ، { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } مِنْ
أَهْلِ الْحَضَرِ، { وَأَجْدَرُ } أَخْلَقُ وَأَحْرَى، { أَلَّا يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } وَذَلِكَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ
سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } بِمَا فِي
قُلُوبِ خَلْقِهِ { حَكِيمٌ } فِيمَا فَرَضَ مِنْ فَرَائِضِهِ.
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا } قَالَ عَطَاءٌ:
لَا يَرْجُو (2) عَلَى إِعْطَائِهِ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُ عَلَى إِمْسَاكِهِ
عِقَابًا، إِنَّمَا يُنْفِقُ خَوْفًا أَوْ رِيَاءً وَالْمَغْرَمُ الْتِزَامُ مَا
لَا يُلْزَمُ. { وَيَتَرَبَّصُ } وَيَنْتَظِرُ { بِكُمُ الدَّوَائِرَ } يَعْنِي:
صُرُوفَ الزَّمَانِ، الَّتِي تَأْتِي مَرَّةً بِالْخَيْرِ وَمَرَّةً بِالشَّرِّ.
وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ: يَعْنِي يَنْقَلِبُ الزَّمَانُ عَلَيْكُمْ
فَيَمُوتُ الرَّسُولُ وَيَظْهَرُ الْمُشْرِكُونَ، { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ } [عَلَيْهِمْ] (3) يَدُورُ الْبَلَاءُ وَالْحَزَنُ. وَلَا يَرَوْنَ فِي
مُحَمَّدٍ وَدِينِهِ إِلَّا مَا يَسُوءُهُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: { دَائِرَةُ السَّوْءِ } ها هنا وَفِي
سُورَةِ الْفَتْحِ، بِضَمِّ السِّينِ، مَعْنَاهُ: الضُّرُّ وَالْبَلَاءُ
وَالْمَكْرُوهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ.
وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ الرِّدَّةُ وَالْفَسَادُ، وَبِالضَّمِّ الضُّرُّ
وَالْمَكْرُوهُ.
{ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ أَسَدٍ وغَطَفَانَ
وَتَمِيمٍ (4) . ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } قَالَ
مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمُ
وَغِفَارٌ وَجُهَيْنَةُ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 4 / 89-90.
(2) في "ب": (يرجون... يخافون).
(3) ساقط من "أ".
(4) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (297)، الدر المنثور: 4 / 266.
أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَنْبَأَنَا جَدِّي
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا العَذَافِرِيُّ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسَلَمُ وَغِفَارٌ وَشَيْءٌ
مِنْ جُهَيْنَةَ ومُزَيْنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ
تَمِيمٍ وَأَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَهَوَازِنَ وغَطَفَانَ" (1) .
{ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } الْقُرُبَاتُ جَمْعُ
الْقُرْبَةِ، أَيْ: يَطْلُبُ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، { وَصَلَوَاتِ
الرَّسُولِ } أَيْ: دُعَاءَهُ وَاسْتِغْفَارَهُ، قَالَ عَطَاءٌ: يَرْغَبُونَ فِي
دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. { أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ
لَهُمْ } قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ "قُرُبَةٌ" بِضَمِّ
الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا. { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ }
فِي جَنَّتِهِ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب ذكر أسلم... 6 / 543، ومسلم في فضائل الصحابة،
باب فضائل غفار، برقم (2521): 4 / 1955، والمصنف في شرح السنة: 14 / 65.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } .
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } الْآيَةَ.
قَرَأَ يَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ:
"وَالسَّابِقُونَ".
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ،
وَقَتَادَةُ، وَابْنُ سَيْرَيْنَ وَجَمَاعَةٌ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوا إِلَى
الْقِبْلَتَيْنِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هُمْ أهْلُ بَدْرٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ
بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ امْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا
أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ وَصَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ
إِسْحَاقَ، أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بَعْدَ خَدِيجَةَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
وَالشَّعْبِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهُوَ قَوْلُ
الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ فَيَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ الْعَبِيدِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَكَانَ رَجُلًا
مُحَبَّبًا سَهْلًا وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ وَأَعْلَمَهَا بِمَا كَانَ فِيهَا،
وَكَانَ تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ
وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرِ؛ لِعِلْمِهِ وَحُسْنِ
مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثَقَ بِهِ مَنْ
قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ -فِيمَا بَلَغَنِي-: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ،
وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا
وَصَلَّوْا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ النَّفَرَ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى
الْإِسْلَامِ (1) . ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ،
أَمَّا السَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانُوا
سِتَّةً (2) فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى، وَسَبْعِينَ فِي الثَّانِيَةِ،
وَالَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ
يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ خُلُقٌ كَثِيرٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ }
الَّذِينَ هَاجَرُوا قَوْمَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ وَفَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ. {
وَالْأَنْصَارِ } أَيْ: وَمِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَآوَوْا أَصْحَابَهُ، { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ }
قِيلَ: هُمْ بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار سوى 163/ب السَّابِقِينَ
الْأَوَّلِينَ.
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ أَوِ
النُّصْرَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ
بِالتَّرَحُّمِ وَالدُّعَاءِ.
وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ: أَتَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعَّبٍ
الْقُرَظِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا قَوْلُكَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ، فَقُلْتُ
مِنْ أَيْنَ تَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا هَذَا اقْرَأْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } إِلَى
أَنْ قَالَ: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَالَ: { وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } شَرَطَ فِي التَّابِعَيْنِ شَرِيطَةً وَهِيَ أَنْ
يَتْبَعُوهُمْ فِي أَفْعَالِهِمُ الْحَسَنَةِ دُونَ السَّيِّئَةِ.
قَالَ أَبُو صَخْرٍ: فَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ قَطُّ (3) .
رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا
تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ
أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 249-252 (طبعة الحلبي).
(2) في "أ": (سبعة).
(3) عزاه السيوطي في الدر: 4 / 272 لأبي الشيخ وابن عساكر.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
مَا
أَدْرَكَ مَدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (1) .
ثُمَّ جَمَعَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الثَّوَابِ فَقَالَ: { رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا
الْأَنْهَارُ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وَكَذَلِكَ
هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ، { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ } .
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ
سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ }
وَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ، كَانَتْ
مَنَازِلُهُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ، { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَوْمٌ مُنَافِقُونَ، { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ }
أَيْ: مُرِّنُوا عَلَى النِّفَاقِ، يُقَالُ: تَمَرَّدَ فَلَانٌ عَلَى رَبِّهِ
أَيْ: عَتَا، وَمَرَدَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، أَيْ: مُرِّنَ وَثَبَتَ عَلَيْهَا
وَاعْتَادَهَا. وَمِنْهُ: الْمُرِيدُ وَالْمَارِدُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
لَجُّوا فِيهِ وَأَبَوْا غَيْرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقَامُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتُوبُوا.
{ لَا تَعْلَمُهُمْ } أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ
سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } اخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنَ الْعَذَابَيْنِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَطِيبَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: "اخْرُجْ يَا فُلَانُ
فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ اخْرُجْ يَا فُلَانُ. أَخْرَجَ نَاسًا مِنَ الْمَسْجِدِ
وَفَضَحَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ. وَالثَّانِي: عَذَابُ
الْقَبْرِ" (2) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوَّلُ: الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ، وَالثَّانِي: عَذَابُ
الْقَبْرِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: عُذِّبُوا بِالْجُوعِ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الدُّبَيْلَةُ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأُولَى الْمَصَائِبُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
فِي الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى عَذَابُ الْآخِرَةِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأُولَى إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَالْأُخْرَى
عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ الْإِسْلَامِ
وَدُخُولِهِمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حِسْبَةٍ ثُمَّ عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ
قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَالْأُخْرَى عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَقِيلَ: الْأُولَى إِحْرَاقُ مَسْجِدِهِمْ، مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالْأُخْرَى
إِحْرَاقِهِمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ (3) . { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
أَيْ: إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ يَخْلُدُونَ فِيهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "لو كنت متخذا خليلا...": 7 / 21، ومسلم في فضائل الصحابة،
باب تحريم سبّ الصحابة، برقم (2541): 4 / 1967-1968، والمصنف في شرح السنة 14 /
69.
(2) أخرجه الطبري من رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: 14 / 441-442، وعزاه
الهيثمي للطبراني في الأوسط أيضا، وقال: فيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي وهو
ضعيف. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 34.
(3) انظر هذه الأقوال في: الطبري: 14 / 441-445، الدر المنثور: 4 / 274. قال
الطبري رحمه الله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر
أنه يعذِّب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرتين ولم يضع لنا دليلا يوصل به إلى علم
صفة ذينك العذابين - وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس
عندنا علم بأيِّ ذلك من أيّ. غير أن في قوله جل ثناؤه: "ثم يردون إلى عذاب
عظيم"، دلالة على أن العذاب في المرتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من
إحدى المرتين أنها في القبر".
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآخَرُونَ } أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوْ: مِنَ
الْأَعْرَابِ آخَرُونَ، وَلَا يَرْجِعُ هَذَا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، {
اعْتَرَفُوا } أَقَرُّوا، { بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا } وَهُوَ
إِقْرَارُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَوْبَتُهُمْ { وَآخَرَ سَيِّئًا } أَيْ: بِعَمَلٍ
آخَرَ سَيِّئٍ، وَضْعُ الْوَاوِ مَوْضِعَ الْبَاءِ، كَمَا يُقَالُ: خَلَطْتُ
الْمَاءَ وَاللَّبَنَ، أَيْ: بِاللَّبَنِ.
وَالْعَمَلُ السَّيِّئُ: هُوَ تَخَلُّفُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ نَدَامَتُهُمْ وَرَبْطُهُمْ أَنْفُسَهُمْ
بِالسَّوَارِي وَقِيلَ: غَزَوَاتُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ،
وَقَالُوا: نَكُونُ فِي الظِّلَالِ مَعَ النِّسَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْجِهَادِ وَاللَّأْوَاءِ!
فَلَمَّا قَرُبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْمَدِينَةِ قَالُوا وَاللَّهِ لَنُوثِقَنَّ أَنْفُسَنَا بِالسَّوَارِي فَلَا
نُطْلِقُهَا حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهَا، وَيَعْذُرُنَا، فَأَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي
الْمَسْجِدِ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّ بِهِمْ فَرَآهُمْ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
تَخَلَّفُوا عَنْكَ فَعَاهَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُطْلِقُوا
أَنْفُسَهُمْ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تُطْلِقُهُمْ وَتَرْضَى عَنْهُمْ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ
لَا أُطْلِقُهُمْ وَلَا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى أُومَرَ بِإِطْلَاقِهِمْ، رَغِبُوا
عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ! فَأَنْزِلُ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ، فَلَمَّا أُطْلِقُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا
وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ
شَيْئًا"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
} الْآيَةَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَعْدَادِ هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ:
كَانُوا عَشَرَةً مِنْهُمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ
كَانُوا خَمْسَةً أَحَدُهُمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ:
كَانُوا سَبْعَةً. وَقَالُوا جَمِيعًا: أَحَدُهُمْ أَبُو لُبَابَةَ (2) .
وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ خَاصَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي
ذَنْبِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ
لِقُرَيْظَةَ: إِنْ نَزَلْتُمْ عَلَى حُكْمِهِ فَهُوَ الذَّبْحُ وَأَشَارَ إِلَى
حَلْقِهِ (3) .
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 14 / 447-450، أسباب النزول ص (297-298).
(2) انظر في هذه الأقوال: الطبري: 14 / 447-450، الدر المنثور: 4 / 275 وما بعدها.
(3) الطبري: 14 / 451-452.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَبْطَ نَفْسَهُ
بِسَارِيَةٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحِلُّ نَفْسِي وَلَا أَذُوقُ طَعَامًا
وَلَا شَرَابًا، حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ! فَمَكَثَ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ لَا يَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تِيْبَ
عَلَيْكَ!، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحِلُّ نَفْسِي حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحِلُّنِي، فَجَاءَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ
أَبُو لُبَابَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ
قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي
كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ: يَجْزِيكَ يَا أَبَا
لُبَابَةَ الثُّلْثُ (1) .
قَالُوا جَمِيعًا: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُلْثَ أَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكَ الثُّلْثَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } وَلَمْ يَقِلْ: خُذْ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ سِوَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } بِهَا
مِنْ ذُنُوبِهِمْ، { وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أَيْ: تَرْفَعُهُمْ مِنْ مَنَازِلِ
الْمُنَافِقِينَ إِلَى مَنَازِلِ الْمُخْلِصِينَ. وَقِيلَ: تُنَمِّي أَمْوَالَهُمْ
{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أَيِ: ادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ
قَوْلُ السَّاعِي [لِلْمُصَّدِّقِ] (2) إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْهُ: آجَرَكَ
اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ. وَالصَّلَاةُ فِي
اللُّغَةِ : الدُّعَاءُ. { إِنَّ صَلَاتَكَ } قَرَأَ حمزة والكسائي: 164/أ
"صَلَاتَكَ" عَلَى التَّوْحِيدِ؛ ونصب التاء ها هنا وَفِي سُورَةِ هُودٍ
"أَصَلَاتُك" وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ "عَلَى صَلَاتِهِمْ"
[كُلُّهُنَّ عَلَى التَّوْحِيدِ] (3) وافقهما حفص ها هنا وَفِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ فِيهِنَّ ويكسرون التاء ها هنا.
{ سَكَنٌ لَهُمْ } أَيْ: إِنَّ دُعَاءَكَ رَحْمَةٌ لَهُمْ. قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: طُمَأْنِينَةٌ لَهُمْ، وَسُكُونٌ لَهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ قَدْ قَبِلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَثْبِيتٌ
لِقُلُوبِهِمْ. { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدُّعَاءِ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ أَخْذِ
الصَّدَقَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَيَسْتَحِبُّ فِي صَدَقَةِ
التَّطَوُّعِ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ
يَدْعُوَ لِلْمُعْطِي.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ أَبِي أَوْفَى -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ-قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمُهُ بِصَدَقَةٍ قَالَ:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ"، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى" (4) .
__________
(1) الطبري: 14 / 452.
(2) زيادة من المطبوع، يقتضيها السياق.
(3) زيادة من المطبوع، يقتضيها السياق.
(4) أخرجه البخاري في الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة: 3 / 361،
ومسلم في الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة، برقم (1078): 2 / 756-757، والمصنف في
شرح السنة: 5 / 485.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وَقَالَ
ابْنُ كَيْسَانِ: لَيْسَ هَذَا فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ إِنَّمَا هُوَ فِي صَدَقَةِ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تَوْبَةُ
هَؤُلَاءِ قَالَ الَّذِينَ لَمَّ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلَاءِ
كَانُوا مَعَنَا بِالْأَمْسِ لَا [يُكَلَّمُونَ] (1) وَلَا يُجَالَسُون، فَمَا
لَهُمْ؟
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا
يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) } .
فَقَالَ تَعَالَى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } أَيْ: يَقْبَلُهَا، { وَأَنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَنْبَأَنَا
الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ
كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طِيبًا وَلَا يَصْعَدُ إِلَى
السَّمَاءِ إِلَّا طِيبٌ إِلَّا كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ
وَجَلَّ فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ
اللُّقْمَةَ لِتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا لِمِثْلُ الْجَبَلِ
الْعَظِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ: { أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا وَعِيدٌ
لَهُمْ. قِيلَ: رُؤْيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَرُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيقَاعِ
الْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْبِغْضَةِ لِأَهْلِ
الْفَسَادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا
يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ: "مُرْجَوْنَ"
بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَالْآخَرُونَ: بِالْهَمْزِ، وَالْإِرْجَاءُ: التَّأْخِيرُ،
مُرْجَوْنَ: مُؤَخَّرُونَ. لِأَمْرِ اللَّهِ: لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فِيهِمْ، وَهُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تَأْتِي قِصَّتُهُمْ مِنْ بَعْدُ: كَعْبُ
بْنُ مَالِكٍ،
__________
(1) في "ب": يكالمون.
(2) أخرجه الشافعي بإسناد حسن: المسند: 1 / 220، والمصنف في شرح السنة: 6 / 131،
وصححه الحاكم على شرط الشيخين 2 / 335، وأصل معنى الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما
عن أبي هريرة رضي الله عنه. انظر: تعليق الشيخ شاكر على الطبري: 6 / 18-20.
وَهِلَالُ
بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، لَمْ يُبَالِغُوا فِي التَّوْبَةِ
وَالِاعْتِذَارِ كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ، فَوَقَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَنَهَى النَّاسَ عَنْ
مُكَالَمَتِهِمْ (1) وَمُخَالَطَتِهِمْ، حَتَّى شَقَّهُمُ الْقَلَقُ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَجَعَلَ
أُنَاسٌ يَقُولُونَ: هَلَكُوا، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَغْفِرَ لَهُمْ، فَصَارُوا مُرْجَئِيْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [لَا يَدْرُونَ] (2)
أَيُعَذِّبُهُمْ أَمْ يَرْحَمُهُمْ، حَتَّى نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ
خَمْسِينَ لَيْلَةً (3) .
__________
(1) في "أ" (مخالطتهم).
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر: الطبري: 14 / 466، أسباب النزول ص (298).
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ (107) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا } قَرَأَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَالشَّامِ "الَّذِينَ" بَلَا وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
مَصَاحِفِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَالَّذِينَ" بِالْوَاوِ. {
مَسْجِدًا ضِرَارًا } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ، بَنَوْا مَسْجِدًا يُضَارُّونَ بِهِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَكَانُوا
اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ،
وَجُذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجُ هَذَا الْمَسْجِدُ، وَثَعْلَبَةُ
بْنُ حَاطِبٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ،
وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ حَنِيفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ،
وَأَبُو حُبَيْبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَبِجَادُ بْنُ
عُثْمَانَ، وَرَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بَحْزَجُ، (1) بَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ
ضِرَارًا، يَعْنِي: مُضَارَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، { وَكُفْرًا } بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ، { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
جَمِيعًا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَبَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ،
لِيُصَلِّيَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الِاخْتِلَافِ وَافْتِرَاقِ
الْكَلِمَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ.
فِلْمًا فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ، وَاللَّيْلَةِ
الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا
وَتُصَلِّيَ بنا فيه وتدعوا لَنَا بِالْبَرَكَةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وَلَوْ
قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ" (2)
.
__________
(1) في "أ": (بخدج) وفي "ب": "بخرج" والمثبت من
الطبري: 14 / 469، 471 مع تعليق الشيخ محمود شاكر.
(2) انظر في قصة مسجد الضرار: الطبري: 14 / 468-475، أسباب النزول ص (298-300)،
سيرة ابن هشام: 2 / 530، الدر المنثور: 4 / 482 وما بعدها، وضعفه الألباني في
تخريج "فقه السيرة" للغزالي ص (427). وقال ابن حجر: ذكره الثعلبي بغير
إسناد...، وفي سياق الطبري: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مالك
بن الدخشم ومعن بن عدي. ولم يذكر وحشيًّا وعامر بن السكن. ورواه ابن مردويه من
طريق ابن إسحاق، قال: ذكر الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخي رهم أنه سمع أبا
رهم الغفاري؛ فذكر نحوه. وأما كونهم بنوه بسبب أبي عامر الراهب: فرواه ابن مردويه
من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: الكافي الشاف ص (81).
{
وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ } أَيِ: انْتِظَارًا
وَإِعْدَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لَهُ:
إِذَا أَعْدَدْتُ لَهُ. وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ
هَذَا رَجُلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ أَبُو حَنْظَلَةَ غِسِّيلُ الْمَلَائِكَةِ،
وَكَانَ قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَتَنَصَّرَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ،
فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ
لَهُ أَبُو عَامِرٍ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: جِئْتُ
بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو عَامِرٍ: فَإِنَّا عَلَيْهَا،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكَ لَسْتَ
عَلَيْهَا"، قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّكَ أَدْخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا
لَيْسَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا
فَعَلْتُ وَلَكِنِّي جِئْتُ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً"، فَقَالَ أَبُو
عَامِرٍ: أَمَاتَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيدًا وَحِيدًا غَرِيبًا، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "آمِينَ". وَسَمَّاهُ
أَبَا عَامِرٍ الْفَاسِقَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ أَبُو عَامِرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجِدُ قَوْمًا يُقَاتِلُونَك إِلَّا قَاتَلْتُكَ
مَعَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُ إِلَى يَوْمِ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ
هَوَازِنُ يَئِسَ وَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ فَأَرْسَلَ إِلَى
الْمُنَافِقِينَ أَنِ اسْتَعَدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
سِلَاحٍ، وَابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ
الرُّومِ فَآتٍ بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ، فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ،
فَبَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ إِلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: { وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَهُوَ أَبُو
عَامِرٍ الْفَاسِقُ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ إِذَا رَجَعَ مِنَ الشَّامِ.
قَوْلُهُ: { مِنْ قَبْلُ } يَرْجِعُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ يَعْنِي حَارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ.
{ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } مَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ، { إِلَّا
الْحُسْنَى } إِلَّا الْفِعْلَةَ الْحُسْنَى وَهُوَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ
وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى أَهْلِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى
مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فِي قِيْلِهِمْ وَحَلِفِهِمْ.
رُوِيَ لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
تَبُوكَ وَنَزَلَ بِذِي أَوَانٍ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ أَتَوْهُ
فَسَأَلُوهُ إِتْيَانَ مسجدهم فدعا 164/ب بِقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ
وَيَأْتِيَهُمْ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
خَبَرَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمَا هَمُّوا بِهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ، وَمَعْنَ بْنَ عُدَيٍّ،
وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ، وَوَحْشِيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ، وَقَالَ لَهُمْ:
انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمُوهُ
وَاحْرُقُوهُ، فَخَرَجُوا سَرِيعًا حَتَّى أَتَوْا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ،
وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَنْظِرُونِي حَتَّى
أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، فَدَخْلَ أَهْلَهُ فَأَخَذَ سَعَفًا
مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ، حَتَّى
دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فحرَّقُوهُ وَهَدَمُوهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ
أَهْلُهُ، وَأمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ
ذَلِكَ كُنَاسَةً تُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ وَالنَّتْنُ وَالْقُمَامَةُ. وَمَاتَ
أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ بِالشَّامِ وَحِيدًا فَرِيدًا غَرِيبًا.
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
وَرُوِيَ
أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ قُبَاءٍ، أَتَوْا
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ لِيَأْذَنَ لِمُجَمَّعَ بْنَ حَارِثَةَ
فَيَؤُمَّهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ، فَقَالَ: لَا وَلَا نِعْمَةُ عَيْنٍ، أَلَيْسَ
بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ؟ فَقَالَ لَهُ مُجَمَّعٌ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ فِيهِ
وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ مَا أَضْمَرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ مَا صَلَّيْتُ
مَعَهُمْ فِيهِ، كُنْتُ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانُوا شُيُوخًا لَا
يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ فَصَلَّيْتُ وَلَا أَحْسَبُ إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ أَعْلَمْ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَعَذَرَهُ عُمَرُ
وَصَدَّقَهُ وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عُمَرَ الْأَمْصَارَ أمَرَ
الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبْنُوا الْمَسَاجِدَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْنُوا فِي
مَدِينَتِهِمْ مَسْجِدَيْنِ يُضَارُّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.
{ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ
يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا
تُصَلِّ فِيهِ" مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ. { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى } اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: لَامُ الْقَسَمِ،
تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ، أَيْ: بُنِيَ أَصْلُهُ عَلَى
التَّقْوَى، { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أَيْ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بُنِيَ وَوُضِعَ
أَسَاسُهُ، { أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } مُصَلِّيًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: فَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ
الْمَدِينَةِ، مَسْجِدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ:
مَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ قَالَ: مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوَى؟ فَقَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ
كَفًّا مِنَ الْحَصْبَاءِ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ
مَسْجِدُكُمْ هَذَا، مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنِّي
سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ (1) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشَّيْرَزِيُّ أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ
مَالِكٍ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ،
وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى ومسجد النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة برقم (1398): 2 / 1015.
(2) أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر
والمنبر: 3 / 70، ومسلم في الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة،
برقم (1391): 2 / 1011. والمصنف في شرح السنة: 2 / 338.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
وَذَهَبَ
قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ [وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ] (1)
وَقَتَادَةَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِد الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (2) .
وَزَادَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } مِنَ
الْأَحْدَاثِ وَالْجُنَابَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا
يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ وَلَا يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى الْجَنَابَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ القَاشَانِيُّ،
أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو
الْلُّؤْلُؤِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ
السِّجِسْتَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
أَهْلِ قُبَاءٍ": { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قَالَ:
"كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ"
(4) . { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } أَيِ الْمُتَطَهِّرِينَ.
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) } .
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ
"أُسِّسَ" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ،
"بُنْيَانُهُ" بِرَفْع النُّونِ فِيهِمَا جَمِيعًا عَلَى غَيْرِ
تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "أَسَّسَ" فَتْحُ
الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ، "بُنْيَانَهُ": بِنَصْبِ النُّونِ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري، في الموضع السابق: 3 / 69، ومسلم في الحج، باب فضل مسجد قباء،
برقم (1399): 2 / 1016-1017.
(3) في رواية مسلم في الموضع السابق.
(4) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الاستنجاء بالماء: 1 / 39، والترمذي في تفسير
سورة التوبة: 8 / 503، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي أيوب
وأنس بن مالك ومحمد بن عبد الله بن سلام، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب
الاستنجاء بالماء، برقم (357). وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (286).
وانظر: تلخيص الحبير: 1 / 112-113، خلاصة البدر المنير لابن الملقن: 1 / 50.
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
عَلَى
تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. { عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ } أَيْ:
عَلَى طَلَبِ التَّقْوَى وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ { أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا } عَلَى شَفِيرِ، { جُرُفٍ } قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ "جُرْفٍ" سَاكِنَةُ الرَّاءِ، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهِيَ الْبِئْرُ الَّتِي لَمَّ
تُطْوَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْهُوَّةُ وَمَا يَجْرُفُهُ السَّيْلُ مِنَ
الْأَوْدِيَةِ فَيَنْجَرِفُ (1) بِالْمَاءِ فَيَبْقَى وَاهِيًا، { هَارٍ } أَيْ:
هَائِرٌ وَهُوَ السَّاقِطُ يُقَالُ: هَارَ يَهُورُ فَهُوَ هَائِرٌ، ثُمَّ يُقْلَبُ
فَيُقَالُ: هَارٍ مِثْلُ شَاكٍ وَشَائِكٍ وَعَاقٍ وَعَائِقٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ
يُهَارُ: إِذَا انْهَدَمَ، وَمَعْنَاهُ: السَّاقِطُ الَّذِي يَتَدَاعَى بَعْضُهُ
فِي إِثْرِ بَعْضٍ، كَمَا يَنْهَارُ الرَّمْلُ وَالشَّيْءُ الرَّخْوُ. {
فَانْهَارَ بِهِ } أَيْ: سَقَطَ بِالْبَانِي { فِي نَارِ جَهَنَّمَ } يُرِيدُ
بِنَاءَ هَذَا الْمَسْجِدِ الضِّرَارِ كَالْبِنَاءِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ
فَيَهُورُ بِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يُرِيدُ صَيَّرَهُمُ النِّفَاقُ إِلَى النَّارِ.
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } قَالَ قَتَادَةُ (2) :
وَاللَّهِ مَا تَنَاهَى أَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ
حُفِرَتْ بُقْعَةٌ فِيهِ، فَرُئِيَ الدُّخَانُ يَخْرُجُ مِنْهَا. وَقَالَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ (3)
.
{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ
تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) } .
{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً } أَيْ: شَكًّا وَنِفَاقًا،
{ فِي قُلُوبِهِمْ } يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي بُنْيَانِهِ مُحْسِنِينَ
كَمَا حُبِّبَ الْعِجْلُ إِلَى قَوْمِ مُوسَى. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ لِأَنَّهُمْ
نَدِمُوا عَلَى بِنَائِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَزَالُ هَدْمُ بِنَائِهِمْ
رِيبَةً وَحَزَازَةً وَغَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ.
{ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أَيْ: تَتَصَدَّعَ قُلُوبُهُمْ
فَيَمُوتُوا. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ:
"تَقَطَّعَ" بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: تَتَقَطَّعُ. وَالْآخَرُونَ
بِضَمِّهَا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَدَّهُ: "إِلَى أَنْ" خَفِيفٌ، عَلَى
الْغَايَةِ، "تُقْطَعَ" بِضَمِّ التَّاءِ، خَفِيفٌ، مِنَ الْقَطْعِ
يَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ: لَا يَزَالُونَ فِي شَكٍّ
مِنْهُ إِلَى أَنْ
__________
(1) في "ب" (فينحفر). أي: يصير فيها حفرة.
(2) تفسير الطبري: 14 / 492-493.
(3) أخرجه الطبري: 14 / 495، وصححه الحاكم: 4 / 596 ووافقه الذهبي، وزاد السيوطي
نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. الدر المنثور: 4 / 292، وعزاه ابن
حجر في المطالب العالية: 3 / 340 لمسدد بزيادة.
يَمُوتُوا
فَيَسْتَيْقِنُوا. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ } الْآيَةُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا
بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة
العقبة 165/أ بِمَكَّةَ وَهْم سَبْعُونَ نَفْسًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ.
فَقَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي، أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ
مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ.
قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟
قَالَ: الْجَنَّةُ، قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ (1)
فَنَزَلَتْ: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (2) .
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: " بِالْجَنَّةِ " .
{ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "فَيُقْتَلُونَ" بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ
عَلَى الْفَاعِلِ بِمَعْنَى يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَقْتُلُ الْبَاقُونَ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ. { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } أَيْ:
ثَوَابُ الْجَنَّةِ لَهُمْ وَعْدٌ وحقٌ { فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمْ هَذَا الْوَعْدَ،
وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ. وَقِيلَ (3) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
أَهْلَ الْمِلَلِ كُلِّهُمْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ عَلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ،
ثُمَّ هَنَّأَهُمْ فَقَالَ: { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا } فَافْرَحُوا { بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ بَايَعَكَ وَجَعَلَ الصَّفْقَتَيْنِ لَكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ثَامَنَهُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَأَغْلَى لَهُمْ (4) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْمَعُوا إِلَى بَيْعَةٍ رَبِيحَةٍ بَايَعَ اللَّهُ بِهَا
كُلَّ مُؤْمِنٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا
فَاشْتَرِ الْجَنَّةَ بِبَعْضِهَا.
ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: { التَّائِبُونَ } قَالَ الْفَرَّاءُ: اسْتُؤْنِفَتْ
بِالرَّفْعِ لِتَمَامِ الْآيَةِ وَانْقِطَاعِ الْكَلَامِ. وَقَالَ
__________
(1) "أقاله البيع يقيلُه إقالة" و"تقايل البيعان": إذا فسخا
البيع، وعاد المبيع إلى مالكه، والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما.
وتكون "الإقالة" في البيعة والعهد. و"استقالة": طلب إليه أن
يقيله.
(2) أخرجه الطبري: 14 / 499. وانظر: الكافي الشاف ص (81) أسباب النزول ص (300).
(3) قيل: ساقطة من "أ".
(4) "ثامنت الرجل في المبيع": إذا قاولْتهُ في ثمنه وفاوضته، وساومته
على بيعه واشترائه وانظر: الطبري: 14 / 499.
الزَّجَّاجُ:
التَّائِبُونَ رُفِعَ لِلِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ. الْمَعْنَى:
التَّائِبُونَ -إِلَى آخَرِ الْآيَةِ-لَهُمُ الْجَنَّةُ أَيْضًا. أَيْ: مَنْ لَمْ
يُجَاهِدْ غَيْرَ مُعَانِدٍ وَلَا قَاصِدٍ لِتَرْكِ الْجِهَادِ، لِأَنَّ بَعْضَ
الْمُسْلِمِينَ يَجْزِي عَنْ بَعْضٍ فِي الْجِهَادِ، [فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ
صِفَتُهُ] (1) فَلَهُ الْجَنَّةُ أَيْضًا، وَهَذَا أَحْسَنُ، فَكَأَنَّهُ وَعَدَ
الْجَنَّةَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: "وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى" (النِّسَاءِ-95)، فَمَنْ جَعَلَهُ تَابِعًا لِلْأَوَّلِ كَانَ
الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ خَاصًّا لِلْمُجَاهِدِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ (2) .
__________
(1) ما بين القوسين في "ب".
(2) في "ب": الصفات.
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { التَّائِبُونَ } أَيِ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ
وَبَرِئُوا مِنَ النِّفَاقِ، { الْعَابِدُونَ } الْمُطِيعُونَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا
الْعِبَادَةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { الْحَامِدُونَ } الَّذِينَ يَحْمَدُونَ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى
الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ" (1) . { السَّائِحُونَ } قَالَ ابْن مَسْعُودٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمُ الصَّائِمُونَ (2) .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الصَّائِمُ سَائِحًا
لِتَرْكِهِ اللَّذَّاتِ كُلِّهَا مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالنِّكَاحِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ الْغُزَاةُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ: "إِنَّ سِيَاحَةَ
أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (3) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: السَّائِحُونَ هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ.
{ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } يَعْنِي: الْمُصَلِّينَ، { الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ } بِالْإِيمَانِ، { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } عَنِ
الشِّرْكِ. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ: السَّنَةُ، وَالْمُنْكَرُ: الْبِدْعَةُ. {
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } الْقَائِمُونَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: أَهْلُ الْوَفَاءِ بِبَيْعَةِ اللَّهِ. { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 1 / 502 وصححه على شرط مسلم، وأبو نعيم في الحلية:
5 / 69، قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الثلاثة، بأسانيد، وفي أحدها: قيس بن
الربيع: وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه يحيى القطان وغيره، وبقية رجاله رجال
الصحيح، ورواه البزار بنحوه، وإسناده حسن" مجمع الزوائد: 10 / 95. وأخرجه
المصنف في شرح السنة: 5 / 50، وفي سنده حبيب بن أبي ثابت، مدلس وقد عنعن.
(2) روي مرفوعا وموقوفا. والموقوف صحيح. انظر: الطبري: 14 / 502-504، الدر
المنثور: 4 / 297-298، تفسير ابن كثير: 2 / 393.
(3) حديث ضعيف رواه الطبراني، وفيه: معلى بن هلال، وهو متروك. والمصنف في شرح
السنة: 2 / 370-371، ورواه أبو داود في الجهاد من طريق أبي أمامة. وفي إسناده:
رشدين بن سعد. وانظر: مجمع الزوائد: 4 / 254 فقد روى الهيثمي أوله، وسلسلة
الأحاديث الضعيفة للألباني: 3 / 479.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) } .
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
} اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ قَوْمٌ: سَبَبُ نُزُولِهَا: مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِد بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ،
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا
طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ: فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً
أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ
وَيُعِيدَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا
كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وَأُنْزِلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: "إِنَّكَ
لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِعَمِّهِ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ
تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، فَيَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ،
لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّكَ لَا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ [ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ] (3)
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ
فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ
فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ"
(4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله: 3
/ 222، وفي مناقب الأنصار: 7 / 193، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام
من حضره الموت ما لم يشرع في النزع، برقم (24): 1 / 54، والمصنف في شرح السنة: 5 /
55.
(2) أخرجه مسلم، في الموضع السابق: 1 / 55.
(3) ساقط من "أ" واستدركناه من الصحيح.
(4) أخرجه البخاري في فضائل الأنصار، باب قصة أبي طالب: 1 / 193، وفي الرقاق: 11 /
417، ومسلم في الإيمان، باب شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي
طالب... برقم (210): 1 / 195، والمصنف في شرح السنة: 15 / 241.
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
وَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ وَبِرَيْدَةُ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ آمِنَةَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ
حَتَّى حَمِيَتِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ لَهَا
فَنَزَلَتْ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ } (1) الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ
أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ
فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا
تَذْكِّرُ الْمَوْتَ" (2) .
{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ
مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) } .
قَالَ قَتَادَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ":
"لَأَسْتَغْفِرَنَّ لِأَبِي. كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ"
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (3) .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَبِيهِ:
"سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي" سَمِعْتُ رَجُلًا
يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فقلت له: 165/ب تَسْتَغْفِرُ
لَهُمَا وَهُمَا مشركان؟ فقال: أو لم يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْرَاهِيمَ"، إِلَى قَوْلِهِ: "إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ" (4) (الْمُمْتَحَنَةُ -4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا
عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } قَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ فِي إِيَّاهُ
عَائِدَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْوَعْدُ كَانَ مِنْ
أَبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ
إِبْرَاهِيمُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي يَعْنِي إِذَا أَسْلَمْتَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَعْدَ أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ. وَهُوَ
قَوْلُهُ: "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي". يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ
الْحَسَنِ: "وَعَدَهَا أَبَاهُ" بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ.
__________
(1) أخرجه الطبري عن سليمان بن بريدة عن أبيه: 14 / 512، والإمام أحمد في المسند:
5 / 359 مطولا وبغير هذا اللفظ.
(2) أخرجه مسلم في الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، برقم (977): 2 / 672.
(3) أخرجه الطبري مطولا: 14 / 513.
(4) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة التوبة: 8 / 505، وقال: هذا حديث حسن، وفيه:
فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا...) وصححه الحاكم: 2 / 335، وأخرجه أحمد
والنسائي وابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار. انظر: الكافي الشاف ص (82) تحفة
الأحوذي: 8 / 505.
وَالدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ فِي حَالِ
شِرْكِ الْأَبِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْرَاهِيمَ"، إِلَى أَنْ قَالَ: "إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ" (الْمُمْتَحَنَةُ -4) فَصَرَّحَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ بِقُدْوَةٍ فِي هَذَا الِاسْتِغْفَارِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ
لَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لِمَكَانِ الْوَعْدِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ.
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } لِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ،
{ تَبَرَّأَ مِنْهُ } وَقِيلَ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُ
عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [أَيْ: يَتَبَرَّأُ مِنْهُ] (1) وَذَلِكَ مَا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ
أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟! فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ،
فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ
لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي
الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى
الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟
فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِبْحٍ (2) مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ
فَيُلْقَى فِي النَّارِ" (3) وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَبَرَّأُ مِنْهُ
يَوْمَئِذٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } اخْتَلَفُوا فِي
مَعْنَى الْأَوَّاهِ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْأَوَّاهَ الْخَاشِعُ
الْمُتَضَرِّعُ" (4) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْأَوَّاهُ الدَّعَّاءُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ التَّوَّابُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِ اللَّهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوَّاهُ الْمُوقِنُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمُسْتَيْقِنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَكَانَ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: آهٍ مِنَ النَّارِ،
قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ آهٍ.
وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَتَأَوَّهُ مِنَ الذُّنُوبِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) هكذا في الأصل. وفي البخاري "بذبح" وهو كذلك في شرح السنة. والذبح:
الضبع الذكر.
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب واتخذ الله إبراهيم خليلا: 6 / 386-387، وفي
تفسير سورة الشعراء، والمصنف في شرح السنة: 15 / 118-119.
(4) أخرجه الطبري: 14 / 531، 532، وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم وأبي الشيخ
وابن مردويه عن عبد الله بن شداد بن الهاد. وهو تابعي ثقة، فالحديث مرسل، وفي سند
الحديث: عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، وهو ثقة، متكلم في روايته عن شهر.
انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري: 14 / 532.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
وَقَالَ
عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: الْأَوَّاهُ الْكَثِيرُ الذِّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْأَوَّاهُ الْمُسَبِّحُ. وَرُوِيَ عَنْهُ:
الْأَوَّاهُ: الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الْفَقِيهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ. وَقَالَ
أَيْضًا: هُوَ الْخَائِفُ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْمُتَأَوِّهُ شَفَقًا وَفَرَقًا الْمُتَضَرِّعُ
يَقِينًا. يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ تَضَرُّعُهُ يَقِينًا وَلُزُومًا لِلطَّاعَةِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: قَدِ انْتَظَمَ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَكْثَرُ مَا
قِيلَ فِي الْأَوَّاهِ.
وَأَصْلُهُ: مِنَ التَّأَوُّهِ وَهُوَ أَنْ يُسْمَعَ لِلصَّدْرِ صَوْتٌ مِنْ
تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَوَّهَ وَتَأَوَّهَ، وَالْحَلِيمُ
الصَّفُوحُ عَمَّنْ سَبَّهُ أَوْ نَالَهُ بِالْمَكْرُوهِ، كَمَا قَالَ لِأَبِيهِ،
عِنْدَ وَعِيدِهِ، وَقَوْلُهُ: "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي"
{مَرْيَمُ -46}.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْحَلِيمُ
السَّيِّدُ (1)
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ
هَدَاهُمْ" الْآيَةَ. مَعْنَاهُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَحْكُمَ عَلَيْكُمْ
بِالضَّلَالَةِ بِتَرْكِ الْأَوَامِرِ بِاسْتِغْفَارِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، {
حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } يُرِيدُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ
بِالنَّهْيِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ وَلَمْ تَأْخُذُوا بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ
تَسْتَحِقُّونَ الضَّلَالَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: (2) بَيَانُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي تَرْكِ الِاسْتِغْفَارِ
لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَبَيَانُهُ لَهُمْ فِي مَعْصِيَتِهِ وَطَاعَتِهِ
عَامَّةً، فَافْعَلُوا أَوْ ذَرُوا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذْرُوَن.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي الْمَنْسُوخِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا
قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا،
وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ حَرَامًا، وَلَا الْقِبْلَةُ مَصْرُوفَةً إِلَى
الْكَعْبَةِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ حُرِّمَتِ
الْخَمْرُ وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمُوا
بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدُوا الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ وَالْقِبْلَةَ
قَدْ صُرِفَتْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنْتَ عَلَى دِينٍ وَنَحْنُ
عَلَى غَيْرِهِ فَنَحْنُ ضُلَّالٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } (3) يَعْنِي: مَا كَانَ
اللَّهُ لِيُبْطِلَ عَمَلَ قَوْمٍ قَدْ عَلِمُوا بِالْمَنْسُوخِ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ (4) لَهُمُ النَّاسِخُ. { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
{ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) } .
ثُمَّ عَظَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ:
__________
(1) انظر في هذه الأقوال: الطبري: 14 / 523 وما بعدها -وقد رجح أن الصواب هو ما
قاله عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه زر: أنه الدعاء- والدر المنثور: 4 / 305-307.
(2) الطبري: 14 / 536-537.
(3) انظر: زاد المسير: 3 / 510، البحر المحيط: 5 / 106.
(4) في "ب" (يبين).
{
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } يَحْكُمُ بِمَا يَشَاءُ، {
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }
.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ } الْآيَةَ،
تَابَ اللَّهُ أَيْ: تَجَاوَزَ وَصَفَحَ. وَمَعْنَى تَوْبَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ بِالتَّخَلُّفِ
عَنْهُ. وَقِيلَ: افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِهِمْ،
فَذَكَرَهُ مَعَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ " (الْأَنْفَالُ -41)، وَنَحْوِهِ. { وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أَيْ: فِي وَقْتِ
الْعُسْرَةِ، وَلَمْ يُرِدْ سَاعَةً بِعَيْنِهَا، وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ
تُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَالْجَيْشُ يُسَمَّى جَيْشَ الْعُسْرَةِ.
وَالْعُسْرَةُ: الشِّدَّةُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ غَزْوَةُ عُسْرَةٍ فِي الظَّهْرِ
وَالزَّادِ وَالْمَاءِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْعَشَرَةُ مِنْهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ
يَعْتَقِبُونَهُ، يَرْكَبُ الرَّجُلُ سَاعَةً، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَرْكَبُ
صَاحِبُهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ زَادُهُمُ التَّمْرَ الْمُسَوَّسَ وَالشَّعِيرَ
الْمُتَغَيِّرَ، وَكَانَ النَّفَرُ مِنْهُمْ يَخْرُجُونَ مَا مَعَهُمْ إِلَّا
التَّمَرَاتِ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْجُوعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَخَذَ
التَّمْرَةَ فَلَاكَهَا حَتَّى يَجِدَ طَعْمَهَا ثُمَّ يُعْطِيَهَا صَاحِبَهُ
فَيَمُصَّهَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ كَذَلِكَ حَتَّى
يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَلَا يَبْقَى مِنَ التَّمْرَةِ إِلَّا النَّوَاةُ،
فَمَضَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ
عَلَى صِدْقِهِمْ وَيَقِينِهِمْ (1) .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا
أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، وَحَتَّى
إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ فَيَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى
نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ
بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى
كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ اللَّهَ لَنَا.. قَالَ: "أتحب
ذلك؟" قل: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ
السَّمَاءُ فَأَظَلَّتْ ثم سَكبت، فملؤوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ
فَلَمْ نَجِدْهَا جَازَتِ (2) الْعَسْكَرَ (3) . { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
} قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ: "يَزِيغُ" بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ:
"كَادَ"
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 5 / 108، المحرر الوجيز: 7 / 69.
(2) في "ب": (حادت).
(3) أخرجه الطبري: 14 / 541، وصححه الحاكم على شرط الشيخين: 1 / 159، وأبو نعيم في
دلائل النبوة ص (190) باب ذكر ما كان في غزوة تبوك. وقال الهيثمي في المجمع: 6 /
194-195: "رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات". وزاد
السيوطي نسبته لابن خزيمة، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء
في المختارة. انظر: الدر المنثور: 4 / 308.
وَلَمْ
يَقُلْ: كَادَتْ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ. وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ، أَيْ:
مِنْ بعد ما 166/أ كَادَ تَمِيلُ، { قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أَيْ: قُلُوبُ
بَعْضِهِمْ، وَلَمْ يُرِدَ الْمَيْلَ عَنِ الدِّينِ، بَلْ أَرَادَ الْمَيْلَ إِلَى
التَّخَلُّفِ وَالِانْصِرَافِ لِلشِّدَّةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: هَمَّ نَاسٌ بِالتَّخَلُّفِ ثُمَّ لَحِقُوهُ.
{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَعَادَ ذِكْرَ التَّوْبَةِ
وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ } ؟
.
قِيلَ: ذَكَرَ التَّوْبَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ، وَهُوَ
مَحْضُ الْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ الذَّنْبَ أَعَادَ
ذِكْرَ التَّوْبَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَبُولُهَا.
{ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَدًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } أَيْ
خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقِيلَ: خُلِّفُوا أَيْ: أُرْجِئَ أَمْرُهُمْ، عَنْ
تَوْبَةِ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمْ: كَعْبُ
بْنُ مَالِكٍ الشَّاعِرُ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ،
كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ -وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ-قَالَ: سَمِعْتُ
كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ [غَزْوَةِ] (1) تَبُوكَ،
قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ
أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا
تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى
الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ
بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ
قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ،
وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى
جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى
كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا
كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ
غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ
كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ الدِّيوَانَ-قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ
وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ
__________
(1) في "أ": (قصة).
مَعَهُ
فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ
شَيْئًا، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ
يَزَلْ يَتَمَادَى بِي الْأَمْرُ حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ،
وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا. فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ
أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا
لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ
وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا،
وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي
فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ
بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ
فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا
عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ،
وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: "مَا
فَعَلَ كَعْبٌ؟" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ:
بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا
خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا
حَضَرَنِي هَمِّي، فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ
مِنْ سُخْطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ
أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ
أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ،
وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ
إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ
فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً
وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ
سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ
تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ
ظَهْرَكَ؟" فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ
جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ
مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ
عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي
لِيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلِيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ
صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لِأَرْجُوَ فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لَا
وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْوَى قَطُّ وَلَا
أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ
اللَّهُ فِيكَ.
فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي:
وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ
عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكَونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، قَدْ كَانَ
كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ
أَرْجِعَ وَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي
أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا
مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا قَالُوا: مَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ
الْعُمْرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ
صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ
ذَكَرُوهُمَا لِي.
قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ
عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ،
فَاجْتَنَبَنَا
النَّاسُ
وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ
بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا
صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا
فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ
الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي
أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ
عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ
حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟. ثُمَّ أُصَلِّي
قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي
أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا
طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ
حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا
قَتَادَةَ أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟
فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى
تسوَّرْتُ الْجِدَارَ.
قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ
أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ
يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ
لَهُ نَحْوِي، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ
غَسَّانَ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي
أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا
مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهُ: وَهَذَا
أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التَّنُّورَ فَسَجَّرْتُهُ.
حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ
امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ فَقَالَ: لَا بَلِ
اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ،
فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ وَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ
اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ.
قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ
أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟
قَالَ: "لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ"، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا
بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا.
قَالَ كَعْبٌ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أُذِنَ لِامْرَأَةِ
هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ
فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُدْرِينِي مَا
يَقُولُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ، فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ
لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ
الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةٍ، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ
ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ
صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ، يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا
كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ
قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ
يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ
إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ فَكَانَ
الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ
يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا
بِبُشْرَاهُ،
وَوَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ
فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ
وَيَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى
دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ
مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"! قَالَ قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدَكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ
وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ،
فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: [يَا رَسُولَ اللَّهِ] (1) إِنَّ مِنْ
تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ
بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي
بِخَيْبَرَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا نَجَّانِي اللَّهُ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ
مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا
أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ
مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحْسَنَ مِمَّا أَبَلَانِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي
لِأَرْجُوَ أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ } إِلَى قَوْلِهِ: { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (2) .
وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ
كَعْبٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
كَلَامِي وَكَلَامِ صَاحِبَيَّ، فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الْأَمْرُ،
وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكُونَ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ
الْمَنْزِلَةِ، فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ!
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي، مُعِينَةً فِي أَمْرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ تِيْبَ عَلَى
كَعْبٍ" قَالَتْ: أَفَلَا أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرُهُ؟ قَالَ: إذًا
يُحَطِّمُكُمُ النَّاسُ، فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ، حَتَّى
إِذَا صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ آذَنَ
بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا (3) .
__________
(1) ساقطة من "أ" والمثبت من "ب" وصحيح البخاري.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب حديث كعب بن مالك...: 8 / 113-116، ومسلم في
التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، برقم (2769): 4 / 2120-2128.
(3) سيرة ابن هشام: 2 / 534-535.
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
{
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا
مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } اتَّسَعَتْ، { وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } غَمًّا وَهَمًّا، { وَظَنُّوا } أَيْ: تَيَقَّنُوا، {
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ } لَا مَفْزَعَ مِنَ اللَّهِ، { إِلَّا إِلَيْهِ
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } أَيْ: لِيَسْتَقِيمُوا عَلَى التَّوْبَةِ
فَإِنَّ تَوْبَتَهُمْ قَدْ سَبَقَتْ. { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
} .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
} قَالَ نَافِعٌ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
مَعَ الْمُهَاجِرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ
" إِلَى قَوْلِهِ " أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " (الْحَشْرِ
-8). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: مَعَ الَّذِينَ
صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَخَرَجُوا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ
بِإِخْلَاصِ نِيَّةٍ. وَقِيلَ: مَعَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الِاعْتِرَافِ
بِالذَّنْبِ وَلَمْ يَعْتَذِرُوا بِالْأَعْذَارِ الْكَاذِبَةِ.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا
أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيِّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا ينجز له، اقرؤوا إِنَّ
شِئْتُمْ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ } ظَاهِرُهُ خَبَرٌ،
وَمَعْنَاهُ نَهْيٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ لَكُمْ أن تؤذوا
167/أ رَسُولَ اللَّهِ" (الْأَحْزَابِ -53){ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ
الْأَعْرَابِ } سُكَّانُ الْبَوَادِي: مُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَشْجَعُ،
وَأَسْلَمُ، وَغِفَارٌ. { أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } إِذَا غَزَا.
{ وَلَا يَرْغَبُوا } أَيْ: وَلَا أَنْ يَرْغَبُوا، { بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ } فِي مُصَاحَبَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ. قَالَ
الْحَسَنُ: لَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
مِنَ
الشَّدَائِدِ فَيَخْتَارُوا الْخَفْضَ وَالدَّعَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَمُقَاسَاةِ التَّعَبِ. {
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ } فِي سَفَرِهِمْ، { ظَمَأٌ } عَطَشٌ، { وَلَا
نَصَبٌ } تَعَبٌ، { وَلَا مَخْمَصَةٌ } مَجَاعَةٌ، { فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
يَطَئُونَ مَوْطِئًا } أَرْضًا، { يَغِيظُ الْكُفَّارَ } وَطْؤُهُمْ إِيَّاهُ {
وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا } أَيْ: لَا يُصِيبُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ
قَتْلًا أَوْ أَسْرًا أَوْ غَنِيمَةً أَوْ هَزِيمَةً، { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ
عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا
عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى
الْجُمُعَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: "مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا
اللَّهُ عَلَى النَّارِ" (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ خَاصَّةٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ
لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا بِعُذْرٍ، فَأَمَّا غَيْرُهُ
مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فَيَجُوزُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ (2) .
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، وَابْنَ
الْمُبَارَكِ، وَابْنَ جَابِرٍ، وَعُمَرَ (3) بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُونَ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لأَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا (4) .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا حِينَ كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ قَلِيلًا فَلَمَّا
كَثُرُوا نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَبَاحَ التَّخَلُّفَ لِمَنْ يَشَاءُ،
فَقَالَ: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } (5) .
{ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ
وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (121) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً } أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، {
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً } وَلَوْ عِلَاقَةَ (6) سَوْطٍ، { وَلَا يَقْطَعُونَ
وَادِيًا } لَا يُجَاوِزُونَ وَادِيًا فِي مَسِيرِهِمْ مُقْبِلِينَ أَوْ
مُدْبِرِينَ. { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } يَعْنِي: آثَارَهُمْ وَخُطَاهُمْ، {
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } رُوِيَ عَنْ خُرَيْمِ
بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة، باب المشي إلى الجمعة...: 2 / 390، والمصنف في شرح
السنة: 10 / 353.
(2) انظر: الطبري: 14 / 562، المحرر الوجيز: 7 / 76، البحر المحيط: 5 / 112.
(3) في الطبري: "سعيد بن عبد العزيز".
(4) الطبري: 14 / 563، والمراجع السابقة.
(5) المراجع السابقة. وقد رد الطبري رحمه الله دعوى النسخ. انظر: التفسير: 14 /
563-564.
(6) العِلاقة: ما يعلق به السيف ونحوه.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ" (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا
جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي
مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ:
هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا
مَخْطُومَةٌ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ [حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ] (3)
حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ
بْنُ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ
غَزَا" (4) .
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً }
الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُيُوبَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ السَّرَايَا فَكَانَ
الْمُسْلِمُونَ يَنْفِرُونَ جَمِيعًا إِلَى الْغَزْوِ وَيَتْرُكُونَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
هَذِهِ الْآيَةَ (5) وَهَذَا نَفِيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ }
أَيْ: فَهَلَّا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةِ جَمَاعَةٌ [وَيَبْقَى
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ] (6) {
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } يَعْنِي الْفِرْقَةَ الْقَاعِدِينَ، يَتَعَلَّمُونَ
الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ، فَإِذَا رَجَعَتِ
السَّرَايَا أَخْبَرُوهُمْ بِمَا أُنْزِلُ بَعْدَهُمْ، فَتَمْكُثُ السَّرَايَا
يَتَعَلَّمُونَ مَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ، وَتُبْعَثُ سَرَايَا أُخَرُ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: { وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ } وَلِيُعْلِمُوهُمْ بِالْقُرْآنِ
وَيُخَوِّفُوهُمْ بِهِ، { إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
لَا يَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا التَّفَقُّهُ وَالْإِنْذَارُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْقَةِ
النَّافِرَةِ، وَمَعْنَاهُ: هَلَّا نَفَرَ فِرْقَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا، أَيْ:
لِيَتَبَصَّرُوا بِمَا يُرِيهِمُ اللَّهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله: 5 /
254 وقال هذا حديث حسن، والنسائي في الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله 6 / 49،
وصححه ابن حبان (396) من الموارد والحاكم: 2 / 872، وقال الألباني في تعليقه على
المشكاة: إسناده صحيح.
(2) أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله: برقم (1892): 3 / 1505،
والمصنف في شرح السنة: 10 / 359.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) رواه البخاري في الجهاد. باب: فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير: 6 / 49، ومسلم
في الإمارة: باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله... من طريق بكير بن الأشج عن بسر
بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني برقم (1895): 3 / 1507 والمصنف في شرح السنة 10 /
359.
(5) أسباب النزول للواحدي ص (304).
(6) ساقط من "أ".
مِنَ
الْجِهَادِ فَيُخْبِرُوهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يُعَادُوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِأَصْحَابِهِمْ
مِنَ الْكُفَّارِ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَهَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَحْيَاءً مِنْ بَنِي
أَسَدٍ مِنْ خُزَيْمَةَ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَقْبَلُوا
بِالذَّرَارِيِّ حَتَّى نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فَأَفْسَدُوا طُرُقَهَا
بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهَا فَنَزَلَ قَوْلُهُ: { وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ } (2) أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا كَافَّةً وَلَكِنْ مِنْ
كُلِّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ خَرَجُوا فِي الْبَوَادِي ابْتِغَاءَ
الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِهَا فَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَعْرُوفًا، وَدَعَوْا مَنْ
وَجَدُوا مِنَ النَّاسِ إِلَى الْهُدَى، فَقَالَ النَّاسُ لَهُمْ: مَا نَرَاكُمْ
إِلَّا وَقَدْ تَرَكْتُمْ صَاحِبَكُمْ وَجِئْتُمُونَا، فَوَجَدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ حَرَجًا، وَأَقْبَلُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْبَادِيَةِ حَتَّى
دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ: هَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَيَسْتَمِعُوا مَا أُنْزِلَ بَعْدَهُمْ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، يَعْنِي: النَّاسَ كُلَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ بَأْسَ اللَّهِ
وَنِقْمَتَهُ، وَقَعَدَتْ طَائِفَةٌ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ،
أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَيْسَفُونِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الكُشْمِيهَنِيُّ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا
يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ،
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ
كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا" (5) .
وَالْفِقْهُ: هُوَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضِ
عَيْنٍ وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، فَفَرْضُ الْعَيْنِ مِثْلُ: عِلْمِ الطَّهَارَةِ
وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَتُهُ، قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
عَلَى كُلِّ
__________
(1) وهذا المعنى الذي رجحه الإمام الطبري ووجَّهه توجيها سديدا:التفسير: 14 /
573-574.
(2) انظر: الطبري: 14 / 569، الدر المنثور: 4 / 323.
(3) الطبري: 14 / 566.
(4) أخرجه البخاري في العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين: 1 / 164،
وفي المناقب، ومسلم في الزكاة، باب النهي عن المسألة برقم (1037): 2 / 718،
والمصنف في شرح السنة: 1 / 385.
(5) أخرجه البخاري في المناقب، باب قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى" 6 / 525-526، ومسلم في فضائل الصحابة، باب خيار الناس، برقم
(2526): 4 / 1958، والمصنف في شرح السنة: 1 / 286.
مُسْلِمٍ"
(1) . وَكَذَلِكَ كَلُّ عِبَادَةٍ أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ،
يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ عِلْمِهَا، مِثْلُ: عِلْمِ الزَّكَاةِ إِنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ، وَعِلْمِ الْحَجِّ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ: أَنْ يَتَعَلَّمَ حَتَّى يبلغ درجة 167/ب
الِاجْتِهَادِ وَرُتْبَةَ الْفُتْيَا، فَإِذَا قَعَدَ أَهْلُ بَلَدٍ عَنْ
تَعَلُّمِهِ عَصَوْا جَمِيعًا، وَإِذَا قَامَ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ وَاحِدٌ
فَتَعَلَّمَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْآخَرِينَ، وَعَلَيْهِمْ تَقْلِيدُهُ
فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ، رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"فَضْلُ الْعَالَمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" (2)
.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى
الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ" (3) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ.
__________
(1) في "ب": (ومسلمة). والحديث رواه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل
العلماء والحث على طلب العلم، برقم (424): 1 / 81. قال في الزوائد: إسناده ضعيف
لضعف حفص بن سلمان. وعزاه في كنز العمال: 10 / 130-131 لابن عدي والبيهقي
والطبراني والخطيب. وقد روي الحديث من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة، وكل طريق منها
لا يخلو من ضعف، ولكنها لكثرتها تقوي الحديث، لذلك حسنه المزي وابن القطان، وصححه
السيوطي لغيره، وذكره في الأحاديث المتواترة. وقال في المقاصد الحسنة: قد ألحق بعض
المصنفين بهذا الحديث: "ومسلمة" وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كان
معناها صحيحا. انظر: تمييز الطيب من الخبيث لابن الديبع: ص (116)، كشف الخفاء: 2 /
56-57، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص (35-37).
(2) أخرجه الترمذي في العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة: 7 / 456-457،
وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. والدارمي عن مكحول مرسلا بسند حسن في المقدمة، باب
من قال: العلم الخشية وتقوى الله: 1 / 88، وأخرجه أيضا عن الحسن مرفوعا في باب فضل
العلم والعالم: 1 / 97-98. والمصنف في شرح السنة: 1 / 278، وابن عبد البر في جامع
بيان العلم: 1 / 46. وانظر: تعليق الألباني على المشكاة: 1 / 74-75.
(3) أخرجه الترمذي في العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 7 / 450 وقال:
هذا حديث غريب، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل
العلماء والحث على طلب العلم برقم (222): 1 / 81. وفيه روح بن جناح، وهو ضعيف جدا،
متهم بالوضع. وأخرجه ابن عبد البر عن ابن عباس، وعن أبي هريرة أيضا في جامع بيان
العلم: 1 / 52-53. وفيه: يزيد بن عياض، وهو كذاب. انظر: تعليق الألباني على
المشكاة: 1 / 75، وشرح السنة: 1 / 278.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ
مِنَ الْكُفَّارِ } الْآيَةُ، أُمِرُوا بِقِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ
إِلَيْهِمْ فِي الدَّارِ وَالنَّسَبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: مِثْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ وَنَحْوِهَا.
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
وَقِيلَ:
أَرَادَ بِهِمُ الرُّومَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانَ الشَّامِ [وَكَانَ
الشَّامُ] (1) أَقْرَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْعِرَاقِ، { وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً } شِدَّةً وَحَمِيَّةً. قَالَ الْحَسَنُ: صَبْرًا عَلَى
جِهَادِهِمْ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بِالْعَوْنِ
وَالنُّصْرَةِ.
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ
رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا
يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } يَقِينًا. كَانَ الْمُنَافِقُونَ
يَقُولُونَ هَذَا اسْتِهْزَاءً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } يَقِينًا وَتَصْدِيقًا، { وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ } يَفْرَحُونَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } شَكٌّ وَنِفَاقٌ، { فَزَادَتْهُمْ
رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } أَيْ: كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ، فَعِنْدَ نُزُولِ
كُلِّ سُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا يَزْدَادُ كُفْرُهُمْ بِهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ: يَزِيدُ
وَيَنْقُصُ.
وَكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ وَالرَّجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَيَقُولُ: تَعَالَوْا حَتَّى نَزْدَادَ إِيمَانًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لَمْظَةً (2)
بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ عِظَمًا ازْدَادَ
ذَلِكَ الْبَيَاضُ حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ، وَإِنَّ النِّفَاقَ
يَبْدُو لَمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ النِّفَاقُ
ازْدَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ، وَايْمُ اللَّهِ
لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ وَلَوْ شَقَقْتُمْ
عَنْ قَلْبٍ مُنَافِقٍ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ (3) .
قَوْلُهُ: { وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } .
قَوْلُهُ: { أَوَلَا يَرَوْنَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: "تَرَوْنَ"
بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ، خَبَرٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِينَ. { أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ } يُبْتَلُونَ { فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ }
بِالْأَمْرَاضِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في النهاية لابن الأثير: يبدأ لمظة. واللمظة: -بالضم-: مثل النكتة، من البياض.
(3) أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث: 3 / 460، وابن المبارك في الزهد، وخشيش في
الاستقامة، والبيهقي، واللالكائي في السنة، والأصبهاني في المحجة. انظر: كنز
العمال: 1 / 406-407.
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وَالشَّدَائِدِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالْغَزْوِ
وَالْجِهَادِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يُفْضَحُونَ بِإِظْهَارِ
نِفَاقِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُنَافِقُونَ ثُمَّ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ
يُنَافِقُونَ. وَقَالَ يَمَانُ: يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ. { ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ } مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَلَا
يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ النِّفَاقِ، { وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أَيْ:
لَا يَتَّعِظُونَ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ تَصْدِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِالنَّصْرِ
وَالظَّفَرِ لِلْمُسْلِمِينَ.
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ
مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) } .
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ } فِيهَا عَيْبُ الْمُنَافِقِينَ
وَتَوْبِيخُهُمْ، { نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } يُرِيدُونَ الْهَرَبَ
يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِشَارَةً، { هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ } أَيْ:
أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قُمْتُمْ، فَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ خَرَجُوا
مِنَ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا يَرَاهُمْ أَقَامُوا وَثَبَتُوا،
{ ثُمَّ انْصَرَفُوا } عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا. وَقِيلَ: انْصَرَفُوا عَنْ
مَوَاضِعِهِمُ الَّتِي يَسْمَعُونَ فِيهَا، { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } عَنِ
الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَضَلَّهُمُ اللَّهُ مُجَازَاةً
عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } عَنِ اللَّهِ
دِينَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لَا تَقُولُوا
إِذَا صَلَّيْتُمُ انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا
فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا قَدْ قَضَيْنَا الصَّلَاةَ"
(1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } تَعْرِفُونَ
نَسَبَهُ وَحَسَبَهُ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ الْعَرَبِ، مِنْ بَنِي
إِسْمَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَبِيلٌ إِلَّا وَقَدْ
وَلَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ وِلَادِ
الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ حَامِدٍ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ،
حَدَّثَنِي الْمَدَنِيُّ -يَعْنِي: أَبَا مَعْشَرٍ-عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا وَلَدَنِي مِنْ سِفَاحِ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ، مَا وَلَدَنِي إِلَّا نِكَاحٌ كَنِكَاحِ
الْإِسْلَامِ" (2) .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ "مَنْ
أَنْفَسِكُمْ" بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَفْضَلِكُمْ. {
عَزِيزٌ عَلَيْهِ } شَدِيدٌ عَلَيْهِ، { مَا عَنِتُّمْ } قِيلَ "مَا"
صِلَةٌ أَيْ: عَنَتُكُمْ، وَهُوَ دُخُولُ الْمَشَقَّةِ وَالْمَضَرَّةِ
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 14 / 583، وصححه الحاكم: 2 / 338، ووافقه الذهبي.
(2) قال الهيثمي في المجمع 8 / 214: "رواه الطبراني عن المديني عن أبي
الحويرث، ولم أعرف المديني ولا شيخه، وبقية رجاله وثِّقوا". وعزاه في كنز
العمال 11 / 430 أيضا للبيهقي وابن عساكر.
عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَا أَعْنَتَكُمْ وَضَرَّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا ضَلَلْتُمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مَا أَتْمَمْتُمْ.
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أَيْ: عَلَى إِيمَانِكُمْ وَصَلَاحِكُمْ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى ضَالِّكُمْ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ، {
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } قيل: رؤوف بِالْمُطِيعِينَ رَحِيمٌ
بِالْمُذْنِبِينَ.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَنَاصَبُوكَ الْحَرْبَ {
فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَاتَانِ
الْآيَتَانِ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } إِلَى آخَرِ
السُّورَةِ. وَقَالَ: هُمَا أَحْدَثُ الْآيَاتِ بِاللَّهِ عَهْدًا (1) .
__________
(1) أخرجه الحاكم: 2 / 338، والإمام عبد الله بن أحمد في زوائد المسند: 5 / 117،
وعزاه ابن حجر في المطالب العالية 3 / 337 لإسحاق بن راهويه، كلهم دون قوله:
"هما أحدث الآيات...". وقال الهيثمي في المجمع: 7 / 36: "رواه عبد
الله بن أحمد، والطبراني، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيئ الحفظ، وبقية
رجاله ثقات".
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
سُورَةِ
يُونُسَ
سُورَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ
آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}
إِلَى آخِرِهَا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) } .
{ الر } وَ"المر" قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ:
بِفَتْحِ الرَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالْإِمَالَةِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: " الر " أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَ" المر
" أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ " الر " وَ" حم " وَ" ن
" حُرُوفُ اسْمِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ
التَّهَجِّي (1) .
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أَيْ: هَذِهِ، وَأَرَادَ بِالْكِتَابِ
الْحَكِيمِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا
مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "تِلْكَ"، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ
إِلَى غَائِبٍ مُؤَنَّثٍ، وَالْحَكِيمُ: الْمُحْكَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ،
وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
" كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " (هُودٍ -1).
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، دَلِيلُهُ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ " (الْبَقْرَةِ -213).
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَحْكُومِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. قَالَ
الْحَسَنُ: حُكِمَ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى،
وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَالْبَغْيِ، وَحُكِمَ فِيهِ
بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالنَّارِ لِمَنْ عَصَاهُ.
__________
(1) راجع فيما سبق: 1 / 58-59. وانظر هذ الأقوال كلها في: الطبري: 1 / 205-224.
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ
بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(3) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } الْعَجَبُ: حَالَةٌ تَعْتَرِي
الْإِنْسَانَ مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ.
وَسَبَبُ نزول الآية: 168/أ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: اللَّهُ
أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا. فَقَالَ تَعَالَى: { أَكَانَ
لِلنَّاسِ } (1) يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، {
عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ } يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، { أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } أَيْ: أَعْلِمْهُمْ مَعَ
التَّخْوِيفِ، { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ } وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَجْرًا حَسَنًا بِمَا
قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: ثَوَابُ صِدْقٍ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: عَمَلٌ صَالِحٌ أَسْلَفُوهُ يَقْدِمُونَ عَلَيْهِ. وَرَوَى عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ السَّعَادَةُ فِي
الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَقَامُ صِدْقٍ لَا زَوَالَ
لَهُ، وَلَا بُؤْسَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ (2) .
وَأُضِيفَ الْقَدَمُ إِلَى الصِّدْقِ وَهُوَ نَعْتُهُ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ
الْجَامِعِ، وَحَبُّ الْحَصِيدِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ سَابِقٍ فِي
خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ قَدَمٌ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ قَدَمٌ فِي
الْإِسْلَامِ، وَلَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ وَقَدَمُ سُوءٍ، وَهُوَ يُؤَنَّثُ
فَيُقَالُ: قَدَمٌ حَسَنَةٌ، وَقَدَمٌ صَالِحَةٌ. { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ
هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ:
"لَسِحْرٌ" بِغَيْرِ أَلْفٍ يَعْنُونَ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: "لَسَاحِرٌ" بِالْأَلْفِ يَعْنُونَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ } يَقْضِيهِ وَحْدَهُ، { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ }
مَعْنَاهُ: أَنَّ الشُّفَعَاءَ لَا يَشْفَعُونَ
__________
(1) أخرجه الطبري عن ابن عباس: 15 / 13، وانظر: أسباب النزول ص (305)، الدر
المنثور: 4 / 340 وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه مطولا.
(2) انظر في هذه الأقوال: الطبري: 15 / 13-16 وقال: "وأولى هذه الأقوال عندي
بالصواب، قول من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه
الثواب" ثم ساق على ذلك شواهد من الشعر.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
إِلَّا
بِإِذْنِهِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تُشَفِّعُنِي اللَّاتُ وَالْعُزَّى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } يَعْنِي: الَّذِي فَعَلَ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَبُّكُمْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرُهُ، { فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ } تَتَّعِظُونَ.
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ
نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (5) } .
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } صِدْقًا لَا خِلْفَ
فِيهِ. نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَعَدَكُمْ وَعْدًا حَقًّا { إِنَّهُ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أَيْ: يُحْيِيهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ
يُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ، قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: { إِنَّهُ } بِكَسْرِ
الْأَلْفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "أَنَّهُ"
بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِأَنَّهُ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } بِالْعَدْلِ، { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ
مِنْ حَمِيمٍ } مَاءٌ حَارٌّ انْتَهَى حَرُّهُ، { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْفُرُونَ } .
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً } بِالنَّهَارِ، { وَالْقَمَرَ نُورًا }
بِاللَّيْلِ. وَقِيلَ: جَعَلَ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ، وَالْقَمَرَ ذَا نُورٍ، {
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } أَيْ: قَدَّرَ لَهُ، يَعْنِي: هَيَّأَ لَهُ مَنَازِلَ لَا
يُجَاوِزُهَا وَلَا يَقْصُرُ دُونَهَا، وَلَمْ يَقُلْ: قَدَّرَهُمَا.
قِيلَ: تَقْدِيرُ الْمَنَازِلِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى
بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ: " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ " (التَّوْبَةِ -62).
وَقِيلَ: هُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَمَرِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْقَمَرَ يُعْرَفُ
بِهِ انْقِضَاءُ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ، لَا بِالشَّمْسِ.
وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا وَأَسْمَاؤُهَا:
الشَّرْطَيْنُ، وَالْبُطَيْنُ، والثُّرَيَّاءُ، وَالدُّبْرَانُ، وَالْهَقْعَةُ،
وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنِّسْرُ، وَالطَّوْفُ، وَالْجَبْهَةُ،
وَالزُّبْرَةُ، وَالصِّرْفَةُ، وَالْعُوَاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفْرُ،
وَالزِّبَانِيُّ، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَايِمُ،
وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحِ، وَسَعْدُ بَلْعٍ، وَسَعْدُ السُّعُودِ،
وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَفَرْعُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ، وَفَرْعُ الدَّلْوِ
الْمُؤَخَّرِ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.
وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْبُرُوجِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ
بُرْجًا: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ،
وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ،
وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ.
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
وَلِكُلِّ
بُرْجٍ مَنْزِلَانِ وَثُلْثُ مَنْزِلٍ، فَيَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَة
مَنْزِلًا مِنْهَا، وَيَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ،
وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَلَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ تِلْكَ
الْمَنَازِلُ وَيَكُونُ مَقَامُ الشَّمْسِ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، فَيَكُونُ انْقِضَاءُ السَّنَةِ مَعَ انْقِضَائِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ } أَيْ: قَدْرَ الْمَنَازِلِ
"لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ" دُخُولَهَا وَانْقِضَاءَهَا، {
وَالْحِسَابَ } يَعْنِي: حِسَابَ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ. { مَا
خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ } رَدَّهُ إِلَى الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَوْ رَدَّهُ
إِلَى الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ لَقَالَ: تِلْكَ. { إِلَّا بِالْحَقِّ } أَيْ:
لَمْ يَخْلُقْهُ بَاطِلًا بَلْ إِظْهَارًا لِصُنْعِهِ وَدَلَالَةً عَلَى
قُدْرَتِهِ. { يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ،
وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: "يَفَصِّلُ" بِالْيَاءِ،
لِقَوْلِهِ: "مَا خَلَقَ" وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: "نُفَصِّلُ"
بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ.
{ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) } .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ
مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) } .
{ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } يُؤْمِنُونَ.
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أَيْ: لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا
وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابَنَا. وَالرَّجَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ
وَالطَّمَعِ، { وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فَاخْتَارُوهَا وَعَمِلُوا
لَهَا، { وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } سَكَنُوا إِلَيْهَا. { وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ
آيَاتِنَا غَافِلُونَ } أَيْ: عَنْ أَدِلَّتِنَا غَافِلُونَ لَا يَعْتَبِرُونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنْ آيَاتِنَا عَنْ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ غَافِلُونَ مُعْرِضُونَ.
{ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } مِنَ الْكُفْرِ
وَالتَّكْذِيبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: يُرْشِدُهُمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى جَنَّةٍ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْجَنَّةِ، يَجْعَلُ
لَهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ.
وَقِيلَ: " يَهْدِيهِمْ " مَعْنَاهُ يُثِيبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِإِيمَانِهِمْ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ لِدِينِهِ، أَيْ:
بِتَصْدِيقِهِمْ هَدَاهُمْ " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ "
أَيْ: بَيْنَ
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أَيْدِيهِمْ،
كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا "
(مَرْيَمَ -24) لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَهَا وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَلَيْهِ،
بَلْ أَرَادَ بَيْنَ يَدَيْهَا.
وَقِيلَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ: بِأَمْرِهِمْ، { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
} .
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ
يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ
إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (11) } .
{ دَعْوَاهُمْ } أَيْ: قَوْلُهُمْ وَكَلَامُهُمْ. وَقِيلَ: دُعَاؤُهُمْ. { فِيهَا
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } وَهِيَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ، تُنَزِّهُ اللَّهَ مِنْ
كُلِّ سُوءٍ. وَرَوَيْنَا: "أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ
وَالتَّسْبِيحَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ" (1) .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ وَالْخَدَمِ فِي الطَّعَامِ، فَإِذَا أَرَادُوا الطَّعَامَ قَالُوا:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَأَتَوْهُمْ فِي الْوَقْتِ بِمَا يَشْتَهُونَ عَلَى
الْمَوَائِدِ، كُلُّ مَائِدَةٍ مِيلٌ فِي مِيلٍ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ
أَلْفَ صَحْفَةٍ، وَفِي كُلِّ صَحْفَةٍ لَوْنٌ مِنَ الطَّعَامِ لَا يُشْبِهُ
بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ حَمِدُوا اللَّهَ، فَذَلِكَ،
قوله تعالى: 168/ب { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } أَيْ: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ
بَعْضًا بِالسَّلَامِ. وَقِيلَ: تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِالسَّلَامِ.
وَقِيلَ: تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ بِالسَّلَامِ.
{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يُرِيدُ:
يَفْتَتِحُونَ كَلَامَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ، وَيَخْتِمُونَهُ بِالتَّحْمِيدِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ
اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ
عِنْدَ الْغَضَبِ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ: لَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَلَا بَارَكَ
فِيكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ
بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ. مَعْنَاهُ: لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ النَّاسَ
إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ فِي الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ اسْتِعْجَالَهُمْ
__________
(1) عن جابر قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن
أهل الجنة يأكلون فيا ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوَّطون ولا
يمتخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك. يلهمون التسبيح
والتحميد كما يلهمون النفس". رواه مسلم، في الجنة وصفة نعيمها، باب في صفات
الجنة وأهلها.. (3835): 4 / 2180-2181.
(2) ساق السيوطي عدة روايات في ذلك. الدر المنثور: 4 / 345-346.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
بِالْخَيْرِ،
أَيْ: كَمَا يُحِبُّونَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ، { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: "لَقَضَى" بِفَتْحِ
الْقَافِ وَالضَّادِ، { أَجَلَهُمْ } نُصِبَ، أَيْ: لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا
عَلَيْهِ وَأَمَاتَهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: "لَقُضِيَ" بِضَمِّ
الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ "أَجَلُهُمْ" رُفِعَ، أَيْ: لَفَرَغَ مِنْ
هَلَاكِهِمْ وَمَاتُوا جَمِيعًا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: "
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ " (1) الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ -32) يَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
} لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ، { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّلَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشْرَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مَنْصُورٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي
اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهْ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
فَيَصْدُرُ مِنِّي مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ
آذَيْتُهُ، أَوْ شَتَمْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ
صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ" (2) .
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ
مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ (13) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ } الْجَهْدُ
وَالشِّدَّةُ، { دَعَانَا لِجَنْبِهِ } أَيْ: عَلَى جَنْبِهِ مُضْطَجِعًا، { أَوْ
قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } يُرِيدُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ
لَا يَعْدُو إِحْدَى هَذِهِ الْحَالَاتِ. { فَلَمَّا كَشَفْنَا } دَفَعْنَا {
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } أَيِ
اسْتَمَرَّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الضُّرُّ، وَنَسِيَ
مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى
ضُرٍّ مَسَّهُ أَيْ: لَمْ يَطْلُبْ مِنَّا كَشْفَ ضُرٍّ مَسَّهُ. { كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } الْمُجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ
وَالْمَعْصِيَةِ، { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مِنَ الْعِصْيَانِ. قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ
الدُّعَاءِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَتَرَكِ الشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ كَمَا زَيَّنَ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ زَيَّنَ لِلْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ
كَانُوا مَنْ قَبِلَكُمْ أَعْمَالَهُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَمَّا ظَلَمُوا } أَشْرَكُوا، { وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ }
__________
(1) انظر: المحرر الوجيز: 7 / 113.
(2) أخرجه البخاري في الدعوات، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة": 11 / 171، ومسلم في البر والصلة، باب
من لعنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سبه... برقم (2601): 4 /
2008، والمصنف في شرح السنة: 5 / 8.
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
أَيْ:
كَمَا أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، { نَجْزِي } نُعَاقِبُ وَنُهْلِكُ، {
الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } الْكَافِرِينَ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخَوِّفُ كَفَّارَ مَكَّةَ بِعَذَابِ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (14) } .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) } .
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ } أَيْ: خُلَفَاءَ، { فِي الْأَرْضِ مِنْ
بَعْدِهِمْ } أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ، { لِنَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ
وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (1)
.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ }
قَالَ قَتَادَةُ (2) : يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ (3) هَمْ
خَمْسَةُ نَفَرٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْوَلِيدُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي قَيْسٍ الْعَامِرِيُّ، والعاصُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ. { قَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } هَمُ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ قَالُوا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ
نُؤْمِنَ بِكَ { ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا } لَيْسَ فِيهِ تَرْكُ عِبَادَةِ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُهَا، وَإِنْ لَمْ
يُنْزِلْهَا اللَّهُ فَقُلْ أَنْتَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ، { أَوْ بَدِّلْهُ }
فَاجْعَلْ مَكَانَ آيَةِ عَذَابٍ آيَةَ رَحْمَةٍ، أَوْ مَكَانَ حَرَامٍ حَلَالًا
أَوْ مَكَانَ حَلَّالٍ حَرَامًا، { قُلْ } لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، { مَا يَكُونُ
لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } مِنْ قِبَلِ نَفْسِي { إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أَيْ: مَا أَتْبَعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فِيمَا
آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، { إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } يَعْنِي: لَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيَّ. { وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ } أَيْ: وَلَا
أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ. قَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ:
"وَلَأَدْرَاكُمْ بِهِ" بِالْقَصْرِ بِهِ عَلَى الْإِيجَابِ، يُرِيدُ:
وَلَا عَلَّمَكُمْ
__________
(1) أخرجه مسلم في الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء... برقم (2742): 4 / 2098،
والمصنف في شرح السنة: 9 / 12.
(2) في أسباب النزول للواحدي ص (305): مجاهد. وانظر: الدر المنثور: 4 / 347.
(3) أسباب النزول ص (305).
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
بِهِ
مِنْ غَيْرِ قِرَاءَتِي عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَلَا
أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ" مِنَ الْإِنْذَارِ. { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا
} حِينًا وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، { مِنْ قَبْلِهِ } مِنْ قَبْلِ نُزُولِ
الْقُرْآنِ وَلَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ. { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
قِبَلِي، وَلَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَبْلَ
الْوَحْيِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ
بَعْدَ الْوَحْيِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ هَاجَرَ فَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً.
وَرَوَى أَنَسٌ: أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْوَحْيِ عَشْرَ سِنِينَ
وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً.
وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ (1) .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي
السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ }
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ، { إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } لَا يَنْجُو الْمُشْرِكُونَ.
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ } إِنْ عَصَوْهُ
وَتَرَكُوا عِبَادَتَهُ، { وَلَا يَنْفَعُهُمْ } إِنْ عَبَدُوهُ، يَعْنِي:
الْأَصْنَامَ، { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ } أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ، { بِمَا لَا يَعْلَمُ } اللَّهُ
صِحَّتَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، أَوْ
عِنْدَهُ شَفِيعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ شريكا؟!
{ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ } قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "تشركون" بالتاء، ها
هنا وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ مَوْضِعَيْنِ، وَفِي سُورَةِ الرُّومِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ كُلَّهَا بِالْيَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً } أَيْ:
عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ (2) { فَاخْتَلَفُوا } وَتَفَرَّقُوا إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، {
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } بِأَنْ جَعَلَ
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 13 / 54، 14 / 291، وابن سعد في الطبقات: 2 /
308، وعبد الرزاق: 3 / 599. وانظر: الدر المنثور: 4 / 348-349، كنز العمال: رقم
(4750).
(2) انظر فيما سبق: 1 / 243-244.
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
لِكُلِّ
أُمَّةٍ أَجَلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ إِمْهَالُ هَذِهِ الْأُمَّةِ
وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ }
بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ
فَصْلًا بَيْنَهُمْ، { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَقَالَ الْحَسَنُ: وَلَوْلَا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، مَضَتْ فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ: لَا يَقْضِي
بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دُونَ
الْقِيَامَةِ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَدْخَلَ الْمُؤْمِنَ
الْجَنَّةَ وَالْكَافِرَ النَّارَ، وَلَكِنَّهُ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ الْأَجَلُ
فَجَعَلَ مَوْعِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{ وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا
الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) } .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا
لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا
يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ
طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
} .
{ وَيَقُولُونَ } يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ } أَيْ:
عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } عَلَى
مَا نَقْتَرِحُهُ، { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ } يَعْنِي: قُلْ إِنَّمَا
سَأَلْتُمُونِي الْغَيْبَ وَإِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ لِمَ
لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: الْغَيْبُ نزول
الآية 169/أ لَا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، { فَانْتَظِرُوا }
نُزُولَهَا { إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } وَقِيلَ: فَانْتَظِرُوا
قَضَاءَ اللَّهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ } يَعْنِي: الْكُفَّارَ، {
رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ } أَيْ: رَاحَةً وَرَخَاءً مِنْ بَعْدِ شِدَّةٍ
وَبَلَاءٍ. وَقِيلَ: الْقَطْرُ بَعْدَ الْقَحْطِ، { مَسَّتْهُمْ } أَيْ:
أَصَابَتْهُمْ، { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا } قَالَ مُجَاهِدٌ: تَكْذِيبٌ
وَاسْتِهْزَاءٌ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا يَقُولُونَ: هَذَا مِنْ
رِزْقِ اللَّهِ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
" وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ " (الْوَاقِعَةِ
-82).
{ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } أَعْجَلُ عُقُوبَةً وَأَشَدُّ أَخْذًا
وَأَقْدَرُ عَلَى الْجَزَاءِ، يُرِيدُ عَذَابُهُ فِي إِهْلَاكِكُمْ أَسْرَعُ
إِلَيْكُمْ مِمَّا يَأْتِي مِنْكُمْ فِي دَفْعِ الْحَقِّ، { إِنَّ رُسُلَنَا }
حَفَظَتَنَا، { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } وَقَرَأَ يَعْقُوبُ:
"يَمْكُرُونَ" بِالْيَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ } يُجْرِيكُمْ وَيَحْمِلُكُمْ،
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: "يُنْشِرُكُمْ" بِالنُّونِ
وَالشِّينِ مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ وَالْبَثُّ، "فِي الْبَرِّ"
، عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ، وَفِي { الْبَحْرِ } عَلَى
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
الْفُلْكِ،
{ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ } أَيْ: فِي السُّفُنِ، تَكُونُ وَاحِدًا
وَجَمْعًا { وَجَرَيْنَ بِهِمْ } يَعْنِي: جَرَتِ السُّفُنُ بِالنَّاسِ، رَجَعَ
مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ، { بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } لَيِّنَةٍ، { وَفَرِحُوا
بِهَا } أَيْ: بِالرِّيحِ، { جَاءَتْهَا رِيحٌ } أَيْ: جَاءَتِ الْفُلْكَ رِيحٌ، {
عَاصِفٌ } شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَلَمْ يَقُلْ رِيحٌ عَاصِفَةٌ، لِاخْتِصَاصِ
الرِّيحِ بِالْعُصُوفِ. وَقِيلَ: الرِّيحُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. { وَجَاءَهُمْ }
يَعْنِي: رُكْبَانَ السَّفِينَةِ، { الْمَوْجُ } وَهُوَ حَرَكَةُ الْمَاءِ
وَاخْتِلَاطُهُ، { مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا } أَيْقَنُوا { أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ } دَنَوْا مِنَ الْهَلَكَةِ، أَيْ: أَحَاطَ بِهِمُ الْهَلَاكُ، { دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أَيْ: أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ لِلَّهِ
وَلَمْ يَدْعُوا أَحَدًا سِوَى اللَّهِ. وَقَالُوا { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } يَا
رَبَّنَا، { مِنْ هَذِهِ } الرِّيحِ الْعَاصِفِ، { لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ } لَكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
{ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا
أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) } .
{ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ } يَظْلِمُونَ
وَيَتَجَاوَزُونَ إِلَى غَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، {
بِغَيْرِ الْحَقِّ } أَيْ: بِالْفَسَادِ. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } لِأَنَّ وَبَالَهُ رَاجِعٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ
ابْتَدَأَ فَقَالَ: { مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أَيْ: هَذَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، كَقَوْلِهِ: " لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ "(الْأَحْقَافِ -35) ، أَيْ:
هَذَا بَلَاغٌ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ وَالْبَغْيُ: ابْتِدَاءٌ،
وَمَتَاعٌ: خَبَرُهُ.
وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا يَصْلُحُ
[زَادًا لِمَعَادٍ] (1) لِأَنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ غَضَبَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ: "مَتَاعَ" بِالنَّصْبِ، أَيْ تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فِي
فَنَائِهَا وَزَوَالِهَا، { كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ }
__________
(1) في "أ" (لزاد المعاد).
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
أَيْ:
بِالْمَطَرِ، { نَبَاتُ الْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ
كُلِّ لَوْنٍ، { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ } مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، {
وَالْأَنْعَامِ } مِنَ الْحَشِيشِ، { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
} حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَظَهَرَ الزَّهْرُ أَخْضَرَ وَأَحْمَرَ وَأَصْفَرَ
وَأَبْيَضَ { وَازَّيَّنَتْ } أَيْ: تَزَيَّنَتْ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ: "تَزَيَّنَتْ". { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا } عَلَى جِذَاذِهَا وَقِطَافِهَا وَحَصَادِهَا، رَدَّ
الْكِنَايَةَ إِلَى الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ: النَّبَاتُ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا،
وَقِيلَ: رَدَّهَا إِلَى الْغَلَّةِ. وَقِيلَ: إِلَى الزِّينَةِ. { أَتَاهَا
أَمْرُنَا } قَضَاؤُنَا، بِإِهْلَاكِهَا، { لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدًا } أَيْ: مَحْصُودَةً مَقْطُوعَةً، { كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ }
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِالْأَمْسِ، وَأَصْلُهُ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ إِذَا
أَقَامَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَشَبِّثَ بِالدُّنْيَا يَأْتِيهِ
أَمْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ. { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (25) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ } قَالَ
قَتَادَةُ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ، وَدَارُهُ: الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: السَّلَامُ
بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ مَنْ
دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّلَامِ التَّحِيَّةُ
سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ، لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ
بَعْضًا بِالسَّلَامِ وَالْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: " وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " (الرَّعْدِ -23).
وَرَوَيْنَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ [فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ،
فَقَالُوا:] (1) إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا. قَالَ: فَاضْرِبُوا لَهُ
مَثَلًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ
فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ: دَخَلَ
الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ: لَمْ
يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، [فَقَالُوا أَوِّلُوهَا
لَهُ يَفْقَهْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ
الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا:] (2) فَالدَّارُ الْجَنَّةُ
وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ
مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى
اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ" (3) .
{ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَالصِّرَاطُ
الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ، عَمَّ بِالدَّعْوَةِ لِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ،
وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الْخَلْقِ.
__________
(1) ما بين القوسين من صحيح البخاري وشرح السنة للمصنف، وهو أيضا في المطبوع.
(2) ما بين القوسين من صحيح البخاري وشرح السنة للمصنف، وهو أيضا في المطبوع.
(3) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 13 / 249، والمصنف في شرح السنة: 1 / 192.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } أَيْ:
لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ،
وَزِيَادَةٌ: وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، هَذَا قَوْلُ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ، وَمُقَاتِلٍ،
وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] (1) الْعَبَّاسِ
الْحُمَيْدِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إِمْلَاءً،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا
الْأُسُودُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ
-يَعْنِي الْبُنَانِيَّ-عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ
صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ } قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ
النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، قَالُوا: مَا هَذَا
الْمَوْعُودُ؟ (2) أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا،
وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، ويُجِرْنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُرْفَعُ
الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَمَا
أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ" (3) .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ: أَنَّ الْحَسَنَةَ
بِمِثْلِهَا وَالزِّيَادَةَ هِيَ التَّضْعِيفُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى
سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ (4) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى: حَسَنَةٌ مِثْلُ
حَسَنَةٍ، وَالزِّيَادَةُ الْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ (5) .
{ وَلَا ي